كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

وأما الحديث الذي رواه وقوله إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب اهل النار وقد شدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه وهو فيها خالد إلى اخره فهذا من أحاديث الكذابين الذين لا يسحيون من المجازفة في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار أو يقدر نصف عذاب أهل النار وأبن عذاب ال فرعون وال المائدة والمنافقين وسائر الكفار وأين قتلة الأنبياء وقتلة السابقين الأولين وقاتل عثمان اعظم إثما من قاتل الحسين فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا وأنه كان يجوز قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان رواه مسلم وأهل السنة والجماعة يردون غلو هؤلاء وهؤلاء ويقولون إن الحسينقتل مظلوما شهيدا وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر إو إلى يزيد داخلا في الجماعة معرضا عن تفريق الأمة ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه فضلا عن أسره وقتله وكذلك قول اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي واذاني في عترتي كلام لا ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينسبه إليه إلا جاهل فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ولو كان الرجل من أهل البيت النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بما يبيح قتله أو قطعه كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين

كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها فقد أخبر أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه فلو زنى الهاشمي وهو محصن رجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين ولو قتل نفسا عمدا عدوانا محضا لجاز قتله به وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلمون تتكافأ دماؤهم فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحرارا مسلمين باتفاق الأمة فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق فكيفيخص النبي صلى الله عليه وسلم أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم فإن الله حرم قتل النفس إلا بحق فالمقتول بحق لم يشتد غضب الله على من قتله سواء كان المقتول هاشميا أو غير هاشمي وإن قتل بغير حق فمن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيه بنو هاشم وغيرهم فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا منافق يقدح في نبوته أو جاهل لا يعلم العدل الذي بعث به صلى الله عليه وسلم وكذلك قوله من اذاني في عترتي فإن ايذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام في عترته وأمته وسنته وغير ذلك

*

فصل
قال الرافضي فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن الذي نزه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ونزه الشرع عن المسائل الردية ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ويذكر أئمة غيرهم أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلافه.
*والجواب أن يقال ما ذكرتموه من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيض لله ولأنبيائه بيان ذلك أن قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف الله تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فها الجمادات والمعدومات فإذا قالوا إنه لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا حب ولا بغض ولا رضا ولا سخط ولا يرى ولا يفعل بنفسه فعلا ولا يقدر أن يتصرف بنفسه كانوا قد شبهوه بالجمادات المنقوصات وسلبوه صفات الكمال فكان هذا تنقيصا وتعطيلا لا تنزيها وإنما التنزيه أن ينزه

عن النقائض المنافية لصفات الكمال فينزه عن الموت والسنة والنوم والعجز والجهل والحاجة كما نزه نفسه في كتابه فيجمع له بين إثبات صفات الكمال ونفى النفائص المنافية للكمال وينزه عن ممائلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته وينزه عن النقائص مطلقا وينزه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثل من الأمثال وأما الأنبياء فإمكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات بحقيقة التوبة والاسغفار والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه وكذبتم ما أخبر الله به من ذلك وحرفتم الكلم عن مواضعه وظننتم أن انتقال الادمى من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن ألغى إلى الرشاد تنقصا ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعزم قدرته حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يستحيا من ذكرها لا سيما الإمام العدوم الذي لا ينتفع به لا في دين ولا دنيا وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردية فقد تقدم أن أهل السنة لم يتفقوا

على مسئلة ردية بخلاف الرافضة فإن لهم من المسائل الردية مالا يوجد لغيرهم وأما قوله ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ويذكر أئمة غيرهم فإما أن يكون المراد بذلك أنه تجب الصلاة على الأئمة الآثنى عشر أو على واحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم منهم أو من غيرهم وأما أن يكون المراد وجوب الصلاة على ال النبي صلى الله عليه وسلم فإن أراد الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين أن يصلو على الاثنى عشر لا في الصلاة ولا في غير الصلاة ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده ولا نقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أحدا من الاثنى عشر إماما فضلا عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والإجماع فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة

عليهم فقد غير دين النبي صلى الله عليه وسلم وبدله كما بدلت اليهود والنصارى دين الأنبياء وإن قيل المراد أن يصلي على ال محمد وهم منهم قيل ال محمد يدخل فيهم بنو هاشم وأزواجه وكذلك بنو المطلب على أحد القولين وأكثر هؤلاء تذمهم الإمامية فإنهم يذمون ولد العباس لا سيما خلفاؤهم وهم من ال محمد صلى الله عليه وسلم ويذمون من يتولى أبا بكر وعمر وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل بالنسبة إلى كثرة بني هاشم وأهل العلم والدين منهم يتولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدعون تعظيم ال محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهم سعوا في مجىء التتر الكفار إلى بغداد دار الخلافة حتى قتلت الكفار من المسلمين مالا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمئة ألف ونيفا وسبعين ألفا وقتلوا الخليفة العباسي وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميينفهذا هو البغض لال محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب وكان ذلك من فعل الكفار بمعاوية الرافضة وهم الذين سعوا في سبي الهاشميات ونحوهم إلى يزيد وأمثاله فما يعيبون على غيرهم بعيب إلا وهو فيهم أعظم وقد ثبت في الصحيح والمسانيد والسنن من غير وجه أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلون عليه قال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى ال محمد كما صليت على إبراهيم وعلى ال إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى ال محمد كما باركت على إبراهيم وعلى ال إبراهيم إنك حميد مجيد وفي لفظ وعلى أزواجه وذريته

وقد ثبت في الصحيح أنه قال إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لال محمد وثبت في الصحيح أن الفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب طلبا منه عليه الصلاة والسلام أن يوليهما على الصدقة فقال إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لال محمد وإنما هي أوساخ الناس فبين أن ولد العباس وولد الحارث بن عبد المطلب من ال محمد تحرم عليهم الصدقة وثبت في الصحاح أنه اطى من سهم ذوي القربى لبني المطلب بن عبد مناف وقال إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وهؤلاء أبعد من بني العباس وبني الحارث بن عبد المطلب فهؤلاء كلهم من ذوي القربى ولهذا اتفق العلماء على أن بني العباس وبني الحارث بن عب المطلب من ال محمد الذين تحرم عليهم الصدقة

ويدخلون في الصلاة وستحقون من الخمس وتنازعوا في بني المطلب بن عبد مناف هل تحرم عليهم الصدقة ويدخلون في ال محمد صلى الله عليه وسلم على قولين هما روايتان عن أحمد أحداهما أنه تحرم عليهم الصدقة كقول الشافعي والثانية لا تحرم كقول أبي حنيفة وال محمد عند الشافعي وأحمد في المنصوص عنه وهو اختيار الشريف أبي جعفر بن أبي موسى وغيره من أصحابه هم الذين تحرم عليهم الصدقة وهم بنو هاشم وفي بني المطلب روايتان وكذلك أزواجه هل هن من اله الذين تحرم عليهم الصدقة عن أحمد فيه روايتان وأما عتقى أزواجه كبريرة فتحل لهن الصدقة وبالإجماع وإن حرمت على موالى بني هاشم وعند طائفة أخرى من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما هم أمته وعند طائفة من الصوفية هم الأتقياء من أمته ولم يأمر الله بالصلاة على معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولو صلى على بعض أهل بيته دون بعض كالصلاة على ولد العباس دون علي أو بالعكس لكان مخالفا للشريعة فكيف إذا صلى على قوم معينين دون غيرهم ثم إبطال الصلاة بترك الصلاة على هؤلاء من العجائب والفقهاء متنازعون في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وجمهورهم لا يوجبها ومن أوجبها يوجب الصلاة عليه دون اله ولو

أوجب الصلاة على اله عموما لم يجز أن يجعل الواجب الصلاة على قوم معنيين دون غيرهم بل قد تنازع العلماء فيما إذا دعا لقوم معينين في الصلاة هل تبطل صلاته على قولين وإن كان الصحيح أنها لا تبطل ولا أن يجعل مناط الوجوب كونهم أئمة ولهذا لم يوجب أهل السنة والصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم لا أئمتهم ولا غير أئمتهم لأن إيجاب هذا من البدع المضلة المخالفة لشريعة الله تعالى كما أن الشهادتين ليس فيهما إلا ذكر الله ورسوله لا في الأذان ولا في الصلاة ولا في غير ذلك فلو ذكر في الشهادتين غير الله ورسوله من الأئمة كان ذلك من أعظم الضلالات وكذلك إبطاله الصلاة بالصلاة على أئمة المسلمين قول باطل فإنه لو دعا لمعين أو عليه في الصلاة بدعاء جائز لم تبطل بذلك عند جماهير العلماء فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في صلاته اللهم أنج الوليد بن الوليدوسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وكذلك كان يقول اللهم العن رعلا وذكوان وعصية فقد دعا في صلاته لقوم معينين بأسمائهم ودعا على قبائل معينين بأسمائهم فمن أبطل الصلاة بمثل ذلك كان فساد قوله كفساد قوله بإيجاب الصلاة على ناس معينين وأهل السنة لا يوجبون هذا ولا يحرمون هذا إنما يوجبون ما أوجب الله تعالى ورسوله ويحرمون ما حرم الله ورسوله وأما إن أراد أنه تجب الصلاة على ال محمد دون غيرهم فيقال أولا هذا فيه نزاع بين العلماء فمذهب الأكثرين أنه لا يجب في الصلاة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا اله وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وادعى بعض الناس وهو الطحاوي وغيره أ هذا إجماع قديم والقول الثاني

أنه تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كقول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية عنه ثم على هذه الرواية هل هي ركن أو واجب تسقط بالسهو فيه عن أحمد روايتان وهؤلاء الذين أوجبوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من أوجبها باللفظ المأثور وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد فعلى هذا تجب الصلاة على ال محمد ومنهم من لم يوجب اللفظ بل منهم من لا يوجب إلا الصلاة عليه دون اله كما هو معروف في مذهب الشافعي وأحمد فعلى هذا لا تجب الصلاة على اله وإذا عرف أن في هذه المسألة نزاعا مشهورا فيقال على تقدير وجوب الصلاة على ال محمد فهذه الصلاة لجميع ال محمد لا تختص بصالحيهم فضلا عن أن تختص بمن هو معصوم بل تتناول كل من دخل في ال محمد كما أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يتناول كل من دخل في الإيمان والإسلام ولا يلزم من الدعاء للمؤمنين عموما ولا لأهل البيت عموما أن يكون كل منهم برا تقيا بل الدعاء لهم طلبا لإحسان الله تعالى إليهم وتفضله عليهم وفضل الله

سبحانه وإحسانه يطلب لكل أحد لكن يقال إن هذا لاحق لال محمد أمر الله به ولا ريب أنه لال محمد صلى الله عليه وسلم حقا على الأمة لا يشكرهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش كما أن قريشا يستحقون من المحبة والمالاة مالا يستحقه غير قريش من القبائل كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر أجناس بني ادم وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره والنصوص دلت على هذا القول كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن الله اصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم وكقوله في الحديث الصحيح الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وأمثال ذلك

وذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأدناس وهذا قول طائفة من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع كما بسط في موضعه وبينا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك بل في القرن الثالث من هو خير من كثير من القرن الثاني وإنما تنازع العلماء هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم على قولين ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي وهو كون الإمامية فيهم دون غيرهم وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم وكذلك استحقاقهم من الفىء عند أكثر العلماء وبنو المطلب معهم في ذلك فالصلاة عليهم من هذا الباب فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلا صالحا بل كان عاصيا وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ومدح الله عز وجل للشخص المعين وكرامته عند الله تعالى فهذا لا يؤثر فيه النسب وإنمايؤثر فيه الإيمام والعمل الصالح وهو التقوى كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الناس أكرم فقال أتقاهم فقالوا ليس عن هذا نسألك قال فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال أفعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية في الإسلام إذا فقهوا وثبت عنه في الصحيح أنه قال من بطأ من عمله لم يسرع به نسبه رواه مسلم ولهذا أثنى الله في القران على السابقين الأولين من المهاجرين

والأنصار وأخبر أنه رضى عنهم كما أثنى على المؤمنين عموما فكون الرجل مؤمنا وصف استحق به المدح والثواب عند الله وكذلك كونه ممن امن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وصف يستحق به المدح والثواب ثم هم متفاوتون في الصحبة فأقومهم بما أمر الله به ورسوله في الصحبة أفضل ممن هو دونه كفضل السابقين الأولين على من دونهم وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ومنهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة وهؤلاء لا يدخل النار منهم أحد كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما نفس القرابة فلم يعلق بها ثوابا ولا عقابا ولا مدح أحدا بمجرد ذلك وهذا لا ينافى ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة كان معدن الذهب خيرا لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهبا كان ما يخرج الفضة أفضل منه فالعرب في الأجناس وقريش فيها ثم هاشم في قريش مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في غيرهم ولهذا كان في بني هاشم النبي

صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش فضلا عن وجوده في سائر العرب وغير العرب وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس فلا بد أن يوجد الصنف الأفضل مالا يوجد مثله في المفضول وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من إلغى فضيلة الأنساب مطلقا ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى فضلا عمن هو أظم إيمانا وتقوى فكلا القولين خطأ وهما متقابلان بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة وفضيلة لأجل المظنة والسبب والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية ولأن كل من كان أتقى

لله كان أكرم عند الله والثواب من الله يقع على هذا لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يستدل بالأسباب والعلامات ولهذا كان رضا الله عن السابقين الأولين أفضل من الصلاة على ال محمد لأن ذلك إخبار برضا الله عنهم فالرضا قد حصل وهذا طلب وسؤال لما لم يحصل ومحمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر الله عنه أنه يصلى عليه هو وملائكته بقوله إن الله وملائكته يصلون على النبي فلم تكن فضيلته بمجرد كون الأمة يصلون عليه بل بأن الله تعالى وملائكته يصلون عليه بخصوصه وإن كان الله وملائكته يصلون على المؤمنين عموما كما قال تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ويصلون على معلمى الناس الخير كما في الحديث إن الله وملائكته يصلون على معلمى الناس الخير

فمحمد صلى الله عليه وسلم لما كان أكمل الناس فيما يستحق به الصلاة من الإيمان وتعليم الخير وغي رذلك كان له من الصلاة عليه خبرا وأمرا خاصية لا يوجد مثلها لغيره صلى الله عليه وسلم فبنو هاشم لهم حق وعليهم حق والله تعالى إذا أمر الإنسان بما لم يأمر به غيره لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك بل إن امتثل ما أمر الله به كان أفضل من غيره بالطاعة كولاة الأمور وغيرهم ممن أمر بما لم يؤمر به غيره من أطاع منهم كان أفضل لأن طاعته أكمل ومن لم يطع منهم كان من هو أفضل منه في التقوى أفضل منه ولهذا فضل الخلفاء الراشدون على سائر الناس وفضل من فضل من أمهات المؤمنين على سائر النساء لأن الله أمر الخلفاء بما لم يأمر به غيرهم فقاموا من الأعمال الصالحة بما لم يقم غيرهم بنظيره فصاروا أفضل وكذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال الله لهن من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما وهن ولله الحمد قنتن لله رسوله وعملن صالحا فاستحققن الأجر مرتين فصرن أفضل لطاعة الأمر لا لمجرد الأمر ولو قدر والعياذ بالله أن واحدة تأتي بفاحشة مبينة لضوعف لها العذاب ضعفين

وقد روى عن علي بن الحسين أنه جعل هذا الحكم عاما في ال البيت وأن عقوبة الواحد منهم تضاعف وتضاعف حسناته كما تضاعف العقوبة والثواب على من كان في المسجد الحرام وعلى من فعل ذلك في شهر رمضان ونحو ذلك وهذا كله مما يبين أن كرامة الله تعالى لعباده إنما هي بالتقوى فقط كما في الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إبلا بالتقوى الناس من ادم وادم من تراب وقال إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالاباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقي فالصلاة على ال محمد حق لهم عند المسلمين وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب لأن ذلك يوجب أن يكون كل واحد من بنيهاشم لأجل الأمر بالصلاة عليه تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصل عليه ألا ترى أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه سلم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وفي الصحيحين عن ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه بصدقتهم صلى عليهم وإن أبي أتاه بصدقته فقال اللهم صل على ال أبي أوفى فهذا فيه إثبات فضيلة لمن صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان يأتيه بالصدقة ولا يلزم من هذا أن يكون كل من لم يأته بصدقه لفقره دون من أتاه بصدقة وصلى عليه بل قد يكون من فقراء المهاجرين الذين ليس لهم صدقة يأتونه بها من هو أفضل من كثير ممن أتاه بالصدقة وصلى عليه وقد يكون بعض من يأخذ الصدقة أفضل من بعض من يعطيها وقد يكون فيمن يعطيها أفضل من بعض من يأخذها وإن كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى فالفضيلة بنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقا ولهذا كان في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء وفي الفقراء من هو أفضل من

جمهور الأغنياء فإبراهيم وداوود وسليمان ويوسف وأمثالهم أفضل من أكثر الفقراء ويحيى وعيسى ونحوهما أفضل من أكثر الأغنياء فالاعتبار العام هو التقوى كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل سواء كانا أو أحدهما غنيين أو فقيرين أو أحدهما غنيا والاخر فقيرا وسواء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين أو قرشيين أو هاشميين أو كان أحدهما من صنف والاخر من صنف اخر وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للاخر فإذا كان ذاك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها وإن كان ذاك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها وإن كان أقدر على الإتيان بها فالعالم خير من الجاهل وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم والبر أفضل من الفاجر وإن كان الفاجر أقدر على البر والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوى وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور

بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب: منهاج السنة النبوية
///

الجزء الخامس
///
الفصل الثاني قال الرافض: السادس إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة ولم ينقلوا في علي طعنا ألبتة اتبعوا قوله وجعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموافق وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ليكون حجة عليهم يوم القيامة فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في الجمع بين الصحاح الستة موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم

وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال إنك على خير إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والجواب أن يقال إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعلي والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم هو من أبين الكذب على علماء الجمهور فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة علي ولا على فضيلته على أبي بكر

وعمر بل وليست من خصائصه بل هي فضائل شاركه فيها غيره بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر فإن كثيرا منها خصائص لهما لا سيما فضائل أبي بكر فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره وأما ما ذكره من المطاعن فلا يمكن أن يوجه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وجه على علي ما هو مثله أو أعظم منه فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ونحن نبين ذلك تفصيلا وأما قوله إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموفق وتركوا غيره حيث روى من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته فيقال هذا كذب بين فإن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون في علي طوائف متعددة وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه فإن الخوارج متفقون على كفره وهم عند المسلمين كلهم خبر من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الأثنى عشرية الذين اعتقدوه إماما معصوما

وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما والمروانية الذين ينسبون عليا إلى الظلم ويقولون أنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم فكيف يقال مع هذا إن عليا نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفه وهم أعلم من الرافضة وأدين والرافضة عاجزون معهم علما ويدا فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم والذين قدحوا في علي رضي الله عنه وجعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة كالغالية الذين يدعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيريه وكالغالية الذين يدعون نبوته فإن هؤلاء كفار مرتدون كفرهم

بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام فمن اعتقد في بشر الإلهية أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيا أو أنه لم يكن نبيا بل كان علي هو النبي دونه وإنما غلط جبريل فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة بخلاف من يكفر عليا ويلعنه من الخوارج وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرم الله ورسوله وليس فيهم كفر ظاهر بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام فكيف يدعي مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليا وجد هؤلاء خيرا من أولئك من وجوه متعددة فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدينوأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلا فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية فإن هؤلاء طوائف كثيرة ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلو قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا فعارضه شاعر أهل السنة فقال ياضربة من شقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذى العرش خسرانا إني لأذكره حينا فألعنه لعنا وألعن عمران بن حطانا

وهؤلاء الخوارج كانوا ثمان عشرة فرقة كالأزارقة أتباع نافع بن الأزرق والنجدات أتباع نجدة الحروري والإباضية أتباع عبداللهبن إباض ومقالاتهم وسيرهم مشهورة في كتب المقالات والحديث والسير وكانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم ومع هذا فلم يكفروهم ولا كفرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار وهؤلاء الغالية يقتل الواحد منهم المقدور عليه وأما الخوارج فلم يقاتلهم علي حتى قتلوا واحدا من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها فأولئك حكم فيهم علي وسائر الصحابة بحكم المرتدين وهؤلاء لم يحكموا فيهم بحكم المرتدين وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر وعثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق علي وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفروه ويبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند علي وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي.
*

فصل
:(حديث الكساء)
وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الاحزاب.
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم

فليس هو من خصائصه ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة فعلم أن هذه الفضيله لاتختص بالأئمة بل يشركهم فيها غيرهم.
ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم. واجتناب الرجس واجب على المؤمنين والطهارة مأمور بها كل مؤمن قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة).. وقال خذ بين أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (سورة التوبة).. وقال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (سورة البقرة).. فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور والصديق رضي الله عنه قد أخبر الله عنه بأنه الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى سورة الليل وأيضا فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفور العظيم (سورة التوبة). لا بد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور فإن هذا الرضوان وهذا

الجزاء إنما ينال بذلك وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم فما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف به السابقين الأولين والنبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير أهل الكساء بأن يصلي الله عليهم ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك مما هو أعظم من الدعاء بذلك ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأولين ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ولينالوا المدح والثواب.
*الفصل الثالث قال الرافض في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة (سورة المجادلة). قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يعمل بهذه الآية غيري وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية.
*والجواب أن يقال الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه وإنما أمر به من أراد النجوى واتفق أنه لم يرد النجوى إذ ذاك إلا علي رضي الله عنه فتصدق لأجل المناجاة وهذا كأمره بالهدى لمن تمتع بالعمرة إلى الحج وأمره بالهدى لمن أحصر وأمره لمن به أذى من رأسه بفدية من صيام أو صدقة أو نسك وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينفخ تحت قدر وهوام رأسه تؤذيه وكأمره لمن كان مريضا أو على سفر بعدة من أيام أخر وكأمره لمن حنث في يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وكأمره إذا قاموا إلى الصلاة أن يغسلوا وجوههم وأيديهم إلى المرافق وكأمره إذا قرأوا القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ونظائر هذا متعددة فالأمر المعلق بشرط إذا لم يوجد ذلك الشرط إلا في حق واحد لم يؤمر

به غيره وهكذا آية النجوى فإنه لم يناج الرسول قبل نسخها إلا علي ولم يكن على من ترك النجوى حرج فمثل هذا العمل ليس من خصائص الأئمة ولا من خصائص علي رضي الله عنه ولا يقال إن غير على ترك النجوى بخلا بالصدقة لأن هذا غير معلوم فإن المدة لم تطل وفي تلك المدة القصيرة قد لا يحتاج الواحد إلى النجوى وإن قدر أن هذا كان يخص بعض الناس لم يلزم أن يكون أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من هؤلاء كيف وأبو بكر رضي الله عنه قد أنفق ماله كله يوم رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة وعمر رضي الله عنه جاء بنصف ماله بلا حاجة إلى النجوى فكيف يبخل أحدهما بدرهمين أو ثلاثة يقدمها بين يدي نجواه وقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك يا عمر فقلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل مال عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا.*الفصل الرابع قال الرافض وعن محمد بن كعب القرظي قال افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي ابن ابي طالب فقال طلحة بن شيبة معي مفاتيح البيت ولو أشاء بت فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد وقال علي ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (سورة التوبة)..*والجواب أن يقال هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة بل دلالات الكذب عليه ظاهرة منها أن طلحة بن شيبة لا وجود له وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي

طلحة وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح ثم فيه قول العباس لو أشاء بت في المسجد فأي كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ثم فيه قول علي صليت ستة أشهر قبل الناس فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديحة يوما أو نحوه فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر وأيضا فلا يقول أنا صاحب الجهاد وقد شاركه فيه عدد كثير جدا وأما الحديث فيقال الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ولفظه عن النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله (سورة التوبة). الآية إلى آخرها وهذا الحديث ليس من خصائص الأئمة ولا من خصائص علي فإن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله كثيرون والمهاجرون والأنصار يشتركون في هذا الوصف وأبو بكر وعمر أعظمهم إيمانا وجهادا لا سيما وقد قال الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله (سورة الأنفال). ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أعظم من جهاد علي وغيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر

وقال ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكره وأبو بكر كان مجاهدا بلسانه ويده وهو أول من دعا إلى الله وأول من أوذي في الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مشاركا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر وحتى أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لما قال أفيكم محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفيكم ابن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفيكم ابن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد أبقى الله لك ما يخزيك ذكره البخاري وغيره.*الفصل الخامس قال الرافضي ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك قال قلنا لسلمان سل النبي صلى الله عليه وسلم من وصيه فقال له سلمان يا رسول الله من وصيك فقال يا سلمان من كان وصى موسى فقال يوشع بن نون قال فإن وصيى ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب.

*والجواب أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل. وأحمد قد صنف كتابا في فضائل الصحابة ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة، وذكر فيه ما روى في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك وليس كل ما رواه يكون صحيحا.
ثم إن في هذا الكتاب زيادات من روايات ابنه عبد الله وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه. وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد وهؤلاء الرافضة جهاد إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ويكون القائل لذلك هو القطيعي وذاك الرجل من شيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله لا سيما في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه زاد زيادات كثيرة.*الفصل السادس قال الرافضي وعن يزيد بن أبي مريم عن علي رضي الله عنه قال انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتينا العكبة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس فصعد على منكبي فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفا فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال اصعد على منكبي فصعدت على منكبه قال فنهض بي قال فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقذف به فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير ثم نزلت

فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس.*والجواب أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص علي فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله ويقول إن ابني ارتحلني وكان يقبل زبيبة الحسن فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه بل قد أشركه فيه غيره وإنما حمله لعجز علي عن حمله فهذا يدخل في مناقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة من يحمل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلى الله عيله وسلم كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله فإن هذا نفع النبي صلى الله عليه وسلم وذاك نفعه النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي صلى الله عليه وسلم وماله.*الفصل السابع قال الرافضي وعن ابن أبي ليلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم.*الجواب أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر رضي الله عنه بأنه صديق. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.فهذا يبين أن الصديقين كثيرون وأيضا فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران إنها صديقة وهي امرأة

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع فالصديقون من الرجال كثيرون.*الفصل الثامن قال الرافضي وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي أنت مني وأنا منك.*والجواب أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب لما تنازع علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضى بها لخالتها وكانت تحت جعفر وقال لعلي أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي، وقال لزيد أنت أخونا ومولاناه.
لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية هم مني وأنا منهم. وكذلك قال عن جليبيب هو مني وأنا منه. فروى مسلم في صحيحه عن أبي برزة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه هل تفقدون من أحد قالوا نعم فلانا وفلانا ثم قال هل تفقدون من أحد قالوا نعم فلانا وفلانا وفلانا ثم قال هل تفقدون من أحد قالوا لا قال لكني أفقد جليبيبا فاطلبوه فطلبوه في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه قال فوضعه علي على ساعديه ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال فحفر له فوضع في قبره ولم يذكر غسلا.
فتبين أن قوله لعلي أنت مني وأنا منك ليس من خصائصه بل قال ذلك للأشعريين وقال لجليبيب وإذا لم يكن من خصائصه بل قد شاركه في ذلك غيره من هو دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة لم يكن دالا على الأفضلية ولا على الإمامة.

*الفصل التاسع قال الرافضي وعن عمرو بن ميمون قال لعلي بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره قال له النبي صلى الله عليه وسلم لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فاستشرف إليها من استشرف قال أين علي بن أبي طالب قالوا هو أرمد في الرحى يطحن قال وما كان أحدهم يطحن قال فجاء وهو أرمد لايكاد أن يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاه إياه فجاء بصفية بنت حيي قال ثم بعث أبا بكر ب(سورة التوبة). فبعث عليا خلفه فأخذها منه وقال لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه وقال لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة قال وعلي معهم جالس فأبوا فقال علي أنا أواليك في الدنيا والآخرة قال فتركه ثم أقبل على رجل رجل منهم فقال إيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا فقال علي أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال أنت وليي في الدنيا والآخرة قال وكان علي أول من أسلم من الناس بعد خديجة قال وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على علي وفاطمة والحسن والحسين فقال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). قال وشرى علي نفسه ولبس ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمونه بالحجارة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في غزاة تبوك فقال له علي أخرج معك قال لا فبكى علي فقال له

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وليي في كل مؤمن بعدي قال وسد أبواب المسجد إلا باب علي قال وكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره وقال له من كنت مولاه فعلي مولاه وعن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة فسار بها ثلاثا ثم قال لعلي الحقة فرده وبلغها أنت ففعل فلما قدم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء قال لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني.
*والجواب أن هذا ليس مسندا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنك لست بنبي لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير علي كما اعتمر عمرة الحديبية وعلي معه وخليفته غيره وغزا بعد ذلك خيبر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره وغزا غزوة الفتح وعلي معه وخليفته في المدينة غيره وغزا حنينا والطائف وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره وحج حجة الوداع وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره وغزا غزوة بدر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث وكان علي معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال فإن قيل استخلافه يدل على أنه لا يستخلف إلا الأفضل لزم أن يكون علي مفضولا في عامة الغزوات وفي عمرته وحجته لا سيما وكل مرة كان يكون الإستخلاف على رجال مؤمنين وعام تبوك ما كان الإستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عذر الله وعلى الثلاثة الذين

خلفوا أو متهم بالنفاق وكانت المدينة آمنة لا يخاف على أهلها ولا يحتاج المستخلف إلى جهاد كما يحتاج في أكثر الاستخلافات وكذلك قوله وسد الأبواب كلها إلا باب علي فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد خوخه إلا سدت إلا خوخه أبي بكر ورواه ابن عباس أيضا في الصحيحين ومثل قوله أنت وليي في كل مؤمن بعدي فإن هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة بل ولا من خصائص علي بل قد شاركه فيه غيره مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى ومثل كون علي مولى من النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فإن كل مؤمن موال لله ورسوله ومثل كون براءة لا يبلغها إلا رجل من بني هاشم فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين لما روى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ويحلها إلا رجل من قبيلة المطاع.*الفصل العاشر قال الرافضى ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا علي لو أن عبدا عبد الله عز

وجل مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنه ولم يدخلها وقال رجل لسلمان ما أشد حبك لعلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله من نور وجه علي سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب عليا قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه ألا ومن أحب عليا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامةمكتوبا بين عيينه آيس من رحمة الله وعن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليا فهو كاذب ليس بمؤمن وعن أبي برزة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس ذات يوم والذي نفسي بيده لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه وعن حبنا أهل البيت فقال له عمر فما آية حبكم من بعدكم فوضع يده على رأس علي بن أبي طالب وهو إلى جانبه فقال إن حبي من بعدي حب هذا

وعن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل بأي لغه خاطبك ربك ليلة المعراج فقال خاطبني بلغة علي فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أم علي فقال يا محمد أنا شيء لست كالأشياء لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري وخلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحب من علي فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب وبالإسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل الأجر على فضائل علي لا يحصى كثرةفمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالإستماع ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ثم قال النظر إلى وجه أمير المؤمنين علي عبادة وذكره عبادة لا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمبارزة علي لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة وعن سعد بن أبي وقاص قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا بالسب فأبى فقال ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب قال ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن

أسبه لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي تخلفني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وسمعته يقول يوم خبير لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا فقال ادعوا لي عليا فأتاه به رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه وأنزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم (سورة آل عمران). دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال هؤلاء أهلي والجواب أن أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب فيه منالأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث فضلا عن علماء الحديث وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يرجع إليه في هذا الشأن ألبتة وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع ولم يرو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا صححه أحد من أئمة الحديث فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث قتله لعمرو بن عبد ود وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسب فأبى فقال ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب فقال ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم الحديث فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه وفيه ثلاث فضائل لعلي لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص

علي فإن قوله وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ليس من خصائصه فإنه استخلف على المدينة غير واحد ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره ولهذا قال له علي أتخلفني مع النساء والصبيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالا من المهاجرين والأنصار إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير فلم يتخلف بالمدينة إلا عاص أو معذور غير النساء والصبيان ولهذا كره علي الإستخلاف وقال أتخلفني مع النساء والصبيان يقول تتركني مخلفا لا تستصحبني معك فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الإستخلاف ليس نقصا ولا غضاضة فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي لكن موسى استخلف نبيا وأنا لا نبي بعدي وهذا تشبيه في أصل الإستخلاف فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل والنبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على قليل من المسلمين وجمهورهم استصحبهم في الغزاة وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر هذا بإبراهيم وعيسى وهذا بنوح وموسى فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه

علي مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابه وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه فلم يكن الإستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص وكذلك قوله لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا فقال ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يديه وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه وليس هذا الوصف مختصا بالأئمة ولا بعلي فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه بل قد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا وبعض أهل الأهواء من

المعتزلة وغيرهم وبعض المروانية ومن كان على هواهم الذين كانوا يبغضونه ويسبونه كذلك حديث المباهلة شركة فيه فاطمة وحسن وحسين كما شركوه في حديث الكساء فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة بل يشركه فيه المرأة والصبي فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكه سنة تسع أو عشر والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يكمل الحسين سبع سنين والحسن أكبر منه بنحو سنة وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين الأبناء والنساء والأنفس فيدعو الواحد من أولئك أبناءه ونساءه وأخص الرجال به نسبا وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبا وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ولهذا خصهم في حديث الكساء

والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب ولهذا امتنعوا عن المباهلة لعلمهم بأنه على الحق وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله وعلى الأقربين إليهم بل قد يحذر الإنسان على ولده ما لا يحذره على نفسه فإن قيل فإذا كان ما صح من فضائل علي رضي الله عنه كقوله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى وقوله اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ليس من خصائصه بل له فيه شركاء فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك كما روى عن سعد وعن عمر فالجواب أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس كما قال النبي صلى الله عليه

وسلم فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله ولهذا قتله واحد منهم وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس وأهل العلم والسنة يحاتجون إلى إثبات إيمان علي وعدله ودينه للرد على هؤلاء أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة فإن هؤلاء أصدق وأدين والشبه التي يحتجون بها أعظم من الشبه التي تحتج بها الشيعة كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا وإلى نفي ما تدعيه النصارى من الإلهية وجدل اليهود أشد من جدل النصارى ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها وإنما يجيبهم عنها المسلمون كما أن للنواصب شبهالا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها وإنما يجيبهم عنها أهل السنة فهذه الاحاديث الصحيحة المثبته لإيمان علي باطنا وظاهرا رد على هؤلاء وإن لم يكن ذلك من خصائص كالنصوصه الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطنا وظاهر فإن فيها ردا على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس بن شماس وعبد الله بن سلام وغيرهما وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين والشهادة بمحبة الله

ورسوله لعبد الله حمار الذي ضرب في الخمر وإن شهد بذلك لمن هو أفضل منه وكشهادته لعمرو بن تغلب بأنه ممن لا يعطيه لما في قلبه من الغنى والخير لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إني لأعطي رجالا وأدع رجالا والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب وفي الحديث الصحيح لما صلى على ميت قال اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم منزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وقه فتنة القبر وعذاب النار وافسح له في قبره ونور له فيه قال عوف بن مالك فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت وهذا العداء ليس مختصا بذلك الميت.*الفصل الحادي عشر قال الرافضي وعن عامر بن واثلة قال كنت مع علي عليه السلام يوم الشورى يقول لهم لأحتجن عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولاعجميكم تغيير ذلك ثم قال أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله تعالى

قبلي قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيار في الجنة مع الملائكة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له عم مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات قدم بين يدى نجواه صدقة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ليبلغ الشاهد الغائب غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطير فأتاه فأكل معه غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على يديه إذ رجع غيري منهزما غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني وكيعة لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كعصيتي يفصلكم بالسيف غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال

له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القليب غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ردت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله فيكم أحد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ براءة من أبي بكر فقال له أبو بكر يا رسول الله أنزل في شيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يؤدي عني إلا علي غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسد أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه بل الله سد أبوابكم وفتح بابه

غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك فقلتم ناجاه دوننا فقال ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحق مع علي وعلي مع الحق يزول الحق مع علي كيفما زال قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما استمسكتم بهما ولن يفترقا حتى يردا على الحوض قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت سيد المؤمنين غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله غيري قالوا اللهم لا ومنها ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال لعلي

أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره هو أول عربي وعجمي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم حنين وهو الذي غسله وأدخله قبره وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال قوم يقطعون الناس بالغيبة قال ومررت بقوم وقد ضوضؤا فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الكفار قال ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليا يصلي فقلت يا جبريل هذا علي قد سبقنا قال لا ليس هذا عليا قلت فمن هو قال إن الملائكة المقربين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل علي وخاصته وسمعت قولك فيه أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي اشتاقت إلى علي فخلق الله تعالى لها ملكا على صورة علي فإذا اشتاقت إلى علي جاءت إلى ذلك المكان فكأنها قد رأت عليا وعن ابن عباس قال إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى قال فقوله أنا الفتى يعني هو فتى العرب وقوله ابن الفتى يعني إبراهيم من قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (سورة الأنبياء). وقوله أخو الفتى يعني عليا وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي

وعن ابن عباس قال رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليا والجواب أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يقل على رضي الله عنه يوم الشورى شيئا من هذا ولاما يشابهه بل قال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لئن أمرتك لتعدلن قال نعم قال وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن قال نعم وكذلك قال لعثمان ومكث عبدالرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين ففي الصحيحين وهذا لفظ البخاري عن عمرو بن ميمون فيمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن أجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم قال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن فقال عبدالرحمن أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبدالرحمن أتجعلونه إلي والله على أن لا ألو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ المثاق قال أرفع يدك يا عثمان

وفي حديث المسور بن مخرمة قال المنسور إن الرهط الذي ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا قال لهم عبدالرحمن لست بالذي أتكلم في هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع ذلك الرهط ولا يطأ عقبه ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعدا فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل ثم قام على من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى

من علي شيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر أرسل إلي من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبدالرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون هذا لفظ البخاري وفي هذا الحديث الذي ذكره هذا الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزه الله عليا عنها مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته وعلي رضي الله عنه أفضل من هؤلاء وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ولو قال العباس هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولاد إخوتي محمد وعلي وجعفر لكانت هذه الحجة من جنس تلك بل احتجاج الإنسان بيني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه ولو قال عثمان هل فيكم من تزوج بنتي نبي لكان من جنس قول القائل هل فيكم من زوجته كزوجتي وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان فإنها ماتت

بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ستة أشهر وكذلك قوله هل فيكم من له ولد كولدي وفي أكاذيب متعددة مثل قوله ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله وكذلك قوله لا يؤدي عني إلا علي من الكذب وقال الخطابي في كتاب شعار الدين وقوله لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي هو شيء جاء به أهل الكوفة عن زيد بن يثيع وهو متهم في الرواية منسوب إلى الرفض وعامة من بلغ عنه غير أهل بيته فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام ويعلم الأنصار القرآن ويفقههم في الدين وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك وبعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة فأين قول من زعم أنه لا يبلغ عنه إلا رجل من أهل بيته وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب منها قوله كان لواؤه معه في كلزحف فإن هذا من الكذب المعلوم إذا لواء النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم أحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركز رايته بالحجون فقال العباس للزبير بن العوام أهاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية أخرجه البخاري في صحيحه وكذلك قوله وهو الذي صبر معه يوم حنين وقد علم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب والعباس آخذ بلجام بغلته وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم ناد أصحاب السمرة قال فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة فوالله كأن عطفتهم على حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يالبيك يالبيك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب ونزل عن بغلته وأخذ كفا من حصى فرمى بها القوم وقال انهزموا ورب الكعبة قال العباس فوالله ما هو إلا

أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ للبخاري قال وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته وفيه قال العباس لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم نفارقه وأما غسله صلى الله عليه وسلم وإدخاله قبره فاشترك فيه أهل بيتهكالعباس وأولاده ومولاه شقران وبعض الأنصار لكن علي كان يباشر الغسل والعباس حاضر لجلالة العباس وأن عليا أولادهم بمباشرة ذلك وكذلك قوله هو أول عربي وعجمي صلى يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس.
*

فصل
وأما حديث المعراج وقوله فيه إن الملائكة المقربين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل علي وخاصته وقول النبي صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى اشتقات إلى علي فخلق الله لها ملكا على صورة علي فالجواب أن هذا من كذب الجهال الذين لا يحسنون أن يكذبوا فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس كما قال تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (سورة الإسراء).

وكان الإسراء من المسجد الحرام وقال والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (سورة النجم). إلى قوله أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى (سورة النجم). إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى (سورة النجم). وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس وقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى قاله في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات عام تسع من الهجرة فكيف يقال إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم قد علم أن الإستخلاف على المدينة مشترك فكل الإستخلافات التي قبل غزوة تبوك وبعد تبوك كان يكون بالمدينة رجال من المؤمنين المطيعين يستخلف عليهم وغزوة تبوك لم يكن فيها رجل مؤمن مطيع إلا من عذره الله ممن هو عاجز عن الجهاد فكان المستخلف عليهم في غزوة تبوك أقل وأضعف من المستخلف عليهم في جميع أسفاره ومغازيه وعمره وحجه وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة قريبا من ثلاثين سفرة وهو يستخلف فيها من يستخلفه كما استخلف في غزوة الأبواء سعد بن عبادة واستخلف في غزوةبواط سعد بن معاذ ثم لما رجع وخرج في طلب كرز بن جابر الفهري استخلف زيد بن حارثة واستخلف في غزوة العشيرة أبا سلمة بن عبد الأشهل وفي غزوة بدر استخلف ابن أم مكتوم واستخلفه في غزوة قرقرة الكدر ولما ذهب إلى بني سليم وفي غزوة حمراء الأسد وغزوة بني النضير وغزوة بني قريظة وإستخلفه لما خرج في طلب اللقاح التي استاقها عيينة بن حصن ونودي ذلك اليوم يا خيل الله اركبي وفي غزوة الحديبية واستخلفه في غزوة الفتح واستخلف

أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق واستخلف عثمان بن عفان في غزوة غطفان التي يقال لها غزوة أنمار واستخلفه في غزوة ذات الرقاع واستخلف ابن رواحة في غزوة بدر الموعد واستخلف سباع بن عرفطة الغفاري في غزوة دومة الجندل وفي غزوة خيبر واستخلف زيد بن حارثة في غزوة المريسيع واستخلف أبا رهم في عمرة القضية وكانت تلك الاستخلافات أكمل من استخلاف علي رضي الله عنه عام تبوك وكلهم كانوا منه بمنزلة هارون من موسى إذ المراد التشبيه في أصل الاستخلاف وإذا قيل في تبوك كان السفر بعيدا قيل ولكن كانت المدينة وما حولها أمنا لم يكن هناك عدو يخاف لأنهم كلهم أسلموا ومن لم يسلم ذهب وفي غير تبوك كان العدو موجودا حول المدينة وكان يخاف على من بها فكان خليفته يحتاج إلى مزيد اجتهاد ولا يحتاج إليه في الإستخلاف في تبوك.
*

فصل
وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى قالفقوله أنا الفتى يعني فتى العرب وقوله ابن الفتى يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه من قوله سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (سورة الأنبياء). وقوله أخو الفتى يعني عليا وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه منها أن لفظ الفتى في الكتاب والسنة ولغة العرب ليس من هو من أسماء المدح كما ليس هو من أسماء الذم ولكن بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك والذين قالوا عن إبراهيم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم هم الكفار ولم يقصدوا مدحه بذلك وإنما الفتى كالشاب الحدث

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يفتخر بجده وابن عمه ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ عليا ولا غيره وحديث المؤاخاة لعلي ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ومنها أن هذه المناداة يوم بدر كذب ومنها أن ذا الفقار لم يكن لعلي وإنما كان سيفا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين بل من سيوف الكفار كما روى ذلك أهل السنن فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد النبوة كهلا قد تعدى سن الفتيان.
*

فصل
وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعا فلا يحتج به مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر ومع هذا فحب علي واجب وليس ذلك من خصائصه بل علينا أن نحبه كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر وأن نحب الأنصار ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني الا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.

*

فصل
قال الرافضي ومنها ما نقله صاحب الفردوس في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة.
*والجواب أن كتاب الفردوس فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبه الحديث ورواته فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جدا وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوله فإن حب الله ورسوله أعظم من حب علي والسيئات تضر مع ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب عبد الله بن حمار فيالخمر وقال إنه يحب الله ورسوله وكل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله والسيئات تضره وقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه ولو أحب علي ابن أبي طالب فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفار من أهل النار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو سرق لقطعت يده وإن كان يحب عليا ولو زنى أقيم عليه الحد ولو كان يحب عليا ولو قتل لأقيد بالمقتول وإن كان يحب عليا وحب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حب علي ولو ترك رجل الصلاة والزكاة وفعل الكبائر لضره ذلك مع حب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يضره ذلك مع حب علي

ثم من المعلوم أن المحبين له الذين رأوه وقاتلوا معه أعظم من غيرهم وكان هو دائما يذمهم ويعيبهم ويطعن عليهم ويتبرأ من فعلهم به ودعا الله عليهم أن يبدله بهم خيرا منهم ويبدلهم به شرا منه ولو لم تكن إلا ذنوبهم بتخاذلهم في القتال معه ومعصيتهم لأمره فإذا كان أولئك خيار الشيعة وعلي يبين أن تلك الذنوب تضرهم فكيف بما هو أعظم منها لمن هو شر من أولئك وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يستتاب صاحبه ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر وكذلك قوله وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة فإن من أبغضه إن كان كافرا فكفره هو الذي أشقاه وإن كان مؤمنا نفعه إيمانه وإن أبغضه وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حب آل محمد يوما خير من عبادة سنة ومن مات عليه دخل الجنة وقوله عن علي أنا وهذا حجة الله على خلقه هما حديثانموضوعان عند أهل العلم بالحديث وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهرا فضلا عن حبهم يوما وكذلك حجة الله على عبادة قامت بالرسل فقط كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). ولم يقل بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك وكذلك قوله لو اجتمع الناس على حب علي لم يخلق الله النار من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان ولو اجتمعوا على حب علي لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحا وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة وإن لم يعرفوا عليا بالكلية ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه

قال الله تعالى بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (سورة البقرة). وقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء). وقال تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (سورة آل عمران). فهؤلاء في الجنة ولم يشترط عليهم ما ذكروه من حب علي وكذلك قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين (سورة المعارج). إلى قوله أولئك في جنات مكرمون (سورة المعارج). وأمثال ذلك ولم يشترط حب علي وقد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عدة وفود وآمنوا به وآمنبه طوائف ممن لم يره وهم لم يسمعوا بذكر علي ولا عرفوه وهم من المؤمنين المتقين المستحقين للجنة وقد اجتمع على دعوى حبه الشيعة الرافضة والنصيرية والإسماعيلية وجمهورهم من أهل النار بل مخلدون في النار.

*

فصل
وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي وأنه راية الهدى وإمام الأولياء وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين الخ... فإن هذا كذب موضوع بأتفاق أهل المعرفة بالحديث والعلم ومجرد رواية صاحب الحلية ونحوه لا تفيد ولا تدل على الصحة فإن صاحب الحلية قد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والأولياء وغيرهم أحاديث ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء وهو وأمثاله من الحفاظ الثقات أهل الحديث ثقات فيما يروونه عن شيوخهم لكن الآفة ممن هو فوقهم وهم لم يكذبوا في النقل عمن نقلوا عنه لكن يكون واحد من رجال الإسناد ممن يتعمد الكذب أو يغلط وهم يبلغون عمن حدثهم ما سمعوه منه ويروون الغرائب لتعرف وعامة الغرائب ضعيفة كما قال الإمام أحمد اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها ضعيفة وقوله في الحديث هو كلمة التقوى مما يبين أن هذا كذب فإن تسميته كلمة من جنس تسمية المسيح عليه السلام كلمة الله والمسيح سمي بذلك لأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فهو مخلوق بالكلمة وأما علي فهو مخلوق كما خلقسائر الناس وكلمة التقوى مثل لا إله إلا الله والله أكبر من الكلمات التي يصدق المؤمنون بمضمونها إن كانت خبرا ويطيعونها إن كانت أمرا فمثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وكلمة التقوى اسم جنس لكل كلمة يتقى الله فيها وهو الصدق والعدل فكل من تحرى الصدق في خبره والعدل في أمره فقد لزم كلمة التقوى وأصدق الكلام وأعدله قول لا إله إلا الله فهو أخص الكلمات بأنها كلمة التقوى وكذلك حديث عمار وابن عباس كلاهما من الموضوعات

*

فصل
قال الرافضي وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة حتى صنف الكلبي كتابا في مثالب الصحابة ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت.
*والجواب أن يقال قبل الأجوبة المفصلة عما يذكر من المطاعن أن ما ينقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان أحدهما ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذبالناس وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي ما ظننت أن أحدا يحدث عنه إنما هو صاحب سمر وشبه وقال الدارقطني هو متروك وقال ابن عدي هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب وقال زائدة والليث وسليمان التيمي هو كذاب وقال يحيى ليس بشيء كذاب ساقط وقال ابن حبان وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه النوع الثاني ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها

عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات وقد قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (سورة النساء). ومنها المصائب المكفرة ومنها دعاء المؤمنين بعضم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم

فنقول الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة الأصل الأول أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ولم يكن هو الحق في نفس الأمر هل يستحق أن يعاقب أم لا هذا أصل هذه المسائل وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال كل قول عليه طائفة من النظار الأول قول من يقول إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه لا لعجزه وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة و هو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء ثم قال هؤلاء أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم وأما المسائل العملية الشرعية فلهم فيها مذهبان أحدهما أنها كالعلمية وأنه على كل مسألة دليل قطعي من خالفه فهو آثم وهؤلاء

الذين يقولون المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية وكل من سوى المصيب فهو آثم لأنه مخطىء والخطأ والإثم عندهم متلازمان وهذا قول بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين الثاني أن المسائل العملية إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه آثم مخطىء كالعلمية وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان وأن كل مخطىء آثم لكن خالفوهم في المسائل الإجتهادية فقالوا ليس فيها قاطع والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء فجعلوا الإعتقادات الظنية من جنس الإرادات وادعوا أنه ليس في نفس الأمر حكم مطلوب بالإجتهاد ولاثم في نفس الأمر أمارة أرجح من أمارة وهذا القول قول أبي الهذيل العلاف ومن اتبعه كالجبائي وابنه وهو أحد قولي الأشعري وأشهرهما وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي ومن اتبعهم وقد بسطنا القول في ذلك بسطا كثيرا في غير هذا الموضع

والمخالفون لهم كأبي إسحاق الإسفراييني وغيره من الأشعرية وغيرهم يقولون هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا قول من يقول إن كل مجتهد في المسائل الشرعية الإجتهادية العملية فهو مصيب باطنا وظاهرا ولا يتصور عندهم أن يكون مجتهدا مخطئا إلا بمعنى أنه خفى عليه بعض الأمور وذلك الذي خفى عليه ليس هو حكم الله لا في حقه ولا في حق أمثاله وأما من كان مخطئا وهو المخطىء في المسائل القطعية فهو آثم عندهم والقول الثاني في أصل المسألة إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق وقد يعجز عن ذلك لكن إذا عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله تعالى وقد لا يعاقبه فإن له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء بلا سبب أصلا بل لمحض المشيئة وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ثم قال هؤلاء قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله يعذبه سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة صحة دين الإسلام أو لم يجتهد وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات فأكثرهم يقول لا عذاب فيها وبعضهم يقول لأن الشارع عفا عن الخطأ فيها وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على

المخطىء فيها وبعضهم يقول لأن الخطأ في الظنيات ممتنع كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكى عن عبيد الله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ويصححون الصلاة خلفهم والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه وقالوا هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة عملية ولا علمية قالوا والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع

من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره قالوا والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة فمنهم من قال مسائل الأصول هي العلمية الإعتقادية التي يطلب فيها العلم والإعتقاد فقط ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل قالوا وهذا فرق باطل فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش وفي المسائل العلمية مالا يأثم المتنازعون فيه كتنازع الصحابة هل رأى محمد ربه وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا وما أراد بمعناه وكتنازعهم في بعض الكلمات هل هي من القرآن أم لا وكتنازعهم في بعض معاني القرآن

والسنة هل أراد الله ورسوله كذا وكذا وكتنازع الناس في دقيق الكلام كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك فليس في هذا تكفير ولا تفسيق قالوا والمسائل العملية فيها علم وعمل فإذا كان الخطأ مغفورا فيها فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا ومنهم من قال المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي قال أولئك وهذا الفرق خطأ أيضا فإن كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعي بالإجماع كتحريم المحرمات الظاهرة ووجوب الواجبات الظاهرة ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة ورأوا أنها حلال لهم ولم يكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن تكفيرهم وخطؤهم قطعي وكذلك أسامة بن زيد وقد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيا

وكذلك الذي وجدوا رجلا في غنم له فقال إني مسلم فقتلوه وأخذوا ماله كان خطؤهم قطعيا وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم كان مخطئا قطعا وكذلك الذين تيمموا إلى الأباط وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة كما تمعك الدابة بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعا وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا وجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يحدوا على ذلك وكذلك لو نشأوا بمكان جهل وقد زنت على عهد عمر امرأة فلما أقرت به قال عثمان إنها لتستهل به استهلال من لم يعلم أنه حرام فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها واستحلال الزنا خطأ قطعا والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطىء قطعا حقا ولا إثم عليه بالإتفاق وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل فهو مخطىء قطعا إذا تبين له الأكل بعد الفجر ولا إثم عليه وفي القضاء نزاع وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه ومثل هذا كثير

وقول الله تعالى في القرآن ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (سورة البقرة). قال الله تعالى قد فعلت ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني بل لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعا قالوا فمن قال إن المخطىء في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم قالوا وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الإستدلال والناس يختلفون في هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعي بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال المسائل الأصولية هي المعلومة

بالعقل فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع قالوا فالأول كمسائل الصفات والقدر والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار فيقال لهم ما ذكرتموه بالضد أولى فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما والعدل من جعله الله ورسوله عدلا والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين والذي يقتل حدا أو قصاصا من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقا لذلك والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله

ورسوله مستحقا للموالاة والمعاداة والحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع وأما الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني فإن مثل هذا يعلم بالتجربة والقياس وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بقياس أو تجربة وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك هذا مما يعلم بالعقل وكذلك مسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام أو إختلافها وجواز بقاء الأعراض وامتناع بقائها فهذه ونحوها تعلم بالعقل وإذا كان كذلك فكون الرجل مؤمنا وكافرا وعدلا وفاسقا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية فكيف يكون من خالف ما جاء به الرسول ليس كافرا ومن خالف ما ادعى غيره أنه معلوم بعقله كافرا وهل يكفر أحد بالخطأ في مسائل الحساب والطب ودقيق الكلام فإن قيل هؤلاء لا يكفرون كل من خالف مسألة عقلية لكن يكفرون من خالف المسائل العقلية التي يعلم بها صدق الرسول فإن العلم بصدق الرسول مبني عليها على مسائل معينة فإذا أخطأ فيها لم يكن عالما بصدق الرسول فيكون كافرا

قيل تصديق الرسول ليس مبنيا على مسائل معينة من مسائل النزاع بل ما جعله أهل الكلام المحدث أصلا للعلم بصدق الرسول كقول من قال من المعتزلة والجهمية إنه لا يعلم صدق الرسول إلا بأن يعلم أن العالم حادث ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم أن الأجسام محدثة ولا يعلم ذلك إلا بالعلم بأنها لا تنفك من الحوادث إما الأعراض مطلقا وإما الأكوان وإما الحركات ولا يعلم حدوثها حتى يعلم امتناع حوادث لا أول لها ولا يعلم أنه صادق حتى يعلم أن الرب غني ولا يعلم غناه حتى يعلم أنه ليس بجسم ونحو ذلك من الأمور التي تزعم طائفة من أهل الكلام أنها أصول لتصديق الرسول لا يعلم صدقه بدونها هي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يكن يجعل إيمان الناس موقوفا عليها بل ولا دعا الناس إليها ولا ذكرت في كتاب ولا سنة ولا ذكرها أحد من الصحابة لكن الأصول التي بها يعلم صدق الرسول مذكورة في القرآن وهي غير هذه كما قد بين في غير هذا الموضع وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها وأن معرفتها شرط في الإيمان أو واجبة على الأعيان هم من أهل

البدع عند السلف والأئمة وجمهور العلماء يعلمون أن أصولهم بدعة في الشريعة لكن كثير من الناس يظن أنها صحيحة في العقل وأما الحذاق من الأئمة ومن اتبعهم فيعلمون أنها باطلة في العقل مبتدعة في الشرع وأنها تناقض ما جاء به الرسول وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال إنها أصول الدين كفرا فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم وإن لم يكن الخطأ فيها كفرا فلا يكفر من خالفهم فيها فثبت أنه ليس كافرا في حكم الله ورسوله على التقديرين ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ويكفرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفا لهم مكفرا لهم مستحلا لدمائهم كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلاهم لدماء المسلمين المخالفين لهم وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة والتأثيم ونفيه والتكفير ونفيه لكونهم بنوا على القولين المتقدمين قول القدرية الذين يجعلون كل مستدل قادرا على معرفة الحق فيعذب كل من

لم يعرفه وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون لا قدرة للعبد على شيء أصلا بل الله يعذب بمحض المشيئة فيعذب من لم يفعل ذنبا قط وينعم من كفر وفسق وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين وهؤلاء يقولون يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين وإن لم يفعلوا ذنبا قط ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار في الآخرة ومنهم من يجوزه ويقول لا أدري ما يقع وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا بل بمحض المشيئة وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح لكن هؤلاء الجهمية يقولون إنه في كل حادث يرجح بلا مرجح وأولئك القدرية والمعتزلة والكرامية وطوائف غيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم يقولون أصل الإحداث والإبداع كان ترجيحا بلا مرجح وأما بعد ذلك فقد خلق أسبابا وحكما علق الحوادث بها واختلفت القدرية والجهمية الجبرية في الظلم فقالت القدرية الظلم في حقه هو ما نعرفه من ظلم الناس بعضهم بعضا فإذا قيل إنه خالق أفعال العباد وإنه مريد لكل ما وقع وقيل مع ذلك إنه يعذب العاصي كان هذا ظلما كظلمنا وسموا أنفسهم العدلية وقالت الجهمية الظلم في حقه هو ما يمتنع وجوده فأما كل ما يمكن وجوده فليس بظلم فإن الظلم إما مخالفة أمر من تجب طاعته وإما التصرف في ملك الغير بغير

إذنه فالإنسان يوصف بالظلم لأنه مخالف لأمر ربه ولأنه قد يتصرف في ملك غيره بغير إذنه والرب تعالى ليس فوقه آمر ولا لغيره ملك بل إنما يتصرف في ملكه فكل ما يمكن فليس بظلم بل إذا نعم فرعون وأبا جهل وأمثالهما ممن كفر به وعصاه وعذب موسى ومحمدا ممن أمن به وأطاعه فهو مثل العكس الجميع بالنسبة إليه سواء ولكن لما أخبر أنه ينعم المطيعين وأنه يعذب العصاة صار ذلك معلوم الوقوع لخبره الصادق لا لسبب اقتضى ذلك والأعمال علامات على الثواب والعقاب ليست أسبابا فهذا قول جهم وأصحابه ومن وافقه كالأشعري ومن وافقه من أتباع الفقهاء الأربعة والصوفية وغيرهم ولهذا جوز هؤلاء أن يعذب العاجز عن معرفة الحق ولو اجتهد فليس عندهم في نفس الأمر أسباب للحوادث ولا حكم ولا في الأفعال صفات لأجلها كانت مأمورا بها ومنهيا عنها بل عندهم يمتنع أن يكون في خلقه وأمره لام كى وأما القدرية فيثبتون له شريعة فيما يجب عليه ويحرم عليه بالقياس على عباده وقد تكلمنا على قول الفريقين في مواضع وذكرنا فصلا في ذلك في هذا الكتاب فيما تقدم لما تكلمنا على ما نسبه هذا الرافضي إلى جميع أهل السنة من قول هؤلاء الجهمية الجبرية وبينا أن هذه المسألة لا تتعلق بمسألة الإمامة والتفضيل بل من الشيعة من يقول بالجبر والقدر وفي أهل السنة من يقول بهذا وبهذا

والمقصود هنا أن نبين أن الكلام في تصويب المتنازعين مصيبين أو مخطئين مثابين أو معاقبين مؤمنين أو كفارا هو فرع عن هذا الأصل العام الشامل لهذه المسائل وغيرها وبهذا يظهر قول الثالث في هذا الأصل وهو أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا به أو فعل محظورا وهذا هو قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين وهذا القول يجمع الصواب من القولين فالصواب من القول الأول قول الجهمية الذين وافقوا فيه السلف والجمهور وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل على الشيء يتمكن من معرفة الحق فيه بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة والقدرية يقولون إن الله تعالى سوى بين المكلفين في القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا ولا خص المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح كما بسط في موضعه ولهذا قالوا إن كل مستدل فمعه قدرة تامة يتوصل بها الى معرفة الحق

ومعلوم أن الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة في السفر فكلهم مأمورون بالإجتهاد والاستدلال على جهة القبلة ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط فيظن في بعض الجهات أنها جهتها ولا يكون مصيبا في ذلك لكن هو مطيع لله ولا إثم عليه في صلاته إليها لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فعجزه عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها ولهذا كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول إن الله لا يعذب في الأخرة إلا من عصاه بترك المأمور أو فعل المحظور والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم فإنهم قالوا بل يعذب من لا ذنب له أو نحو ذلك ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة في نفس الإيجاب والتحريم العقلي بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الأسراء وهو حجة عليهم أيضا في نفي العذاب مطلقا إلا بعد إرسال الرسل وهم يجوزون التعذيب قبل إرسال الرسل فأولئك يقولون يعذب من لم يبعث إليه رسولا لأنه فعل القبائح العقلية وهؤلاء يقولون بل يعذب من لم يفعل قبيحا قط كالأطفال وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضا قال تعالى وما كنا

معذبين حتى نبعث رسولا سورة الاسراء وقال تعالى عن النار كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (سورة الملك). فقد أخبر سبحانه وتعالى بصيغة العموم أنه كلما ألقي فيها فوج سألهم الخزنة هل جاءهم نذير فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير فلم يبق فوج يدخل النار إلا وقد جاءهم نذير فمن لم يأته نذير لم يدخل النار وقال تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (سورة ص). فقد أقسم سبحانه أنه يملؤها من إبليس وأتباعه وإنما أتباعه من أطاعه فمن لم يعمل ذنبا لم يطعه فلا يكون ممن تملأ به النار وإذا ملئت بأتباعه لم يكن لغيرهم فيها موضع وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه وفي رواية فيضع قدمه عليها فتقول قط قط وينزوى بعضها إلى بعض أي تقول حسبيحسبي وأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة هكذا روي في الصحاح من غير وجه ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه وأما النار فيبقى فيها فضل والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط هذا الراوي كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب وما علمت وقع فيه غلط إلا

وقد بين فيه الصواب بخلاف مسلم فإنه وقع في صحيحه عدة أحاديث غلط أنكرها جماعة من الحفاظ على مسلم والبخاري قد أنكر عليه بعض الناس تخريج أحاديث لكن الصواب فيها مع البخاري والذي أنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا وأما سائر متونهما فمما اتفق علماء المحدثين على صحتها وتصديقها وتلقيها بالقبول لا يستريبون في ذلك وقد قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (سورة الأنعام).فقط خاطب الجن والإنس واعترف المخاطبون بأنهم جاءتهم رسل يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم القيامة ثم قال ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير فكيف الطفل الذي لا عقل له ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه وإلا فلو كان الظلم هو الممتنع لم يتصور أن يهلكهم بظلم بل كيفما أهلكهم فإنه ليس بظلم عند الجهمية الجبرية وقد قال تعالى وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (سورة القصص). وقال تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (سورة هود). وقال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (سورة طـــه). قال المفسرون الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهظم أن ينقص من حسناته فجعل سبحانه عقوبته بذنب غيره ظلما ونزه نفسه عنه ومثل هذا كثير كقوله لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (سورة البقرة). وقوله ولا تزر وازرة وز أخرى (سورة الأنعام). وكذلك قوله ولا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (سورة ق). فبين سبحانه أنه قدم

بالوعيد وأنه ليس بظلام للعبيد كما قال في الآية الأخرى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (سورة هود). فهو سبحانه نزه نفسه عن ظلمهم وبين أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم فمن لم يكن ظالما لنفسه تكون عقوبته ظلما تنزه الله عنه وقال في الآية الأخرى إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (سورة الزخرف). وهذا الظلم الذي نزه نفسه عنه إن كان هو الممتنع الذي لا يمكن فعله فأي فائدة في هذا وهل أحد يخاف أن يفعل به ذلك وأي تنزيه في هذا وإذا قيل هو لا يفعل إلا ما يقدر عليه قيل هذا معلوم لكل أحد وكل أحد لا يفعل إلا ما يقدر عليه فأي مدح في هذا مما يتميز به الرب سبحانه عن العالمين فعلم أن من الأمور الممكنة ما هو ظلم تنزه الله سبحانه عنه مع قدرته عليه وبذلك يحمد ويثنى عليه فإن الحمد والثناء يقع بالأمور الاختيارية من فعل وترك كعامة ما في القرآن من الحمد والشكر أخص

من ذلك يكون على النعم والمدح أعم من ذلك وكذلك التسبيح فإنه تنزيه وتعظيم فإذا سبح بحمده جمع له بين هذا وهذا كما قد بسطنا الكلام على حقيقة التسبيح والتحميد ومعنى التسبيح بحمده في غير هذا الموضع وقد قال سبحانه وتعالى وقالوا اخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (سورة الأنبياء). فالإتخاذ فعل من الأفعال وقد نزه سبحانه نفسه عنه فعلم أن من الأفعال ما نزه سبحانه نفسه عنه والجبرية عندهم لا ينزه عن فعل من الأفعال وفي حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وصححه وغيره ورواه الحاكم في صحيحه قال فيه فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال لا ظلم عليك إن لك عندنا بطاقة فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فقوله لا ظلم عليك دليل على أنه إن لم يجاز بتلكالحسنات وتوزن حسناته مع سيئاته كان ذلك ظلما يقدس الله عنه فإنه القائم بالقسط وقد قال تعالى ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (سورة الكهف). فهل يقال هذا النفي أنه لا يفعل مع أحد مالا يمكن ولا يقدر عليه أو لا يظلمهم شيئا من حسناتهم بل يحصيها كلها ويثيبهم عليها فدل على أن العبد يثاب على حسناته ولا ينقص شيئا منها ولا يعاقب إلا على سيئاته وأن عقوبته بغير ذنب ونجس حسناته ظلم ينزه الرب تبارك وتعالى عنه وأيضا فقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين (سورة القلم). وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (سورة ص). وقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (سورة الجاثية). إلى غير ذلك فدل على أن التسوية بين هذين المختلفين من الحكم السيء الذي ينزه عنه وأن ذلك منكر لا يجوز نسبته الى الله تعالى وأن من جوز ذلك

فقد جوز منكرا لا يصلح أن يضاف إلى الله تعالى فإن قوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين (سورة القلم). استفهام إنكار فعلم أن جعل هؤلاء مثل هؤلاء منكر لا يجوز أن يظن بالله أنه يفعله فلو كان هذا وضده بالنسبة إليه سواء جاز أن يفعل هذا وهذا وقوله ساء ما يحكمون (سورة الأنعام). دل على أن هذا حكم سيء والحكم السيء هو الظلم الذي لا يجوز فعلم أن الله تعالى منزه عن هذا ومن قاله إنه يسوي بين المختلفين فقد نسب إليه الحكم السيء وكذلك تفضيل أحد المتماثلين بل التسوية بين المتماثلين والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا جعل النور كالظلمة والمحسن كالمسيء والمسلم كالمجرم كان هذا ظلما وحكما سيئا يقدس وينزه عنه سبحانه وتعالى وقال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (سورة المائدة). وعند هؤلاء لو حكم بحكم الجاهلية لكان حسنا وليس في نفس الأمر حكم حسن وحكم غير حسن بل الجميع سواء فكيف يقال مع هذا ومن أحسن من الله حكما فدل هذا النص على أن حكمه حسن لا أحسن منه والحكم الذي يخالفه

سيء ليس بحسن وذلك دليل على أن الحسن صفة لحكمه فلو لم يكن الحسن إلا ما تعلق به الأمر أو مالم ينه عنه لم يكن في الكلام فائدة ولم يقسم الحكم إلى حسن وأحسن لأن عندهم يجوز أن يحكم الرب بكل ما يمكن وجوده وذلك كله حسن فليس عندهم حكم ينزه الرب عنه وقال تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته (سورة الأنعام). فدل على أنه أعلم بالمحل الذي يناسب الرسالة ولو كان الناس مستوين والتخصيص بلا سبب لم يكن لهذا العلم معلوم يختص به محل الرسالة وقال تعالى ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (سورة القمر). وقال أهم خيرأم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين سورة الدخان فهذا يبين أن أولئك إذا كانوا كفارا وقد عذبناهم والكفار الذين كذبوا محمد ليسوا خيرا من أولئك بل هم مثلهم استحقوا من العقوبة ما استحقه أولئك ولو كانوا خير منهم لم يستحقوا ذلك فعلم انه سبحانه يسوي بين المتماثلين ويفضل صاحب الخير فلا يسوي بينه وبين من هو دونه

وكذلك قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار (سورة الحشر). إلى قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (سورة الأنفال). والإعتبار أن يعبر منهم إلى أمثالهم فيعرف أن من فعل كما فعلوا استحق كما استحقوا ولو كان تعالى قد يسوي بين المتماثلين وقد لا يسوي لم يمكن الإعتبار حتى يعلم أن هذا المعين مما يسوى بينه وبين نظيره وحينئذ فلا يمكن الإعتبار إلا بعد معرفة حكم ذلك المعين وحينئذ فلا يحتاج إلى الإعتبار ومن العجب أن أكثر أهل الكلام احتجوا بهذه الآية على القياس وإنما تدل عليه لكون الإعتبار يتضمن التسوية بين المتماثلين فعلم أن الرب يفعل هذا في حكمه فإذا اعتبروا بها في أمره الشرعي لدلالة مطلق الإعتبار على ذلك فهلا استدلوا بها على حكمه الخلقي الكوني في الثواب والعقاب وهو الذي قصد بالآية فدلالتها عليه أولى فعلم أن المتماثلين في الذنب متماثلان في استحقاق العقاب

بخلاف من لم يشركهما في ذلك وإذا قيل هذا قد علم بخبره قيل هو لم يخبر قبل بهذا بل دل على أن هذا هو حكمه الذي لا يجوز أن يضاف إليه سواه كما دل على ذلك ما تقدم من الآيات وأيضا فالنصوص قد أخبرت بالميزان بالقسط وأن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تلك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فدل هذا على أن مثقال ذرة إذا زيد في السيئات أو نقص من الحسنات كان ظلما ينزه الله عنه ودل على أنه يزن الأعمال بالقسط الذي هو العدل فدل على أن خلاف ذلك ليس قسطا بل ظلم تنزه الله عنه ولو لم يكن هنا عدل لم يحتج إلى الموازنة فإنه إذا كان التعذيب والتنعيم بلا قانون عدلي بل بمحض المشيئة لم يحتج إلى الموازنة وقال تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (سورة آل عمران). قال الزجاج وغيره قد أعلمنا أنه يعذب من عذبه لاستحقاقه وقال آخر معناه أنه لا يعاقبهم بلا جرم فسمى هذا ظلما وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها كقوله تعالى والذين أمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها (سورة الأعراف). وقوله لا تكلف نفس إلا وسعها (سورة البقرة). وقوله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها

(سورة الطلاق). وأمر بتقواه بقدر الإستطاعة فقال فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وقد دعاه المؤمنون بقولهم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (سورة البقرة). فقال قد فعلت فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطىء والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة وهذا فصل الخطاب في هذا الباب فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم كل من استفرغ وسعه علم الحق فإن هذا باطل كما تقدم بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام

ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت إمرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر فإنهم كانوا كفارا ولم يكن يمكنه أن يفعل ومهم كل ما يعرفه من دين الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا (سورة غافر). وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات وقال إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات

وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روى أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدي الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم وفي الديات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل إنه سم على ذلكفالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (سورة آل عمران). وهذه الآية قد طائفة من السلف إنها نزلت في النجاشي ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس ومنهم من قال فيه وفي أصحابه كما قال الحسن وقتادة وهذا مراد الصحابة لكن هو المطاع فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد وعن عطاء قال نزلت في أربعين من أهل نجران وثلاثين من أهل الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم

ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مثل عبد الله بن سلام وغيره ممن كان يهوديا وسلمان الفارسي وغيره ممن كان نصرانيا لأن هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم (سورة آل عمران). ولا يقول أحد إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال عن الصحابة الذين كانوا مشركين وإن من المشركين لمن يؤمن بالله ورسوله فإنهم بعد الإيمان ما بقوا يسمون مشركين فدل على أن هؤلاء قوم من أهل الكتاب أي من جملتهم وقد آمنوا بالرسول كما قال تعالى في المقتول خطأ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة (سورة النساء). فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه فسماه مؤمنا لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون

بإيمانهم وهم عاجزون عن الهجرة قال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضفعين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا سوة النساء فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة وقال تعالى ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (سورة النساء). فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم فقد سقط عنهم ما عجزو عنه فإذا كان هذا فيمن كان مشركا وآمن فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن وقوله فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن (سورة النساء). قيل هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب مثل أن يكون في صفهم فيعذر القاتل لأنه مأمور بقتاله فتسقط عند الدية وتجب الكفارة وهو قول الشافعي وأحمد في أحد القولين

وقيل بل هو من أسلم ولم يهاجر كما يقوله أبو حنيفة لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة وقيل إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث فلا يعطى أهل الحرب ديته بل تجب الكفارة فقط وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر وهذا ظاهر الآية وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه كما نقل عن ابن جريج ومقاتل وابن زيد يعني قوله وإن من أهل الكتاب وبعضهم قال إنها في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا إن أراد به من كان في الظاهر معدودا من أهل الكتاب فهو كالقول الأول وإن أراد العموم فهو كالثاني وهذا قول مجاهد ورواه أبو صالح عن ابن عباس وقول من أدخل فيها مثل ابن سلام وأمثاله ضعيف فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرا وباطنا من كل وجه لا يجوز أن يقال فيهم وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (سورة آل عمران). أما أولا فلأن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال فلما رأيت وجهه علمت أنه وجهه ليس بوجه كذاب

و(سورة آل عمران). إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر وثانيا أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين وهو من أفضلهم وكذلك سلمان الفارسي فلا يقال فيه إنه من أهل الكتاب وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يؤتون أجرهم مرتين وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام فأجرهم أعظم من أن يقال فيه أولئك لهم أجرهم عند ربهم وأيضا فإن أمر هؤلاء كان ظاهرا معروفا ولم يكن أحد يشك فيهم فأي فائدة في الإخبار بهم وما هذا إلا كما يقال الإسلام دخل فيه من كان مشركا ومن كان كتابيا وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يكن يعرف قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكل من دخل فيه كان قبل ذلك إما مشركا وإما من أهل الكتاب إما كتابيا وإما أميا فأي فائدة في الإخبار بهذا

بخلاف أمر النجاشي وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصارى فأن أمرهم قد يشتبه ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه لما مات النجاشي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال قائل نصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت هذه الآية هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي وهذا بخلاف ابن سلام وسلمان الفارسي فإنه إذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل في حق ابن أبي وأمثاله وأن من هو في أرض الكفر قد يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشي ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون باللهواليوم الآخر يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (سورة آل عمران). وهذه الآية قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل إن قوله منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون هو عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله فإن هولاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن ولهذا قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم (سورة غافر). فهو من آل فرعون وهو مؤمن

وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون ولهذا قال تعالى وأكثرهم الفاسقون (سورة آل عمران). وقد قال قبل هذا ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم (سورة آل عمران). ثم قال منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (سورة آل عمران). ثم قال لن يضروكم إلا أذى (سورة آل عمران). وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم ولهذا قال وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (سورة آل عمران). وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل يا رسول الله وفيهم المكره فقال يبعثون على نياتهموهذا في ظاهر الأمر وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم فالجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر ولهذا روي أن العباس قال يا رسول الله كنت مكرها قال أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقى مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء

الزكاة وغير ذلك ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين وإنما اختلفوا في قضاء الصلاة وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا أو ميسر ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض هل يفسخ العقد أم لا كما لا يفسخه لو فعل ذلك قبل الإسلام وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادتهم ثم لما بلغه شرائع الإسلام رأى أنه قد أخل ببعض شروطه كما لو تزوج في عدة وقد انقضت فهل يكون هذا فاسدا أو يقر عليه كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها أم لا تلزم أحدا إلا بعد العلم أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة هذا فيه ثلاثة أقوال هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد ذكر القاضي أبو يعلى الوجهين المطلقين في كتاب له وذكر هو وغيره الوجه المفرق في أصول الفقه وهو أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ وخرج أبو الخطاب وجها بثبوته ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها أو صلى في الموضع المنهى عنه قبل علمه بالنهي هل يعيد الصلاةفيه روايتان منصوصتان عن أحمد والصواب في هذا الباب كله أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم وأنه لا يقضى ما لم يعلم وجوبه فقد ثبت في الصحيح أن من الصحابة من أكل بعد طلوع الفجر في رمضان حتى تبين له الحبل الأبيض من الأسود ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ومنهم من كان يمكث جنبا مدة لا يصلي ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبي ذر وكعمر بن الخطاب وعمارلما أجنبا ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم بالقضاء ولا شك أن خلقا من المسلمين بمكة والبوادي صاروا يصلون إلى بيت المقدس حتى بلغهم النسخ ولم يؤمروا بالإعادة ومثل هذا كثير وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة.

*

فصل
وقد ذكرنا في غير هذا الموضوع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب وأن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين وهذا الحكم في المذنبين حكما عاما في جميع الأمة، فكيف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كانوا المتأخرون من المجتهدين ومن المذنبين يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب، فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى فنقول كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة من رافضي وغيره هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض وفيه حق للأدميين أيضا ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال، قال تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب

للتقوى (سورة المائدة). وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم.
وليس المقصود الكلام في التحسين والتقبيح العقلي فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضوع في مصنف مفرد ولكن المقصود أن العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض وهو محبوب في النفوس مركوز حبه في القلوب تحبه القلوب وتحمده وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (سورة الحديد). وقال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق

والميزان (سورة الشورى). وقال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (سورة النساء). وقال فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (سورة المائدة). وقال فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق (سورة المائدة). فأمره أن يحكم بالقسط وأن يحكم بما أنزل الله فدل ذلك على أن القسط هو ما أنزل الله فما أنزل الله هو القسط والقسط هو ما أنزل الله ولهذا وجب على كل من حكم بين أثنين أن يحكم بالعدل لقوله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (سورة النساء). فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدا والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به عدل كله ليس في الشرع ظلم أصلا بل حكم الله أحسن الأحكام والشرع هو ما أنزل الله فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل لكن العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج فيكون العدل في كل شرعة بحسبها ولهذا قال تعالى وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب

المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا نزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانوين والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (سورة المائدة). إلى قوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (سورة المائدة). ذكر سبحانه حكم التوراة والإنجيل ثم ذكر أنه أنزل القرآن وأمر نبيه أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يتبع أهواءهم عما جاءه من الكتاب وأخبر أنه جعل لكل واحد من الأنبياء شرعة ومنهاجا فجعل لموسى وعيسى ما في التوراة والإنجيل من الشرعة والمنهاج وجعل للنبي صلى الله عليه

وسلم ما في القرآن من الشرعة والمنهاج وأمره أن يحكم بما أنزل الله وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله وأخبره أن ذلك هو حكم الله ومن ابتغى غيره فقد ابتغى حكم الجاهلية وقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (سورة المائدة). ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمرهم وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شىء أن يردوه إلى الله

والرسول فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك خير ؤأحسن تأويلا (سورة النساء). وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (سورة النساء). فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا وما ذكرته يدل عليه سياق الآية والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الإعتقادية والعملية قال تعالى كل الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما

اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات (سورة البقرة). وقال تعالى وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله (سورة الشورى). وقال فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول (سورة النساء). فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشىء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافة فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين

والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذاك في أمر الصحابة أظهر فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك وجعله كافرا معتديا على غيره في ولاية أو غيرها وجعل غيره هو العالم العادل المبرأ من كل خطأ وذنب وجعل كل من أحب الأول وتولاه كافرا أو ظالما مستحقا للسب وأخذ يسبه فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة تجد أحد الحزبين يتولى فلانا ومحبيه ويبغض فلانا ومحبيه وقد يسب ذلك بغير حق وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله فقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء (سورة الأنعام). وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا تقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (سورة آل عمران). وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما

الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (سورة آل عمران). قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ولهذا كان أبو أمامة الباهلي وغيره يتأولها في الخوارج فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا وقد فسر حبله بكتابه وبدينه وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره وبعهده وبطاعته وبالجماعة وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وكلها صحيحة فإن القرآن يأمر بدين الإسلام وذلك هو عهده وأمره وطاعته والإعتصام به جميعا إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم

والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين أحيائهم وأمواتهم وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذ ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع وقد قال تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (سورة الأحزاب). فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وإن حصل له بفعله مصيبة ولما حاج موسى آدم وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال آدم بكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق وعصى آدم ربه فغوى (سورة طـــه). قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى وهذا الحديث ثابت في الصحيحين لكن غلط كثير من الناس في معناه فظنوا أن آدم احتج بالقدر على أن الذنب لا يلام عليه ثم تفرقوا بعد هذا بين مكذب بلفظه ومتأول لمعناه تأويلات فاسدة وهذا فهم

فاسد وخطأ عظيم لا يجوز أن يظن بأقل الناس علما وإيمانا أن يظن أن كل من أذنب فلا ملام عليه لكون الذنب مقدرا عليه وهو يسمع ما أخبر الله به في القرآن من تعذيبه لقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون ومدين وقوم لوط وغيرهم والقدر شامل لجميع الخلق فلو كان المذنب معذورا لم يعذب هؤلاء على ذنوبهم وهو يعلم ما أرسل الله به رسله محمدا وغيره من عقوبات المعتدين كما في التوراة والقرآن وما أمرالله به من إقامة الحدود على المفسدين ومن قتال الكافرين وما شرعه الله من إنصاف المظلومين من الظالمين وما يقضي به يوم القيامة بين عباده من عقوبة الكفار والاقتصاص للمظلوم من الظالم وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لكن مقصود الحديث أن ما يصيب العبد من المصائب فهي مقدرة عليه ينبغي أن يسلم لقدر الله كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (سورة التغابن). قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وروى الوالبي عن ابن عباس يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال ابن السائب وابن قتيبة إنه إذا ابتلى صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر

وإن كانت المصيبة بسبب فعل الأب أو الجد فإن آدم قد تاب من الأكل فما بقى عليه ملام للتوبة والمصيبة كانت مقدرة فلا معنى للوم آدم عليها فليس للإنسان أن يؤذي مؤمنا جرى له على يديه ما هو مصيبة في حقه والمؤمن إما معذور وإما مغفور له ولا ريب أن كثير ممن حصل له مصيبة أو فوات غرض ببعض الماضين يسرع بذمه كما يظن بعض الرافضة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا هم السبب في منع حقهم ظلما وهذا كذب عليهم أو يقولون بسببهم ظلمنا غيرهم وهذا عدوان عليهم فإن القوم كانوا عادلين متبعين لأمر الله ورسوله ومن أصابته مصيبة بسبب ما جاء به الرسول فبذنوبه أصيب فليس لأحد أن يعيب الرسول وما جاء به لكونه فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين أو لكونه بسبب تقديمه أبا بكر وعمر قدمهما المسلمون بعده كما يذكر عن بعض الرافضة أنه آذى الله ورسوله بسبب تقديم الله ورسوله لأبي بكر وعمر وعن بعضهم أنهم كانوا يقرؤون شيئا من الحديث في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا على فضائل أبي بكر فلما سمعها قال

لأصحابه تعلمون والله بلاءكم من صاحب هذا القبر يقول مروا أبا بكر فليصل بالناس لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر وهذا كما أنه ليس لأحد أن يقول بسبب نزول القرآن بلسان العرب اختلفت الأمة في التأويل واقتتلوا إلى أمثال هذه الأمور التي يجعل الشر الواقع فيها بسبب ما جاء به الرسول فإن هذا كله باطل وهو من كلام الكفار قال تعالى عن الكفار الذين قالوا لرسلهم قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (سورة يس). وقال عن قوم فرعون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله (سورة الأعراف). وقال لما ذكر الأمر بالجهاد وأن من الناس من يبطىء عنه أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (سورة النساء).

والمراد بالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب كما قد سمى الله ذلك حسنات وسيئات في غير هذا الموضع من القرآن كقوله وبلوناهم بالحسنات والسيئات (سورة الأعراف). وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (سورة التوبة). ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت وهكذا قال السلف ففي رواية أبي صالح عن ابن عباس أن الحسنة الخصب والمطر والسيئة الجدب والغلاء وفي رواية الوالبي عنه أن الحسنة الفتح والغنيمة والسيئة والهزيمة والجراح ونحو ذلك وقال في هذه الرواية ما أصابك من حسنة ما فتح الله عليه يوم بدر والسيئة ما أصابه يوم أحد وكذلك قال ابن قتيبة الحسنة الغنيمة والنعمة والسيئة البلية وروى ذلك عن أبي العالية وروى عنه أن الحسنة الطاعة والسيئة المعصية وهذا يظنه طائفة من المتأخرين ثم اختلف هؤلاء فقال مثبتة القدر هذا حجة لنا لقوله سبحانه قل كل من عند الله (سورة النساء). وقال نفاته بل هو حجة لنا لقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (سورة النساء). وحجة كل فريق تدل على فساد قول الآخر والقولان

باطلان في هذه الآية فإن المراد النعم والمصائب ولهذا قال وإن تصبهم والضمير قد قيل إنه يعود على المنافقين وقيل على اليهود وقيل على الطائفتين والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان ولهذا قيل هذا لا يعين قائله لأنه دائما يقوله بعض الناس فكل من قاله تناولته الآية فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول من كافر ومنافق بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول ولا يعلم أنه جاء به لظنه خطأ صاحبه ويكون هو المخطىء فإذا أصابهم نصر ورزق قالوا هذا من عند الله لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول وإن كان سببا له وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره قالوا هذا من عندك لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى وأنهم تطيروا بما جاء به كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى والسلف ذكروا المعنيين فعن ابن عباس قال بشؤمك وعن ابن زيد قال بسوء تدبيرك قال تعالى قل كل من عند الله (سورة النساء). وعن ابن عباس الحسنة والسيئة أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا وقد قيل في مثل هذا لم يفقهوه ولم يكادوا وأن النفي مقابل الإثبات وقيل بل معناه فقهوه بعد أن كادوا لا يفقهونه كقوله فذبحوها

وما كادوا يفعلون (سورة البقرة). فالمنفي بها مثبت والمثبت بها منفي وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال وقد يقال يراد بها هذا تارة وهذا تارة فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله لم يكد يراها و لا يكادون يفقهون حديثا فهذا نفي مطلق ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة وقال بكل قول طائفة وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (سورة المنافقون). وفي مثل قوله ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولذك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم (سورة محمد). فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن لكن قوله حديثا نكرة في سياق النفي فتعم كما قال في الكهف وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (سورة الكهف). ومعلوم أنهم لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه

وكذلك في الرواية وهذا أظهر أقوال النحاة وأشهرها والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير وما نهيتهم إلا عن شر وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك بل بسبب ذنوبهم ثم قال الله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (سورة النساء). قال ابن عباس وأنا كتبتها عليك وقيل إنها في حرف عند الله وأنا قدرتها عليك وهذا كقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (سورة الشورى). وقوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (سورة آل عمران). وقوله وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور (سورة الشورى). وأما رواية كردم عن يعقوب فمن نفسك فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ماأمر الله به ورسوله كائنا من كان فمن قال إنه بسبب تقديمه لأبي بكر وعمر واستخلافه في الصلاة أو بسبب ولايتهما حصل لهم مصيبة قيل مصيبتكم بسبب ذنوبكم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (سورة الطلاق). بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا (سورة الحجرات). وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الغيبة ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته فكيف إذا كان ذلك في لصحابة ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم وتعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله وهو ما يكون

على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين فالأول كقول المشتكى المطلوب فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك قال تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (سورة النساء). وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم وقال نصره واجب على كل مسلم لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة كما ثبت في الصحيح أنهاقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة فلم ينكر عليها قولها وهو من جنس قول المظلوم وأما النصيحة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وفي لفظ يضرب النساء أنكحي أسامه فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله والنصيحة مأمور بها ولو لم

يشاوره فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثا قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقبل عنه العلم وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق وجكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك

من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدرا وأنزه أعراضا وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم فلهذا كان كلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم فإن قيل فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم قيل ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة وإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أنواع كثيرة كقوله لعن الله الخمر وشاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها ولعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ولعن الله من غير منار الأرض وقال المدينةحرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وقال لعن الله من عمل عمل قوم لوط وقال لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال من ادعى إلى غير أبيهأو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وقال الله تعالى في القرآن أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا (سورة الأعراف). فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم تحذيرا من ذلك الفعل وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابدعوا بدعة وكفروا من لم يوافقهم عليها فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم محرم وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف لكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم

بقتالهم ونهى عن قتال الأمراء الظلمة وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة فقال في الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم وقال في بعضهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان وقال للأنصار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى نلقوني على الحوض أي تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم فأمرهم بالصبر ولم يأذن لهم في قتالهم وقال أيضا سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم ويمنعونكم حقهم قالوا فما تأمرنا يالرسول الله قال آدوا إليهمحقهم وسلوا الله حقكم وقال من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية وقال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويعلنونكم قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وهذه الأحاديث كلها في الصحيح إلى أحاديث أمثالها فهذا أمره بقتال الخوارج وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا يقاتله الناس حتى يعطيهم المال والولايات وحتى لا يظلمهم فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق الذين قال فيهم من قتل دون ماله فهو

شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد لأن أولئك معادون لجميع الناس وجميع الناس يعينون على قتالهم ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم فهم مبتدؤون الناس بالقتال بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدؤون بالقتال للرعية وفرق بين من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء ولهذا هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع فيه عن أحمد روايتان لتعارض الآثار والمعاني وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة وهذا قتال على الدنياولهذا قال أبو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير وفتنة القراء مع الحجاج وفتنة مروان بالشام هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس فقتالهم قتال على الدين والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ونهى عن ذلك ولهذا كان قتال علي رضي الله عنه للخوارج ثابتا بالنصوص الصريحة وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة كرهه فضلاء الصحابة والتابعين له بإحسان وسائر العلماء كما دلت عليه النصوص حتى الذين حضروه كانوا كارهين له فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم مالا فجاء ذو الخويصرة التميمي وهو محلوق الرأس كث اللحية ناتىء الجبين بين عينيه أثر السجود فقال يا محمد أعدل فإنك لم تعدل فقال ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ثم قال أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني فقال له بعض الصحابة دعني

أضرب عنقه فقال يخرج من ضئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين وثبت عنه في الصحيح أن رجلا كان يشرب الخمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتي به إليه جلده الحد فأتي به إليه مرة فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر وشهد له بأنه يحب الله ورسوله مع لعنة شارب الخمر عموما فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم والرافضة أشد بدعة من الخوارج وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبى بكر وعمر ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله والخوارج لا يكذبون لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع منهم وأوفى بالعهد منهم فكانوا أكثر قتالا منهم وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل

وهم يستعينون بالكفار على المسلمين فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار فإن الرافضة أعانته على المسلمين وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أوأكثر أو أقل ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين فهل يكون مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمينوهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف ولم يقتل الحجاج هاشميا مع ظلمه وغشمه فإن عبد الملك نهاه عن ذلك وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير بني هاشم وقد تزوج هاشمية وهي بنت عبد الله بن جعفر فما مكنه بنو أمية من ذلك وفرقوا بينه وبينها وقالوا ليس الحجاج كفوا لشريفة هاشمية وكذلك من كان بالشام من الرافضة الذين لهم كلمة أو سلاح يعينون الكفار من المشركين ومن النصارى أهل الكتاب على المسلمين على قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم والخوارج ما عملت من هذا شيئا بل كانوا هم يقاتلون الناس لكن ما كانوا يسلطون الكفار من المشريك وأهل الكتاب على المسلمين

ودخل في الرافضة من الزنادقة المنافقين الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم ممن لم يكن يجترىء أن يدخل عسكر الخوارج لأن الخوارج كانوا عبادا متورعين كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة والزيدية من الشيعة خير منهم أقرب إلى الصدق والعدل والعلم وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض وهذا مما يعترفون هم به ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصفبعضنا بعضا وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبنى علي جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض والخوارج تكفر أهل الجماعة وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس آل عمران قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس وأهل السنة نقاوة المسلمين فهم خير الناس للناس وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم وقتلوا خلقا عظيما وأخذوا أموالهم ولما أنكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح

والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص وأخذوا من مر بهم من الجند وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء وحمل بعض أمرائهم راية النصارى وقالوا له أيما خير المسلمون أو النصارى فقال بل النصارى فقالوا له مع من تحشر يوم القيامة فقال مع النصارى وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمينومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناضرات ومفاوضات يطول وصفها فلما فتح المسلمون بلدهم وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا فما أذكره في هذا الكتاب من ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفها وخلفها فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خيار أمة أخرجت للناس فجعلوهم شرار الناس وافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات وجاؤوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها والله يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق

الإيمان منهم فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده فإن ما سوى أمة محمد كفار وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة فقيل له أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها فعمد إلى شر تلك الغنم إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقى لها فقال هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها وسائر هذه الغنم ليست غنما وإنما هي خنازير يجب قتلها ولا تجوز الأضحية بها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به فإن مخالفتهم لما جاء

به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا ولكن صنف لأجل أتباعه فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول إنه حق من عند الله فهو من جنس علماء اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وإن كان يعتقد أنه حق دل ذلك على نهاية جهله وضلاله فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وأن كنت تدري فالمصيبة أعظم وهم في دينهم لهم عقليات وشرعيات فالعقليات متأخروهم فيها أتباع المعتزلة إلا من تفلسف منهم فيكون إما فيلسوفا وإما ممتزجا من فلسفة واعتزال ويضم إلى ذلك الرفض مثل مصنف هذا الكتاب وأمثاله فيصيرون بذلك من أبعد الناس عن الله ورسوله وعن دين المسلمين المحض وأما شرعياتهم فعمدتهم فيها على ما ينقل عن بعض أهل البيت مثل أبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما

ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين وأئمة الدين ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم لكن كثير مما ينقل عنهم كذب والرافضة لا خبرة لها بالأسانيد والتمييز بين الثقات وغيرهم بل هم في ذلك من أشباه أهل الكتاب كل ما يجدونه في الكتب منقولا عن أسلافهم قبلوه بخلاف أهل السنة فإن لهم من الخبرة بالأسانيد ما يميزون به بين الصدق والكذب وإذا صح النقل عن علي بن الحسين فله أسوة نظرائه كالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وغيرهما كما كان علي ابن أبي طالب مع سائر الصحابة وقد قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول (سورة النساء). فأمر برد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ومعرفة معانية وتفسيره وطلب الأدلة الدالة على معانيه ولا تعتنى أيضا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه من سقيمه والبحث عن معانيه ولا تعتنى بآثار الصحابة والتابعين حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم ويرد ما

تنازعوا فيه إلى الله ورسول بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت فيها صدق وكذب وقد أصلت لها ثلاثة أصول أحدها أن كل واحد من هؤلاء إمام معصوم بمنزلة النبي لا يقول إلا حقا ولا يجوز لأحد أن يخالفه ولا يرد ما ينازعه فيه غيره إلى الله والرسول فيقولون عنه ما كان هو وأهل بيته يتبرون منه والثاني أن كل ما يقوله واحد من هؤلاء فإنه قد علم منه أنه قال أنا أنقل كل ما أقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم ويا ليتهم قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعسكريين فيقولون كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم ويحتاج إليهم فيه أهل العلم ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم كما يأخذون عن علماء زمانهم وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابن ابنه جعفر بن محمد فإن هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم قد أخذ أهل العلم عنهم كما كانوا يأخذون

عن أمثالهم بخلاف العسكريين ونحوهما فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئا فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن وهذا مما لا يبني عليه دينه إلا من كان من أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والإيمان وأصلوا أصلا ثالثا وهو أن إجماع الرافضة هو إجماع العترة وإجماع العترة معصوم والمقدمة الأولى كاذبة بيقين والثانية فيها نزاع فصارت الأقوال التي فيها صدق وكذب على أولئك بمنزلة القرآن لهم وبمنزلة السنة المسموعة من الرسول وبمنزلة إجماع الأمة وحدها وكل عاقل يعرف دين الإسلام وتصور هذا فإنه يمجه أعظم مما يمج الملح الأجاج والعلقم لا سيما من كان له خبرة بطرق أهل العلم لا سيما مذاهب أهل الحديث وما عندهم من الروايات الصادقة التي لا ريب فيها عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فإن هؤلاء جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو إمامهم المعصوم عنه يأخذون دينهم فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وكل قول يخالف قوله فهو مردود عند هم وإن كان الذي قاله من خيار المسلمين وأعلمهم وهو مأجور فيه على اجتهاده لكنهم لا يعارضون قول الله وقول رسوله بشيء أصلا لا نقل نقل عن غيره ولا رأي رآه غيره ومن سواه من أهل العلم فإنما هم وسائط في التبليغ عنه إما للفظ حديثه وإما لمعناه فقوم بلغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث وقوم

تفقهوا في ذلك عرفوا معناه وما تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول فلهذا لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة والحق لا يخرج عنهم قط وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع فإنما يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفا للسنة الثابتة وكل من هؤلاء يوافقهم فيما خالف فيه الآخر فأهل الأهواء معهم بمنزلة أهل الملل مع المسلمين فإن أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل كما قد بسط في موضعه فإن قيل فإذا كان الحق لايخرج عن أهل الحديث فلم لم يذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة وذكر الخلاف في ذلك كما تكلم على إجماع أهل المدينة وإجماع العترة قيل لأن أهل الحديث لا يتفقون إلا على ما جاء عن الله ورسوله وما هو منقول عن الصحابة فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة مغنيا عن دعوى إجماع ينازع في كونه حجة بعض الناس وهذا بخلاف من يدعي إجماع المتأخرين من أهل المدينة إجماعا فإنهم يذكرون ذلك في مسائل لا نص فيها بل النص على خلافها وكذلك المدعون إجماع العترة يدعون ذلك في مسائل لا نص معهم

فيها بل النص على خلافها فاحتاج هؤلاء إلى دعوى ما يدعونه من الإجماع الذي يزعمون أنه حجة وأما أهل الحديث فالنصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عمد تهم وعليها يجمعون إذا أجمعوا لا سيما وأئمتهم يقولون لا يكون قط إجماع صحيح على خلاف نص إلا ومع الإجماع نص ظاهر معلوم يعرف أنه معارض لذلك النص الآخر فإذا كانوا لا يسوغون أن تعارض النصوص بما يدعى من إجماع الأمة لبطلان تعارض النص والإجماع عندهم فكيف إذا عورضت النصوص بما يدعى من إجماع العترة أو أهل المدينة وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح بل لا بد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق وبسب ذلك وقعت الشبهة وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد ولهذا سمي أهل البدع أهل الشبهات وقيل فيهم إنهم يلبسون الحق بالباطل وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل ولهذا قال تعالى لهم ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (سورة البقرة). وقال أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض (سورة البقرة). وقال عنهم ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (سورة النساء). وقال عنهم وإذا قيل لهم آمنوا

بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم (سورة البقرة). وذلك لأنهم ابتدعوا بدعا خلطوها بما جاءت به الرسل وفرقوا دينهم وكانوا شيعا فصار في كل فريق منهم حق وباطل وهم يكذبون بالحق الذي مع الفريق الآخر ويصدقون بالباطل الذي معهم وهذا حال أهل البدع كلهم فإن معهم حقا وباطلا فهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل فريق يكذب بما مع الآخر من الحق ويصدق بما معه من الباطل كالخوارج والشيعة فهؤلاء يكذبون بما ثبت من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويصدقون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويصدقون بما ابتدعوه من تكفيره وتكفير من يتولاه ويحبه وهؤلاء يصدقون بما روي في فضائل علي بن أبي طالب ويكذبون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر ويصدقون بما ابتدعوه من التكفير والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان ودين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة فالمسلمون وسط في التوحيد بين اليهود والنصارى فاليهود تصف الرب بصفات لنقص التي يختص بها المخلوق ويندبهون الخالق بالمخلوق كما قالوا إنه بخيل وإنه فقير وإنه لما خلق السموات والأرض تعب وهو سبحانه

الجواد الذي لا يبخل والغني الذي لا يحتاج إلى غيره والقادر الذي لا يمسه لغوب والقدرة والإرادة والغنى عما سواه هي صفات الكمال التي تستلزم سائرها والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها ويشبهون المخلوق بالخالق حيث قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وإن الله ثالث ثلاثة وقالوا المسيح ابن الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال ونزهوه عن جميع صفات النقص ونزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكذلك في النبوات فاليهود تقتل بعض الأنبياء وتستكبر عن أتباعهم وتكذبهم وتتهمهم بالكبائر والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيا ورسولا كما يقولون في الحواريين إنهم رسل بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه من اليهود وفي مبتدعة أهل

التعبد شبه من النصارى فآخر أولئك الشك والريب وآخر هؤلاء الشطح والدعاوي الكاذبة لأن أولئك كذبوا بالحق فصاروا إلى الشك وهؤلاء صدقوا بالباطل فصاروا إلى الشطح فأولئك كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض وهؤلاء كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه ولم يتبعوا العلم المشروع ويعملوا به فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم بعد أن كان لهم علم بالمشروع لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وكانوا مغضوبا عليهم ومبتدعة العباد طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة فلم يحصل لهم إلا البعد منه فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله تعالى بعدا والبعد عن رحمته هو اللعنة وهو غاية النصارى وأما الشرائع فاليهود منعوا الخالق أن يبعث رسولا بغير شريعة الرسول الأول وقالوا لا يجوز أن ينسخ ما شرعه والنصارى جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله بهم رسوله فأولئك عجزوا الخالق ومنعوه ما

تقتضيه قدرته وحكمته في النبوات والشرائع وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعه الخالق فضاهوا المخلوق بالخالق وكذلك في العبادات فالنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان واليهود معرضون عن العبادات حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته إنما يشتغلون فيه بالشهوات فالنصارى مشركون به واليهود مستكبرون عن عبادته والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع ولم يعبدوه بالبدع وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره وهو الحنيفية دين إبراهيم فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له فهو مستكبر وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (سورة النساء). وقال إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (سورة غافر). وكذلك في أمر الحلال والحرام في الطعام واللباس وما يدخل في ذلك من النجاسات فالنصارى لا تحرم ما حرمه الله ورسوله ويستحلون الخبائث المحرمه كالميتة والدم ولحم الخنزير حتى أنهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة ولا يتطهرون للصلاة وكلما كان الراهب عندهم أبعد عن الطهارة وأكثر ملابسة للنجاسة كان معظما عندهم

واليهود حرمت عليهم طيبات أحلت لهم فهم يحرمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد ويجتنبون الأمور الطاهرات مع النجاسات فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يجالسونها فهم في آصار وأغلال عذبوا بها فأولئك يتناولون الخبائث المضرة مع أن الرهبان يحرمون على أنفسهم طيبات أحلت لهم فيحرمون الطيبات ويباشرون النجاسات وهؤلاء يحرمون الطيبات النافعة مع أنهم من أخبث الناس قلوبا وأفسدهم بواطن وطهارة الظاهر إنما يقصد بها طهارة القلب فهم يطهرون ظواهرهم وينجسون قلوبهم وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور فهم في علي وسط بين الخوارج والروافض وكذلك في عثمان وسط بين المرواينة وبين الزيدية وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة وهم في القدر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم وهم في الصفات وسط بين المعطلة وبين الممثلة والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد لا ينفردون قط بقول صحيح وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرافضة فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالا في غاية الفساد مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل المغرب ومثل صومهم قبل الناس بيومين وفطرهم قبل الناس بيومين مضاهاة لمبتدعة أهل الكتاب الذين عدلوا عن الصوم بالهلال إلى الإجتماع وجعلوا الصوم بالحساب وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا أمة أمية لا تحسب ولا تكتب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فأكملوا العدةومثل تحريمهم بعض أنواع السمك مضاهاة لليهود في تحريم الطيبات ومثل معاونة الكفار على قتال المسلمين وترغيب الكفار في قتال المسلمين وهذا لا يعرف لأحد من فرق الأمة ومثل تنجيس المائعات التي يباشرها أهل السنة وهذا من جنس دين السامرة وهم رافضة اليهود هم في اليهود كالرافضة في المسلمين والرافضة تشابههم من وجوه كثيرة فإن السامرة لا تؤمن بنبي بعد موسى وهارون غير يوشع وكذلك الرافضة لا تقر لأحد من الخلفاء والصحابة بفضل ولا إمامة إلا لعلي والسامرة تنجس وتحرم ما باشره غيرهم من المائعات وكذلك الرافضة والسامرة لا يأكلون إلا ذبائح أنفسهم وكذلك الرافضة فإنهم يحرمون ذبائح أهل الكتاب ويحرم أكثرهم ذبائح الجمهور لأنهم مرتدون عندهم وذبيحة المرتد لا تباح والسامرة فيهم كبر ورعونة وحمق ودعاو كاذبة مع القلة والذلة وكذلك الرافضة

والرافضة تجعل الصلوات الخمس ثلاث صلوات فيصلون دائما الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا وهذا لم يذهب إليه غيرهم من فرق الأمة وهو يشبه دين اليهود فإن الصلوات عندهم ثلاث وغلاة العباد يوجبون على أصحابهم صلاة الضحى والوتر وقيام الليل فتصير الصلاة عندهم سبعا وهو دين النصارى والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم ولا يصلون إلا خلف المعصوم ولا معصوم عندهم وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم كما هو دين الخوارج والمعتزلة وغيرهم وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة ومن ذلك أنهم لا يؤمنون في الصلاة هم أو بعضهم وهذا ليس لأحد من فرق الأمة بل هو دين اليهود فإن اليهود حسدوا المؤمنين على التأمين وقد حكى طائفة عن بعضهم أنه يحرم لحم الإبل وكان ذلك لركوب عائشة على الجمل وهذا من أظهر الكفر وهو من جنس دين اليهود

وكثير من عوامهم يقول إن الطلاق لا يكون إلا برضا المرأة وعلماؤهم ينكرون هذا وهذا لم يقله أحد غيرهم وهم يقولون بإمام منتظر موجود غائب لا يعرف له عين ولا أثر ولا يعلم بحس ولا خبر لا يتم الإيمان إلا به ويقولون أصول الدين أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهذا منتهى الإمام عندهم الإيمان بأنه معصوم غائب عن الأبصار كائن في الأمصار سيخرج الدينار من قعر البحار يطبع الحصى ويورق العصا دخل سرداب سامرا سنة ستين ومائتين وله من العمر إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس أو نحو ذلك فإنهم مختلفون في قدر عمره ثم إلى الآن لم يعرف له خبر ودين الخلق مسلم إليه فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ولم ينتفع به أحد من عباد الله وكذلك كراهتهم لأسماء نظير أسماء من يبغضونه ومحبتهم لأسماء نظير أسماء من يحبونه من غير نظر إلى المسمى وكراهتهم لأن يتكلم أو يعمل بشيء عدده عشرة لكراهتهم نفرا عشرة واشتفاؤهم ممنيبغضونه كعمر وعائشة وغيرهما بأن يقدروا جمادا كالحيس أو حيوانا كالشاة الحمراء أنه هو الذي يعادونه ويعذبون تلك الشاة تشفيا من العدو من الجهل البليغ الذي لم يعرف عن غيرهم وكذلك إقامة المآتم والنوائح ولطم الخدود وشق الجيوب وفرش الرماد وتعليق المسوح وأكل المالح حتى يعطش ولا يشرب ماء تشبها بمن ظلم وقتل وإقامة مأتم بعد خمسمائة أو ستمائة سنة من قتله لا يعرف لغيرهم من طوائف الأمة ومفاريد الرافضة التي تدل على غاية الجهل والضلال كثيرة لم نقصد ذكرها هنا لكن المقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفردون عن سائر الطوائف بحق والرافضة أبلغ في ذلك من غيرهم وأما الخوارج والمعتزلة والجهمية فإنهم أيضا لم ينفردوا عن أهل السنة والجماعة بحق بل كل ما معهم من الحق ففي أهل السنة من يقول به لكن لم يبلغ هؤلاء من قلة العقل وكثرة الجهل ما بلغت الرافضة

وكذلك الطوائف المنتسبون إلى السنة من أهل الكلام والرأي مثل الكلابية والأشعرية والكرامية والسالمية ومثل طوائف الفقه من الحنفية والمالكية والسفيانية والأوزاعية والشافعية والحنبلية والداوودية وغيرهم مع تعظيم الأقوال المشهورة عن أهل السنة والجماعة لا يوجد لطائفة منهم قول انفردوا به عن سائر الأمة وهو صواب بل ما مع كل طائفة منهم من الصواب يوجد عند غيرهم من الطوائف وقد ينفردون بخطأ لا يوجد عند غيرهم لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف كأهل المذاهب الأربعة قد يوجد لكل واحد منهم أقوال انفرد بها وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة بخلاف ما انفردوا به ولم ينقل عن غيرهم فهذا لا يكون إلا خطأ وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف وأما الصواب الذي ينفرد به كل طائفة من الثلاثة فكثير لكن الغالب أنه يوافقه عليه بعض أتباع الثلاثة وذلك كقول أبي حنيفة بأن المحرم يجوز له أن يلبس الخف المقطوع وما أشبهه كالجمجم والمداس وهو وجه في مذهب أحمد وغيره وقوله بأن الجد يسقط الإخوة وقد وافقه عليه بعض أصحاب الشافعي وأحمد كقوله بأن طهارة المسح

يشترط لها دوام الطهارة دون ابتدائها وقوله إن النجاسة تزول بكل ما يزيلها وهذا أحد الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ومذهب مالك وكذلك قوله بأنها تطهر بالاستحالة ومثل قول مالك بأن الخمس مصرفة مصرف الفيء وهو قول في مذهب أحمد فإنه عنه روايتان في خمس الركاز هل يصرف مصرف الفيء أو مصرف الزكاة وإذا صرف مصرف الفيء فإنما هو تابع لخمس الغنيمة ومثل قوله بجواز أخذ الجزية من كل كافر جازت معاهدته لا فرق بين العرب والعجم ولا بين أهل الكتاب وغيرهم فلا يعتبر قط أمر النسب بل الدين في الذمة والإسترقاق وحل الذبائح والمناكح وهذا أصح الأقوال في هذا الباب وهو أحد القولين في مذهب أحمد فإنه لا يخالفه إلا في أخذ الجزية من مشركي العرب ولم يبق من مشركي العرب أحد بعد نزول آية الجزية بل كان جميع مشركي العرب قد أسلموا ومثل قول مالك إن أهل مكة يقصرون الصلاة بمنى وعرفة وهو قول في مذهب أحمد وغيره ومثل مذهبه في الحكم بالدلائل والشواهد وفي إقامة الحدود

ورعاية مقاصد الشريعة وهذا من محاسن مذهبه ومذهب أحمد قريب من مذهبه في أكثر ذلك ومثل قول الشافعي بأن الصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ لم يعد الصلاة وكثير من الناس يعيب هذا على الشافعي وغلطوا في ذلك بل الصواب قوله كما بسط في موضعه وهو وجه في مذهب أحمد وقوله بفعل ذوات الأسباب في وقت النهي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وكذلك قوله بطهارة المني كقول أحمد في أظهر الروايتين ومثل قول أحمد في نكاح البغي لا يجوز حتى تتوب وقوله بأن الصيد إذا جرح ثم غاب أنه يؤكل ما لم يوجد فيه أثر آخر وهو قول في مذهب الشافعي وقوله بأن صوم النذر يصام عن الميت بل وكل المنذورات تفعل عن الميت ورمضان يطعم عنه وبعض الناس يضعف هذا القول وهو قول الصحابة ابن عباس وغيره ولم يفهموا غوره وقوله إن المحرم إذا لم يجد النعلين والإزار لبس الخفين والسراويل بلا قطع ولا فتق فإن هذا كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم

وقوله بأن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة وقوله بأن الجدة ترث وابنها حي وقوله بصحة المساقاة والمزارعة وما أشبه ذلك وإن كان البذر من العامل على إحدى الروايتين عنه وكذلك طائفة من أصحاب الشافعي وقوله في إحدى الروايتين إن طلاق السكران لا يقع وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي وقوله بأن الوقف إذا تعطل نفعه بيع واشتري به ما يقوم مقامه وفي مذهب أبي حنيفة ما هو أقرب إلى قول أحمد من غيره وكذلك في مذهب مالك وكذلك قوله في إبدال الوقف كإبدال مسجد بغيره ويجعل الأول غير مسجد كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي مذهب أبي حنيفة ومالك جواز الإبدال للحاجة في مواضع وقوله بقبول شهادة العبد وقوله بأن صلاة المنفرد خلف الصف يجب عليه فيها الإعادة وقوله إن فسخ الحج إلى العمرة جائز مشروع بل هو أفضل وقوله بأن القارن إذا ساق الهدي فقرانه أفضل من التمتع والإفراد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومثل قوله إن صلاة الجماعة فرض على الأعيان

وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود أن الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة وإن كان كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة لم يكن القول الذي انفردوا به إلا خطأ بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث فإن الصواب معهم دائما ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين فإن الحق مع الرسول فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها وأكثر سلف الأمة كذلك لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين والذين رفع الله قدرهم في الأمة هو بما أحيوه من سنته ونصرته وهكذا سائر طوائف الأمة بل سائر طوائف الخلق كل حير معهم فيما جاءت به الرسل عن الله وما كان معهم من خطأ أو ذنب فليس من جهة الرسل ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم قال أحدهم أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الكلالة وكما قال ابن مسعود في المفوضة إذا مات عنها زوجها وكلاهما أصاب فيما قاله برأيه لكن قال الحق فإن القول إذا كان

صوابا فهو مما جاء به الرسول عن الله فهو من الله وإن كان خطأ فالله لم يبعث الرسول بخطأ فهو من نفسه ومن الشيطان لا من الله ورسوله والمقصود بالإضافة إليه الإضافة إليه من جهة إلاهيته من جهة الأمر والشرع وال وأنه يحبه ويرضاه ويثيب فاعله عليه وأما من جهة الخلق فكل الأشياء منه والناس لم يسألوا الصحابة عما من الله خلقا وتقديرا فقد علموا أن كل ما وقع فمنه والعرب كانت في جاهليتها تقر بالقضاء والقدر قال ابن قتيبة وغيره ما زالت العرب في جاهليتها وإسلامها مقر بالقدر وقد قال عنترة يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها وإنما كان سؤال الناس عما من الله من جهة أمره ودينه وشرعه الذي يرضاه ويحبه ويثيب أهله وقد علم الصحابة أن ما خالف الشرع والدين فإنه يكون من النفس والشيطان وإن كان بقضاء الله وقدره وإن كان يعفى عن صاحبه كما يعفى عن النسيان والخطأ ونسيان الخير يكون من الشيطان كما قال تعالى وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (سورة الأنعام). وقال فتى موسى صلى الله عليه وسلم وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره (سورة الكهف). وقال فأنساه الشيطان ذكر ربه (سورة يوسف).ولما نام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الوادي عن الصلاة قال هذا واد حضرنا فيه الشيطان وقال إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام فإنه كان وكل بلالا أن يكلأ لهم الصبح مع قوله ليس في النوم تفريط وقال إن الله قبض

أرواحنا وقال له بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وقال من نام عن صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ومع قوله تعالى عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (سورة البقرة). قال تعالى قد فعلت وكذلك الخطأ في الإجتهاد من النفس والشيطان وإن كان مغفورا لصاحبه وكذلك الإحتلام في المنام من الشيطان وفي الصحيحين عنه أنه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام فالنائم يرى في منامه ما يكون من الشيطان وهو كما قال صلى الله عليه وسلم رفعالقلم عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وأعذرهم النائم ولهذا لم يكن لشىء من أقواله التي تسمع منه في المنام حكم باتفاق العلماء فلو طلق أو أعتق أو تبرع أو غير ذلك في منامه كان لغوا بخلاف الصبي المميز فإن أقواله قد تعتبر إما بإذن الولي وإما بغير إذنه في مواضع بالنص وفي مواضع بالإجماع وكذلك الوسواس في النفس يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة قال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه (سورة ق). وقال فوسوس إليه الشيطان (سورة طـــه). وقال فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه (سورة الأعراف). والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة ومنه وسوسة الحلى وهو الكلام الخفي والصوت الخفي

وقد قال تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس سورة الناس وقد قيل إن المعنى من الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة ومن الناس وأنه جعل الناس أولا تتناول الجنة والناس فسماهم ناسا كما سماهم رجالا قاله الفراء وقيل المعنى من شر الموسوس في صدور الناس من الجن ومن شر الناس مطلقا قاله الزجاج ومن المفسرين كأبي الفرج بن الجوزى من لم يذكر غيرهما وكلاهما ضعيف والصحيح أن المراد القول الثالث وهو أن الإستعاذة من شر الموسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس فأمر بالإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (سورة الأنعام). وفي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحهبطوله قال يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال يا رسول الله أو للإنس شياطين قال نعم شر من شياطين الجن وقد قال تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (سورة البقرة). والمنقول عن عامة المفسرين أن المراد شياطين الإنس وما علمت أحدا قال إنهم شياطين الجن فعن ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي أنهم رؤوسهم في الكفر وعن أبي العالية ومجاهد إخوانهم من المشركين وعن الضحاك وابن السائب كهنتهم والآية تتناول هذا كله وغيره ولفظها يدل على أن المراد شياطين الإنس لأنه قال وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم (سورة البقرة). ومعلوم أن شيطان الجن معهم لما لقوا الذين آمنوا لا يحتاج أن يخلوا به وشيطان الجن هو

الذي أمرهم بالنفاق ولم يكن ظاهرا حتى يخلوا معهم ويقول إنا معكم لا سيما إذا كانوا يظنون أنهم على حق كما قال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (سورة البقرة). ولو علموا أن الذي يأمرهم بذلك شيطان لم يرضوه وقد قال الخليل بن أحمد كل متمرد عند العرب شيطان وفي اشتقاقه قولان أصحهما أنه من شطن يشطن إذا بعد عن الخير والنون أصلية قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه أوثقه وقال النابغة نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين ولهذا قرنت به اللعنة فإن اللعنة هي البعد من الخير والشيطان بعيد من الخير فيكون وزنه فيعالا وفيعال نظير فعال وهو من صفات المبالغة مثل القيام والقوام فالقيام فيعال والقوام فعال ومثل العياذ والعواذ وفي قراءة عمر الحي القيام

فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى فإنه لا يكون شيطانا ومما يدل على ذلك قولهم تشيطن يتشيطن شيطنة ولو كان من شاط يشيط لقيل تشيط يتشيط والذي قال هو من شاط يشيط إذا احترق والتهب جعل النون زائدة وقال وزنه فعلان كما قال الشاعر وقد يشيط على أرماحنا البطل وهذا يصح في الإشتقاق الأكبر الذي يعتبر فيه الإتفاق في جنس الحروف كما يروى عن أبي جعفر أنه قال العامة مشتق من العمى ما رضى الله أن يشبههم بالأنعام حتى قال بل هم أضل سبيلا وهذا كما يقال السرية مأخوذة من السر وهو النكاح ولو جرت على القياس لقيل سريرة فإنها على وزن فعيلة ولكن العرب تعاقب بين الحرف المضاعف والمعتل كما يقولون تقضي البازي وتقضض قال الشاعر تقضى البازى إذا البازى كسر ومنه قوله تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه (سورة البقرة). وهذه الهاء تحتمل أن تكون أصلية فجزمت بلم ويكون من سانهت وتحتمل أن تكون هاء السكت كالهاء من كتابيه

وحسابيه واقتده وماليه وسلطانيه وأكثر القراء يثبتون الهاء وصلا ووقفا وحمزة والكسائي يحذفانها من الوصل هنا ومن اقتده فعلى قراءتهما يجب أن تكون هاء السكت فإن الأصلية لا تحذف فتكون لفظة لم يتسن كما تقول لم يتغن وتكون مأخوذة من قولهم تسنى يتسنى وعلى الإحتمال الآخر تكون من تسنه يتسنه والمعنى واحد قال ابن قتيبة أى لم يتغير بمر السنين عليه قال واللفظ مأخوذ من السنه يقال سانهت النخلة إذا حملت عاما وحالت عاما فذكر ابن قتيبة لغة من جعل الهاء أصلية وفيها لغتان يقال عاملته مسانهة ومساناة ومن الشواهد لما ذكره ابن قتيبه قول الشاعر فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح يمدح النخلة والمقصود مدح صاحبها بالجود فقال إنه يعريها لمن يأكل ثمرها لا يرجبها لتخلية ثمرها ولا هي بسنهاء والمفسرون من أهل اللغة يقولون في الآية معناه لم يتغير وأما لغة من قال إن أصله سنوة فهي مشهورة ولهذا يقال في جمعها سنوات

ويشابهه في الإشتقاق الأكبر الماء الآسن وهو المتغير المنتن ويشابهه في الإستقاق الأصغر الحمأ المسنون فإنه من سن يقال سننت الحجر على الحجر إذا حككته والذي يسيل بينهما سنن ولا يكون إلا منتنا وهذا أصح من قول من يقول المسنون المصبوب على سنة الوجه أو المصبوب المفرغ أي أبدع صورة الإنسان فإن هذا أنما كان بعد أن خلق من الحمأ المسنون ونفس الحمأ لم يكن على صورة الإنسان ولا صورة وجه ولكن المراد المنتن فقوله لم يتسنه بخلاف قوله ماء غير آسن (سورة محمد). فإنه من قولهم أسن يأسن فهذا من جنس الاشتقاق الأكبر لاشتراكهما في السين والنون والنون الأخرى والهمزة والهاء متقاربتان فإنهما حرفا حلق وهذا باب واسع والمقصود أن اللفظين إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها قيل أحدهما مشتق من الآخر وهو الإشتقاق الأكبر والأوسط أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها كقول الكوفيين الإسم مشتق من السمة والإشتقاق الأصغر الخاص الإشتراك في الحروف وترتيبها وهو المشهور كقولك علم يعلم فهو عالموعلى هذا فالشيطان مشتق من شطن وعلى الإشتقاق الأكبر هو من باب شاط يشيط لأنهما اشتركا في الشين والطاء والنون والياء متقاربتان فهو سبحانه أمر في سورة الناس بالإستعاذة من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس ويدخل في ذلك وسوسة نفس الإنسان له ووسوسة غيره له والقول في معنى الآية مبسوط في مصنف مفرد والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس أن العبد إذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة وأنه إذا هم بحسنة كتبت له حسنه كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر يعني الإقامة فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل إن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتينفقد أخبر أن هذا التذكير والوسواس من الشيطان وأنه ينسيه حتى لا يدري كم صلى وأمره بسجدتي السهو ولم يؤثمه بذلك والوسواس الخفيف لا يبطل الصلاة باتفاق العلماء وأما إذا كان هو الأغلب فقيل عليه الإعادة وهو اختيار أبي عبد الله بن حامد والصحيح الذي عليه الجمهور وهو المنصوص عن أحمد وغيره أنه لا إعادة عليه فإن حديث أبي هريرة عام مطلق في كل وسواس ولم يأمر بالإعادة لكن ينقص أجره بقدر ذلك قال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وفي السنن عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخففها فقيل له في ذلك فقال هل نقصت منها شيئا قالوا لا قال فإني بدرت الوسواس وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا عشرها إلا تسعها إلا ثمنها حتى قال إلا نصفها وهذا الحديث حجة على ابن حامد فإن أدنى ما ذكر نصفها وقد ذكر إنه يكتب له عشرها وأداء الواجب له مقصودان أحدهما براءة الذمة بحيث يندفع عنه الذم والعقاب المستحق بالترك فهذا لا تجب معه الإعادة فإن الإعادة يبقى مقصودها حصول ثواب مجرد وهو شأن

التطوعات لكن حصول الحسنات الماحية للسيئات لا يكون إلا مع القبول الذي عليه الثواب فبقدر ما يكتب له من الثواب يكفر عنه به من السيئات الماضية وما لا ثواب فيه لا يكفر وإن برئت به الذمة كما في الحديث المأثور رب صائم ليس حظه من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر يقول إنه تعب ولم يحصل له منفعة لكن برئت ذمته فسلم من العقاب فكان على حاله لم يزدد بذلك خيرا والصوم إنما شرع لتحصيل التقوى كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات (سورة البقرة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم الصيام جنة فإذا كان أحدكمصائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم وفيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره قيل يقول في نفسه فلا يرد عليه وقيل يقول بلسانه وقيل يفرق بين الفرض فيقول بلسانه والنفل يقول في نسفه فإن صوم الفرض مشترك والنفل يخاف عليه من الرياء والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان وأما ما في النفس فمقيد كقوله عما حدثت به أنفسها ثم قال ما لم تتكلم أو تعمل به فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع وإذا قال بلسانه إني صائم بين عذره في إمساكه عن الرد وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه بين

صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يحرم على الصائم الأكل لحاجته إلى ترك الطعام والشراب كما يحرم السيد على عبيده بعض ماله بل المقصود محبة الله تعالى وهو حصول التقوى فإذا لم يأت به فقد أتى بما ليس فيه محبة ورضا فلا يثاب عليه ولكن لا يعاقب عقوبة التارك والحسنات المقبوله تكفر السيئات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ولو كفر الجميع بالخمس لم يحتج إلى الجمعة لكن التكفير بالحسنات المقبولة وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها فيكفر ذلك بقدره والباقي يحتاج إلى تكفير ولهذا جاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة فإن أكملت وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع في سائر الأعمال كذلكوتكميل الفرائض بالتطوع مطلق فإنه يكون يوم القيامة يوم الجزاء فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة فإذا كان له من جنسه تطوع سد مسده فلا يعاقب وإن كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده فكمل ثوابه وهو في الدنيا يؤمر بأن يعيد حيث تمكن إعادة ما فعله ناقصا من الواجبات أو يجبره بما ينجبر به كسجدتي السهو في الصلاة وكالدم الجابر لما تركه من الواجبات الحج ومثل صدقة الفطر التي فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث وذلك لأنه إذا أمكنه أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه ولم يكن قد برئ من عهدته بل هو مطلوب به كما لو لم يفعله بخلاف ما إذا تعذر فعله يوم الجزاء فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات ولهذا كان جمهور العلماء على أن من ترك واجبا من واجبات الصلاة

عمدا فعليه إعادة الصلاة ما دام يمكن فعلها وهو إعادتها في الوقت هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد لكن مالك وأحمد يقولان قد يجب فيها ما يسقط بالسهو ويكون سجود السهو عوضا عنه وسجود السهو واجب عندهما وأما الشافعي فيقول كل ما وجب بطلت الصلاة بتركه عمدا أو سهوا وسجود السهو عنده ليس بواجب فإن ما صحت الصلاة مع السهو عنه لم يكن واجبا ولا مبطلا والأكثرون يوجبون سجود السهو كمالك وأبي حنيفة وأحمد ويقولون قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والأمر يقتضي الإيجاب ويقولون الزيادة في الصلاة لو فعلها عمدا بطلت الصلاة بالإتفاق مثل أن يزيد ركعة خامسة عمدا أو يسلم عمدا قبل إكمال الصلاة ثم إذا فعله سهوا سجد للسهو بالسنة والإجماع فهذا سجود لما تصح الصلاة مع سهوة دون عمده وكذلك ما نقصه منها فإن السجود يكون للزيادة تارة وللنقص أخرى كسجود النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول ولو فعل ذلك أحد عمدا بطلت صلاته عند مالك وأحمد وأما أبو حنيفة فيوجب في الصلاة ما لا تبطل بتركه لا عمدا ولا سهوا ويقول هو مسيء بتركه كالطمأنينة وقراءة الفاتحةوهذا مما نازعه فيه الأكثرون وقالوا من ترك الواجب عمدا فعليه الإعادة الممكنة لأنه لم يفعل ما أمر به وهو قادر على فعله فلا يسقط عنه وقد أخرجا في الصحيحين حديث المسيء في صلاته لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فصل فإنك لم تصل وأمره بالصلاة التي فيها طمأنينة فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعله صلاة بل يؤمر بالصلاة والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإسم إلا لانتفاء بعض واجباته فقوله فإنك لم تصل لأنه ترك بعض واجباتها ولم تكن صلاته تامة مقامة الإقامة المأمور بها في قوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة (سورة النساء). فقد أمر بإتمامها ولهذا لما أمر بإتمام الحج والعمره بقوله وأتموا الحج والعمرة لله

(سورة البقرة). ألزم الشارع فيهما فعل جميع الواجبات فإذا ترك بعضها فلا بد من الجبران فعلم أنه إن لم يأت بالمأمور به تاما التمام الواجب وإلا فعليه ما يمكن من إعادة أو جبران وكذلك أمر الذي رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد وقال لا صلاة لفذ خلف الصف وقد صححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن حزم وغيرهم من علماء الحديث فإن قيل ففي حديث المسيء الذي رواه أهل السنن من حديثرفاعة بن رافع أنه جعل ما تركه من ذلك يؤاخذ بتركه فقط ويحسب له ما فعل ولا يكون كمن لم يصل قيل وكذلك نقول من فعلها وترك بعض واجباتها لم يكن بمنزلة من لم يأت بسيء منها بل يثاب على ما فعل ويعاقب على ما ترك وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك وترك الواجب سبب للعقاب فإذا كان يعاقب على ترك البعض لزمه أن يفعلها فإن كان له جبران أو أمكن فعله وحده وإلا فعله مع غيره فإنه لا يمكن فعله مفردا فإن قيل فإذا لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه أولا قيل هو أولى فعله ولم يكن يعلم أنه لا يجوز أو كان ساهيا كالذي يصلي بلا وضوء أو يسهو عن القراءة والسجود المفروض فيثاب على ما فعل ولا يعاقب بنسيانه وخطئه لكن يؤمر بالإعادة لأنه لم يفعل ما أمر به أولا كالنائم إذا استيقظ في الوقت فإنه يؤمر بالصلاة لأنها واجبة عليه في وقتها إذا أمكن وإلا صلاها أي وقت استيقظ فإنه حينئذ يؤمر بها وأما إذا أمر بالإعادة فقد علم أنه لا يجوز فعل ذلك مفردا فلا يؤمر به مفردا

فإن قيل فلو تعمد أن يفعلها مع ترك الواجبات التي يعلم وجوبها قيل هذا مستحق للعقاب فإنه عاص بهذا الفعل وهذا قد يكون إثمه كإثم التارك وإن قدر أن هذا قد يثاب فإنه لا يثاب عليه ثواب من فعله مع غيره كما أمر به بل أكثر ما يقال إن له عليه ثوابا بحسبه لكن الذي يعرف أنه إذا لم يكن يعرف أن هذا واجب أو منهي عنه فإنه يثاب على ما فعله قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة والقرآن وذكر الله ودعاؤه خير وإلا فالمسلم لا يصلى إلى غير قبلة أو بغير وضوء أو ركوع أو سجود ومن فعل ذلك كان مستحقا للذم والعقاب ومع هذا فقد يمكن إذا فعل ذلك مع اعترافه بأنه مذنب لا على طريق الإستهانة والإستهزاء والإستخفاف بل على طريق الكسل أن يثاب على ما فعله كمن ترك واجبات الحج المجبورة بدم لكن لا يكون ثوابه كما إذا فعل ذلك مع غيره على الوجه المأمور به وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة وغيرهم ممن يقول إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص قالوا لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله لأن الشيء المركب من أجزاءمتى ذهب منه جزء ذهب كله كالصلاة إذا ترك منها واجبا بطلت ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا إنه يزيد وينقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان

وعلى هذا فنقول إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام ويجوز نفي الإسم إذا أريد به نفي ذلك الكمال وعليه أن يأتي بذلك الجزء إن كان ترك واجبا فعله أو كان ذنبا استغفر منه وبذلك يصير من المؤمنين المستحقين لثواب الله المحض الخالص عن العقاب وأما إذا ترك واجبا منه أو فعل محرما فإنه يستحق العقاب على ذلك ويستحق الثواب على ما فعل والمنفي إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة لكن بقي أكثر أجزائها وكذلك جاءت السنة في سائر الأعمال كالصلاة وغيرها أنه يثاب على ما فعله منها ويعاقب على الباقي حتى إنه إن كان له تطوع جبر ما ترك بالتطوع ولو كان ما فعل باطلا وجوده كعدمه لا يثاب عليه لم يجبر بالنوافل شيء وعلى ذلك دل حديث المسيء الذي في السنن أنه إذا نقص منها شيئا أثيب على ما فعله فإن قلت فالفقهاء يطلقون أنه قد بطلت صلاته وصومه وحجه إذا ترك منه ركنا قيل لأن الباطل في عرفهم ضد الصحيح والصحيح في عرفهم ماحصل به مقصوده وترتب عليه حكمه وهو براءة الذمة ولهذا يقولون الصحيح ما أسقط القضاء فصار قولهم بطلت بمعنى وجب القضاء لا بمعنى أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة وهكذا جاء النفي في كلام الله ورسوله كقوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الانفال وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (سورة الحجرات). فإن نفي الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما

فيه كنفي غيره كقوله لا صلاة إلا بأم القرآن وقوله للمسيء ارجع فصل فإنك لم تصل وقوله للمنفرد خلف الصف لما أمره بالإعادة لا صلاة لفذ خلف الصف وقوله من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل له إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك بعض المستحبات بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليهالثاني أنه لو نفى بترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام فإن الكمال المستحب متفاوت ولا أحد يصلي كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكل من لم يكملها كتكميل الرسول يقال لا صلاة له فإن قيل فهؤلاء الذين يتركون فرضا من الصلاة أو غيرها يؤمرون بإعادة الصلاة والإيمان إذا ترك بعض فرائضه لا يؤمر باعادته قيل ليس الأمر بالإعادة مطلقا بل يؤمر بالممكن فإن أمكن الإعادة أعاد وإن لم يمكن أمر أن يفعل حسنات غير ذلك كما لو ترك الجمعة فإنه وإن أمر بالظهر فلا تسد مسد الجمعة بل الإثم الحاصل يترك الجمعة لايزول جميعه بالظهر وكذلك من ترك واجبات الحج عمدا فإنه يؤمر بها ما دام يمكن فعلها في الوقت فإذا فات الوقت أمر بالدم الجابر ولم يكن ذلك مسقطا عنه إثم التفويت مطلقا بل هذا الذي يمكنه من البدل وعليه أن يتوب توبة تغسل إثم التفويت كمن فعل محرما فعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه وكذلم من فوت واجبا لا يمكنه استدراكه وأما إذا أمكنه استدراكه فعله بنفسه وهكذا نقول فيمن ترك بعض واجبات الإيمان بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه فيستدركه بحسب الإمكان فإن فات وقته تاب وفعل حسنات أخر غيره

ولهذا كان الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك كما يصلي الظهر بعد دخول العصر ويؤخر العصر إلى الإصفرار فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير وهو من المذمومين في قوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون سورة الماعون وقوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات (سورة مريم). فإن تأخيرها عن الوقت الذي يجب فعلها فيه هو إضاعة لها وسهو عنها بلا نزاع أعلمه بين العلماء وقد جاءت الآثار بذلك عن الصحابة والتابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصرإلى وقت الإصفرار وذلك مما هم مذمومون عليه ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ونهى عن قتال أولئك فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت وتعاد معهم نافلة فدل على صحة صلاتهم ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر مع قوله أيضا في الحديث الصحيح تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلاوثبت عنه في الصحيحين أنه قال من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وثبت عنه في الصحيحين أنه قال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله وقال أيضا إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين وقد اتفق العلماء على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فاتفقوا

على أن النائم يصلي إذا استيقظ والناسي إذا ذكر وعليه قضاء الفائتة على الفور عند جمهورهم كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم وأما الشافعي فيجعل قضاء النائم والناسي على التراخي ومن نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها فلو صلى ثم ذكر بعد خروج الوقت أنه كان على غير وضوء أعاد كما أعاد عمر وعثمان وغيرهما لما صلوا بالناس ثم ذكروا بعد الصلاة أنهم كانوا جنبا فأعادوا ولم يأمروا المؤمومين بالإعادة وفي حديث عمر أنه لم يذكر إلا بعد طلوع الشمس وكذلك إذا أخرها تأخيرا يرى أنه جائز كما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وصلاها بعد مغيب الشمس فإن ذلك التأخير إما أن يكون لنسيان منه أو لأنه كان جائزا إذا كانوا مشغولين بقتال العدو أن يخروا الصلاةوالعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال قيل يصلي حال القتال ولا يؤخر الصلاة وتأخير الخندق منسوخ وهذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه وقيل يخير بين تقديمها وتأخيرها لأن الصحابة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة كانت طائفة منهم أخرت الصلاة فصلوا بعد غروب الشمس وكانت منهم طائفة قالوا لم يرد منا إلا المبادرة إلى العدو لا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر وهذا قول طائفة من الشاميين وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقيل بل يؤخرونها كما فعل يوم الخندق وهو مذهب أبي حنيفة ففي الجملة كل من أخرها تأخيرا يعذر به إما لنسيان أو لخطأ في الاجتهاد فإنه يصليها بعد الوقت كمن ظن أن الشمس لم تطلع فآخرها حتى طلعت أو ظن أن وقت العصر باق فأخرها حتى غربت فإن هذا يصلى وعلى قول الأكثرين ما بقى تأخيرها جائزا حتى تغرب الشمس ومن قال إنه يجوز التأخير فإنه يصليها ولو أخرها باجتهاده فإنه يصليها وإن قيل إنه أخطأ في اجتهاده وليس هذا من أهل الوعيد

المذكور في قوله من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فإن هذا مجتهد متأول مخطىء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وهو حديث حسن وقد دل عليه القرآن والحديث الصحيح وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها أو فوت بعض واجباتها الذي يعلم وجوبه منها فهذا مما تنازع فيه العلماء فقيل في الجميع يصح أن يصليها بعد التفويت ويجب ذلك عليه ويثاب على ما فعل ويعاقب على التفويت كمن أخر الظهر إلى وقت العصر والمغرب والعشاء إلى آخر الليل من غير عذر وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد يقولون هو في كل صلاة وجب إعادتها في الوقت فيجب إعادتها بعد الوقت وأما مالك وغيره من أهل المدينة فيفرقون بين ما يعاد في الوقت وما يعاد بعد خروج الوقت فما لم يكن فرضا بل واجبا وهو الذي يسمونه سنة أمروا بإعادة الصلاة إذا تركه في الوقت كمن صلى بالنجاسة وأما ما كان فرضا كالركوع والسجود والطهارة فإنه بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت

وقد أنكر عليهم كثير من الناس التفريق بين الإعادة في الوقت وبعده وصنف المزني مصنفا رد فيه على مالك ثلاثين مسألة منها هذه وقد رد على المزني الشيخ أبو بكر الأبهري وصاحبه القاضي عبد الوهاب وعمدتهم أن الصلاة إن فعلت كما أمر بها العبد فلا إعادة عليه في الوقت ولا بعده وإن لم تفعل كما أمر بها العبد فهي في ذمته فيعيدها في الوقت وبعده وأهل المدينة يقولون فعلها في الوقت واجب ليس لأحد قط أن يؤخرها عن الوقت فإن كان الوقت أوكد مما ترك لم يعد بعد الوقت لأنه ما بقي بعد الوقت يمكنه تلافيها فإن الصلاة مع النجاسة أو عريانا خير من الصلاة بلا نجاسة بعد الوقت فلو أمرناه أن يعيدها بعد الوقت لكنا نأمره بأنقص مما صلى وهذا لا يأمر به الشارع وهذا بخلاف من ترك ركنا منها فذاك بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت وهذا الفرق مبني على أن الصلاة من واجباتها ما هو ركن لا تتم إلا به ومنها ما هو واجب تتم بدونه إما مع السهو وإما مطلقا وهذا قول الجمهور وأبو حنيفة يوجب فيها ما لا يجب بتركه الإعادة بحال فإذا

أوجب أهل المدينة فيها ما يجب بتركه الإعادة في الوقت كان أقرب إلى الشرع وأحمد مع مالك يوجبان فيها ما يسقط بالسهو ويجبر بالسجود ثم ذلك الواجب إذا تركه عمدا أمره أحمد في ظاهر مذهبه بالإعادة كما لو ترك فرضا وأما مالك ففي مذهبه قولان فيمن ترك ما يجب السجود لتركه سهوا كترك التشهد الأول وترك تكبيرتين فصاعدا أو قراءة السورة والجهر والمخافتة في موضعهما وقد اتفق الجميع على أن واجبات الحج منها ما يجبر الحج مع تركه ومنها ما يفوت الحج مع تركه فلا يجبر كالوقوف بعرفة فكذلك الصلاة وقالت طائفة ثالثة ما أمر الله به في الوقت إذا ترك لغير عذر حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت كالجمعة والوقوف بعرفة ورمي الجمار فإن الفعل بعد الوقت عبادة لا تشرع إلا إذا شرعها الشارع فلا تكون مشروعة إلا بشرعه ولا واجبة إلا بأمره وقد اتفق المسلمون على أن من فاته الوقوف بعرفة لعذر أو لغيره لا يقف بعرفة بعد طلوع الفجر وكذلك رمي الجمار لا ترمى بعد أيام منى سواء فاتته لعذر أو لغير عذر كذلك الجمعة لا يقضيها الإنسان سواء فاتته بعذر أو بغير

عذر وكذلك لو فوتها أهل المصر كلهم لم يصلوها يوم السبت وأما الصلوات الخمس فقد ثبت أن المعذور يصليها إذا أمكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك وكذلك صوم رمضان أمر الله المسافر والمريض والحائض أن يصوموا نظيره في أيام أخر والوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت لجواز فعلمها جميعا عند العذر وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ونهى عن قتالهم مع ذمهم وظلمهم وأولئك كانوا يؤخرون الظهر إلى العصر فجاءت طائفة من الشيعة فصاروا يجمعون بين الصلاتين في وقت الأولى دائما من غير عذر فدخل في الوقت المشترك من جواز الجمع للعذر من تأويل الولاة وتصحيح الصلاة مع إثم التفويت ما لم يدخل في التفويت المطلق كمن يفطر شهر رمضان عمدا ويقول أنا أصوم في شوال أو يؤخر الظهر والعصر

عمدا ويقول أصليهما بعد المغرب ويؤخر المغرب والعشاء ويقول أصليهما بعد الفجر أو يؤخر الفجر ويقول أصليها بعد طلوع الشمس فهذا تفويت محض بلا عذر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وقال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فلو كان يمكنه الإستدراك لم يحبط عمله وقوله وتر أهله وماله أي صار وترا لا أهل له ولا مال ولو كان فعلها ممكنا بالليل لم يكن موتورا وقال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك فلو كان فعلها بعد المغرب صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو لم يدرك فإنه لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم بل يأثم بتعمد ذلك كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإنه أمر بأن تصلى الصلاة لوقتها الذي حده وأن لا يؤخر العصر إلى ما بعد الإصفرار ففعلها قبل الاصفرار واجب بأمره وقوله صلوا الصلاة لوقتها فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم عن غير المعذور بل يكونقد صلاها مع الإثم فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب إلا أن يقال ذاك أعظم إثما ومعلوم أنه كلما أخرها كان أعظم إثما فحيث جاز القضاء مع وجوب التقديم كلما أخر القضاء كان أعظم لإئمه ومن نام عن صلاة أو نسيها فعليه أن يصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وإذا أخرها من غير عذر أثم كما يأثم من أخر الواجب على الفور ويصح فعلها بعد ذلك فلو كانت العصر بعد المغرب بهذه المنزلة لم يكن لتحديد وقتها بغروب الشمس وقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فائدة بل كانت تكون كالواجب على الفور إذا أخره أو كانت تكون كالمغرب إذا أخرها إلى وقت العشاء ومعلوم أن هذا قد يجوز بل يسن كما في ليلة المزدلفة كما يسن تقديم العصر إلى وقت الظهر يوم عرفة بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين

وأما فعل العصر بعد المغرب فلم يؤذن فيه قط لغير المعذور كما لم يؤذن في صلاة المغرب قبل غروب الشمس قال هؤلاء والصلاة في الوقت واجبة على أي حال بترك جميع الواجبات لأجل الوقت فإذا أمكنه أن يصلي في الوقت بالتيمم أو بلا قراءة أو بلا إتمام ركوع وسجود أو إلى غير القبلة أو يصلي عريانا أو كيفما أمكن وجب ذلك عليه ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع تمام الأفعال وهذا مما ثبت بالكتاب والسنة وعامته مجمع عليه فعلم أن الوقت مقدم على جميع الواجبات وحينئذ فمن صلى في الوقت بلا قراءة أو عريانا متعمدا ونحو ذلك إذا أمر أن يصلي بعد الوقت بقراءة وسترة كان ما أمر به دون ما فعله ولهذا إذا لم يمكن إلا أحدهما وجب أن يصلي في الوقت بلا قراءة ولا سترة ولا يؤخرها ويصلي بعد الوقت بقراءة وسترة فعلم أن ذلك التفويت ما بقي استدراكه ممكنا وأما المعذور فلله تعالى جعل الوقت في حقه متى أمكنه فمن نسي الصلاة أو بعض واجباتها صلاها متى ذكرها وكان ذلك هو الوقت في حقه وإذا قيل صلاته في الوقت كانت أكمل قيل نعم لكن تلك لم تجب عليه لعجزه بالنوم والنسيان وإنما وجب عليه أن يصلى إذا استيقط وذكر كما نقول في الحائض إذا طهرت

في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم ولم ينقل عن صحابي خلافه وهذا يدل على أن هذا من السنة التي كان الصحابة يعرفونها فإن مثل هذا يقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وقد دل على ذلك الكتاب والسنة حيث جعل الله المواقيت ثلاثة في حق المعذور وهذه معذورة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو يدل على أن الوقت مشترك في حق المعذور فلا يحتاج أن ينوي الجمع كما هو قول الأكثرين أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وقدماء أصحابه لكن الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي ومن وافقه قالوا تجب النية في القصر والجمع وجمهور العلماء على أنه لا تجب النية لا لهذا ولا لهذا وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه وهو الصواب كما بسط في غير هذا الموضع وقضية الحائض مما يبين أن فعل الصلاة في غير وقتها الذي أمر بها

فيه غير ممكن فإن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحائض تؤمر بقضاء الصلاة أمر إيجاب أو أمر استحباب فإذا قيل يسقط القضاء عنها تخفيفا قيل فلو أرادت أن تصلي قضاء لتحصل ثواب الصلاة التي فاتتها لم يكن هذا مشروعا باتفاق العلماء وكان لها أن تصلى من النوافل ما شاءت فإن تلك الصلاة لم تكن مأمورة بها في وقتها والصلاة المكتوبة لا يمكن فعلها إلا في الوقت الذي أمر به العبد فلم يجز فعلها بعد ذلك وكل من كان معذورا من نائم وناس ومخطىء فهؤلاء مأمورون بها في الوقت الثاني فلم يصلوا إلا في وقت الأمر كما أمرت الحائض والمسافر والمريض بقضاء رمضان وقيل في المتعمد لفطره لا يجزيه صيام الدهر ولو صامه قالوا والناسي إنما أمر بالصلاة إذا ذكرها لم يؤمر بها قبل ذلك وذلك هو الوقت في حقه فلم يصل إلا في وقتها وكذلك النائم إذا استيقظ إنما صلى في الوقت قالوا ولم يجوز الله لأحد أن يصلي الصلاة لغير وقتها ولا يقبلها منه في غير وقتها ألبتة وكذلك شهر رمضان وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه قالوا وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذوركالمريض والمسافر والحائض ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك فإنه يجزيه الصيام أما المعتمد للفطر فلا قالوا ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع أهله في رمضان بصوم بل أمره بالكفارة فقط وقد جاء ذكر أمره بالقضاء في حديث ضعيف ضعفه العلماء أحمد بن حنبل وغيره وكذلك جاء في الذي يستقيء عمدا أنه يعيد وهذا لم يثبت رفعه وإنما ثبت أنه موقوف على أبي هريرة وبتقدير صحته فيكون المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الإستقاء أو المريض الذي احتاج إلى أن يستقيء فاستقاء فإن الإستقاءة لا تكون في العادة إلا لعذر وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء بلا حاجة فيكون المستقيء متداويا بالاستقاءة كما يتداوى

بالأكل وهذا يقبل منه القضاء ويؤمر به وهذا الحديث ثابت عن أبي هريرة وإنما اختلف في رفعه وبكل حال هذا معناه فإن أبا هريرة هو الذي روى حديث الأعرابي وحديث من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر فتحمل أحاديثه على الإتفاق لا على الإختلاف وهذا قول طائفة من السلف والخلف وهو قول أبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وهو قول داود بن علي وابن حزم وغيرهم قالوا والمنازعون لنا ليس لهم قط حجة يرد اليها عند التنازع وأكثرهم يقولون لا يجب القضاء إلا بأمر ثان وليس معهم هنا أمر ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها فنقول الصلوات الخمس في غير وقتها المختص والمشترك المضيق والموسع كالجمعة في غير وقتها وكالحج في غير وقته وكرمي الجمار في غير وقتها والوقت صفة للفعل وهو من آكد واجباته فكيف تقبل العبادة بدون صفاتها الواجبة فيها

وهو لو صلى إلى غير القبلة بغير عذر لم تكن صلاته إلا باطلة وكذلك إذا صلى قبل الوقت المشترك لغير عذر مثل أن يصلي الظهر قبل الزوال والمغرب قبل المغيب ولو فعل ذلك متأولا مثل الأسير إذا ظن دخول شهر رمضان فصام ومثل المسافر في يوم الغيم وغيرهما إذا اجتهدوا فصلوا الظهر قبل الزوال أو المغرب قبل الغروب فهؤلاء في وجوب الإعادة عليهم قولان معروفان للعل والنزاع في ذلك في مذهب مالك والشافعي والمعروف من مذهب أحمد أنه لا يجزئهم ولو فعلوا ذلك في الوقت المشترك كصلاة العصر في وقت الظهر والعشاء قبل مغيب الشفق فقياس الصحيح من مذهب أحمد أن ذلك يجزىء فإنه جمع لعذر وهو لا يشترط النية وقد نص على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق أجزأه لجواز الجمع له وإن كان لم يصلها مع المغرب ولهذا يستحب له مع أمثاله تأخير الظهر وتقديم العصر وتأخير المغرب وتقديم العشاء كما نقل عن السلف فدل على أن الثانية إذا فعلت هنا قبل الوقت الخاص أجزأته قالوا فالنزاع في صحة مثل هذه الصلاة كالنزاع في رمي الجمار لا يفعل بعد الوقت قال لهم الأولون ما قستم عليه من الجمعة الحج ورمى الجمار لا يفعل بعد الوقت المحدود في الشرع بحال لا لمعذور ولا لغير معذور فعلم أن هذه الأفعال مختصة بزمان كما هي مختصة بمكان

وأما الصلوات الخمس فيجوز فعلها للمعذور بعد إنقضاء الأوقات فعلم أنه يصح فعلها في غير الوقت وأن الوقت ليس شرطا فيها كما هو شرط في تلك العبادات قال الآخرون الجواب من وجهين أحدهما أن يقال هب أنه يجوز فعل الصلاة بعد وقتها للمعذور توسعة من الله ورحمة وأما النائم والناسي فلا ذنب لهما فوسع الله لهما عند الذكر والانتباه إذا كان لا يمكنهما الصلاة إلا حينئذ فأي شيء في هذا مما يدل على جواز ذلك لمرتكب الكبيرة الذي لا عذر له في تفويتها والحج إذا فاته في عام أمكنه أن يحج في عام قابل ورمي الجمار إذا فاته جعل له بدل عنها وهو النسك والجمعة إذا فايت صلى الظهر فكان المعذور إذا فاتته هذه العبادات المؤقتة شرع له أن يأتي ببدلها ولا إثم عليه رحمة من الله في حقه وأما غير المعذور فجعل له البدل أيضا في الحج لأن الحج يقبل النيابة فإذا مات الإنسان جاز أن يحج عنه وإن كان مفرطا فإذا جاز أن يحج عنه غيره فلأن يجوز أن يأتي هو بالبدل بطريق الأخرى والأولى فإن الدم الذي يخرجه هو أولى من فعل غيره عنه وأما الجمعة إذا فاتته فإنما يصلي الظهر لأنها الفرض المعتاد في كل يوم لا لأنها بدل عن الجمعة بل الواجب على كل أحد إما

الجمعة وإما الظهر فإذا أمكنه الجمعة وجبت عليه وإن لم يمكن صلى الظهر فإذا فاتت الجمعة أمكنه أن يصلي الظهر فوجب عليه صلاة الظهر ولهذا لا يجوز فعلها عند أكثر العلماء إلا إذا فاتت الجمعة وأما الصلاة المكتوبة فلا تدخلها النيابة بحال وكذلك صوم رمضان إن كان قادرا عليه وإلا سقط عنه الصوم وأطعم هو عن كل يوم مسكينا عند الأكثرين وعند مالك لا شيء عليه وأما ما وردت به السنة من صيام الإنسان عن وليه فذاك في النذر كما فسرته الصحابة الذين رووه بهذا كما يدل عليه لفظه فإنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه والنذر في ذمته وهو عليه وأما صوم رمضان فليس في ذمته ولا هو عليه بل هو ساقط عن العاجز عنه فلما كانت الصلوات الخمس وصيام رمضان لا يفعله أحد عن أحد أصلا لم يكن لهما بدل بخلاف الحج وغيره فلهذا وسع الشارع في قضائهما للمعذور لحاجته به إلى ذلك توسعة منه ورحمة وغيرهما لم يوسع في قضائه لأحد لأنه لا حاجة إلى قضائه لما شرع من البدل

إما عبادة أخرى كالظهر عن الجمعة والدم عن واجبات الحج وإما فعل الغير كالحج عن المغضوب والميت فهذا يبين الفرق بين الصلاة والصوم وغيرهما وبين المعذور وغيره ويبين أن من وسع فيهما لغير المعذور كما يوسع للمعذور فقد أخطأ القياس الجواب الثاني أنا لم نفس قياسا استفدنا به حكم الفرع من الأصل فإن ما ذكرناه ثابت بالأدلة الشرعية التي لا تحتاج إلى القياس معها كما تقدم لكن ذكرنا القياس ليتصور الإنسان ما جاء به الشرع في هذا كما يضرب الله الأمثال للتفهيم والتصوير لا لأن ذلك هو الدليل الشرعي والمراد بهذا القياس أن يعرف أن فعل الصلاة بعد الوقت حيث حرم الله ورسوله تأخيرها بمنزلة فعل هذه العبادات والمقصود تمثيل الحكم بالحكم لا تمثيل الفعل بالفعل فيعرف أن المقصود أن الصلاة ما بقيت تقبل ولا تصح كما لا تقبل هذه ولا تصح فإن من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك تهوين أمر الصلاة وأن من فوتها سقط عنه القضاء فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها وهذا لا يقوله مسلم بل من قال إن من فوتها فلا إثم عليه فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولكن تفويت الصلاة عمدا مثل تفويت شهر رمضان عمدا بإجماع المسلمين فأجمع المسلمون كلهم من

جميع الطوائف على أن من قال لا أصلي صلاة النهار إلا بالليل فهو كمن قال لا أصوم رمضان إلا في شوال فإن كان يستجيز تأخيرها ويرى ذلك جائزا له فهو كمن يرى تأخير رمضان جائزا وهذا وهذا يجب استتابتهما باتفاق العلماء فإن تابا واعتقدا وجوب فعل الصلاة والصوم في وقتهما وإلا قتلا وكثير من العامة والجهال يعتقدون جواز تأخيرها إلى الليل بأدنى شغل ويرى أن صلاتها بالليل خير من أن يصليها بالنهار مع الشغل وهذا باطل بإجماع المسلمين بل هذا كفر وكثير منهم لا يرى جوازها في الوقت إلا مع كمال الأفعال وأنه إذا صلاها بعد الوقت مع كمال الأفعال كان أحسن وهذا باطل بل كفر باتفاق العلماء ومن أسباب هذه الإعتقادات الفاسدة تجويز القضاء لغير المعذور وقول القائل إنها تصح وتقبل وإن أثم بالتأخير فجعلوا فعلها بعد الغروب كفعل العصر بعد الإصفرار وذلك جمع بين ما فرق الله ورسوله بينه فلو علمت العامة أن تفويت الصلاة كتفويت شهر رمضان باتفاق المسلمين لاجتهدوا في فعلها في الوقت ومن جملة أسباب ذلك أن رمضان يشترك في صومه جميع الناس والوقت مطابق للعبادة لا يفصل عنها وليس له شروط كالصلاة والصلاة وقتها موسع فيصلي بعض الناس في أول الوقت وبعضهم في

آخره وكلاهما جائز وفيها واجبات يظن الجهال أنه لا يجوز فعلها إلا مع تلك الواجبات مطلقا فيقولون نفعلها بعد الوقت فهو خير من فعلها في الوقت بدون تلك الواجبات فهذا الجهل أوجب تفويت الصلاة التفويت المحرم بالإجماع ولا يجوز أن يقال لمن فوتها لا شيء عليك أو تسقط عنك الصلاة وإن قال هذا فهو كافر ولكن يبين له أنك بمنزلة من زنى وقتل النفس وبمنزلة من أفطر رمضان عمدا إذ أذنبت ذنبا ما بقي له جبران يقوم مقامه فإنه من الكبائر بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر فإذا كان هذا في الجمع من غير عذر فكيف بالتفويت من غير عذر وحينئذ فعليك بالتوبة والإجتهاد في أعمال صحالحة أكثر من قضائها فصل صلوات كثيرة لعله أن يكفر بها عنك ما فوته وأنت مع ذلك على خطر وتصدق فإن بعض الصحابة ألهاه بستانه عن صلاة المغرب فتصدق ببستانه وسليمان بن داود لما فاتته صلاة العصر بسبب الخيل طفق مسحا بالسوق والأعناق فعقرها كفارة لما صنع فمن فوت صلاة واحدة عمدا فقد أتى كبيرة عظيمة فليستدرك بما أمكن من توبة وأعمال صالحة ولو قضاها لم يكن مجرد القضاء رافعا إثم ما فعل بإجماع المسلمين والذين يقولون لا يقبل منه القضاء يقولون نأمره بأضعاف القضاء لعل الله أن يعفو عنه وإذا قالوا لا يجب القضاء إلا بأمر جديد فلأن القضاء تخفيف ورحمة كما في حق المريض والمسافر في رمضان والرحمة والتخفيف تكون للمعذور والعاجز لا تكون

لأصحاب الكبائر المتعمدين لها المفرطين في عمود الإسلام والصلاة عمود الإسلام ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لما سئل عمن وجب عليه الحج فعجز عنه أو نذر صياما أو حجا فمات هل يفعل عنه فقال أرأيت لو كان على أبيك أو أمك دين فقضيته أما كان يجزي عنه قال بلى قال فالله أحق بالقضاء ومراده بذلك أن الله أحق بقبول القضاء عن المعذور من بني آدم فإن الله أرحم وأكرم فإذا كان الآدميون يقبلون القضاء عمن مات فالله أحق بقبوله أيضا لم يرد بذلك أن الله يحب أن تقضى حقوقه التي كانت على الميت وهي أوجب ما يقضى من الدين فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته ولا يجب على أحد فعل ما وجب على الميت من نذر والسائل إنما سأل عن الإجزاء والقبول لم يسأل عن الوجوب فلا بد أن يجاب عن سؤاله فعلم أن الأمر بقضاء العبادات وقبول القضاء من باب الإحسان والرحمة وذلك مناسب للمعذور وأما صاحب الكبيرة المفوت عمدا فلا يستحق تخفيفا ولا رحمة لكن إذا تاب فله

أسوة بسائر التائبين من الكبائر فيجتهد في طاعة الله وعباداته بما أمكن والذين أمروه بالقضاء من العلماء لا يقولون إنه بمجرد القضاء يسقط عنه الإثم بل يقولون بالقضاء يخف عنه الإثم وأما إثم التفويت وتأخير الصلاة عن وقتها فهو كسائر الذنوب التي تحتاج إما إلى توبة وإما إلى حسنات ماحية وإما غير ذلك مما يسقط به العقاب وهذه المسائل لبسطها موضع آخر والمقصود هنا أن ما كان من الشيطان مما لا يدخل تحت الطاقة فهو معفو عنه كالنوم والنسيان والخطأ في الإجتهاد ونحو ذلك وأن كل من مدح من الأمة أولهم وآخرهم على شيء أثابه الله عليه ورفع به قدره فهو مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فالثواب على ما جاء به الرسول والنصرة لمن نصره والسعادة لمن اتبعه وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به والمعلمين للناس دينه والحق يدور معه حيثما دار وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ وإما دين مبدل لم يشرع قط وقد قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

*

فصل
ولما قال السلف إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة كان هذا كلاما حقا. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تسبوا أصحابي يقتضي تحريم سبهم، مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (سورة الحجرات). فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب واللمز العيب والطعن ومنه قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات (سورة التوبة). أي يعيبك ويطعن عليك وقوله الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات (سورة التوبة). وقوله لا تلمزوا أنفسكم (سورة الحجرات). أي لا يلمز بعضكم بعضا كقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا سورةالنور وقوله فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم (سورة البقرة). وقد قال تعالى ويل لكل همزة لمزة الآية سورة الهمزة والهمز العيب والطعن بشدة وعنف ومنه همز الأرض بعقبة ومنه الهمزة وهي نبرة من الصدر وأما الاستغفار للمؤمنين عموما فقد قال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (سورة محمد).
وقد أمر الله بالصلاة على من يموت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين حتى نهى عن ذلك فكل مسلم لم يعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه وإن كان فيه بدعة أو فسق لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه

صلوا على صاحبكم وكذلك قال في الغال صلوا على صاحبكم. وقد قيل لسمرة بن جندب إن ابنك لم ينم البارحة فقال أبشما قالوا بشما قال لو مات لم أصل عليه يعني لأنه يكون قد قتل نفسه وللعلماء هنا نزاع هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم أم هذا الترك يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم مشروع لمن تطلب صلاته وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع لكن بكل حال المسلمون المظهرون للإسلام قسمان إما مؤمنوإما منافق فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والإستغفار له ومن لم يعلم ذلك منه صلى عليه وإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه وصلى عليه من لم يعلم نفاقه وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين الذين عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أنه لا منافاة بين عقوبة الإنسان في الدنيا على ذنبه وبين الصلاة عليه والإستغفار له فإن الزاني والسارق والشارب وغيرهم من العصاة تقام عليهم الحدود ومع هذا فيحسن إليهم بالدعاء لهم في دينهم ودنياهم فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم

وأزواجه أمهاتهم (سورة الأحزاب). وفي قراءة أبي وهو أب لهم والقراءة المشهورة تدل على ذلك فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات والأنبياء أطباء الدين والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي فعل ولهذا قال تعالى كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (سورة آل عمران). قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة أخبر أن هذه الأمة خير الأمم لبني آدم فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم وسوقهم إلى كرامةالله ورضوانه وإلى دخول الجنة وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق وهذا مبني على مسألتين إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل

البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان (سورة الحشر). يقصد كل من

سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام قال الإمام محمد بن نصر المروزي وقد ولى علي رضي الله عنه

قتال أهل البغي وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى وسماهم مؤمنين وحكم فيهم بأحكام المؤمنين وكذلك عمار بن ياسر وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند على حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له أمشركون هم قال من الشرك فروا فقيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال قال رجل من دعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون فقال علي من الشرك فروا قال المنافقون قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم قال حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن

حكيم بن جابر قال قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان أمشركون هم قال من الشرك فروا قيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليل قيل فما هم قال قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم قلت الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم وهم يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ودارهم دار كفر فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم قال الأشعرى وغيره أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا علي قاتلهم لما بدؤوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب وطلب علي منهم قاتله فقالوا كلنا قتلة وأغاروا على ماشية الناس ولهذا قال فيهم قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم وقال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ولا يندفع شرهم إلا بالقتال فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق فإن إولئك إنما مقصودهم المال فلو

أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ومع هذا فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه يقولون لا نكفر إلا من يكفر فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك لأن هذا حرام لحق الله تعالى ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسبح المسيح والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا قال إسحاق بن راهويه حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال

لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال ما كان أغناه عن ذلك وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم قال هم مؤمنون وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال مر علي وهو متكىء على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر إنا لله وإنا اليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا قال علي والآن هو مؤمن قال وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والإجتهاد قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال قال علي متى ينبعث أشقاها قيل من أشقاها قال الذي يقتلني فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي رضي الله عنه وهم المسلمون بقتله فقال لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه فقال إنك ميت قال وما يدريك قال كان سيفي مسموما

وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال إنا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال كفر والله أهل الشام فقال عمار لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال قال عمار بن ياسر لا تقولوا كفر أهل الشام قولوا فسقوا قولوا ظلموا قال محمد بن نصر وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان هو كافر خبر باطل لا يصح لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكارا قلت والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه عليرضي الله عنه وقال أتكفر برب آمن به عثمان وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا فقد رجع عنه حين بين له علي رضي الله عنه أنه قول باطل ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17