كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبا منه التطهير وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى

وقوله وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية (سورة المجادلة). والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف

والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه

منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان

والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك

وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليهوسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة). وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلى أمك وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق

و أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله (سورة التوبة). وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذاولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم

الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقداروالنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء

فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمرفأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت

أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دونبعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق

وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم

وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمروبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله

عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعانعلى قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله

أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين

ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب

القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليهكما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر على علي منعه وإلا

فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم

ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر

هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون

الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من

أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه

وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصةومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام وإن قيل فقد اختلف في صفته قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على

أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه

كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه وكانت البيعة

بسببه فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (سورة آل عمران). فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناتهفصل قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا عني لا ينبغي عند التنازع الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه

أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم

ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم وهذا طاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث

شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص

من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل

عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجهوقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا

وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر

وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). قال ابن عباس كان بين آدم

ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (سورة يونس). وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (سورة هود). وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (سورة البقرة). وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة).

وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (سورة آل عمران). فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (سورة المائدة). وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (سورة المائدة). وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف

والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا (سورة آل عمران). فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها وأما ما وقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم

وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (سورة الأنفال). وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنةوقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية (سورة الحجرات). فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهميعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وأمثال ذلك كثير الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك

الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (سورة الحجرات). لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في

شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة

هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول

الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبيصلى الله عليه وسلم يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم

يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (سورة الأحزاب). فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه

وأما قوله الخلاف الثالث في موته فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية (سورة آل عمران). قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويتإلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم

أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة

وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه على وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد

رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع

وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل

عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع

لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه

يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل

فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (سورة النجم). والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة

وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره

والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس

وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه

وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة

وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن

عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما

وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر

والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمى المختار

ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا

على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر

هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان

وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليهوسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم

لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين

وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمأمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم

ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا

والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر

فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت

فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث

والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحقالنفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه


وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلكونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى

الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ((سورة الزمر).). وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وتوليته مصر فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما

يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان صلى الله عليه وسلم أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلى فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين

ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم موده والله قدير والله غفور رحيم (سورة الممتحنة). فجعل بين أولئك وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرتهفي أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب

القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قالفانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان

وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة

وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (سورة آل عمران). كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام

بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من

غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم

كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك (سورة هود). فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار

وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى

بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن

الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض

ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحةخلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر

وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب

أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر

عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن

إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا

هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو

أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من

أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة

فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور.
*

فصل
قال الرافضي: الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول صلى الله عليه وسلم. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج.
المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة

غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام.
*والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة...
أما الأولى: فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية.
فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و لا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر

وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي فنقول هذا الكلام باطل من وجوه أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد

منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه

وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه و علماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول

الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل

العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره

فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به

واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم ثم الذنوب قسمان منها ذنوب ظاهرة كظلم الناس والفواحش الظاهرة فهذه تخاف الناس فيها من عقوبة ولاة أمورهم أعظم مما يخافه الإمامية من عقوبة المنتظر فعلم أن اللطف الذي أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به كما يحصل في حال الظهور فهذه مكابرة ظاهرة فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور

وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره قياس فاسد فإن المعرفة بأن الله موجود حى قادر يأمر بالطاعة ويثيب عليها وينهى عن المعصية ويعاقب عليها من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه بفعل المأمور وترك المحظور والرهبة من عقابه إذا عصى لعلم العبد بأنه عالم قادر وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة وأنه لم يعاقب أحدا وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر فضلا عن أن يأمر وينهى فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا بل لو قدر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر بل ولو قيل إنه يظهر في كل عشر سنين بل ولو ظهر في السنة مرة فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت بل هؤلاء مع

ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور شرع الله بهم وما يفعلونه من العقوبات وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس فضلا عن ولاة أمرهم وأي هيبة لهذا وأي طاعة وأي تصرف وأي يد منبسطة حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا وأن مجرد هذه المعرفة لطف كما أن معرفة الله لطف الوجه الثاني أن يقال قولكم لا بد من نصب إمام معصوم يفعل هذه الأمور أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفا بهذه الصفات أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك فإن أردتم الأول فالله لم يخلق أحدا متصفا بهذه الصفات فإن غاية ما عندكم أن تقولوا إن عليا كان معصوما لكن الله لم يمكنه ولم يؤيده

لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه بل أنتم تقولون إنه كان عاجزا مقهورا مظلوما في زمن الثلاثة ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله الذين هم عندكم ظلمة فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله وإن قلتم إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه قلنا أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك سواء كانوا مطيعين أو عصاة وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد لا من الله ولا من الناس وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل مابه تحصل المصالح بل حصل أسباب ذلك وذلك لا يفيد المقصود الوجه الثالث أن يقال إذا كان لم يحصل مجموع مابه تحصل هذه المطالب بل فات كثير من شروطها فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة وإذا كان المقصود فائتا إما بعدم العصمة وإما بعجز المعصوم فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا فمن أين يعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده وقد خلقه عاجزا لا يقدر على تلك المصالح بل حصل به من الفساد مالم يحصل إلا بوجوده

وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى إذ كان وجوده لم يدفع شيئا من الشر حتى يقال وجوده دفع كذا بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور وعادوا شيعته وظلموه وظلموا أصحابه وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله بتقدير أن يكون معصوما فإنه بتقدير أن لا يكون علي رضي الله عنه معصوما ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة معصومين وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير وإذا قيل هذا الشر حصل من ظلم الناس له قيل فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم لم يكن خلقه حكمة بل سفها وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده فهل يفعل هذا حكيم ومثل أن يبنى إنسان خانا في الطريق لتأوى إليه القوافل ويعتصموا

به من الكفار وقطاع الطريق وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا والقطاع مأوى لهم ومثل من يعطى رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين وهو يعلم أنه إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية فلما كان أولئك يوجبون على الله الصلاح والأصلح أخذ هؤلاء ذلك منهم وأصل أولئك في أنه يجب على الله أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه وهو أصل فاسد وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم في دينهم ودنياهم والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال فالقدرية يقولون يجب على الله رعاية الأصلح أو الصلاح في كل شخص معين ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس فيما يجب عليه ويحرم عليه وكانوا هم مشبهة الأفعال فغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين مصلحة آحاد الناس التي قد تكون مستلزمة لفساد عام ومضاده لصلاح عام

والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة بل عندهم يفعل بمشيئة محضة لا لها حكمة ولا رحمة والجهم بن صفوان رأس هؤلاء كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا يريد أنه ليس له رحمة فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين والثالث قول الجمهور إن الله عليم حكيم رحيم قائم بالقسط وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما يشهد به الاعتبار حسا وعقلا وذلك واقع منه بحكمته ورحمته وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم بل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وليس لمخلوق عليه حق إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة كقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين (سورة الروم). وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره وهذا متفق عليه بين المسلمين وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح يقولون إنما خلقهم لتعريضهم للثواب

فإذا قيل لهم فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له بل يفعل ما يضره فكان كمن يعطى شخصا مالا لينفقه في سبيل الله وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم قالوا المكلف إنما أتى من جهة نفسه فهو الذي فرط بترك الطاعة أجابهم أهل السنة بجوابين أحدهما مبني على إثبات العلم والثاني مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة وأنه خالق كل شيء فقالوا على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم يحصل لم يكن فعله حكمة وإن كان بتفريط غيره والثاني أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير فيقولون إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع

فيقولون يجب عليه كذا فلا بد أن يكون قد فعل الواجب وليس هذا إلا هكذا والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا لم يمكن إثبات لازمها وهو الوسيلة فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا لم يمكن إثبات لازمه ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا أو نقول الواجب من الجملة لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب معاوية وقول الرافضة من جنس قول النصارى إن الإله تجسد ونزل وإنه أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفره لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك لهم فقيل لهم إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاد على ما كان فكيف يفعل شيئا لمقصود والحاصل إنما هو ضد المقصود الوجه الخامس إذا كان الانسان مدنيا بالطبع وإنما وجب نصب

المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة فهل تقولون إن لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم وإن قلتم بل نقول هو في كل مدينة واحد وله نواب في سائر المدائن قيل فكل معصوم له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها فإن قلتم في الجميع كان هذا مكابرة وإن قلتم في البعض دون البعض قيل فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة الوجه السادس أن يقال هذا المعصوم يكون وحده معصوما أو كل من نوابه معصوما وهم لا يقولون بالثاني والقول به مكابرة فإن نواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين ولا نواب علي بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نواب معاوية لأميرهم فأين العصمة وأن قلت يشترط فيه وحده قيل فالبلاد الغائبة عن الإمام لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرا على قهر نوابه بل هو عاجز ماذا ينتفعون بعصمة الإمام وهم يصلون

خلف غير معصوم ويحكم بينهم غير معصوم ويطيعون غير معصوم ويأخذ أموالهم غير معصوم فإن قيل الأمور ترجع إلى المعصومين قيل لو كان المعصوم قادرا ذا سلطان كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم لم يتمكن أن يوصل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو وغاية ما يقدر عليه أن يولى أفضل من يقدر عليه لكن إذا لم يجد إلا عاجزا أو ظالما كيف يمكنه تولية قادر عادل فإن قالوا إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف قيل فإذا لم يجب على الله أن يخلق قادرا عادلا مطلقا بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه فكذلك الناس عليهم أن يولوا أصلح من خلقه الله تعالى وإن كان فيه نقص إما من قدرته وإما من عدله وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إليك اشكو جلد الفاجر وعجز الثقة وما ساس العالم أحد مثل عمر فكيف الظن بغيره هذا إذا كان المتولى نفسه قادرا عادلا فكيف إذا كان المعصوم عاجزا بل كيف إذا كان مفقودا من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم ومن الذي يلزمها بطاعته حتى تطيعه وإذا أظهر بعض نوابه

طاعته حتى يوليه ثم أخذ ما شاء من الأموال وسكن في مدائن الملوك فأي حيلة للمعصوم فيه فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود إذا كان ذا سلطان فكيف إذا كان عاجزا مقهورا فكيف إذا كان مفقودا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد فكيف إذا كان معدوما لا حقيقه له الوجه السابع أن يقال صد غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه فإذا كان عاجزا مقهورا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه ولا استيفاء حقه من ولاية ومال لا حق امرأته من ميراثها فأي ظلم يدفع وأي حق يوصل فكيف إذا كان معدوما أوخائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية او مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه وهو دائما على هذه الحال أكثر من اربعمائة وستين سنة والأرض مملوءة من الظلم والفساد وهو لا يقدر أن يعرف بنفسه فكيف يدفع الظلم عن الخلق أو يوصل الحق إلى المستحق وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا (سورة الفرقان). الوجه الثامن أن يقال الناس في باب ما يقبح من الله على قولين منهم من يقول الظلم ممتنع منه وفعل القبيح مستحيل ومهما

فعله كان حسنا فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال يحسن منه كذا فضلا عن القول بالوجوب والقول الثاني قول من يقول إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه كما قال في الصحيح يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ويقول إن ذلك واجب بالعقل وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ولم يخل بواجب فقد فعل ما يجب عليه وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا وهو المطلوب وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى حتى يحصل بالمجموع المطلوب فهو لم يخلق ذلك المجموع سواء كان لم يخلق شيئا منه أو لم يخلق بعضه والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير فلزم علي التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير وإن قيل إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له

قيل إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ولم يخلقها فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم فلا تكون واجبه عليه وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف فكيف في حق الله وما لا يتم الوجوب إلا به وهو غير موجود فليس الأمر حينئذ بواجب ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره إلا إذا أعانه ذلك الغير كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل معه ذلك ودفع الظلم عن المظلوم إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له فإذا قالوا إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده الحاصلة بخلق المعصوم وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده وإن قيل يخلقه لعل بعض الناس يطيعه قيل أولا هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور

وقيل ثانيا إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل أمكن أن يخلق غير المعصوم يكون عادلا في كثير من الأوقات أو بعضها فإن حصول المقصود ممن يعدل في كثير من الأمور ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ولا يدفع شيئا من الظلم فإن هذا لا مصلحة فيه بحال وإن قالوا الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له قيل أولا إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم ويقال ثانيا ليس كل الناس عصاه بل بعض الناس عصوه ومنعوه وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته فإذا قيل أولئك الظلمة منعوا هؤلاء قيل فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم على قولهم وإن لم يكن ذلك مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا التقدير إنه يمكن خلق معصوم غير نبي

وهذا لازم لهم فإنهم إن قالوا إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته وإن قالوا ليس خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد فلا يقدر على جعله معصوما وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما على قول القدرية فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات غير مريد للسيئات فإذا كان هو المحدث للإرادة والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما وإذا قالوا يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإن لم يكن ملجئا لم ينفع وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعله بجميع العبادة فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم الوجه التاسع أن يقال حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه وينفرد بأمور

كثيرة من الظلم والفساد والمعصوم لا يعلمها وإن علمها لا يقدر على إزالتها فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك الوجه العاشر أن يقال المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة مما لو عدموا ولم يقم مقامهم أم المقصود بهم وجود صلاح لا فساد معه أم مقدار معين من الصلاح فإن كان الأول فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما حصل على عهد علي وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر وهذا حاصل بملوك والترك والهند أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقب صاحب الزمان فإنه ما من أمير يتولى ثم يقدر عدمه بلا نظير إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه كما قد قيل ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام وإن قيل بل المطلوب وجود صلاح لا فساد معه قيل فهذا لم يقع ولم يخلق الله ذلك ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة فمن أوجب ذلك وأوجب ملزوماته على الله كان إما مكابرا لعقله وإما ذاما لربه وخلق ما يمكن معه وجود ذلك لا يحصل به ذلك إن لم يخلق مايكون به ذلك

ومثل هذا يقال في أفعال العباد لكن القول في المعصوم أشد لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته بل عن قدرة الله عند هؤلاء الذين هم معتزلة رافضة فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له الوجه الحادي عشر أن يقال قوله لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيقال له لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ لكن إذا أخطأ بعض الأمة نبهه الإمام أو نائبه أو غيره وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك وتكون العصمة ثابتة للمجموع لا لكل واحد من الأفراد كما يقوله أهل الجماعة وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة قد يجوز الغلط على الواحد منهم ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم

ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير في حال اجتماعهم على الشىء المعين فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفردا فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى فعلم أن اثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام فلا تتعين عصمة الإمام ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين مع اختلاف اجتهاداتهم إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد فحصوله بالأخبار المتواترة أولى ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها إلا أن يشترك هو وهم فيها فلا يمكنه أن يقيم الحدود ويستوفى الحقوق ولا يوفيها ولا يجاهد عدوا إلا أن يعينوه بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم فإذا كانوا مشاركين

له في الفعل والقدرة لا ينفرد عنهم بذلك فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه فيعاونهم ويعاونونه وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم الوجه الثاني عشر أن يقال العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان علم كلي كإيجاب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك وعلم جزئي كوجوب الزكاة على هذا ووجوب إقامة الحد على هذا ونحو ذلك فأما الأول فالشريعة مستقلة به لا تحتاج فيه إلى الإمام فإن النبي إما أن يكون قد نص على كليات الشريعة التي لا بد منها أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس فإن كان الأول ثبت المقصود وإن كان الثاني فذلك القدر يحصل بالقياس وإن قيل بل ترك فيها مالا يعلم بنصه ولا بالقياس بل بمجرد قول المعصوم كان هذا المعصوم شريكا في النبوة لم يكن نائبا فإنه إذا

كان يوجب ويحرم من غير إسناد إلى نصوص النبي كان مستقلا لم يكن متبعا له وهذا لا يكون إلا نبيا فأما من لا يكون إلا خليفة لنبي فلا يستقل دونه وأيضا فالقياس إن كان حجة جاز إحالة الناس عليه وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات وأيضا فقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (سورة المائدة). وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال منهم من يقول النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة فلا حاجة إلى القياس بل لا يجوز القياس ومنهم من يقول بل كثير من الحوادث لا يتناولها النصوص فالحاجة داعية إلى القياس ومن هؤلاء من قد يدعي أن أكثر الحوادث كذلك وهذا سرف منهم ومنهم من يقول بل النصوص تناولت الحوادث بطرق جلية أو خفية فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلة أو لا يبلغه النص فيحتاج إلى القياس وإن كانت الحوادث قد تناولها النص أو يقول إن كل واحد من عموم النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك

إليه ما أمكنه وهما متفقان لا يتناقضان إلا لفساد أحدهما وهذا القول أقرب من غيره وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه ولكل حاكم على عدالة كل شاهد وأمثال ذلك وإذا كان كذلك فإن ادعوا عصمة الإمام في الجزئيات فهذه مكابرة ولا يدعيها أحد فإن عليا رضي الله عنه كان يولى من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين ثم قالا أخطأنا فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ففى الصحيحين عنه أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد ادعى قوم من أهل الخير على ناس من أهل الشر يقال لهم

بنو أبيرق أنهم سرقوا لهم طعاما ودروعا فجاء قوم فبرأوا أولئك المتهمين فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أولئك المبرئين لهم حتى أنزل الله تعالى عليه إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما الآيات (سورة النساء). وبالجملة الأمور نوعان كلية عامة وجزئية خاصة فأما الجزئيات الخاصة كالجزئى الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة ووقوع الطلاق بهذا الزوج وإقامة الحد على هذا المفسد وأمثال ذلك فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم فالإمام لايمكنه الأمر والنهي لجميع رعيته إلا بالقضايا الكلية العامة وكذلك إذا ولى نائبا لا يمكنه أن يعهد إليه إلا بقواعد كلية عامة ثم النظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولى واجتهاده وقد يصيب تارة ويخطىء أخرى فإن اشترط عصمة كل واحد اشترط عصمة النواب في تلك الأعيان وهذا منتف بالضرورة واتفاق العقلاء وإن اكتفى بالكليات فالنبي يمكنه أن ينص على الكليات كما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ما يحرم من النساء وما يحل فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته كما ذكر هؤلاء الأربع في (سورة الأحزاب). وكذلك في الأشربة حرم كل مسكر دون مالا يسكر وأمثال ذلك بل قد حصر المحرمات في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش

ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (سورة الأعراف). فكل ما حرم تحريما مطلقا عاما لا يباح في حال فيباح في أخرى كالدم والميتة ولحم الخنزير وجميع الواجبات في قوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). الآية فالواجب كله محصور في حق الله وحق عبادة وحق الله على عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقوق عباده العدل كما في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم على الله أن لا يعذبهم ثم إنه سبحانه فصل أنواع الفواحش والبغي وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر ففصل المواريث وبين من يستحق الإرث ممن لا يستحقه وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب وبين ما يحل من المناكح وما يحرم وغير ذلك فإن كان يقدر على نصوص كلية تتناول الأنواع فالرسول أحق بهذا من الإمام وإن قيل لا يمكن فالإمام أعجز عن هذا من الرسول

والمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها لا لرسول الله ولا إمام بل لا بد فيها من الاجتهاد والمجتهد فيها يصيب تارة ويخطىء أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكما قال لسعد بن معاذ وكان حكما في قضية معينة يؤمر فيها الحاكم أن يختار الأصلح فلما حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية من بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وكما كان يقول لمن يرسله أميرا على سرية أو جيش إذا حاصرت أهل الحصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك والأحاديث الثلاثة ثابتة في الصحيح فتبين بذلك أنه لا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول ولله الحمد والمنة والواقع يوافق هذا وإنا رأينا كل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كانت مصلحتهم في الدنيا والدين أكمل وكل من كان أبعد من ذلك كان بالعكس ولما كانت الشيعة أبعد الناس عن اتباع المعصوم الذي لا ريب في

عصمته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد الذي فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والنور والظلمة وأهل السعادة وأهل الشقاوة وجعله القاسم الذي قسم به عباده إلى شقى وسعيد فأهل السعادة من آمن به وأهل الشقاوة من كذب به وتولى عن طاعته فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتباع هذا المعصوم فلا جرم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم حتى يوجد ممن هو تحت سياسة أظلم الملوك وأضلهم من هو أحسن حالا منهم ولا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس منهم ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة منها هذا أنه ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة فلا يعيشون في الأرض إلا بأن يتمسكوا بحبل بعض ولاة الأمور الذي ليس بمعصوم ولا بد لهم من نسبة إلى الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم فما جاء به الكتاب والسنة يشهد له ما يرينا الله من الآيات في الآفاق وفي أنفسنا قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سورة فصلت).

ومما أرانا أن رأينا آثار سبيل المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم أصلح في دينهم ودنياهم من سبيل الإمام المعصوم بزعمهم وإن زعموا أنهم متبعون للرسول فهم من أجهل الناس بأقواله وأفعاله وأحواله وهذا الذي ذكرته كل من استقرأة في العالم وجده وقد حدثني الثقات الذين لهم خبرة بالبلاد الذين خبروا حال أهلها بما يبين ذلك ومثال ذلك أنه يوجد في الحجاز وسواحل الشام من الرافضة من ينتحلون المعصوم وقد رأينا حال من كان بسواحل الشام مثل جبل كسروان وغيره وبلغنا أخبار غيرهم فما رأينا في العالم طائفة أسوأ من حالهم في الدين والدنيا ورأينا الذين هم تحت سياسة الملوك على الإطلاق خيرا من حالهم فمن كان تحت سياسة ملوك الكفار حالهم في الدين والدنيا أحسن من أحوال ملاحدتهم كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم من الغلاة الذين يدعون الإلهية والنبوة في غير الرسول أو يتخلون عن هذا كله ويعتقدون دين الإسلام كالإمامية والزيدية فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا حاله خير من حالهم فإن الأمر الذي يشترك

فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه وأما الأمر الذي يشترك فيه الرافضة ويمتازون عن به أهل السنة فلا تقوم به مصلحة مدينة واحدة ولا قربة ولا تجد أهل مدينة ولا قرية يغلب عليهم الرفض إلا ولا بد لهم من الاستعانة بغيرهم إما من أهل السنة وإما من الكفار وإلا فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم قط كما أن اليهود وحدهم لا يقوم أمرهم قط بخلاف أهل السنة فإن مدائن كثيرة من أهل السنة يقومون بدينهم ودنياهم لا يحوجهم الله سبحانه وتعالى إلى كافر ولا رافضي والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم رافضي بل بنو أمية بعدهم مع إنحراف كثير منهم عن علي وسب بعضهم له غلبوا على مدائن الإسلام كلها من مشرق الأرض إلى مغربها وكان الإسلام في زمنهم أعز منه فيما بعد ذلك بكثير ولم ينتظم بعد انقراض دولتهم العامة لما جاءتهم الدولة العباسية صار إلى الغرب عبد الرحمن بن هشام الداخل إلى المغرب الذي يسمى صقر قريش واستولى هو ومن بعده على بلاد الغرب وأظهروا الإسلام فيها

وأقاموه وقمعوا من يليهم من الكفار وكانت لهم من السياسة في الدين والدنيا ما هو معروف عند الناس وكانوا من أبعد الناس عن مذاهب أهل العراق فضلا عن أقوال الشيعة وإنما كانوا على مذهب أهل المدينة وكان أهل العراق على مذهب الأوزاعي وأهل الشام وكانوا يعظمون مذهب أهل الحديث وينصره بعضهم في كثير من الأمور وهم من أبعد الناس عن مذهب الشيعة وكان فيهم من الهاشميين الحسينيين كثير ومنهم من صار من ولاة الأمور على مذهب أهل السنة والجماعة ويقال إن فيهم من كان يسكت ممن علي فلا يربع به في الخلافة لأن الأمة لم تجتمع عليه ولا يسبونه كما كان بعض الشيعة يسبه وقد صنف بعض علماء الغرب كتابا كبيرا في الفتوح فذكر فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وفتوح الخلفاء بعده أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر عليا مع حبه له وموالاته له لأنه لم يكن في زمنه فتوح وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج

وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه (سورة آل عمران). ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه

وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين (سورة آل عمران). وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن (سورة آل عمران). كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من

اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (سورة آل عمران). قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون

عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله (سورة غافر). وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه

والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر). وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع

من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم

ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات

الوجه الثالث عشر أن يقال العصمة الثابتة للإمام أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره أم هي خلق الإرادة له أم سلبة القدرة على المعصية فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة وإن قلتم سلب القدرة على المعصية كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف والمقعد عن المشي والعاجز عن الشيء لا ينهى عنه ولا يؤمر به وإذا لم يؤمر وينه لم يستحق ثوابا على الطاعة فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية بل ولا على فعل طاعة وهذا غاية النقص وحينئذ فأي مسلم فرض كان خيرا من هذا المعصوم إذا أذنب ثم تاب لأنه بالتوبة محيت سيئاته بل بدل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة فكان ثواب المكلفين خيرا من المعصوم عند هؤلاء وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة

وأما المقدمة الثانية فلو قدر أنه لا بد من معصوم فقولهم ليس بمعصوم غير علي اتفاقا ممنوع بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر وربما عبروا هو ذلك بقولهم الشيخ محفوظ وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم وهم غير الاثنى عشر وأيضا فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك وكلامهم في ذلك معروف كثير وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن العزيز فجاء إليه جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه اذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات

ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا وأن من أطاعه فقد أطاع الله ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال طاعة شامية وحينئذ فهؤلاء يقولون إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به وليس فيهم شيعة بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به وأنه تجب طاعته وأن الله يثيبه على ذلك ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه وحينئذ فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال كل من هذه الطوائف إذا قيل لها إنه لا بد لها من إمام معصوم تقول يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به لا احتاج إلى عصمة الأثنى عشر لا علي ولا غيره ويقول هذا شيخي وقدوتي وهذا يقول إمامي الأموي والإسماعيلي بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك كائنا من كان ويتأولون قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فإن قيل هؤلاء لا يعتد بخلافهم قيل هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية

وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا ينتفع به بحال فهم بكل حال خير من الرافضة وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم لم تدع العصمة إلا في علي وأهل بيته فإن قيل لم يكن في الصحابة من يدعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان قيل إن لم يكن فيهم من يدعي العصمة لعلي بطل قولكم وإن كان فيهم من يدعي العصمة لعلي لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة بل دعوى العصمة لهؤلاء أولى فإنا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضلون أبا بكر وعمر بل على نفسه كان يفضلهما عليه كما تواتر عنه وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة علي فإن قيل فهذا لم ينقل عنهم قيل لهم ولا نقل عن واحد منهم القول بعصمة علي ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا لكن نقول ما يمكن أحدا أن ينفي نقل أحد منهم بعصمة أحد الثلاثة مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدعيه ولا ينقله عن واحد منهم وحينئذ فلا يعلم زمان أدعى فيه العصمة لعلي أو لأحد من الاثنى عشر

ولم يكن من ذلك الزمان من يدعي عصمة غيرهم فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة علي الوجه الرابع عشر أن يقال إما أن يجب وجود المعصوم في كل زما أن لا يجب فإن لم يجب بطل قولهم وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة بل إذا كان هذا القول حقا لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر وأنهما أحق بالعصمة من علي فإن كانت العصمة ممكنة فهي إليهما أقرب وإن كانت ممتنعة فهي عنه أبعد وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة إلا مع انتفائها عن علي فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي فهذا ليس قول أحد من أهل السنة وهذه كنبوة موسى وعيسى فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين وإذا قيل إن الإيمان بمحمد مستلزم للإيمان بهما وكذلك

الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد وهكذا نفى العصمة وثبوت الإيمان والتقوى وولاية الله فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم وإذا قال الرافضى لهم الإيمان ثابت لعلي بالإجماع والعصمة منتفية عن الثلاثة بالإجماع كان كقول اليهودي نبوة موسى ثابتة بالإجماع أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع والمسلم يقول نفى الإلهية عن محمد وموسى كنفيها عن المسيح فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح وإذا قال النصراني اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ولم يدع ذلك إلا في المسيح كان كتقرير الرافضى أنه لا بد من إمام معصوم ولم يدع ذلك إلا لعلي ونحن نعلم بالاضطرار أنه ليس لعيسى مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد كما يعلم بالاضطرار أن عليا لم يكن له مزية يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ومن أراد التفريق منعناه ذلك وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء

وإذا قال أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة قلنا نعتقد انتفاء العصمة عن علي ونعتقد أن انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة وهو أن يقال من أين علمتم أن عليا معصوم ومن سواه ليس بمعصوم فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم قيل لهم إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون بالإجماع ويردون كون الإجماع حجة فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته كان القول في ذلك

كالقول في تواتر النص على إمامته وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر الجواب الرابع أن يقال الإجماع عندهم ليس بحجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم فلا يثبت واحد منهما فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون فإن الإجماع عندهم ليس بحجة بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم فإن قول المعصوم وحده هو الحجة فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل حتى يعلم أن قوله حجة فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم فيصير هذا مصادرة على المطلوب ويكون حقيقة قولهم فلان معصوم لأنه قال إني معصوم فغذا قيل لهم بم عرفتم أنه معصوم وأن من سواه ليسوا معصومين قالوا بأنه قال أنا معصوم ومن سواى ليس بمعصوم وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله فلا يكون حجة وصار هذا كقول القائل أنا صادق في كل ما أقوله فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقه فيما يقوله

وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية فإنهم يدعون إلى الإمام المعلم المعصوم ويقولون إن طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت بالنبوة ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ فقالوا لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية من المعصوم وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن يقرون بالنبوات في الظاهر والشرائع ويدعون أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه الناس منها ويقولون بسقوط العبادات وحل المحرمات للخواص الواصلين فإن لهم طبقات في الدعوة ليس هذا موضعها وإنما المقصود أن كلتا الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول لكن الاثنى عشرية يجعلون المعصوم أحد الأثنى عشر وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها وهؤلاء ملاحدة كفار

والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن إلا من كان منهم ملحدا فإن كثير من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم إما متفلسف ملحد وإما غير ذلك ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية وهكذا أهل كل دين تجد فضلاءهم في الغالب إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق وإما أن يصيروا ملاحدة مثل كثير من علماء النصارى هم في الباطن زنادقة ملاحدة وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة فالكلام في تعينه فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه وما الدليل على أن هذا هو

المعصوم دون غيره لم يأت بحجة أصلا وتناقضت أقواله وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح وبني عليه أنه لا بد من معصوم وهي أقوال فاسدة ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته إني معصوم فإن قيل إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم فإذا قال علي أني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم لأنه لم يدع هذا غيره قيل لهم لو قدر ثبوت معصوم في الوجود لم يكن مجرد قول شخص أنا معصوم مقبولا لإمكان كون غيره هو المعصوم وإن لم نعلم نحن دعواه وإن لم يظهر دعواه بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم كما جاز للمنتظر أن يخفى نفسه خوفا من الظلمة وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثنى عشر وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه كما أدعوا مثل ذلك في المنتظر فلم لم يبق معهم دليل على التعيين لا إجماع ولا دعوىومع هذا كله بتقدير دعوى على العصمة فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك وحاشاه من ذلك وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم إني معصوم فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة فلا يمكن أحد أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك بل النقول المتواترة عنه تنفى اعتقاده في نفسه العصمة وهذا جواب سادس فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن فقال له عبيدة السلماني قاضيه رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره وعلي يقره على ذلك وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده كأمثاله من الصحابة وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة

ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة فيقولون قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود وجمع بعده محمد بن نصر المروزي كتابا أكبر من ذلك بكثير ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة كأصحاب أبي حنيفة محمد بن الحسن وأمثاله فإن أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه لم يدرك أبا يوسف ولا ناظره ولا سمع منه بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق توفي سنة ثلاث وثمانين وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه

وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيرة احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعوف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعضفصل قال الرافضى الوجه الثاني أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولادائه إلى التنازع والتشاجر والتشاجر فيؤدى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس

وحينئذ فقوله غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعى مثل هذا الإجماع ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى وهنا جواب رابع وهو أن نقول الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعى له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها وجواب خامس وهو أن يقال ما تعنى بقولك يجب أن يكون منصوصا عليه لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي

فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي وأما قوله إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر فيقال النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لمينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين فإن قيل إن كان لهم هوى منعوا ذلك بدلالة النصوص قيل وإذا كان لهم هوى عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها كما ادعيتم أنتم عليهم فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا ومع العناد لا ينفع هذا ولا هذا وجواب سادس أن يقال النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات فإذا قلتم لا بد من النص على الإمام إن أردتم النص على العام الكلي على ما يشترط للإمام وما يجب عليه وما يجب له كالنص على الحكام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد وغير هؤلاء ممن يتقلد شيئا من أمور المسلمين فهذه النصوص ثابتة ولله الحمد كثيره كما هي ثابتة على سائر الأحكام وإن قلتم لا بد من نص على أعيان من يتولى

قيل قد تقدم أن النص على جزئيات الأحكام لا يجب بل ولا يمكن والإمامة حكم من الأحكام فإن النص على كل من يتولى على المسلمين ولاية ما إلى قيام الساعة غير ممكن ولا واقع والنص على معين دون معين لا يحصل به النص على كل معين بل يكون نصا على بعض المعينين وحينئذ فإذا قيل يمكن النص على إمام ويفوض إليه النص على من يستخلفه قيل ويمكن أن ينص على من يستخلفه الإمام وعلى من يتخذه وزيرا والنص على ذلك أبلغ في المقصود وأيضا فالإمام المنصوص على عينه أهو معصوم فيمن يوليه أو ليس بمعصوم فإن كان معصوما لزم أن يكون نوابه كلهم معصومين وهذا كله باطل بالضرورة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يستخلف غير معصوم فلا يحصل المقصود في سائر الأزمنة بوجود المعصوم فإن قيل هو معصوم فيمن يستخلفه بعده دون من يستخلفه في حياتهقيل الحاجة داعية إلى العصمة في كليهما وعلمه بالحاضر أعظم من علمه بالمستقبل فكيف يكون معصوما فيما يأتي وليس معصوما في الحاضر فإن قيل فالنص ممكن فلو نص النبي صلى الله عليه وسلم على خليفة قيل فنصه على خليفة بعده كتولية واحد في حياته ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا وجواب سابع وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضى إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فيقال الأمر بالعكس فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود

وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض وجواب ثامن وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثنى عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولوه وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر الثالث أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر الرابع أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر الخامس أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده السادس أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعلخلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون السابع أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر وهنا جواب تاسع وهو أن يقال ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة

بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل الأمور وجواب عاشر وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعه الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه وإن قيل كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما والعصمة منتفية عن غير الرسول وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة وذلك من أفسد الأقوال فكذلك هذا أعنى النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولى في كل مايقوله من غير رد ما يقوله الكتاب إلى الكتابة والسنة إذا نوزع

وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين فإن الدين محفوظ بدونه وبالجملة فالنص على معين إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه وليس لأحد أن ينازعه في شىء كما ليس له أن ينازع الرسول وأنه يستبد بالأحكام والأمة معه كما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون لأحد بعد الرسول ولا يمكن هذا لغيره فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول فلم يبق سبيل إلى مماثلته لا من جهته ولا من جهة الرب تعالى وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ويعهد إليهم في ذلك فهذا إذا علم أن الأمة تفعله كان تركه خيرا

من فعله وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره كان الأمر أولى به ولهذا لما خشى عليهم أبو بكر رضي الله عنه أن يختلفوا بعده عهد إلى عمر ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك كما في الصحيحين أنه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فعلم أن الله لا يولى إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة ودل على علمها ودينها فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف كما كان أبو سفيان وغيره

يختارون ذلك فلو ألزم المهاجرين والأنصار بهذا لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا وآخرا وموافقته له باطنا وظاهرا فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه

لا قرشى ولا أنصارى فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق

بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهمفصل قال الرافضى الثالث أن الإمام يجب أن يكرن حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان

وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنهإذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند من يقر بنبوته فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام

فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام وإن قيل لا يمكنه ذلك لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ

الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم

فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات

فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين (سورة النور). وأمثال ذلك فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا

فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصودوالنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة.
*

فصل
قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل.

*والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيايبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى

فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف وقوله حاجة العالم داعية إليه يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلكالرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم

لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير (سورة البقرة). وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوموأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى

الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب وإن قيل بل المعصوم القادر قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علمابالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي فإن قيل بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول

قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده.
*

فصل
قال الرافضى الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون (سورة يونس).

*والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل

الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى (سورة يونس). فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت (سورة يونس). الى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق (سورة يونس). وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم

بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب:منهاج السنة النبوية
///

الجزء السابع
///
*قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة الأول قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و قد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهاتين و إلا صمتا و رايته بهاتين و إلا عميتا يقول علي قائد البررة و قاتل الكفرة فمنصور من نصره و مخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعطني أحد شيئا و كان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم و ذلك بعين النبي صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم أن موسى سألك و قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك و صفيك اللهم فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ

قال وما اقرأ قال اقرأ أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و نقل الفقيه ابن المغازلي الو اسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي و الولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه و لرسوله.*و الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب و باطل من جنس السفسطة و هو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن و غيره يطلق على ما يفيد العلم و اليقين كقوله تعالى و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. و قال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. فالصادق لا بد له من برهان على صدقه و الصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل و سنبين أن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسميه هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه و أن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فأن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه و قد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض و البراهين لا تتناقض بل سنبين أن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين و أن الكذب في عامتها كذب ظاهر

لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق و أن القرآن حق و أن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب و تأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن و الرسول و هذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن و الرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام و روجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى و جهل فقبلها لهواه و لم ينظر في حقيقتها و منهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها و قدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة و قدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام و لهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام و صارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب و كان عنده خبرة بحقيقة الإسلام و ضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية و النصيرية و غيرهم من الزنادقة

الملاحدة المنافقين و كان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن و الحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي صلى الله عليه و سلم ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و لهذا كان الرفض اعظم باب و دهليز إلى الكفر و الإلحاد.ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه:
الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده و كذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر و عمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما و لا فضيلة و لا غير ذلك. و كذلك الشيعة وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به و هكذا القول في كل ما نقله و عزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي و نحوهم.الثاني: قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من اعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه و أن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و اجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع

و أما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة و كأمثال ذلك و لهذا يقولون هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه و أمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح و الضعيف.
و لهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي و الواحدي و كان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي و لا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير و دين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة و البدعة في كثير من الأقوال.
و أما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري و بقي بن مخلد و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم و أمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل و اسحق بن راهويه بل و لا يذكر مثل هذا عند ابن حميد و لا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع و يروي كثيرا من فضائل علي و أن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.
وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي و النقاش و الواحدي و أمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث و يكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي و أمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب وسنذكر أن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا و نقلا و إنما المقصود هنا

بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات و ما فيها من إجماع و اختلاف.
فالمتكلم و المفسر و المؤرخ و نحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا.الوجه الثالث: أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم و من هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى.
و الثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا.
و عن الضحاك مثله و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله و رسوله الذين آمنوا قال و حدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا.و عن السدي مثله.الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع و نطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح و هذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون و أما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف و اضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا و هذا.

الوجه الخامس: أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة و أن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن و لا الحسين و لا سائر بني هاشم و هذا خلاف إجماع المسلمين.الوجه السادس: أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده.الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب و أما مستحب والصدقة والعتق و الهدية و الهبة و الإجارة و النكاح و الطلاق و غير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة و لا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة و أن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة. و آخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي و لو كان هذا مستحبا لكان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و يحض عليه أصحابه و لكان علي يفعله في غير هذه الواقعة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه و أن في الصلاة لشغلا.الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام و القعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق

في حال القيام و القعود أما كان يستحق هذه الموالاة فأن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة و يعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا و صدقه وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر و لا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لا الصحاح و لا السنن و لا الجوامع ولا المعجمات و لا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل و أن قصد به التعريف فهو باطل.الوجه التاسع: أن يقال قوله و يؤتون الزكاة و هم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه و علي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فأنه كان فقيرا و زكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا و علي لم يكن من هؤلاء.

الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي و قيل أنه يخرج من جنس الحلي و من جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر و القيم تختلف باختلاف الأحوال.الوجه الحادي عشر: أن هذه آلية بمنزلة قوله و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة و أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك و بالجملة الواو أما واو الحال و أما واو العطف و العطف هو الأكثر و هي المعروفة في مثل هذا الخطاب. و قوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة.الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني

يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما. و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي.الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى. ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين. ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع

عليم.
فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون. فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها.الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف

الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد. فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.
و أيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو اعظم قدرا و نفعا من إعطاء سائل خاتما. و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته و ذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. و قد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم

والأنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام اعظم من صدقة على سائل محتاج و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه أخرجاه في الصحيحين. قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى. فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه و أما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله. ولا ريب أن هذا و مثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل. وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة و النصرة و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره و بالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين. و قال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر و كانا اثنين الله ثالثهما و كذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر و كل من الصحابة له في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم سعي مشكور و عمل مبرور و روي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد

غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن و فلأن و فلأن فعدد جماعة من الصحابة و لم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه و سلم دون أمثاله و لا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه و سلم فيه إلى معونة علي و حده لا باليد و لا باللسان و لا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم و طاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم و غير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون و موسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى و كان هارون يتألفهم و الرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا و أنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون و هذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيده و لم يعلم أنه اسلم على يد علي و عثمان و غيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين و إلأنصار و مصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لما بايعه إلأنصار ليلة العقبة و اسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته و اسيد بن حضير و غير هؤلاء

و كان أبو بكر يخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم و يعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قال أيها الناس أني جئت إليكم فقلت أني رسول الله فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها و نبينا صلى الله عليه و سلم قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده و أول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة و من الصبيان علي و من الموالي زيد و كان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس و كان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته و ذات يده و مع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر و لا بغيره

بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر و قال فاعبده و توكل عليه فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك و الإلحاد و النفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه و تارة يخفى.الوجه الخامس عشر: أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله و رسوله و المؤمنين فيوالون عليا و لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين قال تعالى و أن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الله مولاه و جبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا متصرفا فيه و أيضا قال تعالى و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض

فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن و ذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو و قال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله و الله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا و قال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم و قال أن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ثم آووا و نصروا إلى قوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض و أن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله و أن الله و ملائكته و المؤمنين موالي رسوله كما أن الله و رسوله و الذين آمنوا هم أولياء المؤمنين و ليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره و أنه يتصرف فيه دون سائر الناس.الوجه السادس عشر: أن الفرق بين الولاية بالفتح و الولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة و هي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة و هؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير و لم يفرقوا بين الولاية و الولاية و الأمير يسمى

الوالي لا يسمى الولي و لكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم و يقال أولو الأمر و أما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى و لا يقال الوالي و لهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي و الولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم و قيل يقدم الولي فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض و هذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة و سائر أهل بدر و أهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض و لم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي و الولاية غير لفظ الوالي و الآية عامة في المؤمنين و المارة لا تكون عامة.الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله و رسوله و الذين آمنوا و لم يقل و من يتولى الله و رسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم

الوجه الثامن عشر: أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بأنه متول على عباده و أنه أمير عليهم جل جلاله و تقدست أسماؤه فأنه خالقهم و رازقهم و ربهم و مليكهم له الخلق و الأمر و لا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي و غيره أمير المؤمنين بل الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا لا يقال أنه متول على الناس و أنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله و أول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه و قد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر و كان خليقا بهذا الاسم و أما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم و يحبونه و يرضى عنهم و يرضون عنه و من عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته و إحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك و غيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره

الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله و يكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين و الكفار كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم تحت حكمه ذميون و منافقون و كذلك كان تحت ولاية علي كفار و منافقون و الله تعالى يقول ومن يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين و ليس كذلك و كذلك الكفار و المنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه و قدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.
*

فصل
قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي و روى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي بن أبي طالب ومن تفسير الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و النبي صلى الله عليه و سلم مولى أبي بكر و عمر و باقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام و من تفسير الثعلبي لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك و طار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك و أمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك و أمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض

بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك و فضلته علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله قال النبي صلى الله عليه و سلم و الله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و أنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله و قد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: أن هذا اعظم كذبا و فرية من الأول كما سنبينه أن شاء الله تعالى و قوله اتفقوا على نزولها في علي اعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا و لا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون و أما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء و النقاش و الثعلبي و الواحدي و نحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع و ليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به

و العلماء بالحديث اجل هؤلاء قدرا و أعظمهم صدقا و أعلاهم منزلة و اكثر دينا وهم من اعظم الناس صدقا و أمانة و علما و خبرة فيما يذكرونه عن الجرح و التعديل مثل مالك و شعبة و سفيان و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن المهدي و ابن المبارك ووكيع و الشافعي و احمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و ابن معين وابن المديني و البخاري ومسلم و أبي داود و أبي زرعة و أبي حاتم و النسائي و العجلي و أبي احمد بن عدي و أبي حاتم البستي و الدار قطني و أمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال و الجرح و التعديل و أن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض و بعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك و قد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا و صغارا مثل الطبقات لابن سعد و تاريخي البخاري و الكتب المنقولة عن احمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قبلها عن يحيى بن سعيد القطان و غيره و كتاب يعقوب بن سفيان و ابن أبي خيثمة و ابن أبي حاتم و كتاب بن عدي و كتب أبي حازم و أمثال ذلك وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كمسند احمد و إسحاق و أبي داود

الطيالسي و أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن أبي عمر و العدني و احمد بن منيع و أبي يعلى الموصلي و أبي بكر البزار البصري و غيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري و مسلم و ابن خزيمة و أبي حاتم و غيرهم و كذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي و البرقاني و أبي نعيم غيرهم و منهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة و غيرهم و منهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل و غيرها كالترمذي و غيره و هذا علم عظيم من اعظم علوم الإسلام و لا ريب أن الرافضة اقل معرفة بهذا الباب و ليس في أهل الأهواء و البدع اجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة و الخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج و الخوارج اعلم بكثير من الرافضة و الخوارج اصدق من الرافضة و أدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من اصدق الناس والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب و فيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث و معرفته ما لأهل الحديث و السنة فأن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق

وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها و لا يذكرون الحديث بل و لا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة و عناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد و لا في سائر الأدلة الشرعية و العقلية هل توافق ذلك أو تخالفه و لهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط وهم في ذلك شبيه باليهود و النصارى فأنه ليس لهم إسناد و الإسناد من خصائص هذه الأمة و هم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة و الرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم و علامة كذبه أنه يخالف هواهم و لهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع و الاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17