كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

ومن المعلوم أن أهل السنة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة يولون شخصا وغيره أولى بالولاية منه وقد كان عمر ابن عبد العزيز يختار أن يولي القاسم بن محمد بعده لكنه لم يطق ذلك لأن أهل الشوكة لم يكونوا موافقين على ذلك ولأنه كان قد عقد العهد معه ليزيد بن عبد الملك بعده فكان يزيد هو ولي العهد وحنيئذ فأهل الشوكة الذين قدموا المرجوح وتركوا الراجح أو الذي تولى بقوته وقوة أتباعه ظلما وبغيا يكون إثم هذه الولاية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله أو أعان على الظلم وأما من لم يظلم ولا أعان ظالما وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه في هذا شئ ومعلوم أن صالحي المؤمنين لا يعاونون الولاة إلا على البر والتقوى لا يعاونونهم على الإثم والعدوان فيصير هذا بمنزلة الإمام الذي يجب تقديمه في الشرع لكونه أقرأ وأعلم بالسنة أو أقدم هجرة وسنا إذا قدم ذو الشوكة من هو دونه فالمصلون خلفه الذين لا يمكنهم الصلاة إلا خلفه أي ذنب لهم في ذلكوكذلك الحاكم الجاهل أو الظالم أو المفضول إذا طلب المظلوم منه أن ينصفه ويحكم له بحقه فيحبس له غريمه أو يقسم له ميراثه أو يزوجه بأيم لا ولي لها غير السلطان أو نحو ذلك فأي شئ عليه من إثمه أو إثم من ولاه وهو لم يستعن به إلا على حق لا على باطل وقد قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مااستطعتم رواه البخاري ومسلم ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان وأهل السنة يقولون ينبغي أن يولي الأصلح للولاية إذا أمكن إما وجوبا عند أكثرهم وإما استحبابا عند بعضهم وأن من عدل عن

الأصلح مع قدرته لهواه فهو ظالم ومن كان عاجزا عن تولية الأصلح مع محبته لذلك فهو معذور ويقولون من تولى فإنه يستعان به على طاعة الله بحسب الإمكان ولا يعان إلا على طاعة الله ولا يستعان به على معصية الله ولا يعان على معصية الله أفليس قول أهل السنة في الإمامة خيرا من قول من يأمر بطاعة معدوم أو عاجز لا يمكنه الإعانة المطلوبة من الأئمة ولهذا كانت الرافضة لما عدلت عن مذهب أهل السنة في معاونة أئمة المسلمين والاستعانة بهم دخلوا في معاونة الكفار والاستعانة بهم فهم يدعون إلى الإمام المعصوم ولا يعرف لهم إمام موجود يأتمون به إلا كفور أو ظلوم فهم كالذي يحيل بعض العامة على أولياء الله رجال الغيب ولا رجال عنده إلا أهل الكذب والمكر الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله أو الجن أو الشياطين الذين يحصل بهم لبعض الناس أحوال شيطانية

فلو قدر أن ما تدعيه الرافضة من النص هو حق موجود وأن الناس لم يولوا المنصوص عليه لكانوا قد تركوا من يجب توليته وولوا غيره وحينئذ فالإمام الذي قام بمقصود الإمامة هو هذا المولى دون ذلك الممنوع المقهور نعم ذلك يستحق أن يولي لكن ما ولى فالإثم على من ضيع حقه وعدل عنه لا على من لم يضيع حقه ولم يعتد وهم يقولون إن الإمام وجب نصبه لأنه لطف ومصلحة للعباد فإذا كان الله ورسوله يعلم أن الناس لا يولون هذا المعين إذا أمروا بولايته كان أمرهم بولاية من يولونه وينتفعون بولايته أولى من أمرهم بولاية من لا يولونه ولا ينتفعون بولايته كما قيل في إمامة الصلاة والقضاء وغير ذلك فكيف إذا كان ما يدعونه من النص من أعظم الكذب والافتراء والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أمته بما سيكون وما يقع بعده من التفرق فإذا نص لأمته على إمامة شخص يعلم أنهم لا يولونه بل يعدلون عنه ويولون غيره يحصل لهم بولايته مقاصد الولاية وأنه إذا أفضت النوبة إلى المنصوص حصل من سفك دماء الأمة ما لم يحصل قبل ذلك ولم يحصل من مقاصد الولاية ما حصل بغير المنصوص كان الواجب العدول عن المنصوص

مثال ذلك أن ولى الأمر إذا كان عنده شخصان ويعلم أنه إن ولى أحدهما أطيع وفتح البلاد وأقام الجهاد وقهر الأعداء وأنه إذا ولى الآخر لم يطع ولم يفتح شيئا من البلاد بل يقع في الرعية الفتنة والفساد كان من المعلوم لكل عاقل أنه ينبغي أن يولي من يعلم أنه إذا ولاه حصل به الخير والمنفعة لا من إذا ولاه لم يطع وحصل بينه وبين الرعية الحرب والفتنة فكيف مع علم الله ورسوله بحال ولاية الثلاثة وما حصل فيها من مصالح الأمة في دينها ودنياها لا ينص عليها وينص على ولاية من لا يطاع بل يحارب ويقاتل حتى لا يمكنه قهر الأعداء ولا إصلاح الاولياء وهل يكون من ينص على ولاية هذا دون ذاك إلا جاهلا إن لم يعلم الحال أو ظالما مفسدا إن علم ونص والله ورسوله بريء من الجهل والظلم وهم يضيفون إلى الله ورسوله العدول عما فيه مصلحة العباد إلى ما ليس فيه إلا الفساد واذا قيل إن الفساد حصل من معصيتهم له لا من تقصيره قيل أفليس ولاية من يطيعونه فتحصل المصلحة أولى من ولاية من يعصونه فلا تحصل المصلحة بل المفسدة ولو كان للرجل ولد وهناك مؤدبان إذا أسلمه إلى أحدهما تأدب

وتعلم وإذا أسلمه إلى الآخر فر وهرب أفليس إسلامه إلى ذاك أولى ولو قدر أن ذاك أفضل فأي منفعة في فضيلته إذا لم يحصل للولد به منفعة لنفوره عنه ولو خطب المرأة رجلان أحدهما أفضل من الأخر لكن المرأة تكرهه وإن زوجت به لم تطعه بل تخاصمه وتؤذيه فلا تنتفع به ولا ينتفع هو بها والآخر تحبه ويحبها ويحصل به مقاصد النكاح أفليس تزويجها بهذا المفضول أولى باتفاق العقلاء ونص من ينص على تزويجها بهذا المفضول أولى من النص على تزويجها بهذا فكيف يضاف إلى الله ورسوله ما لا يرضاه إلا جاهل أو ظالم وهذا ونحوه مما يعلم به بطلان النص بتقدير أن يكون علي هو الأفضل الأحق بالأمر لكن لا يحصل بولايته إلا ما حصل وغيره ظالما يحصل به ما حصل من المصالح فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك لا في هذا ولا في هذافقول أهل السنة خبر صادق وقول حكيم وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفيه فأهل السنة يقولون الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلى بالناس وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد لكن هذا ينبغي أن يكون إماما والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى إلا على الطغام ويقولون إنه يعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان ويطاع في طاعة الله دون معصيته ولا يخرج عليه بالسيف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية وفي لفظ أنه من فارق الجماعة شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطانا معينا ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه فذم الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة وجعل ذلك ميتة جاهلية لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم والنبي صلى الله عليه وسلم دائما يأمر بإقامة رأس حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعدهذا الخير من شر قال نعم قلت فهل بعد ذلك الشر من خير قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه قال قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر فقلت هل بعد ذلك الخير من شر قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك وفي لفظ آخر قلت وهل وراء ذلك الخير من شر قال

نعم قلت كيف قال يكون بعدي آئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قوب الشياطين في جثمان إنس قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع وهذا جاء مفسرا في حديث آخر عن حذيفة قال عن الخير الثاني صلح على دخن وجماعة على اقذاء فيها وقلوب لا ترجع إلى ما كانت عليه فكان الخير الأول النبوة وخلافة النبوة التي لاقته فيها وكان الشر ما حصل من الفتنة بقتل عثمان وتفرق الناس حتى صار حالهم شبيها بحال الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ولهذا قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية فبين أنهم جعلوا هذا غير مضمون كما أن ما يصيبه أهل الجاهلية بعضهم من بعض غير مضمون لأن الضمان إنما يكون مع العلم بالتحريم فأما مع الجهل بالتحريم كحال الكفار والمرتدين والمتأولين من أهل القبلة فالضمان منتف ولهذا لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد دم المقتول الذي قتله متأولا مع قوله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلتله بعد أن قال لا إله إلا الله ولهذا لا تقام الحدود إلا على من علم التحريم والخير الثاني اجتماع الناس لما اصطلح الحسن ومعاوية لكن كان صلحا على دخن وجماعة على أقذاء فكان في النفوس

ما فيها أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو الواقع وحذيفة حدث بهذا في خلافة عمر وعثمان قبل الفتنة فإنه لما بلغه مقتل عثمان علم أن الفتنة قد جاءت فمات بعد ذلك بأربعين يوما قبل الاقتتال وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه بعد ذلك يقوم أئمة لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته وبقيام رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فتبين أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان سواء كان عادلا أو ظالما وكذلك في الصحيح حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلع يدا من طاعة إمام لقي الله يوم القيام لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية لكنه لا يطاع أحد في معصية اللهكما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال أوقدوا نارا فأوقدوا نارا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك وسكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف وفي لفظ لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف وكذلك في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وعن كعب بن عجرة قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه تسعة خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم فقال اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض رواه أحمد والنسائي وهذا لفظه والترمذي وقال حديث صحيح غريب وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال دعانا النبي صلىالله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان وفي صحيح مسلم عن عرفجة بن شريح قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان وفي لفظ من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوهوفي صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون امراء تعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن من رضى وتابع قالوا أفلا ننابذهم قال لا ما صلوا وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فلينكر ما يأتى من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة تم الجزء الأول بحمد الله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله قال المصنف الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع

بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب: منهاج السنة النبوية
///

الجزء الثاني
///
بسم الله الرحمن الرحيم
*الباب الثاني: قال الرافضي: الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الإتباع ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ومذهب الإمامية واجب الإتباع لأربعة أوجه لأنه أحقها وأصدقها ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين وهذا حكاية لفظه قال الرافضي إنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن سعد ملك الري أياما يسيره لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه بأن من قتله في النار وإخباره بذلك في شعره حيث يقول فو الله ما أدري وإني لصادق أفكر في أمري على خطرين أأترك ملك الري والري منيتي أم اصبح مأثوما بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرى قرة عيني وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا متابعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير

فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى وقليل ماهم (سورة ص).. وقليل من عبادي الشكور ((سورة سبأ).).. وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذي أعرضوا عن الدنيا وزينتها ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم وحيث حصل للمسلمين هذه البلية وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق مستقره ولا يظلم مستحقه فقد قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين (سورة هود)..*فيقال إنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه وهذا كذب على علي رضي الله عنه وعلى أبي بكر رضي الله عنه فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا وإما مقلدا لقصوره في النظر وذلك أن الإنسان يجب عليه أن يعرف الحق وأن يتبعه وهذا هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهذا هو الصراط الذي أمرنا الله أن نسأله هدايتنا إياه في كل صلاة بل في كل ركعة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوب

عليهم والنصارى ضالون وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه استكبارا وحسدا وغلوا واتباعا للهوى وهذا هو الغي والنصارى ليس لهم علم بما يفعلونه من العبادة والزهد والأخلاق بل فيهم الجهل والغلو والبدع والشرك جهلا منهم وهذا هو الضلال وإن كان كل من الأمتين فيه ضلال وغي لكن الغي أغلب على اليهود والضلال أغلب على النصارى ولهذا وصف الله اليهود بالكبر والحسد واتباع الهوى والغي وإرادة العلو في الأرض والفساد قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (سورة البقرة). وقال تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (سورة النساء). وقال سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن

يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا (سورة الأعراف). وقال تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (سورة الإسراء). ووصف النصارى بالشرك والضلال والغلو والبدع فقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (سورة التوبة). وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (سورة المائدة). وقال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها (سورة الحديد). وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد نزه الله نبيه عن الضلال والعي فقال والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى (سورة النجم). فالضال الذي يعرف الحق والغاوي الذي يتبع هواه وقال تعالى واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار (سورة ص). فالأيدي القوة في طاعة الله والأبصار البصائر في الدين وقال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وإذا كان الصراط المستقيم لا بد فيه من العلم بالحق والعمل به

وكلاهما واجب لا يكون الإنسان مفلحا ناجيا إلا بذلك وهذه الأمة خير الأمم وخيرها القرن الأول كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع والعمل الصالح وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه كما يزعمونه في الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة والأمة وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق بل اتبع الظالمين تقليدا لعدم نظرهم المفضى إلى العلم والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعنى عليا وهذا مما علمنا بالإضرار أنه لم يكن فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة بعد نبيها ليس فيها مهتد فتكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا منهم لأنهم كانوا كما قال الله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (سورة الأعراف). وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارىافترقت على اثنتين وسبعين فرقة فيها واحدة ناجية وهذه الأمة على موجب ما ذكر لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى فيلزم من ذلك أن يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون فإن كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم

من اختلاف الأمة فكيف بسائر ما ينقله ويستدل به ونحن نبين فساد ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة فنقول أما قوله لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده وتعددت آراؤهم بحسب أهوائهم فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن سعد ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك في شعرهفيقال في هذا الكلام من الكذب والباطل وذم خيار الأمة بغير حق مالا يخفى وذلك من وجوه أحدها قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم فيكونون كلهم متبعين أهواءهم ليس فيهم طالب حق ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال وعموم لفظه يشمل عليا وغيره وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ورضي عنهم ووعدهم الحسنى كما قال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (سورة التوبة). وقال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (سورة الفتح). وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض إلى قوله أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين

آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم (سورة الأنفال). وقال لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (سورة الحديد). وقال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (سورة الحشر). وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفئ ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين وفي قلوبهم غل عليهم ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ذلك وهذا نقيض مذهب الرافضة

وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر قال حدثنا عبدالله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال من سب السلف فليس له في الفئ نصيب لأن الله تعالى يقول والذين جاءوا من بعدهم الآيةوهذا معروف من مالك وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم ابن سلام وكذلك ذكره أو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء وروى أيضا عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر الله بالإستعفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم يقتتلون وقال عروة قالت لي عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن عبدالله قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبابكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي حدثنا معاوية حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمر بالإستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلونومن طريق أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم ثلاثتهم عن الثوري عن نسير بن ذعلوق سمعت عبدالله بن عمر يقول لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة يعنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة

فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا (سورة الفتح). والذين بايعوه تحت الشجرة بالحديبية عند جبل التنعيم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة بايعوه لما صده المشركون عن العمرة ثم صالح المشركين صلح الحديبية المعروف وذلك سنة ست من الهجرة في ذي القعدة ثم رجع بهم إلى المدينة وغزا بهم خيبر ففتحها الله عليهم في أول سنة سبع وقسمها بينهم ومنع الأعراب المتخلفين عن الحديبية من ذلككما قال الله تعالى سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (سورة الفتح). وقد أخبر سبحانه أنه رضي عنهم وأنه علم ما في قلوبهم وأنه أثابهم فتحا قريبا وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (سورة الحديد). ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم أو فتح هو فقال نعم

وأهل العلم يعملون أن فيه أنزل الله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا (سورة الفتح). فقال بعض المسلمين يا رسول الله هذا لك فما لنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزداداو إيمانا مع إيمانهم (سورة الفتح). وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار (سورة التوبة). هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى

القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا البابوليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص وقد علم بالإضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس لما بلغه أنهم قتلوه وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (سورة التوبة). فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا (سورة الأنفال). إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم (سورة الأنفال). فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياءبعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (سورة المائدة). إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (سورة التوبة). فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلى واحد ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان

لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أنيخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل ومنها أن الكلام في سياق النهى عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام وسيجئ إن شاء الله تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (سورة الأنفال). أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم

وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا والذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره وقال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم (سورة الأنفال). وإنما أيده في حياته بالصحابة وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (سورة الزمر). وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء

وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي صلى الله عليه وسلم وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى (سورة النمل). قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق الخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (سورة فاطر). فأمه محمد صلى الله عليه وسلم همالذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله

قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (سورة الفتح). وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (سورة النور). فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالإستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى ورضيت لكم الإسلام دينا

(سورة المائدة). وبدلهم من بعد خوفهم أمنا لهم منه المغفرة والأجر العظيم وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم مغفرة وأجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الإستخلاف وتمكن الدين والأمن بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان وكان بعضهم يخاف بعضا وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الإستخلاف والتمكين والأمن والذين كانوا في زمن الإستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا

وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والإفتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلو فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولا ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الإستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين فإن قيل لم قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم (سورة الفتح). ولم يقل وعدهم كلهم قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات (سورة النور). ولم يقل وعدكم ومن تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان (سورة الحج). فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس وإذا قلت ثوب من حرير فهو كقولك ثوب حرير وكذلك قولك باب من حديد كقولك باب حديد وذلك لا يقتضى أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه وإن كان الذي يتصوره كليا

فإن الجنس الكلي هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يكن مشتركا فيه في الوجود فإذا كانت من لبيان الجنس كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس وإن كان الجنس كلهم مؤمنين مصلحين وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجرا عظيما لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين ولما قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نوتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (سورة الأحزاب). لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله وتعمل صالحا ولما قال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (سورة الأنعام). لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة و يجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم

ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء (سورة الطور). وقوله وما من إله إلا الله (سورة آل عمران). وقوله فما منكم من أحد عن حاجزين (سورة الحاقة). ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفى الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى لا إله إلا الله (سورة آل عمران). وقوله لا ريب فيه (سورة البقرة). ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفى الجنس ولكن قد يجوز أن ينفى بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفى الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنها تنفى نفي الجنس قطعا ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة

فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك قيل نعم ونحن لا ندعى أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر الكلام ولا ريب أن هذا مدح لهم مدح بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والإعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد و إن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان

والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الإشتقاق سبب الحكم فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين قيل المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم كما قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (سورة المائدة). وقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (سورة العنكبوت). وقال إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة (سورة النساء). إلى قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (سورة النساء).

وقال تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (سورة التوبة). وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (سورة المجادلة). فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب وهؤلاء لا يوجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام أكثر منهم في الرافضة ومن انضوى إليهم وقد قال تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير (سورة التحريم). وقال تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا (سورة الحديد). فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا داخلين في الذين آمنوا معه والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه وهم الغالب بدليل قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (سورة الأحزاب).فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلا بل كانوا يجاورونه بالمدينة دل ذلك على أنهم انتهوا والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعه تحت الشجرة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت جمل أحمر وكذا جاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر

وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين أذلاء مقهورين لا سيما في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون سورة المنافقين فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ومن المعلوم أنالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا أعز الناس وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق فإن أساس النفاق الذي بنى عليه الكذب وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال التقية دينى ودين آبائي وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان وكان دينهم التقوى لا التقية وقول الله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة

(سورة آل عمران). إنما هو الأمر بالإتقاء من الكفار لا الأمر بالنفاق والكذب والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان لكن لم يكره أحد من أهل البيت على شيء من ذلك حتى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكره أحدا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته فضلا أن يكرههم على مدحه والثناء عليه بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس وقد كان في زمن بنى أمية وبنى العباس خلق عظيم دون علي وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ولا يقربونهم ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ولم يكن أؤلئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلقأبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر كما تقوله الرافضة من غير أن يكرههم أحد على ذلك فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن والاهما يتظاهرون بدينهم وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسبب الخلفاء والصحابة إلا أن يكونوا قليلا فكيف يظن بعلي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينا وقلوبا من الأسرى في بلاد الكفر ومن عوام أهل

السنة ومن النواصب مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء والترحم عليهم بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر وأيضا فقد يقال في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات (سورة النور). إن ذلك وصف للجملة بوصف يتضمن حالهم عند الإجتماع كقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار (سورة الفتح). والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد فلا بد أن يتصف بسبب ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح إذ قد يكون في الجملة منافق وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقينوالمحسنين ومدحهم والثناء عليهم فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة وافضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الوجه الثاني في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قوله فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه لا بحق ولا بغير حق بل قال قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة قال عمر فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وهذا اللفظ في الصحيحين

وقد روى عنه أيضا أنه قال أقيلوني أقيلوني فالمسلمون أختاروه وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد وهذا أيضا في الصحيحين والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبى اللهوالمؤمنون إلا أبا بكر فأبى الله وعباده المؤمنون أن يتولى غير أبي بكر فالله هو ولاه قدرا وشرعا وأمر المؤمنين بولايته وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه الوجه الثالث أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم إن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعطهم دنيا وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولما رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله فقال له ما تركت لأهلك قال تركت لهم الله ورسولهوالذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا وهو الذين أثنى الله عليهم وقد علم الخاص والعام زهد عمر وأبي عبيدة وأمثالهما وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير وأبي طلحة وأبي أيوب وأمثالهم ولم يكن عند موت النبي صلى الله عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه فالأنصار كانوا في أملاكهم وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية وكذلك سيرة علي رضي الله عنه فلو بايعو عليا أعطاهم أبو بكر مع كون قبيلته أشرف القبائل وكون بني عبد مناف وهم أشرف قريش الذين هم أقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذاك كأبي سفيان بن حرب وغيره وبني هاشم كالعباس وغيره كانوا معه

وقد أراد أبو سفيان أن تكون الإمارة في بني عبد مناف على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ولا غيرهما لعلمهم ودينهم فأي رياسة وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر لا سيما وهو يسوي بين السابقين الأولين وبين آحاد المسلمين في العطاء ويقول إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما هذا المتاع بلاغ وقال لعمر لما أشار عليه بالتفضيل في العطاء أفأشتري منهم إيمانهم فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه أولا كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم سوى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح بل وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيءالوجه الرابع أن يقال أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبدالله ورسوله ولا يغلون فيه غلو النصارى ولا يجفون جفاء اليهود والنصارى تدعي فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد ابن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال له اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن

الشبهة فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه ففعل نقيض ما قصدوه ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارىوكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم كقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل (سورة البقرة). فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة

والسعادة إلا به وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر وشبهته أضعف وأخفى فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة فإذاقالت له الخوارج الذين يكفرون عليا أو النواصب الذين يفسقونه إنه كان ظالما طالبا للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه فهذا الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا فهذا أولى بالتوجه والقبول لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا لا بسيف ولا عصا ولا أعطى أحدا ممن ولاه مالا واجتمعوا عليه فلم يول أحدا من أقاربه وعترته ولا خلف لورثته مالا من مال المسلمين وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ماكان عنده لهم وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك حتى قال عبدالرحمن بن عوف لعمر أتسلب هذا آل أبي بكر قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك

ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ولا قاتل مسلما بمسلم بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة أمكن الناصبي أن يقول كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضا ولم يقاتل كافرا ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم فإن جاز أن يقال علي كان مريدا لوجه الله والتقصير من غيره من الصحابة أو يقال كان مجتهدا مصيبا وغيره مخطئا مع هذه الحال فأن يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك وشبهة الخوارج الذين ذموا عليا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمروعثمان وكفروهم فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمنا فإذا لم يفعل هذا كان عاجزا أو ظالما وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما وهذا الكلام إذا كان باطلا فبطلان قول من يقول إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة أبطل وأبطل وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرا على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين من شبهة عبدالله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم أو أنه إله أو نبي بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك

ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه لا نسلم أنه كان مؤمنا بل كان كافرا أو ظالما كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعى النفاق وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد دينه فلميتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضا له وعداوة وأنه كان مباطنا للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك وإلا فكان في الباطن معهم ولهذا كانت الباطنية من أتباعه وعندهم سره وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة لأن شبه الرافضة أظهر فسادا من شبه الخوارج والنواصب والخوارج أصح منهم عقلا وقصدا والرافضة أكذب وأفسد دينا وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه قيل لهم القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها

أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر فباب الدعوى بلا حجة ممكنة والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر فإن ادعوا تواترا فالتواتر هناك أصح وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ثم هم يقولون إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم فطريق النقل مقطوع عليهم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي أو فقه ابن عمر دون أبيه أوفقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدلولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم كما أن النصارى من أجهل الناس والرافضة من أخبث الناس كما أن اليهود من أخبث الناس ففيهم نوع من ضلال النصارى ونوع من خبث اليهود الوجه الخامس أن يقال تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد لما خيره عبيدالله بن زياد بين الخروج في السرية التي أرسلها إلى الحسين وبين عزله عن الرى من أقبح القياس فإذا كان عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرم لأجل ذلك أفيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا فقال اذهب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي

وهذا ولم يكن قد بقى أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما وهو الذي فتح العراق وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمدا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان ومن المنتصرين له وسبوا أباه سعدا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والإنتصار لعثمان هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة بل الرافضة شر منهم فإن أبا بكر أفضل من سعد وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين وكلاهما مظلوم شهيد رضي الله عنهماولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل والحسين رضي الله عنه لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه أن يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل وكلاهما مظلوم شهيد ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن عليا والحسين كانا ظالمين طالبين

للرياسة بغير حق بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين ودينهما وفضلهما ولنفاق هؤلاء وإلحادهم وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم أما كان يكون ظالما كاذبا فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم وأول هؤلاء بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب فإنهكان أمير الشيعة وقتل عبيدالله بن زياد وأظهر الإنتصار للحسين حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبيعبيد وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الإنتصار للحسين وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم يسفك الدماء بغير حق والمختار كان كذابا يدعى النبوة وإتيان جبريل

إليه وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر وإن كان لم يتب منه كان مرتدا والفتنة أعظم من القتل وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه فإن الروافض شر من النواصب والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسو من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرءون من طريقة الروافض والنوصب جميعا ويتولون السابقين والأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهماوهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه كيف وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولكن كان طائفة من شيعة علي

تقدمه على عثمان وهذه المسألة أخفى من تلك ولهذا كان أئمة أهل السنة كلهم متفقين على تقديم أبي بكر وعمر من وجوه متواترة كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما وهي إحدى الروايتين عن مالك وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليا وهي أحدى الروايتين عن سفيان الثوري ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرىبالمهاجرين والأنصار وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والإعتبار وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علىوأما قوله وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا متابعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله بإعطاء الحق لغير مستحقه قال وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى وقليل ماهم (سورة ص). وقليل من عبادي الشكور ((سورة سبأ).). فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر وصنف عجزوا عنه لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد وإما أن يكون للجهل والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر وإما أن يكون لعجز عنه وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ولو نظر لعرف الحق وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب وفيهم

من عجز عن النظر فقلد الجم الغفير يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر فيقال له وهذا من الكذب الذي لا يعحجز عنه أحد والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل والله تعالى قد حرم القول بغير علم فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا (سورة الإسراء). وقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم (سورة آل عمران). فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا كما قال فيهم عبدالله بن مسعود من كان منكم مستنافليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم رواه غير واحد منهم ابن بطة عن قتادة وروى هو غيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بن حبيش قال قال عبدالله بن مسعود إن الله تباركوتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ

وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا أن يستخلفوا أبا بكر وقول عبدالله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا وبعضهم بالجهل إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبدالله حق فإنهم خير هذه الأمة كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس الذين هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فليسوا منالمغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ولا من الضالين الجاهلين كما قسمهم هؤلاء المفترون إلى ضلال وغواة بل لهم كمال العلم وكمال القصد إذا لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك فإن من تأمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والإعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ولا في الجيوش المؤيدة

المنصورة جيش رافضي ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين وإما في جهال ليس لهم علم لا بالمنقولات ولا بالمعقولات قد نشأوا بالبوادي والجبال أو تحيزوا عن المسلمين فلم يجالسوا أهل العلم والدين وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال أو له نسب يتعصب له كفعل أهل الجاهلية وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين فليس في هؤلاء رافضي لظهور الجهل والظلم في قولهم وتجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وفيهم منالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وأذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان زاد مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة وأيضا فيقال لهذا المفترى هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة من يعرف كل أحد ذكاءهم وزكاءهم مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وعلقمة والأسود وعبيدة السلماني وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء جابر بن زيدوعلي بن زيد وعلي بن الحسين وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ومطرف بن الشخير ومحمد بن واسع وحبيب العجمي ومالك بن دينار ومكحول والحكم بن عتيبة ويزيد بن أبي حبيب ومن لا يحصى عددهم إلا الله ثم بعدهم مثل أيوب السختياني وعبدالله بن عون ويونس بن عبيد

وجعفر بن محمد والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وأبي الزناد ويحيى بن أبي كثير وقتادة ومنصور ابن المعتمر والأعمش وحماد بن أبي سليمان وهشام الدستوائي وسعيد ابن أبي عروبة ومن بعد هؤلاء مثل مالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك وابن أبي ذئب وابن الماجشون ومن بعدهم مثل يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن القاسم وأشهب بن عبدالعزيز وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور ومن لا يحصى عدده إلا الله ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ولا مال وممن هم من أعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكروعمر وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال ما رأيت أحدا ممن أقتدى به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما وأهل المدينة لم يكونوا مائلين إلى بني أمية كما كان أهل الشام بل قد خلعوا بيعة يزيد وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام بل كانوا يعدونه من علماء المدينة إلى أن خرج منها وهم

متفقون على تقديم أبي بكر وعمر فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي قال لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر وقال شريك بن عبدالله بن أبي نمر وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي فقال له أبو بكر فقال له السائل أتقول هذا وأنت من الشيعة فقال نعم إنما الشيعي من يقول هذا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نرد قوله أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبيت النبوة له وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي إعتراضه على الجاحظفهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته فكيف يقال مع هذا إن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا أو جهالا ولكن هذا وصف الطاعن فيهم فإنك لا تجد في طوائف أهل القبلة أعظم جهلا من الرافضة ولا أكثر حرصا على الدنيا وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به والصحابة أبعد الناس عنه فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب إذ قال أنا نبي صادق ومحمد كذاب ولهذا يصفون أنفسهم بالإيمان ويصفون الصحابة بالنفاق وهم أعظم الطوائف نفاقا والصحابة أعظم الخلق إيمانا وأما قوله وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتهما ولم تأخذهم في الله لومة لائم بل

أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم وحيث حصل للمسلمين هذه البلية وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق مقره ولا يظلم مستحقه فقد قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين (سورة هود). فيقال له أولا قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا وطائفة إلى كذا وجب أن ينظر أي القولين أصح فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق والأخرى باتباع الباطل فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين ويقال له ثانيا قولك إنه طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون كذب على علي رضي الله عنه فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا بايعه على ذلك أحد ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة دون غيره

لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ولا بايعه أحد على ذلك فكيف إذا كان باطلا وكذلك قوله بايعه الأقلون كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ولكن غاية ما يقول القائل إنه كان فيهم من يختار مبايعته ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية وولاية غيرهما ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره فمثل هذا لا يخلو من الوجود وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم (سورة التوبة). وقد قال تعالى عن المشركين وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (سورة الزخرف). فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم

معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا (سورة الزخرف). وأما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم فهذا من أبين الكذب فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرها معروفة وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون مقهورون منهزمون وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ولهذا كاتبوا الحسين رضي الله عنه فلما أرسل إليهم ابن عمه ثم قدم بنفسه غدروا به وباعوا الآخرة بالدنيا وأسلموه إلى عدوه وقاتلوه مع عدوه فأي زهد عند هؤلاء وأي جهاد عندهم وقد ذاق منهم على بن أبي طالب رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله حتى دعا عليهم فقال اللهم قدسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ويخونونه في الولايات والأموال هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين فرقة شايعت أولياء عثمان وفرقة شايعت عليا رضي الله عنهما فأولئك خيار الشيعة وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب

رضي الله عنه وابنيه سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتيه في الدنيا الحسن والحسين وأعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق وأسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه ولا يوفون له بما كتبوا له إليه وكان الأمر كما رأى هؤلاء ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف فكان لا يقبلمن محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر وهذه كتب المسلمين التي ذكر فها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه في الله لومة لائم إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (سورة المائدة). وهذا حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبدالله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة

وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا ولم يا أبا عبدالرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (سورة المنافقون). ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال إنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر

وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث

وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق.
*

فصل
قال الرافضي وإنما كان مذهب الإمامية واجب الإتباع لوجوه:
الأول: لما نظرنا في المذاهب وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه وأحسن المسائل الأصولية والفروعية مذهب الإمامية لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه ليس بجسم ولا جوهر وأنه ليس بمركب لأن كل مركب محتاج إلى جزئه لأن جزأه

غيره ولا عرض ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة المخلوقات وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا يلزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما ويثبت المطيع لئلا يكون ظالما ويعفو عن العاصي أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له وأن أفعاله محكمة متقنة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا وقد قال سبحانه وتعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين سورة الدخان وأنه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (سورة الأنعام). وأنه ليس في جهة وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره وأن الأنبياء معصومون عن الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك كما تقدم وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخذ ذلك من الله تعلى بوحي جبريل إليه يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والإستحسان إلى آخره

*فيقال الكلام على هذا من وجوه...
أحدهما: أن يقال ما ذكره من الصفات والقدر لا يتعلق بمسألة الإمامة أصلا بل يقول بمذهب الإمامية من لا يقول بهذا ويقول بهذا من لا يقول بمذهب الإمامية ولا أحدهما مبنى على الآخر فإن الطريق إلى ذلك عند القائلين به هو العقل وأما تعيين الإمام فهو عندهم من السمع فإدخال هذا في مسألة الإمامة مثل إدخال سائر مسائل النزاع وهذا خروج عن المقصود.
الوجه الثاني: أن يقال هذا قول المعتزلة في التوحيد والقدر والشيعة المنتسبون إلى أهل البيت الموافقون لهؤلاء المعتزلة أبعد الناس عن مذاهب أهل البيت في التوحيد والقدر فإن أئمة أهل البيت كعلي وابن عباس ومن بعدهم كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر والكتب المشتملة على المنقولات الصحيحة مملوءة بذلك ونحن نذكر بعض ما في ذلك عن علي رضي الله عنه وأهل بيته ليتبين أن هؤلاء الشيعة مخالفون لهم في أصول دينهم.
الوجه الثالث: أن ما ذكره من الصفات والقدر ليس من خصائص الشيعة ولاهم أئمة القول به ولا هو شامل لجميعهم بل أئمة بل أئمة ذلك هم المعتزلة وعنهم أخذ ذلك متأخرو الشيعة وكتب الشيعة مملوءة بالإعتماد في ذلك على طرق المعتزلة وهذا كان من أواخر المائة الثالثة وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسى وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول كما هو قول الهشامين وأمثالهما فإن كان هذا القول حقا أمكن القول به وموافقة المعتزلة مع إثبات خلافة الثلاثة وإن كان باطلا فلا حاجة إليه وإنما

ينبغي أن يذكر ما يختص بالإمامة كمسألة إثبات الإثنى عشر وعصمتهم.
الوجه الرابع: أن يقال ما في هذا الكلام من حق فأهل السنة قائلون به أو جمهورهم وما كان فيه من باطل فهو رد فليس اعتقاد ما في هذا القول من الحق خارجا عن أقوال أهل السنة ونحن نذكر ذلك مفصلا.
الوجه الخامس: قوله إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه لي بجسم ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة الخلوقات فيقال له هذا إشارة إلى مذهب الجهمية والمعتزلة ومضمونه أنه ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة وأن أسماءه الحسنى كالعليم والقدير والسميع والبصير والرءوف والرحيم ونحو ذلك لا تدل على صفات له قائمة به وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ولا يحب ولا يبغض ولا يريد إلا ما يخلقه منفصلا عنه من الكلام والإرادة وأنه لم يقم به كلام وأما قوله إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات فيقال له أهل السنة أحق بتنزيهه عن مشابهة المخلوقات من الشيعة فإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منه في طوائف الشيعة وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف ثم قدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب فقد ماؤهم غلوا في التشبيه والتجسيم ومتأخروهم غلوا في النفى والتعطيل فشاركوا في ذلك الجهمية والمعتزلة دون سائر طوائف الأمة وأما أهل السنة المثبتون لخلافة الثلاثة فجميع أئمتهم وطوائفهم المشهورة متفقون على نفي التمثيل عن الله تعالى والذين أطلقوا لفظ الجسم على الله من الطوائف المثبتين لخلافة الثلاثة كالكرامية هم أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من الذين أطلقوا لفظ الجسم من الإمامية وقد ذكر أقوال الإمامية في ذلك غير واحد منهم ومن غيرهم كما

ذكرها ابن النوبختي في كتابه الكبير وكما ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتابه المعروف في مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين وكما ذكرها الشهر ستاني في كتابه المعروف بالملل والنحل وكما ذكرها غير هؤلاء وطوائف السنة والشيعة تحكى عن قدماء أئمة الإمامية من منكرالتجسيم والتشبيه ما لا يعرف مثله عن الكرامية وأتباعهم ممن يثبت إمامة الثلاثة وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول إن الله جسم وإن كان أيضا ليس من السلف والأئمة من قال إن الله ليس بجسم ولكن من نسب التجسيم إلى بعضهم فهو بحسب ما اعتقده من معنى الجسم ورآه لازما لغيره فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسما مشبها ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيره لما ذكر طوائف المشبهةفقال ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى رجل يقال له الشافعي وشبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ويقولون إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ويقولون إن الله يرى في الآخرة هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ومحمد بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وأبي بكر بن

المنذر ومحمد بن جرير الطبري وأصحابهم والجهمية والمعتزلة يقولون من أثبت لله الصفات وقال إن الله يرى في الآخرة والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فإنه مجسم مشبه والتجسيم باطل وشبهتهم في ذلك أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم وما قام به الكلام وغيره من الصفات لا يكون إلا جسما ولا يرى إلا ما هو جسم أو قائم بجسم ولهذا صار مثبتة الصفات معهم ثلاث طوائف طائفة نازعتهم في المقدمة الأولى وطائفة نازعتهم في المقدمة الثانية وطائفة نازعتهم نزاعا مطلقا في واحدة من المقدمتين ولم تطلق في النفي والإثبات ألفاظا مجملة مبتدعة لا أصل لها في الشرع ولا هي صحيحة في العقل بل اعتصمت بالكتاب والسنة وأعطت العقل حقه فكانت موافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول فالطائفة الأولى الكلابية ومن وافقهم والطائفة الثانية الكرامية ومن وافقهم فالأولى قالوا إنه تقوم به الصفات ويرى في الآخرة والقرآنكلام الله قائم بذاته وليست الصفات أعراضا ولا الموصوف جسما لم نسلم أن ذلك ممتنع

ثم كثير من الناس يشنع على الطائفة الأولى بأنها مخالفة لصريح العقل والنقل بالضرورة حيث أثبتت رؤية لمرئى لا بمواجهة وأثبتت كلاما لمتكلم يتكلم لا بمشيئته وقدرته وكثير منهم يشنع على الثانية بأنها مخالفة للنظر العقلي الصحيح ولكن مع هذا فأكثر الناس يقولون إن النفاة المخالفين للطائفتين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الشيعة أعظم مخالفة لصريح المعقول بل ولضرورة العقل من الطائفتين وأما مخالفة هؤلاء لنصوص الكتاب والسنة وما استفاض عن سلف الأمة فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على عالم ولهذا أسسوا دينهم على أن باب التوحيد والصفات لا يتبع فيه ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإنما يتبع فيه ما رأوه بقياس عقولهم وأما نصوص الكتاب والسنة فإما أن يتأولوها وإما أن نفوضوها وإما أن يقولوا مقصود الرسول أن يخيل إلى الجمهور اعتقادا ينتفعون به في الدنيا وإن كان كذبا وباطلا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وأتباعهم وحقيقة قولهم أن الرسل كذبت فيما أخبرت به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لأجل ما رآوه من مصلحة الجمهور في الدنيا وأما الطائفة الثالثة فأطلقوا في النفي والإثبات ما جاء به الكتاب والسنة وما تنازع النظار في نفيه وإثباته من غير اعتصام بالكتاب والسنة لم توافقهم فيه على ما ابتدعوه في الشرع وخالفوا به العقل بل إما أن يمسكوا عن التكلم بالبدع نفيا وإثباتا وإما أن يفصلوا القول في اللفظ

والملفوظ المجمل فما كان في إثباته من حق يوافق الشرع أو العقل أثبتوه وما كان من نفيه حق في الشرع أو العقل نفوه ولا يتصور عندهم تعارض الأدلة الصحيحة العلمية لا السمعية ولا العقلية والكتاب والسنة يدل بالإخبار تارة ويدل بالتنبيه تارة والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين وهذه الجملة لها بسط عظيم قد بسط من ذلك ما بسط في مواضع متعددة والبسط التام لا يتحمله هذا المقام فإن لكل مقام مقالا ولكن الرافضة لما اعتضدت بالمعتزلة وأخذوا يذمون أهل السنة بما هم فيه مفترون عمدا أو جهلا ذكرنا ما يناسب ذلك في هذا المقام والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن لفظ التشبيه في كلام هؤلاء النفاة المعطلة لفظ مجمل فإن أراد بلفظ التشبيه ما نفاه

القرآن ودل عليه العقل فهذا حق فإن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته مذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون لله ما أثبته من الصفات وينفون عن مماثلة المخلوقات يثبتون له صفات الكمال وينفون عنه ضروب الأمثال ينزهونه عن النقص والتعطيل وعن التشبيه والتمثيل إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل ليس كمثله شيء رد على الممثلة وهو السميع البصير (سورة الشورى). رد على المعطلة ومن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم وإن أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات فلا يقال له علم ولا قدرة ولا حياة لأن العبد موصوف بهذه الصفات فلزمه أن لا يقال له حي عليم قدير لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلكوهم يوافقون أهل السنة على أن الله موجود حي عليم قادر والمخلوق يقال له موجود حي عليم قدير ولا يقال هذا تشبيه يجب نفيه وهذا مما يدل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل ولا يمكن أن يخالف فيه عاقل فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء وسمى بعض عباده بأسماء وكذلك سمي صفاته بأسماء وسمى بعضها صفات خلقه وليس المسمى كالمسمى فسمى نفسه حيا عليما قديرا رءوفا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ملكا مؤمنا جبارا متكبرا كقوله الله لا إله إلا هو الحي القيوم (سورة البقرة). وقوله إنه عليم قدير (سورة الشورى). وقال ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (سورة البقرة). وقال والله عزيز حكيم (سورة البقرة). وقال إن الله بالناس لرءوف رحيم (سورة الحج). وقال إن الله كان سميعا بصيرا (سورة النساء). وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر (سورة الحشر). وقد سمي بعض عباده حيا فقال يخرج الحي من الميت ويخرج

الميت من الحي (سورة الروم). وبعضهم عليما بقوله وبشروه بغلام عليم (سورة الذاريات). وبعضهم حليما بقوله فبشرناه بغلام حليم (سورة الصافات). وبعضهم رءوفا رحيما بقوله بالمؤمنين رءوف رحيم (سورة التوبة). وبعضهم سميعا بصيرا بقوله فجعلناه سميعا بصيرا سورة الإنسان وبعضهم عزيزا بقوله وقالت امرأة العزيز (سورة يوسف). وبعضهم ملكا بقوله وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (سورة الكهف). وبعضهم مؤمنا بقوله أفمن كان مؤمنا (سورة السجدة). وبعضهم جبارا متكبرا بقوله كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (سورة غافر). ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ولا العليم العليم ولا العزيز العزيز ولا الرءوف الرءوف ولا الرحيم الرحيم ولا الملك الملك ولا الجبار الجبار ولا المتكبر المتكبر وقال ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء (سورة البقرة). وقال أنزله بعلمه (سورة النساء). وقال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه (سورة فاطر). وقال إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (سورة الذاريات). وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (سورة فصلت). وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله قال كان رسول الله صلى الله

عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فيركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولاأقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر يسميه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به وفي حديث عما بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في

الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين فقد سمى الله ورسوله صفات الله تعلى علما وقدرة وقوة وقد قال الله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة (سورة الروم). وقال وإنه لذوا علم لما علمناه (سورة يوسف). ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ونظائر هذا كثيرة وهذا لازم لجميع العقلاء فإن من نفى بعض ما وصف الله به نفسه كالرضا والغضب والمحبة والبغض ونحو ذلك وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم قيل له فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر مع أن ما تثبته ليس مثل صفات المخلوقين فقل فيما أثبته مثل قولك فيما نفيته وأثبته الله ورسوله إذ لافرق بينهما فإن قال أنا لا أثبت شيئا من الصفات قيل له فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل حي وعليم وقدير

والعبد يسمى بهذه الأسماء وليس ما تثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما تثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك ذلك في مسمى أسمائه فإن قال وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى بل أقول هي مجاز أو هي أسماء لبعض مبتدعاته كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة قيل له فلا بد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه والجسم موجود قائم بنفسه وليس هو مماثلا له فإن قال أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب قيل له معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه وإما غير واجب بنفسه وإما قديم أزلي وإما حادث كائن بعد أن لم يكن وإما مخلوق مفتقر إلى خالق وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق وإما فقير إلى ما سواه وإما غنى عما سواه وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه والحادث لا يكون إلا بقديم والمخلوق لا يكون إلا بخالق والفقير لا يكون إلا بغنى عنه فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه وما سواه بخلاف ذلك وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن والحادث لا يكون واجبا بنفسه ولا قديما أزليا ولا خالقا لما سواه ولا غنيا عما سواه فثبت بالضرورة وجود موجودين أحدهما غني والآخر فقير وأحدهما خالق والآخر مخلوق وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا بل وإذا كان المحدث جسما فكل منهما قائم بنفسه

ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه وأحدهما غنى عن كل ما سواه والآخر ليس بغنى وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم موجودا بنفسه ليس بموجود بنفسه غنيا عما سواه ليس بغنى عما سواه خالقا ليس بخالق فيلزم اجتماع النقيضين على تقدير تماثلهما وهو منتف بصريح العقل كما هو منتف بنصوص الشرع مع اتفاقهما في أمور أخرى كما أن كلا منهما موجود ثابت له حقيقة وذات هي نفسه والجسم قائم بنفسه وهو قائم بنفسه فعلم بهذه البراهين البينة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا للباطل ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا للباطل والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته والعبد لا يشركه في شيء من ذلك والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه وقدرته والله تعالى منزه

عن مشاركة العبد في خصائصه وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار حيث توهموا أن الإتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب هو الوجود الذي للعبد وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالإشتراك اللفظي وكابروا عقولهم فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام واللفظ المشترك كلفظ المشترى الواقع على المبتاع والكوكب لا ينقسم معناه ولكن يقال لفظ المشترى يقال على وكذا وعلى كذا وطائفة ظنت أنها إذا سمت هذا اللفظ ونحوه مشككا لكون الوجود بالواجب أولى منه بالممكن خلصت من هذه الشبهة وليس كذلك فإن تفاضل المعنى المشترك الكلى لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركا بين اثنين كما أن معنى السواد مشترك بين هذا السواد وهذا السواد وبعضه أشد من بعض

وطائفة ظنت أن من قال الوجود متواطئ عام فإنه يقول وجود الخالق زائد على حقيقته ومن قال حقيقته هي وجوده قال إنه مشترك اشتراكا لفظيا وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وأصل خطأ هؤلاء توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلى هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين وليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا لا يوجد إلا معينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي بها كان مسماها مختصا به وإذا سمى بها العبد كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيها غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق وإذا قيل قد اشتركا في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو الماهية والحقيقة التي تخصه قيل اشتراكا في الوجود المطلق الذهني لا اشتراكا في مسمى الحقيقة والماهية والذات والنفس وكما أن حقيقة هذا تخصه

فكذلك وجوده يخصه والغلط نشأ من جهة أخذ الوجود مطلقا وأخذ الحقيقة مختصة وكل منهما يمكن أخذه مطلقا ومختصا فالمطلق مساو للمطلق والمختص مساو للمختص فالوجود المطلق مطابق للحقيقة المطلقة ووجوده المختص مطابق لحقيقته المختصة والمسمى بهذا وهذا واحد وإن تعددت جهة التسمية كما يقال هذا هو ذاك فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين وأيضا فإذا اشتركا في مسمى الوجود الكلي فإن أحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده الذي يخصه كما أن الحيوانين والإنسانين إذا اشتركا في مسمى الحيوانية والإنسانية فإنه يمتاز أحدهما عن الآخر بحيوانية تخصه وإنسانية تخصه فلو قدر أن الوجود الكلى ثابت في الخارج لكان التمييز يحصل بوجود خاص لا يحتاج أن يقال هو مركب من وجود وماهية فكيف والأمر بخلاف ذلك ومن قال إنه وجود مطلق بشرط سلب كل أمر ثبوتي فقوله أفسد من هذا الأقوال وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود أن إثبات الأسماء والصفات لله لا يستلزم أن يكون سبحانه مشبها مماثلا لخلقه وأما قوله إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم

فيقال أولا جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وهو المختص بالقدم والأزلية ثم يقال ثانيا الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإليهة فلا إله إلا هو فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (سورة البقرة). وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد (سورة النحل). وقال وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (سورة الأنبياء). ومثل هذا في القرآن كثير كقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله (سورة محمد). وقوله إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (سورة الصافات). وبالجملة فهذا أول ما دعا إليه الرسول وآخره حيث قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول اللهوقال لعمه أبي طالب يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله وكل هذه الأحاديث في الصحاح

وهذا من أظهر ما يعلم بالإضطرار من دين النبي صلى الله عليه وسلم وهو توحيد الإلهية أنه لا إله إلا الله وأما كون القديم الأزلي واحدا فهذا اللفظ لا يوجد لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه بل ولا جاء اسم القديم في أسماء الله تعالى وإن كان من أسمائه الأول والأقوال نوعان فما كان منصوصا في الكتاب والسنة وجب الإقرار به على كل مسلم وما لهم يكن له أصل في النص والإجماع لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه فقول القائل القديم الأزلي واحد وإن الله مخصوص بالأزلية والقدم لفظ مجمل فإن أراد به أن الله بما يستحقه من صفاته اللازمة له هو القديم الأزلي دون مخلوقاته فهذا حق ولكن هذا مذهب أهل السنة والجماعة وإن أراد به أن القديم الأزلي هو الذات التي لا صفات لها لا حياة ولا علم ولا قدرة لأنه لو كان لها صفات لكانت قد شاركتها في القدم ولكانت إلها مثلهافهذا الإسم هو اسم للرب الحي العليم القدير ويمتنع حي لا حياة له وعليم لا علم له وقدير لا قدرة له كما يمتنع مثل ذلك في نظائره وإذا قال القائل صفاته زائدة على ذاته فالمراد أنها زائدة على ما أثبته النفاة لا أن في نفس الأمر ذاتا مجردة عن الصفات وصفات زائدة عليها فإن هذا باطل ومن حكى عن أهل السنة أنهم يثبتون مع الله ذوات قديمة بقدمه وأنه مفتقر إلى تلك الذوات فقد كذب عليهم فإن للنظار في هذا المقام أربعة أقوال ثبوت الصفات وثبوت الأحوال ونفيهما جميعا وثبوت الأحوال دون الصفاتفالأول قول جمهور نظار المثبتة الصفاتية يقولون إنه عالم بعلمه وقادر بقدرته وعلمه نفس عالميته وقدرته نفس قادريته وعقلاء النفاة كأبي الحسين البصري وغيره يسلمون أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه قادرا وكذلك مثبتة الأحوال منهم وهذا بعينه هو مذهب جمهور المثبتة للصفات دون الأحوال ولكن من أثبت الأحوال مع الصفات كالقاضي أبي بكر والقاضي

أبي يعلى وأبي المعالي في أول قوله فهؤلاء يتوجه رد النفاة إليهم وأما من نفى الصفات والأحوال جميعا كأبي علي وغيره من المعترلة فهؤلاء يسلمون ثبوت الأسماء والأحكام فيقولون نقول إنه حي عليم قدير فيخبر عنه بذلك ويحكم بذلك ونسميه بذلك فإذا قالوا لبعض الصفاتية أنتم توافقون على أنه خالق عادل وإن لم يقم بذاته خلق وعدل فكذلك حي عليم قدير قيل موافقة هؤلاء لكم لا تدل على صحة قولكم فالسلف والأئمة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعا ويقولون إنه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى ثم هذه الأسماء دلت على خلق ورزق كما دل متكلم ومريد على كلام وإرادة ولكن هؤلاء النفاة جعلوا المتكلم والمريد والخالق والعادل يدل على معان منفصلة عنه وجعلوا الحي والعليم والقدير لا تدل على معان لا قائمة به ولا منفصلة عنه وجعلوا كل ما وصف الرب به نفسه من كلامه ومشيئته وحبه وبغضه ورضاه وغضبه إنما هي مخلوقات منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بما هو منفصل عنه فخالفوا صريح العقل والشرع واللغة

فإن العقل الصريح يحكم بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره فالمحل الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحركا أسود أبيض لا غيره وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره وما لم يقم به الصفة لا يتصف بها فما لم يقم به كلام وإرادة وحركة وسواد وفعل لا يقال له متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا أسود ولا فاعل وأما إذا لم يكن هناك معنى يتصف به فلا يسمى بأسماء المعاني وهؤلاء سموه حيا عالما قادرا مع أنه عندهم لا حياة له ولا علم ولا قدرة وسموه مريدا متكلما مع أن الإرادة والكلام قائم بغيره وكذلك من سماه خالقا فاعلا مع أنه لم يقم به خلق ولا فعل فقوله من جنس قولهم ونصوص الكتاب والسنة قد أثبتت اتصافه بالصفات القائمة به واللغة توجب أن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه فيوجب إذا صدق اسم الفاعل والصفة المشبهة أن يصدق مسمى المصدر فإذا قيل قائم وقاعد كان ذلك مستلزما للقيام والقعود وكذلك إذا قيل فاعل وخالق كان ذلك مستلزما للفعل والخلق وكذلك إذا قيل متكلم ومريد كان ذلك مستلزما للكلام والإرادة وكذلك إذا قيل حي عالم قادر كان ذلك مستلزما للحياة والعلم والقدرة ومن نفى قيام الأفعال وقال لو كان خالقا بخلق لكان إن كان

قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا لزم أن يكون له خلق آخر فيلزم التسلسل ويلزم قيام الحوادث قد أجابه الناس بأجوبة متعددة كل على أصله فطائفة قالت بقدم الخلق دون المخلوق وعارضوه بالإرادة فإنه يقول إنها قديمة مع أن المراد محدث قالوا فكذلك الخلق وهذا جواب كثير من الحنفية والحنبلية والصوفية وأهل الحديث وغيرهم وطائفة قالت بل الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر كما أن المخلوق عنده كله لا يفتقر إلى خلق فإذا لم يفتقر شيء من الحوادث إلى خلق عنده فأن لا يفتقر الخلق الذي به خلق المخلوق إلى خلق أولى وهذا جواب كثير من المعتزلة والكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم ثم من هؤلاء من يقول الخلق قائم به ومنهم من يقول قائم بالمخلوق ومنهم من يقول قائم لا في محل كما يقول البصريون من المعتزلة في الإرادة وطائفة التزمت التسلسل ثم هؤلاء صنفان منهم من قال بوجود معان لا نهاية لها في آن واحد وهذا قول ابن عباد وأصحابهومنهم من قال بل تكون شيئا بعد شيء وهو قول كثير من أئمة الحديث والسنة وأئمة الفلاسفة وأما التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه وقال كما أنه يجوز عندكم حوادث منفصلة لا ابتداء لها فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا ابتداء لها وهذا قول كثير من الكرامية والمرجئة والهشامية وغيرهم ومنهم من قال بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثرات والتزم أنه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئا بعد شيء ويقول إنه لم يزل متكلما بمشيئته ولا نهاية لكلماته وهذا قول أئمة الحديث وكثير من النظار والكلام على قيام الأمور الإختيارية بذاته مبسوط في موضع آخر فهذا قول المعتزلة والشيعة الموافقين لهم وهو قول باطل لأن صفة الإله لا يجب أن تكون إلها كما أن صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا

وإذا كانت صفة النبي المحدث موافقة له في الحدوث لم يلزم أن تكون نبيا مثله فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله فهؤلاء مذهبهم نفى صفات الكمال اللازمة لذاته وشبهتهم التي أشار إليها أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من واحد كما يقول ابن سينا وأمثاله وأخذ ذلك ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة عن المعتزلة فقالوا لو كان له صفة واجبة لكان الواجب أكثر من واحد وهذا تلبيس فإنهم إن أرادوا أن يكون الإله القديم أو الإله الواجب أكثر من واحد فالتلازم باطل فليس يجب أن تكون صفة الإله إلها ولا صفة الإنسان إنسانا ولا صفة النبي نبيا ولا صفة الحيوان حيوانا وإن أرادوا أن الصفة توصف بالقدم كما يوصف الموصوف بالقدم فهو كقول القائل توصف صفة المحدث بالحدوث كما يوصف الموصوف بالحدوث

وكذلك إذا قيل توصف بالوجوب كما يوصف الموصوف بالوجوب فليس المراد أنها توصف بوجوب أو قدم أو حدوث على سبيل الإستقلال فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ولكن المراد أنها قديمة واجبة بقدوم الموصوف ووجوبه إذا عني بالواجب ما لا فاعل له وعنى بالقديم ما لا أول له وهذا حق لا محذور فيه وقد بسط الكلام على هذا بسطا مستوفى في مواضع بين ما في لفظ واجب الوجود والقديم من الإجمال وشبهة نفاة الصفات وهو لم يذكر هنا إلا شيئا مختصرا قد ذكرنا ما يناسب هذا الموضع وبينا في موضع آخر أن لفظ القديم وواجب الوجود فيه أجمال فإذا أريد بالقديم القائم بنفسه أو الفاعل القديم أو الرب القديم ونحو ذلك فالصفة ليست قديمة بهذا الإعتبار بل هي صفة القديم وإذا أريد مالا ابتداء له ولم يسبقه عدم مطلقا فالصفة قديمة وكذلك لفظ واجب الوجود إن أريد به القائم بنفسه الموجود بنفسه فالصفة ليست واجبة بل هي صفة واجب الوجود وإن أريد ما لا فاعل له أو ما ليس له علة فاعلة فالصفة واجبة الوجود وإن أريد به مالا تعلق له بغيره فليس في الوجود واجب الوجود بهذا الإعتبار فإن

البارئ تعالى خالق لكل ما سواه فله تعلق بمخلوقاته وذاته ملازمة لصفاته وصفاته ملازمة لذاته وكل من صفاته اللازمة ملازمة لصفته الأخرى وبينا أن واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات والقديم الذي دلت عليه المحدثات الذي هو الخالق الموجود بنفسه الذي لم يزل ولا يزال ويمتنع عدمه فإن تسمية الرب واجبا بذاته وجعل ما سواه ممكنا ليس هو قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن كانوا يسمونه مبدءا وعلة ويثبتونه من جهة الحركة الفلكية فيقولون إن الفلك يتحرك للتشبه به فركب ابن سينا وأمثاله مذهبا من قول أولئك وقول المعتزلة فلما قالت المعتزلة الموجود ينقسم إلى قديم وحادث وإن القديم لا صفة له قال هؤلاء إنه ينقسم إلى واجب وممكن والواجب لا صفة له ولما قال أولئك يمتنع تعدد القديم قال هؤلاء يمتنع تعدد الواجب وأما قوله إن كل ما سواه محدث فهذا حق والضمير في ما سواه عائد إلى الله وهو إذا ذكر باسم مظهرأو مضمر دخل في مسمى اسمه صفاته فهي لا تخرج عن مسمى أسمائه فمن قال دعوت الله أو عبدته فهو إنما دعا الحي القيوم العليم القدير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال وأما قوله لأنه واحد وليس بجسم فإن أراد بالواحد ما أراده الله ورسوله بمثل قوله وإلهكم إله واحد (سورة البقرة). وقوله وهو الواحد القهار (سورة الرعد). ونحو ذلك فهذا حق وإن أراد بالواحد ما تريده الجهمية نفاة الصفات من أنه ذات مجردة عن الصفات فهذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وإنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان ويمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات ويمتنع

وجود حي عليم قدير لا حياة له ولا علم ولا قدرة فإثبات الأسماء دون الصفات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات وكذلك قوله ليس بجسم لفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والإنفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى

قيل له هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا وإن قال كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة قيل له هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة ومن يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الإختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي لا يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدرة

ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم وحقيقة الأمر أن لفظ الجسم فيه منازعات لفظية ومعنوية والمنازعات اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية وأما المنازعات المعنوية فمثل تنازع الناس فيما يشار إليه إشارة حسية هل يجب أن يكون مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو لا يجب واحد منهما فذهب كثير من النظار من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم إلى أنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر الفردة ثم جمهور هؤلاء قالوا إنه مركب من جواهر متناهية وقال بعض النظار بل من جواهر غير متناهية وذهب كثير من النظار من المتفلسفة إلى أنه يجب أن يكون مركبا من المادة والصورة ثم من الفلاسفة من طرد هذا في جميع الأجسام كابنسينا ومنهم من قال بل هذا في الأجسام العنصرية دون الفلكية وزعم أن هذا قول أرسطو والقدماء وكثير من المصنفين لا يذكر إلا هذين القولين ولهذا كان من لم يعرف إلا هذه المصنفات لا يعرف إلا هذين القولين والقول الثالث قول جماهير العقلاء وأكثر طوائف النظار أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهذا قول ابن كلاب إمام الأشعري وغيره وهو قول كثير من الكرامية وهو قول الهشامية والنجارية والضرارية

ثم هؤلاء منهم من قال ينتهي بالتقسيم إلى جزء لا يتجزأ كقول الشهرستاني وغيره ومنهم من قال بل لا يزال قابلا للإنقسام إلى أن يصغر فيستحيل معه تمييز بعضه عن بعض كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة مع قول بعضهم إنه مركب من المادة والصورة وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين وأن نفيه هو قول الملحدين وهذا لأن هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمه السلف والأئمة كقول أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعالويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وكقول أحمد بن حنبل علماء الكلام زنادقة وقوله ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح وأمثال ذلك وإلا فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين بل القائلون بذلك يقولون إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئا قائما بنفسه لا سماء ولا أرضا ولا حيوانا ولا نباتا ولا معادن ولا إنسانا ولا غير إنسان بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها فإنما يحدث أعراضا قائمة بتلك الجواهر لا أعيانا قائمة بأنفسها فيقولون إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار لم يخلق عينا قائمة بنفسها وإنما خلق أعراضا قائمة بغيرها وهذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلا عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عينا قائمة بنفسها إلا ذلك وهؤلاء

يقولون إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض بل الجواهر التي كانت مثلا في الأول هي بعينها باقية في الثاني وإنما تغيرت أعراضها وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء من استحالة بعض الأجسام إلى بعض كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت ترابا واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحا أو رمادا واستحالة العذرات ترابا واستحالة العصير خمرا ثم استحالة الخمر خلا واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولا ودما وغائطا ونحو ذلك وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة هل تطهر بالإستحالة أم لا ولم ينكر أحد منهم الإستحالة ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة وقول من قال منهم إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت ومثل قول كثير منهم

إن الإنسان إذا مات فجميع جواهره باقية قد تفرقت ثم عند الإعادة يجمعها الله تعالى ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبدالله الرازي وكذلك ابن عقيل والغزالي وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء يذمون أقوال هؤلاء يقولون إن أحسن أمرهم الشك وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل وبسط الكلام على فساد قول القائلين بتركيب الجواهر الفردة المحسوسة أو الجواهر المعقولة له موضع آخر وكذلك ما يثبته المشاؤون من الجواهر العقلية كالعقول والنفوس المجردة كالمادة والمدة والمثل الأفلاطونية والأعداد المجردة التي يثبتها أو بعضها كثير من المشائين أتباع فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن لما أثبتوه من العقليات وجود إلا في الأذهان لا في الأعيان وهذا لبسطه موصع آخر وهذا المصنف لم يذكر لقوله إلا مجرد الدعوى فلذلك لم نبسط القول فيه وإنما المقصود التنبيه على أن آخر ما ينتهى إليه أصل هؤلاء الذي

نفوا به ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف بل ولما ثبت بالفطرة العقلية التي اشترك فيها جميع أهل الفطر التي لم تفسد فطرتهم بما تلقنوه من الأقوال الفاسدة بل ولما ثبت بالبراهين العقلية فالذي ينتهى إليه أصلهم هو أنه لو كان متصفا بالصفات أو متكلما بكلام يقوم به ومريدا بما يقوم به من الإرادة الحسية وكانت رؤيته ممكنة في الدنيا أو في الآخرة لكان مركبا من الجواهر المفردة الحسية أو الجواهر العقلية المادة والصورة وهذا التلازم باطل عند جماهير العقلاء فيما نشاهد فإن الناس يرون الكواكب وغيرها من الأجسام وهي عند جماهير العقلاء ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولو قدر أن هذا التلازم حق فليس في حججهم حجة صحيحة يوجب انتفاؤها اللازم بل كل من الطائفتين تطعن في حجج الفريق الآخر وتبين فسادها فأولئك يقولون إن كل ما كان كذلك فهو محدث ومنازعوهم يطعنون في المقدمتين ويبينون فسادهما والآخرون يقولون إن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فكل مركب مفتقر إلى غيره ومنازعوهم يثبتون فساد هذه الحجة وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة كما قد بسط في موضع آخر ولهذا يقول من يقول من العقلاء العارفين بحقيقة قول هؤلاء وهؤلاء

إن الواحد الذي يثبته هؤلاء لا يتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان ولهذا لما بنى الفلاسفة الدهرية على قولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدا كان من أول ما يبين فساد قولهم أو الواحد الذي ادعوا فيه ما ادعوا لا حقيقة له في الخارج بل يمتنع وجوده فيه وإنما يقدر في الأذهان كما يقدر سائر الممتنعات وكذلك سائر الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات لما أثبتوا واحدا لا يتصف بشيء من الصفات كانوا عند أئمة العلم الذين يعرفون حقيقة قولهم إنما توحيدهم تعطيل مستلزم لنفى الخالق وإن كانوا قد أثبتوه فهم متناقضون جمعوا بين ما يستلزم نفيه وما يستلزم إثباته ولهذا وصفهم أئمة الإسلام بالتعطيل وأنهم دلاسون ولا يثبتون شيئا ولا يعبدون شيئا ونحو ذلك كما هو موجود في كلام غير واحد من أئمة الإسلام مثل عبد العزيز بن الماجشون وعبدالله بن المبارك وحمادبن زيد ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء ولا بد للدعوى من دليل وكذلك قوله ولا في مكان فقد يراد بالمكان ما يحوى الشيء ويحيط به وقد يراد به ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجا إليه وقد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجا إليه وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئا موجودا

فإن قيل هو في مكان بمعنى إحاطة غيره به وافتقاره إلى غيره فالله منزه عن الحاجة إلى الغير وإحاطة الغير به ونحو ذلك وإن أريد بالمكان ما فوق العالم وما هو الرب فوقه قيل إذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق والخالق بائن من المخلوق كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإذا قال القائل هو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا المعنى حق سواء سميت ذلك مكانا أو لم تسمه وإذا عرف المقصود فمذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وهو القول المطابق لصحيح المنقول وصريح المعقول وأما قوله وإلا لكان محدثا فمضمونه أنه لو كان جسما أو في مكان لكان محدثا فيقال له قد بينا ما ينفى عنه من معاني الجسم والمكان وبينا ما لا يجوز نفيه عنه وإن سماه بعض الناس جسما ومكانا لكن ما الدليل على أنه لو كان كذلك لكان محدثا وأنت لم تذكر دليلا على ذلكوكأنه اكتفى بالدليل المشهور الذي يذكره سلفه وشيوخه المعتزلة من أنه لو كان جسما لم يخل عن الحركة والسكون وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ثم يقولون ولو كان قام به علم وقدرة وحياة وكلام ونحو ذلك من الصفات لكان جسما وهذا الدليل عنه جوابان أحدهما أن يقال له هو عندك حي عليم قدير ومع هذا فليس بجسم عندك مع أنك لا تعلم حيا عليما قديرا إلا جسما فإن كان قولك حقا أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وأن يكون مباينا للعالم عاليا عليه وليس بجسم فإن قلت لا أعقل مباينا عاليا إلا جسما قيل لك ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسم فإن أمكن أن يكون مسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم أمكن أن يتصف بهذه الصفات ما ليس بجسم وإلا فلا لأن الإسم مستلزم للصفة

وكذلك إذا قال لو كان فوق العالم لكان جسما ولكان إما أكبر من العالم وإما أصغر وإما مساويا له وكل ذلك ممتنع فيقال له إن كثيرا من الناس يقولون إنه فوق العالم وليس بجسم فإذا قال النافي قوله هؤلاء معلوم فساده بضرورة العقل قيل له فأنت تقول إنه موجود قائم بنفسه وليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ولا مباين له ولا محايث له وأنه لا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من النفى الذي إذا عرض على الفطرة السليمة جزمت جزما قاطعا أن هذا باطل وأن وجود مثل هذا ممتنع وكان جزمها ببطلان هذا أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم فإن كان حكم الفطرة السليمة مقبولا وجب بطلان مذهبك فلزم أن يكون فوق العالم وإن كان مردودا بطل ردك لقول من يقول إنه فوق العالم وليس بجسم فإن الفطرة الحاكمة بامتناع هذا هي الحاكمة بامتناع هذا فيمتنع قبول حكمها في أحد الموضعين دون الآخر وذلك أن هؤلاء النفاة يزعمون أن الحكم بهذا المنع من حكم الوهم المردود لا من حكم العقل المقبول ويقولون إن الوهم هو أن يدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عدواة الذئبوتدركا السخلة صداقة أمها ويقولون الحكم الفطري الموجود في قلوب بني آدم بامتناع وجود مثل هذا هو حكم الوهم لا حكم العقل فإن حكم الوهم إنما يقبل في المحسوسات لا فيما ليس بمحسوس فيقال لهم إن كان هذا صحيحا فقولكم إنه يمتنع أن يكون فوق العالم وليس بجسم هو أيضا من حكم الوهم لأنه حكم فيما ليس بمحسوس عندكم وكذلك حكمه بأن كل ما يرى فلا بد أن يكون بجهة من الرائي هو حكم الوهم أيضا وكذلك سائر ما يدعون امتناعه على الرب هو مثل دعوى امتناع كونه لا مباينا ولا محايثا فإن كان حكم الفطرة بهذا الإمتناع مقبولا في

شيء من ذلك قبل في نظيره وإلا فقبوله في أحد المتماثلين ورده في الآخر تحكم وهؤلاء بنوا كلامهم على أصول متناقضة فإن الوهم عندهم قوة في النفس تدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا الوهم لا يدرك إلا معنى جزئيا لا كليا كالحس والتخيل وأما الأحكام الكلية فهي عقلية فحكم الفطرة بأن كل موجودين إما متحايثان وإما متباينان وبأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما وأنه يمتنع وجود ما هو كذلك ونحو ذلك أحكام كلية عقلية ليست أحكاما جزئية شخصية في جسم معين حتى يقال إنها من حكم الوهم وأيضا فإنهم يقولون إن حكم الوهم فيما ليس بمحسوس باطل لأنه إنما يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي ليست محسوسة أي لا يمكن إحساسها ومعلوم أن كون رب العالمين لا تمكن رؤيته أو تمكن مسألة مشهورة فسلف الأمة وأئمتها وجمهور نظارها وعامتها على أن الله يمكن رؤيته ورؤية الملائكة والجن وسائر ما يقوم بنفسه فإذا ادعى المدعى أنه لا يمكن رؤيته ولا رؤية الملائكة التي يسميها هو المجردات

والنفوس والعقول فهو يدعى وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإحساس به بحال فإذا احتج عليه بالقضايا الفطرية التي تحكم بها الفطرة كما تحكم بسائر القضايا الفطرية لم يكن له أن يقول هذا حكم الوهم فيما ليس بمحسوس فلا يقبل لأن الوهم إنما يدرك ما في المحسوس فإنه يقال له إنما يثبت أن هذا مما لا يمكن أن يرى ويحس به إذا ثبت أن هذا الحكم باطل وإنما يثبت أن هذا الحكم باطل إذا ثبت وجود موجود لا يمكن أن يرى ويحس به وأنت لم تثبت هذا الموجود إلا بدعواك أن هذا الحكم باطل ولم تثبت أن هذا الحكم باطل إلا بدعواك وجود هذا الموجود فصار حقيقة قولك دعوى مجردة بلا دليل فإذا ثبت امتناع رؤيته بإبطال هذا الحكم كان هذا دورا ممتنعا وكنت قد جعلت الشيء مقدمة في إثبات نفسه فإنه يقال لك لم تثبت إمكان وجود غير محسوس إن لم تثبت بطلان هذا الحكم ولا تثبت بطلانه إن لم تثبت موجودا قائما بنفسه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به فإذا قلت الوهم يسلم مقدمات تستلزم ثبوت هذا قيل لك ليس الأمر كذلك فإنه لم يسلم مقدمة مستلزمة لهذا أصلا بل جميع ما ينبنى عليه ثبوت إمكان هذا وإمكان هذا وإمكان وجود ما لا يمكن رؤيته ولا يشار إليه مقدمات متنازع فيها بين العقلاء ليس فيها مقدمة واحدة متفق عليها فضلا عن أن تكون ضرورية أو حسية يسلمها الوهم

ثم يقال لك إذا جوزت أن يكون في الفطرة حاكمان بديهيان أحدهما حكمه باطل والآخر حكمه حق لم يوثق بشيء من حكم الفطرة حتى يعلم أن ذلك من حكم الحاكم الحق ولا يعرف عن ذلك حتى يعرف أنه ليس من الحكم الباطل ولا يعرف أنه باطل حتى تعرف المقدمات البديهية الفطرية التي بها يعلم أن ذلك الحكم باطل فيلزم من هذا أن لا يعرف شيء بحكم الفطرة فإنه لا يعرف الحق حتى يعرف الباطل ولا يعرف الباطل حتى يعرف الحق فلا يعرف الحق بحال وأيضا فالأقيسة القادحة في تلك الأحكام الفطرية البديهية أقيسة نظرية والنظريات مؤلفة من البديهيات فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل يستلزم فساد العلوم العقلية بل والسمعية وأيضا لفظ الوهم في اللغة العامة يراد به الخطأ وأنت أردت به قوة تدرك ما في الأجسام من المعاني التي ليست محسوسة وحينئذ فالحاكم بهذا الإمتناع إن كان حكم به في غير جسم فليس هو الوهم وإن كان إنما حكم به في جسم فحكمه صادق فيه فلم قلت إن هذا هو حكم الوهم فيما لا يقبل حكمه فيه ومعلوم أن ما تحكم به الفطرة السليمة من القضايا الكلية المعلومة

لها ليس فيها ما يحصل بعضه من حكم الوهم الباطل وبعضه من حكم العقل الصادق وإنما يعلم أن الحكم من حكم الوهم الباطل إذا عرف بطلانه فأما أن يدعى بطلانه بدعوى كونه من حكم الوهم فهذا غير ممكن وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا أن هذا المبتدع وأمثاله من نفاة ما أثبته الله ورسوله لنفسه من معاني الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من المتفلسفة والرافضة وغيرهم لا يعتمدون فيما يقولونه على دليل صحيح لا سمعي ولا عقلي أما السمعيات فليس معهم نص واحد يدل على قولهم لا قطعا ولا ظاهرا ولكن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على نقيض قولهم ودالة على ذلك أعظم من دلالتها على المعاد والملائكة وغير ذلك مما أخبر الله به رسوله ولهذا سلط الله عليهم الدهرية المنكرون للقيامة ولمعاد الأبدان وقالوا إذا جاز لكم أن تتأولوا ما ورد في الصفات جاز لنا أن نتأول ماورد في المعاد وقد أجابوهم بأنا قد علمنا ذلك بالإضطرار من دين الرسولفقال لهم أهل الإثبات وهكذا العلم بالصفات في الجملة هو مما يعلم بالضرورة مجئ الرسول به وذكره في الكتاب والسنة أعظم من ذكر الملائكة والمعاد مع أن المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد مع أن التوراة مملوءة من ذلك ولم ينكره الرسول على اليهود كما أنكر عليهم ما حرفوه وما وصفوا به الرب من النقائص كقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء (سورة آل عمران). و يد الله مغلولة (سورة المائدة). ونحو ذلك وذلك مما يدل على أن الله أظهر في السمع والعقل من المعاد فإذا كانت نصوص المعاد لا يجوز تحريفها فهذا بطريق الأولى وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والجواب الثاني أن يقال هذا الدليل قد عرف ضعفه لأنه إذا كان هذا الحادث ليس بدائم وهذا ليس بدائم باق يجب أن يكون نوع الحوادث ليست بدائمة باقية كما أنه إذا كان هذا الحادث ليس بباق وهذا الحادث ليس بباق يجب أن يكون نوع الحوادث ليس بباق

بل هي باقية دائمة في المستقبل في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وجمهورها كما قال تعالى أكلها دائم وظلها (سورة الرعد). والمراد دوام نوعه لا دوام كل فرد فرد قال تعالى لهم فيها نعيم مقيم (سورة التوبة). والمقيم هو نوعه وقال إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (سورة ص). والمراد أن نوعه لا ينفد وإن كان كل جزء منه ينفد أي ينقضي وينصرم وأيضا فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وذلك ممتنع في صريح العقل وهذا الدليل هو أصل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه لأنهم رأوه باطلا لا يقيم حقا ولا يهدم باطلا وقد تقدم الكلام على هذا في مسألة الحدوث وتمام كشف ذلك أن نقول في الوجه الخامس إن الناس عليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله فيصدقوه فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر فهذا أصل السعادة وجماعهاوالقرآن كله يقرر هذا الأصل قال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (سورة البقرة). فقد وصف سبحانه بالهدى والفلاح المؤمنين الموصوفين في هذه الآيات وقال تعالى لما أهبط آدم من الجنة فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). فقد أخبر أن من اتبع الهدى الذي أتانا منه وهو ما جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكره وهو الذكر الذي أنزله وهو كتبه التي بعث بها رسله بدليل أنه قال بعد ذلك كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى والذكر مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول كما يقال دق الثوب ودق القصار ويقال أكل زيد وأكل الطعام

ويقال ذكر الله أي ذكر العبد ويقال ذكر الله أي ذكر الله الذي ذكره هو مثل ذكره عبده ومثل القرآن الذي هو ذكره وقد يضاف الذكر إضافة الأسماء المحضة فقوله ذكرى إن أضيف إضافة المصادر كان المعنى الذكر الذي ذكرته وهو كلامه الذي أنزله وإن أضيف إضافة الأسماء المحضة فذكره هو ما اختص به من الذكر والقرآن مما اختص به من الذكر قال تعالى وهذا ذكر مبارك أنزلناه (سورة الأنبياء). وقال ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (سورة الأنبياء). وقال إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (سورة يس). وقال وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (سورة النحل). وقال فيما يذكره من ضمان الهدى والفلاح لمن اتبع الكتاب والرسول فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (سورة الأعراف). وقال آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (سورة إبراهيم). ونظائره في القرآن كثيرة وإذا كان كذلك فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضى الكمال منإثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها منزه عن النقص بكل وجه ممتنع وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله بل ولا يقاربه فيها شيء من الأشياء والتنزيه يجمعه نوعان نفي النقص ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد وغيرها من القرآن مع دلالة العقل على ذلك وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل بل وقد أخبر الله أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه في الدنيا كأنواع المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك وقد قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فحقائق تلك

أعظم من حقائق هذه بما لا يعرف قدره وكلاهما مخلوق والنعيم الذي لا يعرف جنسه قد أجمله الله سبحانه وتعالى بقوله فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين (سورة السجدة). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الإسم مع أن بينهما في الحقيقةتباينا لا يعرف في الدنيا قدره فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ولهذا قال أعلم الخلق بالله في الحديث الصحيح لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال في الدعاء المأثور الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أصاب عبدا هم قط ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيبعندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لكل من سمعهن أن يتعلمهن فبين أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك ولا نبي وأسماؤه تتضمن صفاته ليست أسماء أعلام محضة كاسمه العليم والقدير والرحيم والكريم والمجيد والسميع والبصير وسائر أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى وهو سبحانه مستحق للكمال المطلق لأنه واجب الوجود بنفسه يمتنع العدم عليه ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه كان محتاجا إلى الغير والحاجة إما إلى حصول كمال له وإما إلى دفع ما ينقص كماله ومن احتاج

في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودا بنفسه بل بذلك الغير وهو بدون ذلك الكمال ناقص والناقص لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا مفتقرا إلى غيره لأنه لو كان واجبا بنفسه مع كونه ناقصا مفتقرا إلى كمال من غيره لكان الذي يعطيه الكمال إن كان ممكنا فهو مفتقر إلى واجب آخر والقول في هذا كالقول في الأول وإن كان واجبا ناقصا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان واجبا كاملا فهذا هو الواجب بنفسه وذاك الذي قدر واجبا ناقصا فهو مفتقر إلى هذا في كماله وذاك غنى عنه فهذا هو رب ذاك وذاك عبده ويمتنع مع كونه مربوبا معبدا أن يكون واجبا ففرض كونه واجبا ناقصا محال وأيضا فيمتنع أن يكون نفس ما هو واجب بنفسه فيه نقص يفتقر في زواله إلى غيره لأن ذلك النقص حينئذ يكون ممكن الوجود وإلا لما قبله وممكن العدم وإلا لكان لازما له لا يقبل الزوال والتقدير أنه ممكن زواله بحصول الكمال الممكن الوجود فإن ما هو ممتنع لا يكون كمالا وما هو ممكن فإما أن يكون للواجب أو من الواجب ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق فالخالق الواجب بنفسه أحق بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال فيكون ذلك الكمال إذا وجد مفتقرا إليه وإلى ذلك الغير الآخر يحصل بهما جميعا وكل منهما واجب بنفسه فلا يكون

ذلك الأثر لا من هذا ولا من هذا بل هو شيء منفصل عنهما وتحقيق ذلك أن كمال الشيء هو من نفس الشيء وداخل فيه فالواجب بنفسه لا يكون واجبا إن لم يكن ما هو داخل في نفسه واجب الوجود لا يفتقر فيه إلى سبب منفصل عنه فمتى افتقر فيما هو داخل فيه إلى سبب منفصل عنه لم تكن نفسه واجبة بنفسه وما لا يكون داخلا في نفسه لا يكون من كماله أيضا بل يكون شيئا مباينا له وإنما يكون ذلك شيئين أحدهما واجب بنفسه والآخر شيء قرن به وضم إليه وأيضا فنفس واجب الوجود هو أكمل الموجودات إذ الواجب أكمل من الممكن بالضرورة فكل كمال ممكن له إن كان لازما له امتنع أن يكون كماله مستفادا من غيره أو أن يحتاج فيه إلى غيره وإن لم يكن لازما له فإن لم يكن قابلا له من قبول غيره من الممكنات له كان الممكن أكمل من الواجب وما لا يقبله لا واجب ولا ممكن ليس كمالا وإن كان قابلا له ولم تكن ذاته مستلزمة له كان غيره معطيا له إياه والمعطى للكمال هو أحق بالكمال فيكون ذلك المعطى أكمل منه وواجب الوجود لا يكون غيره أكمل منه وإذا قيل ذلك الغير واجب أيضا

فإن لم يكن كاملا بنفسه كان كل منهما معطيا للآخر الكمال وهذا ممتنع لأنه يستلزم كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر أثرا لا يحصل إلا بعد تأثير الآخر فإن هذا لا يفيد ذلك الكمال للآخر حتى يكون كاملا ولا يكون كاملا حتى يفيده الآخر الكمال وهذا ممتنع كما يمتنع أن لا يوجد هذا حتى يوجده ذاك ولا يوجد ذاك حتى يوجده هذا وإن كان ذلك الغير واجبا كاملا بنفسه مكملا لغيره والآخر واجب ناقص يحتاج في كماله إلى ذلك الكامل المكمل كان جزء منه مفتقرا إلى ذاك وما افتقر جزء منه إلى غيره لم تكن جملته واجبة بنفسها وإيضاح ذلك أن الواجب بنفسه إما أن يكون شيئا واحدا لا جزء له أو يكون أجزاء فإن كان شيئا واحدا لا جزء له امتنع أن يكون له بعض فضلا عن أن يقال بعضه يفتقر إلى الغير وبعضه لا يفتقر إلى الغير وامتنع أن يكون شيئين أحدهما نفسه والآخر كماله وإن قيل هو جزءان أو أجزاء كان الواجب هو مجموع تلك الأجزاء فلا يكون واجبا بنفسه حتى يكون المجموع واجبا بنفسه فمتى كان البعض مفتقرا إلى سبب منفصل عن المجموع لم يكن واجبا بنفسه

وهذا المقام برهان بين لمن تأمله وبيانه أن الناس متنازعون في إثبات الصفات لله فأهل السنة يثبتون الصفات لله وكثير من الفلاسفة والشيعة يوافقهم على ذلك وأما الجهمية وغيرهم كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة كابن سينا ونحوه فإنهم ينفون الصفات عن الله تعالى ويقولون إن إثباتها تجسيم وتشبيه وتركيب وعمدة ابن سينا وأمثاله على نفيها هي حجة التركيب وهو أنه لو كان له صفة لكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزاءه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وقد تكلم الناس على إبطال هذه الحجة من وجوه كثيرة بسبب أن لفظ التركيب والجزء والإفتقار والغير ألفاظ مجملة فيراد بالمركب ما ركبه غيره وما كان متفرقا فاجتمع وما يقبل التفريق والله سبحانه منزه عن هذا بالإتفاق وأما الذات الموصوفة بصفات لازمة لها فإذا سمى المسمى هذا تركيبا كان هذا اصطلاحا له ليس هو المفهوم من لفظ المركب والبحث إذا كان في المعاني العقلية لم يلتفت فيه إلى اللفظ

فيقال هب أنكم سميتم هذا تركيبا فلا دليل لكم على نفيه ومن هذا الوجه ناظرهم أبو حامد الغزالي في التهافت وكذلك لفظ الجزء يراد به بعض الشيء الذي ركب منه كأجزاء المركبات من الأطعمة والنباتات والأبنية وبعضه الذي يمكن فصله عنه كأعضاء الإنسان ويراد به صفته اللازمة له كالحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان والناطقية للناطق ويراد به بعضه الذي لا يمكن تفريقه كجزء الجسم الذي لا يمكن مفارقته له إما الجوهر الفرد وإما المادة والصورة عند من يقول بثبوت ذلك ويقول إنه لا يوجد إلا بوجود الجسم وإما غير ذلك عند من لا يقول بذلك فإن الناس متنازعون في الجسم هل هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال وأكثر العقلاء على القول الثالث كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والأشعرية وكثير من الكرامية وكثير من أهل الفقه والحديث والتصوف والمتفلسفة وغيرهم والمقصود هنا أن لفظ الجزء له عدة معان بحسب

الإصطلاحات وكذلك لفظ الغير يراد به ما باين الشيء فصفة الموصوف وجزؤه ليس غيرا له بهذا الإصطلاح وهذا هو الغالب على الكلابية والأشعرية وكثير من أهل الحديث والتصوف والفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وكثير من الشيعة وقد يقولون الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وقد يراد بلفظ الغير ما لم يكن هو الآخر وهذا هو الغالب على اصطلاح المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة وكذلك لفظ الإفتقار يراد به التلازم ويراد به افتقار المعلوم إلى علته الفاعلة ويراد به افتقاره إلى محله وعلته القابلة وهذا اصطلاح المتفلسفة الذين يقسمون لفظ العلة إلى فاعلية وغائية ومادية وصورية ويقولون المادة وهي القابل والصورة هما علتا الماهية والفاعل والغاية هما علتا وجود الحقيقة وأما سائر النظار فلا يسمون المحل الذي هو القابل علة فهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الفلاسفة ومن وافقهم على نفي الصفات مؤلفة من ألفاظ مجملة فإذا قالوا لو كان موصوفا بالعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفاتلكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قيل لهم قولكم لكان مركبا إن أردتم به لكان غيره قد ركبه أو لكان مجتمعا بعد افتراقه أو لكان قابلا للتفريق فاللازم باطل فإن الكلام هو في الصفات اللازمة للموصوف التي يمتنع وجوده بدونها فإن الرب سبحانه يمتنع أن يكون موجودا وهو ليس بحي ولا عالم ولا قادر وحياته وعلمه وقدرته صفات لازمة لذاته وإن أردتم بالمركب الموصوف أو ما يشبه ذلك قيل لكم ولم قلتم إن ذلك ممتنع قولهم والمركب مفتقر إلى غيره قيل أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه وهذا ممتنع على الله وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركبا فليس في اتصافه هنا بها ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له فإن قلتم هي غيره وهو لا يوجد إلى بها وهذا افتقار إليها

قيل لكم إن إردتم بقولكم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل وإن أردتم أنها ليست إياه قيل لكم وإذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا فإذا قلتم هو مفتقر إليها قيل أتريدون بالإفتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله أو محل يقبله أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا إلا وهو متصف بها فإن أردتم الأول كان هذا باطلا وإن أردتم الثاني قيل وأي محذور في هذا وإن قلتم هي مفتقرة إليه قيل أتريدون أنها مفتقرة إلى فاعل يبدعها أو إلى محل تكون موصوفة به أما الثاني فأي محذور فيه وأما الأول فهو باطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها وإن قلتم هو موجب لها أو علة لها أو مقتض لها فالصفة إن كانت واجبة فالواجب لا يكون معلولا ويلزم تعدد الواجب وهو الصفة والموصوف وإن كانت ممكنة بنفسها فالممكن بنفسه لا يوجدإلا بموجب فتكون الذات هي الموجبة والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا قيل لكم لفظ الواجب بنفسه والممكن بنفسه قد صار فيه اشتراك في خطابكم فقد يراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ويراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا محل ويراد بالواجب بنفسه ما لا يكون له صفة لازمة ولا يكون موصوفا ملزوما فإن أردتم بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة فالصفة واجبة بنفسها وإن أردتم ما لا محل له يقوم به فالصفة ليست واجبة بنفسها بل الموصوف هو الواجب بنفسه وإن أردتم بالواجب ما ليس بملزوم لصفة ولا لازم فهذا لا حقيقة له بل هذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وأنتم قدرتم شيئا في أذهانكم ووصفتموه بصفات يمتنع معها وجوده فجعلتم ما هو واجب الوجود بنفسه ممتنع الوجود وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع والغرض هنا التنبيه على هذا إذ المقصود في هذا المقام يحصل على التقديرين فنقول واجب الوجود بنفسه سواء قيل بثبوت الصفات له وسمى ذلك تركيبا أو لم يسم أو قيل بنفى الصفات عنه يمتنع أنه


يكون مفتقرا إلى شيء مباين له وذلك أنه إذا قدر أنه ليس فيه معان متعددة بوجه من الوجوه كما يظنه من يظنه من نفاة الصفات فهذا يمتنع أن يكون له كمال مغاير له وأن يكون شيئين وحينئذ فلو كان فيه ما هو مفتقر إلى غيره للزم تعدد المعاني فيه وهذا ممتنع على التقديرين وإن قيل إن فيه معان متعددة فواجب الوجود هو مجموع تلك الأمور المتلازمة إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر صفات كماله وهذا هو الموجود الواجب بنفسه وهذه الصفات لازمة لذاته وذاته مستلزمة لها وهي داخلة في مسمى اسم نفسه وفي سائر اسمائه تعالى فإذا كان واجبا بنفسه وهي داخلة في مسمى اسم نفسه لم يكن موجودا إلا بها فلا يكون مفتقرا فيها إلى شيء مباين له أصلا ولو قيل إنه يفتقر في كونه حيا أو عالما أو قادرا إل عيره فذلك الغير إن كان ممكنا كان مفتقرا إليه وكان هو سبحانه ربه فيمتنع أن يكون ذلك مؤثرا فيه لأنه يلزم أن يكون هذا مؤثرا في هذا وهذا مؤثرا في هذا وتأثير كل منهما في الآخر لا يكون إلا بعد حصول أثره فيه لأن التأثير لا يحصل إلا مع كونه حيا عالما قادرا فلا يكون هذا حيا عالما قادرا

حتى يجعله الآخر كذلك ولا يكون هذا حيا عالما قادرا على حتى يجعله الآخر كذلك فلا يكون أحدهما حيا عالما قادرا إلا بعد أن يجعل الذي جعله حيا عالما قادرا حيا عالما قادرا ولا يكون حيا عالما قادرا إلا بعد كونه حيا علما قادرا بدرجتين وهذا كله مما يعلم امتناعه بصريح العقل وهو من المعارف الضرورية التي لا ينازع فيها العقلاء وهذا من الدور القبلي دور العلل ودور الفاعلين ودور المؤثرين وهو ممتنع باتفاق العقلاء بخلاف دور المتلازمين وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذ فهذا جائز سواء كانا لا فاعل لهما كصفات الله أو كانا مفعولين والمؤثر التام فيهما غيرهما وهذا جائز فإن الله يخلق الشيئين معا للذين لا يكون أحدهما إلا مع الآخر كالأبوة والبنوة فإن الله إذا خلق الولد فنفس خلقه للولد جعل هذا أبا وهذا ابنا واحدى الصفتين لم تسبق الأخرى ولا تفارقها بخلاف ما إذا كان أحد الأمرين هو من تمام المؤثر في الآخر فإن هذا ممتنع فإن الأثر لا يحصل إلا بالمؤثر التام فلو كان تمام هذا المؤثر من

تمام ذاك وتمام ذاك المؤثر من تمام هذا كان كل من التمامين متوقفا على تمام مؤثره وتمام مؤثره موقوفا عليه نفسه فإن الأثر لا يوجد إلا بعد تمام مؤثره فلا يكون كل من الأثرين من تمام نفسه التي تم تأثيرها به فأن لا يكون من تمام المؤثر في تمامه بطريق الأولى فإن الشيء إذا امتنع أن يكون علة أو فاعلا أو مؤثرا في نفسه أو في تمام كونه علة ومؤثرا وفاعلا له أو لشيء من تمامات تأثيره فلأن يمتنع كونه فاعلا لفاعل نفسه أو مؤثرا في المؤثر في نفسه وفي تمامات تأثير ذلك أولى وأحرى فتبين أنه يمتنع كون شيئين كل منهما معطيا للآخر شيئا من صفات الكمال أو شيئا مما به يصير معاونا له على الفعل سواء أعطاه كمال علم أو قدرة أو حياة أو غير ذلك فإن هذا كله يستلزم الدور في تمام الفاعلين وتمام المؤثرين وهذا ممتنع وبهذا يعلم أنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان متعاونان لا يفعل أحدهما إلا بمعاونة الآخر ويمتنع أيضا أن يكونا مستقلين لأن

استقلال أحدهما يناقض استقلال الآخر وسيأتي بسط هذا والمقصود هنا أنه يمتنع أن يكون أحدهما يعطي الآخر كماله ويمتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في كماله إلى غيره فيمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه فإن الإفتقار إما في تحصيل الكمال وإما في منع سلبه الكمال فإنه إذا كان بنفسه ولا يقدر غيره أن يسلبه كماله لم يكن محتاجا بوجه من الوجوه فإن ما ليس كمالا له فوجوده ليس مما يمكن أن يقال إنه يحتاج إليه إذ حاجة الشيء إلى ما ليس من كماله ممتنعة وقد تبين أنه لا يحتاج إلى غيره في حصول كماله وكذلك لا يحتاج في منع سلب الكمال كإدخال نقص عليه وذلك لأن ذاته إن كانت مستلزمة لذلك الكمال امتنع وجود الملزوم بدون اللازم فيمتنع أن يسلب ذلك الكمال مع كونه واجب الوجود بنفسه وكون لوازمه يمتنع عدمها فإن قيل إن ذاته لا تستلزم كماله كان مفتقرا في حصول ذلك الكمال إلى غيره وقد تبين أن ذلك ممتنع فتبين أنه يمتنع احتياجه إلى غيره في تحصيل شيء أو دفع شيء وهذا هو المقصود فإن الحاجة لا تكون إلا لحصول شيء أو دفع

شيء إما حاصل يراد إزالته أو ما لم يحصل بعد فيطلب منعه ومن كان لا يحتاج إلى غيره في جلب شيء ولا في دفع شيء امتنعت حاجته مطلقا فتبين أنه غنى عن غيره مطلقا وأيضا فلو قدر أنه محتاج إلى الغير لم يخل إما أن يقال إنه يحتاج إليه في شيء من لوازم وجوده أو شيء من العوارض له أما الأول فيمتنع فإنه لو افتقر إلى غيره في شيء من لوازمه لم يكن موجودا إلا بذلك الغير لأن وجود الملزوم بدون الأزم ممتنع فإذا كان لا يوجد إلا بلازمه ولازمه لا يوجد إلا بذلك الغير لم يكن هو موجودا إلا بذلك الغير فلا يكون موجودا بنفسه بل يكون إن وجد ذلك الغير وجد وإن لم يوجد لو يوجد ثم ذلك الغير إن لم يكن موجودا بنفسه واجبا بنفسه افتقر إلى فاعل مبدع فإن كان هو الأول لزم الدور في العلل وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في موضع آخر وإن كان ذلك الغير واجبا بنفسه موجودا بنفسه والأول كذلك كان كل منهما لا يوجد إلا بوجود الآخر وكون كل من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر جائز إذا كان لهما سبب غيرهما كالمتضايفين مثل الأبوة والبنوة

فلو كان لهما سبب غيرهما كانا ممكنين يفتقران إلى واجب بنفسه والقول فيه كالقول فيهما وإذا كانا واجبين بأنفسهما امتنع أن يكون وجود كل منهما أو وجود شيء من لوازمه بالآخر لأن كلا منهما يكون علة أو جزء علة في الآخر فإن كلا منهما لا يتم إلا بالآخر وكل منهما لا يمكن أن يكون علة ولا جزء علة إلا إذا كان موجودا وإلا فما لم يوجد لا يكون مؤثرا في غيره ولا فاعلا لغيره فلا يكون هذا مؤثرا في ذاك حتى يوجد هذا ولا يكون ذاك مؤثرا في هذا حتى يوجد ذاك فيلزم أن لا يوجد هذا حتى يوجد مفعول هذا فيكون هذا فاعل فاعل هذا وكذلك لا يوجد ذاك حتى يوجد فاعل ذاك فيكون ذاك فاعل فاعل ذاك ومن المعلوم أن كون الشيء علة لنفسه أو جزء علة لنفسه أو شرط علة نفسه ممتنع بأي عبارة عبر عن هذا المعنى فلا يكون فاعل نفسه ولا جزءا من الفاعل ولا شرطا في الفاعل لنفسه ولا تمام الفاعل لنفسه ولا يكون مؤثرا في نفسه ولا تمام المؤثر في نفسه فالمخلوق

لا يكون رب نفسه ولا يحتاج الرب نفسه بوجه من الوجوه إليه في خلقه إذ لو احتاج إليه في خلقه لم يخلقه حتى يكون ولا يكون حتى يخلقه فيلزم الدور القبلي لا المعي وإذا لم يكن مؤثرا في نفسه فلا يكون مؤثرا في المؤثر في نفسه بطريق الأولى فإذا قدر واجبان كل واحد منهما له تأثير ما في الآخر لزم أن يكون كل منهما مؤثرا في المؤثر في نفسه وهذا ممتنع كما تبين فيمتنع تقدير واجبين كل منهما مؤثر في الآخر بوجه من الوجوه فامتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في شيء من لوازمه إلى غيره سواء قدر أنه واجب أو ممكن وهذا مما يعلم به امتناع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إن كانا مستقلين كل منهما فعل الجميع كان هذا متناقضا ممتنعا لذاته فإن فعل أحدهما للبعض يمنع استقلال الآخر به فكيف باستقلاله به ولهذا اتفق العقلاء على امتناع اجتماع مؤثرين تامين في أثر واحد لأن ذلك جمع بين النقيضين إذ كونه وجد بهذا وحده يناقض كونهوجد بالآخر وحده وإن كانا متشاركين متعاونين فإن كان فعل كل واحد منهما مستغنيا عن فعل الآخر وجب أن يذهب كل إله بما خلق فتميز مفعول هذا عن مفعول هذا ولا يحتاج إلى الإرتباط به وليس الأمر كذلك بل العالم كله متعلق بعضه ببعض هذا مخلوق من هذا وهذا مخلوق من هذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا لا يتم شيء من أمور العالم إلا بشيء آخر منه وهذا يدل على أن العالم كله فقير إلى غيره لما فيه من الحاجة ويدل على أنه ليس فيه فعل لاثنين بل كله مفتقر إلى واحد فالفلك الأطلس الذي هو أعلى الأفلاك في جوفه سائر الأفلاك والعناصر والمولدات والأفلاك متحركات بحركات مختلفة مخالفة لحركة التاسع فلا يجوز أن تكون حركته هي سبب تلك الحركات المخالفة لحركته إلى جهة أخرى أكثر مما يقال إن الحركة الشرقية هو سببها وأما الحركات الغربية فهي مضادة لجهة حركته فلا يكون هو سببها وهذا مما يسلمه هؤلاء


وأيضا فالأفلاك في جوفه بغير اختياره ومن جعل غيره فيه بغير اختياره كان مقهورا مدبرا كالإنسان الذي جعل في باطنه أحشاؤه فلا يكون واجبا بنفسه فأقل درجات الواجب بنفسه أن لا يكون مقهورا مدبرا فإنه إذا كان مقهورا مدبرا كان مربوبا أثر فيه غيره ومن أثر فيه غيره كان وجوده متوقفا على وجود ذلك الغير سواء كان الأثر كمالا أو نقصا فإنه إذا كان زيادة كان كماله موقوفا على الغير وكماله منه فلا يكون موجودا بنفسه وإن كان نقصا كان غيره قد نقصه ومن نقصه غيره لم يكن ما نقصه هو واجب الوجود بنفسه فإن ما كان واجب الوجود بنفسه يمتنع عدمه فذاك الجزء المنقوص ليس واجب الوجود ولا من لوازم واجب الوجود وما لم يكن كذلك لم يكن عدمه نقصا إذ النقص عدم كمال والكمال الممكن هو من لوازم واجب الوجود كما تقدم والتقدير أنه نقص فتبين أن من نقصه غيره شيئا من لوازم وجوده

أو أعطاه شيئا من لوازم وجوده لم يكن واجب الوجود بنفسه فالفلك الذي قد حشى بأجسام كثيرة بغير اختياره محتاج إلى ذلك الذي حشاه بتلك الأجسام فإنه إذا كان حشوه كمالا له لم يوجد كماله إلا بذلك الغير فلا يكون واجبا بنفسه وإن كان نقصا فيه كان غيره قد سلبه الكمال الزائل بذلك النقص فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال إذا لو استلزمته لعدمت بعدمه وكماله من تمام نفسه فإذا كان جزء نفسه غير واجب لم تكن نفسه واجبة كما تقدم بيانه وأيضا فالفلك الأطلس إن قيل إنه لا تأثير له في شيء من العالم وجب أن لا يكون هو المحرك للأفلاك التي فيه وهي متحركة بحركته ولها حركة تخالف حركته فيكون في الفلك الواحد قوة تقتضى حركتين متضادتين وهذا ممتنع فإن الضدين لا يجتمعان ولأن المقتضى للشيء لو كان مقتضيا لضده الذي لا يجامعه لكان فاعلا له غير فاعل له فإن كان مريدا له كان مريدا غير مريد وهو جمع بين النقيضين وإن كان له تأثير في تحريك الأفلاك أو غير ذلك فمعلوم أنه غير مستقل بالتأثير لأن تلك الأفلاك لها حركات تخصها من غير تحريكه ولأن ما يوجد في الأرض من الآثار لا بد فيه من الأجسام

العنصرية وتلك الأجسام إن لم يكن فاعلا لها فهو محتاج إلى مالم يفعله وإن قدر أنه المؤثر فيها فليس مؤثرا مستقلا فيها لأن الآثار الحاصلة فيها لا تكون إلا باجتماع اتصالات وحركات تحصل بغيره فتبين أن تأثيره مشروط بتأثير غيره وحينئذ فتأثيره من كماله فإن المؤثر أكمل من غير المؤثر وهو مفتقر في هذا الكمال إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه فتبين أنه ليس واجبا بنفسه من هذين الوجهين وتبين أيضا أن فاعله ليس مستغينا عن فاعل تلك الأمور التي يحتاج إليها الفلك لكون الفلك ليس متميزا مستغنيا من كل وجه عن كل ما سواه بل هو محتاج إلى ما سواه من المصنوعات فلا يكون واجبا بنفسه ولا مفعولا لفاعل مستغن عن فاعل ما سواه وإذا كان الأمر في الفلك الأطلس هكذا فالأمر في غيره أظهر فأي شيىء اعتبرته من العالم وحدته مفتقرا إلى شيء آخر من العالم فيدلك ذلك مع كونه ممكنا مفتقرا ليس بواجب بنفسه على أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر فلا يكون في العالم فاعلان فعل كل منهما ومفعوله مستغن عن فعل الأخر ومفعوله وهذا كالإنسان مثلا فإنه يمتنع أن يكون

الذي خلقه غير الذي خلق ما يحتاج إليه فالذي خلق مادته كمنى الأبوين ودم الأم هو الذي خلقه والذي خلق الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه هو الذي خلقه لأن خالق ذلك لو كان خالقا غير خالقه فإن كانا خالقين كل منهما مستغن عن الآخر في فعله ومفعوله كان ذلك ممتنعا لأن الإنسان محتاج إلى المادة والرزق فلو كان خالق مادته ورزقه غير خالقه لم يكن مفعول أحدهما مستغنيا عن مفعول الآخر فتبين بذلك أنه يمتنع أن يكون للعالم فاعلان مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر كما قال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ((سورة المؤمنون).). ويمتنع أن يكونا مستقلين لأنه جمع بين النقيضين ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين كما يوجد ذلك في المخلوقين يتعاونون على المفعولات لأنه حينئذ لا يكون أحدهما فاعلا إلا بإعانة الآخر له وإعانته فعل منه لا يحصل إلا بقدرته بل وبعلمه وإرادته فلا يكون هذا معينا لذاك حتى يكون ذاك معينا لهذا ولا يكون ذاك معينا لهذا حتى يكون هذا معينا لذاك وحينئذ لا يكون هذا معينا لذاك ولا ذاك

معينا لهذا كما لا يكون الشيء معينا لنفسه بطريق الأولى فالقدرة التي بها يفعل الفاعل لا تكون حاصلة بالقدرة التي يفعل بها الفاعل الآخر بل إما أن تكون من لوازم ذاته وهي قدرة الله تعالى أو تكون حاصلة بقدرة غيره كقدرة العبد فإذا قدر ربان متعاونان لا يفعل أحدهما حتى يعينه الآخر لم يكن أحدهما قادرا على الفعل بقدرة لازمة لذاته ولا يمكن أن تكون قدرته حاصلة من الآخر لأن الآخر لا يجعله قادرا حتى يكون هو قادرا فإذا لم تكن قدرة واحد منهما من نفسه لم يكن لأحدهما قدرة بحال فتبين امتناع كون العالم له ربان وتبين امتناع كون واجب الوجود له كمال يستفيده من غيره وتبين امتناع أن يؤثر في واجب الوجود غيره وهو سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وذلك الكمال لازم له لأن الكمال الذي يكون كمالا للموجود إما أن يكون واجبا له أو ممتنعا عليه أو جائزا عليه فإن كان واجبا له فهو المطلوب وإن كان ممتنعا لزم أن يكون الكمال الذي للموجود ممكنا للممكن ممتنعا على الواجب فيكون الممكن أكمل من الواجب وأيضا فالممكنات فيها كمالات موجودة وهي من الواجب بنفسه والمبدع للكمال المعطى له الخالق له أحق بالكمال إذ الكمال إما وجود وإما كمال وجود ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا إذ

المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود وهذا كله معلوم فتبين أن الكمال ليس ممتنعا عليه وإذا كان جائزا أن يحصل وجائزا أن لا يحصل لم يكن حاصلا إلا بسبب آخر فيكون واجب الوجود مفتقرا في كماله إلى غيره وقد تبين بطلان هذا أيضا فتبين أن الكمال لازم لواجب الوجود واجب له يمتنع سلب الكمال عنه والكمال أمور وجودية فالأمور العدمية لا تكون كمالا إلا إذا تضمنت أمورا وجودية إذ العدم المحض ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا فإن الله سبحانه إذا ذكر ما يذكره من تنزيهه ونفى النقائص عنه ذكر ذلك في سياق إثبات صفات الكمال له كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم (سورة البقرة). فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية وهذه من صفات الكمال وكذلك قوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ((سورة سبأ).). فإن نفى عزوب ذلك عنه يتضمن علمه به وعلمه به من صفات الكمال وكذلك قوله ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (سورة ق). فتنزيهه لنفسه عن مس اللغوب يقتضى كمال قدرته والقدرة من صفات الكمال فتنزيهه يتضمن كمال حياته وقيامه وعلمه وقدرته وهكذا نظائر ذلك فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة والقسمان

الأخيران باطلان فوجب الأول فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال بل هذه المساواة هي من النقص أيضا وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو قدر أنه ماثل شيئا في شيء من الأشياء للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع على ذلك الشيء وكل ما سواه ممكن قابل للعدم بل معدوم مفتقر إلى فاعل وهو مصنوع مربوب محدث فلو ماثل غيره في شيء من الأشياء للزم أن يكون هو والشيء الذي ماثله فيه ممكنا قابلا للعدم بل معدوما مفتقرا إلى فاعل مصنوعا مربوبا محدثا وقد تبين أن كماله لازم لذاته لا يمكن أن يكون مفتقرا فيه إلى غيره فضلا عن أن يكون ممكنا أو مصنوعا أو محدثا فلو قدر مماثلة غيره له في شيء من الأشياء للزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما ممكنا واجبا قديما محدثا وهذا جمع بين النقيضين فالرب تعالى مستحق للكمال على وجه التفصيل كما أخبرت به الرسل فإن الله تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير وأنه عليم قدير عزيز حكيم غفور رحيم ودود مجيد وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويرضى عن الذين

آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وناداه وناجاه إلى غير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة وقال في التنزيه ليس كمثله شيء (سورة الشورى). هل تعلم له سميا (سورة مريم). فلا تضربوا لله الأمثال (سورة النحل). ولم يكن له كفوا أحد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (سورة البقرة). فنزه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والند والسمى وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وكتبنا رسالة مفردة في قوله ليس كمثله شيء وما فيها من الأسرار والمعاني الشريفة فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها إثبات مفصل ونفي مجمل إثبات صفات الكمال على وجه التفصيل ونفي النقص والتمثيل كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد الله الصمد وهي تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الحديثالصحيح وقد كتبنا تصنيفا مفردا في تفسيرها وآخر في كونها تعدل ثلث القرآن فاسمه الصمد يتضمن صفات الكمال كما روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هو العليم الذي كمل في علمه والقدير الذي كمل في قدرته والسيد الذي الذي كمل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي كمل في عظمته والحليم الذي كمل في حلمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد هو الله سبحانه وتعالى هذه صفته لا تنبغي إلا له والأحد يتضمن نفي المثل عنه والتنزيه الذي يستحقه الرب

يجمعه نوعان أحدهما نفي النقص عنه والثاني نفى مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال فإثبات صفات الكمال له مع نفى مماثلة غيره له يجمع ذلك كما دلت عليه هذه السورة وأما المخالفون لهم من المشركين والصابئة ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم فطريقتهم نفى مفصل وإثبات مجمل ينفون صفات الكمال ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال فيقولون ليس بكذا ولا كذا فمنهم من يقول ليس له صفة ثبوتية بل إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما كما يقوله من يقوله من الصابئة والفلاسفة كابن سينا وأمثاله ويقول هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه ومنهم من يقول وجود مطلق بشرط الإطلاق وقد قرروا في منطقهم ما هو معلوم بالعقل الصريح أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فلا يتصور في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا جسم مطلق بشرط الإطلاق فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج وهذا مع أنه تعطيل وجهل وكفر فهو جمع بين النقيضين ومن قال مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية فهذا أبعد من المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا قيده بسلب الأمور الوجودية دونالعدمية وهذا أولى بالعدم مما قيد بسلب الأمور الوجودية والعدمية وهو أيضا أبلغ في الإمتناع فإن الموجود المشارك لغيره في الوجود لا يمتاز عنه بوصف عدمي بل بأمر وجودي فإذا قدر وجود لا يتمير عن غيره إلا بعدم كان أبلغ في الإمتناع من وجود يتميز بسلب الوجود والعدم وأيضا فإن هذا يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ويمتاز عنها بالعدم وهي تمتاز عنه بالوجود فيكون على قول هؤلاء أي موجود من الممكنات قدر فهو أكمل من الواجب وهذا في غاية الفساد والكفر وإن قالوا هو مطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وأمثاله

من القائلين بوحدة الوجود فالمطلق لا بشرط هو موضوع العلم الإلهي عندهم الذي هو الحكمة العليا والفلسفة الأولى عندهم فإن الوجود المطلق لا بشرط ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وجوهر وعرض وهذا موضوع العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ومن المعلوم أن الوجود المنقسم إلى واجب وممكن لا يكون هو الوجود الواجب المطلق بشرط الإطلاق وهو الذي يسمونه الكلى الطبيعي ويتنازعون في وجوده في الخارج والتحقيق أنه يوجد في الخارج معينا لا كليا فما هو كلى في الأذهان يوجد في الأعيان لكن لا يوجد كليا فمن قال الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأراد هذا المعنى فقد أصاب وأما إن قال إن في الخارج ما هو كلي في الخارج كما يقتضيه كلام كثير من هؤلاء الذين تكلموا في المنطق والإلهيات وادعى أن في الخارج إنسانا مطلقا كليا وفرسا مطلقا كليا وحيوانا مطلقا

كليا فهو مخطئ حطأ ظاهرا سواء ادعى أن هذه الكليات مجردة عن الأعيان أزلية كما يذكرونه عن أفلاطون ويسمون ذلك المثل الأفلاطونية أو أدعى أنها لا تكون إلا مقارنة للمعينات أو ادعى أن المطلق جزء من المعين كما يذكرونه عن أرسطو وشيعته كابن سينا وأمثاله ويقولون إن النوع مركب من الجنس والفصل وإن الإنسان مركب من الحيوان والناطق والفرس مركب من الحيوان والصاهل فإن هذا إن أريد به أن الإنسان متصف بهذا وهذا فهذا حق ولكن الصفة لا تكون سبب وجود الموصوف ولا متقدمة عليه لا في الحس ولا في العقل ولا يكون الجوهر القائم بنفسه مركبا من عرضين وإن أراد به أن الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران قائمان بأنفسهما أحدهما الحيوان والآخر الناطق فهذا مكابرة للعقل والحس وإن أريد بهذا التركيب تركيب الإنسان العقلي المتصور في الأذهان لا الموجود في الأعيان فهذا صحيح لكن ذلك الإنسان هو بحسب ما يركبه الذهن فإن ركبه من الحيوان والناطق تركب منهما وإن ركبه من الحيوان والصاهل تركب منهما فدعوى المدعي أن إحدىالصفتين ذاتية مقومة للموصوف لا يتحقق بدونها لا في الخارج ولا في الذهن والأخرى عرضية يتقوم الموصوف بدونها مع كونها مساوية لتلك في اللزوم تفريق بين المتماثلين والفروق التي يذكرونها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية هي ثلاثة وهي فروق منتقضة وهم معترفون بانتقاضها كما يعترف بذلك ابن سينا ومتبعوه شارحو الإشارات وكما ذكره صاحب المعتبر وغيرهم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وكذلك الكلام على قولهم وقول من وافقهم من القائلين بوحدة الوجود في وجود واجب الوجود مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا كلام جملي على ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا كله مبسوط في مواضعه

لكن هذا الإمامي لما أخذ يذكر عن طائفته أنهم المصيبون في التوحيد دون غيرهم احتجنا إلى التنبيه على ذلك فنقول أما ما ذكره من لفظ الجسم وما يتبع ذلك فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله تعالى لا كتاب ولا سنة لا نفيا ولا إثباتا ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا أهل البيت ولا غيرهم ولكن لما ابتدعت الجهمية القول بنفى الصفات في آخر الدولة الأموية ويقال إن أول من ابتدع ذلك هو الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان هذا الجعد من حران وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة والفارابي كان قد أخذ الفلسفة عن متى ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران وكانوا يعبدون الهياكل العلوية ويبنون هيكل العلة الأولى هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس هيكل الزهرة هيكل عطارد هيكل القمر ويتقربون بما هو معروف عندهم من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلكوهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده وكان مولده عند أكثر الناس إما بالعراق أو بحران كما في التوراة ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وحكى الله عنه أنه لما رأى كوكبا قال هذا ربي إلى قوله لاأحب الآفلين إلى قوله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (سورة الأنعام). الآيات وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله هذا ربي أن هذا خالق العالم وأنه استدل بالأفول وهو الحركة والإنتقال على عدم ربوبيته وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم

وهذا غلط من وجوه أحدها أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء لا قوم إبراهيم ولا غيرهم ولا توهم أحدهم أن كوكبا أو القمر أو الشمس خلق هذا العالم وإنما كان قوم إبراهيم مشتركين يعبدون هذه الكواكب زاعمين أن في ذلك جلب منفعة أو دفع مضرة على طريقة الكلدانيين والكشدانيين وغيرهم من المشركين أهل الهند وغيرهم وعلى طريقة هؤلاء صنف الكتاب الذي صنفه أبو عبدالله بن الخطيب الرازي في السحر والطلسمات ودعوة الكواكب وهذا دين المشركين منالهند والخطأ والنبط والكلدانيين والكشدانيين وغير هؤلاء ولهذا قال الخليل يا قوم إني برئ مما تشركون (سورة الأنعام). وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (سورة الشعراء). وأمثال ذلك وأيضا فالأفول في لغة العرب هو المغيب والإحتجاب ليس هو الحركة والإنتقالوأيضا فلو كان احتجاجه بالحركة والإنتقال لم ينتظر إلى أن يغيب بل كان نفس الحركة التي يشاهدها من حين تطلع إلى أن تغيب هي الأفول وأيضا فحركتها بعد المغيب والإحتجاب غير مشهودة ولا معلومة وأيضا فلو كان قوله هذا ربي أي هذا رب العالمين لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين وإنما المانع هو الأفول ولما حرف هؤلاء لفظ الأفول سلك ابن سينا هذا المسلك

في إشاراته فجعل الأفول هو الإمكان وجعل كل ممكن آفلا وأن الأفول هوى في حظيرة الإمكان وهذا يستلزم أن يكون ما سوى الله آفلا ومعلوم أن هذا من أعظم الإفتراء على اللغة والقرآن ومن أعظم القرمطة ولو كان كل ممكن آفلا لم يصح قوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فإن قوله فلما أفل يقتضى حدوث الأفول له وعلى قول هؤلاء المفترين على اللغة والقرآن الأفول لازم له لم يزل ولا يزال آفلا ولو كان مراد إبراهيم بالأفول الإمكان والإمكان حاصل في الشمس والقمر والكوكب في كل وقت لم يكن به حاجة إلى أن ينتظر أفولها وأيضا فجعل القديم الأزلي الواجب بغيره أزلا وأبدا ممكنا قول انفرد به ابن سينا ومن تابعه وهو قول مخالف لجمهور العقلاء من سلفهم وخلفهموالمقصود هنا أنه لما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في الجسم وفي إدخال لفظ الجسم في أصول الدين وفي التوحيد وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة فصار الناس في لفظ الجسم على ثلاثة أقوال طائفة تقول إنه جسم وطائفة تقول ليس بجسم وطائفة تمتنع عن إطلاق القول بهذا وهذا لكونه بدعة في الشرع أو لكونه في العقل يتناول حقا وباطلا فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك ومنهم من يستفصل المتكلم فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحا قبله وعبر عنه بعبارة شرعية لا يعبر عنها بعبارة مكروهة في الشرع وإن ذكر معنى باطلا رده وذلك أن لفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعانيه المصطلح عليها وفي المعنى منازعات عقلية فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحهم وحسب اعتقادهم فإن الجسم عند أهل اللغة هو البدن أو البدن ونحوه مما هو غليظ كثيف هكذا نقله غير واحد من أهل اللغة ومنه قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم (سورة المنافقون). وقوله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم (سورة البقرة). ثم قد يعنى به نفس الشيء الغليظ الكثيف وقد يعنى به نفس غلظه وكثافته

وعلى هذا فالزيادة في الجسم الذي هو الطول والعرض وهو القدر وعلى الأول فالزيادة في نفس المقدر الموصوف وقد يقال هذا الثوب له جسم أي غلظ وثخن ولا يسمى الهواء جسما ولا النفس الخارج من فم الإنسان ونحو ذلك عندهم جسما وأما أهل الكلام والفلسفة فالجسم عندهم أعم من ذلك كما أن لفظ الجوهر في اللغة أخص من معناه في اصطلاحهم فإنهم يعنون بالجوهر ما قام بنفسه أو المتحيز أو ما إذا وجد كان وجوده لا في موضع أي لا في محل يستغنى عنه والجوهر في اللغة الجوهر المعروف ثم قد يعبرون عن الجسم بأنه ما يشار إليه أو ما يقبل الإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك وقد يعبرون عنه بما قبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق أو بما كان فيه الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق ولفظ البعد الطول والعرض والعمق في اصطلاحهم أعم منمعناه في اللغة فإن أهل اللغة يقسمون الأعيان إلى طويل وقصير والمسافة والزمان إلى قريب وبعيد والمنخفض من الأرض إلى عميق وغير عميق وهؤلاء عندهم كل ما يراه الإنسان من الأعيان فهو طويل عريض عميق حتى الحبة بل الذرة وما هو أصغر من ذرة هو في اصطلاحهم طويل عريض عميق وقد يعبرون عن الجسم بالمركب أو المؤلف ومعنى ذلك عندهم أعم من معناه في اللغة فإن المركب والمؤلف في اللغة ما ركبه مركب أو ألفه مؤلف كالأدوية المركبة من المعاجين والأشربة ونحو ذلك وبالمركب ماركب على غيره أو فيه كالباب المركب في موضعه ونحوه ومنه قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الإنفطار وبالتأليف التوفيق بين القلوب ونحو ذلك ومنه قوله تعالى والمؤلفة

قلوبهم (سورة التوبة). وقوله وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (سورة الأنفال). وقوله إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا (سورة آل عمران). وللناس اصطلاحات في المؤلف والمركب كما للنحاة اصطلاح فقد يعنون بذلك الجملة التامة وقد يعنون به ما ركب تركيب مزج كبعلبك وقد يعنون به المضاف وما يشبهه وهو ما ينصب في النداء وللمنطقيين ونحوهم من أهل الكلام اصطلاحات أخر يعنون به ما دل جزؤه على جزء معناه فيدخل في ذلك المضاف إذا قصد به الإضافة دون العلمية فلا يدخل فيه بعلبك ونحوه ومنهم من يسوى بين المؤلف والمركب ومنهم من يفرق بينهما وهذا كله تأليف في الأقوال وأما التأليف في الأعيان فأولئك إذا قالوا إن الجسم هو المؤلف والمركب لم يعنوا به ما كان مفترقا فاجتمع ولا ما يقبل التفريق بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب كالشمس والقمر وغيرهما من الأجسام وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا يدخلون

وفي ذلك تأليفا عقليا لا يوجد في الأعيان ويدعون أن النوع مؤلف من الجنس والفصل فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق قالوا الإنسان مؤلف من هذين وإنما هو موصوف بهما ثم تنازع هؤلاء في الجسم هل هو مركب من أجزاء لا تقبل القسمة وهي الجوهر الفرد عندهم وهو شيء لم يدركه أحد بحسه وما من شيء نفرضه إلا وهو أصغر منه عند القائلين به أو مركب من المادة والصورة تركيبا عقليا وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر والصورة شكله واتصاله القائم به وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم الذي هو الجوهر وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها أو يعنى بها ما منه خلق الجسم وقد يعنى بالصورة العرضية التي هي الإتصال والشكل القائم به فالجسم هو المتصل والصورة هي الإتصال فالصورة هنا عرض والمادة الجسم كالصورة الصناعية كشكل السرير فإنه صورته والخشب مادتهولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ويعنى به الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام وهي جواهر ومادة وما منها خلقت وقد يعنى بالمادة المادة الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه وهذه كليات حاصلة في الأذهان وهي في الخارج معينة إما أعراض وإما جواهر وقد يعنى بالمادة المادة الأزلية وهي المجردة عن الصورة وهذه يثبتها أفلاطن وسائر العقلاء أنكروها وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج والأجسام مشتركة في كون كل واحد منها له قدر يخصه فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه فصارت الأجسام مشتركة في المقدار فقالوا بينها مادة مشتركة وهيولي مشتركة ولم يهتدوا إلى الفرق بين الإشتراك في الكلي المطلق والإشتراك في الشيء المعين فاشتراك الأجسام في الجسمية والإمتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك كاشتراك الناس في الإنسانية واشتراك الحيوانات في الحيوانية

وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات موجودة في الخارج مشتركة وذلك غلط فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره والإشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فما فيه الإشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل وما به الإختصاص والإمتياز وهو الموجود في الخارج لا اشتراك فيه وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا كالاشتراك في المعنى العام والإنقسام بحسب الإشتراك فمن لم يفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته والكل إلى أجزاء كقسمة الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي وابن جنى الكلام ينقسمإلى اسم وفعل وحرف أو الكلام كله ثلاثة اسم وفعل وحرف اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي حيث قال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه أو نوع قسم إلى أشخاصه فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له وكلام أبي البقاء في تفسير ابن جنى أقرب حيث قال معناه أجزاء الكلام ونحو ذلكومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه كقوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (سورة القمر). وقوله وإذا حضر القسمة أولو القربى (سورة النساء). وقوله عليه الصلاة والسلام والله إنى ما أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم وقوله لا تعضية في الميراث إلا ما حمل القسم وقول الصحابة رضوان الله

عليهم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بين من حضر الحديبية وقسم غنائم حنين بالجعرانة مرجعه من الطائف وقسم ميراث سعد بن الربيع وقول الفقهاء باب قسم الغنائم والفئ والصدقات وقسمة الميراث وباب القسمة وذكر المشاع والمقسوم وقسمه الإجبار والتراضي ونحو ذلك وقول الحاسب الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما وليس كل اسممن أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها وهذا نصفا وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ولو قسم بينهم سهم كما كان الصحابة يقسمون فيأخذ هذا القدح وهذا النصل لم يكن هذا سهما ولا هذا سهما فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الإجتماع زال بالإنقسام وإن كان يقال حال الإجتماع والإفتراق كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك صدق فيهما وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات في الخارج وإذا قلنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن بعد ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية فإذا قيل الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين أو غير ذلك كان هذا المشترك معنى كليا والمقدار المعين

لهذا الجسم ليس هو المقدار المعين لهذا الجسم المعين وإن كان مساويا له وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا في نوع القدر لا في هذا القدر فالإشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور وأما ثبوت شيء موجود في الخارج هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم هو نوع آخر غير تلك الأنواع والمركب لا بد له من مفرد وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان فالبسيط المفرد الذي يقدرونه كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك لا يوجد في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الإصطلاحات الوضعية مع ما فيها من الإعتبارات العقلية

وهم متنازعون في الجسم هل هو مؤلف من الجواهر المفردة التي لا تقبل الإنقسام كما يقوله كثير من أهل الكلام أو مؤلف من المادة والصورة كما يقوله كثير من المتفلسفة أولا مؤلف لا من هذا ولا من هذا كما يقوله كثير من الطوائف على ثلاثة أقوال أصحها الثالث وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية والصحيح أنه لا يقبل الإنقسام إلى غير نهاية لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده وليس كذلك بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تستحيل فتصير هواء فما دامت موجودة فإنه يتميز منها جانب عن جانب فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ولا يمكن انقسامه إلى مالا يتناهى بل إذا صغرلم يقبل القسمة الموجودة في الخارج وإن كان بعضه غير البعض الآخر بل إذا تصرف فيه بقسمة أو نحوها استحال فالأجزاء الصغيرة ولو عظم صغرها يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل لكي لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك وبسط هذا له موضع آخر

ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه أو جوهران فصاعدا أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو أثنان وثلاثون على أقوال معروفة لهم ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الإصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه بل إذا قال القائل إن الباري تعالى جسم قيل له أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب أو أنه يقبل التفريق سواء قيل اجتمع بنفسه أو جمعه غيره أو أنه من جنس شيء من المخلوقات أو أنه مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة فإن قال هذا قيل هذا باطل وإن قال أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما ممن أطلق هذا اللفظ أو أنه موصوفبالصفات أو أنه يرى في الآخرة أو أنه يمكن رؤيته أو أنه مباين للعالم فوقه ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل قيل له هذه معان صحيحة ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع مخالف للغة فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل وإذا قال ليس بجسم قيل أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ولم يكن أجزاء متفرقة فركب أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني أو تريد به شيئا يستلزم نفى اتصافه بالصفات بحيث لا يرى ولا يتكلم بكلام يقوم به ولا يباين خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول ولا ترفع إليه

الأيدي ولا يعلو على شيء ولا يدنو منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم فإن قال أردت الأول قيل المعنى صحيح لكن المطلقون لهذا النفى أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون هذا تجسيم ولا ينتفي ما يسمونه تجسيما إلا بالتعطيل المحض ولهذا كل من نفى شيئا قال لمن أثبته إنه مجسم فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى إنه مجسم ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات إنه مجسم ومثبتة الصفات دونما يقوم به من الأفعال الإختيارية يقولون لمن أثبت ذلك إنه مجسم وكذلك سائر النفاة وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته الله ورسوله ومنتهى هؤلاء النفاة إلى أثبات وجود مطلق وذات مجردة عن الصفات والعقل الصريح يعلم أن الوجود المطلق والذات المجردة عن الصفات إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان فالذهن يجرد هذا ويقدر هذا التوحيد الذي يفرضونه كما يقدر إنسانا مطلقا وحيوانا مطلقا ولكن ليس كل ما قدرته الأذهان كان وجوده في الخارج في حيز الإمكان ومن هنا يظهر غلط من قصد إثبات إمكان هذا بالتقدير العقلي كما ذكره الرازي فقال العقل يعلم أن الشيء إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون قائما بالمتحيز وإما أن يكون لا متحيزا ولا حالا بالمتحيز

فيقال له تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج فإن هذا مثل أن يقال الشيء إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا والشيء إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره والشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده أو بنحو ذلك من الطرق والإمكان الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء ولكن عدم العلم بالإمتناع ليس علما بالإمكان فإن قال النافي كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير أو ما كان له حياة وعلم وقدرة أو ما يجوز أن يرى أو ما يكون فوق العالم أو نحو ذلك

من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة لا يوصف بها إلا ما هو جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وذلك ممتنع قيل جمهور العقلاء لا يقولون إن هذه الأجسام المشهودة كالسماء والكواكب مركبة لا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد حجج نفيهم لهذين المعنيين وأن هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفى ما جعلوه مركبا بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه فيبطل أولئك هذه الحجة وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث وأولئك يبطلون حجة هؤلاء بل يمنعونهم المقدمتين وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع وإنما نبهنا هنا على هذا الباب والأصل الذي يجب على المسلمين أن ما ثبت عن الرسول وجبالإيمان به فيصدق خبره ويطاع أمره وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفى ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفى والإثبات دون الإستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتية موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة أعنى الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم كذا نقل ابن حزم وغيره قال أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين اختلف الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق فالفرقة الأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل عريض عميق طوله

مثل عرضه وعرضه مثل عمقه لا يوفى بعضه على بعض وزعموا أنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسمة وذكر كلاما طويلا والفرقة الثانية من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواسخمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايره عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصا ونورا بحتا وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس

وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج قال أبو الحسن الأشعري وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختى وغيره ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة وقال أبو محمد بن حزم وغيره أول من قال في الإسلام إن الله جسم هشام ابن الحكم وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمين من المعتزل كأبي الهذيل العلاف فالجهمية والمعتزلة أول من قال إن الله ليس بجسم فكل من القولين قاله قوم من الإمامية ومن أهل السنة الذين ليسوا بإمامية وإثبات الجسم قول محمد بن كرام وأمثاله ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة والنفى قول أبي الحسن الأشعري وغيره ممن يقولبخلافة الخلفاء الثلاثة وقول كثير من أتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة وهذا الرافضي يعنى المصنف جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة فهؤلاء متنازعون في إثبات الجسم ونفيه كما تقدم والإمامية أيضا متنازعون في ذلك وأئمة النفاة هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم يجعلون من أثبت الصفات مجسما بناء عندهم على أن الصفات لا تقوم إلا بجسم

ويقولون إن الجسم مركب من الجواهب المفردة أو من المادة والصورة فقال لهم أهل الإثبات قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى فإن الله حي عليم قدير فإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن إثبات ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات ثم المثبتون للصفات منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول أهل السنة الخاصة أهل الحديث ومن وافقهم وهو قول أئمة الفقهاء وقول أئمة الكلام من أهل الإثبات كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسنالأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أئمة أصحابه لكن المتأخرون من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى اللهوأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضى نفيها تأويل باطل فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة وقد ذكر الأشعري ذلك في عامة كتبه كالموجز والمقالات الكبير والمقالات الصغير والإبانة وغير ذلك ولم يختلف في ذلك كلامه لكن طائفة ممن توافقه وممن تخالفه يحكون له قولا آخر أو تقول أظهر غير ما أبطن وكتبه تدل على بطلان هذين الظنين وأما القول الثالث وهو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة كالإمام أحمد وذويه فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا لوجهين

أحدهما أنه ليس مأثورا لا في كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين فصار من البدع المذمومة الثاني أن معناه يدخل فيه حق وباطل فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل وملخص ذلك أن الذين نفوه أصل قولهم أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام فقالوا الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فإنه لا يخلو عن حادث لأن الحركة حادثة شيئا بعد شيء والسكون إما عدم الحركة وإما ضد يقابل الحركة وبكل حال فالجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون والسكون يمكن تبديله بالحركة فكل جسم يقبل الحركة فلا يخلو منها أو مما يقابلها فإن كان لا يخلو منها كما تقوله الفلاسفة في الفلك فإنه حادث وإن كان لا يخلو مما يقابلها فإن يقبل الحركة وما قبل الحركة أمكنأن لا يخلو منها فأمكن أن لايخلو من الحوادث وما أمكن لزوم دليل الحدوث له كان حادثا فإن الرب تعالى لا يجوز أن يلزمه دليل الحدوث ثم منهم من اكتفى بقوله ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فإن ما لا يخلو عنها لا يسبقها فلا يكون قبلها وما لا يكون إلا مقارنا للحادث لا قبله ولا يكون إلا حادثا وكثير من الكتب المصنفة لا يوجد فيها إلا هذا وأما حذاق هؤلاء فتفطنوا للفرق بين عين الحادث ونوع الحادث فإن المعلوم أن ما لا يسبق الحادث المعين فهو حادث وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهذا لا يعلم حدوثه وإن لم يعلم امتناع دوام الحوادث وأن لها ابتداء وأنه يمتنع تسلسل الحوادث ووجود حوادث لا أول لها فصار الدليل موقوفا على امتناع حوادث لا أول لها وهذا الموضع هو المهم الأعظم في هذا الدليل وفيه كثر الإضطراب والتبس الخطأ بالصواب

وآخرون سلكوا أعم من هذا فقالوا الجسم لا يخلو عن الأعراض والأعرض حادثة لا تبقى زمانين ومنهم من يقول الجسم لا يخلو عن نوع من أنواع الأعراض لأنه قابل له والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ومنهم من قال الجسم لا يخلو عن الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون وهذه الأنواع الأربعة هي الأكوان فالجسم لا يخلو عن الأكوان والكلام في هذه الطرق ولوازمها كثير قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه وهذا الكلام وإن كان أصله من المعتزلة فقد دخل في كلام المثبتين للصفات حتى في كلام المنتسبين إلى السنة الخاصة المنتسبين إلى الحديث والسنة وهو موجود في كلام كثير من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهذا من الكلام الذي بقى على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية وأن القرآن غيرمخلوق وإثبات القدر وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث وذكر في كتاب المقالات أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث وذكر في الإبانةأنه يأتم بقول الإمام أحمد قال فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين وقال فإن قال قائل قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها

للمعتزلة مثل هذا الكلام فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون إنه متناقض في ذلك وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون إن هذا تناقض وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة وأصل ذلك هو هذا الكلام وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ومالك وكثير من هؤلاء يخالف الأشعري في مسائل وقد وافقه على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض الأشعري وكما قالوه في تناقض المعتزلة وتناقض الفلاسفة فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة فلما أعتقد هؤلاء أنهم أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم لزم انتفاء ذلك عن الله لأن الله قديم ليس بمحدث فقالت المعتزلة ما قامت به الصفات فهو جسم لأن الصفات أعراض والعرض لا يقومإلا بجسم فنفت الصفات ونفت أيضا قيام الأفعال الإختيارية به لأنها أعراض ولأنها حوادث فقالت القرآن مخلوق لأن القرآن كلام وهو عرض ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة فلا يقوم إلا بجسم وقالت أيضا إنه لا يرى في الآخرة لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم وقالت ليس هو فوق العالم لأن ذلك مقام مكان والمكان لا يكون به إلا جسم أو ما يقوم بجسم وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي وهو لم يبسط الكلام فيه فلذا اقتصرنا على هذا القدر إذا الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة أنتم تقولون إن الله حي عليم قدير وهذا لا يكون إلا جسما فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما وإن قلتم بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم قيل لكم وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم وقالوا لهم أيضا إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر

بلا قدرة مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وقائم بلا قيام ومصل بلا صلاة ومتكلم بلا كلام وفاعل بلا فعل وهذا مما يعلم فساده لغة وعقلا وقالوا لهم أيضا أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر وليس كونه حيا هو كونه عالما ولا كونه عالما هو كونه قادرا فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها هي الصفات سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك فليس الإعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض كما تقول الفلاسفة إنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ثم يقولون هذا المعنى هو هذا المعنى وإن العالم هو العلم فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويجعلون الموصوف هو الصفة وأيضا فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري وأمثاله من أئمة المعتزلة وجد المعاني التي يثبتها هي قول الصفاتية لكن ليس هذا موضع بسط ذلك إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام وقد نبهناعلى أن أهل السنة يقولون بالحق مطلقا وأنه ما من قول يثبت بشرع وعقل إلا وقد قال به أئمة أهل السنة وهذا هو المقصود في هذا المقام الوجه السادس أن يقال لهذا الإمامي أنت قلت مذهب الإمامية أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وليس بجسم ولا مكان وإلا لكان محدثا وقد تبين أن أكثر متقدمي الإمامية كانوا بضد هذا كهشام بن الحكم وهشام بن سالم ويونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين وزراة بن أعينوأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وطوائف كثيرين هم

أئمة الإمامية قبل المفيد والطوسي والموسوي والكراجكي وقد تقدم أن هذا قول قدماء الإمامية فإن قول المعتزلة إنما حدث فيهم متأخرا وحينئذ فليست الإمامية كلها على ما ذكرته ثم إن كان ما ذكرته هو الصواب فشيوخ الإمامية المتقدمون على غير الصواب وإن كان خطأ فشيوخهم المتأخرون على هذا الخطأ فقد لزم بالضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم الوجه السابع أن يقال أنت ذكرت اعتقادا ولم تذكر عليه دليلا لا شرعيا ولا عقليا ولا ريب أن الرافضة أجهل وأضل وأقل من أن يناضروا علماء السنة لكن يناظر بعضهم بعضا كما يتناظرون دائما في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء فيقال لهذا الإمامي النافي أنت لم تقم حجة على شيوخك الإمامية القائلين بأن الله في مكان دون مكان وأنه يتحرك وأنه تقوم به الحوادث قال الأشعري واختلفت الروافض في حملة العرش أيحملونالعرش أم يحملون البارئ عز وجل وهم فرقتان فرقة يقال لها اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون البارى واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والبارئ يستحيل أن يكون محمولا قال الأشعري واختلف الروافض في القول بأن الله عالم حي قادر سميع بصير إله وهم تسع فرق فالفرقة الأولى منهم الزرارية أصحاب زرارة بن أعين الرافضي يزعمون أن الله لم يزل غير سميع ولا عليم ولا بصير حتى خلق ذلك لنفسه وهم يسمون التيمية ورئيسهم زرارة بن أعين

والفرقة الثانية منهم السيابية أصحاب عبدالرحمن بن سيابة يقفون في هذه المعاني ويزعمون أن القول فيها ما يقول جعفر كائنا قوله ما كان ولا يعرفون في هذه الأشياء قولا والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الله تعالى لا يوصف بأنه لم يزل إلها قادرا ولا سميعا بصيرا حتى يحدث الأشياء لأن الأشياء التي كانت قبل أن تكون ليست بشيء ولن يجوز أن يوصف بالقدرة لا على شيء وبالعلم لا بشيء وكل الروافض إلا شرذمة قليلة يزعمون أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيهقال والفرقة الرابعة من الروافض يزعمون أن الله لم يزل لا حيا ثم صار حيا والفرقة الخامسة من الروافض وهم أصحاب شيطان الطاق يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم وكلن الشيء لا يكون شيئا حتى يقدره ويشيئه بالتقدير والتقدير عندهم الإرادةقال والفرقة السادسة من الرافضة أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أنه محال أن يكون الله لم يزل عالما بالأشياء بنفسه وأنه إنما يعلم الأشياء بعد أن لم يكن بها عالما وأنه يعلمها بعلم وأن العلم صفة له ليست هي هو ولا هي غيره ولا بعضه فلا يجوز أن يقال العلم محدث أو قديم لأن العلم صفة والصفة لا توصف قال ولو كان لم يزل عالما لكانت المعلومات لم تزل لأنه لا يصح عالم إلا بمعلوم موجود قال ولو كان عالما بما يفعله عباده لم تصح المحنة والإختبار قال وقال هشام في سائر صفات الله كقدرته وحياته وسمعه وبصره وإرادته إنها صفات الله لا هي الله ولا غير الله وقد

اختلف عنه في القدرة والحياة فمنهم من يحكى عنه أنه كان يقول إن البارئ لم يزل قادرا حيا ومنهم من ينكر أن يكون قال ذلك قال والفرقة السابعة من الرافضة لا يزعمون أن البارئ عالم في نفسه كما قال شيطان الطاق ولكنهم يزعمون أن الله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره والتأثير عندهم الإرادة فإذا أراد الشيء علمه وإذا لم يرده لم يعلمه ومعنى أراد عندهم أنه تحرك حركة هي إرادة فإذا تحرك علم الشيء وإلا لم يجز الوصف له بأنه عالم به قال والفرقة الثامنة من الرافضة يزعمون أن معنى أن الله يعلم أنه يفعل فإن قيل لهم أتقولون إن الله سبحانه لم يزل عالمابنفسه اختلفوا فمنهم من يقول لم يزل لا يعلم بنفسه حتى فعل العلم لأنه قد كان ولما يفعل ومنهم من يقول لم يزل يعلم بنفسه فإن قيل لهم فلم يزل يفعل قالوا نعم ولا نقول بقدم الفعل قال ومن الرافضة من يزعم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها قال والفرقة التاسعة من الرافضة يزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما حيا قادرا ويميلون إلى نفى التشبيه ولا يقرون بحدوث العلم ولا بما حكيناه من التجسيم وسائر ما أخبرنا به من التشبيه عنهم قال واختلف الروافض في إرادة الله سبحانه وهم أربع فرق

فالفرقة الأولى منهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلى بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله غيره وهي حركة الله كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم القائلون بالإعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله لتكوين الشيء هو الشيءوإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله أراد فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها قلت القول الثالت هو قول متأخري الشيعة كالمفيد وأتباعه الذين اتبعوا المعتزلة وهم طائفة صاحب هذا الكتاب والقول الأول قول البصريين من المعتزلة والثاني قول البغداديين فصار هؤلاء الشيعة على قول المعتزلة فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة ثم الرافضة حرموا الصواب في هذا الباب كما حرموه في غيره فقدماؤهم

يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم متفقون على القول الوسط المغاير لقول أهل التمثيل وقول أهل التعطيل وهذا مما يبين مخالفة الرافضة لأئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصول دينهم كما هم مخالفون لأصحابه بل ولكتاب الله وسنة رسوله وهذا لأن مبنى مذهب القوم على الجهل والكذب والهوى وهم وإن كانوا يدعون اتباع الأئمة الإثنى عشر في الشرائع فلو قدر من يجوز له التقليد إماما من أئمة أهل البيت كعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وأمثالهم لكان ذلك سائغا جائزا عند أهلالسنة لم تقل أهل السنة إنه لا يجوز لمن يجوز له التقليد تقليد هؤلاء وأمثالهم بل أهل السنة متفقون على أن تقليد الواحد من هؤلاء وأمثالهم كتقليد أمثالهم يسوغ هذا لمن يسوغ له ذلك وأكثر علماء السنة على أن التقليد في الشرائع لا يجوز إلا لمن عجز عن الإستدلال هذا منصوص الشافعي وأحمد وعليه أصحابهما وما حكى عن أحمد من تجويز تقليد العالم للعالم غلط عليه ولكن هذا القول حكى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قيل عنه يجوز تقليد الأعلم وقيل العالم وهذا النزاع إذا لم يكن تبين له القول الموافق للكتاب والسنة فإن تبين له ما جاء به الرسول لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين وأما تقليد العاجز عن الإستدلال فيجوزه الجمهور ومنع منه طائفة من أهل الظاهر وجمهور علماء المسلمين على أن القدرة على الإجتهاد والإستدلال مما ينقسم ويتبعض فقد يكون الرجل قادرا على الإجتهاد والإستدلال في مسألة أو نوع من العلم دون الآخر وهذا حال أكثر علماء

المسلمين لكن يتفاوتون في القوة والكثرة فالأئمة المشهورون أقدر على الإجتهاد والإستدلال في أكثر مسائل الشرع من غيرهم وأما أن يدعى أن واحدا منهم قادر على أن يعرف حكم الله في كل مسألة من الدين بدليلها فمن ادعى هذا فقد ادعى ما لا علم له به بل ادعى ما يعرف أنه باطل.
*

فصل
والمقصود هنا أن يقال لهذا الإمامي وأمثاله ناظروا إخوانكم هؤلاء الرافضة في التوحيد وأقيموا الحجة على صحة قولكم ثم ادعوا إلى ذلك ودعوا أهل السنة والتعرض لهم فإن هؤلاء يقولون إن قولهم في التوحيد هو الحق وهم كانوا في عصر جعفر الصادق وأمثاله فهم يدعون أنهم أعلم منكم بأقوال الأئمة لا سيما وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنةوهذا قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكنهم لم يقولوا ما قاله ابن كلاب ومن اتبعه من أنه قديم لازم لذات الله وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل هذا قول محدث أحدثه ابن كلاب واتبعه عليه طوائف وأما السلف فقولهم إنه لم يزل متكلما وإنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكذلك قالوا بلزوم الفاعلية ونقلوا عن جعفر الصادق بن محمد أنه قال بدوام الفاعلية المتعدية وأنه لم يزل محسنا بما لم يزل

فيما لم يزل إلى ما لم يزل كما نقل ذلك الثعلبي عنه بإسناده في تفسير قوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ((سورة المؤمنون).). مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل أن الله تعالى خالق كل شيء وأن ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء من العالم قديم بقدم الله وأما هشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهما من شيوخ الإمامية فكانوا يقولون إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة ولكن لا أعرف هل يقولون بدوام كونه متكلما بمشيئته كما يقوله أئمة أهل السنة أميقولون تكلم بعد أن لم يكن متكلما كما تقوله الكرامية وغيرهم قال الأشعري واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق وزاد بعض من يخبر عن المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول لا خالق ولا مخلوق ولا يقال أيضا غير مخلوق لأنه صفة والصفة لا توصف قال وحكى زرقان عن هشام بن الحكم أنه قال القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج قال وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم

قلت ومعلوم أن قول جعفر بن محمد الصادق وهؤلاء الذين قالوا من السلف ليس بمخلوق لم يريدوا أنه ليس بمكذوب بل أرادوا أنه لم يخلقه كما قالت المعتزلة وهذا قول متأخري الرافضة فإن طائفة من متأخري الإمامية كأبي القاسم الموسوي المعروف بالمرتضى وغيره لما وافقوا المعتزلة على أنه محدث منفصل عن الله وأنه لم يكن يمكنه أن يتكلم ثم صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما وليس له كلام يقوم به بل كلامه من جملة مصنوعاته المنفصلة عنه ثم سمعوا عن السلف من أهل البيت مثل جعفر بن محمد وغيره أنهم قالوا إنه غير مخلوق قالوا لا نقول إنه مخلوق متابعة لهؤلاء بل نقول إنه محدث مجعول موافقة لما ظنوه من لفظ القرآن في قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا (سورة الزخرف). وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (سورة الأنبياء). وكثير من الناس غير الشيعة يقولون غير مخلوق

ويقصدون في هذا المعنى أنه غير مكذوب مفترى فإنه يقال خلق هذا الحديث واختلقه إذا افتراه قال تعالى عن إبراهيم إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا ((سورة العنكبوت).). وقال عن قوم هود قالوا إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين (سورة الشعراء). فيقال لهؤلاء كل من تدبر الآثار المنقولة عن السلف وما وقع من النزاع بين الأمة في أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق علم أنه لم يكن نزاعهم في أنه مفترى أو غير مفترى فإن من يقر بأن محمدا رسول الله لا يقول إن القرآن مفترى بل إنما يقول إنه مفترى من قال إن محمدا كاذب افترى القرآن كما قال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله (سورة يونس). وقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات (سورة هود). وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا (سورة الفرقان). وقال أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى أجرامي وأنا برئ مما تجرمون (سورة هود). والذين تنازعوا في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق كانوا مقرين بأن محمدا رسول الله وأنه مبلغ للقرآن عن الله تعالى لم يفترههو ولكن الجهمية والمعتزلة لما كان أصلهم أن الرب لا تقوم به الصفات والأفعال والكلام لزمهم أن يقولوا كلامه بائن عنه مخلوق من مخلوقاته وكان أول من ظهر عنه هذا الجعد بن درهم ثم الجهم ابن صفوان ثم صار هذا في المعتزلة ولما ظهر هذا سألوا أئمة الإسلام مثل جعفر الصادق وأمثاله فقالوا لجعفر الصادق القرآن خالق أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ومعلوم أن قوله ليس بخالق ولا مخلوق لم يرد به أنه ليس بكاذب ولا مكذوب لكن أراد أنه ليس هو الخالق للمخلوقات ولا هو من المخلوقات ولكنه كلام الخالق وكذلك ما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قيل

له حكمت مخلوقا قال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن وما رواه ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كتب إلى حرب الكرماني ثنا محمد بن المصفى ثنا عبدالله بن محمد عن عمرو بن جميع عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال لما حكم علي الحكمين قالت الخوارج حكمت رجلين قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن حدثنا الأشج ثنا يحيى بن يمان ثنا حسن بن صالح عن عبدالله ابن الحسن قال قال علي للحكمين احكما بالقرآن كله فإنه كله لي وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا الصهيبي ابن عم علي بن عاصم وعلي بن صالح عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابنعباس في جنازة فسمع رجلا يقول يا رب القرآن ارحمه فقال ابن عباس مه القرآن منه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ثنا أبو مروان الطبري بمكة يعنى الحكم بن محمد ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق وفي رواية منه بدأ وإليه يعود وهذا رواه غير واحد عن سفيان بن عيينة عن عمرو ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا العباس بن عبدالعظيم ثنا رويم بن يزيد المقري ثنا عبد الله بن عباس عن يونس بن بكير عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سئل على بن الحسين عن القرآن فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق ورواه أو زرعة عن يحيى بن منصور عن رويم فذكره وحدثنا جعفر بن محمد بن هارون ثنا عبدالرحمن بن مصعب ثنا موسى بن داود الكوفى عن رجل عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله إن قوما يقولون القرآن مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله

حدثنا موسى بن سهل الرملي ثنا موسى بن داود ثنا معبد أبو عبدالرحمن عن معاوية بن عمار الذهبي قال قلت لجعفر بن محمد إنهم يسألوني عن القرآن مخلوق أو خالق فقال إنه ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وحدثنا أبو زرعة ثنا سويد بن سعيد عن معاوية فذكره وحدثنا أبي قال حدثنا الحسن بن الصباح ثنا معبد بمثله حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال أبي وحدثت عن موسى بن داود بهذا الحديث عن معبد قال رأيت معبدا هذا ولم يكن به بأس وأثنى عليه ثم قال كان يفتى برأي ابن أبي ليلى حدثنا عبدالله مولى المهلب بن أبي صفرة ثنا علي بن أحمد بن علي ابن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أخيه موسى بن جعفر قال سئل أبي جعفر بن محمد عن القرآن خالق أو مخلوق قال لو كان خالقا لعبد ولو كان مخلوقا لنفد ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيتوغيرهم فعلي رضي الله عنه لم يرد بقوله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن أي ما حكمت كلاما مفترى فإن الخوارج إنما قالوا له حكمت مخلوقا من الناس وهما أبو موسى وعمرو بن العاص فقال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت وإنما حكمت القرآن وهو كلام الله فالحكم لله وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص ويفتى كقوله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء (سورة النساء). أي وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وقوله وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (سورة البقرة). وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله فالله هو الذي حكم به وأفتى به وقص به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع

فهذا هو مراد علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وغيرهما من أهل البيت رضوان الله عليهم وسائر سلف الأمة بلا ريب فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها وأما قولهم إنه مجعول فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد بل قال إنا جعلناه قرآنا عربيا (سورة الزخرف). فإذا قالوا هو مجعول قرآنا عربيا فهذا حق وأما قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (سورة الأنبياء). فهذه الآية تدل على أن الذكر نوعان محدث وغير محدث كما تقول ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته وصفة النكرة للتخصيص وعندهم كل ذلك محدث والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم فلم يوافقوا القرآن ثم إذا قيل هو محدث لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا عن الله بل إذا تكلم الله به بمشيئته وقدرته وهو قائم به جاز أن يقال هو محدث وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحدث من أمره مايشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة لا عدم تكلمهم في الصلاة فإن ذلك يكون بإختيارهم ومنهم من تكلم بعد النهى لكن نهوا عن ذلك ولهذا قال يحدث من أمره ما يشاء والمقصود هنا أنه يقال لهذا الإمامي إخوانك هؤلاء يقولون إن قولهم هو الحق دون قولك وأنت لم تحتج لقولك إلا بمجرد قولك إنه ليس بجسم وهؤلاء إخوانك يقولون إنه جسم فناظرهم فإنهم إخوانك في الإمامة وخصومك في التوحيد وهكذا ينبغي لك أن تناظر الخوارج الذين هم خصومك وأما أهل السنة فهم وسط بينك وبين خصومك وأنت لا تقدر على قطع خصومك لا هؤلاء ولا هؤلاء

فإن قلت حجتي على هؤلاء أن كل جسم محدث قال لك إخوانك بل الجسم عندنا ينقسم إلى قسمين قديم ومحدث كما أن القائم بنفسه والموجود والحي والعالم والقادر ينقسم إلى قديم ومحدث فإن قال النافي الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث قال له إخوانه لا نسلم أنه لا يخلو عن الحوادث وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث فإن قال الدليل على أنه لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأعراض والأعراض حادثة فإن العرض لا يبقى زمانين وعلى هذا اعتمد كثير من الكلابية في حدوث العالم وعليه أيضا اعتمد الآمدي وطعن في كل دليل غيره وذكر أن هذه طريقة الأشعرية وضعف ذلك من تعقب كلامه وقال هذا يقتضى بناء هذا الأصل العظيم على هذه المقدمة الضعيفة وقد رأيت كلام الأشعري نفسهفرأيته اعتمد على أن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق بناء على أن الإجسام مركبة من الجواهر المنفردة فاحتج باستلزامها لهذا النوع من الأعراض وهذا النوع حادث لأنه من الأكوان لكنه مبنى على الجوهر الفرد وجمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على نفيه والمقصود هنا ذكر ما يبين أصول الطوائف وأن قول هؤلاء الرافضة المعتزلة من أفسد أقوال طوائف الأمة فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية يمكنهم الإنتصاف بها من إخوانهم أهل البدع وإن كان أولئك ضالين مبتدعين أيضا وهم مناقضون لهم غاية المناقضة فكيف تكون لهم حجة على أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما إن الإسلام وسط في الملل فإذا قال النافي الدليل على حدوثها استلزامها للأعراض قالوا له ليس هذا قولك وقول أئمتك المعتزلة وإنما هو قول

الأشعرية وأما المعتزلة فعندهم أنه قد يخلو عن كثير من الأعراض وإنما يقولون ذلك في الأكوان أو في الألوان وقالوا لا نسلم أن الأعراض حادثة وأنها لا تبقى زمانين وهذا القول معلوم البطلان بالضرورة عند جمهور العقلاء مع أنه ليس قولك وقول شيوخك المعتزلة والرافضة فإن قال الإمامي النافي الدليل على أن الجسم لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأكوان والأكوان حادثة إذ لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان قالوا له لا نسلم أن الأكوان كلها حادثة ولا نسلم أن السكون حادث بل يجوز أن يكون لنا جسم قديم أزلي ساكن ثم تحرك بعد أن لم يكن متحركا لأن السكون إن كان عدميا جاز أن يحدث أمر وجودي وإن كن وجوديا جاز أن يزول بحادث قال النافي القديم لا يزول قال إخوانه القديم إن كان معنى عدميا جاز زواله باتفاق العقلاء فإنه ما من حادث إلا وعدمه قديم والسكون عند كثيرمن الناس عدمي ونحن نختار أنه عدمي فيجوز زواله وإن كان وجوديا فلا نسلم أنه لا يجوز زواله فإن قال النافي السكون وجودي وإذا كان وجوديا قديما فالمقتضى لقدمه قديم من لوازم الواجب فيكون واجبا بوجوب سببه قال إخوانه المجسمة هذا الموضع يرد على جميع الطوائف المنازعين لنا من الشيعة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنهم وافقونا على أن البارئ فعل بعد أن لم يكن فاعلا فعلم جواز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث وهم يصرحون بأنه يجوز بل يجب حدوث الحوادث كلها بغير سبب حادث لامتناع حوادث لا أول لها عندهم وإذا جاز ذلك اخترنا أن يكون السكون عدميا والحادث هو الحركة التي هي وجودية فإذا جاز إحداث جرم بلا سبب حادث فإحداث حركة بلا سبب حادث أولى ولو قيل إن السكون وجودي فإذا جاز وجود أعيان بعد أن لم تكن

وذلك تحول من أن لا يفعل إلى أن يفعل سواء سمى مثل هذا تغيرا وانتقالا أو لم يسم جاز أن يتحرك الساكن وينتقل من السكون إلى الحركة وإن كانا وجوديين وقول القائل المقتضي لقدمه من لوازم الوجوب جوابه أن يقال قد يكون بقاؤه مشروطا بعدم تعلق الإرادة بزواله أو بغير ذلك كما يقولونه في سبب الحوادث فإن الواجب انتقل من أن لا يفعل إلى أن يفعل فما كان جوابهم عن ذلك كان جوابا عن هذا وإن قالوا بدوام الفاعلية بطل قولهم وقولنا وبالجملة هل يجوز أن يحدث عن القديم أمر بلا سبب حادث وترجيح أحد طرفي الممكن بمجرد القدرة وحينئذ فيجوز أن يحدث القادر ما به يزيل السكون الماضي من الحركة سواء كان ذلك السكون وجوديا أو عدميا قال النافي هذا يلزم منه أن يكون البارئ محلا للحركة وللحوادث أو للأعراض وهذا باطلقال إخوانه الإمامية قد صادرتنا على المطلوب فهذا صريح قولنا فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا قال النافي لأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث قال إخوانه قولك ما قامت به الحوادث لم يخل منها فهذا ليس قول الإمامية ولا قول المعتزلة وإنما هو قول الأشعرية وقد اعترف الرازي والآمدي وغيرهما بضعفه وأنه لا دليل عليه وهم وأنتم تسلمون لنا أنه أحدث الأشياء بعد أن لم يكن هناك حادث بلا سبب حادث فإذا حدثت الحوادث من غير أن يكون لها أسباب حادثة جاز أن تقوم به بعد أن لم تكن قائمة به فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الإمامية ويقوله من يقوله من الكرامية وغيرهم من إثبات أنه جسم قديم وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا أو تحرك بعد أن لم يكن متحركا لا يمكن هؤلاء الإمامية وموافقيهم من المعتزلة والكلابية إبطاله فإن أصل قولهم بامتناع الحوادث به

وهؤلاء قد جوزوا ذلك ثم الكلابية لا تنفى قيام الحوادث به لانتفاء الصفات فإنهم يقولون بقيام أعيان الصفات القديمة به وإنما ينفون قدم النوع لتجدد أعيانه فإنها حوادث وعمدتهم في نفى ذلك أن ما قبل الحوادث لم يخل منها وهذه مقدمة باطلة عند العقلاء وقد اعترف بذلك غير واحد من حذاقهم كالرازي والآمدي وغيرهما وأما أبو المعالي وأمثاله فلم يقيموا حجة عقلية على هذا المطلوب وإنما اعتمدوا على تناقض أقوال من نازعهم من الكرامية والفلاسفة وغيرهما وتناقض أقوال هذه الطوائف يدل على فساد قولها بمجموع الأمرين لا يدل على صحة أحدهما بعينه وحينئذ فإذا كان هناك قول ثالث يمكن القول به مع فساد أحدهما أو كليهما لم يلزم صحة قول الكلابية وجميع الطوائف المختلفين المخالفين للكتاب والسنة وإنما عندهم إفساد بعضهم قول الآخرين وبيان تناقضه ليس عندهم قول صحيح يقال به ولهذا كانت الفائدة المستفادة من كلامهم نقض بعضهم كلام بعض فلا يعتقد شيء منها ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهو الصواب الموافق لصريح المعقول وإلا استفيد من ذلك السلامة من

تلك الإعتقادات الباطلة وإن لم يعرف الحق فالجهل البسيط خير من الجهل المركب وعدم اعتقاد الأقوال الباطلة خير من اعتقاد شيء منها وأما المعتزلة فتنفى قيام الحوادث به لأنها أعراض فلا تقوم به وهؤلاء يقولون بل تقوم به الأعراض وعمدة المعتزلة أنه لو قامت به لكان جسما وهؤلاء التزموا أنه جسم وعمدة هؤلاء في نفي كونه جسما أن الجسم لا يخلو من الحوادث وهؤلاء قد نازعوهم في هذا وقالوا بل يخلو عن الحوادث وقالوا إن البارئ جسم قديم كما تقولون أنتم إنه ذات قديمة وإنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وتجعلون مفعوله هو فعله لكن هؤلاء يقولون له فعل قائم به ومنفصل عنه وهؤلاء يقولون له مفعول منفصل عنه ولا يقوم به فعل وعمدة هؤلاء أنه في الأزل إن كان ساكنا لم تجز عليه الحركة لأن السكون معنى وجودي أزلي فلا يزول وإن كان متحركا لزم حوادث لا تتناهى وهؤلاء يقولون بل كان ساكنا في الأزل ويقولون إنالسكون عدم الحركة أو عدم الحركة عما يمكن تحريكه أو عدمه عما من شأنه أن يتحرك فلا يسلمون أن السكون أمر وجودي كما يقولون مثل ذلك في العمى والصمم والجهل البسيط والقول بأن هذه الأمور عدمية ليس هو قول من يقوله من الفلاسفة وحدهم كما يظنه بعض المصنفين في الكلام بل هو قول كثير من النظار المتكلمين أهل القبلة والصلاة وتنازعهم في هذا كتنازعهم في نظائره مثل بقاء الأعراض وتماثل الأجسام وغير ذلك وإن قالوا إنه وجودي فلا يسلمون أن كل أزلي لايزول بل يقولون في تبدل السكون بالحركة ما يقوله مناظروهم في تبدل الإمتناع بالإمكان فإن الطائفتين اتفقتا على أن الفعل كان ممتنعا في الأزل فصار ممكنا فهكذا يقوله هؤلاء في السكون الوجودي إن كان تبدله بالحركة في الأزل ممتنعا وهو فيما لا يزال ممكن فتبدل حيث أمكن التبدل كما يقولون جميعا إنه حدث الفعل حيث كان الحدوث ممكنا

فهذا بحث هؤلاء الإمامية والكرامية مع هؤلاء الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة والكلابية وأتباعهم في هذه الأمور التي يعتمدون فيها على العقل وقد أجابهم طائفة من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم بأن الدليل الدال على حدوث العالم هو هذا الدليل الدال على حدوث الأجسام فإن لم يكن هذا صحيحا انسد طريق معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع فقال المخالف لهؤلاء لا نسلم أن هذا هو الطريق إلى معرفة حدوث العالم ولا إلى إثبات الصانع بل هذا طريق محدث في الإسلام لم يكن أحد من الصحابة ولا القرابة ولا التابعين يسلك هذه الطريق وإنما سلكها الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف ومن وافقهما ولو كان العلم بإثبات الصانع وحدوث العالم لا يتم إلا بهذه الطريق لكان بيانها من الدين ولم يحصل الإيمان إلا بها ونحن نعلم بالإضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الطريق لأمته ولا دعاهم بها لا إليها ولا أحد من الصحابة فالقول بأن الإيمان موقوف علهيا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام

وكل أحد يعلم أنها طريق محدثة لم يسلكها السلف والناس متنازعون في صحتها فكيف يقولون إن العلم بالصانع والعلم بحدوث العالم موقوف عليها وقالوا بل هذه الطريقة تنافى العلم بإثبات الصانع وكونه خالقا للعالم آمرا بالشرائع مرسلا للرسل فالذين ابتدعوها من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم قالوا إنها صحيحة في العقل وإن العلم بالنبوة وصحة دين الإسلام لايتم إلا بها وقولهم إن العلم بذلك لا يتم إلا بها مما أنكره عليهم جماهير الأمة من الأولين والآخرين لا سيما السلف والأئمة وكلامهم في تبديع أهل هذا الكلام وذمه وذم أهله ونسبتهم إلى الجهل وعدم العلم من الأمور المتواترة عن السلف وكذلك القول بصحتها من جهة العقل هو مما أنكره جمهور أئمة الأمة لكن سلم ذلك طوائف من الكرامية والكلابية وغيرهم ونازعوهم في موجب هذه الطريق ونازعوهم أيضا في توقف صحة دين الإسلام عليها كما ذكر ذلك غير واحد مثل ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب وذكره الخطابي

وأبو عمر الطلمنكي الأندلسي والقاضي أبو يعلى وغير واحد وأما أئمة السنة وطوائف من أهل الكلام فبينوا أن هذه طريقة باطلة في العقل أيضا وأنها تنافى صحة دين الإسلام فضلا عن أن تكون شرطا في العلم به وأين اللازم لدين الإسلام من المنافي له وبينوا أن تقدير ذات لم تزل غير فاعلة ولا متكلمة بمشيئتها وقدرتها ثم حدوث ما يحدث من مفعولات مثل كلام مؤلف منظوم وأعيان وغير ذلك بدون سبب حادث مما يعلم بطلانه بصريح المعقول وهو مناقض لكونه سبحانه خلق السماوات والأرض ولكون القرآن كلام الله وغير ذلك مما أخبر به الرسل بل حقيقته أن الرب لم يفعل شيئا ولم يتكلم بشيء لامتناع ما ذكروه من أن يكون فعالا أو مقالا له كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مجامع الطرق والمقالات قالت النفاة فإذا كانت طرقنا في إثبات العلم بالصانع وحدوث السماوات والأرض وإثبات العلم بالنبوة طرقا باطلة فما الطريق إلى ذلك قالوا أولا لا يجب علينا في هذا المقام بيان ذلك بل المقصود ههنا أن هذه طريق محدثة مبتدعة يعلم أنها ليست هي

الطريق التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيمتنع أن تكون واجبة أو يكون العلم الواجب أو الإيمان بصدقة موقوفا عليها وقالوا كل من العلم بالصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ولهذا كانت دعوة عامة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان عامة الأمة مقرين بالصانع مع إشراكهم به بعبادة ما دونه والذين أظهروا إنكار الصانع كفرعون خاطبتهم الرسل خطاب من يعرف أنه حق كقول موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر (سورة الإسراء). ولما قال فرعون وما رب العالمين (سورة الشعراء). قال له موسى رب السموات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (سورة الشعراء).

ولما قال فرعون فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (سورة طـــه). فكان جواب موسى له جوابا للمتجاهل الذي يظهر أنه لا يعرف الحق وهو معروف عنده فإن سؤال فرعون بقوله وما رب العالمين استفهام إنكار لوجوده ليس هو استفهام طلب لتعريف ما هيته كما ظن ذلك بعض المتأخرين وقالوا إن فرعون طالبه ببيان الماهية فعدل عن ذلك لامتناع الجواب بذكرها فإن هذا غلط منهم فإن فرعون لم يكن مفرا بالصانع ألبته بل كان جاحدا له وكان استفهامه استفهام إنكار لوجوده ولهذا قال ما علمت لكم من إله غيري (سورة القصص). وقال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات ولو كان مقرا بوجوده طالبا لمعرفة ما هيته لم يقل هذا ولكان موسى ما أجابه إجابة لم تذكر فيها ماهيته ومع أن القول بأن الماهية هي ما يقوله المنطقيون من ذكر الذاتي المشترك والذاتي المميز وهما الجنس والفصل كلام باطل قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن الماهية المغايرة للوجود الخارجي إنما هي ما يتصور في الذهن فإن ما في الأذهان من الصور الذهنية ليس هو نفس الموجودات الخارجية وأما دعوى أهل المنطق اليوناني أن في الخارج ماهية ووجودا غير

الماهية وأن الصفات اللازمة تنقسم إلى لازمة مقومة داخلة في الماهية ومفارقة عرضية لها غير مقومة وإلى لازمة لوجودها الخارجي دون ماهيتها الخارجية فكلام باطل من وجوه متعددة كما قد بسط هذا في موضعه وبين أن الصفات تنقسم إلى لازمة للموصوف وعارضة له فقط كما عليه نظار المسلمين من جميع الطوائف وبين كلام نظار المسلمين في الحد والبرهان وأن كلامهم في صريح المعقول أصح من كلام المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم من المتسبين إلى الملل وأيضا فنفس حدوث الإنسان يعلم به صانعه وكذلك حدوث كل ما يشاهد حدوثه وهذه الطريقة مذكورة في القرآن وأيضا فالوجود يستلزم إثبات موجد قديم واجب بنفسه ونحن نعلم أن من الموجودات ما هو حادث فقد علم بالضرورة انقسام الموجود إلى قديم بنفسه وإلى محدث وأما حدوث العالم فيمكن علمه بالسمع وبالعقل فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة وإما بمشاهدة حدوث المحدثاتوإما بغير ذلك ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ودلالة المعجزات طريق من الطرق وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديما لكان إما واجبا بنفسه وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وإما واجبا بغيره فيكون المقتضى له موجبا بذاته بمعنى أنه مستلزم لمقتضاه سواء كان شاعرا مريدا أم لم يكن فإن القديم الأزلي إذا قدر انه معلول مفعول فلا بد من أن تكون علة تامة مقتضية له في الأزل وهذا هو الموجب بذاته ولو كان مبدعة موجبا بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه والحوادث مشهودة في العالم فعلم أن فاعله ليس علة تامة وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديما وهذه الحوادث التي في العالم إن قيل إنها من لوازمه امتنع أن

تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم دون لازمه وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء وإن لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن فإن لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث وإن كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة وحينئذ فيكون قد تغير وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والإنتقال من حال إلى حال وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يحدث فيها حادث فإنه إن حدث بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل فبطل أن تكون علة تامة أزلية وإن جوز مجوز عليها الإنتقال من حال إلى حال جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن فبطل حجة من يقول بقدم العالم

وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون المنتقل من حال إلى حال إلا فاعلا بالإختيار لا موجبا بالذات وإيضاح هذا أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول وإما أن يجب أن يكون لها أول فإن وجب أن يكون أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات الأفلاك أزلية وأيضا فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو تكون عارضة له فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلوا عنها فإذا كان لها ابتداء كان له ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها فإذا قدر أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا بعد أن لم يكن قطعا وإن كانت الحوادث عارضة للعالم ثبت حدوث الحوادث بلا سبب وإذا جاز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث جاز حدوث العالم بلا سبب حادث فبطلت كل حجة توجب قدمه وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلاوإذا قيل يجوز أن يكون العالم قديما عن علته بلا حادث فيه ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا لأنه إذا جاز أن يحدثنا بعد أن لم يكن محدثا لم يكن موجبا بل فاعلا باختياره ومشيئته والفاعل باختياره ومشيئته لا يقارنه مفعوله كما قد بسط في موضعه ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ويجب أن يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث فإيجاب تعطيله وإيجاب فعله جمع بين الضدين وتخصيص بلا مخصص فإنه بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل وإما أن يجوز الأمران فإن وجب كونه فاعلا في الأزل جاز حدوث الحوادث في الأزل ووجب أن لا يكون لها ابتداء والتقدير أن لها ابتداء وإن امتنع كونه فاعلا في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم في الأزل غيره فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث

وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل فجاز حدوث الحوادث في الأزل وإن قيل بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال كما يقوله من يقول بقدم العقول والنفوس وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة كان هذا من أفسد الأقوال لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذلم يكن هناك ما يقتضى تجدد إحداث الحوادث مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضى دوام حدوث الحوادث فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء

ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون إنه فاعل لها في الأزل بل يقولون إنها واجبة بنفسها هذا هو المحكي عنهم وقد يقولون إنها معلولة له لا مفعولة له فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل وقدر امتناع الحدوث في الأزل جمع بين وجوب كونه فاعلا وامتناع كونه فاعلا وإذا قيل يفعل ما هو قديم ولا يفعل ما هو حادث قيل فعلى هذا التقدير يجوز تغيير القديم لأن التقدير ان المعلول القديم حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث والمعلول القديم لا يجوز تغييره فإنه يقتضي تغيير علته التامة الأزلية الموجبة له ثم على هذا التقدير المتضمن إثبات قديم معلول لله أو إثبات قدماء معلولة عن الله مع حدوث الحوادث الدائمة في ذلك القديم أو مع تجدد حدوث الحوادث فيها هو قول بحدوث هذاالعالم كما يذكر ذلك عن ديمقراطيس ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهما وهذا مبسوط في موضعه وكما هو قول من يقول بحدوث الأجسام كلها والرازي قد يجعل القولين قولا واحدا كما أشار إلى ذلك في محصله وغير محصله وذلك أن المعروف عن الحرنانيين هو القول بالقدماء الخمسة ثم بنوا عليه تصور النفس وقد حدث لها عشق تعلقت بسببه بالهيولي ليكون للأجسام سبب اقتضى حدوثها لكنه مع هذا باطل فإن حدوث الحوادث بلا سبب إن كان ممتنعا بطل هذا القول لأنه يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب وإذا كانت أحوال الفاعل واحدة وهو لا يقوم به شيء من الأمور الإختيارية امتنع أن يختص بعض الأحوال بسبب يقتضى حدوث الأجسام وإن

كان ممكنا أمكن حدوث كل ما سوى الله بعد أن لم يكن وكانت هذه القدماء مما يجوز حدوثه وأيضا فعلى هذا القول يكون موجبا بذاته لمعلولاته ثم يصير فاعلا بالإختيار لغيرها والقول بأحد القولين يناقض الآخر وإن قيل إن الحوادث يجوز دوامها امتنع أن تكون علة أزلية لشيء منها والعالم لا يخلو منها على هذا التقدير بل هو مستلزم لها فيمتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل ويمتنع أن يكون علة للملزوم دون لازمه وأيضا فإن كل ما سوى الواجب يمكن وجوده وعدمه وكل ما كان كذلك فإنه لا يكون إلا موجودا بعد عدمه وأيضا فإن القول بأن المفعول المعين يقارن فاعله أزلا وأبدا مما يعلم بطلانه بضرورة العقل ولهذا كان هذا مما اتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى أرسطو وأصحابه القدماء ومن اتبعه من المتأخرين فإنهم متفقون على أن كل ما أمكن وجوده وعدمه لا يكون

إلا محدثا مسبوقا بالعدم وإنما أثبت ممكنا قديما ابن سينا ومن وافقه وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة وبينوا أنه خالف في ذلك قول سلفه كما ذكر ذلك ابن رشد وغيره وكذلك عامة العقلاء من جميع الطوائف متفقون على أن كل ما يقال إنه مفعول أو مبدع أو مصنوع لا يكون إلا محدثا ولهذا كان جماهير العقلاء إذا تصوروا أنه خلق السماوات والأرض تصوروا أنه أحدثها لا يتصور في عقولهم أن تكون مخلوقة قديمة وإن عبر عن ذلك بعبارات أخر مثل أن يقال هي مبدعة قديمة أو مفعولة قديمة ونحو ذلك بل هذا وهذا جمع بين الضدين عند عامة العقلاء وما يذكره من يثبت مقارنة المفعول لفاعله من قولهم حركت يدي فتحرك الخاتم ونحوه تمثيل غير مطابق لأنه ليس في شيء مما يذكرونه علة فاعلة تقدمت على المعلول المفعول وإنما الذي تقدم في اللفظ شرط أو سبب كالشرط ومثل ذلك يجوز أن يقارن المشروط هذا إذا سلم مقارنة الثاني للأول وإلا ففي كثير مما يذكرونه يكون متأخرا عنه مع اتصاله به كأجزاء الزمان بعضها مع بعض هو متصل بعضها ببعض مع التأخر وأما ما ذكره الرازي في محصله وغير محصله حيث قال اتفق المتكلمون على أن القديم يمتنع استناده إلى الفاعل واتفقت

الفلاسفة على أنه غير ممتنع زمانا فإن العالم قديم عندهم زمانا مع أنه فعل الله تعالى فيقال أما نقله عن المتكلمين فصحيح وهو قول جماهير العقلاء من جميع الطوائف وأما نقله عن الفلاسفة فهو قول طائفة منهم كابن سينا وليس هو قول جمهورهم لا القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ولا القائلين بحدوث صورته وهم جمهور الفلاسفة فإن القائلين بقدمه لم يكونوا يثبتون له فاعلا مبدعا كما يقوله ابن سينا بل منهم من لا يثبت له علة فاعله وأرسطو يثبت له علة غائية يتشبه بها الفلك لم يثبت علة فاعله كما يقوله ابن سينا وأمثاله وأما من قبل أرسطو فكانوا يقولون بحدوث السماوات كما يقوله أهل الملل ثم قال الرازي وعندي أن الخلاف في هذا المقام لفظي لأن المتكلمين يمتنعون من إسناد القديم إلى المؤثر الموجب بالذات وكذلك زعم مثبتو الحال بناء على أن عالمية الله وعلمه قديمان مع أن العالمية والقادرية معللة بالعلم والقدرة وزعم أبو هاشم أن العالمية والقادرية والحيية والموجودية معللة بحال خامسة مع أن الكل

قديم وزعم أبو الحسين أن العالمية حال معللة بالذات وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ولكنهم يغطون المعنى في الحقيقة فيقال ليس في المتكلمين من يقول بأن المفعول قد يكون قديما سواء كان الفاعل يفعل بمشيئته أو قدر أنه يفعل بذاته بلا مشيئة والصفات اللازمة للموصوف فإن قيل إنها قديمة فليست مفعولة عند أحد من العقلاء بل هي لازمة للذات بخلاف المفعولات الممكنة المباينة للفاعل فإن هذا هو المفعول الذي أنكر جمهور العقلاء على من قال بقدمه والمتكلمون وسائر جمهور العقلاء متفقون على أن المفعول لا يكون قديما وإن قدر أنه فاعل بالطبع كما تفعل الأجسام الطبيعية فما ذكره عن المتكلمين فليس بلازم لهم ثم قال وأما الفلاسفة فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارئ لكونه عندهم موجبا بالذات حتى لو اعتقدو فيه كونه فاعلا بالإختيار لما جوزوا كونه موجبا للعالم القديمقال فظهر من هذا اتفاق الكل على جواز إسناد القديم إلى الموجب القديم وامتناع إسناده إلى المختار فيقال بل الفلاسفة في كونه يفعل بمشيئته على قولين معروفين لهم وأبو البركات وغيره يقولون بأنه فاعل بمشيئته مع قولهم بقدم العالم فتبين أن ما ذكره عن المتكلمين باطل وما ذكره عن الفلاسفة باطل أما الفلاسفة فعلى قولين وأما المتكلمون فمتفقون على بطلان ما حكاه عنهم أو ألزمهم به بل هم وجمهور العقلاء يقولون يعلم بالضرورة أن كل مفعول فهو محدث ثم كونه مفعولا بالمشيئة أو بالطبع مقام ثان وليس العلم بكون المفعول محدثا مبنيا على كون الفاعل مريدا فإن الفعل عندهم لا يكون ابتداؤه إلا من قادر مريد لكن هذه قضية قائمة بنفسها وهذه قضية قائمة بنفسها وكل منهما دليل على حدوث كل ما سوى الله وهما أيضا قضيتان متلازمتان وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ولكن المقصود هنا أن المبطلين لأصول الجهمية والمعتزلة من أهل السنة والشيعة وغيرهم يقولون بهذه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17