كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

{ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور لهن ما كان في الشرك رحيم فيما بقي .
قوله تعالى : { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } ، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأمر المسلمين ، يتواصلون إليهم بذلك ، فيصيبون من ثمارهم وطعامهم وشرابهم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، فقال : { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } يعني : لا تتخذوا الصداقة مع قوم غضب الله عليهم ، ويقال : هَذَا أَيضاً في حاطب بن أبي بلتعة .
ثم قال عز وجل : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور } ؛ قال مقاتل : وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره ، أتاه ملك شديد الانتهار ، فيجلسه ، ثم يسأله : من ربك ، وما دينك ، ومن رسولك؟ فيقول : لا أدري . فيقول الملك : أبعدك الله ، انظر يا عدو الله إلى منزلك . فينظر إليه من النار ، فيدعو بالويل والثبور ، فيقول : هذا لك يا عدو الله . فيفتح له باب إلى الجنة ، فيقول : هذا لمن آمن بالله تعالى ، فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة . فيكون حسرة عليه ، وينقطع رجاؤه منها . وعلم أنه أبعد له فيها ، ويئس من خير الجنة ، فذلك قوله تعالى : للكفار أهل الدنيا الأحياء منهم { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاخرة } يعني : من خير الآخرة ، لأنهم كذبوا بالثواب والعقاب ، وهم آيسون من الجنة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ، إذا عرف منازله؛ ويقال : إن الكفار إذا مات منهم أحد ، يئسوا من رجوعه ، فيقال : قد يئس هؤلاء من الآخرة ، كما يئس الكفار من أصحاب القبور من رجوعهم؛ ويقال : { يَئِسُواْ مِنَ الاخرة } يعني : هؤلاء الكفار كما يئس الكفار الذين كانوا قبلهم من الآخرة؛ وهو اليوم من أصحاب القبور؛ والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، وعلى آله وصحبه وسلم .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)

قوله تبارك وتعالى : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَهُوَ العزيز الحكيم الحكيم يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ؛ وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بعدما فروا يوم أحد : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ، وأفضل لفعلناه ، فنزل : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . ويقال : قالوا ذلك قبل يوم أحد ، فابتلوا بذلك وفروا ، فنزل تيسيراً لهم بترك الوفاء ، فقال : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } ، يعني : عظم بغضاً عند الله { أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } ، يعني : يصفون بمنزلة الصف في الصلاة وملتزمة بعضهم في بعض ، لا يتأخر أحدهم عن صاحبه بمنزلة البنيان الذي بني بالرصاص؛ ويقال : { كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } أي : متفقي الكلمة بعضهم على بعض على عدوهم ، فلا يخالف بعضهم بعضاً . وروي في الخبر : أنه كان يوم مؤتة وكان عبد الله بن رواحة أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم : يا أهل المجلس الذين وعدتم ربكم قولكم ، ثم مشى فقاتل حتى قتل .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى } وقد قال موسى { لِقَوْمِهِ ياقوم لَّم تُؤْذُونَنِى } بالتكذيب ، وذلك أنهم كذبوه وقالوا : إنه آدر ، ويقال : إنه حين مات هارون ، ويقال : إنه قال لقومه الكفار : لم تؤذونني بالتكذيب والشتم؟ { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ } يعني : مالوا عن الحق وعدلوا عنه . { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } يعني : خذلهم عن الهدى فثبتوا على اليهودية . { والله لاَ يَهْدِى } يعني : لا يرشد إلى دينه { القوم الفاسقين } ، يعني : العاصين المكذبين ، الذين لا يرغبون في الحق .
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } يعني : وقد قال عيسى ابن مريم { مَرْيَمَ يابنى إسراءيل إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم } ، يعني : أرسلني الله تعالى إليكم ، لأدعوكم إلى الإسلام . { مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة } يعني : أقرأ عليكم الإنجيل موافقاً للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع ، { وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ } يعني : أبشركم برسول الله { يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ } . وروى ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ . فقال : « أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ وَرَأَتْ أُمِّي رُؤْيَاهَا حِينَ حَمَلَتْ بِي أنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى فِي أرْضِ الشَّامِ » . { فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات } ، يعني : جاءهم عيسى بالبينات التي كان يريهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : بيناً ظاهراً . قرأ حمزة والكسائي { ساحر } بالألف ، والباقون { ساحر } بغير ألف . فمن قرأ { ساحر } فهو فاعل ، ومن قرأ { ساحر } فهو نعت الفعل .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

ثم قال عز وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ } يعني : من أشد في كفره { مِمَّنِ افترى عَلَى الله } يعني : اختلق على الله { الكذب } وهم اليهود . { وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } يعني : إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : لا يرشدهم . ويقال : لا يرحمهم ما داموا على كفرهم . ثم قال عز وجل : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } يعني : ليبطلوا دين الله بقولهم : { والله مُتِمُّ نُورِهِ } يعني : مظهر توحيده وكتابه ، { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } يعني : وإن كره اليهود والنصارى . قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص : { والله مُتِمُّ نُورِهِ } على معنى الإضافة ، والباقون { مُّتُّمْ } بالتنوين { نُورِهِ } بالنصب . فمتم فاعل ونصب نوره ، لأنه مفعول به .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } يعني : بالتوحيد { وَدِينِ الحق } يعني : الشهادة لا إله إلا الله . { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } يعني : على الأديان كلها . قال مقاتل : وقد فعل ، ويقال : إنه يكون في آخر الزمان ، لا يبقى أحد إلا مسلم أو ذمة للمسلم . { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } يعني : وإن كرهوا ذلك .
ثم قال عز وجل : { المشركون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، يعني : من عذاب دائم . قرأ ابن عامر { تُنجِيكُم } بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، وهما لغتان . أنجاه ونجاه بمعنى واحد . ثم بيَّن لهم تلك التجارة ، فقال عز وجل : { تُؤْمِنُونَ بالله } يعني : تصدقون بتوحيد الله { وَرَسُولُهُ } يعني : وتصدقون برسوله ، وبماء جاء به من عنده . { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } ، فقدم ذكر المال ، لأن الإنسان ربما يضر بماله ما لا يضر بنفسه ، ولأنه إذا كان له مال ، فإنه يؤخذ به النفس ليغزو . { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني : التصديق والجهاد خير لكم من تركهما . { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني : تعلمون ثواب الله تعالى ، ويقال : يعلمون يعني : يصدقون .
ثم بين ثواب ذلك العمل . فقال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } يعني : إن فعلتم ذلك العمل ، يغفر لكم ذنوبكم . { وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار ومساكن طَيّبَةً } يعني : يدخلكم منازل الجنة { فِى جنات عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم } يعني : النجاة الوافرة . ثم قال عز وجل : { وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله } يعني : تجارة أخرى تحبونها { نَصْرٌ مّن الله } يعني : ولكم سوى الجنة أيضاً عدة أخرى في الدنيا تحبونها ، ويقال : معناه ونجاة أخرى تحبونها { نَصْرٌ مّن الله } يعني : هي النصرة من الله تعالى على عدوكم ، { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } يعني : ظفراً سريعاً عاجلاً في الدنيا والجنة في الآخرة .

ثم قال : { وَبَشّرِ المؤمنين } يعني : بشرهم بالجنة . ثم قال عز وجل : { المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله } ، قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو { أَنصَار الِلَّهِ } بالتنوين ، والباقون { أَنْصَارُ الله } بالإضافة ، ومعناهما واحد يعني : كونوا أعوان الله بالسيف على أعدائه ، ومعناه : انصروا الله ، وانصروا دين الله ، وانصروا محمداً صلى الله عليه وسلم ، كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم . وهو قوله تعالى : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله } يعني : من أعواني إلى الله ، ويقال : إنما سموا الحواريون لبياض ثيابهم ، ويقال : كانوا قصارين ، ويقال : خلصاؤه وصفوته . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الزُّبَيْرُ ابنُ عِمَّتِي وَحَوَارِيَّ مِنْ أُمَّتِي » . وتأويل الحواريين في اللغة ، الذين أخلصوا وتبرؤوا من كل عيب؛ وكذلك الدقيق الحواري ، لأنه ينتقى من لباب البرّ . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم ، وكانوا صيادين . وروى عبد الرزاق ، عن معمر قال : تلا قتادة { المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله } قال : وقد كان ذلك بحمد الله جاءه السبعون ، فبايعوه عند العقبة فنصروه وآووه ، حتى أظهر الله دينه .
{ قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } يعني : نحن أعوانك مع الله ، { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار } يعني : بعيسى عليه السلام ويقال : فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ } يعني : جماعة منهم . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار } يعني : قوينا الذين آمنوا على عدوهم من الكفار ، { فَأَصْبَحُواْ ظاهرين } ، فصاروا غالبين بالنصرة ، والحجة؛ والله أعلم بالصواب .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

قوله تعالى : { يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } ، وقد ذكرناه . { الملك القدوس } يعني : الملك الذي يملك كل شيء ، ولا يزال ملكه القدوس يعني : الطاهر عن الشريك والولد . قرىء في الشاذ : { الملك القدوس } بالضم ومعناه هو الملك القدوس؛ وقرأه العامة بالكسر ، فيكون نعتاً لله تعالى : { العزيز } في ملكه ، { الحكيم } في أمره .
ثم قال : { هُوَ الذى بَعَثَ فِى الاميين } يعني : في العرب . والأميون الذين لا يكتبون ، وهو ما خلقت عليه الأمة قبل تعلم الكتابة . { رَسُولاً مّنْهُمْ } يعني من قومهم العرب . { يَتْلُو عَلَيْهِمْ } يعني : يقرأ عليهم { ءاياته } يعني : القرآن ، { وَيُزَكّيهِمْ } يعني : يدعوهم إلى التوحيد ، ويطهرهم به من عبادة الأوثان؛ ويقال : { يُزَكّيهِمْ } يعني : يصلحهم ، ويقال : يأمرهم بالزكاة . { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } يعني : القرآن { والحكمة } يعني : الحلال والحرام . { وَإِن كَانُواْ } يعني : وقد كانوا { مِن قَبْلُ } أن يبعث إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : لفي خطأ بيِّن يعني : الشرك .
{ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ } يعني : التابعين من هذه الأمة ممن بقي ، { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } يعني : لم يكونوا بعد فسيكونون . وروى جويبر ، عن الضحاك في قوله : { ءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال : يعني : من أسلم من الناس ، وعمل صالحاً إلى يوم القيامة من عربي وعجمي . ثم قال : { وَهُوَ العزيز الحكيم } يعني : العزيز في ملكه ، الحكيم في أمره .
قوله تعالى : { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ } يعني : الإسلام فضل الله يؤتيه { مَن يَشَآء } يعني : يعطيه من يشاء ، ويكرم به من يشاء من كان أهلاً لذلك . { والله ذُو الفضل العظيم } يعني : ذو المنّ العظيم لمن اختصه بالإسلام . ثم قال : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } يعني : صفة الذين علموا التوراة ، وأمروا بأن يعملوا بما فيها . { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ، أي : لم يعملوا بما أمروا فيها من الأمر والنهي وبيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } وأمروا بأن يحملوا تفسيرها ، ثم لم يحملوها يعني : لم يعلموا تفسيرها ، فمثلهم { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } يعني : يحمل كتباً ولا يدري ما فيها ، كما لا يدري اليهود ما حملوا من التوراة . ثم قال : { بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } يعني : بئس مثل القوم ضربنا لهم الأمثال ، ويقال : بئس صفة القوم الذين كذبوا بآيات الله ، يعني : جحدوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم . { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : إلى طريق الجنة اليهود الذين لا يرغبون في الحق .
وقوله تعالى : { قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ } يعني : مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية .

{ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ } يعني : إن ادعيتم وقلتم إنكم { أَوْلِيَاء لِلَّهِ } يعني : أحباباً لله . { مّن دُونِ الناس } يعني : من دون المؤمنين ، { فَتَمَنَّوُاْ الموت } يعني : سلوا الموت ، فقولوا : اللهم أمتنا . { إِن كُنتُمْ صادقين } بأنكم أولياء الله من دون المؤمنين . { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً } يعني : لا يسألون أبداً { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يعني : بما عملت وأسلفت أيديهم . { والله عَلِيمٌ بالظالمين } يعني : عليماً بحالهم بأنهم لا يتمنون الموت . { قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم } أي : تكرهون الموت ، يعني : نازل بكم لا محالة . { ثُمَّ تُرَدُّونَ } يعني : ترجعون في الآخرة . { إلى عالم الغيب والشهادة } ، وقد ذكرناه { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : يخبركم ويجازيكم بما كنتم تعملون في الدنيا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

قوله عز وجل : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة } يعني : إذا أذن للصلاة { مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } يعني : امضوا إلى الصلاة فصلوها . ويقال : { إلى ذِكْرِ الله } يعني : الخطبة فاستمعوها . وروى الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( فامضوا إلى ذكر الله ) ويقول : لو قرأتها فاسعوا ، لسعيت حتى يسقط ردائي . وقال : القتبي : السعي على وجه الإسراع في المشي كقوله تعالى : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّى لَكَ مِنَ الناصحين } [ القصص : 20 ] والسعي : العمل كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الاخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] وقال : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 4 ] ، والسعي : المشي ، كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقر : 260 ] وكقوله تعالى : { ياأيها الذين ءامنوا إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] وقال الحسن في قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } قال : ليس السعي بالأقدام ، ولكن سعي بالنية ، وسعي بالقلب ، وسعي بالرغبة .
ثم قال : { وَذَرُواْ البيع } ، ولم يذكر الشراء ، لأنه لما ذكر البيع ، فقد دل على الشراء . ومعناه : اتركوا البيع والشراء . وقال جماعة من العلماء : لو باع بعد الأذان يوم الجمعة ، لم يجز البيع . وقال الزهري : يحرم البيع يوم الجمعة عند خروج الإمام . وروى جويبر ، عن الضحاك أنه قال : إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ الجُمُعَةِ ، حَرُمَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْع ، وَلَوْ كُنْت قَاضِيّاً لَرَدَدْتُهُ .
وروى معمر ، عن الزهري قال : الأَذَان الَّذِي يُحرمُ نِيَّةَ الْبَيْعِ عِنْدَ خُروجِ الإمَامِ وَقْتَ الخُطْبَةِ ، وقال الحسن : إذَا زَالَتِ الشَّمْسِ ، فَلا تَشْتَرِ وَلا تَبِعْ . وقال محمد : يُحْرَمُ البَيْعُ عِنْدَ النِّداءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ عِنْدِ الصَّلاةِ . وروى عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يَصحُّ البَيْعُ وَالشِّراءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ حِينَ يُنَادَى بِالصَّلاةِ حَتَّى تَنْقَضِي . وقال عامة أهل الفتوى من الفقهاء : إنَّ البَيْعَ جَائِزٌ فِي الحُكْمِ لأنَّ النَّهْيَ لأَجْلِ الصَّلاةِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ لِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ . ثم قال : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني : السعي إلى الصلاة ، وترك الشراء والبيع . والاستماع إلى الخطبة ، خير لكم من الشراء والبيع . { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني : فاعلموا ذلك . وكل ما في القرآن { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } إن كنتم مؤمنين ، فهو بمعنى التقرير والأمر .
ثم قال عز وجل : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } يعني : فرغتم من الصلاة ، { فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } يعني : اطلبوا الرزق من الله تعالى بالتجارة والكسب .

اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الرخصة ، كقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } [ المائدة : 2 ] ، وهي رخصة بعد النهي . { واذكروا الله كَثِيراً } يعني : واذكروا الله باللسان ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } يعني : لكي تنجوا . ثم قال عز وجل : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً } ، قال مجاهد : اللهو هو الضرب بالطبل ، فنزلت الآية حين قدم دحية بن خليفة الكلبي . وروى سالم ، عن جابر قال : أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نصلي الجمعة ، فانفض الناس إليهم ، فما بقي غير اثني عشر رجلاً ، فنزلت الآية { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً } . { انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً } .
وروى معمر ، عن الحسن : أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر ، فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم قائم ، يخطب يوم الجمعة ، فسمعوا بها فخرجوا إليها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم . قال الله تعالى : وتركوك قائماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وَلَوْ اتَّبَعَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لالْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً » . قال معمر ، عن قتادة قال : لم يبق يومئذ معه إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، ويقال : إن أهل المدينة كانوا إذا قدمت عير ، ضربوا بالطبل وخرج الناس ، فنزل { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } والمعنى خرجوا إليها ، يعني : إلى التجارة ، ويقال : { إِلَيْهَا } يعني : جملة ما رأوا من اللهو والتجارة . وتركوك قائماً على المنبر . { قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو } يعني : ثواب الله تعالى خير من اللهو { وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرزقين } وخير المعطين؛ والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم .

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)

قوله تعالى : { إِذَا جَاءكَ المنافقون } ، إذا حرف من حروف التوقيت ، وجوابه قوله : { فاحذرهم } وهذا إعلام من الله تعالى بنفاقهم وكذبهم وغرورهم . { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } يعني : يقولون ذلك بلسانهم دون قلوبهم . { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } من غير قولهم . { والله يَشْهَدُ } يعني : يبيِّن { إِنَّ المنافقين لكاذبون } يعني : إنهم مصدقون في قولهم ، ولكنهم كاذبون بأنهم أرادوا به الإيمان .
ثم قال عز وجل : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } يعني : حلفهم جُنَّة من القتل ، وقرأ بعضهم : اتخذوا إيمانهم بكسر الألف ، يعني : اتخذوا إظهارهم الإسلام وتصديقهم ستراً . لأنفسهم ، وقراءة العامة : { اتخذوا أيمانهم } بالنصب يعني : استتروا بالحلف . وكلما ظهر نفاقهم ، حلفوا كاذبين . ثم قال : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } يعني : صرفوا الناس عن دين الله وهو الإسلام . { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : بئس ما كانوا يعملون ، حيث أظهروا الإيمان وأسروا الكفر ، وصدوا الناس عن الإيمان .
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } يعني : ذلك الحلف وصرف الناس عن الإيمان بأنهم { ءامَنُواْ } يعني : أقروا باللسان علانية ، { ثُمَّ كَفَرُواْ } يعني : كفروا في السر . { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } بالكفر ، { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } الهدى ولا يرغبون فيه .
قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ } يعني : المنافقين ، { تُعْجِبُكَ أجسامهم } يعني : عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق ، كان رجلاً جسيماً فصيحاً يعني : يعجبك منظرهم وفصاحتهم . { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } يعني : تصدقهم فتحسب أنهم محقون . { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ، قال مقاتل : فيها تقديم ، يقول : كأن أجسامهم خشب مسندة بعضها على بعض قائماً ، وإنها لا تسمع ولا تعقل ، ويقال : { خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } يعني : خشب أسند إلى الحائط ، ليس فيها أرواح ، فكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون . قرأ الكسائي ، وأبو عمرو ، وابن كثير في إحدى الروايتين { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } بجزم الشين ، والباقون بالضم ، ومعناهما واحد ، وهو جماعة الخشب .
فوصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم بمنزلة الخشب . ثم قال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } ، فوصفهم بالجبن أي : كلما صاح صائح ، ظنوا أن ذلك لأمر عليهم ويقال : إن كل من خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا يخافون ويظنون أنه مخاطب يخاطبه في أمرهم ، وكشف نفاقهم . ثم أمر أن يحذرهم ، وبيّن أنهم أعداؤه فقال : { هُمُ العدو } يعني : هم أعداؤك ، { فاحذرهم } ولا تأمن من شرهم . ثم قال : { قاتلهم الله } يعني : لعنهم { أنى يُؤْفَكُونَ } يعني : من أين يكذبون؟ ويقال : من أين يصرفون عن الحق؟ .
ثم قال عز وجل : { وَإِذْ قِيلَ لَهُم تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } يعني : عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وأعرضوا عنه .

وذلك أن عبد الله بن أبي ابن سلول قيل له : يا أبا الحباب قد أنزل فيك آي : شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن ، فقد آمنت . وامرتموني أن أعطي زكاة مالي ، فقد أعطيت . وما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم . قرأ نافع { لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . ومن قرأ بالتخفيف ، فهو من لوى يلوي؛ ومن قرأ بالتشديد ، فهو للتكثير . ثم قال : { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } يعني : يعرضون عن الاستغفار مستكبرين عن الإيمان في السر . ثم أخبر : أن الاستغفار لا ينفعهم ، ما داموا على نفاقهم ، فقال : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } ، لأنهم منافقون . { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } يعني : لا يرشدهم إلى دينه ، لأنهم لا يرغبون فيه .

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

ثم قال : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } يعني : يتفرقوا . وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا في غزوة ، فكسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري يا للأنْصارِ وقال : المهاجري : يا للمهاجرين . فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ ، دَعُوهَا فَإنَّهَا فِتْنَةٌ " . فقال عبد الله بن أبي : والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليخرجن الأعز منها الأذل . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دَعْهُ لا يَتَحَدَّث النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ " .
وروى معمر ، عن قتادة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا . قال : فاقتتل رجلان ، أحدهما من جهينة ، والآخر من غفار؛ وكانت جهينة حليف الأنصار ، فظهر عليهم الغفاري ، فقال رجل منهم عظيم النفاق يعني : عبد الله بن أبي : عليكم صاحبكم حليفكم ، فوالله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كما قال القائل : سمِّن كلبك يأكلك . أما والله لئن رجعنا إلى المدينة . ليخرجن الأعز منها الأذلّ .
وروى معمر ، عن الحسن : أن غلاماً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبي الله ، إني سمعت أن عبد الله بن أبي يقول كذا . فقال : فلعلك غضبت عليه . فقال : أما والله يا نبي الله ، فلقد سمعته يقول ، فقال : فلعله أخطأ سمعك . فقال : لا والله يا نبي الله ، لقد سمعته يقول . فأنزل الله تعالى تصديقاً للغلام { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة } . فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام ، وقال : «وَعَتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ» ، فنزل قوله تعالى : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ * السموات والارض } يعني : مفاتيح السموات وهي المطر والرزق ، ومفاتيح الأرض وهي النبات . { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } أمر الله تعالى .
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل } يعني : القوي { مِنْهَا } يعني : من المدينة الذليل يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ } يعني : المقدرة والمنعة لله ولرسوله . { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ، حيث قواهم الله تعالى ونصرهم { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون في السر . ويقال : { وَلِلَّهِ العزة } يعني : القدرة ، ويقال : نفاذ الأمر { وَلِرَسُولِهِ } ، وهو عزة النبوة والرسالة { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ، وهو عز الإيمان والإسلام ، أعزهم الله في الدنيا والآخرة .

ولكن المنافقين لا يعلمون .
ثم قال عز وجل : { يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم } يعني : لا تشغلكم أموالكم { وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله } يعني : عن طاعة الله تعالى . { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يعني : من لم يعمل بطاعته ولم يؤمن بوحدانيته ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } يعني : المغبونين بذهاب الدنيا وحرمان الآخرة . ثم قال عز وجل : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } يعني : تصدقوا مما رزقناكم ، أي : مما رزقكم الله من الأموال . { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } يعني : يقول : يا سيدي ردني إلى الدنيا ، { فَأَصَّدَّقَ } يعني : فأتصدق ، ويقال : أصدق بالله . { وَأَكُن مّنَ الصالحين } يعني : أفعل كما فعل المؤمنون .
وروى الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال : من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكه ، أو مال يبلغه بيت الله فلم يحج ، سأل عند الموت الرجعة قال : فقال رجل : اتق الله يا ابن عباس ، سألت الكفار الرجعة . قال : إني أقرأ عليك بهذا القرآن ، ثم قرأ { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } إِلَى قَولِه : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين } فقال رجل : يا ابن عباس ، وما يوجب الزكاة؟ قال : مائتان فصاعداً . قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والراحلة . قرأ أبو عمرو ، { فَأَصَّدَّقَ } بالواو وفتح النون ، والباقون { إِلَيْهِنَّ وَأَكُن } بحذف الواو بالجزم . فمن قرأ { أَكُونَ } لأن قوله : { فَأَصَّدَّقَ } جواب لولا أخبرتني بالفاء ، فأكون معطوفاً عليه . ومن قرأ { وَأَكُن } ، فإنه عطفه على موضع { فَأَصَّدَّقَ } ، لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن ، ولم يعطفه على اللفظ . قال أبو عبيدة : قرأت في مصحف عثمان هكذا بغير واو . ثم قال : { وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا } يعني : إذ جاء وقتها . { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الخير والشر ، فيجازيكم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَعْلَمُونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم ، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة والله أعلم .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

قوله تعالى : { يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض لَهُ الملك } أي : له الملك الدائم الذي لا يزول ، يعني : يحمده المؤمنون في الدنيا وفي الجنة . كما قال : { وَلَهُ الحمد } في الأولى والآخرة ، ويقال : { لَهُ الحمد } يعني : هو المحمود في شأنه ، وهو أهل أن يحمد ، لأن الخلق كلهم في نعمته . فالواجب عليهم أن يحمدوه . ثم قال : { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : قادر على ما يشاء .
{ هُوَ الذى خَلَقَكُمْ } يعني : يخلقكم من نفس واحدة ، { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } يعني : منكم من يصير كافراً ، ومنكم من يصير أهلاً للإيمان ويؤمن بتوفيق الله تعالى . ويقال : منكم من خلقه كافراً ، ومنكم من خلقه مؤمناً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا إنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى » . وإلى هذا ذهب أهل الجبر . ويقال : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } يعني : كافر بأن الله تعالى خلقه ، وهو كقوله : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَه مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ } [ عبس : 17/18 ] وكقوله : { قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] ، ويقال : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } يعني : كافراً في السر وهم المنافقون { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } وهم المخلصون . ويقال : هذا الخطاب لجميع الخلق ، ومعناه : هو الذي خلقكم ، فمنكم كافر بالله وهم المشركون ، ومنكم مؤمن وهم المؤمنون ، يعني : استويتم في خلق الله إياكم ، واختلفتم في أحوالكم ، فمنكم من آمن بالله ، ومنكم من كفر . ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعني : عليماً بما تعملون من الخير والشر .
ثم قال عز وجل : { خُلِقَ السموات والارض بالحق } يعني : بالحق والحجة والثواب والعقاب . { وَصَوَّرَكُمْ } يعني : خلقكم ، { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } يعني : خلقكم على أجمل صورة . وهذا كقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وكقوله : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وحملناهم فِى البر والبحر ورزقناهم مِّنَ الطيبات وفضلناهم على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] ثم قال : { وَإِلَيْهِ المصير } يعني : إليه المرجع في الآخرة ، فهذا التهديد يعني : كونوا على الحذر . لأن مرجعكم إليه . ثم قال : { يَعْلَمُ مَا فِى السموات والارض } يعني : من كل موجود . { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعني : ما تخفون وما تضمرون في قلوبكم ، وما تظهرون وتعلنون بألسنتكم . { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : عليماً بسرائركم .
ثم قال الله عز وجل : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التوبيخ والتقريع ، يعني : قد أتاكم خبر الذين كفروا من قبلكم . { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } يعني : أصابتهم عقوبة ذنبهم في الدنيا . ثم أخبر : أن ما أصابهم في الدنيا ، لم يكن كفارة لذنوبهم ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة ثم بين السبب الذي أصابهم به العذاب ، فقال : { ذلك } العذاب . { بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني : بالأمر والنهي ، ويقال : { بالبينات } يعني : بالدلائل والحجج . { فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } يعني : آدمياً مثلنا يرشدنا ويأتينا بدين غير دين آبائنا؟ { فَكَفَرُواْ } يعني : جحدوا بالرسل والكتاب ، { وَتَوَلَّواْ } يعني : أعرضوا عن الإيمان . { واستغنى الله } تعالى عن إيمانهم . { والله غَنِىٌّ حَمِيدٌ } عن إيمان العباد { حَمِيدٌ } في فعاله ، يقبل اليسير ويعطي الجزيل .

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

ثم قال عز وجل : { زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ } يعني : مشركي العرب ، زعموا أن لن يبعثوا بعد الموت . { قُلْ } يا محمد { بلى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ } . فهذا قسم أقسم أنهم يبعثون بعد الموت . { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } يعني : تخبرون بما عملتم في دار الدنيا ، ويجزون على ذلك . ثم قال : { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني : البعث والجزاء على الله هين .
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . { والنور الذى أنزلناه } يعني : صدقوا بالقرآن الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فسمى القرآن نوراً ، لأنه يهتدى به في ظلمة الجهالة والضلالة ، ويعرف به الحلال والحرام . ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني : عالم بأعمالكم فيجازيكم بها .
ثم قال : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } يعني : تبعثون في يوم يجمعكم { لِيَوْمِ الجمع } يعني : يوم تجمع فيه أهل السماء وأهل الأرض ، ويجمع فيه الأولون والآخرون . قرأ يعقوب الحضرمي { يَوْمٍ } بالنون ، وقراءة العامة بالياء ومعناهما واحد . ثم قال : { الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } يعني : يغبن فيه الكافر نفسه . وأصله ومنازله في الجنة ، يعني : يكون له النار مكان الجنة ، وذلك هو الغبن والخسران . ثم قال : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا } يعني : يوحد الله تعالى ويؤدِّي الفرائض . { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته } يعني : ذنوبه ، { وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم } يعني : النجاة الوافرة . قرأ نافع ، وابن عامر { نَّكْفُرَ } و { ندخله } كلاهما بالنون ، والباقون كلاهما بالياء ، ومعناهما واحد .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)

ثم وصف حال الكافرين فقال عز وجل : { الميمنة والذين كَفَرُواْ بئاياتنا } يعني : بالكتاب والرسول . { أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير } يعني : بئس المرجع الذي صاروا إليه المغبونين . ثم قال عز وجل : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } يعني : ما أصاب بني آدم من شدة ومرض وموت الأهلين ، { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } يعني : إلا بإرادة الله تعالى وبعلمه . { وَمَن يُؤْمِن بالله } يعني : يصدق بالله على المصيبة ، ويعلم أنها من الله تعالى ، { يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني : إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر . وروي ، عن علقة بن قيس : أن رجلاً قرأ عنده هذه الآية ، فقال : أتدرون ما تفسيرها؟ وهو أن الرجل المسلم ، يصاب بالمصيبة في نفسه وماله ، يعلم أنها من عند الله تعالى ، فيسلم ويرضى . ويقال : { مَن يُؤْمِنُ بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } للاسترجاع يعني : يوفقه الله تعالى لذلك . { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } أي : عالم بثواب من صبر على المصيبة .
ثم قال عز وجل : { وَأَطِيعُواْ الله } يعني : أطيعوا الله في الفرائض ، { وَأَطِيعُواْ الرسول } في السنن . ويقال : أطيعوا الله في الرضا بما يقضي عليكم من المصيبة ، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الصبر وترك الجزع . { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } يعني : أبيتم وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله . { فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي : ليس عليه أكثر من التبليغ ثم وحَّد نفسه ، فقال عز وجل : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : لا ضار ، ولا نافع ، ولا كاشف إلاَّ هو . { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } يعني : على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ، ويفوضوا أمرهم إليه .
قوله تعالى : { المؤمنون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ } ، حين يمنعونكم الهجرة ، { فاحذروهم } أن تطيعوهم في ترك الهجرة . روى سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن قوماً أسلموا بمكة ، فأرادوا أن يخرجوا إلى المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فنزل قوله تعالى : { المؤمنون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } . { وَأَن تَعْفُواْ } يعني : تتركوا عقابهم ، { وَتَصْفَحُواْ } يعني : وتتجاوزوا ، { وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لذنوب المؤمنين { رَّحِيمٌ } بهم .
ثم قال : { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } يعني : الذين بمكة بلية لا يقدر الرجل على الهجرة . روي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا ، فأقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران . فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزل إليهما وأخذهما واحداً من هذا الجانب ، وواحداً من هذا الجانب . ثم صعد المنبر ، فقال : « صَدَقَ الله { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } . لَمَّا رَأَيْتُ هاذين الغُلامَيْنِ ، لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ كَلامِي ، وَنَزَلْتُ إِلَيْهِمَا » . ثم أتم الخطبة . ثم قال : { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثواب عظيم ، لمن آمن ولمن لم يعص الله تعالى لأجل الأموال والأولاد وأحسن إليهم .

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

ثم قال عز وجل : { فاتقوا الله مَا استطعتم } يعني : على قدر ما أطقتم . { واسمعوا } يعني : اسمعوا ما تؤمرون به من المواعظ . { وَأَطِيعُواْ } يعني : وأطيعوا الله والرسول . { وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاِنفُسِكُمْ } يعني : تصدقوا خيراً ، يعني : وأنفقوا من أموالكم في حق الله تعالى { لانفُسِكُمْ } يعني : ثوابه لأنفسكم ، ويكون زاداً لكم إلى الجنة . ويقال معناه : تصدقوا خيراً لأنفسكم من إمساك الصدقة . { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } يعني : يدفع البخل عن نفسه ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } يعني : الناجين السعداء .
وقوله تعالى : { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً } يعني : صادقاً من قلوبكم . { يضاعفه لَكُمْ } يعني : القرض يضاعف حسناتكم . ويقال : { يضاعفه لَكُمْ } يعني : الله تعالى يضاعف القرض لكم ، فيعطي للواحد عشرة . إلى سبعمائة ، إلى ما لا يحصى . { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } يعني : يغفر لكم ذنوبكم . { والله شَكُورٌ } يعني : يقبل اليسير ويعطي الجزيل . { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة لمن يبخل . ثم قال : { عالم الغيب والشهادة } ، وقد ذكرناه . { العزيز الحكيم } يعني : العزيز في ملكه ، الحكيم في أمره ، سبحانه وتعالى ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

قوله تعالى : { الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به هو وأمته ، بدليل قوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } ، فذكر بلفظ الجماعة ، فكأنه قال : يا أيها النبي ومن آمن بك ، { إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } يعني : أنت وأمتك . إذا أردتم أن تطلقوا النساء . وقال الكلبي : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، حين غضب على حفصة بنت عمر ، فقال : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وقال : طاهرات ، من غير جماع .
وروى أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } طاهرات من غير جماع . روى سفيان ، عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ ( فطلقوهن لقبل عدتهن ) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ، لما ندم رجل على امرأته يطلقها ، وهي طاهرة لم يجامعها . فإن بدا أن يمسكها أمسكها ، وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : الطلاق على أربعة أوجه : وجهان حلال ، ووجهان حرام . فأما الحلال ، بأن يطلقها من غير جماع ، أو يطلقها حاملاً . وأما الحرام ، بأن يطلقها حائضاً ، أو يطلقها حين جامعها . وقال الحسن : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : إذا طهرن من الحيض من غير جماع . وقال الزهري ، وقتادة : يطلقها لقبيل عدتها . وروى ابن طاوس ، عن أبيه قال : حد الطلاق أن يطلقها قبل عدتها . قلت : وما قبل عدتها؟ قال : طاهرة من غير جماع .
ثم قال : { وَأَحْصُواْ العدة } يعني : واحفظوا العدة . فأمر الرجل بحفظ العدة ، لأن في النساء غفلة ، فربما لا تحفظ عدتها . ثم قال : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } يعني : واخشوا الله ربكم ، فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن . فلو طلقها في الحيض ، فقد أساء . والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء . ثم قال : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } يعني : اتقوا الله في إخراجهن من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها ثم قال : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } يعني : ليس لهن أن يخرجن من البيوت . ثم قال : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } يعني : إلا أن تزني فتخرج لأجل إقامة الحد عليها ، وهو قول ابن مسعود . وقال الشعبي ، وقتادة : خروجها في العدة فاحشة . وإخراج الزوج لها في العدة معصية؛ وهكذا روي ، عن ابن عمرو ، وإبراهيم النخعي . وقال ابن عباس : الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج . ثم قال : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعني : الطلاق بالسنة ، وإحصاء العدة من أحكام الله تعالى . { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } يعني : يترك حكم الله فيما أمر من أمر الطلاق .

{ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } يعني : أضر بنفسه .
ثم قال : { لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } يعني : لا تطلقها ثلاثاً ، فلعله يحدث من الحب أو الولد خير ، فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها . وإن طلقها واحدة ، يمكنه أن يراجعها . ثم قال : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني : إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن ، وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من الحيضة الثالثة ، { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يعني : راجعوهن بإحسان ، يعني : أن تمسكوهن بغير إضرار . { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يعني : اتركوهن بإحسان . ويقال : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني : انقضت عدتهن ، { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يعني : بنكاح جديد إذا طلقها واحدة أو اثنتين .
ثم قال عز وجل : { وَأَشْهِدُوا ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } يعني : أشهدوا على الطلاق والمراجعة فهو على الاستحباب . ويقال : على النكاح المستقبل ، فإن أراد به الإشهاد على الطلاق والمراجعة ، فهو على الاستحباب . ولو ترك الإشهاد بالمراجعة ، جاز الطلاق والمراجعة . فإن أراد به الإشهاد على النكاح ، فهو واجب ، لأنه لا نكاح إلاَّ بشهود .
ثم قال : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } يعني : يا معشر الشهود ، أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق الله تعالى ولسبب أمر الله تعالى . ثم قال : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } يعني : هذا الذي يؤمر به . { مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } أي : لا يكتم الشهادة . ثم قال : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } يعني : يخشى الله ويطلق امرأته للسنة ، { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } يعني : المراجعة . { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } يعني : في شأن المراجعة . ويقال : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } يعني : ينجو من ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة . ووجه آخر : أن من اتقى الله عند الشدة وصبر ، يجعل له مخرجاً من الشدة { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } يعني : يوسع عليه من الرزق . وقال مسروق : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } قال : مخرجه أن يعلم أن الله هو يرزقه ، وهو يمنحه ويعطيه ، لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع . كما قال الله تعالى : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والارض لاَ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ } [ فاطر : 3 ] الآية .
ثم قال عز وجل : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } يعني : من يثق بالله في الرزق { فَهُوَ حَسْبُهُ } يعني : الله كافيه . وروى سالم بن أبي الجعد : أن رجلاً من أشجع أسره العدو ، فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه ، فقال : اصبر . فأصاب ابنه غنيمة ، فجاء بهما جبريل عليه السلام { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } الآية .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم ، فما تأمرني؟ فقال : آمرك وإياها أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

فرجع إلى منزله ، فقالت له : بماذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : بكذا . فقالت : نعم ما أمرك به . فجعلا يقولان ذلك ، فخرج ابنه بغنيمة كثيرة ، فنزل قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } يعني : من يثق بالله في الشدة ، يجعل له مخرجاً من الشدة . ويقال : المخرج على وجهين : أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة ، والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر . ثم قال : { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } يعني : قاضياً أمره . قرأ عاصم في رواية حفص { بالغ أَمْرِهِ } بغير تنوين ، بكسر الراء على الإضافة ، والباقون بالتنوين { أَمَرَهُ } بالنصب ، نصبه بالفعل بمعنى يمضي أمره في الشدة والرخاء أجلاً ووقتاً . ثم قال : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً } يعني : جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ووقتاً ، لا يتقدم ولا يتأخر .
قوله تعالى : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزل قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أرادوا إصلاحا وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } [ البقرة : 228 ] قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ، لو كانت المرأة آيسة لا تحيض ، كيف تعتد؟ فنزل : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ } والآية . أن تبلغ ستين سنة ، ويقال خمسين . { إِنِ ارتبتم } ، إن شككتم في عدتهن ، { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } ، فقام رجل آخر ، فقال : لو كانت صغيرة ، كيف عدتها؟ وقام آخر وقال : لو كانت حاملاً ، كيف عدتها؟ فنزل : { واللائى لَمْ يَحِضْنَ } يعني : المرأة التي لم تحض ، فعدتها ثلاثة أشهر مثل عدة الآيسة . { وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ } يعني : عدتهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وقال عمر : لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره ، قبل أن يدفن في حفرته ، لانقضت عدتها وحلت للأزواج . وروى الزهري ، عن عبد الله ، عن أبيه : أن سبيعة بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوماً ، فمر بها السنابل بن بعكك ، فقال لها : أتريدين أن نتزوج؟ فقالت : نعم . قال : لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لها قد حللت للزواج يعني : انقضت عدتك .
ثم قال : { وَمَن يَتَّقِ الله } يعني : يصبر على طاعة الله تعالى ، { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } يعني : ييسر عليه أمره ، ويوفقه ليعمل على طاعة الله تعالى ، ويعصمه عن معاصيه . ثم قال : { ذَلِكَ أَمْرُ الله } يعني : هذا الذي ذكره حكم الله وفريضته . { أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } يعني : أنزله في القرآن على نبيكم . { وَمَن يَتَّقِ الله } ويعمل بأحكامه وفريضته ، { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته } في الدنيا ، { وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } يعني : ثواباً في الجنة . قرأ نافع ، وابن عامر { نَّكْفُرَ * عَنْهُ } بالنون ، والباقون بالياء ، ومعناهما : يرجع إلى شيء واحد . ثم رجع إلى ذكر المطلقات .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

فقال عز وجل : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } يعني : أنزلوهن من حيث تسكنون فيه . { مّن وُجْدِكُمْ } يعني : من سعتكم . والوجد : القدرة والغنى . ويقال : افتقر فلان بعد وجده . ثم قال : { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } يعني : لا تظلموهن . { لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } في النفقة والسكنى . { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ } يعني : إن كن المطلقات ذوات حمل ، { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت حاملاً فلها النفقة ، وأما إذا لم تكن حاملاً ، فإن كان الطلاق رجعياً ، فلها النفقة والسكنى بالإجماع . وإن كان الطلاق بائناً ، فلها السكنى والنفقة في قول أهل العراق . وقال بعضهم : لها السكنى ولا نفقة .
ثم قال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن } يعني : المطلقات إذا أرضعن أولادكم ، فأعطوهن أجورهن ، لأن النفقة على الأب . وأجر الرضاع من النفقة ، فهو على الأب إذا كانت المرأة مطلقة . ثم قال : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } هموا به واعزموا عليه ، ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا الزوج بالمرأة في الرضاع . ويقال : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ } يعني : اتفقوا فيما بينكم يعني : الزوج والمرأة يتفقان على أمر واحد : { بِمَعْرُوفٍ } يعني : بإحسان . { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } يعني : تضايقتم ، وهو أن يأبى أن يؤتي المرأة لأجل رضاعها ، وأبت المرأة أن ترضعه . ويقال : يعني : أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة ، ولم يتفقا على شيء واحد . { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } يعني : يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أُخرى إن أرضعت بأقل مما ترضع الأم به . ثم قال عز وجل : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ } يعني : ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه ، وعلى قدر عيشه وسعته ويسره . { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } يعني : ضيق عليه رزقه ، { فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله } يعني : على قدر ما أعطاه الله من المال . { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا } يعني : لا يأمر الله نفساً في النفقة إلا ما أعطاها من المال { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } يعني : العسر ينتظر اليسر .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } يعني : فكم من أهل قرية قرأ ابن كثير { وَكَأَيّن } بغير الألف ، والباقون بغير مد مع تشديد الياء ، وهما لغتان ومعناهما واحد ، يعني : وكم من قرية . { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا } يعني : أبت وعصت عن أمر ربها يعني : عن طاعة ربها . قال مقاتل : { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا } يعني : خالفت وعصت وقال الكلبي : العتو المعصية . وقال أهل اللغة : العتو مجاوزة الحد في المعصية . ثم قال : { وَرُسُلِهِ } يعني : عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } يعني : جازاها الله بعملها . ويقال : { ***حاسبناها } في الآخرة { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } . { وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً } يعني : عذاباً منكراً ، على معنى التقديم يعني : عذبناها في الدنيا عذاباً شديداً ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً . ويقال : وحاسبناها يعني : في الدنيا يعني : جازيناها وخذلناها وحرمناها . ثم قال عز وجل : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } يعني : جزاء ذنبها . { وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً } يعني : أهل القرية ، يعني : أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة .
ثم قال : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } يعني : ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم ، ولكن مع ما أصابهم في الدنيا { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } في الآخرة ، لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم . ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم ، ويثبتوا على إيمانهم ، فقال : { فاتقوا الله ياأولى الالباب } يعني : اخشوا الله وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس . { الذين كَفَرُواْ } بالله يعني : الذين صدقوا بالله ورسوله . { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } يعني : كتاباً . ويقال : شرفاً وعزاً وهو القرآن . ثم قال : { رَسُولاً } يعني : أرسل إليكم رسولاً ، { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ } يعني : يقرأ عليكم ويعرض عليكم . ويقال : { قَدْ أَنزَلَ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً } يعني : كتاباً مع رسوله ، ليتلو عليكم يعني : يقرأ عليكم { الله مبينات لّيُخْرِجَ } يعني : واضحات . ويقال : بيّن فيه الحلال والحرام . { لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ } يعني : الذين صدقوا بتوحيد الله وطاعته { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات { مِنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : من الجهالة إلى البيان . ويقال : { لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ } اللفظ لفظ المستقبل ، والمراد به الماضي يعني : أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ، يعني : من الكفر إلى الإيمان؛ ويقال : هو المستقبل يعني : يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلالات والبراهين؛ ويقال : ليدعو النبي صلى الله عليه وسلم ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان من قدرة الله الإيمان في سابق علمه .
ثم قال عز وجل : { وَمَن يُؤْمِن بالله } يعني : يصدق بالله . ويقال : يثبت على الإيمان ، { وَيَعْمَلْ صالحا } يعني : فرائض الله وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم .

{ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهر } . قرأ نافع ، وابن عامر : { ندخله } بالنون ، والباقون بالياء يعني : يدخله الله تعالى في الآخرة . { جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } يعني : مقيمين في الجنة دائمين فيها . { أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } يعني : أعد الله له ثواباً في الجنة .
ثم قال عز وجل : { الله الذى خَلَقَ سَبْعَ * سموات وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ } يعني : خلق سبع أرضين مثل عدد السماوات . { يَتَنَزَّلُ الامر بَيْنَهُنَّ } يعني : ينزل الوحي من السموات . ويقال : في كل سماء ، وفي كل أرض أمره نافذ . وقال القتبي : الأمر ، على وجوه الأمر أي القضاء ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الامر مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ يونس : 3 ] ويعني : يقضي القضاء ، وكقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السماوات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِى اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] أي : القضاء . والأمر : الدين ، كقوله : { وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } [ الأنبياء : 93 ] وكقوله : { لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كارهون } [ التوبة : 48 ] أي : دين الله . والأمر : القول كقوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } [ الكهف : 21 ] أي قولهم الأمر : العذاب ، كقوله : { يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 76 ] والأمر : القيامة ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 1 ] والأمر : الوحي ، كقوله : { الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الامر بَيْنَهُنَّ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا } [ الطلاق : 12 ] يعني : الوحي . والأمر : الذنب ، كقوله : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً } [ الطلاق : 9 ] أي : جزاء ذنبها . وأصل هذا كله واحد ، لأن الأشياء كلها بأمر الله تعالى ، فسميت الأشياء أموراً .
ثم قال : { لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : يمكنكم أن تعلموا أن الله على كل شيء قدير . { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } يعني : أحاط علمه بكل شيء . وروى معمر ، عن قتادة في قوله : { سَبْعَ سموات *** وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ } قال : في كل سماء ، وفي كل أرض من أرضه ، وخلق من خلقه وأمر من أموره ، وقضاء من قضائه سبحانه وتعالى .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

قوله تعالى : { عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خلا في يوم لعائشة رضي الله عنها مع جاريته مارية القبطية ، فوقعت حفصة على ذلك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تُعْلِمِي عَائِشَةَ » وحرم مارية على نفسه ، فأخبرت حفصة عائشة بذلك ، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك ، فطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ، فأمر الله تعالى رسوله بكفارة اليمين ، لتحريم جاريته على نفسه ، وأمره بأن يراجع حفصة ، فقال له جبريل : راجع حفصة ، فإنها صوامة قوامة ، ونزلت هذه الآية : { عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } يعني : مارية { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك } يعني : تطلب رضا زوجتك عائشة . { والله غَفُورٌ } فيما حرم على نفسه . ويقال : غفور لذنب حفصة . { رَّحِيمٌ } حيث لم يعاقبها .
{ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } يعني : بيَّن الله لكم كفارة أيمانكم . ويقال : أوجب الله عليكم كفارة أيمانكم . وفي الآية وجه آخر؛ روى هشام بن عروة ، عن أبية ، عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلو والعسل ، وكان إذا صلى العصر ، دار على نسائه ، فيدنو منهن؛ فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عائشة عن ذلك ، فقيل لها : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه . فقالت : أما والله لنحتالن . فذكرت ذلك لسودة ، وقالت : إذا دخل فإنه سيدنو منك ، فقولي له : أكلت المغافير؟ فإنه سيقول لك : لا . فقولي له : ما هذه الريح؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إذا وجد منه الريح ، فإنه سيقول لك : حفصة سقتني شربة عسل . فقولي له : جرست نحلة العُرْفُط يعني : أن تلك النحلة أكلت العرفط ، وهو نبات به رائحة منكرة . وسأقول له ذلك ، وقولي له أنت يا صفية . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سودة ، قالت سودة : لقد كدت أن أناديه وإنه لعلى الباب فرقاً منك ، فلما دنا مني ، قلت : أكلت المغافير؟ قال : لا ، قالت : فما هذه الريح؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل . قلت : جرست نحلة العرفط . فلما دخل على صفية ، قالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة ، قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي به .
وروى ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل ، فدخل على عائشة ، فقالت له : إني أجد منك ريحاً . ثم دخل على حفصة ، فقالت : إني أجد منك ريحاً . قال : أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه ، فنزل : { عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } . ثم قال : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } يعني : أوجب عليكم كفارة أيمانكم . { والله مولاكم } يعني : ناصركم وحافظكم { وَهُوَ العليم } بما قالت حفصة لعائشة في أمر مارية . { الحكيم } حكم بكفارة اليمين .

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

ثم قال عز وجل : { وَإِذَ أَسَرَّ النبى } يعني : أخفى النبي { إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } يعني : كلاماً . { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } يعني : أخبرت بذلك الخبر حفصة عائشة ، { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } يعني : أظهر الله قولها لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ، فأخبرها ببعض ما أخبرت عائشة ، ولم يخبرها عن الجميع ، فذلك قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } يعني : سكت عن بعض . ومن هذا قيل : إن الكريم لا يبالغ في العتاب . قرأ الكسائي : { عَرَّفَ } بالتخفيف يعني : جازاها ببعضه ، والباقون { عَرَّفَ } بالتشديد يعني : عرف حفصة . { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } يعني : لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الخبر حفصة ، { قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا } يعني : من أخبرك بهذا . { قَالَ نَبَّأَنِىَ } يعني : أخبرني { العليم الخبير } .
قوله تعالى : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } يعني : عائشة وحفصة ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } يعني : مالت قلوبكما عن الحق . وذكر عن الفراء أنه قال : معناه إن لا تتوبا إلى الله ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } عن الحق ، ويقال : فيه مضمر ، ومعناه : إن تتوبا إلى الله يقبل الله توبتكما ، ويقال معناه إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما يعني : مالت إلى الحق . وروى الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : كنت مع عمر رضي الله عنه حين حج ، فلما كنا في بعض الطريق ، نزل في موضع ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان اللتان قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } ؟ فقال عمر رضي الله عنه واعجبا لك يا ابن عباس . قال الزهري : كأنه كره ما سأله عنه ، ولم يكتمه . قال : هي حفصة وعائشة رضي الله عنهما ثم قال : كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم . فغضبت يوماً على امرأتي ، فإذا هي تراجعني . فأنكرت أن تراجعني ، فقالت ما تنكر أن أراجعك ، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لتراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فدخل على حفصة ، فذكرت لها ، فقالت : نعم . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تسأليه شيئاً ، واسأليني ما بدا لك .
قال : كان لي جار من الأنصار يأتيني بخبر الوحي ، وأتاه بمثل ذلك . قال : فأتاني يوماً فناداني ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ماذا؟ قال : طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : خابت حفصة وخسرت . فدخلت على حفصة وهي تبكي ، فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري ، هو ذا معتزلاً في هذه المشربة .

فأتيته ، فدخلت فسلمت عليه ، فإذا هو متكىء على رمل حصير . قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال : لا . فقلت : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أقسم أن لا يدخل شهراً عليهن ، حتى نزل : { عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله تعالى : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
ثم قال : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } يعني : تعاونا على أذاه ومعصيته ، فيكون مثلكما كمثل امرأة نوح وامرأة لوط ، تعملان عملاً تؤذيان بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي { تظاهر } بالتخفيف ، وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد ، وكذلك ابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين ، لأن أصله تتظاهر . { عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } يعني : وليه وناصره . { وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ } يعني : أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحابه رضي الله عنهم قال : حدثنا الفقيه ابن جعفر قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن حمدان قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا سعيد بن هشام قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، عن محمد بن أبان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن عكرمة في قوله : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } قال أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما قال عبد الله : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، قال : صدق عكرمة . ويقال : { صالح المؤمنين } يعني : خيار أصحابه . ثم قال : { وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ } يعني : الملائكة أيضاً أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعني : مع ذلك أعوان النبي صلى الله عليه وسلم .

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

ثم قال : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } ، فخوفهن الله تعالى بفراق النبي صلى الله عليه وسلم إياهن ، وعسى من الله واجب { إِن طَلَّقَكُنَّ } عسى ربه { أَن يُبْدِلَهُ أزواجا } . قرأ نافع ، وأبو عمرو { يُبْدِلَهُ } بتشديد الدال ، والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد . يقال : بدَّل وأبدل . { خَيْراً مّنكُنَّ مسلمات } يعني : مستسلمات لأمر النبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : يعني : معينات . ثم قال : { مؤمنات } يعني : مصدقات في إيمانهن ، { قانتات } يعني : مطيعات لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، { تائبات } يعني : راجعات عن الذنوب ، { عابدات } يعني : موحدات مطيعات ، { سائحات } يعني : صائمات . وقال أهل اللغة : إنما سمي الصائم سائحاً ، لأن الذي يسيح للعبادة لا زاد معه ، يمضي نهاره لا يطعم شيئاً؛ ولذلك سمي الصائم سائحاً ، { ثيبات وَأَبْكَاراً } . الثيبات : جمع الثيب؛ والأبكار : جمع البكر . وهن العذارى . ويقال : هذا وعد من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجه في الجنة ، والثيب : هي آسية امرأة فرعون ، والبكر : هي مريم أم عيسى عليه السلام وهي ابنة عمران تكون وليته في الجنة ، ويجتمع عليها أهل الجنة فيزوج الله تعالى هاتين المرأتين محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وَأَبْكَاراً يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : بعدوا أنفسكم عن النار بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . { وَأَهْلِيكُمْ } يعني : أهليكم { نَارًا } بتعليمهم ما ينجيهم منها . وقال قتادة : مروهم بطاعة الله تعالى ، وانهوهم عن معصية الله . وقال مجاهد : يعني : أوصوا أهليكم بتقوى الله؛ ويقال : أدبوهم وعلموهم خيراً ، تقوهم بذلك ناراً { وَقُودُهَا } يعني : حطبها . والوقود : ما توقد به النار يعني : حطبها { الناس } إذا صاروا إليها وحطبها ، { والحجارة } قبل أن يصير الناس إليها ، وهي حجارة الكبريت .
ثم قال : { عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } يعني : على النار ملائكة موكلين غلاظ يعني : أقوياء يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ } يعني : ليسوا كأعوان ملوك الدنيا يمتنعون بالرشوة ، ولكن يفعلون { مَا يُؤْمَرُونَ } يعني : لا يفعلون غير ما أمرهم الله تعالى .
ثم قال : { يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم } يعني : يقول لهم الملائكة يوم القيامة حين يعتذرون : { لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم } يعني : لا يقبل منكم العذر . { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : تعاقبون بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي . ثم أمر المؤمنين بالتوبة عن الذنوب . فقال : { تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } يعني : صادقاً في توبته ، ويقال : تنصحون لله فيها من غير مداهنة .
وروى سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التوبة النصوح ، فقال : هو الرجل يتوب من عمل السوء ، ثم لا يعود إليه أبداً .

وروي ، عن ابن عباس أنه قال : توبة النصوح : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإضمار أن لا يعود إليها . قرأ نافع ، وعاصم في إحدى الروايتين { تَوْبَةً نَّصُوحاً } بضم النون ، والباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب ، فهو صفة التوبة يعني : توبة بالغة في النصح ، كما يقال : رجل صبور وشكور . ومن قرأ بالضم ، يعني : ينصحوا بها نصوحاً ، كما يقال : نصحت له نصحاً ونصوحاً .
ثم قال : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم } يعني : يغفر لكم ما مضى من ذنوبكم إن تبتم . { وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى } صار اليوم نصاً لنزع الخافض { يعني } . يكفر عنكم في يوم لا يخزي الله النبي . قال الكلبي : يعني : لا يعذب الله النبي ، ويقال : يوم لا يخزيه فيما أراد من الشفاعة . وغيره ، وتم الكلام .
ثم قال : { النبى والذين ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني : على الصراط . وروى الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ نُورُهُ أَبْعَدُ ما بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدنِ أبْيَنَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُوُرُه لَا يُجَاوِزُ قَدَمَيْهِ » فقال : { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني : يضيء بين أيديهم . { وبأيمانهم } يعني : عن أيمانهم وعن شمائلهم على وجه الإضمار . { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } ، ذلك حين طفئت أنوار المنافقين ، أشفق المؤمنون على نورهم ، ويتفكرون فيما مضى منهم من العذاب ، فيقولون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } يعني : احفظ علينا نورنا ، { واغفر لَنَا } ما مضى من ذنوبنا { إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } من إتمام النور والمغفرة .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قوله تعالى : { ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } يعني : جاهد الكفار بالسيف ، وجاهد المنافقين بالقول والتهديد . { واغلظ عَلَيْهِمْ } يعني : اشدد عليهم ، يعني : على كلا الفريقين ، يعني : على الكفار بالسيف ، وعلى المنافقين باللسان . { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني : إن لم يرجعوا ولم يتوبوا ، فمرجعهم إلى جهنم ، { وَبِئْسَ المصير } يعني : بئس القرار وبئس المرجع .
قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } يعني : وصف الله شبهاً لكفار مكة ، وذلك أنهم استهزؤوا وقالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يشفع لنا . فبيّن الله تعالى أن شفاعته عليه السلام لا تنفع لكفار مكة ، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته . وشفاعة لوط لامرأته . وذلك قوله : { لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ } واسمها واعلة ، { ضَرَبَ الله } واسمها داهلة . ويقال : فيه تخويف لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ليثبتن على دينه وطاعته .
ثم قال : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين } يعني : نوحاً ولوطاً عليهما السلام { فَخَانَتَاهُمَا } يعني : خالفتاهما في الدين . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما زنت امرأة نبي قط ، وما كانت خيانتهما إلا في الدين . فأما امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وأما امرأة لوط كانت تدل على الأضياف . وقال عكرمة : الخيانة في كل شيء ليس في الزنى . { فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } يعني : لم يمنعهما صلاح زوجيهما مع كفرهما من الله شيئاً ، يعني : من عذاب الله شيئاً . { وَقِيلَ } لهما في الآخرة : { ادخلا النار مَعَ الدخلين } ، فكذلك كفار مكة ، وإن كانوا أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم ، لا ينفعهم صلاح النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك أزواجه ، إذا خالفنه .
ثم ضرب الله مثلاً للمؤمنين ، فقال عز وجل : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني : بيَّن الله شبهاً وصفة للمؤمنين الذين آمنوا . { امرأة فِرْعَوْنَ } ، فإنها كانت صالحة ، لم يضرها كفر فرعون ، فكذلك من كان مطيعاً لله لا يضره شر غيره؛ ويقال : هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة ، يعني : لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون ، صبرت على إيذاء فرعون . { إِذْ قَالَتْ رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } ؛ وذلك أن فرعون لما علم بإيمانها ، فطلب منها أن ترجع ، فأبت ولم ترجع عن إيمانها ، فوتدها بأربعة أوتاد في يديها ورجليها ، وربطها وجعل على صدرها حجر الرحى ، وجعلها في الشمس . فأراها الله تعالى بيتها في الجنة ، ونسيت ما هي فيه من العذاب ، وضحكت ، فقالوا عند ذلك : هي مجنونة تضحك ، وهي في العذاب .
وروى أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي قال : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا ذرت ، أي طلعت الشمس وارتفعت ، أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وأريت مقعدها من الجنة .

وروى قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ » .
ثُمّ قال الله عز وجل : { رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } يعني : ارزقني في الجنة . { وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } يعني : من عذاب فرعون وظلمه . { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } يعني : من قوم فرعون ، يعني : من تعييرهم وشماتتهم .
ثم قال عز وجل : { وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ } يعني : واذكر مريم ، ويقال : معناه : وضرب الله مثلاً مريم ابنة عمران وصبرها على إيذاء اليهود ، { التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : عفت نفسها عن الفواحش . { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } يعني : أرسلنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها ، وذلك قوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } أي : في جيبها ، أي روحاً من أرواحنا ، وهي روح عيسى عليه السلام { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } أي : صدقت بعيسى عليه السلام ويقال : صدقت بالبشارات التي بشرها بها جبريل . { وَكُتُبِهِ } يعني : آمنت بكتاب الله تعالى؛ وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص { وَكُتُبِهِ } يعني : الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، والباقون { ***بكتابه } يعني : الإنجيل . وقرأ بعضهم { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَة رَبُّهَا } يعني : صار عيسى مخلوقاً بكلمة الله ، فصدقت بذلك . { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } يعني : المطيعين لله .

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك } يعني : تعالى وتعظم . وهذا قول ابن عباس وقيل : تفاعل من البركة . وقال الحسن : تبارك يعني : تقدس { الذى بِيَدِهِ الملك } يعني : الذي له الملك ، كما قال : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } ويقال : { الذى بِيَدِهِ الملك } يعني : الذي له القدرة ونفاذ الأمر . { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : في العز والذل ، يعز من يشاء ويذل من يشاء .
ثم قال : { الذى خَلَقَ الموت والحياة } قال مقاتل : { خَلَقَ الموت } يعني : النطفة والعلقة والمضغة ، وخلق الحياة يعني : خلق إنساناً ، ونفخ فيه الروح ، فصار حياً . وقال الكلبي : { خَلَقَ الموت } بمنزلة كبش أملح ، لا يمر على شيء ، ولا يجد ريحه شيء إلا مات { والحياة } شيء كهيئة الفرس البلقاء الأنثى التي يركب عليها جبريل والأنبياء . وقال قتادة في قوله : { خَلَقَ الموت والحياة } يعني : أذل الله ابن آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة وفناء ، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء . ويقال : { خَلَقَ الموت والحياة } يعني : قدر الحياة ثم قدر الموت بعد الحياة . { لِيَبْلُوَكُمْ } يعني : ليختبركم ما بين الحياة والموت . { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } في حياته ، ويقال : أيكم أكمل عملاً وأخلص عملاً . ويقال : { خَلَقَ الموت والحياة } أي : خلق الحياة للامتحان ، وخلق؛ الموت للجزاء كما قيل : لولا المحن لقدمنا مفاليس ، وذلك أن الله تعالى ، خلق الجنة . وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً ، وابتلاهم بالعمل والأمر والنهي ، فيستوجبون بفعلهم الثواب والعقاب . والابتلاء من الله تعالى ، أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب .
ثم قال : { وَهُوَ العزيز الغفور } يعني : العزيز بالنقمة للكافر ، والغفور لمن تاب منهم . ثم قال : { الذى خَلَقَ } يعني : تبارك الذي خلق { سَبْعَ سموات طِبَاقاً } يعني : مطبقاً بعضها فوق بعض مثل القبة . { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت } . قرأ حمزة ، والكسائي : { مِن تفاوت } بغير ألف ، والباقون بالألف ، وهما لغتان . تفاوت الشيء وتفوت ، إذا اختلف ، يعني : ما ترى في خلق الرحمن اختلافاً واضطراباً ، ويقال : ما ترى فيها من اعوجاج ، ولكنه مستوي . ويقال : معناه ما ترى في خلق السموات من عيب . وأصله من الفوت أي يفوت الشيء ، فيقع فيه الخلل ، ولكنه متصل بعضها ببعض .
ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ، ليعتبروا به ويتفكروا في قدرته ، فقال عز وجل : { فارجع البصر } يعني : رد البصر إلى السماء . ويقال : قلب البصر في السماء ، ويقال : اجتهد بالنظر إلى السماء . { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } ؟ يعني : هل ترى فيها من شقوق؟ ويقال : هل ترى فروجاً أو صدوعاً أو خللاً؟ { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } يعني : انظر إليها وإنما أمر بالنظر إلى السماء مرتين ، لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة ، لا يرى أثر عيبه ما لم ينظر فيه مرة أخرى؛ فأخبر الله تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرتين ، لا يرى فيها عيباً ، بل يتحير بالنظر إليها ، فذلك قوله : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } يعني : يرجع البصر ذليلاً .

{ وَهُوَ حَسِيرٌ } يعني : قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً . وقال القتبي : { خَاسِئًا } أي مبعداً ، { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه قبل أن يرى شيئاً من الخلل .
ثم قال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } يعني : بالنجوم والكواكب . { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } يعني : جعلنا بعض النجوم رمياً للشياطين ، إذا تصدوا استراق السمع . { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } يعني : للشياطين { عَذَابِ السعير } يعني : الوقود . { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني : أعتدنا للذين جحدوا { بِرَبّهِمْ } يعني : بوحدانية الله تعالى { عَذَابَ جَهَنَّمَ } . قرىء في الشاذ { عَذَابَ جَهَنَّمَ } بالنصب يعني : أعتدنا لهم عذاب جهنم ، فيصير نصباً لوقوع الفعل عليه ، وقراءة العامة بالضم ، على معنى خبر الابتداء . ثم قال : { وَبِئْسَ المصير } يعني : المرجع .
ثم قال : { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } يعني : ألقوا الكفار في نار جهنم . { سَمِعُواْ لَهَا } يعني : سمعوا منها { شَهِيقًا } يعني : صوتاً كصوت الحمار . { وَهِىَ تَفُورُ } يعني : تغلي كغلي المرجل . { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } يعني : تكاد تتفرق من غيظها على أعداء الله تعالى . { كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ } يعني : من النار فوج ، يعني : أمة من الأمم . { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } يعني : رسولاً يخبركم ويخوفكم؟ { قَالُواْ بلى } يعني : يقولون : بلى { قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } يعني : الرسول ، { فَكَذَّبْنَا } الرسول ، { وَقُلْنَا } : إنكم لكاذبون على الله تعالى . { مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء } يعني : كتاباً ولا رسولاً . { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } يعني : قلنا لهم ما أنتم إلا في خطأ عظيم .
{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } يعني : لو كنا نسمع إلى الحق { أَوْ نَعْقِلُ } يعني نرغب في الهدى ونتفكر في الخلق . { مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير } يعني : مع أصحاب الزقوم في النار . ويقال : يعني : ما كنا في أهل النار . { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } يعني : أقروا بشركهم { فَسُحْقًا } يعني : فبعداً من رحمة الله تعالى { لاصحاب السعير } يعني : الوقود . وقال الزجاج : { فَسُحْقًا } نصب على المصدر ، فمعناه أسحقهم الله سحقاً ، فباعدهم من رحمته . والسحق : البعيد ، كقوله : { في مكان سحيق } [ الحج : 31 ] أي : بعيد . قرأ الكسائي بضم السين والحاء ، وجزم الحاء والباقون بضم السين ، وهما لغتان معناهما واحد . ثم بين حال المؤمنين .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

فقال عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يعني : يخافون الله تعالى ويخافون عذابه ، الذي هو { بالغيب } ، فهو عذاب يوم القيامة . { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } يعني : مغفرة لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } يعني : ثواباً عظيماً في الجنة ثم قال : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } . اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : بما في القلوب من الخير والشر ، وذلك أن جماعة من الكفار كانوا يتشاورون فيما بينهم ، فقال بعضهم لبعض : لا تجهروا بأصواتكم ، فإن رب محمد يسمع فيخبره ، قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : { أَسَرُّواْ *** قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } فإنه يعلم به .
ثم أخبر بما هو أخفى من هاتين الحالتين ، فقال : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : فكيف لا يعلم قول السر . ثم قال عز وجل : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } يعني : ألا يعلم السر ، من خلق السر يعني : هو خلق السر في قلوب العباد ، فكيف لا يعلم بما في قلوب العباد؟ ثم قال : { وَهُوَ اللطيف الخبير } يعني : لطف علمه بكل شيء ، يعني : يرى أثر كل شيء بما في القلوب من الخير والشر؛ ويقال : { لَطِيفٌ } يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، { خَبِيرٌ } يعني : عالم بأفعال العباد وأقوالهم .
ثم ذكر نعمه على خلقه ، ليعرفوا نعمته ، فيشكروه ويوحدوه ، فقال : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض ذَلُولاً } يعني : خلق لكم الأرض ذلولاً ، ومدها وذللها؛ وجعلها لينة ، لكي تزرعوا فيها ، وتنتفعوا منها بألوان المنافع ، { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } يعني : لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وجبالها . وهذا خبر بلفظ الأمر؛ وقال القتبي : { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } يعني : جوانبها . ومنكبا الرجل : جانباه . وقال قتادة : { مَنَاكِبِهَا } : جبالها . قال : وكان لبشر بن كعب سرية ، فقال لها : إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة لوجه الله؟ فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حرة . فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبو الدرداء ، فقال له : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
ويقال : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض ذَلُولاً } ، أي سهل لكم السلوك { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } ، أي : تمشون فيها . { وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } يعني : تأكلون من رزق الله تعالى وتشكرونه . { وَإِلَيْهِ النشور } يعني : إلى الله تبعثون من قبوركم . ويقال : معناه : هو الذي ذلل لكم الأرض ، قادر على أن يبعثكم ، لأنه ذكر أولاً خلق السماء ، ثم ذكر خلق الأرض ، ثم ذكر النشور .
ثم خوفهم ، فقال عز وجل : { ءامَنْتُمْ *** مَّن فِى السماء } ؟ قال الكلبي ، ومقاتل : يعني : أمنتم عقوبة من في السماء؟ يعني : الرب تعالى إن عصيتموه .

ويقال : هذا على الاختصار؛ ويقال : أمنتم عقوبة من هو جار حكمه في السماء . قرأ أبو عمرو ، ونافع { أَمِنتُمْ } بالمد ، والباقون بغير مد بهمزتين ، ومعناهما واحد وهو الاستفهام ، والمراد به التوبيخ . وقرأ ابن كثير بهمزة واحدة بغير مد ، على لفظ الخبر . { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارض } يعني : يغور بكم الأرض ، كما فعل بقارون . { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } يعني : تدور بكم إلى الأرض السفلى .
{ أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء } يعني : عذاب من في السماء . { أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا } يعني : حجارة كما أرسلنا إلى قوم لوط . وقال القتبي : «أم» على وجهين ، مرة يراد بها الاستفهام ، كقوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } ، ومرة يراد بها أو ، كقوله : { أَمْ أَمِنتُمْ } ويعني : أو أمنتم . وهذا كقوله : { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 68 ] . ثم قال : { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } يعني : تعبيري عليهم بالعذاب . ويقال : معناه سيظهر لكم كيف عذابي .
ثم قال : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : الأمم الخالية كذبوا رسلهم ، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } ؟ يعني : كيف كانت عقوبتي إياهم وإنكاري لهم؟ ثم قال : { أَوَ لَمْ *** يَرَوْا إِلَى الطير } ؟ يعني : أو لم يعتبروا في خلق الله تعالى كيف خلق الطيور؟ { فَوْقَهُمْ صافات } يعني : باسطات أجنحتها في الهواء . { وَيَقْبِضْنَ } يعني : ويضممن أجنحتهن ويضربن بها . { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يعني : ما يحفظهن في الهواء عند القبض والبسط . { إِلاَّ الرحمن إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ } يعني : عالماً بصلاح كل شيء .

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

ثم قال عز وجل : { أَمَّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } يعني : حزب لكم ومنفعة لكم . { يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن } يعني : من عذاب الرحمن؛ ومعناه : هاتوا أخبروني من الذي يمنعكم من عذاب الله تعالى إن عصيتموه . { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } يعني : ما الكافرون إلا في خداع وأباطيل . ثم قال عز وجل : { أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } يعني : من الذي يرزقكم إن حبس الله رزقه؟ وهذا كقوله : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والارض لاَ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ } [ فاطر : 3 ] ؟ ثم قال : { بَل لَّجُّواْ } يعني : تمادوا في الذنب . ويقال : تمادوا في الكفر . ويقال : بل مضوا { فِى عُتُوّ } يعني : في تكبر { وَنُفُورٍ } يعني : تباعداً من الإيمان .
ثم قال عز وجل : { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } يعني : الكافر يمشي ضالاً في الظلمة أعمى القلب . { أهدى } يعني : هو أصوب ديناً . { أَفَمَن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ } هو المؤمن يعمل بطاعة الله يعني : على دين الإسلام . وقال قتادة : { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } ، قال : هو الكافر عمل بمعصية الله ، يحشره الله تعالى يوم القيامة على وجهه { أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ } ، هو المؤمن يعمل بطاعة الله تعالى ، يسلك به يوم القيامة طريق الجنة . وقال الزجاج : أعلم الله تعالى أن المؤمن يسلك الطريق المستقيم ، وإن كان الكافر في ضلال بمنزلة الذي يمشي مكباً على وجهه . قال مقاتل : نزلت في شأن أبي جهل؛ وقال بعضهم : هو وجميع الكفار .
ثم قال : { قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ } يعني : خلقكم { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } لكي تسمعوا بها الحق ، { والابصار } يعني : لكي تبصروا ، { والافئدة } يعني : القلوب لكي تعقلوا بها الهدى . { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } يعني : شكركم فيما صنع إليكم قليلاً . ويقال : معناه خلق لكم السمع والأبصار والأفئدة آلة لطاعات ربكم ، وقطعاً لحجتكم ، وقدرة على ما أمركم؛ فاستعملتم الآلات في طاعة غيره ولم توحدوه .
ثم قال عز وجل : { قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الارض } يعني : خلقكم . ويقال : كثركم في الأرض ، وأنزلكم في الأرض . { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } يعني : إليه ترجعون بعد الموت ، فيجازيكم بأعمالكم .
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } يعني : البعث بعد الموت إن كنتم صادقين أنَّا نبعث ، خاطبوا به النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة . ويقال : أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . { قُلْ إِنَّمَا العلم عِندَ الله } يعني : علم قيام الساعة عند الله . { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : مخوف أخوفكم بلغة تعرفونها .

قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ } يعني : لما رأوا العذاب قريباً . ويقال : لما رأوا القيامة قريبة وسيئت { وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ } يعني : ذللت ، ويقال : قبحت وسودت . وقال القتبي : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } يعني : لما رأوا ما وعدهم الله قريباً منهم؛ وقال الزجاج : { سيئات } أي : تبيَّن فيها السوء في وجوه الذين كفروا . { وَقِيلَ هذا الذى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } ، أي : تشكون في الدنيا قرأ قتادة ، والضحاك ، ويعقوب الحضرمي : { تَدْعُونَ } بالتخفيف يعني : تستعجلون ، وتدعون إليه في قولكم : فأمطر علينا حجارة من السماء ، وقراءة العامة { تَدْعُونَ } بالتشديد يعني : تكذبون . ويقال : من أجله { تَدْعُونَ } الأباطيل يعني : تدعون أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً ، لا ترجعون ولا تجازون . ويقال : { تَدْعُونَ } أي : تتمنون .
قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله وَمَن مَّعِىَ } يعني : إن عذبنا الله . { أَوْ رَحِمَنَا } يعني : غفر لنا . { فَمَن يُجِيرُ الكافرين } يعني : من ينجيهم ويغيثهم { مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « نَحْنُ مُؤْمِنُونَ بالله ، وَنَتَوَسَّلُ بِعِبَادَتِهِ إلَيهِ ، لاَ نَأْمَنُ عَذَابَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ مَعَ كُفْرِكُم بِهِ مِنْ عَذَابِهِ وَعُقُوبَتِهِ؟ » فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ { قُلْ هُوَ الرحمن ءامَنَّا بِهِ } يعني : قل هو الرحمن بفضله ، إن شاء عذبنا ، وإن شاء رحمنا . { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } يعني : فوضنا إليه أمورنا . { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : فستعرفون ، عند نزول العذاب ، من هو في خطأ بيِّن . قرأ الكسائي : { فَسَيَعْلَمُونَ } بالياء بلفظ الخبر ، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني : سوف تعلمون يا كفار مكة .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } يعني : إن صار ماؤكم غائراً ، لا تناله الأيدي ولا الدلاء . { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } يعني : بماء طاهر . والغور والغائر ، يقال : ماء غور . ومياه غور وهو مصدر لا يثنى ولا يجمع . وقال مجاهد : { بِمَاء مَّعِينٍ } يعني : جار . وروى عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما يعني : الطاهر . وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سُورَةٌ فِي القُرْآنِ ثَلاَثُونَ ، شُفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ . { تبارك الذي بيده الملك » .
وروى زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : يؤتى بالرجل في قبره من قبل رأسه ، فيقول له : ليس لك علي من سبيل . قد كان يقرأ على سورة الملك ، فيؤتى من قبل رجليه ، فيقول : ليس لك علي سبيل . كان يقوم بسورة الملك ، فيؤتى من قبل جوفه ، فيقول : ليس لك علي سبيل . قد أوعاني سورة الملك ، قال : وهي المنجية تنجي صاحبها من عذاب القبر . وروى ابن الزبير ، عن جابر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ سورة { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه } و { تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك } ؛ والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)

قوله تبارك وتعالى : { ن والقلم } . قرأ الكسائي ، ونافع ، وعاصم في إحدى الروايتين بالإِدغام ، والباقون بإظهار النون ، وهما لغتان ومعناهما واحد . قال ابن عباس : هي السمكة التي تحت الأرضين . وروى الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ القَلَمَ فَقَالَ اكْتُبْ ، قَالَ بِمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ : اكْتُبِ القَدَرَ فَيَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى قِيامِ السَّاعَةِ . ثم خلق النون يعني : السمكة ، فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ، ففتق منه السموات ، فاضطربت النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال . وإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة : النون : الدواة ، وقال قتادة : الدواة والقلم : ما قام لله وبه لإصلاح عيش خلقه ، والله يعلم ما يصلح خلقه . ويقال : النون : افتتاح اسم الله تعالى ، وهو النون . ويقال : هو آخر اسمه من الرحمن ، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالنون والقلم ، وجواب القسم { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } ، فذلك قوله : { نون } .
{ والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } يكتُب الحفظة من أعمال بني آدم؛ ويقال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني : تكتب الحفظة في اللوح المحفوظ . { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } يعني : ما أنت بحمد الله تعالى بمجنون { وَمَا أَنت بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } كما يزعمون ، وذلك أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] إلى قوله : { عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 5 ] وعلمه جبريل الصلاة ، فقال أهل مكة : جن محمد صلى الله عليه وسلم . وكان النبي يفر من الشاعر والمجنون . فلما نسبوه إلى الجنون ، شق ذلك عليه ، فنزل : { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } . ويقال : بل أنت رسول الله تعالى .
ثم قال : { وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } يعني : غير مقطوع ، ويقال : غير محسوب ، ويقال : لا يمن عليك . { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } يعني : على خلق حسن؛ وقال مقاتل : يعني : على دين الإسلام ، وقال عطية : يعني : على آدب القرآن . ثم قال : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } يعني : سترى ويرون ويقال فستعلم ويعلمون { بِأَيّكُمُ المفتون } يعني : إذا نزل بهم العذاب تعلمون أيكم المفتون ، يعني : بأيكم المجنون ويقال الباء زيادة ، ومعناه أيكم المفتون يعني أيكم المجنون ، وقال قتادة : يعني : أيكم أولى بالسلطة ، وقال أبو عبيدة : أيكم المجنون والباء زيادة ، واحتج بقول القائل : نضرب بالسيف ، ونرجو بالفرج يعني : نرجو الفرج .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } يعني : هو عالم بمن أخطأ الطريق عن دينه { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } لدينه . ثم قال : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } ، وذلك أنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فأمره الله تعالى أن يثبت على دينه ، فقال : { لاَ تطعالمكذبين } بوحدانية الله تعالى . { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال مجاهد : ودوا لو تركن إليهم ، وتترك ما أنت عليه من الحق ، فيميلون إليك . وقال السدي : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } وقال القتبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم . وكانوا أرادوا أن يعبدوا آلهتهم مدة ، ويعبدون الله مدة .
ثم قال : { فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } يعني : كذاباً في دين الله والحلاف : مكثار الحلف ، { مُّهِينٌ } ضعيف فاجر . نزلت في الوليد بن المغيرة . وقال القتبي : المهين : الحقير الدنيء ، وقال الزجاج : وهو فعيل من المهانة ، وهي القلة . ومعناه في هذا الموضع : القلة في الرأي والتمييز . ثم قال : { هَمَّازٍ } يعني : الوليد بن المغيرة ، طعّان ، لعّان ، مغتاب ، { مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } يعني : يمشي بين الناس بالنميمة . وقال القتبي : { هَمَّازٍ } يعني : عياب ثم قال : { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } يعني : بخيلاً لا ينتفع بماله لنفسه ، وكان ينفق أمواله على غيره . ويقال : معناه : { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } يعني : التوحيد ، ويمنع الناس عن التوحيد . { مُعْتَدٍ } يعني : ظلوماً لنفسه { أَثِيمٍ } يعني : فاجراً .
قوله تعالى : { عُتُلٍ } يعني : شديد الخصومة بالباطل ، ويقال : { عُتُلٍ } يعني : أكول شروب صحيح الجسم رحيب البطن . { بَعْدَ ذَلِكَ } يعني : مع ذلك { زَنِيمٍ } يعني : ملصق . وقال ابن عباس : الزنيم : الدعي الملصق ، ويستدل بقول القائل
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَة ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الأَدِيمِ الأَكَارِعُ
ويقال : الزنيم : الشديد الخلق . وروى شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلاَ جَعْظَرِيٌّ وَلاَ العُتُلُّ الزَّنِيمُ . قَالَ : أَمَّا الجَوَّاظُ ، فَالَّذِي جَمَعَ وَمَنَعَ وَتَدْعُوهُ لَظَى نَزَاعَة للشَّوَى » أَيْ الشَّدِيدَ الخُلُقِ رَحِيبَ الجَوْفِ . وَأمَّا الجَعْظَرِيُّ ، فَالفَظُّ . الغَلِيظُ . وَأَمَّا العُتُلُّ الزَّنِيمُ ، صَحِيحٌ أَكُولٌ شَرُوبٌ ظَلُومٌ لِلنَّاسِ . وَيُقَالُ . الزَّنِيمُ : الدَّعِيُّ وذكر أنه لما نزلت هذه الآية ، قال لأمه : إن محمداً لصادق ، وأنه قال كذا وكذا ، فأقرت والدته له بذلك .
ثم قال : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } يعني : فلا تطعه وإن كان ذا مال وبنين ، يعني : لا تطعه بسبب ماله . ثم قال : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } يعني : القرآن { قَالَ أساطير الاولين } يعني : كذبهم وأباطيلهم . وقال السدي : يعني : أساجيع الأولين . ثم قال : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } يعني : سنضربه على الوجه ، ويقال : سنسود وجهه يوم القيامة ، ويقال : سنسمه على أنفه؛ وقال القتبي : للعرب في هذا مذاهب ، يقولون للرجال إذا سبه سبة قبيحة ، أو يثني عليه فاحشة : قد وسم ميسم سوء ، يريد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه ، كما أن السمة لا يعفو أثرها . وقد وصف الله تعالى الوليد بالحلف ، والمهانة ، والمشي بالنميمة ، والبخل ، والظلم ، والإثم ، والدعوى ، فألحق به العار لا يفارقه في الدنيا والآخرة . قال : والذي يدل على هذا ، ما روي ، عن الشعبي في قوله : { عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } يعني : القتل الشديد . والزنيم : له زنمة من الشر ، يعرف بها كما تعرف الشاة .

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

ثم قال : { إِنَّا بلوناهم } يعني : اختبرنا أهل مكة بترك الاستثناء؛ ويقال : ابتليناهم بالجوع والشدة . ثم قال : { كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة } يعني : أهل ضيروان ، وهي قبيلة باليمن . وروى أسباط ، عن السدي قال : كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلاً صالحاً ، وكان إذا بلغ ثماره فأتاه المساكين ، فلم يمنعهم من دخولها ، وأن يأكلوا منها ، وأن يتزودوا فيها . فلما مات أبوهم ، قال بنوه بعضهم لبعض : على ما نعطي أموالنا هؤلاء المساكين؟ فقالوا : فلندع من يصرفها قبل أن يعلم المساكين . ولم يستثنوا فانطلقوا وهم يتخافتون ، ويقول بعضهم لبعض خفياً : أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين فذلك قوله : { إِذْ أَقْسَمُواْ } يعني : حلفوا فيما بينهم . { لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } يعني : ليُجدنَّها وقت الصبح ، أي : ليقطعنها قبل أن يخرج المساكين . { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } يعني : لم يقولوا : إن شاء الله تعالى .
وروي في الخبر : أن أباهم كان إذا أراد أن يصرم النخل ، اجتمع هناك مساكين كثيرة . وقد جعل له علامة ، فكل ثمرة تسقط وراء العلامات ، كانت للمساكين . فكانوا يأخذون الثمر قدر ما يتزودون به أياماً كثيرة . فلما مات الرجل ، قال بنوه فيما بينهم : إن أبانا كان عياله أقل ، وحاجته أقل فصار عيالنا أكثر . وحاجتنا أكثر فخرجوا بالليل ، كي لا يشعر بهم المساكين ، فاحترقت نخيلهم في تلك الليلة ، فذلك قوله : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ } يعني : بعث الله تعالى ناراً على حديقتهم بالليل . والطائف : الذي أتاك ليلاً فأحرقها وهم نائمون . { مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم } يعني : صارت الحديقة كالليل المظلم . وقال القتبي : الصريم : من أسماء الأضداد . يسمى الليل صريماً ، والصبح صريماً ، لأن الليل ينصرم عن النهار ، والنهار ينصرم عن الليل . ويقال : الصريم يعني : ذهب ما فيها ، فكأنه صرم أي قطع وجز .
ثم قال : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } يعني : نادى بعضهم لبعض { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ } يعني : اخرجوا بالغداة جذوا زروعكم وصرام نخيلكم . { إِن كُنتُمْ صارمين } يعني : إن أردتم أن تصرموها قبل أن يحضرها المساكين . { فانطلقوا } يعني : ذهبوا إِلى نخيلهم ، { وَهُمْ يتخافتون } يعني : يتشاورون فيما بينهم بكلام خفي : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ } قال مقاتل : يعني : على جد في أنفسهم . { قادرين } على جنتهم؛ وقال الزجاج : معناه على قصد ، وقال القتبي : الحرد المنع ، ويقال : الحرد القصد قادرين واجدين؛ ويقال : على قوة ونشاط ، ويقال : على طريق جنتهم ، ويقال : الحرد اسم تلك الجنة .
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } يعني : أتوها ورأوها مسودة ، أنكروها . { قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ } يعني : أخطأنا الطريق ، وليست هذه جنتنا . فلما تفحصوا وعلموا أنها جنتهم وأنها عقوبة لهم ، فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } يعني : حُرِمْنا منفعتها .

{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } يعني : أعدلهم وأعقلهم : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } يعني : هلا تستثنون في أيمانكم . ويقال : كان استثناؤهم التسبيح يعني : لولا قلتم سبحان الله . فندموا على فعلهم . { قَالُواْ سبحان رَبّنَا } يعني : نزهوه وعظموه تائبين عن ذنوبهم ، ويقال : نستغفر ربنا . { إِنَّا كُنَّا ظالمين } يعني : ضارين بأنفسنا بمنعنا المساكين .
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون } يعني : جعل يلوم بعضهم بعضاً لصنيعهم ذلك ، ثم { قَالُواْ } بأجمعهم : { قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين } يعني : عاصين بمنعنا المساكين . ثم قالوا : { عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا } يعني : يعوضنا خيراً منها في الجنة . { إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون } يعني : راجين مما عنده . قال الله تعالى : { كَذَلِكَ العذاب } يعني : هكذا عذاب الدنيا لمن منع حق الله تعالى . { وَلَعَذَابُ الاخرة أَكْبَرُ } لمن لم يتب ولم يرجع عن ذنبه . ويقال : هكذا العذاب في الدنيا لأهل مكة بالجوع ، ولعذاب الآخرة أعظم . { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني : لو كانوا يفقهون . ويقال : لو كانوا يصدقون ، ثم ذكر ما للمتقين من الثواب .

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

فقال عز وجل : { إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ } يعني : في الآخرة { جنات النعيم } . فلما ذكر الله تعالى نعيم الجنة ، قال عتبة بن ربيعة : إن كان كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن لنا في الآخرة أكثر ما للمسلمين ، لأن فضلنا وشرفنا أكثر ، فنزل : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } يعني : لا يكون حال المسلمين في الهوان والذل كالمشركين . { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } يعني : وَيْحَكم كيف تقضون بالجَوْر؟ { أَمْ لَكُمْ كتاب فِيهِ تَدْرُسُونَ } ؟ يعني : ألكم كتاب تقرؤون فيه؟ { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } يعني : في الكتاب مما تتمنون . { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا بالغة } ؟ يعني : ألكم عهد عندنا وثيق؟ { إلى يَوْمِ القيامة } . يعني : في يوم القيامة . { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } يعني : ما تقضون لأنفسكم في الآخرة؟ .
قوله تعالى : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ } يعني : أيهم كفيل لهم بذلك؟ ثم قال : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } ؟ يعني : شهداء يشهدون أن الذي قالوا لهم حق . { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين } يعني : يشهدون أن لهم في الآخرة ما للمسلمين ، فهذا كله لفظ الاستفهام ، والمراد به الزجر واليأس ، يعني : ليس لهم ذلك .
قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يعني : اذكر ذلك اليوم . ويقال : معناه إن الثواب والعقاب . الذي ذكر ، في يوم يكشف عن ساق . قال ابن عباس : يعني : يظهر قيام الساعة . وروى سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس قال : { عَن سَاقٍ } يعني : عن أمر عظيم ، وقال مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } عن بلاء عظيم ، وقال قتادة : يكشف الأمر عن شدة الأمر .
{ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا ابن منيع : حدثنا هدبة حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمارة القرشي ، عن أبي بردة بن أبي موسى قال : حدثنا أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُون فِي الدُّنْيَا ، فَذَهَبَ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا ، وَيَبْقَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ فِيُقَالُ لَهُمْ : كِيْفَ بَقِيْتُمْ ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ : إنَّ لَنَا رَبّاً كُنّا نَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ نَرَهُ قَالَ أَوَ تَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيُقَالُ لَهُمْ : وَكَيْفَ تَعْرِفُونَه وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالُوا : لا شَبَهَ لَهُ . فَيُكْشفُ لَهُمُ الحِجَابُ ، فَيَنْظُرُونَ إلَى الله تَعَالَى ، فَيَخرُّونَ لَهُ سُجّداً ، وَيَبْقَى أقْوَامٌ ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صِيَاصِي البَقَرِ ، فَيُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . فَيَقُولُ الله تَعَالَى عِبَادِي ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ ، قَدْ جَعَلْتُ بَدَلَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى فِي النَّارِ » .

قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو ، أحدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلفت له ثلاثة أيمان ، فقال عمر : ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا الحديث .
وقال القتبي : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } هذا من الاستعارة ، فسمى الشدة ساقاً ، لأن الرجل إذا وقع في الشدة ، شمَّر عن ساقه ، فاستعيرت في موضع الشدة . ويقال : يكشف ما كان خفياً . ويقال : يبدؤون عن أمر شديد ، وهو عذاب عظيم يوم القيامة .
ثم قال عز وجل : { خاشعة أبصارهم } يعني : ذليلة أبصارهم ، { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يعني : تغشاهم وتعلوهم كآبة وكشوف وسواد؛ وذلك أن المسلمين ، إذا رفعوا رؤوسهم من السجود ، صارت وجوههم بيضاء كالثلج . فلما نظر اليهود والنصارى والمنافقون ، وهم عجزوا عن السجود ، حزنوا واغتموا فسودت وجوههم . ثم بَيَّنَ المعنى الذي عجزهم عن السجود ، فقال : { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سالمون } يعني : يدعون إلى السجود في الدنيا وهم أصحاء معافون ، فلم يسجدوا .

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

ثم قال عز وجل : { فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بهذا الحديث } يعني : دع هؤلاء الذين لا يؤمنون بالقرآن . ويقال : فوض أمرهم إليَّ ، فإني قادر على أخذهم متى شئت . { سَنَسْتَدْرِجُهُم } يعني : سنأخذهم وسنأتيهم بالعذاب . { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : نذيقهم من العذاب درجة ، من حيث لا يعلمون أن العذاب نازل بهم . وأصله في اللغة من الارتقاء في الدرجة . وقال السدي : كلما جددوا معصية ، جدد لهم نعمة وأنساهم شكرها ، فذلك الاستدراج . { وَأُمْلِى لَهُمْ } يعني : أمهل لهم وأؤجل لهم إلى وقت . { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } يعني : عقوبتي شديدة إذا نزلت بهم لا يقدرون على دفعها .
ثم قال : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } ؟ يعني : أتسألهم على الإيمان جملاً؟ { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } يعني : لأجل الغرم يمتنعون . وهذا يرجع إلى قوله : { أَمْ لَكُمْ كتاب فِيهِ تَدْرُسُونَ } . ثم قال : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } ؟ يعني : اللوح المحفوظ . { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } يعني : ما يقولون . ثم قال عز وجل : { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } يعني : على ما أمر ربك ولقضاء ربك . { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } يعني : لا تكن في قلة الصبر والضجر مثل يونس عليه السلام { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } يعني : مكروباً في بطن الحوت ، وقال الزجاج : { مَكْظُومٌ } أي مملوء غماً . { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ } يعني : لولا النعمة والرحمة التي أدركته من الله تعالى ، { لَنُبِذَ بالعراء } يعني : لطرح بالصحراء . والصحراء هي الأرض التي لا يكون فيها نخل ولا شجر ، يوارى فيها { وَهُوَ مَذْمُومٌ } يعني : يذم ويلام . ولكن كان رحمة من الله تعالى ، حيث نبذ بالعراء وهو سقيم وليس بمذموم .
قوله تعالى : { فاجتباه رَبُّهُ } يعني : اختاره ربه للنبوة ، { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } يعني : من المرسلين ، كقوله : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين } . ثم قال عز وجل : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ } يعني : أراد الذين كفروا . { لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } يعني : ليرهقونك بأبصارهم إن قدروا على ذلك . ويقال : معناه إذا قرأت القرآن ، فينظرون إليك نظراً شديداً بالعداوة ، يكاد يزلقك أي : بالعداوة يسقطك من شدة النظر . وذكر عن الفراء أنه قال : { لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } يعني : يعتانونك يعني : يصيبونك بعيونهم . وذلك أن رجلاً من العرب ، كان إذا أراد أن يعتان شيئاً ، يقبل على طريق الإبل إذا صدرت عن الماء ، فيصيب منها ما أراد بعينه ، فأرادوا أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الكلبي : { لَيُزْلِقُونَكَ } يعني : ليصرعونك . { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } يعني : قراءتك القرآن ، { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ } يعني : ما هذا القرآن إلاَّ عظة للجن والإنس؛ ويقال : عز وشرف للعالمين . قرأ حمزة ، وعاصم في رواية أبي بكر : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } بهمزتين ، والباقون بهمزة واحدة ، إلا ابن عامر ، فإنه يقرأ { إِن كَانَ } بالمد . فمن قرأ بهمزتين ، فالألف الأولى للاستفهام ، والثانية ألف إن . ومن قرأ بهمزة واحدة معناه : لأن كان ذا مال أي : لا تطعه لماله وتحمل لأن كان ذا مال . قال : أساطير الأولين . قرأ نافع : { لَيُزْلِقُونَكَ } بنصب الياء ، والباقون بالضم؛ وهما لغتان ، ومعناهما واحد؛ والله أعلم بالصواب .

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)

قوله تعالى : { الحاقة مَا الحاقة } وهو اسم من أسماء القيامة ، ومعناه القيامة ما القيامة؟ تعظيماً لأمرها . وقال قتادة في قوله : { الحاقة } يعني : حقت لكل قوم أعمالهم يعني : حقت للمؤمنين أعمالهم وللكافرين أعمالهم من حق يحق ، إذا صح . وذكر عن الفراء أنه قال : إنما قيل لها الحاقة ، لأن فيها حواق الأمور . يقال : لقد حق عليك الشيء ، أي وجب . ثم قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة } يعني : ما تدري أي يوم هو ، تعظيماً لأمرها .
ثم وصف القيامة في قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور } . ثم ذكر من كذب بالساعة والقيامة ، وما نزل بهم ، فقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } يعني : كذبت قوم صالح وقوم هود بالقيامة . وإنما سميت قارعة ، لأنها تقرع قلوب الخلق . ثم أخبر عن عقوبتهم في الدنيا ، فقال : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } يعني : بطغيانهم ، ومعناه وطغيانهم حملهم على التكذيب ، فأهلكوا . ويقال : أهلكوا بالرجفة الطاغية ، كما قال في قصته { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } يعني : عتت على خزانها ، فذلك قوله : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } يعني : باردة يعني : شديدة البرد { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } يعني : سلطها عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ حُسُوماً } يعني : دائمة متتابعة . ويقال : { عَاتِيَةٍ } يعني : شديدة { حُسُوماً } يعني : كاملة دائمة لا يفتر عنهم . وقال القتبي : { حُسُوماً } أي : متتابعة . وأصله من حسم الداء ، لأنه يكون مرة بعد مرة .
{ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى } يعني : في الريح؛ ويقال : في الأيام؛ ويقال : في القرية . { صرعى } يعني : موتى؛ ويقال : هلكى؛ ويقال : قلعى مطروحين . { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } يعني : منقلعة ساقطة . وروى شهر بن حوشب ، عن ابن عباس قال : ما أنزل الله تعالى قطرة من ماء إلا بمثقال ، ولا شعرة من الريح إلا بمكيال ، إلا يوم عاد ونوح . وأما الريح فعتت على خزائنها يوم عاد ، فلم يكن لهم عليها سبيل . وأما الماء ، طغى على خزانة يوم نوح ، فلم يكن لهم عليه سبيلاً ، كما قال الله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } [ الحاقة : 11 ] الآية . ثم قال عز وجل : { فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ } ؟ يعني : لم يبق أحداً منهم .
ثم قال عز وجل : { وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } . قرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ومن قبله بكسر القاف ونصب الياء الموحدة ، يعني : ظهر فرعون وأتباعه وأشياعه؛ والباقون بنصب القاف وجزم الباء يعني : من تقدمه من عتاب الكفار . ثم قال : { والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ } يعني : قريات قوم لوط ، يعني : جاء فرعون وقوم لوط بالخاطئة يعني : بالشرك وبأعمالهم الخبيثة . { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ } يعني : كذبوا رسلهم ، { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } يعني : عاقبهم الله عقوبة شديدة .

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

ثم قال عز وجل : { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } يعني : طغى على خزانة يوم نوح ، كما روي عن ابن عباس . ويقال : طغى الماء ، أي ارتفع؛ ويقال في اللغة : طغى الشيء ، إذا ارتفع جداً . وقال قتادة : إنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعاً . { حملناكم فِى الجارية } يعني : السفينة ، ومعناه : حين غرق الله تعالى قوم نوح ، حملناكم يا محمد في السفينة في أصلاب آبائكم . { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } يعني : لنجعل هلاك قوم نوح لكم عبرة لتعتبروا بها . { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية } يعني : يسمع هذا الخبر أذن سامعة ، ويحفظها قلب حافظ على معنى الإضمار .
ثم رجع إلى أول السورة فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة } يعني : نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة . ثم قال : { وَحُمِلَتِ الارض والجبال } يعني : قلعت ما على الأرض من نباتها وشجرها ، وحملت الجبال عن أماكنها . { فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } يعني : فضربت على الأرض مرة واحدة؛ وهذا قول مقاتل ، وقال الكلبي : يعني : رفعت الأرض والجبال فزلزلتا زلزلة واحدة . ويقال : فدكتا دكة واحدة أي : كسرتا كسرة واحدة . { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة } يعني : في ذلك اليوم قامت القيامة . { وانشقت السماء } يعني : انفرجت السماء بنزول الملائكة . { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } يعني : ضعيفة منشقة متمزقة من الخوف .
{ والملك على أَرْجَائِهَا } يعني : الملائكة على نواحيها وأطرافها ، يعني : صفوف الملائكة حول العرش { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ } يعني : فوق الخلائق . { يَوْمَئِذٍ ثمانية } يعني : ثمانية أجزاء من المقربين ، لا يعلم كثرة عددهم إلا الله . وروى عطاء بن السائب ، عن ميسرة في قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية } يعني : ثمانية من الملائكة ، أرجلهم في تخوم الأرض السابعة وقال وهب بن منبه : أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم ، لكل واحد منهم أربعة وجوه : وجه ثور ، ووجه أسد ، ووجه إنسان . روى الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية } .

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

ثم قال عز وجل : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } أي : تساقون إلى الحساب والقصاص وقراءة الكتب؛ ويقال : { تُعْرَضُونَ } على الله تعالى ، كقوله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } [ الكهف : 48 ] ثم قال : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } يعني : لا يخفى على الله منكم ولا من أعمالكم شيء . قرأ حمزة ، والكسائي { لاَ يخفى } ، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن لفظ خافية مؤنث . ومن قرأ بالياء ، انصرف إلى المعنى يعني : لا يخفى منكم خاف ، والهاء ألحقت للمبالغة .
ثم قال عز وجل : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } يعني : كتابه الذي عمله ، فرأى فيه الحسنات فسر بذلك ، { فَيَقُولُ } لأصحابه : { هَاؤُمُ } يعني : تعالوا { اقرؤا كتابيه } . قال القتبي : { هَاؤُمُ } في اللغة بمنزلة خذ وتناول؛ ويقال للاثنين : هاؤما ، وللجماعة هاؤموا . والأصل هاكم ، فحذفوا الكاف وأبدلوها همزة . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : بلغني أنهم يعرضون ثلاث عرضات . فأما عرضتان ، فهما الخصومات والمعاذير . وأما الثالثة ، فتطاير الصحف في الأيدي . وروى عبد الله بن مسعود نحو هذا . ثم قال : { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } يعني : أيقنت وعلمت أني أحاسب . قال الله تعالى : { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } يعني : في عيش مرضي ، { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } يعني : مرتفعة . { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } يعني : اجتناء ثمارها قريب ، يعني : شجرها قريب يتناوله القائم والقاعد ، فيقال لهم : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } يعني : كلوا من ثمار الجنة واشربوا من شرابها هينئاً يعني : طيباً بلا داء ، ويقال : حلال لا إثم فيه . { بِمَا أَسْلَفْتُمْ } يعني : بما عملتم وقدمتم { فِى الايام الخالية } يعني : في الدنيا . ويقال : بما عملتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية ، يعني : في الدنيا .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ } روي عن ابن عباس أنه قال : الآية الأولى نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد ، وهذه الآية في الأسود بن عبد الأسد ، ويقال : في جميع المؤمنين وفي جميع الكفار . { فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } يعني : لم أعط كتابيه ، { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } يعني : لم أعلم ما حسابي . قوله تعالى : { حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية } ، يا ليتني تركت على الموتة الأولى بين النفختين ، ويقال : { حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية } يعني : المنية . قال مقاتل : يتمنى الموت . { مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ } يعني : ما أرى ينفعني مالي الذي جمعت في الدنيا . { هَلَكَ عَنّى سلطانيه } يعني : بطل عني عذرِي وحجتي .
يقول الله تعالى : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } يعني : بالأغلال الثّقال . { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } يعني : أدخلوه . { ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ } يعني : أدخلوه في تلك السلسلة .

{ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم } يعني : لا يصدق بالله العظيم . { وَلاَ يَحُضُّ } يعني : لا يحث نفسه ولا غيره { على طَعَامِ المسكين } يعني : لا يطعم المسكين في الدنيا . { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ } يعني : قريب يمنع منه شيئاً ، يعني : أحداً يمنع من العذاب . { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } يعني : ليس له فيها طعام إلا من غسلين . وروى عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا أدري ما الغسلين . وروي عنه أنه قال : الغسلين : ما يسقط عن عروقهم ، وذاب من أجسادهم . وقال القتبي : هو فعلين من غسلت فكأنه غسالة . { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } يعني : المشركين . وروى عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلاً قرأ عنده : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } وقال ابن عباس : كلنا نخطىء ، ولكن { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } يعني : العاصين الكافرين .

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

ثم قال : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } يعني : أقسم بما تبصرون من شيء ومن الخلق . { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } من الخلق . { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : هذا القرآن قول رسول كريم على الله تعالى يعني : جبريل ، وهذا قول مقاتل . ويقال : قول رسول كريم ، يعني : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . قال أبو العالية : إنه يعني : القرآن ، لقول : رسول كريم يقرأ عليك يا محمد . ويقال : معناه إن الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، ويقرؤه عليه جبريل الكريم على الله تعالى ، ليس الشياطين كما يقولون؛ { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } يعني : القرآن ليس هو بقول شاعر . { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } يعني : قليلاً ما تؤمنون . «وما» صلة . قرأ ابن كثير ، وابن عامر في رواية هشام { قَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } بالياء { الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } بالياء ، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة .
ثم قال : { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } يعني : ليس بقول كاهن ، ليس بقول شيطان أي : عراف كاذب . { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } يعني : قليلاً ما تتعظون . ثم قال عز وجل : { تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين } يعني القرآن هو كلام رب العالمين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل } يعني : أن محمد صلى الله عليه وسلم لو قال من ذات نفسه ، { لاخَذْنَا مِنْهُ باليمين } يعني : لعاقبناه . فأعلم الله تعالى أنه لا محاباة لأحد ، إذا عصاه بالقرآن ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم . ومعنى قوله : { باليمين } يعني : بالقوة . وقال القتبي : إنما قام اليمين مقام القوة ، لأن قوة كل شيء في يمينه . ولأهل اللغة في هذا مذاهب أخر ، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة أحد ، فيقولون : خذ بيده ، وافعل به كذا وكذا . قال الله تعالى : لو كذب علينا لأمرنا بالأخذ بيده ثم عاقبناه . ويقال : { لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل } معناه : لو زاد حرفاً واحداً على ما أوحيته إليه أو نقص ، لعاقبته . وكان هو أكرم الناس عليَّ . وفي الآية تنبيه لغيره ، لكيلا يغيروا شيئاً من كتاب الله تعالى ، ولا يتقولوا فيه شيئاً من ذات أنفسهم . ويقال : { باليمين } يعني : بالحق . ويقال : بالحجة . { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } وهو عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه ، يعني : لأهلكناه .
{ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } يعني : ليس أحد منكم يمنعنا من عذابه . { وَأَنَّهُ } يعني : القرآن { لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } يعني : عظة للذين يتقون الشرك والفواحش . { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ } يعني : وإنا لنعلم أن منكم أيها المؤمنون مكذبون بالقرآن ، يعني : المنافقين . ثم قال عز وجل : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين } يعني : إن هذا القرآن ندامة على الكفارين يوم القيامة ، لأنه يقال لهم : ألم يقرأ عليكم القرآن؟ فيكون لهم حسرة وندامة بترك الإيمان . { وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين } يعني : إن تلك الندامة لحق اليقين . ويقال : إن القرآن من الله تعالى حقاً يقيناً . { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } يعني : صل لله تعالى . ويقال : سبحه باللسان؛ والله تعالى أعلم والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)

قوله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ } . قرأ نافع بغير همزة ، والباقون بالهمزة . فمن قرأ بغير همزة ، فهو من سال يسال يعني : جرى واد بعذاب الله تعالى . ومن قرأ بالهمزة ، فهو من سأل يسأل بمعنى دعا داع . { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، وهو النضر بن الحارث ، فوقع به العذاب ، فقتل يوم بدر في الدنيا . وقال مجاهد : دعا داع بعذاب يقع في الآخرة ، وهو قولهم : إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء .
ويقال : { سَأَلَ سَائِلٌ } عن عذاب واقع والجواب : { للكافرين لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } يعني : أن ذلك العذاب من الله واقع للكافرين . { مِنَ الله } الذي هو { ذِي المعارج } . قال مقاتل : يعني : ذي الدرجات ، يعني : السموات السبع . وقال القتبي : يعني : معارج الملائكة أي تصعد . { تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ } يعني : جبريل . { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } يعني : ذلك العذاب واقع في يوم القيامة ، مقداره خمسين ألف سنة . ويقال : يعني : يعرج جبريل والملائكة في يوم واحد كان مقداره لو صعد غيرهم خمسين ألف سنة . وقال محمد بن كعب : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة .
ثم قال عز وجل : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } يعني : اصبر صبراً حسناً لا جزع فيه . ثم أخبر متى يقع العذاب فقال : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } يعني : يوم القيامة غير كائن عندهم . { وَنَرَاهُ قَرِيباً } لا خلف فيه . { يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل } يعني : اليوم الذي تكون السماء كالمهل أي : كدردي الزيت من الخوف . ويقال : ما أذيب من الفضة أو النحاس . { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } يعني : كالصوف المندوف . قرأ الكسائي : { يَعْرُجُ الملائكة } بالياء ، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث ، لأنها جمع الملائكة . ومن قرأ بالياء ، فلتقديم الفعل . وروي عن ابن كثير أنه قرأ : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ } بضم الياء ، والباقون بالنصب . ومن قرأ بالضم ، فمعناه أنه لا يسأل قريب عن ذي قرابته ، لأن كل إنسان يعرف بعضهم بعضاً قوله تعالى { يُبَصَّرُونَهُمْ } يعني : يعرفونهم ملائكة الله تعالى . ومن قرأ بالنصب ، معناه لا يسأل قريب عن قريبه ، لأنه يعرف بعضهم بعضاً { يُبَصَّرُونَهُمْ } يعني : يعرفونهم ويقال : مرة يعرفونهم ، ويقال : ومرة لا يعرفونهم .
ثم قال عز وجل : { يَوَدُّ المجرم } أي : يتمنى الكافر . { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } يعني : ينادي نفسه بولده ، { وصاحبته } يعني : وزوجته ، { وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ التى تُوِيهِ } يعني : عشيرته التي يأوى إليهم . وقال مجاهد : { وَفَصِيلَتِهِ } أي : قبيلته ، هكذا روي عن قتادة . وقال الضحاك : يعني : عشيرته . { وَمَن فِى الارض جَمِيعاً } يعني : يفادي نفسه بجميع من في الأرض . { ثُمَّ يُنجِيهِ } يعني : ينجي نفسه من العذاب .

كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

قال الله تعالى : { كَلاَّ } أي حقاً لا ينجيه ، وإن فادى جميع الخلق ، ولا يفادي نفسه وقال أهل اللغة : { كَلاَّ } ردع وتنبيه يعني : لا يكون كما تمنى . ثم استأنف الكلام ، فقال : { كَلاَّ إِنَّهَا لظى } يعني : النار والعقوبة { لظى } اسم من أسماء النار . { نَزَّاعَةً للشوى } يعني : قلاعة للأعضاء؛ ويقال : حراقة للأعضاء والجسد . وقال القتبي الشوى : جلود الرأس وأحدها شواة ، ويعني : أن النار تنزع جلود الرأس . وعن أبي صالح قال : { نَزَّاعَةً للشوى } أطراف اليدين والرجلين؛ وقال مقاتل : يعني : تنزع النار الهامة والأطراف . قرأ عاصم في رواية حفص : { نَزَّاعَةً } نصباً على الحال ، والباقون بالضم يعني : إنها نزاعة للشوى .
{ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى } يعني : لظى تدعو إلى نفسه ، تنادي من أعرض عن التوحيد وأعرض عن الإيمان؛ ويقال : إن لظى تنادي وتقول : أيها الكافر تعال إلي ، فإن مستقرك فيّ . وتقول : أيها المنافق تعال إلي ، فإن مستقرك فيّ . فذلك قوله : { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى } ثم قال : { وَجَمَعَ فَأَوْعَى } يعني : جمع المال ومنع حق الله تعالى . قال مقاتل : { فَأَوْعَى } يعني : فأمسكه ، فلم يؤد حق الله تعالى .
ثم قال : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } يعني : حريصاً ضجوراً بخيلاً ممسكاً فخوراً ، وقال القتبي : { هَلُوعاً } يعني : شديد الجزع . يقال : ناقة هلوع ، إذا كانت شديدة النفس . { إِذَا مَسَّهُ الشر } يعني : الفقر . { جَزُوعاً } يعني : لا يصبر على الشدة . { وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } يعني : إذا أصابه الغنى يمنع حق الله تعالى . { إِلاَّ المصلين } ، فإنهم ليسوا هكذا ، وهم يؤدون حق الله تعالى . { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } يعني : يحافظون على الصلوات . { والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ } يعني : معروفاً { لَّلسَّائِلِ والمحروم } يعني : للسائل الذي يسأل الناس ، والمحروم الذي لا يشهد الغنيمة ولا يسهم له . وروى وكيع ، عن سفيان ، عن قيس ، عن محمد بن الحسن قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، ففتحت ، فجاء آخرون بعد ذلك ، فنزل { وَفِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم } . وقال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم .
ثم قال تعالى : { والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين } يعني : بيوم الحساب . { والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ } يعني : خائفين . { إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } يعني : لم يأت لأحد الأمان من عذاب الله تعالى؛ ويقال : لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى . ثم قال : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون } وقد ذكرناه . { والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون } يعني : الأمانات التي فيما بينهم وبين الله تعالى ، والعهد الذي بينهم وبين الله تعالى .

والأمانات والعهد التي بينهم وبين الناس حافظون . { وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ } يعني : يؤدون الشهادة عند الحاكم ، ولا يكتمونها إذا دعوا إليها ، فيؤدون الشهادة على الوجه الذي علموها وحملوها . قرأ عاصم في رواية حفص ، وأبو عمرو في إحدى الروايتين { بشهاداتهم } وهو جمع الشهادة ، والباقون { بشهادتهم } وهي شهادة واحدة؛ وإنما تقع على الجنس . ثم قال : { قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يعني : يداومون عليها ويحافظون عليها في مواقيتها . { أُوْلَئِكَ فِى جنات مُّكْرَمُونَ } يعني : أهل هذه الصفة ، في جنات مكرمون بثواب من الله تعالى بالتحف والهدايا .

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

ثم قال تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } يعني : حولك؛ ويقال : عندك ناظرين . والمهطع : المقبل ببصره على الشيء . كانوا ينظرون إليه نظرة عداوة يعني : كفار مكة . وإنما قولهم { مُهْطِعِينَ } نصباً على الحال . { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } يعني : حلقاً حلقاً جلوساً لا يدنون منه ، فينتفعون بمجلسه . ويقال : { عِزِينَ } يعني : متفرقين . وروى تميم ، عن طرفة ، عن جابر بن سمرة قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقين ، فقال : « مَا لِي أرَاكُمْ عِزِينَ؟ » يعني : متفرقين { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } يعني : يتمنى كل واحد منهم أن يدخل الجنة ، كما يدخل المسلمون . قال الله تعالى : { كَلاَّ } يعني : لا يدخلون ما داموا على كفرهم .
ثم قال : { إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } يعني : من النطفة؛ وقال الزجاج : معناه أنهم خلقوا من تراب ، ثم من نطفة . فأي شيء لهم يدخلون به الجنة؟ ويقال : إنا خلقناهم مما يعلمون ، فبماذا يتكبرون ويتجبرون؟ ثم قال عز وجل : { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق } يعني : أقسم برب المشارق وقال في آية : { رَّبُّ المشرق والمغرب } . وإنما أراد به الناحية التي تطلع الشمس ، والناحية التي تغرب الشمس منها . وقال في آية أخرى : { رَبُّ المشرقين } يعني : مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، ورب المغربين لذلك؛ وقال في هذا الموضع : { رَبّ المشارق } يعني : مشرق كل يوم؛ وهي ثمانون ومائة مشرق في الشتاء ومشرق مثلها في الصيف . { والمغارب } يعني : مغرب كل يوم . { إِنَّا لقادرون على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ } يعني : على أن نهلكهم ونخلق خلقاً خيراً منهم { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } يعني : عاجزين .
{ فَذَرْهُمْ } يعني : اتركهم وأعرض عنهم . { يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } يعني : حتى يخوضوا ويلعبوا في الباطل ويستهزئوا . { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ } يعني : يعاينوا يومهم { الذى يُوعَدُونَ } . قوله تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً } يعني : في اليوم الذي يوعدون وفي اليوم الذي يخرجون من القبور سراعاً يعني : يسرعون إلى الصوت { كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } يعني : كأنهم إلى علم منصوب يمضون . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص { إلى نُصُبٍ } بضم النون والصاد يعني : أصناماً لهم ، كقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 3 ] ، والباقون { إلى نُصُبٍ } يعني : إلى علم يستبقون . وقال أهل اللغة : الإيفاض : الإسراع . { خاشعة أبصارهم } يعني : ذليلة أبصارهم . { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يعني : تغشاهم مذلة . ثم قال : { ذَلِكَ اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } يعني : يوعدون فيه العذاب ، وهم له منكرون؛ وصلى الله على سيدنا محمد .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)

قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } يعني : جعله الله رسولاً إلى قومه . { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } يعني : أن خوف قومك بالنار لكي يؤمنوا بالله . { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : الطوفان والغرق . { قَالَ } لهم نوح عليه السلام : { إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : قال نوح لقومه أنبئكم بلغة تعرفونها؟ { أَنِ اعبدوا الله } يعني : أنذركم وأقول لكم اعبدوا الله ، يعني : وحدوا الله . { واتقوه } يعني : واخشوه واجتنبوا معاصيه . { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم ، { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } يعني : ذنوبكم . و«من» صلة . { وَيُؤَخّرْكُمْ } يعني : يؤجلكم { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : إلى منتهى آجالكم . { إِنَّ أَجَلَ الله } يعني : إن عذاب الله ، { إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ } يعني : لا يستطيع أن يؤخره أحد . { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني : لو كان لكم علم تنتفعون به .
قوله تعالى : { قَالَ رَبّ } يعني : دعا نوح بعد ما كذبوه في طول المدة ، قال : رب يعني : يا رب ، { إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى } إلى التوحيد { لَيْلاً وَنَهَاراً } يعني : في كل وقت سراً وعلانية . { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً } يعني : إلى التوحيد تباعداً من الإيمان . قال عز وجل : { وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } إلى التوحيد ، { لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم } يعني : لا يسمعون دعائي ، { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } يعني : غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا كلامي . { وَأَصَرُّواْ } يعني : أقاموا على الكفر والشرك ، { واستكبروا استكبارا } يعني : تكبروا عن الإيمان تكبراً .
قوله تعالى : { ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا } يعني : دعوتهم إلى الإيمان علانية من غير خفية ، { ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ } يعني : صحت لهم ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } يعني : خلطت دعاءهم بالعلانية بدعائهم في السر . { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } يعني : توبوا وارجعوا من ذنوبكم ، يعني : الشرك والفواحش . { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } يعني : غفاراً لمن تاب من الشرك . { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } يعني : المطر دائماً كلما احتاجوا إليه . { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } يعني : يعطيكم أموالاً وأولاداً ، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات } يعني : البساتين ، { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } يعني : في الجنات .
قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ؟ ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد؟ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ وقال قتادة : مالكم لا ترجون لله عاقبة؟ ويقال : ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان؟ يعني : في الجنة . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما لكم لا تعلمون حق عظمته؟ وقال مجاهد : ما لكم لا ترجون لله عظمة؟ { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } يعني : خلقاً بعد خلق وحالاً بعد حال ، نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة . فمعناه : ما لكم لا توحدون ، وقد خلقكم ضروباً؟ ويقال : أراد به اختلاف الأخلاق والمنطق ، ويقال أراد به المناظرة .

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

ثم وعظهم ليعتبروا ، فقال عز وجل : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله } ؟ يعني : ألم تنظروا فتعتبروا ، كيف خلق الله تعالى { سَبْعَ سموات طِبَاقاً } ؟ يعني : مطبقاً بعضها فوق بعض . { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } يعني : ضياءً لبني آدم . وإنما قال : { فِيهِنَّ } أراد به سماء الدنيا ، لأنها إحداهن . { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } يعني : نوراً للخلق؛ ويقال : { جَعَل القمر فِيهِنَّ نُوراً } يعني : في جميع السموات ، لأن إحداهن مضيء لأهل السموات وظهره لأهل الأرض؛ ويقال : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } يعني : معهن نوراً .
ثم قال عز وجل : { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً } يعني : خلقكم في الأرض خلقاً . ويقال : يعني : خلقكم من الأرض وهو آدم عليه السلام وأنتم من ذريته . { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } يعني : بعد الموت . { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } يعني : يخرجكم من الأرض يوم القيامة قوله تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمُ الارض بِسَاطاً } يعني : فراشاً ، { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا } يعني : فتمضوا فيها وتأخذوا فيها { سُبُلاً فِجَاجاً } يعني : طرقاً بين الجبال والرمال؛ ويقال : طرقاً واسعة .
قوله تعالى : { قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } فيما أمرتهم من توحيد الله تعالى ، { واتبعوا } يعني : أطاعوا { مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ } يعني : أطاعوا من لم يزده ماله يعني : كثرة أمواله { وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي : خسراناً في الآخرة . { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } يعني : مكراً عظيماً؛ ويقال : مكروا مكراً كبيراً يعني : قالوا كلمة الشرك . والكبير والكبار بمعنى واحد . { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ } يعني : قال بعضهم لبعض : ويقال : قال الرؤساء للسفلة : لا تذرن ، يعني : لا تتركوا عبادة آلهتكم . { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، فهذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها يعني : لا تتركوا عبادة هذه الأصنام قرأ نافع { وُدّاً } بضم الواو ، والباقون بالنصب ، ومعناهما واحد . وهو اسم الصنم ، وقال قتادة : هذه الآلهة كان يعبدها قوم نوح ، ثم عبدها العرب بعد ذلك . وقال القتبي { الود } صنم ، ومنه كانت العرب تسمى «عبد ود» ، وكذلك تسمي «عبد يغوث» .
ثم قال : { وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } يعني : هذه الأصنام أضلوا كثيراً من الناس ، يعني : ضلوا بهن كثيراً من الناس ، كقوله : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ } كثيراً من الناس . ثم قال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً } يعني : خساراً وغبناً .
ثم قال عز وجل : { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } يعني : بشركهم بالله تعالى أُغرقوا في الدنيا . { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } في الآخرة . قال مقاتل : { بِمَا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } بخطياتهم؛ وقال القتبي : ( بما خطياتهم أغرقوا ) يعني : من خطيئاتهم أغرقوا ، والميم زيادة . ثم قال : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً } يعني : أعواناً يمنعونهم من العذاب .

قرأ أبو عمرو { خطاياهم } ، والباقون { خطيئاتهم } ومعناهما واحد ، وهو جمع خطيئة .
قوله تعالى : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } يعني : لا تدع على ظهر الأرض من الكافرين دياراً ، يعني : أحداً منهم؛ ويقال : أصله من الدار يعني : نازلاً بها ، ويقال : في الدار أحد وما بها ديار؛ وأصله ديوار ، فقلبت الواو ياء ثم شددت وأدغمت الياء في الياء . ثم قال عز وجل : { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } يعني : إنك إن تتركهم ولم تهلكهم ، يدعوا الموحدين إلى الكفر . { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } يعني : يكون منهم الأولاد ، يكفرون ويفجرون بعد البلوغ؛ ويقال : يعني : ولا يلدوا إلا أن يكونوا فجاراً كفاراً . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ » .
ثم قال عز وجل : { رَّبّ اغفر لِى ولوالدى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً } يعني : سفينتي وديني . وقال الكلبي : { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً } يعني : مسجدي . { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } يعني : لا تزد الكافرين إلا هلاكاً ، كقوله : { عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } . وروى عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا قرأ القرآن في الليل ، فمر بآية فيقول لي : يا عكرمة ذكرني عند هذه الآية غداً . فقرأ ذات ليلة هذه الآية ، فقال : يا عكرمة ، ذكرني غداً . فذكرته ذلك ، فقال : إن نوحاً دعا بهلاك الكافرين ، ودعا للمؤمنين بالمغفرة ، وقد استجيب دعاؤه في المؤمنين ، فيغفر الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات بدعائه ، وبهلاك الكافرين فأهلكوا . وروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نَجَاةُ المُؤْمِنِينَ فِي ثَلاَثَةِ أشْيَاءٍ : بِدُعَاءِ نُوْحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَبِدُعَاءِ إِسْحَاقَ عليه السلام وَبِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم » يعني : للمؤمنين والله أعلم .

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)

قوله تعالى { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ } يعني : قل يا محمد أوحى الله إلي ، وأخبرني الله تعالى في القرآن . { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } ، وهم تسعة من أهل نصيبين ، من أهل اليمن ، من أشرافهم . والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي : بين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فقالوا : ما هذا إلا لشيء حدث؛ فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر ، فاستمعوا منه ، فقالوا : هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرشد } ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن } يعني : طائفة وجماعة من الجن ، فقالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا } يعني : قالوا بعدما رجعوا إلى قومهم : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ } يعني : عزيزاً شريفاً كريماً ، ويقال : عزيزاً لا يوجد مثله . { يَهْدِى إِلَى الرشد } يعني : يدعو إلى الهدى ، وهو الإسلام . ويقال : إلى الصواب ، والتوحيد ، والأمر والنهي . ويقال : يدل على الحق . { يَهْدِى إِلَى } يعني : صدقنا بالقرآن . ويقال : آمنا بالله تعالى . { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } يعني : إبليس ، يعني : لن نشرك بعبادته أحداً من خلقه .
ثم قال عز وجل : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } أي : ارتفع عظمة ربنا؛ ويقال : ارتفع ذكره ، ويقال : ارتفع ملكه وسلطانه . { مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً } يعني : لم يتخذ زوجة ولا ولداً ، كما زعم الكفار . واتفق القراء في قوله : { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ } على نصب الألف ، لأن معناه قل : أوحي إلي بأنه استمع . واتفقوا في قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } على الكسر ، لأنه على معنى الابتداء . واختلفوا فيما سوى ذلك . قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله : { أَنَّهُ استمع } ، إلا في حرفين أحدهما { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } بالكسر ، والأخرى قوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } بالكسر على معنى الابتداء . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير كلها بالكسر ، إلا في أربعة أحرف : { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع } ، { وَإِنَّ لُوطاً استقاموا } ، { وَأَنَّ المساجد } ، { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } . قرأ عاصم في رواية أبي بكر ، ونافع في إحدى الروايتين هكذا ، إلا في قوله وأنه لما قام عبد الله وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف ، بناء على قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } وقال أبو عبيد : ما كان من قول الجن ، فهو كسر ، ومعناه وقالوا : إنه تعالى وقالوا : { إِنَّهُ كَان يِقُولُ } وما كان محمولاً على قوله أوحى فهو نصب على معنى أوحي إلي أنه ثم قال : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } يعني : جاهلنا يعني : إبليس لعنه الله ويقال : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } يعني : كفرة الجن . { عَلَى الله شَطَطاً } يعني : كذباً وجوراً من المقال .

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

ثم قال عز وجل : { وَأَنَّا ظَنَنَّا } يعني : حسبنا { أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } يعني نتوهم أن أحداً لا يكذب على الله ، وإلى هاهنا حكاية كلام الجن .
يقول الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس } يعني : في الجاهلية { يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } ، وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض ، كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي ، فيكون في أمانهم تلك الليلة . { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } يعني : زادوا للجن عظمة وتكبروا ، ويقولون : بلغ من سُؤُدُدنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } يعني : كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة ، { أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } يعني : بعد الموت ، يعني : إنهم كانوا غير مؤمنين ، كما أنكم لا تؤمنون . ويقال : إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً يعني : رسولاً . فقد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم .
ثم رجع إلى كلام الجن ، فقال : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء } يعني : صعدنا وأتينا السماء لاستراق السمع . { فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } يعني : حفاظاً أقوياء من الملائكة . { وَشُهُباً } يعني : رُمينا نجماً متوقداً . { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ } يعني : كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة ، ما يقولون فيما بينهم من الكوائن . { فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني : نجماً مضيئاً . والرصد : الذي أرصد للرجم يعني : النجم . وروى عبد الرزاق ، عن معمر قال : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم . قلت : أفرأيت قوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } قال : غلظ وشدد أمرها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم . قال الجن بعضهم لبعض : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الارض } ؟ يعني : يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } ؟ يعني : خيراً وصواباً ، فيؤمنوا ويهتدوا . ويقال : لا ندري أخيراً أريد بأهل الأرض أو الشرحين حرست السماء ، ورُمينا بالنجوم ، وَمُنعنا السمع؟ ويقال : أريد عذاباً بمن في الأرض ، بإرسال الرسول بالتكذيب له ، أو أراد بهم ربهم خيراً ببيان الرسول لهم هدى وبياناً .
ثم قال عز وجل : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } يعني : الموحدين والمسلمين . { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } يعني : ليسوا بموحدين . { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } يعني : فينا أهواء مختلفة وملل شتى . وقال القتبي : يعني : فرقاً مختلفة ، وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير ، والطرائق : جمع الطريق . قوله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّا } يعني : علمنا وأيقنا { أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِى الارض } يعني : لا يفوت أحد من الله تعالى . { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } ، لا يقدر الهرب منه .
قال الله عز وجل : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } يعني : القرآن يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم ، { بِهِ إِنَّهُ } يعني : صدقنا بالقرآن؛ ويقال : بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ ويقال : صدقنا بالله تعالى { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ } قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى ، { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } يعني : نقصاناً من ثواب عمله ، { وَلاَ رَهَقاً } يعني : ذهاب عمله .

وهذا كقوله تعالى { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } . { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] ويقال : هذا كلام الجن بعضهم لبعض ، { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } . والرهق : الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره . والبخس النقصان من ثواب عمله .
قوله تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } يعني : المصدقين بوحدانية الله تعالى ، { وَمِنَّا القاسطون } يعني : العادلين عن طريق الهدى؛ ويقال : { القاسطون } يعني : الجائرين . يقال : قسط الرجل ، إذا جار . وأقسط ، إذا عدل . كقوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } . ثم قال : { فَمَنْ أَسْلَمَ } يعني : أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص بالتوحيد له ، { فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } يعني : نوراً وتمنوا وقصدوا ثواباً .
ثم قال عز وجل : { وَأَمَّا القاسطون } يعني : العادلين عن الطريق ، الجائرين ، { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } يعني : وقوداً قال الله تعالى : { وَإِنَّ لُوطاً *** استقاموا عَلَى الطريقة } . قال مقاتل : لو استقاموا على طريقة الهدى ، يعني : أهل مكة ، { لاسقيناهم مَّاء غَدَقاً } يعني : كثيراً من السماء ، كقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السمآء والارض ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 96 ] ثم قال عز وجل : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } يعني : لنبتليهم به ، كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] الآية . وقال قتادة : { وَإِنَّ لُوطاً *** استقاموا عَلَى الطريقة } ، يعني : آمنوا لوسّع الله عليهم الرزق؛ وقال القتبي : هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم ، كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس } ثم قال : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ } يعني : توحيد ربه؛ ويقال : يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } يعني : يكلفه الصعود على جبل أملس . وقال مقاتل : { عَذَاباً صَعَداً } أي : شدة العذاب . وقال القتبي : يعني : شاقاً؛ وقال قتادة : صعوداً من عذاب الله تعالى ، لا راحة فيه .

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

ثم قال عز وجل : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } . قال الحسن : يعني : الصلاة لله تعالى؛ وقال قتادة : كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم ، ويشركون بالله تعالى . فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد . وقال القتبي : قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } يعني : السجود لله . ويقال : هي المساجد بعينها يعني : بنيت المساجد ، ليعبدوا الله تعالى فيها . { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } يعني : لا تعبدوا أحداً غير الله تعالى . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم { يَسْلُكْهُ } بالياء ، والباقون بالنون ، وكلاهما يرجع إلى معنى واحد . يقال : سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته ، إذا أدخلته .
قوله عز وجل : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة . { يَدْعُوهُ } يعني : يصلي لله تعالى ، ويقرأ كتابه . { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } يعني : يركب بعضهم بعضاً ، ويقع بعضهم على بعض . ثم قال عز وجل : { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى } . قرأ حمزة ، وعاصم : { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى } على معنى الأمر ، يعني : قل يا محمد إنما أدعو ربي ، يعني : أعبده . { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } . قرأ الباقون على معنى الخبر عنهم . قرأ ابن عامر في رواية هشام { عَلَيْهِ لِبَداً } بضم اللام ، والباقون بكسرها ومعناهما واحد . وقال القتبي : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أي : يتلبدون به رغبة في استماع القرآن . يقال : لبدت به ، أي : لصقت به ، ومعناه : كادوا أن يلصقوا به .
قوله تعالى : { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } يعني : لا أقدر لكم خذلاناً ولا هداية . قوله تعالى : { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ } يعني : لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته ، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } يعني : ملجأ ولا مفراً . { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله ورسالاته } يعني : فذلك الذي يجيرني من عذاب الله؛ ويقال في الآية تقديم ، ومعناه قل : لا أملك لكم ضراً إلا أن أبلغكم رسالات ربي ، يعني : ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية ، إلا بتبليغ الرسالة .
{ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في التوحيد ، ولم يؤمن به ، { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً } أي : مقيمين في النار أبداً ، يعني : دائماً . وقد تم الكلام . ثم قال عز وجل : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب يعني : لما رأوا العذاب ، ويقال : معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة ، { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ نَاصِراً } يعني : مانعاً من العذاب . { وَأَقَلُّ عَدَداً } يعني : رجالاً .
فقالوا : متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد؟ فنزل : { قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } يعني : ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب ، { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً } ؟ يعني : أجلاً ينتهي إليه .

قوله تعالى : { عالم الغيب } يعني : هو عالم الغيب ، { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } يعني : هو الذي يعلم وقت نزول العذاب ، ولا يطلع على غيبه أحداً من خلقه . قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } يعني : إلا من اختار لرسالته ، فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب ، ليكون دلالة لنبوته . { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } يعني : من الملائكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه ، ليحفظوه من الشياطين { لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ } يعني : ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله؛ وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم ، لما يستمعوا حين يقرأ جبريل ، ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول ، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق ، ولا يكون للأنبياء دلالة ، ثم لا يقبل قولهم .
وروى أسباط ، عن السدي في قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } إذا بعث إليه تعالى نبياً ، جعل معه حفظة من الملائكة . فإذا جاء الوحي من الله تعالى ، قالت الملائكة : هذا من الله . فإذا جاءه الشيطان ، قالت الحفظة : هذا من الشيطان .
{ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ } يعني : ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا الرسالة لأنهم تمازحوا من استراق السمع . وقال سعيد بن جبير : لم يجيء جبريل قط بالقرآن ، إلا ومعه أربعة من الحفظة . ثم قال عز وجل : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } يعني : الله تعالى عالم بما عند الأنبياء؛ ويقال : عالم بهم . { وأحصى كُلَّ شَىْء عَدَداً } يعني : عدد الملائكة ، وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك؛ والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

قوله تعالى : { عَدَداً يأَيُّهَا المزمل } يعني الملتف في ثيابه وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في الثياب وكل من التف بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في التاء وشددت الزاي فقيل مزمل يعني النبي صلى الله عليه وسلم { قُمِ اليل } يعني قم الليل للصلاة { إِلاَّ قَلِيلاً } من الليل { نّصْفَهُ } يعني قم نصفه فاكتفى بذكر الفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } يعني أو انقص من النصف قليلاً { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } يعني : زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى الثلثين ثم قال : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } يعني : توسل فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة ، وقال مقاتل هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس ، وقال الضحاك : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } قال : اقرأه حرفاً حرفاً وقال مجاهد : أحب الناس إلى الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه قوله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } يعني : سننزل عليك القرآن بالأمر والنهي يعني : يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل ، وقال قتادة في قوله : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال : يثقل الله فرائضه وحدوده . ويقال : يعني : قيام الليل ثقيل على المجرمين ، ويقال : ثقيل على من خالفه ، ويقال : ثقيل في الميزان خفيف على اللسان ، ويقال : نزوله ثقيل كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت حرائها وما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه أي : يذهب عنه ثم قال : { إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ } يعني : ساعات الليل أشد موافقة للقراءة وأسمع ، ويقال هي أشد نشاطاً من النهار إذا كان الرجل محتسباً ، ويقال : هي أوفى لقلوبهم { وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } وأبين وأصوب وأثبت قراءة ، وقال القتبي : ناشئة الليل يعني : ساعاته وهي مأخوذة من نشأت أي : ابتداء شيئاً بعد شيء فكأنه قال : إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله تعالى : { أَشَدَّ } يعني : أثقل على المصلي من ساعات النهار فأخبر أن الثواب على قدر الشدة وأقوم قيلاً يعني : أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر أشد وطأ بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد فمن قرأ بالكسر يعني : أشد وطأ أي : موافقة لقلة السمع يعني : أن القرآن في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم يعني : أبلغ في القيام وأبين في القول .

ويقال : أغلظ على اللسان . قوله تعالى : { قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } يعني : فراغاً طويلاً بقضاء حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل ، وقال القتبي : سبحاً أي : تصرفاً إقبالاً وإدباراً بحوائجك وأشغالك قوله عز وجل : { واذكر اسم رَبّكَ } يعني اذكر توحيد ربك ويقال : فاذكر ربك . ويقال : صل لربك { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } يعني : أخلص إليه إخلاصاً في دعائك بعبادتك وهو قول مجاهد وقتادة ويقال : وتبتل إليه تبتيلاً يعني : انقطع إليه وأصل التبتل القطع قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة .

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

ثم قال عز وجل : { رَّبُّ المشرق والمغرب } قرأ حمزة وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر رب المشرق بالكسر والباقون رب بالضم فمن قرأ بالكسر وتبعه قوله واذكر اسم ربك رب المشرق والمغرب ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال : معناه : هو رب المشرق والمغرب . ثم قال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وقد ذكرناه { فاتخذه وَكِيلاً } يعني : ولياً وحافظاً وناصراً وكفيلاً ثم قال عز وجل : { واصبر على مَا يَقُولُونَ } يعني : على ما يقولون من التكذيب والإذاء { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } يعني : اعتزلهم اعتزالاً حصناً بلا جزع ولا فحش ثم قال : { وَذَرْنِى والمكذبين } هذا كلام على ما جرت به عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن معناه : فوض أمورهم إليَّ يعني : أمور المكذبين { أُوْلِى النعمة } يعني ذا المال والغنى { وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً } يعني : أجلهم يسيراً لأن الدنيا كلها قليل يعني : إلى يوم القيامة ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل : { إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً } يعني : قيوداً في الآخرة ، ويقال : عقوبة من ألوان العذاب { وَجَحِيماً } ما عظم من النار { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } يعني : ذا شوك مستمسك في الحلق لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم قول الله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الارض } يوم تتحرك وتتزلزل صار اليوم منصوباً لنزع الخافض يعني : هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض { والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } يعني : صارت الجبال رملاً سائلاً وهو كقوله : فكانت هباءً منبثاً ثم قال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ الرسالة { كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } يعني : موسى بن عمران { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } يعني : كذبه ولم يقبل قوله : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } يعني : عاقبناه عقوبة شديدة وهو الغرق فهذا تهديد لهم يعني : إنكم إن كذبتموه فهو قادر على عقوبتكم قوله عز وجل : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ } يعني : توجدون في الآخرة إن كفرتم في الدنيا ، ويقال فيه تقديم ومعناه : إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون وتنجون . { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } يعني : يوم القيامة من هيبته يشيب الصبيان وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه من الهيبة ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ثم قال عز وجل : { السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } يعني : انشقت السماء من هيبة الرحمن { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } يعني : كائناً في البعث ثم قال : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } يعني : هذه الصورة موعظة { فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } يعني : من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعاً فليفعل وقال أهل اللغة في قوله : السماء منفطر به ولم يقل منفطرة به فالتذكير على وجهين : أحدهما : أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله

{ وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] ، والثاني : أن معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي : ذات رضاع على وجه النسب . ويقال : قوله السماء منفطر به يعني : فيه شيء في يوم القيامة ، ويقال : يعني : بالله تعالى يعني : من هيبته قوله تعالى : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } يعني : إن هذه الآيات التي ذكرت موعظة بليغة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يعني : من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر الحجج والدلائل .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

ثم قال عز وجل : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وعاصم ونصفه وثلثه كلاهما بالنصب والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى كما قال : أدنى من ثلثي الليل وكان نصفه وثلثه تفسير لذلك الأدنى ومن قرأ بالكسر فمعناه : أدنى من نصفه وثلثه وقال الحسن لما نزل قوله { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } فكان قيام الليل فريضة فقام بها المؤمنون حولاً فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى رخصة { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى } إلى قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فصار تطوعاً ولا بد من قيام الليل . فذلك قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } { وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ } يعني : وجماعة من المؤمنين معك تقومون نصف الليل وثلثه { والله يُقَدّرُ اليل والنهار } يعني : يعلم ساعات الليل والنهار { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } يعني : أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم على الدوام ويقال : معناه : لن تطيقوا حفظ ساعات الليل { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يعني : تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان } في صلاة الليل ويقال : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان } في جميع الصلوات { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } علم الله تعالى أن منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ } يعني : يسافرون في الأرض { يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله } يعني : في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى وفي الآية دليل أن الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمع مع الجهاد في سبيل الله ، وروى إبراهيم عن علقمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ جَالِبٍ يَجْلِبُ طَعَامَاً مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إلاَّ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الله تَعَالَى مَنْزِلَةَ الشَّهِيدِ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } يعني : من القرآن { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : الصلوات الخمس { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : الزكاة المفروضة { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } يعني : تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال { وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } يعني : ما تعملون من عمل من الأعمال الصالحة يعني : تتصدقون بنية خالصة { تَجِدُوهُ عِندَ الله } يعني : تجدوا ثوابه في الآخرة . { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } يعني : الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثواباً من معاملتكم وتجارتكم في الدنيا ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اتخذ له حيساً يعني : تمراً بلبن فجاءه مسكين فأخذه ، ودفعه إليه فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر : لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى : { وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } ثم قال عز وجل : { واستغفروا الله } يعني : اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع إلى الله تعالى { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : لمن تاب رحيماً بعد التوبة والله أعلم بالصواب .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

قوله تعالى : { يأَيُّهَا المدثر } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت التاء في الدال وشددت وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في حديثه : « فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا المَلِكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحراء جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيَ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ فَخَشَيْتُ فَرَجِعْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَرُونِي فَنَزَلَ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ » { قُمْ فَأَنذِرْ } يعني : فخوف قومك وادعهم إلى التوحيد ويقال : { قُمْ فَأَنذِرْ } يعني : قم فصلِّ لله ويقال : { قُمْ فَأَنذِرْ } يعني : خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني : ادعهم من الكفر إلى الإيمان ثم قال عز وجل : { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } يعني : فعظمه عما يقولون فيه عبدة الأوثان . ويقال : فكبر يعني : فكبر للصلاة ثم قال : { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } يعني : طهر قلبك بالتوبة عن الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال مقاتل : يعني : قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب دنس الثياب وقال الفراء : يعني : ثيابك فقصر . وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلاً لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال : يعني : لا تقصر فتكون غادراً دنس الثياب وقال مجاهد : وثيابك فطهر يعني : نفسك فطهر ويقال : عملك فأخلص ويقال : ظنك فحسن ثم قال : { والرجز فاهجر } يعني : المأثم فاترك ويقال : الرجز فاهجر يعني : ارفض عبادة الأوثان قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الزاء والباقون بكسر الزاء ومعناهما واحد وهم الأوثان يعني : فارفض عبادة الأوثان ويقال : الرجز العذاب كقوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ البقرة : 59 ] ومعناه كل شيء يحرك إلى عذاب الله تعالى فاتركه ثم قال عز وجل : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } يعني : لا تعط شيئاً قليلاً تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا وقال الحسن ولا تمنن تستكثر يعني : ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره وقال مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا وقال الضحاك لا تعط ولتعطى أكثر منه قوله تعالى : { وَلِرَبّكَ فاصبر } يعني : اصبر على أمر ربك قال إبراهيم النخعي : اصبر لعظمة ربك وقال مقاتل : ولربك فاصبر يعني : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم ويقال : فاصبر نفسك في عبادة ربك { فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور } يعني : اصبر فعن قريب ينفخ في الصور . { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِير عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } يعني : شديداً على الكافرين غير يسير يعني : غير هين وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هيناً وهذا كقوله تعالى : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } [ الفرقان : 26 ] لأن الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه .

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

ثم قال : { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } يعني : اترك هذا الذي خلقته وحيداً وفوض أمره إليَّ وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله تعالى وحيداً بغير مال ولا ولد { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } يعني : ورزقته مالاً كثيراً قال مجاهد كان له مائة ألف دينار وكان بنوه عشرة وقال بعضهم : كان ماله أربعة آلاف درهم ثم قال عز وجل : { وَبَنِينَ شُهُوداً } يعني : حضوراً لا يغيبون عنه في التجارة ولا غيرهم وقال بعضهم : ذرني ومن خلقت وحيداً يعني : إنه لم يكن من قريش وكان ملصقاً بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه بعد ما أتت ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم : 13 ] { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } يعني : غير منقطع عنه وبنين شهوداً لا يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين وهذا قول الكلبي وغيره وقال مقاتل : سبع بنين { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } يعني : بسطت له في المال والخير بسطاً ويقال : أمهلت له إمهالاً { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } يعني : يطمع أن أزيد ماله وولده . وذلك أنه تفاخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي : مالاً ممدوداً ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد مالي وبني فنزل ثم يطمع أن أزيد يعني : أن أزيد وهو يعصيني { كَلاَّ } يعني : وهو رد عليه يعني : لا أزيد فما أزداد ماله بعد ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده قوله تعالى : { إِنَّهُ كان لاياتنا عَنِيداً } يعني : مكذباً معرضاً عنها معانداً ثم قال عز وجل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } يعني : يكلف في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس تسمى سقر فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقة فيخرج من جوفه ما كان في جوفه من الأمعاء فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة وقال مجاهد : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } يعني : مشقة من العذاب وقال الزجاج : سأحمله على مشقة من العذاب ويقال : سأكلفه الصعود على عقبة شاقة والصعود والكؤود بمعنى واحد ثم ذكر خبث أفعاله الذي يستوجب به العقوبة فقال : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } يعني : إنه فكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال ساحر يقول الله عز وجل : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } يعني : فلعن كقوله : { قُتِلَ الخراصون } [ الذاريات : 10 ] . { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون وقال بعضهم : إنهم يأتونه ويكلمونه فيجدونه فصيحاً عاقلاً فيكذبونكم فقالوا : نقول شاعر قال بعضهم : هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله : لا يشبه الشعر فيكذبونكم قالوا : نقول كاهن قال بعضهم : إنهم لقوا الكهان وإذا سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم ففكر الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال : فكرت في أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم على أن يقولوا : ساحر فقتل كيف قدر يعني : كيف قدر بمحمد صلى الله عليه وسلم بالسحر ثم قتل يعني لعن مرة أخرى أي : اللعنة على أثر اللعنة كيف قدر هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر { ثُمَّ نَظَرَ } يعني : ثم نظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ عَبَسَ } يعني : عبس وجهه أي : كلح وتغير لون وجهه وقال الزجاج : ثم عبس وجهه { وَبَسَرَ } أي : نظر بكراهة شديدة { ثُمَّ أَدْبَرَ } يعني أعرض عن الإيمان { واستكبر } يعني : تكبر عن الإيمان ثم قال : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } يعني : تأثره من صاحب اليمامة يعني : يرويه عن مسيلمة الكذاب ويقال : معناه : ما هذا الذي يقول : إلا سحر يرويه عن جابر ويسار ويقال عن أهل بابل : { إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر } يعني : ما هذا القرآن إلا قول الآدمي قال الله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } يعني : سأدخله سقر قال مقاتل : يعني : الباب الخامس وقال الكلبي : هو اسم من أسماء النار { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } تعظيماً لأمرها ثم بين قال : { لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } يعني : لا تبقي لحماً إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقاً جديداً ، ويقال : لا تبقي ولا تذر يعني : لا تميت ولا تحيي ، ويقال : لا تبقى اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته ولا تذر لحماً ولا عظماً ولا جلداً أي : تدعه محرقاً بل تجده خلقاً جديداً ثم قال عز وجل : { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } يعني : حراقة للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد ويقال : لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق اسود ثم قال : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } يعني : على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } .

وإنما أراد تسعة عشر ملكاً ومعهم ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم فنزعت عنهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفاً فلما نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله : أنا أكفيكم خمسة وكل ابن لي يكفي واحداً منهم وسائر أهل مكة يكفي أربعة منهم وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأنا أكفيكموهم وحدي أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلون الجنة فنزلت هذه الآية { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إلا مَلَئِكَةٌ } يعني : ما سلطنا أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } يعني : ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر { إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني : بلية لهم { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } وذلك أن أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكاً رئيسهم وثمانية عشر من الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم يقوله : بالوحي { وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا } يعني : تصديقاً وعلماً { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني : يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك { والمؤمنون } أيضاً لا يشكون في ذلك { وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يعني : المنافقين { والكافرون } يعني : المشركين { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } يعني : بذكر خزنة جهنم تسعة عشر يقول الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } يعني : يخذله ولا يؤمن به أمناً له { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } يعني : يوفقه لذلك { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } يعني : من يعلم قوة جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني : الله تعالى ويقال : وما يعلم يعني : لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى : { وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } يعني : الدلائل والحجج في القرآن ويقال : ما هي يعني : القرآن ويقال : وما هي يعني : سقر إلا ذكرى للبشر يعني : عظه للخلق ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر .

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

فقال : { كَلاَّ } رداً عليهم { والقمر } يعني : وخالق القمر { واليل إِذْ أَدْبَرَ } يعني : ذهب أقسم بخالق الليل { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } أقسم بخالق الصبح { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } يعني : سقر إحدى الكبر العظام وباب من أبواب النار قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص والليل إذ بغير ألف أدبر بالألف والباقون إذا بالألف دبر بغير ألف وهما لغتان ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل وأدبر وقال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله { واليل إِذَا أَدْبَرَ } فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل ويقال : الليل إذا أدبر يعني : إذا جاء بعد النهار والصبح . إذا أسفر يعني : استضاء بأنها أي : سقر لإحدى الكبر يعني : أن سقر لأعظم درجات في النار { نَذِيراً لّلْبَشَرِ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً للخلق وإنما صار نعتاً لأنه معناه تم نذيراً للبشر ، ويقال : إن العذاب الذي ذكر نذيراً للبشر قوله تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } يعني : يتقدم في الخير أو يتأخر إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لكم لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِى الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا } [ الكهف : 29 ] ويقال : معناه : لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فليوحد أو يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني : نذيراً لمن شاء . ثم قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } يعني : كل كافر مرتهن بعمله { إِلاَّ أصحاب اليمين } يعني : لكن أصحاب اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني : الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم ويقال : هم الذين عن يمين العرش ، ويقال : كل نفس بما كسبت رهينة عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هم أطفال المسلمين يعني : ليس عليهم حساب لأنهم لم يعملوا شيئاً ثم قال : { فِى جنات يَتَسَاءلُونَ } يعني : إنهم في بساتين يتساءلون { عَنِ المجرمين } يعني : يرون أهل النار يسألونهم { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } يعني : ما الذي أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } يعني : لم نك نقر بالصلاة ولم نؤدها { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } يعني : كنا لا نقر بالفرائض والزكاة ولا نؤديها . { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } يعني : كنا نستهزىء بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد الحق مع المبطلين المستهزئين { وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين } يعني : بيوم الحساب { حتى أتانا اليقين } يعني : الموت والقيامة قوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } يعني : لا يسألهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } فما للمشركين يعرضون عن القرآن والتوحيد { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به قرأ نافع وابن عامر مستنفرة بنصب الفاء والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فمعناه منفرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر ومعناه نافرة ويقال : نفر واستنفر بمعنى واحد ثم قال : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } فقال أبو هريرة رضي الله عنه : يعني : الأسد وقال سعيد بن جبير رضي الله عنهم القناص يعني : الصيادين وقال قتادة : القسورة النبل يعني : الرمي بالسهام وهو حس الناس وأصواتهم ثم قال عز وجل : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ } يعني : أهل مكة { أَن يؤتى صُحُفاً } وذلك أن كفار مكة قالوا إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنباً يصبح وذنبه وكفارته مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولاً فنزل { قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } يعني : صحفاً مكتوب فيها جرمه وتوبته ويقال : نزلت في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال : لن نؤمن حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قال الله تعالى : { كَلاَّ } يعني : هذا لا يكون لهم أبداً ثم ابتداء فقال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ الاخرة } يعني : البعث يعني : لكن لا يخافون عذاب الآخرة { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } يعني : حقاً إن القرآن عظة للخلق { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } يعني : من شاء أن يتعظ به فليتعظ { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء } يعني : إلا أن يشاء { الله } لهم ، ويقال إلا أن يشاء الله منهم قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ثم قال عز وجل : { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } يعني : هو أهل أن يتقي ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى وأهل المغفرة يعني هو أهل أن يغفر لمن أطاعه ولا يشرك ويقال : هو أهل أن يتقى وأهل المغفرة لمن اتقى والله الموفق .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)

قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } أجمع أهل التفسير أن معناه أقسم ، واختلفوا في تفسير لا . قال بعضهم : والكلام زيادة للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة لا ، كما في آية أخرى . قال : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] يعني : أن تسجد . وقال بعضهم : لا رد لكلامهم ، حيث أنكروا البعث . فقال : ليس الأمر كما ذكر . ثم قال : { أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } ويقال : معناه أقسم برب يوم القيامة إنها كائنة . { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } يعني : أقسم بخالق النفس اللوامة ، وهي نفس ابن آدم ، يلوم نفسه . كما روي عن ابن عباس ، وعن عمر رضي الله عنهم : ما من نفس برة وفاجرة ، إلا تلوم نفسها ، إن كانت محسنة تقول : يا ليتني زدت إحساناً ، وإن كانت سيئة تقول : يا ليتني تركت . ولم يذكر جواب القسم ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، وهو قوله { بلى قادرين } ومعناه : ولا أقسم بالنفس اللوامة ، لتبعثن بعد الموت .
ثم قال عز وجل : { أَيَحْسَبُ الإنسان } يعني : أيظن الكافر { أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } يعني : أن لن يبعث الله بعد الموت . نزلت في أبي بن خلف ، ويقال : في عدي بن الربيعة ، لإنكار البعث بعد الموت . يقول الله تعالى : { بلى قادرين } يعني : إن الله تعالى قادر { على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } يعني : يجعل أصابعه ملتزقة ، وألحق الراحة بالأنامل . وهذا قول ابن عباس . وقال القتبي : فكأنه يقول : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة ، بلى قادرين على أن نسوي بنانه ، يعني : أن نجمع ما صغر منه ، ونؤلف بينه . أي : نعيد السلاميات على صغرها ، ومن قدر على جمع هذا ، فهو على جمع كبار العظام أقدر . وقال مجاهد : على أن نسوي خفه كخف البعير ، لا يعمل به شيئاً . وقال سعيد بن جبير يعني : كنف البعير ، أو كحافر الدابة والحمر ، لأنه ليس من دابة ، إلا وهي تأكل بفمها غير الإنسان .
قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يعني : يقدم ذنوبه ، ويؤخر توبته ويقول : سوف أتوب ، ولا يترك الذنوب ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه . وقال عكرمة : { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يعني : يريد الذنوب في المستقبل . وقال القتبي : بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، فقد كثرت فيه التفاسير . وقال سعيد بن جبير سوف أتوب ، وقال الكلبي : يكثر الذنوب ، ويؤخر التوبة . وقال آخرون : يتمنى الخطيئة ، وفيه قول آخر على طريق الإنكار ، بأن يكون الفجور بمعنى : التكذيب بيوم القيامة ، ومن كذب بالحق ، فقد فجر ، وأصل الفجور : الميل . فقيل : للكاذب والمكذب والفاسق فاجر ، لأنه مال عن الحق .

يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)

قوله تعالى : { يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } يعني : يسأل متى يوم القيامة ، تكذيباً بالبعث . فكأنه قال : بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة ، وهو أمامه ، وهو يسأل متى يكون . فبين الله تعالى في أي يوم يكون فقال : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } يعني : شخص البصر ، وتحير . قرأ نافع { فَإِذَا بَرِقَ البصر } بنصب الراء ، والباقون بالكسر . فمن قرأ بالنصب ، فهو من برق يبرق بريقاً ، ومعناه : شخص فلا يطرق من شدة الفزع . ومن قرأ بالكسر ، يعني : فزع وتحير . وأصله : أن الرجل إذا رأى البرق تحير ، وإذا رأى من أعاجيب يوم القيامة ، تحير ودهش .
{ وَخَسَفَ القمر } يعني : ذهب ضوؤه { وَجُمِعَ الشمس والقمر } يعني : كالثورين المقرنين . ويقال : برق البصر ، وخسف القمر . قال كوكب العين ذهب ضوؤه . وروى علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه أنه قال : يجعلان في نور الحجاب . ويقال : جمع الشمس والقمر ، يعني : سوى بينهما في ذهاب نورهما ، وإنما قال : وجمع الشمس والقمر ، ولم يقل وجمعت ، لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا ، فالغلبة للمذكر . { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } يقول : أين الملجأ من النار؟ قرىء في الشاذ ، أين المفر بالكسر للفاء ، على معنى : أين مكان الفرار . وقراءة العامة بالنصب ، يعني : أين الفرار .
ثم قال : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } يعني : حقاً لا جبل يلجؤون إليه ، فيمنعهم من النار ، ولا شجر يواريهم . والوزر في كلام العرب ، الجبل الذي يلتجىء إليه ، والوزر والستر هنا ، الشيء الذي يستترون به . وقال عكرمة : ولا وزر . يعني : منعه . وقال الضحاك : يعني : لا حصن لهم يوم القيامة . ثم قال عز وجل : { إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } يعني : المرجع { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } يعني : يسأل ويبين له ، ويجازى بما قدم من الأعمال وأخر ، من سنة صالحة أو سيئة .
قوله عز وجل : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يعني : جوارح العبد شاهدة عليه . ومعناه على الإنسان من نفسه شاهد ، يشهد عليه كل عضو بما فعل . ويقال يعني : جوارح ، العبد شاهدة عليه ، ومعناه رقيب بعضها على بعض . والبصيرة أدخلت فيها الهاء للمبالغة ، كما يقال : رجل علامة . وقال الحسن : على نفسه بصيرة ، يعني : بعيوب غيره ، الجاهل بعيوب نفسه { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } يعني : ولو تكلم بعذر لم يقبل منه . ويقال : ولو أرخى ستوره ، يعني : أنه شاهد على نفسه ، وإن أذنب في الستور .
قوله تعالى : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ } يعني : لا تعجل بقراءة القرآن ، من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا نزل عليه القرآن ، تعجل به للحفظ فنزل : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ } { لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } يعني : حفظه في قلبك { وَقُرْءانَهُ } يعني : يقرأ عليك جبريل ، حتى تحفظه { فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ } يعني : إذا قرأ عليك جبريل فاقرأ أنت بعد قراءته وفراغه وقال محمد بن كعب : فاتبع قراءته ، يعني : فاتبع حلاله وحرامه .

وقال الأخفش : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } يعني : تأليفه { فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ } يعني : تأليفه { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } يعني : بيان أحكامه وحدوده . ويقال : علينا بيانه ، يعني : شرحه . ويقال : بيان فرائضه ، كما بين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم نزل بعد هذه الأحكام ، قوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } يعني : تحبون العمل للدنيا { وَتَذَرُونَ الاخرة } يعني : تتركون العمل للآخرة . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بل يحبون بالياء ، على معنى الخبر عنهم . والباقون بالتاء ، على معنى المخاطبة . ثم بين حال ذلك اليوم فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي : حسنة مشرقة مضيئة ، كما قال في آية أخرى : { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } [ المطففين : 24 ] { وَإِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } يعني : ناظرين يومئذ إلى الله تبارك وتعالى . وقال مجاهد : { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } يعني : تنتظر الثواب من ربها . وهذا القول لا يصح ، لأنه مقيد بالوجوه ، موصول بإلى ، ومثل هذا ، لا يستعمل في الانتظار .
ثم قال عز وجل : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } يعني : عابسة . ويقال : كريهة . ويقال : كاسفة ومسودة { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } يعني : تعلم أنه قد نزل بها العذاب والشدة . يعني : تعلم هذه الأنفس . ويقال : الفاقرة الداهية ، ويقال : قد أيقنت أن العذاب نازل بها . ثم قال عز وجل : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى } يعني : حقاً إذا بلغت النفس إلى الحلقوم . يعني : خروج الروح { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } يعني : يقول من حضر عند الموت ، هل من طبيب حاذق يداويه؟ ويقال : من راق ، يعني : من يشفي من هذا الحال . ويقال : من راق ، يعني : من يقدر أن يرقي من الموت . يعني : لا يقدر أحد أن يرقي من الموت . والعرب تقول : من الرقية ، رقى يرقي رقيةً ، ومن الرقيّ وهو الصعود ، رقي يرقى رقياً ، فهو راق منهما .
{ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } يعني : استيقن أنه ميت ، وأنه يفارق الروح من الجسد . ويقال : وقيل من راق ، أن الملائكة الذين حضروا لقبض روحه يقول : بعضهم لبعض ، من راق يعني من يصعد منا بروحه إلى السماء ، فأيقن عند ذلك أنه الفراق { والتفت الساق بالساق * إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } قال ابن عباس : يعني : التفت شدتان أخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من الآخرة . وروى وكيع ، عن بشير بن المهاجر قال : سمعت الحسن يقول : والتفت الساق بالساق ، قال : هما ساقان إذا التفتا في الكفن ، إلى ربك يومئذٍ المساق يعني : يساق العبد إلى ربه .

فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

ثم قال عز وجل : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } وهو أبو جهل بن هشام ، يعني : لم يصدق بتوحيد الله تعالى ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يصل لله تعالى . ويقال : { وَلاَ صلى } يعني : ولا أسلم . فسمي المسلم مصلياً { ولكن كَذَّبَ وتولى } يعني : كذب بالتوحيد ، وتولى يعني : أعرض عن الإيمان { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } قال القتبي : يعني : وأصله في اللغة يتمطط فقلبت الطاء ياء فصار يتمطى يعني : ذهب إلى أهله يتمطى يعني : ويتبختر في مشيته { أولى لَكَ فأولى } وعيد على أثر وعيد ، يعني : احذر يا أبا جهل . { يتمطى أولى لَكَ } أي : قرب لك يا أبا جهل . وقال سعيد بن جبير : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : أولى لك فأولى { ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } ثم نزل به القرآن . وقال الزجاج : معناه أولى لك يعني : يوجب لك المكروه يا أبا جهل ، والعرب تقول أولى بفلان ، إذا وعد له مكروهاً . وقال القتبي : أولى لك تهديد ووعيد كما قال : فأولى لهم ثم ابتدأ فقال : { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الامر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } [ محمد : 21 ] .
ثم قال : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } يعني : أن يترك مهملاً ، لا يؤمر ولا ينهى { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى } يعني : أليس قد خلق من ماء مهين . قرأ ابن عامر وحفص ، عن عاصم ، من منى يمنى بالهاء ، والباقون بالتاء على معنى التأنيث ، لأن النطفة مؤنثة . ومن قرأ بالياء ، انصرف إلى المعنى وهو الماء { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } يعني : صارت بعد النطفة علقة { فَخَلَقَ فسوى } يعني : جمع خلقه في بطن أمه مستوياً ، معتدل القامة { فَجَعَلَ مِنْهُ } يعني : خلق من المني { الزوجين } يعني : لونين من الخلق { الذكر والانثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التقرير ، يعني : أن هذا الذي يفعل مثل هذا ، هو قادر . على أن يحيي الموتى . وذكر عن ابن عباس ، أنه كان إذا قرأ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } قال : سبحانك اللهم بلى قادر ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)

قوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } يعني : قد أتى على أدم { حِينٌ مّنَ الدهر } يعني : أربعين سنة { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } يعني : لم يدر ما اسمه ، ولا ما يراد به إلا الله تعالى . وذلك أن الله تعالى ، لما أراد أن يخلق آدم ، أمر جبريل عليه السلام ، أن يجمع التراب فلم يقدر . ثم أمر إسرافيل فلم يقدر ، ثم أمر عزرائيل عليهم السلام ، فجمع التراب من وجه الأرض ، فصار التراب طيناً ، ثم صار صلصالاً ، وكان على حاله أربعين سنة ، قبل أن ينفخ فيه الروح . وروى معمر ، عن قتادة قال : كان آدم آخر ما خلق من الخلق ، خلق كل شيء قبل آدم .
ثم قال : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } يعني : مختلطاً ماء الرجل وماء المرأة ، لا يكون الولد إلا منهما جميعاً . ماء الرجل أبيض ثخين ، وماء المرأة أصفر رقيق { نَّبْتَلِيهِ } يعني : لكي نبتليه بالخير والشر { فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً } يعني : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى ، وبصراً يبصر به الهدى . وقال مقاتل : في الآية تقديم ، يعني : جعلناه سميعاً بصيراً ، يعني : جعلنا له سمعاً لنبتليه ، يعني : لنختبره .
قوله عز وجل : { إِنَّا هديناه السبيل } يعني : بينا له ، وعرفناه طريق الخير وطريق الكفر . ويقال : سبيل السعادة والشقاوة { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } يعني : إما أن يكون موحداً ، وإما أن يكون جاحداً لوحدانية الله تعالى . ويقال : إما شاكراً لنعمه ، وإما كفوراً لنعمه . ثم بين ما أعد للكافرين فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين } يعني : في الآخرة { سلاسل وأغلالا } يعني : هيئنا لهم أغلالاً ، تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم { وَسَعِيراً } يعني : وقوداً .
ثم بيّن ما أعد للشاكرين فقال : { إِنَّ الابرار } يعني : الصادقين في إيمانهم { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } يعني : من خمر { كَانَ مِزَاجُهَا كافورا } يعني : على برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها ولكنه وصف بها حتى يهتدى به القلوب أو يقال : الكافور اسم عين في الجنة يمزج بها الخمر { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } يعني : عين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنة { يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً } يعني : يمزجونها تمزيجاً . وقال ابن عباس : { يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً } في قصورهم وديارهم ، وذلك ، أن عين الكافور ، يشرب بها المقروبون صرفاً غير ممزوج ، ولغيرهم ممزوجاً . ويقال : { يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً } يعني : يفجرون تلك العين في الجنة كيف أحبوا ، كما يفجر الرجل النهر الذي يكون له في الدنيا هاهنا ، وهاهنا حيث شاء .
ثم بين أفعالهم في الدنيا فقال : { يُوفُونَ بالنذر } يعني : يتمون الفرائض . ويقال : أوفوا بالنذر { ويخافون يَوْماً } وهو يوم القيامة { كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } يعني : عذابه فاشياً ظاهراً ، وهو أن السموات قد انشقت ، وتناثرت الكواكب ، وفزعت الملائكة ، وفارت المياه ثم قال عز وجل : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ } يعني : على قلته وشهوته وحاجته { مِسْكِيناً } وهو الطائف بالأبواب { وَيَتِيماً وَأَسِيراً } يعني : من أسر من دار الشرك .

ويقال : أهل اليمن . وذكر أن الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب ، وفاطمة رضي الله عنهما وكانا صائمين فجاءهما سائل وكان عندهما قوت يومهما فأعطيا السائل بعض ذلك الطعام ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي فمدحهما الله تعالى لذلك ، ويقال : نزلت في شأن رجل من الأنصار ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } يعني : ينوون بأدائهم ، ويضمرون في قلوبهم وجه الله تعالى . ويقولون : { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً } يعني : لا نريد منكم مكافأة في الدنيا ، ولا ثواب في الآخرة { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } يعني : العبوس الذي تعبس فيه الوجوه ، من هول ذلك اليوم ، والقمطرير الشديد العبوس . ويقال : عبوساً ، أي : يوم يعبس فيه الوجوه ، فجعل عبوساً من صفة اليوم . كما قال : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَىْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ إبراهيم : 18 ] أراد عاصف الريح والقمطرير الشديد . يعني : ينقبض الجبين وما بين الأعين ، من شدة الأهوال . ويقال : قمطريراً نعت ليوم . ويقال : يوم قمطرير ، إذا كان شديداً . يعني : يوماً شديداً صعباً .
ثم قال عز وجل : { فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } يعني : دفع الله عنهم عذاب ذلك اليوم { ولقاهم } يعني : أعطاهم { نَضْرَةَ } حسن الوجوه { وَسُرُوراً } يعني : فرحاً في قلوبهم قوله تعالى : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } يعني : أعطاهم الثواب بما صبروا في الدنيا { جَنَّةً وَحَرِيراً } يعني : لباسهم فيها حرير . ويقال : بما صبروا على الطاعات . ويقال : على المصائب . وقوله عز وجل : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } يعني : ناعمين في الجنة { على الارائك } يعني : على السرر ، وفي الجمال واحدها أريكة { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } يعني : لا يصيبهم فيها حر الشمس { وَلاَ زَمْهَرِيراً } يعني : ولا برد الشتاء .
ثم قال عز وجل : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } يعني : قريبة عليهم ظلال الشجر . { وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } يعني : قربت ثمارها ويقال سخرت قطوفها يعني : مجنى ثمرها تذليلاً يعني : قريباً ينالها القاعد والقائم . وروى بن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أرض الجنة من فضة ، وترابها مسك ، وأصول شجرها ذهب وفضة ، وأغصانها لؤلؤ وزبرجد ، والورق والثمر تحت ذلك ، فمن أكل قائماً لم يؤذه ، ومن أكل جالساً لم يؤذه ، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه . ثم قرأ { وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } وقال أهل اللغة . ذللت أي : أدنيت منهم ، من قولك : حائط ذليل إذا كان قصير السمك . والقطوف والثمرة واحدها قطف ، وهو نحو قوله تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ] .

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

ثم قال عز وجل : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } وهي كيزان مدققة الرأس ، لا عرى لها { كَانَتْ قَوَارِيرَاْمِن فِضَّةٍ } يعني : في صفاء القارورة ، وبياض الفضة . وروي عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا ، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائه ، ولكن قوارير الجنة من فضة في صفاء القوارير ، كبياض الفضة . قرأ نافع ، وعاصم ، والكسائي سلاسلاً وقواريراً ، كلهن بإثبات الألف والتنوين . وقرأ حمزة بإسقاط الألف كلها ، وكان أبو عمرو يثبت الألف في الأولى من قوارير ، ولا يثبتها في الثانية .
قال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان ، رضي الله عنه الذي قال له مصحف الإمام قوارير بالألف ، والثانية كان بالألف ، فحكت ورأيت أثرها بيناً هناك ، وأما السلاسل فرأيتها قد رست . وقال بعض أهل اللغة : الأجود في العربية ، أن لا ينصر فيه سلاسل وقوارير ، لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان أو ثلاثة ، أوسطها ساكن ، فإنه لا ينصرف ، فأما من صرفه ونون ، فإنه رده إلى الأصل في الازدواج إذا وقعت الألف بغير تنوين ثم قال : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } يعني : على قدر كف الخدم ، ويقال : على قدر كف المخدوم ولا يحجز ، ويقال : على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه . ويقال : على مقدار الذي لا يزيد ولا ينقص ليكون الري لشربهم { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً } يعني : خمراً وشراباً { كَانَ مِزَاجُهَا } يعني : خلطها { زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً } وقال القتبي : والزنجبيل اسم العين ، وكذلك السلسبيل ويقال : إن السلسبيل اللبن والزنجبيل طعمه ، والعرب تضرب به المثل . وقال مقاتل : إنما سمي السلسبيل ، لأنها تسيل عليهم في الطريق وفي منازلهم ، وقال أبو صالح : بلغني أن السلسبيل شديد الجرية . وقال بعضهم : معناه { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } عيناً فيها تسمى سلسبيلاً يعني : عيناً تسمى الزنجبيل وتم الكلام ثم قال : سلسبيلاً يعني : سل الله تعالى السبيل إليها .
قوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ } يعني : لا يكبرون ، ويكونون على سن واحدة { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } قال قتادة : كثرتهم وحسنهم ، كاللؤلؤ المنثور { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً } يعني : إذا رأيت هناك ما في الجنة ، رأيت نعيماً { وَمُلْكاً كَبِيراً } يعني : على رؤوسهم التيجان ، كما يكون على رأس ملك من الملوك . ويقال : { وَمُلْكاً كَبِيراً } يعني : لا يدخل رسول رب العزة ، إلا بإذنهم .
ثم قال عز وجل : { عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } يعني : على ظهورهم ثياب سندس . قرأ نافع ، وحمزة بجزم الياء وكسر الهاء . والباقون بنصب الياء وضم الهاء . فمن قرأ بالجزم ، فمعناه الذي يعلوهم ، وهو اسم فاعل ، من علا يعلو .

ومن قرأ بالنصب نصبه على الظرف ، كما قال : فوقهم ثياب . وروي عن ابن مسعود ، أنه قرأ عاليتهم ثياب ، يعني : الوجه الأعلى . ثم قال : ثياب سندس ، خضر بالكسر { وَإِسْتَبْرَقٍ } قرأ نافع ، وعاصم في رواية حفص ، خضر واستبرق كلاهما بالضم . والباقون كلاهما بالكسر ، فمن قرأ بالضم ، لأنه نعت الثياب . يعني : ثياباً خضراً . ومن قرأ بالكسر ، فهو نعت للسندس ، ومن قرأ واستبرق بالضم ، فهو نسق على الثياب . ومعناه : عليهم سندس واستبرق ، ومن قرأ بالكسر ، يكون عليهم ثياب من هذين النوعين .
ثم قال عز وجل : { وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وهو جمع السوار { وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } يعني : الذي سقاهم خدمهم . ويقال : الذين يشربون من قبل أن يدخلوا الجنة . ثم قال : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء } يعني : الذي وصف لكم في الجنة ، ثواباً لأعمالكم { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } يعني : عملكم مقبولاً . يعني : يبشرون بهذا إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة . ثم قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً } يعني : أنزلنا عليك القرآن تنزيلاً ، يعني : إنزالاً فالمصدر للتأكيد .
ثم قال عز وجل : { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } يعني : استقم على أمر الله تعالى ونهيه . ويقال : اصبر على أذى الكفار . وقال : على تبليغ الرسالة { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } آثماً يعني : فاجراً وهو الوليد بن المغيرة ، أو كفوراً يعني : ولا كفوراً ، وهو عتبة بن ربيعة . قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فعلت هذا لأجل المال ، فارجع حتى أدفع إليك من المال ، ما تصير به أكثر مالاً من أهل مكة . فنزلت هذه الآية { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً وَلا كَفُورًا } .
ثم قال عز وجل : { واذكر اسم رَبّكَ } يعني : صلِ باسم ربك { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } يعني : بكرة وعشياً يعني : صلاة الفجر ، وصلاة الظهر والعصر { وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ } يعني : فصلِّ لله المغرب والعشاء { وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } يعني : بعد المكتوبة ، فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . ويقال له ولأصحابه : وهذا أمر استحباب ، لا أمر وجوب . ثم قال عز وجل : { إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة } يعني : يختارون الدنيا { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ } يعني : يتركون العمل لما هو أمامهم { يَوْماً ثَقِيلاً } يعني : ليوم ثقيل وقال مجاهد : وراءهم يعني : خلفهم .
قوله تعالى : { نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } يعني : قوينا خلقهم ليطيعوني ، فلم يطيعوني . ويقال : شددنا مفاصلهم بالعصب ، والعروق والجلد ، لكي لا ينقطع المفاصل وقت تحريكها . ويقال : شددنا أسرهم ، أي : قبلهم ودبرهم ، لكي لا يسيل البول والغائط ، إلا عند الحاجة { وَإِذَا شِئْنَا } يعني : إذا أردنا { بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً } يعني : أي نخلق خلقاً أمثل منهم ، وأطوع لله { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } يعني : هذه السورة عظة لكم . ويقال : هذه الآيات { فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } يعني : فمن شاء أن يتعظ فليتعظ ، فقد بينا له الطريق .

ثم قال عز وجل : { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } يعني : إلا أن يشاء لكم فيوفقكم . يعني : إن جاهدتم فيوفقكم كقوله : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] الآية . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو { وَمَا يَشَآءونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم . والباقون بالتاء على معنى المخاطبة . ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } يعني : كان عليماً قبل خلقكم ، من يتخذ السبيل ، ولم يشرك ويوحد { حَكِيماً } حكم بالبداية لمن كان أهلاً لذلك .
قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } يعني : يكرم بالإسلام من كان أهلاً لذلك . ويقال : يدخل من يشاء في رحمته ، يعني : في نعمته وهي الجنة ، في رحمته وفضله { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني : يدخل الظالمين في عذاب أليم . ويقال : يعذب الظالمين . وقرىء في الشاذ والظالمون ، وقراءة العامة والظالمين بالنصب . ومعناه : ويعذب الظالمين ، ويكون لهم عذاباً أليماً ، تفسيراً لهذا المضمر . والله أعلم .

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

قوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } قال الكلبي ، ومقاتل يعني : الملائكة أرسلوا بالمعروف . ويقال : كثرتها لها عرف كعرف الفرس . وقال أهل اللغة : ويحتمل وجهين ، أحدهما : أنها متتابعة بعضها في إثر بعض ، وهو مشتق من عرف الفرس . ووجه آخر : أنه يرسل بالعرف ، أي : بالمعروف . وروى سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي عبيدة الساعدي قال : سألت عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهما عن قوله : { والمرسلات عُرْفاً } قال : الريح { فالعاصفات عَصْفاً } قال : الريح { والناشرات نَشْراً } قال : الريح { فالفارقات فَرْقاً } قال : حسبك معناه { والمرسلات عُرْفاً } يعني : أرسل الرياح متتابعة كعرف الفرس { فالعاصفات عَصْفاً } يعني : الريح الشديدة التي تدر التراب بالبراري ، وسمي ريح عاصف { والناشرات نَشْراً } يعني : الريح التي تنشر السحاب .
ويقال { والناشرات نَشْراً } يعني : البعث يوم القيامة ، ويقال : الملائكة الذين ينشرون من الكتاب . { فالفارقات فَرْقاً } يعني : القرآن فرق بين الحق والباطل . ويقال : هو القبر فرق بين الدنيا والآخرة . ويقال : آيات القرآن ، التي فيها بيان عقوبة الكفار .
{ فالملقيات ذِكْراً } يعني : فالمنزلات وحياً ، وهم الملائكة { عُذْراً أَوْ نُذْراً } يعني : أنزل الوحي عذراً من الله تعالى من الظلم ، أو نذراً لخلقه من عذابه . قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية حفص ، بضم العين وجزم الذال ، أو نذراً بضم النون وجزم الذال . والباقون بضم الحرفين في كليهما ، فمعناهما إنذار ، وهو جمع نذر يعني : لإنذار . ومن قرأ بالجزم فمعناه كذلك ، وهو للتخفيف ، وإنما نصب عذراً أو نذراً ، لأنهما مفعولاً لهما فمعناه { فالملقيات ذِكْراً } للإعذار والإنذار .
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع } وهو جواب قسم . أقسم الله تعالى بهذه الأشياء ، إن ما توعدون من أمر الساعة والبعث لواقع . يعني : لكائن ولنازل . ثم قال عز وجل : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } يعني : الموعد الذي يوعدون ، في اليوم الذي فيه طمست النجوم ، يعني : ذهب ضوءها { وَإِذَا السماء فُرِجَتْ } يعني : انشقت من خوف الرحمن { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } يعني : قلعت من أصولها ، حتى سويت بالأرض { وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ } يعني : جمعت وروى منصور ، عن إبراهيم { وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ } قال : وعدت . وقال مجاهد أي : أجلت . قرأ أبو عمرو وقتت بغير همزة ، والعرب تقول صلى القوم إحداناً ووحداناً ، ومعناهما واحد ، يعني : يجعل لها وقتاً واحداً . وقيل : جمعت لوقتها .
ثم قال : { لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ } على وجه التعظيم ، يعني : لأي يوم أجلت الرسل ، ليشهدوا على قومهم . ثم بين فقال : { لِيَوْمِ الفصل } يعني : أجلها ليوم الفصل وهو يوم القضاء ، ويقال : يوم الفصل يعني : يوم يفصل بين الحبيب والحبيبة وبين الرجل وأمه وأبيه وأخيه { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } يعني : ما تدري أي يوم القضاء تعظيماً لذلك اليوم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : الشدة من العذاب في ذلك اليوم ، للذين أنكروا ، وجحدوا بيوم القيامة .

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)

ثم قال عز وجل : { أَلَمْ نُهْلِكِ الاولين } يعني : ألم يهلك الله تعالى من كان قبلهم بتكذيبهم لأنبيائهم { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخرين } يعني : نهلك الآخرين يعني : إن كذبوا رسلهم { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } يعني : هكذا يفعل الله بالكفار { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : الذين كذبوا رسلهم ثم قال : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ } يعني : من نطفة ، وهو ماء ضعيف { فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } يعني : في رحم الأم . { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } يعني : إلى وقت معروف ، وهو وقت الخروج من البطن .
{ فَقَدَرْنَا } يعني : فخلقنا { فَنِعْمَ القادرون } يعني : نعم الخالق ، وهو أحسن الخالقين . قرأ نافع ، والكسائي { فَقَدَرْنَا } بتشديد الدال المهملة ، والباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد . يقال : قدرت كذا وكذا ، وقد يعني : خلقه في بطن الأم نطفة ، ثم علقة ثم مضغة . يعني : قدرنا خلقه قصيراً وطويلاً ، فنعم القادرون . يعني : فنعم ما قدر الله تعالى خلقهم ، ثم أخبرهم بصنعه ليعتبروا ، فيؤمنوا بالبعث ، وعرفوا الخلق الأول فقال : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : الشدة من العذاب لمن رأى الخلق الأول ، فأنكر الخلق الثاني . ويقال : فنعم القادرون ، يعني : نعم المقدرون . ويقال : نعم المالكون .
ثم قال عز وجل : { أَلَمْ نَجْعَلِ الارض كِفَاتاً } يعني : أوعية للخلق . ويقال : موضع القرار ، ويقال : بيوتاً ومنزلاً { أَحْيَاء وأمواتا } يعني : ظهرها منازل الأحياء ، وبطنها منازل الأموات . وقال الأخفش : يعني : أوعية للأحياء والأموات . وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم ، وظهرها لأحياءكم . ويقال : يعني نظمكم فيها ، والكفت الضم { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ } يعني : الجبال الثقال : { شامخات } يعني : عاليات طوالاً { وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً } يعني : ماءً عذباً من السماء ، ومن الأرض { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : ويل لمن عاين هذه الأشياء ، وأنكر وحدانية الله تعالى والبعث .
ثم قال عز وجل : { انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } يعني : يوم الفصل . يقال لهؤلاء الذين أنكروا البعث ، انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون ، يعني : انطلقوا إلى العذاب . ثم قال عز وجل : { انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب } وذلك أنه يخرج عنق من النار ، فيحيط الكفار مثل السرادق ، ثم يخرج من دخان جهنم ظل أسود ، فيفرق فيهم ثلاث فرق رؤوسهم ، فإذا فرغ من عرضهم قيل لهم { انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ } ينفعهم { وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب } يعني : السرادق من لهب النار . وقال القتبي : وذلك أن الشمس تدنو من رؤوسهم ، يعني : رؤوس الخلق أجمع ، وليس عليهم يومئذ لباس ، ولا لهم أكنان . ينجي الله تعالى برحمته من يشاء إلى ظل من ظله .
ثم قال للمكذبين : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه ، انطلقوا إلى ظل ، أي : دخان من نار جهنم قد يسطع . ثم افترق ثلاث فرق ، فيكونون فيه ، إلى أن يفرغ من الحساب ، كما يكون أوليائه في ظله . ثم يؤمر لكل فريق إلى مستقره الجنة ، أو إلى النار . ثم وصف الظل فقال { لاَّ ظَلِيلٍ } يعني : لا يظلكم من حر هذا اليوم ، بل يزيدكم من لهب النار ، إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس { وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب } وهذا مثل قوله { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } [ الواقعة : 43 ] وهو الدخان وهو سرادق أهل النار ، كما ذكر المفسرون .

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

ثم قال عز وجل : { إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر } يعني : النار ترمي بشرر القصر . قال الكلبي : يعني : يشبه القصر ، وهو القصور الأعاريب التي على الماء . واحدهما عربة ، وهي الأرحية التي تكون على الماء ، تطحن الحنطة . وقال مقاتل : القصور أصول الشجر العظام . وقال مقاتل : إنها ترمي بشرر كالقصر . أراد القصور من قصور أحياء العرب . وقرأ بعضهم كالقصر بنصب الصاد شبه بأعناق النخل ، ثم شبه في لونه بالجمالات الصفر . فقال : { كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ } وهو أسود . والعرب تسمي السود من الإبل الصفرُ ، لأنه يشوبه صفرة ، كما قال الأعشى
تِلْكَ خَيْلِي وَتِلْكَ منها رِكَابِي ... هُنَّ صَفْرٌ أوْلادُهَا كالزَّبِيبِ
يعني : أسود ، قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : { جمالة صُفْرٌ } وهي جمع جمل يقال : جمل وجمال وجمالة وقرأ الباقون : { جمالات } وهو جمع الجمع وقال ابن عباس رضي الله عنه جمالات حيال السفينة يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون مثل أوساط الرجال { الفصل وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : ويل لمن جحد هذا اليوم بعدما سمعه ثم قال عز وجل : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } يعني : لا يتكلمون وهذا في بعض أحوال يوم القيامة ومواضعها { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } يعني : لا يؤذن لهم في الكلام يعني : الكفار ليعتذروا { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : ويل لمن جحد يوم القيامة وهو يقدر على الكلام في هذا اليوم يعني : كان في الدنيا يقدر على المعذرة فتركها ثم قال عز وجل : { هذا يَوْمُ الفصل } يعني : يوم القضاء ويقال : يوم الفصل يعني : بين أهل الجنة وبين أهل النار { جمعناكم والاولين } يعني : جمعناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع من مضى قبلكم { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } يعني : إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : ويل لمن أنكر قدرة الله والبعث والجمع يوم القيامة ثم قال عز وجل : { إِنَّ المتقين فِى ظلال وَعُيُونٍ } يعني : إن الذين يتقون الشرك والفواحش .
قال الكلبي : في ظلال الأشجار . وقال مقاتل : يعني : في الجنان والقصور يعني : قصور الجنة وعيون يعني : أنهار جارية { وفواكه } يعني : وألوان الفواكه { مّمَّا يَشْتَهُونَ } يعني : يتمنون ويقال لهم : { كُلُواْ } يعني : من الطعام { واشربوا } من الشراب { هَنِيئَاً } يعني : سائغاً مريئاً لا يؤذيهم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : ثواباً لكم بما عملتم في الدنيا { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } يعني : هكذا يثبت الله الموحدين المحسنين المؤمنين في أعمالهم وأفعالهم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : ويل لمن أنكر هذا الثواب ثم قال للمجرمين عز وجل : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً } يعني : كلوا في الدنيا كما تأكل البهائم وعيشوا مدة قليلة إلى منتهى آجالكم { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } يعني : مشركين ، وهذا وعيد وتهديد { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : لمن رضي بالدنيا ولا يقر بالبعث ثم قال عز وجل : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ } يعني : اخضعوا لله تعالى بالتوحيد لا يخضعون ، ويقال : وإذا قيل لهم صلوا وأقروا بالصلاة لا يركعون يعني : لا يقرون بها ولا يصلون .

يعني : ويل طويل لمن لا يقر بالصلاة ولا يؤديها وقال مقاتل : نزلت في ثقيف قالوا : أنحني في الصلاة لأنه مذلة علينا ثم قال عز وجل : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } يعني : إن لم يصدقوا به فبأي كلام يصدقون يعني : إن لم يصدقوا بالقرآن ولم يقروا به فبأي حديث يصدقون يعني : هذا الكلام لا باطل فيه يعني : لا حديث أصدق منه ولا دعوة أبلغ من دعوى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب .

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)

قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث ، جعلوا يتساءلون فيما بينهما ، ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل . فنزل { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } يعني : عماذا يتساءلون . ثم قال : { عَنِ النبإ العظيم } يعني : يتساءلون عن الخبر العظيم ، وهو القرآن كقوله : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ ص : 68 ] ويقال : معناه عن ماذا يتحدثون ، وعن أي شيء يتحدثون . ثم قال : { عَنِ النبإ العظيم } يعني : خبراً عظيماً . وقال الزجاج : أصله { عَمَّا يَتَسَاءلُونَ } ثم بين فقال : { عَنِ النبإ العظيم } يعني : عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : عن القرآن . وقيل { عَنِ النبإ العظيم } يعني : عن البعث والدليل قوله تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا } [ النبأ : 17 ] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون ، وهو البعث .
ثم قال عز وجل : { الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } يعني : مصدقاً ومكذباً . يعني : بالبعث بعضهم مصدق ، وبعضهم مكذب . ويقال : بالقرآن ، ويقال : بمحمد صلى الله عليه وسلم . ثم قال الله تعالى : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني : سيعرفون { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني : سيعرفون ذلك الوعيد ، على أثر الوعيد ، يعني : سيعلمون عند الموت وفي الآخرة ، ويتبين لهم بالمعاينة . قرأ ابن عامر ستعلمون ، بالتاء على وجه المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء ، على معنى الخبر عنهم .

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

ثم ذكر صنعه ، ليستدلوا بصنعه على توحيده . فقال تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الارض مهادا } يعني : فراشاً ومقاماً . ويقال : موضع القرار ، ويقال : معناه ذللنا لهم الأرض ، ليسكنوها ويسيروا فيها . { والجبال أَوْتَاداً } يعني : أوتدها وأثبتها . ثم قال : { وخلقناكم أزواجا } يعني : أصنافاً وأضداداً ، ذكراً وأنثى . ويقال : ألواناً بيضاً ، وسوداً ، وحمراً { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } يعني : راحة لأبدانكم وأصله التمدد ، فلذلك سمي السبت ، لأنه قيل لبني إسرائيل : استريحوا فيه . ويقال : سباتاً يعني : سكوناً وانقطاعاً عن الحركات .
{ وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } يعني : سكوناً يسكنون فيه . ويقال : ستراً يستر كل شيء { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } يعني : مطلباً للمعيشة { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يعني : سبع سموات غلاظاً ، كل سماء مسيرة خمسمائة عام { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } يعني : وقاداً مضيئة { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } يعني : من السحاب ، سمي معصرات لأنها تعصر الماء . ويقال : المعصرات هي الرياح . يعني : ذوات الأعاصير . كقوله : إعصاراً فيه نار .
ثم قال عز وجل : { مَاء ثَجَّاجاً } يعني : سيالاً ويقال : منصباً كبيراً { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } يعني : بالماء حبوباً كثيرة للناس ، ونباتاً للدواب من العشب والكلأ { وجنات أَلْفَافاً } يعني : شجرها ملتفاً بعضها في بعض ، فأعلم الله تعالى قدرته ، أنه قادر على البعث . فقال : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا } يعني : يوم القيامة ميقاتاً ، وميعاداً للأولين والآخرين { يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } يعني : جماعة جماعة . وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يبعث الله تعالى الناس صوراً مختلفة ، بعضهم على صورة الخنزير ، وبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر .
ثم قال عز وجل : { وَفُتِحَتِ السماء } يعني : أبواب السماء { فَكَانَتْ أبوابا } يعني : صارت طرقاً . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم { وَفُتِحَتْ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، وهو لتكثير الفعل ، والتخفيف بفتح مرة واحدة . ثم قال عز وجل : { وَسُيّرَتِ الجبال } يعني : قلعت من أماكنها { فَكَانَتْ سَرَاباً } يعني : فصارت كالسراب ، تسير في الهواء كالسراب في الدنيا { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } أي : رصداً لكل كافر ويقال : سجناً ومحبساً { للطاغين مَئَاباً } أي : للكافرين مرجعاً ، يرجعون إليها .
{ لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } يعني : ماكثين فيها أبداً دائماً . والأحقاب وأحدها حقب ، والحقب ثمانون سنة ، واثنا عشر شهراً ، وكل شهر ثلاثون يوماً ، وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا ، فهذا حقب واحد ، والأحقاب هو التأييد كلما مضى حقب ، دخل حقب آخر . وإنما ذكر أحقاباً ، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم . فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه ، وهو كناية عن التأبيد ، أي : يمكثون فيها أبداً . قرأ حمزة لبثين بغير ألف . والباقون لابثين بالألف ، ومعناهما واحد .

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

ثم قال عز وجل : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } يعني : لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها . وقال القتبي : البرد النوم . وقال الزجاج : يجوز أن يكون البرد نوماً ، ويجوز أن يكون معناه : لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا ظل { وَلاَ شَرَاباً } يعني : شراباً ينفعهم { إِلاَّ حَمِيماً } يعني : ماءً حاراً قد انتهى حره { وَغَسَّاقاً } يعني : زمهريراً . وقال الزجاج : الغساق ما يغسق من جلودهم ، أي : ما يسيل وقد قيل الشديد البرد . قرأ حمزة ، والكسائي وعاصم في رواية حفص ، وغساقاً بالتشديد . والباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد .
ثم قال : { جَزَاء وفاقا } يعني : العقوبة موافقة لأعمالهم ، لأن أعظم الذنوب الشرك نعوذ بالله ، وأعظم العذاب النار ، ووافق الجزاء العمل . ثم قال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } يعني : لا يخافون البعث بعد الموت . ويقال : كانوا لا يرجون ثواب الآخرة ، أنهم كانوا ينكرون البعث . قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً } يعني : جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن كذاباً يعني : تكذيباً وجحوداً . ثم قال : { وَكُلَّ شَىْء أحصيناه كتابا } يعني : أثبتناه في اللوح المحفوظ { فَذُوقُواْ } يعني : يقال لهم : فذوقوا العذاب { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } .
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } يعني : نجاة من النار إلى الجنة . ويقال : المفاز بمعنى الفوز . يعني : موضع النجاة { حَدَائِقَ وأعنابا } يعني : لهم حدائق في الجنة ، والحدائق ما أحيط بالجدار ، وفيه من النخيل والثمار ، وأعناباً يعني : كروماً { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } والكواعب ، الجواري مفلكات الثديين { أَتْرَاباً } مستويات في الميلاد والسن . وقال أهل اللغة : الكواعب النساء ، قد كعب ثديهن { وَكَأْساً دِهَاقاً } كل إناء فيه شراب فهو كأس ، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس ، كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة ، وإذا لم يكن فيها طعام خوان يقال { دِهَاقاً } يعني : سائغاً . وقال الكلبي : { وَكَأْساً دِهَاقاً } يعني : إناء فيه خمر ملآن متتابعاً . وهذا قول عطية وسعيد ، والعباس بن عبد المطلب ، رضي الله عنهم ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي .
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } يعني : حلفاً وباطلاً . ويقال : ولا يسمعون في مشربها فحشاً خبثاً { وَلاَ كِذباً } يعني : تكذيباً في شربها . يعني : لا يكذبون فيها . قرأ الكسائي كذاباً بالتخفيف ، يعني : لا يكذب بعضهم بعضاً . وقرأ الباقون بالتشديد فهو من التكذيب ثم قال : { جَزَاء مّن رَّبّكَ } يعني : ثواباً من ربك { عَطَاء حِسَاباً } يعني : كثيراً وقال مجاهد : عطاء من الله ، حساباً بما عملوا . وقال أهل اللغة : حساباً أي : كثيراً . كما يقال : أعطينا فلاناً عطاء حساباً ، أي : كثيراً . وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي .

وقال الزجاج : حساباً . أي : ما يكفيهم ، يعني : فيه ما يشتهون .
ثم قال : { رَبّ السموات والارض } يعني : خالق السموات والأرض . قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو ، رب السموات والأرض بضم الباء والباقون بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي : جزاء من ربك رب السموات والأرض { وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن } يعني : الرحمن هو رب السموات والأرض { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } يعني : لا يملكون الكلام بالشفاعة ، إلا بإذنه { يَوْمَ يَقُومُ الروح } قال الضحاك : هو جبريل . وقال قتادة عن ابن عباس ، وخلق على صورة بني آدم . ويقال : هو خلق واحد ، يقوم صفاً واحداً { والملائكة صَفّاً } يعني : صفوفاً . ويقال : الروح لا يعلمه إلا الله ، كما قال { وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .
ثم قال عز وجل : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } يعني : لا يتكلمون بالشفاعة ، إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة { وَقَالَ صَوَاباً } يعني : لا إله إلا الله يعني : من كان معه من التوحيد ، وهو من أهل الشفاعة . ثم قال عز وجل : { ذَلِكَ اليوم الحق } يعني : القيامة كائنة { فَمَن شَاء اتخذ } يعني : من شاء وجد واتخذ بذلك التوحيد { ذَلِكَ اليوم الحق } يعني : مرجعاً . ويقال : من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعاً .
ثم خوفهم فقال : { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } يعني : خوفناكم بعذاب قريب ، وهو يوم القيامة . ثم خوف المؤمنين ، ووصف ذلك اليوم { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } يعني : ما عملوا من الخير والشر يعني : ينظر المؤمن إلى عمله ، وينظر الكافر إلى عمله { وَيَقُولُ الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } يعني : لو كنت بهماً منها فأكون تراباً ، أستوي بالأرض . وذلك ، أن الله تعالى يقول للسباع والبهائم ، كوني تراباً فعند ذلك ، يتمنى الكافر { الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } .
وروى عبد الله بن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه قال : إن الله يحشر البهائم والدواب والناس ، ثم يقتص لبعضهم من بعض ، حتى يقتص للشاة . الجماء من الشاة القرناء . ثم إن الله تعالى يقول لها : كوني تراباً ، فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها تراباً . ويقول : { الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } يعني : يا ليتني لم أبعث كقوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } [ الحاقة : 25 ] إلى قوله : { ياليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وآله وسلم .

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

قوله تعالى : { والنازعات غَرْقاً } قال مقاتل يعني : ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره ، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف . فيخرج نفسه من حلقه منها العروق ، كالغريق في الماء { والناشطات نَشْطاً } ملك الموت ، ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه . وقال الكلبي : { والنازعات } يعني : ملك الموت وأعوانه { غَرْقاً } كرهاً . يقال : غرقت نفسه في صدره وذلك ، أنه ليس من كافر يحضره الموت ، إلا عرضت عليه جهنم ، فيراها قبل أن يخرج نفسه ، فيرى فيها أقواماً ، مرة ينغمسون ، ومرة يرتفعون . فعند ذلك ، تغرق روحه في جسده . { والناشطات نَشْطاً } يعني : الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير ، وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت ، إلا ويرى منزلته في الجنة . ويرى فيها أقواماً من أهل معرفته ، وهم يدعون إلى أنفسهم ، فعند ذلك ينشط إلى الخروج . ويقال { النازعات } الملائكة تنزع النفس أغراقاً ، كما يغرق النازع في القوس { غَرْقاً والناشطات } الملائكة تقبض نفس المؤمن ، كما ينشط العقال . وقال عطاء : { والنازعات غَرْقاً } يعني : ألقى { والناشطات نَشْطاً } يعني : الأوهاق .
ثم قال : { والسابحات سَبْحاً } يعني : الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين ، يسلونها سلاً رقيقاً ، ويتركونها حتى تستريح رويداً . ويقال : { والسابحات سَبْحاً } يعني : السفن تجري في الماء . ويقال : { والسابحات سَبْحاً } يعني : الملائكة جعل نزولها في السماء كالسباحة . ويقال : { والسابحات سَبْحاً } يعني : النجوم الدوارة . كما قال : و { وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] ثم قال : { فالسابقات سَبْقاً } يعني : الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء . ويقال : { فالسابقات سَبْقاً } بالخير يعني : أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء ، سراعاً يفتح لها أبواب السماء . ويقال : { فالسابقات سَبْقاً } يعني : خيول الغزاة .
{ فالمدبرات أَمْراً } يعني : الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق ، وهم جبريل وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، عليهم السلام . أما جبريل فعلى الوحي ، وإنزال الرحمة ، والعذاب على الخلائق بأمر الله وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات ، يقسم على البلاد والعباد بإذن الله . وأما عزرائيل ، وهو ملك الموت ، فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى . وإما إسرافيل ، فعلى النفح في الصور متى أمره الله تعالى ، فهذا كله قسم ، وجواب القسم مضمر ، فكأنه أقسم بهذه الأشياء ، أنهم يبعثون يوم القيامة ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، وهو قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } يعني : لتبعثن يوم القيامة في { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } يعني : الصيحة الأولى .
{ تَتْبَعُهَا الرادفة } يعني : الصيحة الثانية ، يعني : النفخة الأولى للصعق ، والنفخة الأخرى للبعث . وروي عن يزيد بن ربيعة ، عن الحسن في قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة } قال : هما النفختان ، فأما الأولى : فيميت الأحياء ، وأما الثانية : فتحيي الموتى .

ثم تلا { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَاء الله } [ الزمر : 68 ] ثم نفخ فيه أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون ، وأصل الرجفة الحركة يعني : تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى ، والرادفة كل شيء تجيء بعد شيء ، فهو يردفه .
ثم قال : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } يعني : خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم . ويقال : يعني : ذليلة . ويقال : زائلة عن مكانها . { أبصارها خاشعة } يعني : أبصار الخلائق ذليلة . ويقال : أبصار القلوب خاشعة . ثم ذكر قول الكفار ، وإنكارهم البعث فقال : { يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة } تعجباً منهم ، وفي الآية تقديم ومعناه : أئنا لمردودون في الحياة بعد الموت . ويقال : أئنا لمردودون في الحافرة ، أي : إلى أول أمرنا . يقال : رجع فلان في حافرته ، وعلى حافرته أي : رجع من حيث جاء .
ثم قال : { أَءذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً } يعني : بعد ما كنا عظاماً بالية . قرأ حمزة ، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { إِذَا كُنَّا عظاما } بالألف ، والباقون بغير ألف . قال بعضهم : معناهما واحد هما لغتان . وقال بعضهم : الناخرة التي أكلت أطرافها ، وبقيت أوساطها ، والنخرة التي قد فسدت كلها . وقال مجاهد : عظاماً نخرة ، أو مرفوتة كما قال في قوله : { كُنَّا عظاما ورفاتا } { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة } يعني : إن كانوا كما يقولون ، فنحن بخسران قوله تعالى : { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } يعني : يبعثهم صيحة واحدة ، وهو نفخ إسرافيل في الصور { فَإِذَا هُم بالساهرة } يعني : على وجه الأرض يعني : هم قيام على ظهر الأرض . ويقال : سميت الأرض ساهرة ، لقيام الخلق ، وسهرهم عليها .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } يعني : قد أتاك خبر موسى { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس } يعني : بالوادي المطهر { طُوًى } اسم الوادي { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } يعني : علا وتكبر وكفر فقال الله تعالى : { فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } يعني : ألم يأن لك أن تسلم . ويقال : معناه هل ترغب في توحيد ربك ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وتزكي نفسك من الكفر ، والشرك . قرأ ابن كثير ، ونافع إلى أن تزكى بتشديد الزاء ، لأن أصله تتزكى ، وأدغمت التاء في الزاء ، وشددت . والباقون بالتخفيف ، لأنه حذف إحدى التائين ، وتركت مخففة .
ثم قال : { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى } يعني : أدعوك إلى توحيد ربك فتخشى . يعني : تخاف عذابه فتسلم { فَأَرَاهُ الاية الكبرى } يعني : العصا ، واليد ، وسائر الآيات . { فَكَذَّبَ وعصى } يعني : كذب الآيات ، ولم يقبل قول موسى عليه السلام { ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى } يعني : أدبر عن التوحيد ، وسعى في هلاك موسى { فَحَشَرَ } يعني : فجمع أهل المدينة { فنادى } يعني : فخاطب { فَقَالَ } لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون ، فإن هؤلاء أربابكم الصغار .
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى * فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الاخرة والاولى } يعني : فعاقبه بعقوبة الدنيا والآخرة ، وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار . ويقال : الآخرة والأولى . يعني : العقوبة بالكلمة الأولى ، والكلمة الأخرى ، فأما الأولى قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } والأخرى قوله : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ * الاعلى } وكان بين الكلمتين أربعون سنة . ويقال : قوله { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ * الاعلى } كان في الابتداء ، حيث أمرهم بعبادة الأصنام ، ثم نهاهم عن ذلك ، وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره . وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : في هلاك فرعون وقومه { لَعِبْرَةً لّمَن يخشى } يعني : لعظة لمن يريد أن يعتبر ، ويسلم .

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

ثم وعظ أهل مكة فقال : { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها } يعني : أبعثكم بعد الموت أشد ، أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس ، خلق السماء أشد . فالذي هو قادر على خلق السماء ، قادر على البعث . ثم قال : { بناها } يعني : خلق السماء مرتفعة { رَفَعَ سَمْكَهَا } أي : سقفها بغير عمد { فَسَوَّاهَا } يعني : سوى خلقها . ويقال : خلقها مستوية ، بلا صدع ولا شق { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } يعني : أظلم ليلها { وَأَخْرَجَ ضحاها } يعني : أنوار ضحاها ، وشمسها ونهارها ، فإنها راجعة إلى السماء .
ثم قال عز وجل : { والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } يعني : بعد خلق الأرض السماء ، وبسط الأرض ومدها { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا } يعني : من الأرض ماءها . يعني : عيونها للناس { ومرعاها } للدواب والأنعام . قال القتبي : هذا من جوامع الكلم ، حيث ذكر شيئين على جميع ما يخرج من الأرض قوتاً ، ومتاعاً للأنعام من العنب ، والشجر ، والحب ، والتمر ، والملح والنار ، لأن النار من العيدان ، والملح من الماء .
ثم قال عز وجل : { والجبال أرساها } يعني : أوتدها وأثبتها { متاعا لَّكُمْ } يعني : منفعة لكم { ولانعامكم فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى } يعني : الصيحة العظمى ، وإنما سميت الطامة ، لأنها طمت وعلت فوق كل شيء { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى } يعني : يعلم بكل شيء عمله في الدنيا . ويقال : يوم ينظر الإنسان في كتابه ، بما عمل في الخير والشر { وَبُرّزَتِ الجحيم } يعني : أظهرت الجحيم { لِمَن يرى } يعني : لمن وجب له { فَأَمَّا مَن طغى } يعني : كفر وعلا وتكبر . { وَءاثَرَ الحياة الدنيا } يعني : اختار ما في الدنيا على الآخرة . ويقال : اختار العمل للدنيا على الآخرة { فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى } يعني : مأوى من كان هكذا .
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } يعني : خاف المقام بين يدي ربه { وَنَهَى النفس عَنِ الهوى } يعني : منع نفسه عن معاصي الله تعالى ، وعمل بخلاف ما تهوى في الحرام { فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى } يعني : مأوى من كان هكذا . قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه أخوف ما أخاف عليكم اثنان : طول الأمل ، واتباع الهوى . فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } يعني : يسألونك عن قيام الساعة { أَيَّانَ مرساها } أي : وقت قيامها . وأصله أي : أوان ظهورها ووقتها . قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } يعني : دع ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله ، ثم قال : { إلى رَبّكَ منتهاها } يعني : عند ربك علم قيامها . وروى سفيان ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها . قالت : لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ، يسأل عن الساعة ، حتى نزل { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبّكَ منتهاها } يعني : عند ربك علم قيامها ، وانتهى عند ذلك .
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } يعني : أنت مخوف بالقرآن ، من يخاف قيام الساعة ، وليس عليك أن تعرف متى وقتها . ثم قال عز وجل : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } يعني : قيام الساعة { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها } يعني : كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية ، وهو قدر آخر النهار ، أو ضحاها وهو قدر أول النهار . ويقال : كأنهم لم يلبثوا في الدنيا ، إلا مقدار العشية ، أو مقدار الضحى . قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } بالتنوين ، والباقون بغير تنوين . فمن قرأ بالتنوين ، جعل من في موضع النصب . يعني : منذر الذي يخشاها . ومن قرأ بغير تنوين ، جعل من في موضع خفض . بالإضافة . والله الموفق بمنه وكرمه ، وصلى الله على سيدنا محمد .

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

قوله تعالى : { عَبَسَ وتولى } أي : كلح وأعرض بوجهه . يعني : النبي صلى الله عليه وسلم وروى هشام بن عروة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ، ومعه عتبة بن ربيعة ، في ناس من وجوه قريش ، وهو يحدثهم بحديث . فجاء ابن أم مكتوم على تلك الحال ، فسأله عن بعض ما ينفع به ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه ، وقال في رواية مقاتل ، كان اسم ابن أم مكتوم عمر بن قيس . وقال في رواية الكلبي ، كان اسمه عبد الله بن شريح . فقال : يا رسول الله ، علمني مما علمك الله تعالى . فأعرض عنه شغلاً بأولئك القوم ، لحرصه على إسلامهم فنزل { عَبَسَ وتولى } . وهو بلفظ المغايبة ، تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم { عَبَسَ } محمد صلى الله عليه وسلم وجهه { وتولى } يعني : وأعرض { أَن جَاءهُ الاعمى } يعني : إن جاءه الأعمى . ويقال : حين جاء الأعمى ، وهو ابن أم مكتوم .
ثم قال : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } يعني : وما يدريك يا محمد ، لعله يصلي أو يفلح ، فيعمل خيراً فيتعظ بالقرآن . ويقال : يعني : يزداد خيراً . { أَوْ يَذَّكَّرُ } يعني : يتعظ بالقرآن { فَتَنفَعَهُ الذكرى } يعني : العظة . ثم قال : { أَمَّا مَنِ استغنى } يعني : استغنى بنفسه عن ثواب الله . ويقال : استغنى بماله ونفسه ، عن دينك وعظمتك { فَأَنتَ لَهُ تصدى } يعني : تقبل بوجهك عليه . ويقال تصدى يعني : تعرض . يقال : فلان تصدى لفلان ، إذا تعرض له ليراه . قرأ عاصم { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } بنصب العين ، جعله جواباً لعله يتذكر فتنفعه الذكرى . وقرأ الباقون بالضم ، جعلوه جواباً للفعل . قرأ نافع ، وابن كثير تصدى بتشديد الصاد ، لأن الأصل تتصدى ، فأدغمت وشددت . والباقون بحذف التاء للتخفيف ، فهذا كقوله { فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } [ النازعات : 18 ] .
ثم قال : { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى } يعني : أي شيء عليك إن لم يوجد عتبة وأصحابه . ويقال : لا يضرك إن لم يؤمن ، ولم يصلح . ثم قال عز وجل : { وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى } يعني : يسرع إلى الخير ، ويعمل به ، وهو ابن أم مكتوم . ويقال : يعني : يمشي برجليه { وَهُوَ يخشى } ربه { فَأَنتَ عَنْهُ تلهى } يعني : تشتغل ، وتتلاهى وتتغافل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكرم ابن أم مكتوم بعد نزول هذه الآية قوله تعالى : { كَلاَّ } يعني : لا تفعل ، ولا تقبل على من استغنى عن الله تعالى بنفسه ، وتعرض عمن يخشى الله تعالى .
ثم قال : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } يعني : هذه الموعظة تذكرة . ويقال : هذه السورة تذكرة ، يعني : موعظة { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } يعني : ذكر المواعظ وذكره يلفظ التذكير ، ولم يقل ذكرها ، لأنه ينصرف إلى المعنى ، لأن الموعظة إنما هي بالقرآن .

يعني : فمن شاء أن يتعظ بالقرآن فليتعظ { فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } يعني : أن هذا القرآن في صحف مكرمة . يعني : مطهرة مبجلة معظمة ، وهو اللوح المحفوظ { مَّرْفُوعَةٍ } يعني : مرتفعة { مُّطَهَّرَةٍ } يعني : منزهة عن التناقض ، والكذب والعيب . { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } يعني : الكتبة الذين يكتبون في اللوح المحفوظ . ثم أثنى على الكتبة فقال : { كِرَامٍ } على الله { بَرَرَةٍ } أي : مطيعين لله تعالى . ويقال : بررة من الذنوب . وقال القتبي : السفرة الكتبة . وأحدهما سافر ، وإنما يقال للكاتب سافر ، لأنه يبين الشيء ويوضحه . ويقال : أسفر الصبح ، إذا أضاء البررة جمع بار ، مثل : كفرة وكافر .

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

ثم قال تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } يعني : لعن الكافر بالله تعالى . يعني : عتبة وأصحابه ، ومن كان مثل حاله إلى يوم القيامة . ما أكفره يعني : ما الذي أكفره ، وهذا قول مقاتل . وقال الكلبي : يعني : أي شيء أكفره . قال نزلت في عتبة حيث قال : إني كفرت بالنجم إذا هوى . ويقال : ما أكفره ، يعني : ما أشده في كفره . ثم قال : { مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ } يعني : هل يعلم من أي شيء خلقه الله تعالى . ويقال : أفلا يعتبر من أي شيء خلقه ، ثم أعلمه ليعتبر في خلقه ، فقال : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } يعني : خلقه في بطن أمه طوراً بعد طور .
{ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } يعني : يسره للخروج من بطن أمه . ويقال : يسره طريق الخير والشر . وقال مجاهد : هو مثل قوله { إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الدهر : 3 ] { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } يعني : جعل له قبراً يوارى فيه . ويقال : أمر به ليعتبر ، ويقال : فأقبره أي : جعله ممن يقبر ، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض ، كالبهائم { ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ } يعني : يبعثه في القبر إذا جاء وقته .
ثم قال : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } يعني : لم يؤد ما أمره من التوحيد ، وما هنا صلة كقوله { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } [ آل عمران : 159 ] . وقال مجاهد : لما يقضي ما أمره ، يعني : لا يقضي أحداً أبداً ، كما افترض عليه . ثم أمرهم بأن يعتبروا بخلقه فقال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } يعني : إلى رزقه ومن أي شيء يرزقه ، وليعتبروا به { أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً } يعني : المطر . قرأ أهل الكوفة أنا صببنا ، بنصب الألف . والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب جعله بدلاً عن الطعام ، يعني : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً } ومن قرأ بالكسر ، فهو على الاستئناف { أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً } يعني : المطر على الأرض المطر بعد المطر .
{ ثُمَّ شَقَقْنَا الارض شَقّاً } يعني : شققناها بالنبات والشجر { فَأَنبَتْنَا فِيهَا } يعني : في الأرض ومعناه : أخرجنا من الأرض { حَبّاً } يعني : الحبوب كلها { وَعِنَباً } يعني : الكروم { وَقَضْباً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : القضبة وهو القت الرطب . وقال القتبي : القضب القت ، سمي قضباً لأنه يقضب مرة بعد مرة ، أي : يقطع . وكذلك الفصيل ، لأنه يفصل أي : يقطع . ويقال : وقضبتا يعني : جميع ما يقضب مثل القت . والكرات ، وسائر البقول التي تقطع ، فينبت من أصله { وَزَيْتُوناً } وهي شجرة الزيتون { وَنَخْلاً } يعني : النخيل { وَحَدَائِقَ غُلْباً } قال عكرمة : غلاظ الرقاب .

ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة ، يقال أغلب . والحدائق واحدها حديقة غلباً أي : نخلاً غلاظاً طوالاً . ويقال : حدائق غلباً يعني : حيطان النخيل والشجر . وقال الكلبي : كل شيء أحبط عليه من نخيل أو شجر ، فهو حديقة ، وما لم يحط به فليس بحديقة . ويقال : الشجر الملتف بعضه في بعض .
ثم قال عز وجل : { وفاكهة } ويعني الثمر كلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ وَرُزِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ فَاسْجُدُوا لله عَلَى سَبْعٍ " وإنما أراد بقوله خلقتم من سبع يعني من نطفة ثم من علقه ، الآية والرزق من سبع وهو قوله : « فأنبتنا فيها حباً وعنباً» إلى قوله : «وفاكهة وأباً» ثم قال : { وَأَبّاً } يعني العنب وقال مجاهد : ما يأكل الدواب والأنعام وقال الضحاك هو التبن . { متاعا لَّكُمْ ولانعامكم } يعني الحبوب والفواكه منفعة لكم والكلأ والعشب منفعة لكم ولأنعامكم .

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

ثم ذكر القيامة فقال : { فَإِذَا جَاءتِ الصاخة } يعني : الصيحة تصخ الأسماع أي تصمها فلا يسمع إلا ما يدعا به ويقال الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة وكذلك الطامة والقارعة والحاقة ثم وصف ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } وفراره أنه يعرض عنه بنفسه وقال شهر بن حوشب يوم يفر المرء من أخيه يعني : هو هابيل يفر من أخيه قابيل { وَأُمّهِ وَأَبِيهِ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم من أمه وأبيه وإبراهيم من أبيه { وصاحبته } يعني : لوط عليه السلام من امرأته { وَبَنِيهِ } يعني : نوح عليه السلام من ابنه ، ويقال هذا في بعض أحوال يوم القيامة أن كل واحد منهم يشتغل بنفسه يعني : فلا ينظر المرء إلى أخيه وإلى أبيه وإلى ابنه ثم قال تعالى : { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } يعني؛ لكل إنسان شغل يشغله عن هؤلاء ، وروي في الخبر أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال : « حُفَاة عُرَاة » فقالت عائشة رضي الله عنها واسوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } يعني : لكل واحد منهم عمل يشغله بنفسه عن غيره ثم قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } يعني : من الوجوه ما يكون في ذلك اليوم مشرقة مضيئة { ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ } يعني : مفرحة بالثواب وهم المؤمنون المطيعون { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } يعني : من الوجوه ما يعلوها السواد كالدخان وأصل الغبرة يعني الغبار ثم قال عز وجل : { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } يعني : تلحقها قترة يعني يغشاها الكسوف والسواد { أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة } يعني : أن أهل هذه الصفة هم الكفرة بالله تعالى الكذبة على الله تعالى ويقال ترهقها قترة يعني المذلة والكآبة والفجرة يعني : الظلمة . والله الموفق بمنه وصلى الله على سيدنا محمد وآله .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

قوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال : حدثنا إبراهيم بن موسى قال : حدثنا هشام عن عبد الله عن يحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرتْ » وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } يعني : ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة يعني : اضمحلت وذهبت ويقال تكور كما تكور العمامة يعني : جُمِع ضوؤها ولُفَّ كما تُلف العمامة قوله تعالى : { وَإِذَا النجوم انكدرت } يعني : تناثرت وتساقطت { وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ } يعني : قُلعت عن الأرض وسُيِّرت في الهواء كقوله : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ الكهف : 47 ] يعني : خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال : { وَإِذَا العشار عُطّلَتْ } يعني : النوق الحوامل عطّلها أربابها اشتغالاً بأنفسهم وواحدها : عشراء وهي الناقة التي أتت على حملها عشرة أشهر وهي في الحمل فلا يعطلها أهلها إلا في يوم القيامة وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل يعني : أن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل عشراء يعطلها واشتغل بنفسه ثم قال : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } يعني : جُمِعَتْ { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } يعني : ضجرت بعضها إلى بعض فصارت بحراً واحداً فملئت وكثر ماؤها كقوله : { والبحر المسجور } [ الطور : 6 ] يعني : الممتلىء ويقال : سجرت أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت وفيها قال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كوَّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث الله تعالى ريحاً دبوراً فتنفخها فتصير ناراً وهو قوله : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } أي : أحميت . وقال قتادة : سجرت أي : غار ماؤها ، وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها ناراً يعذب بها الكفار فهذه الأشياء الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الأخيرة وهو قوله : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } قال الكلبي ومقاتل : يعني : نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ }

[ الصافات : 22 ] يعني : قرناءهم ثم قال : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } أي : قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض ويقال : وإذا النفوس زوجت يعني الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة ثم قال : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } . وكان العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية وهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقائلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمِّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سبحانك مَا يَكُونُ لى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } [ المائدة : 116 ] وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه وقال عكرمة الموؤودة المدفونة ، كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فكانت أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته وقرىء في الشاذ { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } يعني : المقتولة سئلت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي قوله تعالى : { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } يعني؛ تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت وسعرت مخففتين ، ونشرت مشددة وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم سجرت وسعرت مشددتين ونشرت مخففة وقرأ حمزة والكسائي سجرت ونشرت مخففتين وسعرت مشددة فمن شددها فلتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير قوله تعالى : { وَإِذَا السماء كُشِطَتْ } يعني : نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني : كشفت عما فيها ثم قال عز وجل : { وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ } يعني : للكافرين { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } يعني : قربت للمتقين فجواب هذه الأشياء قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } يعني؛ عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءُوفُ بالعباد } [ آل عمران : 30 ] الآية .

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)

ثم قال عز وجل : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } يعني : الذي خنس بالنهار وظهر بالليل ، ويقال الخنس النجوم التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل { الجوار الكنس } الجوار التي تجري والكنس التي ترتفع وتغيب ، وقال أهل التفسير الخنس يعني : خمسة من الكواكب فهران ، وزحل ، ومشتري ، وعطارد ، وزهرة التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل ، الجواري لأنهن تجري بالليل في السماء { الكنس } يعني : تستتر كما تكنس الظباء وقال أهل اللغة الخنس واحدها خانس كراكع وركَّع وقال بعضهم : الخنس أرادها هنا الوحوش والظباء وظباء الوحوش والجواري الكنس التي تدخل الكنائس وهذا غصن من أغصان الشجر ويكون معناه : أقسم برب هذه الأشياء وروى عكرمة عن ابن عباس : { الخنس } المعز ، والكنس : الظباء ألم ترى إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها؟ وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : { بالخنس الجوار الكنس } هي بقر الوحش وقال علي بن أبي طالب : هي النجوم ، وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء ثم قال عز وجل : { واليل إِذَا عَسْعَسَ } يعني : إذا أدبر وقال الزجاج : { عَسْعَسَ } إذا أقبل . وعسعس : إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا اتبداء الظلام في أوله وإدباره في آخره وقال مجاهد { إِذَا عَسْعَسَ } أي إذا أظلم ثم قال عز وجل : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } يعني : إذا استضاء وارتفع ، ويقال إذا امتد حتى يصير النهار بيناً ، فأقسم بهذه الأشياء ، ويقال يخالف هذه الأشياء { أَنَّهُ } يعني : القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } على ربه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام ثم أثنى على جبريل وبيَّن فضله فقال : { ذِى قُوَّةٍ } يعني : ذا شدة ويقال : أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه ثم قال عز وجل : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } يعني : عند رب العرش له منزلة { مطاع } يعني : يطيعه أهل السماوات { ثَمَّ أَمِينٍ } فيما استودعه الله من الرسالات ويقال : { مطاع } يعني : طاعته على أهل السموات واجبه كطاعة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض { أَمِينٌ } على الرسالة والوحي ، ويقال : { أَمِينٌ } في السماء كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أمين في الأرض ثم قال عز وجل : { وَمَا صاحبكم } الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى { بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءاهُ } يعني : رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام { بالافق المبين } عند مطلع الشمس ثم قال : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ } أي : ليس فيما يوحَى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بظنين بظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي { ***بظنين } يعني : بمتَّهم أنه يزيد فيه أو ينقص والباقون بالضاد يعني : البخيل ثم قال : { بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ } يعني : القرآن ليس بمنزلة قول الكهان .

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قوله عز وجل : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } يعني : تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال : أنى تذهبون يعني : تعدلون عن أمري وقال الزجاج معناه فبأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } يعني : ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس . قوله تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } يعني : لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين } فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته والله الموفق وصلى الله على سيدنا محمد .

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

قوله تعالى : { إِذَا السماء انفطرت } يعني : انفجرت لهيبة الرب تبارك وتعالى ويقال : انفجرت لنزول الملائكة لقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملئكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] { وَإِذَا الكواكب انتثرت } يعني : تساقطت { وَإِذَا البحار فُجّرَتْ } يعني : فتحت بعضها في بعض وصارت بحراً واحداً { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } يعني : بعثرت وأخرج ما فيها ، ويقال : بعثرت المتاع وبعثرته إذا جعلت أسفله أعلاه ثم قال عز وجل : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } يعني : ما عملت من خير وشر يعني ما عملت من سنة صالحة أو سيئة ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إلَى الْهُدَى فَاتُّبِعَ فَلَهُ أَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً وأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إلَى الضَّلاَلَةِ فَاتُّبِعَ فَلَهُ وزرُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلاَّ أنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئَاً » ويقال : { مَّا قَدَّمَتْ } أي : ما عملت وما { أخرت } يعني : أضاعت العمل فلم تعمل .

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

ثم قال عز وجل : { القرءان خَلَقَ الإنسان } يعني : يا أيها الكافر { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } يعني : لم يعجل بالعقوبة ، وقال مقاتل : نزلت في كلدة بن أسيد حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بقوسه فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك حمزة فأسلم حمية لذلك ثم أراد أن يعود كلدة لضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأسلم حمزة يومئذٍ» .
ويقال نزلت في جميع الكفار ما غرك يعني : ما خدعك حين كفرت بربك الكريم المتجاوز لمن تاب { الذى خَلَقَكَ } من النطفة { فَسَوَّاكَ } يعني : فسوى خلقك { فَعَدَلَكَ } يعني : خلقك معتدل القامة { مَا يجادل * صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } يعني : شبهك بأي صورة شاء إن شاء بالوالد وإن شاء بالوالدة قرأ عاصم والكسائي وحمزة فعدلك بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف جعل في المعنى إلى فكأنه قال فعدلك إلى أي صورة شاء أن يركبك يعني صرفك إلى ما شاء من الصور من الحسن والقبح ومن قرأ بالتشديد فمعناه قومك ويكون ما صلة وقد تم الكلام عند قوله فعدلك ثم ابتدأ فقال : في أي صورة شاء ركبك ، ويقال : في ما معنى الشرط والجزاء والمعنى أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ويكون شاء بمعنى يشاء ثم قال عز وجل : { كَلاَّ } يعني : لا يؤمن هذا الإنسان بما ذكره من أمره وصورته { بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين } يعني : تكذبون بأنكم مبعوثون يوم القيامة ثم أعلم الله تعالى أن أعمالكم محفوظة عليهم فقال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } من الملائكة يحفظون أعمالكم { كِرَاماً كاتبين } يعني : كراماً على الله تعالى كاتبين يعني يكتبون أعمال بني آدم عليه السلام { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } من الخير والشر ، وروى مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَكْرِمُوا الكِرَامَ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لاَ يُفَارِقُونَكُمْ إلاَّ عِنْدَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الجَنَابَةِ والْغَائِطِ " .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18