كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

{ فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } قال الكلبي : فلما عرف منهم الكفر بالله . ويقال : فلما سمع منهم كلمة الكفر . وقال الزجاج : أحس في اللغة علم ، ووجد . ويقال هل أحسست الخبر؟ أي هل عرفته وعلمته؟ .
وقال مقاتل : فلما رأى من بني إسرائيل الكفر . كقوله عز وجل : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] يعني هل ترى؟ ويقال : إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله { قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } يقول : من أعواني مع الله؟ قال القتبي : إلى هاهنا بمعنى مع مثل قوله ، { وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ، أي مع أموالكم ، كما يقال : الذود إلى الذود إبل ، أي مع الذود . فقال : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } ؟ أي مع الله { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } قال الكلبي : الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلاً . وقال مقاتل : كانوا قَصَّارين ، فمر بهم عيسى عليه السلام وقال : من أنصاري إلى الله؟ قالوا : نحن أنصار الله . ويقال : إنه مر بهم ، وهم يغسلون الثياب . فقال لهم : إيش تصنعون قالوا : نطهر الثياب . فقال : ألا أدلكم بطهارة أنفع من هذا؟ قالوا : نعم . فقال : تَعَالَوْا حتى نطهرَ أنفسنا من الذنوب ، فبايعوه . ويقال : إنهم كانوا صيادين ، فمرَّ بهم . وقال : ألا أدلُّكم على اصطياد أنفعَ لكم من هذا؟ قالوا : نعم . فقال : تَعَالَوْا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس ، فبايعوه . وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : إنما سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم ، وكانوا صيّادين .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوارِيَّ من أُمَّتِي » ، يعني به الخالص ، فهذا يكون دليلاً لقول الكلبي : إنهم خواصه وأصفياؤه ، ومعنى آخر نحن أنصار الله ، يعني أنصار دين الله { بالله فَإِذَا } أي صدقنا بتوحيد الله { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } يعني أشهدنا ، على ذلك ، فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون ثم قالوا : { رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } من الإنجيل على عيسى { واتبعنا الرسول } أي عيسى عليه السلام على دينه { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا ، وشهدوا بوحدانيتك .

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه : { وَمَكَرُواْ } يعني أرادوا قتل عيسى عليه السلام { وَمَكَرَ الله } تعالى ، أي جازاهم جزاء المكر { والله خَيْرُ الماكرين } لأن مكرهم جَوْرٌ ومكر الله عَدْل . قال الكلبي : وذلك أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى ، فدخل عيسى عليه السلام البيت هارباً منهم ، فرفعه جبريل من الكوَّة إلى السماء . كما قال في آية أخرى ، { وأيدناه بِرُوحِ القدس } فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا : ادخل عليه ، فاقتله ، فدخل الرجل الخوخة ، فلم يجد هناك عيسى ، وألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج رأوه على شبه عيسى ، فأخذوه وقتلوه وصلبوه ، ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى ، وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان هذا صاحبنا ، فأين عيسى ، فوقع بينهم قتال ، فقتل بعضهم بعضاً ، فلما خرجوا رأوه على بيت ، فذلك قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } قال الضحاك : وكانت القصة أن اليهود خذلهم الله تعالى لما أرادوا قتل عيسى عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة ، وهم اثنا عشر رجلاً ، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود ، فركب منهم أربعة آلاف رجل ، فأحدقوا بالغرفة . فقال المسيح للحواريين : أيكم يخرج فَيُقْتَلُ وهو معي في الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا يا نبي الله ، فألقى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوف ، وناوله عكازه ، فألقي عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه ، وأما المسيح ، فكساه الله الريش ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، فطار في الملائكة .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } ففي الآية تقديم وتأخير ، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء ، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال : إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال ، وتلد له ابنة ، فتموت ابنته ، ثم يموت هو بعدما يعيش سنين ، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة ، فاستجاب الله دعاه . وروي عن أبي هريرة أنه جاء إلى الكتاب ، وقال للمعلم : قل للصبيان حتى يسكتوا ، فلما سكتوا قال لهم : أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى عليه السلام فليقرئه مني السلام ، وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه هذا كناية عن قرب الساعة .
ثم قال : { وَمُطَهّرُكَ } أي منجيك { مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } على دينك { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } بالحجة والغلبة { إلى يَوْمِ القيامة } . وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال : الذين اتبعوه هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم هم الذين صدّقوه .
ثم قال { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } يعني الذين اتبعوك ، والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي . { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يعني بين المؤمنين والكفار { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين ، ثم أخبر عن حال الفريقين في الآخرة فقال : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والاخرة } في الدنيا بالقتل والجزية ، وفي الآخرة بالنار { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } يعني مانع يمنعهم من عذاب الله { وَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات } قال مقاتل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم " فَيوفيهم أجورهم "
قرأ عاصم في رواية حفص ، فيوفيهم بالياء ، يعني يوفيهم أجورهم ، وأما الباقون بالنون ، يعني أن الله قال { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } وهذا لفظ الملوك ، إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة ، ويقولون : نحن نفعل كذا وكذا ، ونكتب إلى فلان ، ونأمر بكذا ، فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } [ القمر : 19 ] { إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] وكذلك ها هنا قال : «فنوفيهم أجورهم» أي نعطيهم ثواب عملهم { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي لا يرضى دين الكافرين .

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

{ ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيات والذكر الحكيم } يقول هذه الآيات ، وهذه القصص بينات في القرآن . وأنزلنا عليك جبريل ، ليقرأ عليك من الآيات يعني من البيان { والذكر الحكيم } يعني القرآن كله . وقال الكلبي : الذكر الحكيم الذي عند رب العالمين في درة بيضاء ، وهو اللوح المحفوظ . ويقال هو القرآن ، لأنه محكم ليس فيه تناقض ، ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله . ويقال : هو الشرف كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ } [ الزخرف : 44 ] .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

ثم قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله } نزلت في وفد نجران ، السيد والعاقب ، والأسقف ، وجماعة من علمائهم وأحبارهم ، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ » ، فقالوا : أرنا خلقاً من خلق الله تعالى بغير أب ، وَكَانَ يُحيي الموتى ، وكان فيه دليل على ما قلنا ، وكانوا يقولون : إنه اتخذه ابناً ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أسْلِمُوا » فقالوا : قد أسلمنا قبلك ، فقال لهم : « كَذَبْتُمْ ، إنَّمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإسْلامِ ثَلاثٌ ، أَكْلُ لَحْمِ الخَنْزِيرِ ، وَعِبَادَةُ الصَّلِيبِ ، وَقَوْلُكُمْ : لله وَلَدٌ » ، فقالوا له : من أبو عيسى؟ فنزل قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } يعني : شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } يعني : صوّره من غير أب ولا أم { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فكان بشراً بغير أب ، كذلك عيسى كان بشراً بغير أب ، وفي هذه الآية دليل علمي أن الشيء يشبه بالشيء ، وإن كان بينهما فرق كبير ، بعد أن يجتمعا في وصف واحد ، كما أن هاهنا خلق آدم من تراب ، ولم يخلق عيسى من تراب ، وكان بينهما فرق من هذا الوجه ، ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب ، ولأن أصل خلقهما جميعاً كان من تراب ، لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ، ولكنه جعل التراب طيناً ، ثم جعله صلصالاً ، ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى عليه السلام حوله من حال إلى حال ، ثم خلقه بشراً من غير أب .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

ثم قال تعالى : { الحق مِن رَّبّكَ } يعني خبر عيسى ، كما أخبرتك وأنبأتك في القرآن { فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين } أي من الشاكين . ويقال : المثل الذي ذكر في عيسى ، هو الحق من ربك ، وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد منه جميع من اتبعه ، ومعناه فلا تكونوا من الممترين ، أي من المشركين ، يعني إن مثله كمثل آدم عليهما السلام { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ } وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى عليه السلام قالوا ليس كما تقول ، وهذا ليس بمثل ، فنزلت هذه الآية { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ } يعني خاصمك في أمر عيسى عليه السلام { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } أي من البيان في أمره { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } أي نخرج أبناءنا وأبناءكم { و } نخرج { وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } يعني نحن بأنفسنا ، ويقال : إخواننا ونجتمع في موضع { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي نلتعن . وقال مقاتل : يعني نخلص في الدعاء . ويقال : هي المبالغة في الدعاء والتضرع { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين } فواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا للملاعنة ، فجعلوا وقتاً للخروج ، وتفرقوا على ذلك ، ثم ندموا ، فلما كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بيد الحسن والحسين ، وخرج معه علي بن أبي طالب ، وفاطمة ، فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم ، طلب منهم الملاعنة ، فقالوا نعوذ بالله ، فقال لهم : « إِمَّا أَنْ تُلْعَنُوا ، وَإِمَّا أَنْ تُسْلِمُوا ، وَإِمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ » ، فقبلوا الجزية ، وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة ، ألف حلة في المُحَرَّم ، وألف حلة في رجب ، وأَمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، ورجعوا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لَوْ أَنَّهُمُ الْتَعَنُوا لَهَلَكُوا كُلُّهُمْ حَتَّى العَصَافِيرُ فِي سُقُوفِ الحِيطَانِ » .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

ثم قال الله تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } يعني ما أُخْبِرُوا من أمر عيسى عليه السلام هو الخبر الحق يعني أنه كان عبد الله ورسوله . ويقال : هذا القرآن هو الحق { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } لا شريك له { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم } العزيز في ملكه ، الحكيم في أمره حكم بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يقول : أَبَوْا ، ولم يسْلموا { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } يجازيهم بذلك ، وهذه كلمة تهديد { قُلْ ياأهل * أَهْلِ الكتاب **تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } يعني كلمة عدل بيننا وبينكم . ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، يعني لا إله إِلاَّ الله ، وهي كلمة الإخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم ، فتصير دماؤكم كدمائنا ، وأموالكم كأموالنا { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } يعني ألا نُوَحِّد إِلا الله { وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } من خلقه { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } لأنهم اتخذوا عيسى رباً من دون الله .
ويقال : لا يطيع بعضنا بعضاً في المعصية . كما قال : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها واحدا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ سورة التوبة : 31 ] أي أطاعوهم في المعصية . ويقال : لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً . كما قالت النصارى : إن الله ثالثُ ثلاثة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني أبوا عن التوحيد { فَقُولُواْ } لهم يا معشر المسلمين { اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي مخلصون لله بالعبادة والتوحيد { مُسْلِمُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم } وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود ، وكل فريق يقول كان إبراهيم منا ، وكان على ديننا فنزل { مُسْلِمُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم } أي لِمَ تخاصمون في دين إبراهيم { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } يعني من بعد إبراهيم عليه السلام ولكن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل . وقال الكلبي : نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهم جعفر الطيار وغيره . كما قال الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً } أي أطاعوهم في المعصية ، وكانت بينهم ، وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك الوقت ، فنزلت هذه الآية .
وقال الزجاج : هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى ، بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده ، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان ، واسم الإسلام في كل كتاب ، وهو قوله : { لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يقول : أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون { تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم } يقول أنتم يا هؤلاء خاصمتم { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فتجدونه في كتبكم { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } يقول : ما ليس في كتابكم ، وهو أمر إبراهيم عليه السلام { الله يَعْلَمُ } أن إبراهيم كان على دين الإسلام { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

{ وَمَا كَان إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } يقول : لم يكن إبراهيم عليه السلام على دين اليهودية ولا النصرانية { وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } أي مخلصاً { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } يعني ما كان أي لم يكن على دينهم . وقال الزجاج : الحنف في اللغة إقبال صدر القدمين إقبالاً لا رجوع فيها أبداً ، فمعنى الحنيفية في الإسلام ، الإقبال والميل إليه ، والإقامة على ذلك .

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

ثم قال : { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } يقول : أحق الناس بدين إبراهيم { لَلَّذِينَ اتبعوه } واقتدوا به وآمنوا به { وهذا النبى } يعني هو على دينه ومنهاجه { والذين ءامَنُواْ } هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على دينه ، { والله وَلِىُّ المؤمنين } في العَوْن والنُّصرة .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

{ وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } يعني أرادت ، وتمنت جماعة من أهل الكتاب { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } أي يصرفونكم عن دين الإسلام { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } أي وَبَالُ ذلك يرجع إلى أنفسهم . ويقال : وما يضلون إلا أنفسهم ، أمثالهم كقوله عزّ وجلّ : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } [ سورة البقرة : 54 ] أي بعضكم بعضاً { وَمَا يَشْعُرُونَ } قال مقاتل : أي وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم . وقال الكلبي : وما يشعرون أن الله يَدُلُّ نبيَّه عليه السلام على ضلالتهم أي يُطْلِعُه .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

ثم قال : { يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله } يقول لم تجحدون بالقرآن { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } أنه نبيّ الله ، لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال : بآيات الله ، يعني بعجائبه ودلائله . ويقال : بآية الرجم ثم قال : { تَشْهَدُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } يقول لِمَ تخلطون الكفر بالإيمان؟ لأنهم آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه { وَتَكْتُمُونَ الحق } يعني بعث محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه حق ، وأنه في التوراة .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بالَّذِي أُنْزِلَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ } قال الكلبي : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة ، صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً ، أو ثمانية عشر شهراً ، فلما صرف الله نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظهر ، وقد كان صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس ، وصلّى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة . فقال رؤساء اليهود منهم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وغيرهما للسفلة منهم ، آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ، صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به ، وإنه الحق ، { واكفروا ءاخِرَهُ } يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى قبلتكم ودينكم . وقال مقاتل : معناه أنهم جاؤوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار ، ورجعوا من عنده ، وقالوا للسفلة : هو حق فاتبعوه ، ثم قالوا : حتى ننظر في التوراة ، ثم رجعوا في آخر النهار . فقالوا : قد نظرنا في التوراة ، فليس هو إياه ، يعنون أنه ليس بحق ، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة ، وأن يشككوا فيه فذلك قوله : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ } يعني قالوا : لهم في أول النهار آمنوا به { واكفروا ءاخِرَهُ } يعني قالوا : في آخر النهار ، واكفروا به { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يشكون فيه فيرجعون .
ثم قال للسفلة : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } قال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه ولا تؤمنوا ، أي لا تصدقوا ، إلا لمن تبع دينكم ، فإنه لن يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أُوتيتُمْ من التوراة ، والمَنّ والسَّلوى ، ولا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فيحاجوكم عند ربكم ، أي يخاصموكم ، ويجعلوه حجة عليكم . فقالوا ذلك حسداً حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم من غيرهم قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } وإن الفضل بيد الله ، وهو قول مقاتل .
وقال الكلبي : بغير تقديم وتأخير ، يقول : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ } ، أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية ، وصلى إلى قبلتكم ، { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } يقول : دين الله هو الإسلام . { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام ، والقرآن الذي فيه الحلال والحرام { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } أي : لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة ، ثم قال { قُلْ } يا محمد { إِنَّ الفضل بِيَدِ الله } يعني النبوة ، والكتاب والهدى ، بيد الله ، أي : بتوفيق الله ، { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } يعني يوفق من يشاء ، { والله واسع عَلِيمٌ } . يقول : واسع الفضل { عَلِيمٌ } بمن يؤتيه الفضل { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } يعني بدينه يعطيه من يشاء من عباده { والله ذُو الفضل العظيم } أي ذو المن العظيم ، لمن اختصه بالإسلام .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

{ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } قرأ أبو عمرو وحمزة يُؤَدِّهْ بجزم الهاء ، وهي لغة لبعض العرب ، واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة . قال مقاتل : يعني عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الله تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة ، وفيهم خيانة وقال الضحاك : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } يعني به عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقيّة من الذهب ، فأداها إليه ، فمدحه الله تعالى ويقال : إن نعت محمد صلى الله عليه وسلم أمانة ، فمن كتمه ، دخل تحت قوله { لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } ، ومن لم يكتمه دخل تحت قوله { يُؤَدّهِ } ، ثم قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } وهو فنْخاص بن عازورا اليهودي ، أودعه رجل ديناراً ، فخانه . ويقال : { يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } ، يعني النصارى كانوا أَلْيَنَ قُلوباً ، يؤدون الأمانة ، واليهود لا يؤدون الأمانة ، فكانوا إذا أخذوا أمانات الناس ، أو مال اليتامى ، فكانوا يغتنمون ذلك ، كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة .
ثم قال تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أي مُلِحّاً متقاضياً و { ذلك } يعني الاستحلال { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ } يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم . ويقال : من لم يكن على ديننا ، فَمَالُه لنا حلال ، بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } وهم يعلمون ، لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة ، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون على الله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن الله أمرهم بأداء الأمانة ، وأخذ على ذلك ميثاقهم ، فهذا قوله تعالى : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ } أي بعهد الله الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة ، وهي نعت محمد صلى الله عليه وسلم { واتقى } محارمه ، هذا قول مقاتل وقال الكلبي : واتقى ظلم الناس { فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } عن نقض العهد .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

{ إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله } قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت في شأن عبدان بن الأشوع ، وامرىء القيس بن عابس ، ادّعى أحدهما على صاحبه حقاً ، فأراد المدَّعى عليه أن يحلف بالكذب ، فنزلت هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في شأن رؤساء اليهود ، كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، لأجل منافع الدنيا . ويقال : إن جماعة من علماء اليهود ، قَدِموا المدينة من الشام ليُسلموا ، فلقيهم كَعْب بن الأشرف فقال لهم : تعلمون أنه نبي؟ قالوا : نعم . فقال لهم كعب : حَرَّمْتُمْ على أنفسكم خيراً كثيراً ، لأني كنت أردت أن أَبْعث لكم الهدايا . فقالوا : حتى ننظر في ذلك ، فنظروا ثم رجعوا . فقالوا : ليس هو الذي وجدنا صفته ، فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأَيْمَانهم على ذلك ، ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس ، وخمسة أصوع من الشعير ، فنزل في شأنهم { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا } أي عرضاً يسيراً { أُوْلَئِكَ لاَ خلاق لَهُمْ فِى الاخرة } أي لا نصيب لهم في الآخرة { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } وقال الزجاج : قوله { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } ، يحتمل معنيين؛ أحدهما إسماع كلام الله تعالى أولياءه ، خصوصاً لهم ، كما كلم موسى خصوصية له دون البشر ، ويجوز أن يكون تأويله للغضب عليهم ، كما يقال : فلان لا يكلم فلاناً ، ولا ينظر إليه ، أي هو غضبان عليه ، وإن كان هو يكلمه بكلام السوء ، فذلك معنى قوله لا يكلمهم ، أي بكلام الرحمة { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } بالرحمة { وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
ثم قال { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا } يعني طائفة من اليهود ، وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } أي يحرفون ألسنتهم بالكتاب ، يعني بنعت محمد صلى الله عليه وسلم ويغيرونه ، ويقال : يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة . ويقال : يحرفون تأويله على خلاف ما فيه { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب } أي من التوراة { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } أي من التوراة ، بل هم كتبوا وهم تأوَّلوا { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } أي ليس هو من عند الله { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه كذب .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكِتاب } أي التوراة والإنجيل { والحكم } يعني الفهم { والنبوة } وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } ما جاز له أن يقول للناس : { كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله } ويقال : إن اليهودَ والنصارى اختلفوا فيما بينهم ، فجاء الفريقان جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال كل فريق : نحن أولى بإبراهيم عليه السلام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكُمْ عَلَى الخَطَأ " فغضبوا . وقالوا : والله ما تريد إلا أن نتخذك حَنَّاناً ، أي معبوداً ، فأنزل الله تعالى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب } ، يعني القرآن والحكم ، يعني الحلال والحرام والنبوة ، ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله { ولكن } يقول لهم { كُونُواْ ربانيين } أي متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء .
قال الزجاج : الربانيون أرباب العلم ، والبيان ، أي كانوا علماء { بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب } أي كونوا عاملين بما كنتم تعلمون ، لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بما علم ، وإن لم يعمل بعلمه ، فليس بعالم ، لأن من ليس له من علمه منفعة ، فهو والجاهل سواء ثم قال : { وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به . قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو «بما كنتم تَعْلَمُون» بنصب التاء والتخفيف ، يعني يُعَلِّمكم الكتاب ودراستكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تُعَلِّمُون غيركم فإنما يأمركم بذلك { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } يعني عيسى وعُزَيراً والملائكة صلوات الله عليهم ، ولو أمركم بذلك لَكَفَر ، وتنزع النبوة منه { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } يعني بعبادة الملائكة { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون بالتوحيد لله . قرأ عاصم وحمزة وابن عامر : ولا يَأْمُرَ بنصب الراء ينصرف إلى قوله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله } ، فيصير نصباً بأن ، والباقون ولا يأمرُكم بضم الراء على معنى الابتداء .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

ثم قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } يعني الميثاق حيث أخرجهم من صُلْبِ آدم عليه السلام وَأَخَذَ عليهم الميثاق العهد أن يبلغ الأول الآخر ، وأن يصدق الآخر الأول ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } يعني إقرار النَّبِيِّين { لَمَا ءاتَيْتُكُم } قرأ حمزة لِمَا آتيتكم بكسر اللام والتخفيف ، يعني بما آتيتكم ، والباقون بنصب اللام ، ومعناه فما آتيتكم يعني ، أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به . وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد ، أي حين آتيتكم { مّن كتاب وَحِكْمَةٍ } يعني بيان الحلال والحرام . وقرأ نافع آتيناكم بلفظ الجماعة ، وهو لفظ الملوك ، والباقون آتيتكم بلفظ الوحدان . ويقال : أخذ الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبيّاً ، إلا ذكر له محمداً صلى الله عليه وسلم ونعته ، وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه ، وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم ، ولا يكتمونه { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ } يعني به أهل الكتاب ، الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم { مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } في التوحيد وبعض الشرائع ، وذلك أن الله تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء ، وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه ، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، فكذبوه فذكرهم الله تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ } يعني محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معكم من التوراة { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } يعني قال لهم في الميثاق : لتؤمنن به أي لتصدقنه إذا بُعث { وَلَتَنصُرُنَّهُ } إذا خرج { قَالَ } لهم { ءأَقْرَرْتُمْ } بتصديقه ، يعني : هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره؟ { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } يعني : هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ { قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ } الله تعالى { فَأَشْهِدُواْ } بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } على إقراركم .
قال الزجاج : قوله فاشهدوا ، أي فاثبتوا ، لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي ، { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } ، وشهادة الله للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات . وقال القتبي : أصل الإصر الثقل ، فسمي العهد إصراً ، لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل .

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

قوله تعالى : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } أي أعرض عن الإيمان ، وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي الناقضون للعهد ، ويقال : هم العاصون ، وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله تعالى : { وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظالمين بَدَلاً } [ سورة الكهف : 50 ] أي خرج عن طاعة ربه وقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } قال الكلبي : وذلك أن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقالوا : أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ » فقالوا : ما نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزل قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } أي يطلبون ، قرأ عاصم في رواية حفص { يَبْغُونَ } { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } كلاهما بالياء . وقرأ أبو عمرو يبغون بالياء ، وإليه ترجعون بالتاء ، وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة ، فمن قرأ بالياء ، يعني أفغير دين الله يطلبون من عندك ، ومن قرأ بالتاء يعني أفغير دين الله تطلبون ، { وَلَهُ أَسْلَمَ } ، أي أخلص وخضع { مَن فِى السموات والارض طَوْعًا وَكَرْهًا } .
قال الكلبي : أما أهل السموات ، فأسلموا لله طائعين ، وأما أهل الأرض ، فمن ولد في الإسلام أسلم طوعاً ، ومن أبى قُوتِل حتى دخل في الإسلام كرهاً ، وما أفاء الله عليهم مما يسبون ، فيجاء بهم في السلاسل ، فيكرهون على الإسلام . وقال مجاهد : يسجد ظل المسلم ووجهه طائع ، ويسجد ظل الكافر ، وهو كاره . وقال مقاتل : وله أسلم من في السموات ، يعني الملائكة والأرض ، يعني المؤمنين طوعاً وكرهاً ، يعني أهل الأديان يقولون الله ربكم وخالقكم ، فذلك إسلامهم ، وهم مشركون معنى قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والارض } يعني خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم ، لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها ، ولا يقدر على تغيير ما خلق عليها طوعاً وكرهاً . ثم قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } كما خلقكم ، أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع ، كذلك يبعثكم كما بدأكم . قرأ عاصم في رواية حفص يرجعون ، وقرأ الباقون بالتاء .

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

ثم قال : { قُلْ ءامَنَّا بالله } خاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأراد به أمته فقال : قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا بالله { وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ } وقد ذكرناه في سورة البقرة .

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

قوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } قال الكلبي : نزلت في شأن مرثد بن أبي مرثد ، وطُعْمَة بن أَبَيْرق ، ومقيس بن صبابة ، والحارث بن سُوَيد ، وكانوا عشرة . وقال مقاتل : كانوا اثني عشر . وقال الضحاك : يعني لا يقبل من جميع الخلق من أهل الأديان ديناً غير دين الإسلام ، ومن يتدين غير الإسلام ديناً { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } أي من المغبونين ، لأنه ترك منزله في الجنة ، واختار منزله في النار .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

{ كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات } أي بعدما ظهر لهم العلامات { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه ، لا يهديه الله ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين ، أسلموا وهداهم الله ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم . قيل له : لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام ، فأما إذا جاهدوا ، وقصدوا الرجوع ، وفقهم الله لذلك لقوله : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ سورة العنكبوت : 69 ] وتأويل آخر : { كَيْفَ يَهْدِى الله } يقول : كيف يرشدهم إلى الجنة؟ كما قال في آية : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } [ النساء : 168 ] ويقال : كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة؟ ويقال : كيف يغفر الله لهم؟ وقالت المعتزلة : كَيْفَ يَهْدِي الله؟ معناه : كيف يكونون مهتدين ، لأنهم لا يرون الهداية ، والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء ، ويرون ذلك من كسب العبد . ثم قال : { أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ } يعني أهل هذه الصفة التي ذكر { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } أي سخط الله . ويقال : الطرد والتبعيد من رحمة الله والخذلان . ويقال : يلعنهم بالقول : { والملئكة } يعني عليهم لعنة الله والملائكة { والناس أَجْمَعِينَ } إذا لعن رجل رجلاً ، فإن لم يكن أَهْلاً لذلك ، رجعت اللعنة إلى الكفار ، ويقال : من لم يكن على دينهم ، يلعنهم في الدنيا ، ومن كان على دينهم ، يلعنهم في الآخرة . لقوله تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين } [ سورة العنكبوت : 25 ] فذلك قوله تعالى : { والناس أَجْمَعِينَ } .
ثم قال تعالى : { خالدين فِيهَا } يعني في اللعنة فيما توجبه اللعنة ، وهو عذاب النار خالدين فيها { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } أي لا يهون عليهم العذاب { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤجلون . ثم استثنى التوبة فقال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } يقول : من بعد الكفر ، وأصلحوا أعمالهم بالتوبة . ويقال : أصلحوا لمن أفسدوا من الناس { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان منهم في الكفر رحيم بهم بعد التوبة . قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية ، أي الرخصة بالتوبة ، كتب أخو الحارث بن سُوَيْد ، إلى الحارث : إن الله قد عرض عليكم التوبة ، فرجع وتاب . وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة ، فقالوا : إن محمداً تتربص به ريب المنون . فقالوا : نقيم بمكة على الكفر ، متى بدا لنا الرجعة رجعنا ، فينزل فينا ما نزل في الحارث ، فتقبل توبتنا فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا } أي ثبتوا على كفرهم بقولهم : نقيم بمكة ما بدا لنا { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ما أقاموا على الكفر .

قال الزجاج : كانوا كلما نزلت آية كفروا بها ، فكان ذلك زيادة كفرهم . وقوله : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ، أي توبتهم الأولى ، وحبط أجر عملهم . ويقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ، معناه أنهم لن يتوبوا . كما قال : { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ سورة البقرة : 48 ] ، أي لا يشفع لها أحد ، ثم قال تعالى : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون } عن الإسلام ، وهم الذين لم يتوبوا { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ } قال الكلبي : يعني وزن الأرض ذهباً .
وقال مقاتل : إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة ، يتمنى أن يكون له الأرض ذهباً ، فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب ، لافتدى به ولو افتدى به ما تقبل منه ، { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، ونظيرها في سورة المائدة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين } الآية .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

{ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة ، حتى تنفقوا مما تحبون ، أي حتى تخرجوا أموالكم طيبة بها أنفسكم . وقال مقاتل : يعني لن تنالوا التقوى ، حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة ، أي بعض ما تحبون من الأموال { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء } يعني الصدقة وصلة الرحم { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي لا يخفى عليه ، فيثيبكم عليه . ويقال : لن تنالوا البر حتى تستكملوا التقوى . ويقال : لا تكونوا بارين ، حتى تنفقوا مما تحبون ، أي من الصدقة ، أي بعض ما تحبون من الأموال .
وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يشتري أعدالاً من السُّكَّر ، ويتصدق بها . فقيل له : هلا تصدقت بثمنه؟ فقال : لأنَّ السُّكَّر أَحبّ إِليَّ ، فأردت أن أتصدق مما أحب .
وروي عن عبد الله بن عمر أنه اشترى جارية جميلة ، وكان يحبها ، فمكثت عنده أياماً ، ثم أعتقها وزوجها من رجل ، فَوُلِد لها ولد ، فكان يأخذ ولدها ، ويضمّه إلى نفسه . ويقول : أشم منك ريح أمك . فقيل له : قد رزقك الله من حلال ، وأنت تحبها ، فلم تركتها؟ فقال : ألم تسمع هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب ، فلما انتهت إلى هذه الآية باعته ، وتصدقت بثمنه .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل } قال في رواية الكلبي : خرج يعقوب إلى بيت المقدس ، فلقيه ملك في الطريق ، فظن يعقوب أنه لص ، فعالجه ، فغمز الملك رجل يعقوب ، فهاج به عرق النساء ، فنذر أن يحرم أحب الطعام إليه إن برأ من ذلك لما رأى فيه من الجهد . فلما برأ كان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ، فحرمها على نفسه . فقالت اليهود : هذا التحريم من الله تعالى في التوراة ، فنزل قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل } أي كان حلالاً ، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير ثم قال : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } وليس تحريمها في التوراة ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لليهود { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها } يعني اقرؤوها { إِن كُنتُمْ صادقين } بأن تحريمها في التوراة ، لأنهم كانوا يقولون : إن ذلك حرام من وقت نوح ، وأنت وأصحابك تستحلونها . وقال الضحاك : إن يعقوب لما أصابه عرق النساء ، أمره الأطباء أن يتجنب لحوم الإبل ، فحرم على نفسه لحوم الإبل . فقالت اليهود : حرَّمْناها على أنفسنا ، لأن يعقوب حرّمها على نفسه ، فنزل تحريمها في التوراة ، فنزلت الآية ويقال معناه كل طعام هو حلال لأمتك ، مثل ما كان حلالاً لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، وبعضها حُرّم عليهم بذنوبهم . وقال الزجاج : هذه الآية أعظم دليل لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبرهم بأنه ليس في كتابهم ، وأمرهم بأن يأتوا بالتوراة ، فأبوا وعرفوا أنه قال ذلك بالوحي .

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

ثم قال تعالى : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } يعني اختلق على الله الكذب { مِن بَعْدِ ذلك } البيان في كتابهم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } يعني يظلمون أنفسهم { قُلْ صَدَقَ الله } أن تحريمه ليس في التوراة . ويقال : قُلْ صَدَقَ الله ، حين قال : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ آل عمران : 67 ] { فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } أي مخلصاً مستقيماً ، وكلوا لحوم الإبل وألبانها ، كما أكلها إبراهيم ، ولا تحرموا على أنفسكم شيئاً بأهوائكم { وَمَا كَانَ } إبراهيم { مِنَ المشركين } يعني على دينهم .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } قال مقاتل يعني أول مسجد وضع للناس ، أي للمؤمنين . ويقال : أول موضع خلق ، هو موضع الكعبة للناس ، أي قبلة للناس { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } قال الكلبي : إنما سمي بكة ، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً ، أي يزدحم .
وقال الزجاج : بكة موضع البيت ، وسائر ما حواليه مكة . وقال القتبي : بكة ومكة شيء واحد ، والباء تبدل من الميم . كما يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله ، أي قلع بأصله . ويقال : بكة موضع المسجد ، ومكة البلد حوله . ثم قال تعالى : { مُبَارَكاً } أي فيها بركة ومغفرة للذنوب { وَهُدًى للعالمين } يعني قبلة لمن صلّى إليها ، وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين : لم عمدتم إلى الحجارة تطوفون بها وتصلون إليها؟ وجعلوا يعظمون بيت المقدس ، فنزلت هذه الآية .
وروى الكلبي أن آدم عليه السلام بنى البيت ، فلما كان زمان الطوفان ، رفع إلى السماء السادسة بحيال الكعبة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لم يدخلوه قط قبله . ويقال : أنزل من السماء ، وهو من ياقوتة حمراء ، فلما كان زمان الطوفان ، رفع إلى السماء الرابعة . ثم قال تعالى : { فِيهِ ءايات بينات } يعني علامات واضحات كالحجر الأسود والحطيم { مَّقَامِ إبراهيم } .
وروي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرأ فيه آية بينة مقام إبراهيم . وقرأ غيره آيات بينات مقام إبراهيم ، ومعناه من تلك الآيات مقام إبراهيم { وَمَن دَخَلَهُ } يعني الحرم { كَانَ ءامِناً } يعني أن من دخل فيه ، فإنه لا يهاج منه إذا وجب عليه القتل خارج الحرم { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حِجُّ بكسر الحاء ، والباقون بالنصب ، وهما لغتان ومعناهما واحد . { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } أي بلاغاً والاستطاعة هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق . ويقال : ولله على الناس فريضة حج البيت . ثم قال : { وَمَن كَفَرَ } يعني ومن لم يرَ الحج واجباً فقد كفر ، فذلك قوله { وَمَن كَفَرَ } . { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } يعني غني عمن حج ، وعمن لم يحج .
قال الفقيه : حدّثني أبي قال : حدّثني أبو بكر المعلم قال : حدثنا أبو عمران الفارابي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن حبيب قال : حدثنا داود بن المحبر قال : حدّثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : « أَيُّها النَّاسُ إنَّ الله تَعَالَى فَرَضَ الحَجَّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالِ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً أوْ مَجُوسِيّاً ، إلاَّ أنْ يَكُونَ بهِ مَرَضٌ أوْ مَنْعٌ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ، ألا لا نَصِيبَ لَهُ مِنْ شَفَاعَتِي ، وَلا يَرِدُ حَوْضِي »
وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « السَّبِيلُ الزَّادُ والرَّاحِلَةُ » وكذلك روي عن ابن عباس . وقال مجاهد : مقام إبراهيم أثر قدميه .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

ثم قال : { قُلْ ياأهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { لِمَ تَكْفُرُونَ بئيات الله } يعني لم تكفرون بالحج والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } من الجحود والكفر { قُلْ ياأهل الكتاب لَمَ تَصُدُّونَ } يقول : لم تصرفون الناس { عَن سَبِيلِ الله } أي عن دين الله الإسلام والحج { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي تطلبونها تغيراً وزيناً { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } أن ذلك في التوراة { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من كتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته . ويقال في اللغة ما كان ينتصب انتصاب العود والحائط يقال : عوج بالنصب ، وما لم ينتصب مثل الأرض والكلام . ويقال : عوج كما قال تعالى : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 107 ] وقال تعالى : { ولم يجعل له عوجاً . قيماً } [ طه : 107 ] وقال تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } [ الكهف : 1/ 2 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

ثم قال تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً } يقول طائفة { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } وهم رؤساء اليهود { يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين } بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، لأنهم كانوا يدعون إلى الكفر ، واتباع مذهبهم ، وكان يتبعهم بعض المنافقين ، فنهى الله تعالى المؤمنين عن متابعتهم . ثم قال تعالى على وجه التعجب : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } يقول : كيف تجحدون بوحدانية الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؟ { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ } يقول : يُقْرَأُ عَليكم القرآن ، وفيه دلائله وعجائبه ، { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } يعني معكم محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الزَّجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم ، وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ، لأن آثاره وعلاماته ، والقرآن الذي أتى به فينا فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، وإن لم نشاهده . ثم قال عزّ وجلّ : { وَمَن يَعْتَصِم بالله } يقول : يتمسك بدين الله { فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ } يقول وفق وأرشد من الضلالة { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني الطريق الذي يسلك به إلى الجنة ، وهو دين الإسلام .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)

{ مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } يقول : أطيعوا الله حق طاعته ، وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين ، وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ التغابن : 16 ] فنسخت هذه الآية . هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل ، وغيرهم من المفسرين : إن هذه الآية منسوخة . وقال بعضهم : لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة ، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه ، ولكن الجواب أن يقال عن هذا إنهم يطيقونه ، ولكن تلحقهم مشقة شديدة ، ولأن ذلك مجهود الطاقة ، ولا يستطيعون الدوام عليه ، والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقون ، فخفَّف عنهم بقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ التغابن : 16 ] ولم ينسخ آخر الآية أولها ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } يعني اثبتوا على الإسلام ، وكونوا بحال يلحقكم الموت ، وأنتم على الإسلام { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } يقول : تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن . ويقال : تمسكوا بسبيل السنة والهدى ، { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } . يقول : ولا تختلفوا في الدين ، كاختلاف اليهود والنصارى . ويقال : لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } يعني : اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة . ويقال : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } ، يعني ما اشتبه عليكم ، فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] وقال بعض الحكماء : إن مثل من في الدنيا ، كمثل من وقع في بئر ، فيها من كل نوع من الآفات ، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق ، فكذلك الدنيا دار محنة ، وفيها كل نوع من الآفات ، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق ، وهو كتاب الله تعالى .
ثم ذكَّرهُم نعمته فقال تعالى : { اذكروا } نعمتي واحفظوا { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } الإسلام { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } في الجاهلية { فَأَلَّفَ } الله { بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } يقول : فصرتم بنعمة الإسلام { إِخْوَانًا } في الدين ، وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم ، معناه صِرْتم ، كقوله : { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } [ الكهف : 41 ] أي صار ماؤكم غوراً ، وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً ، حتى كادوا أن يتفانوا ، فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة آمن به الأوس والخزرج ، وهم بالمدينة ، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة إلى سبعين رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة ، وهاجر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم بعد الحولين ، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ ، وزالت عنهم العداوة التي كانت بينهم في الجاهلية بالإسلام ، وهذا كما ذكر في آية أخرى :

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] .
وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار : أحدهما من الأوس ، والآخر من الخزرج ، تفاخرا فيما بينهما ، واقتتلا ، فاستعان كل واحد منهما بقومه ، فاجتمعت الأوس والخزرج ، وأخذوا السلاح ، وخرجوا للحرب ، فبلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين ، وهو راكب على حمار له قال جابر : فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ طلع علينا ، فأومأ إلينا بيده ، فكففنا ، ووقف بيننا على حمار له فقال : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } إلى قوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } . إلى قوله : { عَذَابٌ عظِيمٌ } فَأَلْقوا السلاح وأطفؤوا الحرب التي كانت بينهم ، وعانق بعضهم بعضاً يبكون ، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية .
ثم قال تعالى : { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار } قال القتبي : أشفى على كذا إذا أشرف عليه { شَفَا حُفْرَةٍ } ، أي حرف حفرة ، ومعناه وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } بعدما كنتم على حرف من النار { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا من الضلالة ، وتعرفوا علامته بهذه النعمة { وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ } فهذه لام الأمر كقوله : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [ الكهف : 110 ] يعني لتكن منكم أمة .
قال الكلبي : يعني جماعة . وقال مقاتل : يعني عصبة وقال الزجاج ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير ومن هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس ، وهي مؤكدة كقوله تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور }

[ الحج : 30 ] وقوله : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } يعني إلى الإسلام . ويقال : إلى جميع الخيرات { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } قال الكلبي : يعني باتباع محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } يعني الجبت والطاغوت . ويقال : المنكر ، يعني العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة . ويقال : ما لا يصلح في العقل .
وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف ، أي اختلاف العلماء . ويقال : إنما أمر بعض الناس بقوله ، { وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ } ، ولم يأمر جميع الناس ، لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف ، وإنما يجب على من يعلم . ويقال : إن الأمراء ، يجب عليهم الأمر والنهي باليد ، والعلماء باللسان ، والعوام بالقلب ، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام : « إذا رَأَى أَحَدٌ مُنْكَراً ، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ »
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : بحسب امرىء إذا رأى منكراً ، لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره . وروي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكراً ، لا يستطيع النكير عليه ، فليقل ثلاث مرات : اللهم إِنَّ هذا منكر ، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه .
ثم قال تعالى : { وأولئك هُمُ المفلحون } يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون . ويقال : فازوا بالنعيم . ثم قال : { وَلاَ تَكُونُواْ } في الاختلاف { كالذين تَفَرَّقُواْ } وهم اليهود والنصارى { واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات } فافترقت اليهود فرقاً والنصارى فرقاً ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك ، ثم خوفهم فقال : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني دائم لا يرفع عنهم أبداً ، يعني الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ، أي العلامات في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان الطريق .
ثم بَيَّن منازل الذين تفرقوا ، والذين لم يتفرقوا فقال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم . ويقال : إن ذلك عند قوله تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] تكون وجوه المؤمنين مُبْيَضّة ، ووجوه الكفار مُسْوَدَّة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه ، فرأى في كتابه حسناته ، استبشر وابيضّ وجهه ، وإذا قرأ المنافق والكافر كتابه ، فرأى فيه سيئاته ، اسودّ وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه . ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم ، فإذا انتهوا إليه حزنوا ، واسودّت وجوههم ، فيبقى المؤمنون ، وأهل الكتاب والمنافقون ، فيقول الله تعالى للمؤمنين : من ربكم؟ فيقولون : ربنا الله عزّ وجلّ .

فيقول لهم : أتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : سبحانه إذا عرفنا ، عرفناه فيرونه كما شاء الله ، فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً ، وبقي المنافقون وأهل الكتاب ، لا يقدرون على السجود ، فحزنوا واسودّت وجوههم ، فذلك قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } يعني يقال لهم : أكفرتم؟ ولكن حُذِفَ القول ، لأن في الكلام دليلاً عليه بعد إيمانكم ، يعني يوم الميثاق . قالوا : بَلَى ، يعني المرتدين والمنافقين . ويقال هذا لليهود ، وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يُبْعث ، فلما بُعث كفروا به . وقال أبو العالية : هذا للمنافقين خاصة . يقول : أكفرتم في السرّ بعد إيمانكم ، أي مع إقراركم في العلانية { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا عباد بن الوليد قال : حدّثنا محمد بن عباد البنائي قال : حدّثنا حميد بن الخياط قال : سألت أبا العالية عن هذه الآية : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } فقال : حدّثنا أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّهُمُ الخَوَارِجُ » وسألته عن قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] قال : إنهم الخوارج قوله : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله } أي في جنة الله قال الزجاج : يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى ، لأن الجنة تُنَالُ برحمته ، ولا تُنَال بالجهد ، وإن اجتهد المجتهد ، لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل ، ففي رحمة الله أي في ثواب الله { وَهُمْ فِيهَا خالدون } أي دائمون .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

تلك آيات الله } يعني القرآن { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } يعني ننزل جبريل فيقرأ عليك { بالحق } أي بالصدق . وقال الزجاج : تلك آيات الله أي تلك التي جرى ذكرها ، حجج الله وعلاماته { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ، أي نعرّفك إياها { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } يعني لا يعذبهم بغير ذنب { وَللَّهِ مَا فِى *** السموات والارض } قال بعضهم : هذا معطوف على الأول ، كأنه يقول : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } لأنهم كلهم عبيده ومخلوقه ومرزوقه ، فلا يريد ظلمهم . وقال بعضهم : هذا ابتداء كلام ، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له ، حتى يسألوه ويعبدوه ، ولا يعبدوا غيره . ثم قال تعالى : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } يقول : تصير أمور العباد إلى الله في الآخرة .

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال الكلبي : أخبر الله تعالى أن خير الدين عند الله دين أهل الإسلام ، ووصفهم بالوفاء فقال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } . . . يقول : كنتم خير أهل دين كان الناس لا يظلمون من خالطهم منهم ، أو من غيرهم ، فجعلهم الله خير الناس للناس { تَأْمُرُونَ بالمعروف } ويقال : خير أمة أُخْرِجَت للناس ، تأمرون بالمعروف ، فتقاتلون الكفار ليسلموا ، فترجع منفعتهم إلى غيرهم .
كما قال صلى الله عليه وسلم : « خيرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاس » ويقال : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } يعني : كنتم عند الله في اللوح المحفوظ . ويقال : كنتم مذ أنتم خير أُمَّة . ويقال : هذا الخطاب لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، يعني أنتم خير الأمة . كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ القُرُونِ أَصْحَابِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » ثُمَّ وَصَفَهُمْ ، فقال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } أي بالتوحيد والإسلام . { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أي عن الشرك { وَتُؤْمِنُونَ بالله } أي تصدقون بتوحيد الله ، وتثبتون على ذلك . وقال الزجاج : تؤمنون بالله ، معناه تقرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيّ الله ، لأن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يوحد الله ، لأنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها من ذات نفسه .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب } وهم اليهود والنصارى { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من الإقامة على دينهم { مّنْهُمُ المؤمنون } وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ، ومن آمن من اليهود والنصارى { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } وهم كعب بن الأشرف وأصحابه ، والذين لم يؤمنوا منهم { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } يعني باللسان بالسب وغيره ، وليس لهم قوة القتال { وَإِن يقاتلوكم } يعني إن أعانوكم في القتال ، فلا منفعة لكم منهم لأنهم { يُوَلُّوكُمُ الادبار } وينهزمون { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يقول لا يُمْنَعون من الهزيمة ، فكأنه يحكي ضعفهم عن القتال . يقول : لو كانوا عليكم لا يضرونكم ، ولو كانوا معكم لا ينفعونكم ، وهذا حالهم إلى يوم القيامة وهم اليهود ليس لهم شوكة ، ولا قوة القتال في موضع من المواضع . ويقال : { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار } يعني إن خرجوا إلى قتالكم ، وأرادوا قتالكم يولون الأدبار ، أي ينهزمون منكم . ويقال : يُوَلُّوكم الأَدْبَار ، يعني منهزمين ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يقول : لا يُمْنَعون منكم ، وهو قول الكلبي .

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

ثم قال { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } يقول جُعِلَتْ عليهم الجزية ويقال أَلْزِم عليهم القتال { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } أي وُجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله } أي بعهد من الله { وَحَبْلٍ مّنَ الناس } يعني تحت قوم يؤدون إليهم الجزية ، فإن لم يكن لهم عهد قتلوا { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } يقول : استوجبوا الغضب من الله تعالى . ويقال : رجعوا بغضب من الله { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } يعني جعل عليهم زي الفقر .
قال الكلبي : فترى الرجل منهم غنياً ، وعليه من البؤس والفقر والمسكنة . ويقال : إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر ، لكيلا تضاعف عليهم الجزية { ذلك } الذي يصيبهم { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } ومحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } يعني رضوا بما فعل آباؤهم ، فكأنهم قتلوهم { ذلك } الغضب { بِمَا عَصَواْ } الله { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } بأفعالهم كلما ذكر الله عقوبة قوم في كتابه بيّن المعنى الذي يعاقبهم لذلك ، لكيلا يظن أحد أنه عذَّبهم بغير جُرْم . ثم بيَّن فضيلة من آمن من أهل الكتاب على من لم يؤمن فقال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَاء } قال بعضهم : هذا معطوف على الأول منهم المؤمنون ، وأكثرهم الفاسقون ، ليسوا سواء في الثواب ، فيكون هاهنا وقف . وقال بعضهم : هذا ابتداء ، ويكون فيه مضمر ، فكأنه يقول : ليس من آمن منهم ويتلون آيات الله كمن هو كافر . كقوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب } [ الزمر : 9 ] معناه : ليس كالذي هو من أهل النار ، فكذلك هاهنا قال : ليس من آمن { مّنْ أَهْلِ الكتاب } كمن لم يؤمن ، فبين الذين آمنوا فقال : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } يعني مُهَذَّبة عاملة بكتاب الله تعالى . ويقال : مستقيمة .
وروى الزجاج عن الأخفش قال : ذو أمة قائمة ، يعني ذو طريقة قائمة { يَتْلُونَ ءايات الله } يعني القرآن في الصلاة { أَمَّنْ هُوَ } يعني في ساعات الليل { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أي يصلون لله . قوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } يعني يقرون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } أي باتباعه { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أي عن الشرك { ويسارعون فِى الخيرات } أي يبادرون إلى الطاعات ، والأعمال الصالحة { وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين } أي مع الصالحين ، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة . { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } يعني لن تجحدوه ولن تنسوه يقول تجزون به ، وتثابون عليه في الآخرة ، وهذا كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البرُّ لا يَبْلَى وَالإثْمُ لا يُنْسَى »
ثم قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } أي عليم بثوابهم ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ومن كان بمثل حالهم . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } كلاهما بالياء ، والباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

ثم قال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } قال مقاتل : ذكر قبل هذا مؤمني أهل الكتاب ، ثم ذكر كفار أهل الكتاب ، وهو قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } . . .
وأما الكلبي فقال : هذا ابتداء { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } كثرة { أموالهم وَلاَ } كثرة { أولادهم مّنَ } عذاب { الله شَيْئاً } وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى ، وجميع الكفار ، وكل من خالف دين الإسلام ، وذلك أنهم تفاخروا بالأموال والأولاد وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً ، وما نحن بمعذَّبين ، فأخبر الله تعالى أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من عذاب الله شيئاً { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } .
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا } قال الكلبي : يعني ما ينفقون في غير طاعة الله { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي برد شديد { أَصَابَتْ } الريح الباردة { حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بمنع حق الله تعالى منه { فَأَهْلَكَتْهُ } يقول : أحرقته ، فلم ينتفعوا منه بشيء ، فكذلك نفقة من أنفق في غير طاعة الله ، لا تنفعه في الآخرة ، كما لا ينفع هذا الزرع في الدنيا . وقال مقاتل : يعني نفقة السفلة على رؤساء اليهود . وقال الضحاك : مثل نفقة الكفار من أموالهم في أعيادهم وعلى أضيافهم وما يعطي بعضهم بعضاً على الضلالة { كَمَثَلِ رِيحٍ } الآية ، ثم قال { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } يعني أصحاب الزرع هم ظلموا أنفسهم بمنع حق الله تعالى ، فكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك بالله تعالى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } يعني خلّة وصداقة من غير أهل دينكم ، وإنما سميت بطانةً لقربها من البدن { مّن دُونِكُمْ } ، أي من دون المؤمنين نزلت الآية في شأن جماعة من الأنصار ، كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية ، وكانوا على ذلك بعد الإسلام ، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك . ويقال : كل من كان على خلاف مذهبه ودينه لا ينبغي له أن يحادثه ، لأنه يقال في المثل :
عن المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قرينه ... فَإِنَّ القَرِينَ بالمقارن يَقْتَدِي
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ » وروي عن ابن مسعود أنه قال : اعتبروا الناس بأخْدَانهم . ثم بيّن الله المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي فساداً ، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم ، يعني أنهم لا يتركون وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون جهدهم في المكر والخديعة { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ما أَثِمْتُم بربكم . وقال الزّجاج : الخَبَالُ في اللغة ذِهَابُ الشيء ، والعَنَتُ في الأصل المشقة . وقال القتبي : الخَبَال الفساد . وقال أيضاً : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ، أي ما أعنتكم؛ وهو ما نزل بكم من مكروه .
ثم قال : { قَدْ بَدَتِ البغضاء } أي ظهرت العداوة والتكذيب لكم { مِنْ أفواههم وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي والذي في صدورهم من العداوة أكثر مما أظهروا بأفواههم . ويقال : { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } ، أي قصدهم قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا يضمرون ذلك { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات } يعني أخبرناكم بما أخفوا ، وبما أبدوا بالدلالات والعلامات { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } وتصدقون { تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء } يعني ها أنتم يا هؤلاء { تُحِبُّونَهُمْ } لمظاهرتكم إياهم { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لأنهم ليسوا على دينكم .
وقال الضحاك : معناه كيف تحبون الكفار وهم لا يحبونكم { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } يعني بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب ، ولا يؤمنون بذلك كله ، وقد فضلكم الله عليهم بذلك ، لأنهم لا يؤمنون إلا بكتابهم { وَإِذَا لَقُوكُمْ } يعني المنافقين منهم { قَالُواْ ءامَنَّا } بمحمد صلى الله عليه وسلم إنه رسول الله { وَإِذَا خَلَوْاْ } فيما بينهم { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل } يعني أطراف الأصابع { مِنَ الغيظ } والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى هؤلاء قد ظهروا وكثروا . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهم يا محمد { مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يقول موتوا بحنقكم على وجه الدعاء ، والطرد واللعن ، لا على وجه الأمر والإيجاب ، لأنه لو كان على وجه الإيجاب ، لماتوا من ساعتهم . كما قال في موضع آخر : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } [ البقرة : 243 ] ، فماتوا من ساعتهم ، فهاهنا لم يرد به الإيجاب .
وقال الضحاك : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } ، يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة ، والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني أنكم تموتون بغيظكم ثم قال تعالى : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني بما في قلوبكم من العداوة للمؤمنين ، إن الله يجازيكم بذلك .

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

ثم قال للمؤمنين : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } يعني الظفر والغنيمة ، كما أصابكم يوم بدر { تَسُؤْهُمْ } أي يسوؤهم { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ } يعني الهزيمة ، كما أصابكم يوم أحد ، ويقال : الشدة في العيش والقحط { يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ } على أذى المنافقين واليهود { وَتَتَّقُواْ } المعصية والشرك . وهذا قول الكلبي .
وقال مقاتل { وَأَن تَصْبِرُواْ } على أمر الله { وَتَتَّقُواْ } معاصيه . { وَلاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } يقول : لا تضركم عداوتهم شيئاً . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : لاَ يَضِرْكُمْ بكسر الضاد وجزم الراء ، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء ، ومعناهما قريب في التفسير ، يعني لا ضير عليكم من كيدهم { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } يعني أحاط علمه بأعمالهم ، والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } يعني خرجت من منزلك بالصباح . ويقال : من عند أهلك ، وهي عائشة رضي الله عنه { تُبَوّىء المؤمنين } يعني تهيىء للمؤمنين { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } يعني مواضع للحرب . قال الكلبي : هو يوم أحد . وقال مقاتل : هو يوم الخندق { والله سَمِيعٌ } لدعائك { عَلِيمٌ } بأمر الكفار { إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ } يعني أرادت وأضمرت طائفتان من المسلمين . وهما : حيا بني حارثة ، وبني سلمة من الأنصار { أَن تَفْشَلاَ } يعني أن تَجْبُنَا عن القتال مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وترجعا { والله وَلِيُّهُمَا } أي ناصرهما { وحافظهما } حيث لم يرجعا ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة يوم أُحد ، ومعه ألف رجل ، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من المنافقين ، ومن تابعهم ، فدخل الفشل في قبيلتين من الأنصار ، وهم المؤمنون ، فأرادوا أن يرجعوا ، فحفظ الله تعالى قلوبهم ، فلم يرجعوا ، فذلك قوله تعالى : { تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا } أي حافظ قلوبهما { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله وهذه كلها مِنَنٌ ذكرها الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم ، ليعرف ويشكر الله تعالى ، ويصبر على ما يصيبه من الأذى .

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

ثم ذكَّرهم أمر بَدْر؛ فقال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } أي أعانكم الله ببدر { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } يعني قليلة ، { فاتقوا الله } يعني : اعرفوا هذه النعمة ، واتقوا الله ولا تعصوه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لكي تشكروا الله . { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } يعني يوم أُحد { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ } من السماء . يقول الله تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ } مع نبيّكم ، { وَتَتَّقُواْ } معصيته بالهزيمة { وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا } يعني العدو ، يأتوكم من وجوههم { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } يعني مُعلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل ، وفي أذنابها عليهم البياض ، قد أَرْخَوْا أطراف العمائم بين أكتافهم؛ فأنزل الله تعالى عليهم يوم بدر ثلاثة آلاف ، ووعد لهم يوم أُحد خمسة آلاف . ولكنهم لما عصوا وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عنهم ، ولو أنهم صبروا لنزلت عليهم .
قرأ عاصم ، وابن كثير ، وأبو عمرو : { مُسَوّمِينَ } بكسر الواو؛ والباقون بالنصب ومعناهم قريب . وهو : إرخاء أطراف العمائم بين الأكتاف؛ وهذا كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر : « تَسَوّمُوا فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ » .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

ثم قال تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ } يعني : المدد من الملائكة . قال بعضهم : إن الملائكة لم تقاتل ، وإنما بعثهم للبشارة وتسكين قلوب المؤمنين ، لأن في قتال الملائكة لم يكن للمؤمنين فضيلة ، وإنما كانت الفضيلة للمؤمنين إذ كانوا هم الذين يقاتلون ويهزمون الكفار ، ولو كان ذلك لأجل الإعانة لكان ملك واحد يكفيهم كما فعل بقوم لوط . ألا ترى أنه قال تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } 3 4 5 [ الأنفال : 44 ] فجعل الفضيلة في قلتهم في أعين الكفار ونصرتهم بالغلبة ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ } .
{ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } يعني تطمئن إليه قلوبكم . وقال بعضهم : إن الملائكة كانوا يقاتلون ، وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة ، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع ، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود : أنت ما قتلتني ، إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنْبك فرسه وإن اجتهدت . وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكن قلوب المؤمنين ، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة ، وكل عسكر من المسلمين صبروا واحتسبوا تأتيهم تلك الملائكة ويقاتلون معهم ويقال : الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون ، وثواب ذلك للذين يقاتلون يومئذ . وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى . ثم قال : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } يعني . ليس بكثرة العدد ولا بقلته ، ولكن النصر من الله تعالى كما قال في آية أخرى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] .

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

ثم قال : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } يعني أرسل الملائكة ونصر المؤمنين لكي يقطع طرفاً ، أي يستأصل جماعة من الذين كفروا { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } قال الكلبي : أي يهزمهم . وقال مقاتل : يعني يخزيهم كقوله { إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات بينات وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ المجادلة : 5 ] ويقال : يقنطهم { فَيَنقَلِبُواْ } إلى مكة { خَائِبِينَ } لم يصيبوا ظفراً ولا خيراً ، وقد قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون . ويقال معناه وما جعله الله إلا بُشْرَى لكم ، ولتطمئن قلوبكم به ، وليقطع طرفاً من الذين كفروا .
ثم قال عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء } روى جويبر عن الضحاك قال : لما كان يوم أحد ، كسرت رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأدمي ساقه ، وقتل سبعون رجلاً من الصحابة ، فَهَمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء } أي ليس لك من الحكم شيء ، أو يتوب عليهم يعني كفار قريش يهديهم إلى الإسلام . وقال الكلبي : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلعن الذين انهزموا من الصحابة يوم أحد ، فنزل : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يعني الذين انهزموا { أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالمون } قال : فلما نزلت هذه الآية ، كفّ ولم يلعن المشركين ، ولا الذين انهزموا من الصحابة ، لعلم الله فيهم أنهم سيتوبون ، وأن المشركين سيؤمن كثير منهم . وقد آمن كثير منهم فمنهم : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم .
قال مقاتل : وكان سبعون رجلاً من أصحاب الصُّفَّة ، خرجوا إلى الغزو محتسبين ، فقتل السبعون جميعاً ، فشق ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فدعا الله عليهم أربعين يوماً في صلاة الغداة ، فنزل قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء } ويقال : معنى قوله أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم إن لم يكونوا من أهل التوبة .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

ثم عظم نفسه فقال تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } يعني : أن جميع الخلق في ملكه وعبيده { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } وقال الضحاك : يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ، { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } على الذنب الصغير إذا أصرَّ على ذلك { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في تأخير العذاب عنهم ، حيث لم يعاقبهم قبل توبتهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)

{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } قال الزَّجاج : يعني لا تضاعفوا أموالكم بالربا . وقال القتبي : هو ما يضاعف منها شيء بعد شيء ، ويقال أضعافاً مضاعفة عند البيع ، ببيعه بأكثر من قيمته مضاعفة بعد العقد ، أن يزيده في الأجل ويزيد في المال . ويقال : المضاعفة هي نعت الأضعاف كما قال تعالى : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 168 وغيرها ] والطيب هو نعت الحلال .
ثم قال تعالى : { واتقوا الله } في الربا فلا تستحلوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تنجوا من العذاب . ثم خَوّفهم فقال : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } يعني خُلقت وهيئت للكافرين . وقالت المعتزلة : من أتى بالكبيرة ومات عليها فإنه يخلد في النار كالكافر ، فإنه وعد لأكل الربا النار كما وعد الكفار . وقال أكثر أهل العلم والتفسير : هذا الوعيد لمن استحل الربا؛ ومن استحل الربا فإنه يكفر ويصير إلى النار . ويقال : معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبوا النار ، لأن من الذنوب ما يستوجب به نزع الإيمان ويخاف عليه ، فمن ذلك عقوق الوالدين . وقد جاء في ذلك أثر أن رجلاً كان عاقاً لوالدته يقال له علقمة ، فقيل له عند الموت : قل لا إله إلا الله فلم يقدر على ذلك ، حتى جاءت أمه فرضيت منه . ومن ذلك قطيعة الرحم ، وأكل الربا ، والخيانة في الأمانة . وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال : أكبر ما في الذنوب الذي ينزع الإيمان من العبد عند الموت . ثم قال أبو بكر : فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان من العبد ، فلم نجد شيئاً أسرع نزعاً للإيمان من ظلم العباد .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

ثم قال تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول } يعني أطيعوا الله في الفرائض ، والرسول في السنن . ويقال : { وَأَطِيعُواْ الله } في تحريم الربا ، { والرسول } فيما بلغكم من التحريم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ولا تُعَذَّبُونَ { وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } قرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة ، وابن عامر ومن تابعه من أهل الشام : سارعوا بغير الواو على معنى الابتداء . وقرأ الباقون بالواو على معنى العطف . قال الكلبي : معناه وسارعوا إلى التوبة من الربا . وقال مقاتل : وسارعوا بالأعمال الصالحة التي هي مغفرة لذنوبكم وإلى الجنة . وقال الضحاك : يعني سارعوا إلى النجاء الأكبر إلى الصف المقدم في الصلاة ، وإلى الصف المقدم في القتال . ويقال : وسارعوا حتى لا تفوتكم تكبيرة الافتتاح .
ثم قال تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والارض } قال القتبي : أي سعتها ، ولم يرد به العَرْض الذي هو خلاف الطول . والعرب تقول : بلاد عريضة أي واسعة . ويقال : عَرْضُ الجنة كعرض سبع سموات ، وكعرض سبع أرضين ، لو ألزق بعضها إلى بعض . وإنما ذكر العرض ولم يذكر الطول ، لأن طولها لا يعرف ولا يدرك . وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن وهي الدرجة العليا ، وجنة المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم . كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض . ويقال : لم يرد بهذا التقدير ، ولكنه أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه . وقال السدي : لو كسرت السموات وصرن خردلاً ، فبكل خردلة لله جنة عرضها كعرض السموات والأرض .
حدّثنا محمد بن داود ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، قال : حدّثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدّثنا يعقوب عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد قال إن أدنى أهل الجنة يقال له : تَمَنَّ . فيقول : أعطني كذا أعطني كذا ، حتى إذا لم يجد شيئاً يتمنى لُقِّن فيقال له : تَمَنَّ ، قل كذا قل كذا ، فيقول . فيقال له : هو لك ولك مثله معه . وفي رواية أبي سعيد الخدري لك هذا وعشرة أمثاله معه . ثم قال تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } يعني الجنة .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

ثم نَعَتَ المتقين فقال : { الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء } الخ الآية . نعت للمتقين . ويقال إن كل نعت من ذلك هو نعت على حدة ، فكأنه يقول : أعدت للمتقين الذين ينفقون من السراء . . . الخ . قوله : { فِى السَّرَّاء والضراء } أي ينفقون أموالهم في حال اليسر وفي حال العسر ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل والضحاك : في حال السعة والشدة . ويقال : في حال الصحة والمرض . ويقال : { فِى السَّرَّاء } ، يعني في حال الحياة . وفي الضراء ، يعني بعد الموت . ويقال في سراء المسلمين في عرسهم وولائمهم ، والضراء في نوائبهم ومآتمهم . ويقال { فِى السَّرَّاء } يعني النفقة التي تسرّكم ، مثل النفقة التي على الأولاد والأقربين { والضراء } النفقة على الأعداء والكاشحين . ويقال { فِى السَّرَّاء } يعني على الأنبياء يضيفهم ويهدي إليهم { والضراء } يعني على أهل الضر يتصدق عليهم .
{ والكاظمين الغيظ } يعني المرددين الغيظ في أجوافهم ، وأصله في اللغة : كظم البعير إذا رَدَّد جِرَّتَه . ومعناه : الذين إذا أصابهم الغيظ تجاوزوا ولم يعاقبوا . { والعافين عَنِ الناس } قال الكلبي : يعني عن المملوكين . ويقال : والعافين عن الناس بعد قدرتهم عليهم فيعفوا عنهم { والله يُحِبُّ المحسنين } من الأحرار والمملوكين ، ويقال : الذين يحسنون بعد العفو ويزيدون عليه إحساناً وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ ينفذَهُ ثُمَّ لَمْ يُنفِذْهُ زَوَّجَهُ الله مِنَ الحُورِ العينِ حَيْثُ يَشَاءُ » ، وفي خبر آخر : عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلمَةٍ قَطّ إِلاّ زَادَهُ الله بِهَا عِزّاً » .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

قوله تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } نزلت في شأن رجل تَمَّار ، جاءت امرأة تشتري منه تمراً ، فأدخلها في حانوته وقبلها ثم ندم على ذلك ، فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت هذه الآية في رجل مَسّ امرأة أخيه في الله ، وكان أخوه خرج غازياً ، ثم ندم وتاب . ويقال : إنها نزلت في شأن بهلول النباش ، تاب عن صنيعه فنزلت هذه الآية . فقال تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } يعني الزّنى . { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } يعني القُبْلَة واللمس . ويقال : الفاحشة كل فعل يستوجب به الحد في الدنيا { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } ما دون ذلك . ويقال : الفاحشة ما استوجب به النار ، { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } ما استوجب به الحساب والحبس . وقال إبراهيم النخعي : الظلم هاهنا تفسير الفاحشة فكأنه يقول : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } . { ذَكَرُواْ الله } أي خافوا الله ، ويقال ذكروا مقامهم بين يدي الله . ويقال : ذكروا عذاب الله . { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } يعني الاستغفار باللسان والندامة بالقلب . ويقال : الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين . وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار الكثير .
ثم قال تعالى : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } يعني لا يغفر الذنوب إلا الله { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } يعني : لم يقيموا على ما فعلوا من المعصية { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنها معصية فلا يرجعون . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه يقول : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { جَزَآؤُهُمْ } يعني ثوابهم { مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } يعني : نعم ثواب العاملين الجنة ، وهو قول الكلبي . وقال مقاتل : نعم ثواب التائبين من الذنوب الجنة { وَقَدْ خَلَتْ مِن * قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج ، فإذا اتبعوها رضي الله عنهم . قال الكلبي : قد مضت سنة بالهلاك فيمن كان قبلكم ، { فانظروا } : أي فاعتبروا كيف كان جزاء المكذبين . وقال مقاتل نحو هذا ، وقال : يخوف الله هذه الأمة بمثل عذاب الأمم السابقة . وقال السدي : { فَسِيرُواْ فِى الارض } أي اقرؤوا القرآن { فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } لأن من لم يسافر فإنه لا يعرف ذلك ، وأما من قرأ القرآن فإنه يعرف ذلك . وقال الحسن : اقرؤوا القرآن وتدبروا فيه ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين .

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

ثم قال : { هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } يعني القرآن ، بيان للناس من الضلالة { وهدى } من العمى { وَمَوْعِظَةً } من الجهل ، ويقال : { هُدًى وَمَوْعِظَةً } أي كرامة ورحمة { لّلْمُتَّقِينَ } { وَلاَ تَهِنُواْ } أي لا تضعفوا ولا تجبنوا ، ويقال : ولا تَعْجزوا عن عدوكم { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } يعني : الغالبون يقول آخر الأمر لكم . ويقال : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } في الجنة . ويقال : هذا وعد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في المستأنف { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } أي الغالبون على الأعداء بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم ، فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت . ويقال : في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة ، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } [ طه : 68 ] وقال لهذه الأمة : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } ويقال اشتُقَّت هذه اللفظة من اسم الله تعالى ، لأن اسمه العلي الأعلى . وقال للمؤمنين : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : إن كنتم مصدقين بوعد الله . ويقال : معناه إذ كنتم مؤمنين . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون .
ويقال : إن هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا ، فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغَلَبُوا كما غَلَبوا يوم بدر ، ولكنهم تركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الأمر عليهم . وكانت القصة في ذلك أنهم لما غَلَبُوا المشركين يوم بدر ، وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب إلى مكة بالعير ، وانهزم المشركون ، وذهب عكرمة بن أبي جهل ، ورجال أُصِيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه ، وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال ، فقالوا : إن محمداً قد قتل خياركم ، فاستعينوا بهذه الأموال على حربه ففعلوا . قال الضحاك : فأعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من الزاد والسلاح ، فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل ، وعليهم أبو سفيان بن حرب ، وكان في القوم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل ، وذلك قبل دخولهم في الإسلام ، فلم يبقَ أحد من قريش إلا وخرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم .

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، وقال في خطبته : « إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ فِي سَيْفِي ثلمَةُ فَأَوَّلْتُهَا مصِيبَةً فِي نَفْسِي ، وَرَأَيْتُ بُقُوراً قَدْ ذُبِحَتْ ، فَأَوَّلْتُهَا قَتْلَى فِي أَصْحَابِي ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، فَأَوَّلْتُهَا المَدِينَةَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ » وكره الخروج إليهم ، فكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يخرج إليهم ، ولكنه كان منافقاً فقال : يا رسول الله لا تخرج إليهم فأنا ما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه . فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر : اخرج لهم يا رسول الله ، لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جَبُنَّا عنهم وضعفنا عن قتالهم . فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا رسول الله : قد استكرهناك وما كان لنا ذلك ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فاقعد . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَنْبَغِي لِلنَّبِيِّ أَنْ يَضَعَ سِلاَحَهُ إِذَا لَبِسَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ » فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسار إلى أُحدٍ ، فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول . قال في رواية الكلبي : فرجع معه ثلاثمائة من الناس ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل . وقال في رواية الضحاك : فانخذل في ستمائة رجل من اليهود ، وبقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشِّعب من أحد ، وأمر عبد الله بن جبير على الرُّمَاة وقال لهم : « لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا المَوْضِعِ ، وَاثْبُتُوا هاهنا إِنْ كَانَ الأَمْرُ عَلَيْنَا أَوْ لَنَا » وقال في رواية الكلبي : كان الرماةُ خمسين رجلاً . وقَال في رواية الضحاك : كانوا سبعين رجلاً . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى أُحد ، ودنا المشركون وأخذوا في الحرب ، فقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب ، يضربن بالدُّفوف خلف قريش ويقلن :
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِق ... نَمْشِي على النَّمَارق
إِن تُقْبِلُوا نُعَانِق ... أَو تُدْبِرُوا نفارق
فِرَاقَ غَيْرَ وَامِق ... فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالاً شديداً ، وقاتل علي بن أبي طالب حتى انكسر سيفه ، وقاتل سعد بن أبي وقاص ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لسعد : « ارْمِ فَداكَ أَبِي وَأُمِّي » فقتلوا جماعة من المشركين ، وَصَدَقَهم الله وعده وأنزل نصره ، حتى كانت هزيمة القوم لا شكّ .

فكشفوهم عن عسكرهم قال الزبير : رأيت هنداً وصواحبتها هوارب ، فلما نظر الرماة إلى القوم وانهزموا ، أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جُبَيْر : لا تَبْرحوا عن هذا الموضع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عَهِدَ إليكم . فلم يلتفتوا إلى قوله ، وظنوا أن المشركين قد انهزموا؛ فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر ، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قِبَل الشِّعب ، فقتلوا من بقي من الرماة ، ودخلوا خلف أقفية المسلمين ، وتفرق المسلمون ورجع المشركون ، وحملوا حملةً واحدة ، فصار المسلمون ثلاثة أنواع : بعضهم جريح ، وبعضهم قتيل ، وبعضهم منهزم .
وكان مصعب بن عمير يَذُبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ دونه ، ثم قاد زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ ، وخلص الحرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه ، وأصيبت رباعيَتُه ، وكُلِمَتْ شفته ، وأدمي ساقه . فقال سفيان بن عيينة : لقد أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلاً ، كلهم جثوا بين يديه . أو قال : كلهم يتقدم بين يديه . ثم يقول : وجهي لوجهك الوفاء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك سلام الله غير مودع . فرجع الذي قتل مصعب بن عمير ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال للمشركين : قتلت محمداً . فصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قُتل . ويقال : كان ذلك إبليس لعنه الله ، فولى المسلمون هاربين متحيّرين ، وجاء إبليس لعنه الله ونادى بأعلى صوته في المدينة : ألا إن محمداً قد قتل وأَخَذَت النسوة في البكاء في البيوت ، فأقبل أَنَس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله في رِجَالٍ من المهاجرين والأنصار ، فقال : ما يُجْلسكم؟ قالوا : قتل محمد . فقال : ما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا كراماً على ما مات عليه نبيُّكم . ثم أقبل نحو العدو ، فقاتل حتى قتل .
قال كعب بن مالك : فأوّل من كنت عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ، عرفت عينيه من تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأشار إليَّ أَن اسكت . وقال أنس بن مالك : قد شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول : « كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالدَّمِ » وهو يدعوهم إلى ربهم . ويقال : إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً ، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ »

فجاءه أُبَيّ بن خلف الجمحي ، فقال : يا محمد لا نَجوتُ إن نجوتَ مني . فهمَّ المسلمون بقتله ، فقال لهم . «دَعُوهُ» حتى دنا منه ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ورماه بها ، فخدشه في عنقه خدشاً غير كبير ، وقد كان ذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقال : عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة ، أقتلك عليه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ الله " فلما خدشه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد . فقالوا له : ما بك من طعن . فقال : بلى ، لقد قال لي أنا أقتلك ، والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني . فمات قبل أن يصل إلى مكة في طريقها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند أحد ، وقد اجتمع عليه بعض أصحابه ، فعلت عليه فرقة من قريش في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا " فأقبل عمر ورهط من المهاجرين ، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل . وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي : إن أنت قتلت محمداً جعلت لك أعنة الخيل ، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حرٌّ . فقال وَحْشي : أما محمد فعليه حافظ من الله تعالى لا يخلص إليه أحد ، وأما عَلَيُّ فما برز إليه رجل إلا قتله؛ وأما حمزة فرجل شجاع ، فعسى أن أُصَادفه في غِرَّته فاقتله مكانه . وكانت هند كلما مرّ بها وَحْشي أو مرّت به هند قالت له : إيهاً أبا دسمة اشف واستشف . فكمن وحشي خلف صخرة ، وكان حمزة حمل على قوم من المشركين ، فلما رجع من حملته مرّ بوحشي وهو خلف الصخرة ، فزرقه بمزراق فأصابه فسقط ، فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى ، يجدعن الآذان والأنوف ، وشَقَّت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ، ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها : نَحْنُ جَزَيْنَاكم بيوم بَدْر . وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته : اعلُ هبل يوماً بيوم بدر . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر : " أَجِبْهُ يَا عُمَرَ " فأجابه عمر : الله أعلى وأجل لا سواه ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
ثم ركب النبيّ صلى الله عليه وسلم بغلته ، وظاهر بين درعيه ، وأخرج يده من جيب الدرع ، وسلّ سيفه ذا الفقار ، وباشر القتال بنفسه ، وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فأعانوه ، وهزم الله جمع المشركين ، وقُتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلاً : أربعة نفر من المهاجرين ، وستة وستون من الأنصار .

وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلاً أو أكثر ، وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعزَّاهم الله تعالى : في ذلك بقوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } قرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي وحمزة : قُرْحٌ بضم القاف والباقون بالنصب . قال الفراء : القَرْح والقُرْح واحد . ويقال : القَرْح بالنصب مصدر ، والقُرح بالضم اسم . ويقال : القَرْحُ بالنصب الجراحة ، وبالضم ألم الجراحة . يعني إن أصابكم الجراحات يوم أحد { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } يقول : قد أصاب المشركين جراحات مثلها يوم بدر . { وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } يقول : يوم لكم ويوم عليكم ، وهذا كما يقال في الأمثال : الأيام دُوَل والحرب سِجَال .
ثم بَيّن المعنى الذي تداول مرة لهم ومرة عليهم ، فقال تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } يعني يتبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا ، لأن المؤمن المخلص يتبين حالُه عند الشدة والبلايا . وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه : إن الذهب والفضة يختبران بالنار ، والمؤمن يختبر بالبلايا ، والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } يعني ليبين لهم الله الذي يعلم إيمانه ، لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه ، وكذلك العقوبة . أَلاَ ترى أنه عَلِم من إبليس المعصية في المستقبل ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه . ثم قال تعالى : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } يعني لكي يتخذ منكم شهداء ، وإنما كان لأجل ذلك لا لأجل حب الكفار { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي الجاحدين .

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

{ وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ } أي : لكي يُظْهر المؤمنين ويكفر ذنوبهم . والتمحيص في اللغة الاختبار والتطهير . والله بَيّن أنه يُداول الأيام بين الناس لكي يَظْهر المؤمن من المنافق ، ويكرم بعض المؤمنين بالشهادة لينالوا ثواب الشهداء ، وقد ذكر ثوابهم بعد هذا في هذه الصورة وليكفر ذنوبهم { وَيَمْحَقَ الكافرين } أي يهلكهم ويستأصلهم لأنهم يجترئون فيخرجون مرة أخرى فيستأصلهم .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } قال مقاتل : بيّن للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله لكي يصبروا ويحتسبوا . فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } يقول : أَظننتم أن تدخلوا الجنة بغير شيء قبل أن يصيبكم من الشدة في ذات الله ، فذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } قال مقاتل : أي ولما يرى الله الذين جاهدوا منكم . ويقال : ولما يظهر جهاد الذين جاهدوا منكم { وَيَعْلَمَ الصابرين } الذين يصبرون عند البلاء . ويقال : ويعلم الكارّين أي غير الفارين عن القتال .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } وذلك أنه لما وصف الله لهم ما نزل بشهداء بدر من الكرامة ، فقالوا : ليتنا نجد قتالاً فنقتل فيه لكي نصيب مثل ما أصابوا ، فلما لقوا القتال يوم أُحد هربوا ، فعاقبهم الله تعالى بقوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } أي القتال والشهادة من قبل أن تلقوه ، لأن القتال سبب الموت { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يوم أحد { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إلى السيوف فيها الموت . وقال الزجاج : معناه ولقد كنتم تمنون القتال لأن القتال سبب الموت ، فقد رأيتموه ، يعني وأنتم بصراء كقولك : رأيت كذا وكذا ولم يكن في عينيك علّة . ويقال : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم . وقال القتبي : فقد رأيتموه ، يعني أسبابه وهو السيف .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

ثم قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } لأنهم هربوا حيث سمعوا بقتله ، فقال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } كسائر الرسل { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن } أي رجعتم إلى دينكم الشرك . { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } أي يرجع إلى الشرك بعد الإسلام { فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } يقول : لن ينتقص من ملكه وسلطانه شيئاً ، وإنما يضرّ نفسه { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } يعني الموحدين الله تعالى في الآخرة الجنة . ويقال : وسيجزي الله المؤمنين المجاهدين الجنة .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } قبل أجلها { إِلاَّ بِإِذْنِ الله كتابا مُّؤَجَّلاً } يقول : في موتها كتاباً مؤجلاً في اللوح ، فلا يسبق أجله . وقال الزجاج : قوله كتاباً مؤجلاً ، أي كتب كتاباً ذا أجل ، وهو الوقت المعلوم ، وذكر الكتاب على معنى التأكيد كقوله : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 24 ] أي أن المحرمات مفروضة عليكم على معنى التأكيد . وفي هذه الآية إبطال قول المعتزلة ، لأنهم يقولون : إن من قتل فإنما يهلك قبل أجله ، وكل ما ذبح من الحيوان كان هالكاً قبل أجله ، لأنه يجب على القاتل الضمان والدية . وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } قال الكلبي : يعني يرد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض الله عليه { نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني أعطاه الله ما يحب ، وما له في الآخرة من نصيب { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } في الآخرة . ومن الناس من قال : إن الرياء يدخل في النوافل ، ولا يدخل في الفرائض ، لأن الفرائض واجبة على جميع الناس . وقال بعضهم : يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل ، لأنه لو لم يأتِ بها لا يؤاخذ بها ، فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير ذلك . وقال بعضهم : كلاهما سواء ، فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعاً . وهذا القول أصح لقوله تعالى : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] .
ثم إن الله تعالى أخبرهم بما لَقِيَتِ الأنبياءُ والمؤمنون قبلهم فعزَّاهم ليصبروا فقال تعالى سبحانه : { وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ } قرأ ابن كثير { وَكَأَيّن } بعد الألف والهمزة ، وقرأ الباقون بغير مد ، ومعناهما واحد . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو : وكأيِّن من نبي قُتِل ، بضم القاف وكسر التاء . وقرأ الباقون : { قَاتَلَ } ، فمن قرأ قاتل فمعناه كم من نبيّ قاتل معه جموع كثيرة . ومن قرأ قتل معناه : وكم من نبي قتل { مَعَهُ } جماعة كثيرة . وقوله : { رِبّيُّونَ } قال الكلبي : الربية الواحدة من عشرة آلاف . وقال الزجاج : هاهنا قراءتان رُبِّيُّون بضم الراء ، ورِبِّيّون بكسرها ، فأما بالضم فهي الجماعة الكثيرة عشرة آلاف ، وأما الرِّبّيُّون بالكسر العلماء الأتقياء الصبراء على ما يصيبهم في الله تعالى . ويقال : وكأين من نبي قتل يعني : كم من نبيّ قتل وكان معه ربيون كثير .

{ فَمَا وَهَنُواْ } بعد قَتْلِهِ عن القتال ، وما عجزوا بما نزل بهم من قتل أنبيائهم وأنفسهم { لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ } لَعدُوِّهم ، ويقال : وما جبنوا .
ثم قال { وَمَا استكانوا } يقول : وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا { والله يُحِبُّ الصابرين } فكأنه يقول للمؤمنين : فهلا قاتلتم مع نبيكم صلى الله عليه وسلم وبعد قتله وإن قتل ، كما قاتلت القرون الماضية من قبلكم إذا أصيبت أنبياؤهم . ثم أخبر عن قول الذين قاتلوا مع النبيين فقال تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } عند قتل أنبيائهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي هي دون الكبائر { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } أي العظائم من الذنوب { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } عند القتال { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } معناه : هلاّ قلتم كما قالوا وقاتلتم كما قاتلوا . وقرأ بعضهم قولهم بالضم ، والمعنى في ذلك أنه جعل القول اسم كان ، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا . ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان ، وجعل الاسم ما بعده .

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

قوله تعالى : { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا } أي أعطاهم الله ثواب الدنيا بالغنيمة والنصرة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة } أي الجنة { والله يُحِبُّ المحسنين } المؤمنين المجاهدين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

{ المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } يعني المنافقين { يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } كفاراً بعد إيمانكم { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } إلى دينكم الأول { بَلِ الله مولاكم } أي أطيعوا الله فيما يأمركم ، هو مولاكم يعني : وليكم وناصركم { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } أي المانعين من كفار مكة .

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

{ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة : الرعب بتسكين العين . وقرأ ابن عامر ، والكسائي : الرعب بالضم . وأصله الضم ، إلا أنه إذا اجتمع ضمتان حذفت إحداهما عند من قرأ بالجزم . ومعنى الآية سنلقي الهيبة في قلوب المشركين ، وذلك بعد هزيمة المؤمنين ، قذف الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة . ويقال : حين صعد خالد بن الوليد الجبل ، قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع خالد منهزماً . ويقال : عنى به يوم الأحزاب ، ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا { بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } يعني بأنهم أشركوا بالله { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } يعني كتاباً فيه عذر وحجة لهم بالشرك { وَمَأْوَاهُمُ النار } أي : مصيرهم إلى النار في الآخرة { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } يعني أن مثوى المشركين النار .

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } وذلك أنهم لما أخذوا في الحرب انهزم المشركون ، فلما أَخَذَ بعض المسلمين في النهب والغارة رجع الأمر عليهم وانهزم المسلمون ، فذلك قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } . { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول : تقتلونهم بأمره . وقال القتبي : تحسونهم يعني تستأصلونهم بالقتل ، يقال : جراد محسوس إذا قتله البرد . { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم فِى الامر } يعني : جَبُنْتُمْ من عدوكم ، واختلفتم في الأمر { وَعَصَيْتُمْ } أمر الرسول صلى الله عليه وسلم { مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ } يعني أراكم الله { مَّا تُحِبُّونَ } يعني من النصر على عدوكم ، وهزيمة الكفار والغنيمة .
ثم قال : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي يطلب الغنيمة { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة } وهم الذين ثبتوا عند المشركين حتى قتلوا . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : كنا لا نعرف أن أحداً منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية ، فَعَلِمْنا أن فينا من يريد الدنيا { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } بالهزيمة من بعد أن أَظْفَركم عليهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } بمعصية الرسول بالقتل والهزيمة { وَلَقَدْ عَفَا } الله { عَنْكُمْ } ولم يعاقبكم عند ذلك ، فلم تقتلوا جميعاً { والله ذُو فَضْلٍ } في عفوه وإنعامه { عَلَى المؤمنين } بالعفو والإنعام { إِذْ تُصْعِدُونَ } يعني : إلى الجبل هاربين ، حيث صعدوا الجبل منهزمين من العدو ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : « يَا معْشرَ المُسْلِمينَ أَنَا رَسُولُ الله » فلم يلتفت إليه أحد ، حتى أتوا على الجبل . فذلك قوله تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ } يعني الجبل . وهذا قول الكلبي وقال الضحاك : إذ تصعدون في الوادي منهزمين . وقال القتبي : يعني تبعدون في الهزيمة ، يقال : أصعد في الأرض إذا أمعن في الهزيمة . وقرأ الحسن : تَصْعَدُون بنصب التاء ، أي تَصْعَدُون الجبل . وقرأ العامة بالضم { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } يقول : ولا تقيمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : لا يقيم بعضكم على بعض { والرسول يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } يقول : مِنْ خَلْفِكم { فأثابكم غَمّاً بِغَمّ } يقول : جعل ثوابكم غماً على أثر الغم ، ويقال : جزاكم غماً على أثر الغم ، ويقال غماً متصلاً بالغم . فأما الغم الأول : فإشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين وهم في ذلك الجبل قاله الكلبي . وقال مقاتل : الغم الأول ما فاتهم من الفتح والغنيمة ، فاجتمعوا وكانوا يذكرون فيما بينهم ما أصابهم في ذلك اليوم . والغم الثاني : إذ صعد خالد بن الوليد ، فلما عاينوه أَذْعَرهُم ذلك أي خوفهم ، فأنساهم ما كانوا فيه من الحزن ، فذلك قوله تعالى : { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ } من الفتح والغنيمة { وَلاَ مَا أصابكم } من القتل والهزيمة .

ويقال : الغم الأول الجُرح والقتل ، والغم الثاني أنهم سمعوا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول . قال : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يعني لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجازيكم بها .
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } الأمنة في اللغة الأمن . قال الكلبي : إذا أَمِنَ القوم نعسوا . وقال الضحاك : النعاس عند القتال أَمَنَةٌ من الله تعالى . ويقال : الذي يصيبه الغم والهزيمة لا يكون له شيء أحسن من النعاس ، فيذهب عنه همه ، فأصاب القومَ النعاسُ فذهب عنهم الغم وأمنوا . قوله تعالى : { يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ } يعني النعاسَ يغشى ويعلو طائفة منكم ، من كان من أهل الصدق واليقين . قرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء . وقرأ الباقون بالياء . فمن قرأ بالتاء انصرف إلى قوله أمنة ، ومن قرأ بالياء يكون نعتاً للنعاس .
ثم قال : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني أهل النفاق . وقال الكلبي : هو معتب بن قُشَيْر وأصحابه { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق } يعني : أنهم يظنون أن لن ينصر الله محمداً وأصحابه { ظَنَّ الجاهلية } قال الكلبي : يعني كظنهم في الجاهلية . وقال مقاتل : ظن الجاهلية كظن الجهال المشركين ، مثل أبي سفيان وأصحابه { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْء } يعني : النصرة والفتح { قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ } يعني النصرة والغنيمة كله من الله { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم } أي يُسِرُّونَ في أنفسهم { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } أي يقولون ما لا يظهرون لك { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء مَّا قُتِلْنَا } أي يقولون لو كان ديننا حقاً ما قتلنا { ها هنا } قال الكلبي : وفي الآية تقديم وتأخير ، ومعناه يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ، يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا { مِن شَىْء قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ } وقال الضحاك : { قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ } يعني القدر خيره وشره من الله . قرأ أبو عمرو : قل إِنَّ الأَمْرَ كُلّه لله بضم اللام ، والباقون بالنصب . فمن قرأ بالرفع جعله اسماً مستأنفاً ، ومن نصب جعله نعتاً للأمر .
ثم قال تعالى : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ } يقول : لظهر . ويقال : لخرج { الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل } أي قُضِيَ عَلَيهم القتل { إلى مَضَاجِعِهِمْ } أي إلى مواضع مصارعهم . معناه : أنهم وإن لم يخرجوا إلى العدو وقد قضى الله عليهم بالقتل ، لخرجوا إلى مواضع قتلهم لا محالة ، حتى ينفذ فيهم القضاء . قال تعالى : { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ } يعني ليختبر ويظهر ما في قلوبكم { وَلِيُمَحّصَ } يعني : ليظهر ويكفر { مَا فِى قُلُوبِكُمْ } من الذنوب { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : بما في القلوب من الخير والشر .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

ثم نزل في المنهزمين قوله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ } أي الذين انهزموا منكم { يَوْمَ التقى الجمعان } يعني جمع المسلمين ، وجمع المشركين { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } قال القتبي : استزلهم أي طلب زلتهم ، كما يقال : استعجلت فلاناً أي طلبت عجلته؛ واستعملته أي طلبت عمله . ويقال : زَيَّنَ لهم الشيطان { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } يعني : الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى { وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } حيث لم يستأصلهم { أَنَّ الله غَفُورٌ } لذنوبهم { حَلِيمٌ } إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة .
قال : حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا السراج ، قال : حدّثنا قتيبة ، قال : حدّثنا أبو بكر عن غيلان بن جرير ، أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال له عبد الرحمن : أتسبُّني وقد شهدت بدراً ولم تشهدها؟ وبايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع؟ وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع أي يوم أحد فردّ عليه عثمان وقال : أما قولك إنك شهدت بدراً ولم أشهدها ، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أُمرِّضها ، وضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين . وأما بيعة الشجرة ، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين بمكة؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله قال : « هَذِهِ لِعُثْمَانَ » فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ خير من يميني وشمالي . وأما يوم الجمع فقال الله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } فكنت فيمن عفى الله عنهم . فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف .
ثم قال تعالى : { حَلِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يعني منافقي أهل الكتاب { وَقَالُواْ لإخوانهم } من المنافقين : { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض } يعني إذا ساروا في الأرض تجاراً مسافرين ، فماتوا في سفرهم { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } يعني : خرجوا في الغزو فقتلوا . قال القتبي : غزّاً جمع غاز ، مثل صائم وصُوَّم ، ونائم ونوم { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } بالمدينة { مَا مَاتُواْ } في سفرهم { وَمَا قُتِلُواْ } في الغزو { لِيَجْعَلَ الله ذلك } الظن { حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } ويقال : جعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم . وقال الضحاك : ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين ، لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت .

وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سُودٍ تسرح في الجحيم .
ثم قال تعالى : { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } أي يحيي في السفر ويميت في الحضر ، ويحيي في الحضر ويميت في السفر . ويقال : والله يحيي قلوب المؤمنين ويميت قلوب الكافرين ، يحيي قلوب المؤمنين بالنصرة والخروج إلى الغزو ، ويميت قلوب المنافقين بالتخلف وظن السوء . وقال الضحاك : يعني يحيي من أحيى من نطفة بقدرته ، ويميت من أمات بعزته وسلطانه . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ عبد الله بن كثير وحمزة والكسائي : يعملون بالياء على معنى المغايبة . وقرأ الباقون : بالتاء . ومعناه قل لهم : والله بما تعملون بصير { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } يعني : إن متم في إقامتكم ، أو قتلتم في سبيل الله وأنتُم مُؤْمنون { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله } لذنوبكم { وَرَحْمَةً } يعني : ونعمة وجنة { خَيْرٌ مّمَّا } في الدنيا من الأموال يا معشر المنافقين . قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم : متم بضم الميم في جميع القرآن ، والباقون بكسرها . وهما لغتان ومعناهما واحد .
ثم قال : { يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } في الغزو { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } بعد الموت . قرأ عاصم في رواية حفص : خير مما يَجْمَعون بالياء . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله وما صلة ، فالله ذكر منه أن جعل رسوله رحيماً رؤوفاً بالمؤمنين ، حيث قال : فبرحمة من الله { لِنتَ لَهُمْ } يا محمد أني لينت لهم جانبك ، وكنت رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } أي خشناً في القول غليظ القول { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أي لتفرقوا من عندك ، ولكن الله جعلك سهلاً سَمْحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رحيماً ، وهكذا قال الضحاك .
ثم قال : { فاعف عَنْهُمْ } أي : فتجاوز عنهم ، ولا تعاقبهم بما يكون منهم من الزلة والذنب { واستغفر لَهُمُ } من ذلك الذنب { وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر } يقول : إذا أردت أن تعمل عملاً فاعمل بتدبيرهم ومشاورتهم ، ويقال : ناظرهم في الأمر . ويقال : ناظرهم عند القتال . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ : وشاوِرْهُمْ في بَعْضِ الأمر ، لأنه كان يشاورهم فيما لم ينزل عليه الوحي فيه ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عاقلاً ذا رأي ، ولكنه أمر بالمشورة ليَقْتَدي به غيره ، ولأن في المشاورة تودُّداً لأصحابه ، لأنه إذا شَاوَرهم تَوَدَّد قلوبهم . وفي المشورة أيضاً ترك الملامة ، لأنه يقال : فعلت كذا بمشاورتكم . وروى سهل بن سعيد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا شَقِيَ عَبْدٌ قَطّ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ عَبْدٌ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ » ثم قال تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي لا تتوكل على المشورة ، ولكن توكل على الله بعد المشورة لا على الأصحاب { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } الذين يتوكلون على الله .

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

ثم أخبر عزّ وجلّ أن النصرة من عند الله كلها ، فقال تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله } يقول إن يمنعكم الله { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } من العدو يعني يوم بدر { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } يعني يوم أحد { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } أي : يمنعكم من عدوكم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : فليتّق الواثقون في النصرة ويقال : على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ، لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : يَغُل بنصب الياء . وقرأ الباقون : يُغَل بضم الياء ونصب الغين . فمن قرأ بالنصب معناه : وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة ، ومن قرأ بالضم فمعناه : لا ينسب إلى الغلول . وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال ، وخافوا أن تفوتهم الغنيمة ، وظنوا أن من أخذ شيئاً يكون له ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقسم لهم ، فنزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } يقول : ما جاز لنبيّ أن يخون في الغنيمة ، وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة { وَمَن يَغْلُلْ } أي يخن في الغنيمة { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } يعني يحمله على ظهره . وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لأَعرِفَنّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى عُنقِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لاَ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً» يريد أن من غل شاة أو بقرة ، أتى بها يوم القيامة يحملها . ويقال : من غلّ شيئاً في الدنيا ، يمثل له يوم القيامة في النار ، ثم يقال له : انزل إليه فَخُذْه ، فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله ، فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم ، فيرجع فيأخذه فلا يزال كذلك ما شاء الله . ويقال : { يَأْتِ بِمَا غَلَّ } يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول ، ويقال هذا على سبيل التمثيل { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أي بوباله ، فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ الأنعام : 31 ] .
ثم قال تعالى : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } أي توفى وتجازى كل نفس { مَّا عَمِلَتْ } من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً { أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } قال الكلبي : يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة { كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله } يعني : كمن استوجب سخطاً من الله بأخذ الغلول من الغنائم . ثم بيّن مستقر كل من غل يوم القيامة ومن أخذ من الحلال ، فقال لمن غل : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } الذي صاروا إليه يعني النار . وقال في حق من أخذ الحلال : { هُمْ درجات عِندَ الله } يعني لهم درجات في الجنة عند الله ، ويقال : هم ذوو درجات عند الله { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بمن غلّ وبمن لم يغل . وقال القتبي : هي طبقات عند الله في الفضل ، فبعضهم أرفع من بعض . وقال أبو عبيدة والكسائي : لهم درجات عند الله ، ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة ، ولمن غل درجات في النار .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

لَقَد مَنَّ الله على المؤمنين } أي أنعم الله عليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني : من أصلهم ونسبهم من العرب ، يعرفون نسبه . ويقال : من أنفسهم ، يعني من جنسهم من بني آدم ، ولم يجعله من الملائكة . وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم . وقرىء في الشاذ : من أَنفسكم بنصب الفاء ، أي من أشرفهم . وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء : أحدها : أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل ، ثم من العرب قريش ، ثم من قريش بنو هاشم ، فجعله من بني هاشم . والثاني : أنه كان أميناً فيهم قبل الوحي . والثالث : أنه كان أمياً لكي لا يرتاب فيه الافتعال .
ثم قال : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } أي يعرض عليهم القرآن { وَيُزَكّيهِمْ } يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم ، ويقال : ويزكيهم يعني يطهرهم من الذنوب والشرك . ويقال : ويزكيهم أي يأمرهم بكلمة الإخلاص ، وهي قول لا إله إلا الله ، { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } يعني القرآن ، والحكمة أي الفقه وبيان الحلال والحرام { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي : وقد كانوا من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بَيِّن .
ثم رجع إلى قصة أُحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات ، فقال : { أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ } يعني يوم أُحد { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر ، لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفساً من صناديد قريش وأسروا سبعين ، وقتل من المسلمين يوم أُحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد ، فذلك قوله تعالى : { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } وقوله : { أَوَلَمَّا } فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة ، فكأنه قال : ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد ، قد أصبتم مثليها يوم بدر { مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } يعني قلتم : فمن أين لنا هذا؟ وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي من عند قومكم بمعصية الرماة ، بتركهم ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الضحاك : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } ، يعني بذنوبكم التي سلفت منكم قبل القتال ، يعني أن في ذلك تطهيراً لما سلف من ذنوبكم وهو قوله تعالى : { وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من النصرة والهزيمة { وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان } فبإذن الله ، أي جمع المسلمين وجمع المشركين { فَبِإِذْنِ الله } أي فبإرادة الله أصابكم { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق .
ثم بيّن أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد ، فقال : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } يعني : إن لم تقاتلوا لوجه الله ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وحريمكم .

قال الكلبي : ويقال ادفعوا يعني : كثروا . وقال القتبي : ادفعوا ، أي كثروا لأنكم إذا كثرتم ثم دفعتم القوم بكثرتكم { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } يعني : أن ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان . وقوله : { لاتبعناكم } أي لجئنا معكم . قال الضحاك : وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج يوم أحد ، أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس ، فقال : « مَنْ هَؤُلاءِ » ؟ فقيل : يا نبيّ الله ، هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي . فقال : « إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالكُفَّارِ » فرجع عبد الله مع حلفائه من اليهود . فقال له عمر : أقم مع المؤمنين . فقال : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } . ويقال : إن عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } ذكر الأفواه على معنى التأكيد ، لأن الرجل يقول بالمجاز بالإشارة ، وهذا كما قال : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ] و { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب شَغَلَتْنَآ أموالنا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ الفتح : 11 ] { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق والكفر .
ونزل فيهم أيضاً : { الذين قَالُواْ لإخوانهم } من المنافقين { وَقَعَدُواْ } عن الجهاد { لَوْ أَطَاعُونَا } في القعود عن الجهاد { مَا قُتِلُوا } في الغزو { قُلْ } لهم يا محمد { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ } في حال حضور { الموت إِن كُنْتُمْ صادقين } في مقالتكم . قال الفقيه : سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول : لما نزلت هذه الآية : { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } مات يومئذ سبعون نفساً من المنافقين .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

ثم نزل في شأن الشهداء : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } يعني في طاعة الله
{ أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } من التحف؛ وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان ، فنزلت هذه الآية : { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } وهذا قول الكلبي . ويقال : ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً كسائر الأموات بل أحياء ، يعني : هم كالأحياء عند ربهم ، لأنه يُكْتب لهم أجرهم إلى يوم القيامة ، فكأنهم أحياء في الآخرة . ويقال : لا تظن كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون ، بل يبعثهم الله ويقال : أرواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الشهداء الأحياء وروي عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ ، جَعَلَ الله أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرِ خُضْرٍ ، تَردُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ العَرْشِ ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مُنْقَلَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ ، وَرَأَوْا مَا عِنْدَ الله لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، قَالُوا : يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا عَلِمُوا مَا أَعدَّ الله لَنَا مِنَ الكَرَامَةِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، فَلَمْ يَنكلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَجْبُنُوا عِنْدَ القِتَالِ ، فَقَالَ الله تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ ، فَأَنْزَلَ : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } » { فَرِحِينَ } أي معجبين { بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } أي من رزقه في الجنة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ } من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم .
ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا من الدنيا . قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : ولا تَحْسَبَنَّ بنصب السين في جميع القرآن . وقرأ الباقون : بالكسر . وقرأ ابن عامر : قُتِّلُوا بتشديد التاء على معنى التكثير ، يعني أنهم يقتلون واحداً فواحداً . وقرأ الباقون بالتخفيف .

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ } يقول : بجنة من الله ، ويقال : بمغفرة من الله { وَفَضَّلَ } يعني : الكرامات في الجنة . وروي عن مجاهد أنه كان يقول : السيوف مفاتيح الجنة . وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الشَّهِيدُ يَشفعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ » قال الفقيه : أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه ، إن الله تعالى أكرم الشهداء بخمس كرامات ، لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا ، إحداها : أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي ، وأما الشهداء فالله تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ، ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت . والثانية : أن جميع الأنبياء قد غُسِّلوا بعد الموت ، وأنا أَغسَّل بعد الموت ، وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا . والثالثة : أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضاً ، والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم . والرابعة : أن جميع الأنبياء لما ماتوا فقد سُمُّوا أمواتاً ، وإذا مت أنا يقال : قد مات؛ والشهداء لا يُسمون موتى . والخامسة : أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة ، وشفاعتي أيضاً يوم القيامة ، وأما الشهداء فيشفع لهم في كل يوم فيمن يستشفعون .
ثم قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } قرأ الكسائي : وإنَّ بكسر الألف ، والباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ، ويستبشرون بأن الله لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين . ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء : إن الله لا يبطل ثواب عمل الموحدين ، وهذا الخبر للترغيب في الجهاد . وأما الشهداء والأولياء ، فيشفع لهم لا يبلغون إلى درجة الأنبياء . ومن قال : إنهم يبلغون إلى درجة الإباحة ، ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي .

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

قوله تعالى : { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } قال في رواية الكلبي : وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أُحد ، نادى فقال : يا محمد ، إن الموعد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى . فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : « قُلْ لَهُ ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى » ثم ندم أبو سفيان ، فقال لنعيم بن مسعود وكان يخرج إلى المدينة للتجارة : إذا أتيت المدينة ، فخوّفهم لكيلا يخرجوا . فلما قدم نعيم المدينة قال : إن أبا سفيان قد جمع خلقاً كثيرة ، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا ، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قال : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ » قال : فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد ، ومعه نحواً من سبعين رجلاً ، حتى انتهوا إلى ذلك الموضع ، وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة ، فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا ، فنزل قوله تعالى : { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } .
{ مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح } يعني أصابتهم الجراحات يوم أُحد { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } أي الذين أوفوا الميعاد { واتقوا } السخط في معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم { أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي ثواب كثير { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } يعني نعيم بن مسعود ، وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلاً واحداً { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } يعني أبا سفيان وأصحابه { فاخشوهم } ولا تخرجوا إليهم { فَزَادَهُمْ إيمانا } أي تصديقاً ، ويقيناً ، وجرأة على القتال { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } أي ثقتنا بالله ، وأيقنوا أن الله لا يخذل محمداً صلى الله عليه وسلم { وَنِعْمَ الوكيل } أي نعم الثقة لنا . { فانقلبوا } انصرفوا { بِنِعْمَةٍ مّنَ الله } أي بأجر من الله { وَفَضَّلَ } يعني ما تسوقوا به من السوق ، واشتروا الأشياء بسعر رخيص { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } يعني قتال { واتبعوا رضوان الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } أي ذو مَنِّ عظيم . وقال في رواية الضحاك : كان ذلك يوم أُحد ، لما انهزمت قريش ، ونزلت في مواضع ، وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلاً ، فنزلت هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } يعني نعيم بن مسعود ، لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه ، يعني بأوليائه الكفار . ويقال : يخوف أشكاله . وقال الزجاج : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان } أي ذلك التخويف عمل الشيطان ، يخوفكم من أوليائه . وقال القتبي : يخوف أولياءه أي بأوليائه ، أي كما .
قال تعالى : { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } [ الكهف : 2 ] يعني لينذركم ببأس شديد .
ثم قال تعالى : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الخروج { وَخَافُونِ } في القعود { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين . قال الزجاج : معناه إن كنتم مصدقين ، فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)

{ وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر } قال الكلبي : يعني به المنافقين ورؤساء اليهود ، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزل : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر } . ويقال : إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا ، شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون : إنهم أهل الكتاب ، فلو كان قوله حقاً لاتبعوه . فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت في مشركي قريش ، لأنهم كانوا أقرباءه ، والناس يقولون : لو كان قوله حقاً لاتبعه أقرباؤه ، فشق ذلك عليه فنزلت { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر } أي يبادرون في الكفر ولا يصدقونك { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي لا ينقصوا من ملك الله شيئاً وسلطانه شيئاً بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قَالَ الله لَو أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَجِنَّكُمْ وَإنْسَكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذلك فِي مُلْكِ الله شَيْئاً وَلَوْ كَانَ أوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ وَجِنُّكُمْ وَإنْسُكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ »
ثم قال تعالى : { يُرِيدُ الله أَن ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاخرة } أي نصيباً في الجنة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } في الآخرة . قرأ نافع : ولا يُحْزِنْك بضم الياء وكسر الزاي ، وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103 ] وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي ، وهما لغتان وتفسيرهما واحد .

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين اشتروا } يعني اختاروا { الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } يقول لن ينقصوا من ملك الله شيئاً ، وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } يعني : لا يظن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم ، ويقال : ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة ، بل هو شر لهم في الآخرة { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي نعطي لهم المال والولد ، يهانون به من العذاب . ويقال : إنما نملي لهم ، أي بما أصابوا من الظفر يوم أُحد لم يكن ذلك خيراً لأنفسهم ، وإنما كان ليزدادوا عقوبة . ويقال : إنما نملي لهم ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثماً ، أي جرأة على المعاصي . وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من بر وفاجر إلا والموت خير له ، لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } قرأ ابن عامر وعاصم : لا يحسبن بالياء ونصب السين . قرأ الباقون بالتاء وكسر السين ، وكذلك الذي بعد هذا .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

ثم قال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } قال الكلبي : وذلك أن قريشاً من أهل مكة قالوا : يا رسول الله إنك تزعم أن الرجل منا في النار ، وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة ، فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا مَن يأتيك منا ومن لا يأتيك؟ فأنزل الله تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الكفر والنفاق . { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } يقول : حتى يخلص الكافر من المؤمن { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } أي ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن . وقال الفراء : لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى } يقول يصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } للنبوة والرسالة من خلقه ، فيوحي إليه بإذنه . قال في رواية الضحاك : إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر ، وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين ، فأحب الله أن يميز بين الفريقين ، وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } يعني المنافق من المؤمن { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله ، يعني : أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين ، ولكن الله يبين ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } ، أي ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على ما أنتم عليه من الكفر حتى يوفقه للإيمان ، { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله بالوحي ، حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم .
ثم قال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } بالله ورسله { وَتَتَّقُواْ } الشرك والمعصية { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي ثواب عظيم في الجنة . ويقال : إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم من يؤمن منهم ، فنزل قوله : { مَّا كَانَ الله } يعني ولا تشتغلوا بما لا يعنيكم ، واشتغلوا بما يعنيكم ، فآمنوا بالله ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم . قرأ حمزة والكسائي : حتى يُميز مع التشديد بضم الياء ونصب الميم . وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد ، وتفسيرهما واحد إلا انك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة والمبالغة .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)

ثم قال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } أي بما أعطاهم الله من المال ، يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام ، فلا يظنوا أن ذلك { هُوَ خَيْرٌ لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } يعني : أن البخل شر لهم . ويقال : الفضل شر لهم { سَيُطَوَّقُونَ } يقول سيوثقون { مَا بَخِلُواْ بِهِ } من الزكاة كهيئة الطوق . وروي عن ابن عباس أنه قال : يأتي كنز أحدهم ، شجاع أقرع له زبيبتان طوقاً في عنقه ، يلدغ خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا فذلك قوله تعالى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } ويقال : هو طوق من نار في عنقه . ويقال : هو على وجه المثل ، يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والارض } يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة ، وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق ، ويبقى رب العالمين ثم يقول : { يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] . فلا يجيب أحد فيرد على نفسه فيقول : { ياصاحبى السجن ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 وغيرها ] فذلك قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والارض } يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك . وإنما سمي ميراثاً على وجه المجاز ، لأن القرآن بلغة العرب ، وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثاً على وجه المجاز ، وأما في الحقيقة فليس بميراث ، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن يملكه من قبل ، والله عز وجل مالكهما ، وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له ، وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها ، فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل . ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا ، قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراث الله لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا .
ثم قال تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها ، فيجازي كل نفس بما عملت . قرأ ابن كثير وأبو عمرو بما يعملون بالياء ، والباقون بالتاء على وجه المخاطبة { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } . وقال في رواية الضحاك : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { } قالت الفجرة من كفرة اليهود : أفقير ربنا فيستقرضنا؟ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء ، فنزلت هذه الآية .

ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام ، وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا ، فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا : أيسأل الله منا الصدقة؟ فهو فقير ونحن أغنياء . فنزلت هذه الآية { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } أي حفظ قولهم ونجازيهم ويقال : سنكتب ما قالوا ، يعني : يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة { وَقَتْلِهِمُ } أي ونكتب قتلهم { الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } يعني بلا جرم { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك . قرأ حمزة : سيُكتَب بضم الياء ونصب التاء ، وقتلُهم الأنبياء بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، يعني يكتب قتلهم الأنبياء ، ويقول بالياء . والباقون سنكتب بالنون ، وقتلهم بنصب اللام ، ونقول بالنون . وقوله : { ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ أنَّ شَرَارَةً وَقَعَتْ بِالمَشْرِقِ لَغَلَتْ مِنْهَا جَمَاجِمُ قَوْمٍ بِالمَغْرِبِ ، وَلَوْ أنَّ حَلقَةً مِنْ سَلاَسِلِ النَّارِ وُضِعَتْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لاحْتَرَقَ إلى سَبْعِ أَرَضِين » فهذا معنى قوله : { عَذَابَ الحريق } .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

ثم قال : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } يعني يقال لهم : ذلك العذاب بما قدمت { أَيْدِيكُم } من الكفر والتكذيب ، أي بما قدمتم . وذكر الأيدي على معنى الكتابة { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } أي لا يعذب أحداً بغير ذنب .

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

قوله تعالى : { الذين قَالُواْ } يعني كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود : قالوا : { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } يعني أمرنا في التوراة { أَن لا نُؤْمِنُ } يعني أن لا نصدق { لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } يعني تجيء نار من السماء فتأكل القربان بالبينات ، فإن جئتنا بها صدقناك قال الله تعالى : { قُلْ } يا محمد { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ } يعني : بالآيات والعلامات { وبالذى قُلْتُمْ } يعني قد جاءكم الرسل بالذي قلتم من أمر القربان { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } يعني زكريا ويحيى وغيرهما { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تقولون .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

قوله تعالى : { فَإِن كَذَّبُوكَ } بما تقول لهم { فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } فالله تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم ، فقد { موسى بالبينات } يعني الرسل جاؤوا بالبينات ، أي من قبلك ، وقد جاؤوا بالآيات والعلامات { والزبر } قال الكلبي : يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون { والكتاب المنير } يعني : الحلال والحرام . وقال الزجاج : الزبر جماعة الزبور وهو الكتاب يقال : زَبَرْتُ أي كتبت ، ويقال : زَبَرْتُ أي قرأت ، والكتاب المنير يعني المعنيّ بالحلال والحرام . قرأ أبو عمرو بالزبر مع الباء ، وقرأ الباقون والزبر بالواو .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

ثم قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } قال الكلبي : لما نزل قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] قالت الملائكة هلك أهل الأرض ، فلما نزل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أيقنت الملائكة أنها هلكت معهم . ثم قال { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } أي توفون ثواب أعمالكم { يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } يقول بَعُد وَنُحِّي عنها { وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } يعني : نجا وسعد في الجنة . حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدثنا المسيب عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْيَأت إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْه » وقوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } قال ابن عباس : متاع الغرور مثل القدر والقارورة والسكرجة ونحو ذلك ، لأن ذلك لا يدوم ، وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى . ويقال : هو مثل الزجاج الذي يسرع إليه الكسر ، ولا يصلحه الجبر . ويقال : كزاد المسافر ، يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

قوله تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِى أموالكم وَأَنفُسِكُمْ } يقول : لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب ، ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي أنفسكم ، بالأمراض والأوجاع والقتل { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } حين قالوا : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ آل عمران : 181 ] { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } يعني مشركي العرب { أَذًى كَثِيراً } باللسان والفعل ، ويقال : نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه ، كانوا أهل الجاهلية يهددونه ويشتمونه ويقولون : إن ما يفعله محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورته ، فأمره الله تعالى بأن يصبر على أذاهم . فقال تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ } على أذاهم { وَتَتَّقُواْ } المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الامور } يعني من حقائق الأمور . ويقال : إن ذلك الصبر من خير الأمور .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني : أخذ عليهم الميثاق حين أخذ ذرية آدم من ظهورهم . ويقال : أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } يعني : نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } عنهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، كلاهما بالياء . وقرأ الباقون بالتاء ، فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق ، وقال لهم : لتبيننه للناس ولا تكتمونه . ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } أي طرحوه خلف ظهورهم ، يعني أنهم تركوا الميثاق ولم يعملوا به { واشتروا بِهِ } أي بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته { ثَمَناً قَلِيلاً } أي عَرضاً يسيراً من متاع الدنيا { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } يعني : بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة { لاَ تَحْسَبَنَّ } يقول : لا تظنن يا محمد { الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أُوتُواْ } يقول : يعجبون بما أوتوا ، يعني بما غيرّوا من نعته وصفته ، وهذا قول الكلبي . وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك : إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبياً في آخر الزمان يختم به النبوة ، فلما بعثه الله سألهم الملوك : أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعاً في أموال الملوك : هو غير هذا . فأعطاهم الملوك مالاً فقال الله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أُوتُواْ } أي بما أعطاهم الملوك { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } لأنهم كانوا يقولون : نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه . ويقال : كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ، ويريدون أن يحمدوا بذلك . قال الله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } يقول فلا تظنهم { بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي دائم لا يخرجون منه أبداً .
{ وَللَّهِ مُلْك السموات والارض } أي خزائن السموات المطر ، وخزائن الأرض النبات . ويقال : جميع من في السموات والأرض عبيده وفي ملكه { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من النبات وغيره . ويقال : هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء لأنه على كل شيء قدير { إِنَّ فِي خَلْقِ *** السموات والارض } وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية لصحة دعواه ، لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فنزل { إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض } أي خلقين عظيمين . ويقال : فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم ، وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار { واختلاف اليل والنهار } يقول : وذهاب الليل ومجيء النهار ، ويقال اختلاف لونيهما { لاَيَاتٍ } أي لعبرات { لاِوْلِى الالباب } أي لذوي العقول { الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } أي يصلون لله قياماً إن استطاعوا على القيام ، وقعوداً إن لم يستطيعوا القيام { وعلى جُنُوبِهِمْ } إن لم يستطيعوا القعود لزمانة .

ويقال : معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع ، كما قال في آية أخرى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ثم قال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والارض } أي يعتبرون في خلقهما . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا السراج ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا ابن زرارة الحلبي ، عن أبي حباب ، عن عطاء بن أبي رباح قال : دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة ، فسلمنا عليها فقالت : من هؤلاء؟ فقلت : عبد الله بن عمر ، وعبيد بن عمير . فقالت : مرحباً بك يا عبيد بن عمير ، ما لك لا تزورنا؟ فقال عبيد : زر غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً فقال ابن عمر : دعونا من هذا ، حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت بكاء شديداً ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي ، فقال : « يَا عَائِشَةُ أَتَأْذَنِينَ لِي أنْ أَعْبُدَ رَبِّي » فقلت : والله إني لأحب قربك ، والله إني لأحب هواك . فقام إلى قربة ماء فتوضأ ، ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره ، ثم اتكأ على شقه الأيمن ، ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ، فبكى حتى روت الدموع الأرض . ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر ، فلما رآه يبكي قال : أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : « يَا بِلالُ أفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً ، وَمَا لِي لا أبْكِي وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةُ { إِنَّ فِي خَلْق السموات والارض إِلَى . . . قَوْلُهُ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا » وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ وَلا تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ » وقال صلى الله عليه وسلم : « تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ »
ثم قال تعالى عز وجل : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } أي يتفكرون ويقولون : ربنا ما خلقت هذا باطلاً عبثاً بغير شيء ، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن { سبحانك فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } يعني ادفع عذاب النار . وقال الزجاج : معنى { سبحانك } أي تنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي صدَّقْنا رسلك ، وسلَّمنا أن لك جنة وناراً { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .

{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي أهنته وفضحته { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } يعني : ما للمشركين من مانع من العذاب إذ نزل بهم ، ويقولون أيضاً : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } يعني محمداً يدعو إلى التصديق { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا } أي صدقوا بتوحيد ربكم ، فآمنا أي صدقنا بتوحيد ربنا . وقال محمد بن كعب القرظي : ليس كل الناس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا } وقال الكلبي : الذنوب الكبائر ودون الكبائر ، والسيئات الشرك . وقال الضحاك : ذنوبنا يعني ما عملوا في حال الجاهلية ، وكفر عنا سيئاتنا ، يعني : ما عملوا في حال الإسلام . ويقال : الذنوب والسيئات بمعنى واحد . ويقال : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة { وَتَوَفَّنَا مَعَ الابرار } أي مع المطيعين ، ويقال : اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين . ويقولون أيضاً : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك . ويقال : هو ما ذكر من استغفار الملائكة والأنبياء للمؤمنين ، وهو قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } [ الشورى : 5 ] وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم عليهم السلام للمؤمنين .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } يعني لا تعذبنا ، ويقال : لا تخذلنا { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } فأخبر الله عن فعلهم ، وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده ، وبيّن لهم ثوابه وهو قوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } . روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا بهذه الدعوات فإنه يستجاب له ، لأنه قال تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } يعني ثواب عمل عامل في طاعتي { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } يعني رجلاً أو امرأة . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الديبلي ، قال : حدثنا أبو عبيد الله ، قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع ، عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إني أسمع الله ذكر الهجرة ، فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النساء فأنزل الله تعالى : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } . { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } قال الكلبي : أي بعضكم أولياء بعض في الدين . وقال الضحاك : يعني يشبه بعضكم بعضاً في الطاعة . ويقال : بعضكم على أثر بعض ، ويقال بعضكم على دين بعض .

{ فالذين هاجروا } من مكة إلى المدينة { وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم } يعني : أن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي عُذّبوا في طاعتي { وَقَاتِلُواْ } مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين { وَقُتّلُواْ } أي قتلهم المشركون . قرأ حمزة والكسائي : وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كفروا وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كفروا إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ آل عمران : 55 ] وقرأ الباقون : وقاتلوا وقتلوا ، إلا ابن كثير وابن عامر قرآ وقتّلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة ، فذكر الله فعلهم ، ثم ذكر ثوابهم فقال : { لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم } أي لأمحون عنهم ذنوبهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار أي تجري يعني من تحت قصورها وأشجارها الأنهار { ثَوَاباً مّن عِندِ الله } يعني أن الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله . وقال الزجاج : إنما صار نصباً لأنه مصدر مؤكد ، معناه : لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ولأثيبنهم ثواباً . وروي عن الفراء أنه قال : إنما صار نصباً على التفسير . { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي حسن الجزاء وهو الجنة . ويقال : حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)

لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } يقول : لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض . ويقال : هذا الخطاب للمؤمنين ، ومعناه : لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم في البلاد ، لأن ذلك { متاع قَلِيلٌ } لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش ، وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، وكان المؤمنون في ضيق وشدة ، فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة ، وبمرجع المؤمنين فقال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ } أي ما هم فيه من العيش والسعة ، فإنما هو متاع أي يفنى بعد وقت قريب . قوله : { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم إلى جهنم { وَبِئْسَ المهاد } بئس موضع القراء في النار ، وبئس المصير إليها ، فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ } أي اتقوا الشرك والفواحش ، ووحّدوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها أبداً { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله } يقول : ثواباً من عند الله للمؤمنين الموحدين خاصة { وَمَا عِندَ الله } الجنة { خَيْرٌ لّلابْرَارِ } من الدنيا للمؤمنين المطيعين { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } يعني مؤمني أهل الكتاب ، معناه من أهل الكتاب من آمن بالله فصدق بقوله { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن وصدق { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من التوراة والإنجيل ، يعني على أنبيائهم ، فذكر حالهم وبيّن ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم .
ثم نعتهم فقال تعالى : { خاشعين للَّهِ } أي متواضعين لله ، والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع ، وقد فرّق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع ، فقال الخضوع في البدن خاصة ، والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب . كما قال الله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] وقال : { خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سالمون } [ القلم : 43 ] .
ثم قال تعالى : { لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً } يعني عرضاً يسيراً كفعل اليهود { أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي ثوابهم { عِندَ رَبّهِمْ } الجنة { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي شديد العقوبة ، ويقال : سريع الحفظ والتعريف { الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا } أي اصبروا على البلاء والجهاد وأداء الفرائض ، وعن المعاصي { وَصَابِرُواْ } مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم ، يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان { وَرَابِطُواْ } مع عدوكم ما أقاموا ، وهذا قول الكلبي . وقال عكرمة : اصبروا على البلاء وعلى طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا الخيول . وقال الزجاج : اصبروا على دينكم وصابروا على عدوكم ، ورابطوا أي أقيموا على جهادكم بالحرب { واتقوا الله } في جميع ما أمركم ونهاكم . وقال القتبي : أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } يقول : تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها . ويقال : أصل الفلاح البقاء بالنعمة ، ويقال : الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يؤمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

{ أَيُّهَا الناس } قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } قال : الناس عامة ، وقد يكون { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } خاصة وعامة ، يعني خاصة لأهل مكة ، وفي هذا الموضع عام لجميع الناس { اتقوا رَبَّكُمُ } يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم . وقال : وحّدوا ربكم ولا تشركوا به شيئاً ، ثم دل على وحدانية نفسه بصنيعه فقال : { الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } يعني آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني خلق من نفس آدم زوجها حواء ، وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم ، فكان آدم بين النائم واليقظان ، فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء ، فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم؟ قال امرأة لأنها خلقت من المرء ، فقيل : ما اسمها؟ قال : حواء لأنها خلقت من حي . وقد قيل : إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } [ الأعلى : 5 ]
ثم قال تعالى : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } يعني : خلق منهما يعني من آدم وحواء ، ونشر منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، يعني خلق منهما رجالاً كثيراً ونساءً . قال مقاتل : أي خلق منهما ألف ذرية من الناس . ثم قال تعالى : { واتقوا الله } أي أطيعوا الله { الذى تَسَاءلُونَ بِهِ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو عمرو في رواية هارون : «تسألون» بغير تشديد . وقرأ الباقون بالتشديد ، فأما من قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه ، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضاً تتساءلون ، فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف . ثم قال : { والارحام } قرأ حمزة : { والارحام } بكسر الميم ، والباقون بنصب الميم ، ومعناه واتقوا الله الذي تسألون به الحاجات ، يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضاً ، فيقول الرجل للرجل : أسألك بالله وأنشدك بالله والأرحام . يقول : واتقوا الله في ذوي الأرحام ، فصلوها ولا تقطعوها . وأما من قرأ بالكسر معناه : أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني شيئاً . وقال الزجاج : من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين ، أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر ، كقول الشاعر :
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فما لنا بك والأيام من عجب
وأما في غير الشعر فلا يستعمل ، وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ " فالسؤال بالأرحام أمر عظيم . ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ بالخفض أيضاً .

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

ثم قال { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } يقول للأولياء { أَتَوْا اليتامى أموالهم } التي عندكم إذا بلغوا النكاح ، يعني الحلم { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث } يعني الحرام { بالطيب } يعني بالحلال من أموالكم يقول : لا تذروا أموالكم الحلال ، وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى . ويقال : لا تخلطوا الخبيث بالطيب . ويقال : لا تخلطوا من مالكم الرديء ، وتأخذوا الجيد من مال اليتيم . يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة ، وفي الحبوب كذلك . ويقال : لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم .
ثم قال تعالى { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } يعني مع أموالكم { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } يعني : إثماً عظيماً قرأ الحسن «حوباً» بنصب الحاء . قال مقاتل : هو بلغة الحبش . قال القتبي : الحُوب والحَوْب واحد ، وهو الإثم . وقال مقاتل : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخيه ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم ، فنزلت الآية فقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل : أطعنا الله ورسوله ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع إليه ماله ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ أصَابَ الأَجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ " فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه في سبيل الله؟ فقال : " أصَابَ الغُلامُ الأجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ "
قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } يعني : ألا تعدلوا في أموال اليتامى ، يقال في اللغة : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار . وقال صلى الله عليه وسلم : " المُقْسِطُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " يعني العادلون . قال الله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] يعني الجائرون . ثم قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون ألا يعدلوا ، وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا ، فنزلت هذه الآية { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } { مّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى ، فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن . وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن ، ولم يكن لهم أحد يخاصم عنهن ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك فقال : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } الآية . ويقال : إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام ، وكانوا لا يحسنون النظر إليهم ، فنزل { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } يعني بغير ولد { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } في القسم والنفقة { فواحدة } يقول : تزوجوا امرأة واحدة ، وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } يعني الإماء ، ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة ، أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة ، والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة .

وقال بعض الروافض بظاهر هذه الآية أنه يجوز نكاح تسع نسوة ، لأنه قال مثنى وثلاث ورباع ، فيكون ذلك تسعاً . ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع ، ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع ، وبذلك جاءت الآثار ، وهو حديث غيلان بن سلمة أنه أسلم ومعه عشر نسوة ، فخيّره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار أربعاً وفارق البواقي . وروي عن الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر ، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعاً ويمسك أربعاً . وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير ، أن ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي ، وهذا هو المعروف عند الفقهاء . ثم قال تعالى : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } أي أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا .
ثم قال تعالى :

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

{ وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً } يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة . ويقال : ديانة كما يقال : فلان ينتحل إلى مذهب كذا ، أي يدين بكذا . ويقال نحلة أي صدقة وهبة ، لأن المهر نحلة من الله تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن . وقال في رواية الكلبي : إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلاً ولا كثيراً ، وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها ، ولا يعطوها مهرها غير ذلك البعير شيئاً ، فنزل قوله تعالى { وَءاتُواْ النساء صدقاتهن نِحْلَةً } يعني به الأولياء ، يعني أعطوهن مهورهن نحلة . يقول : عطية لهن . وقال في رواية مقاتل : كان الرجل يتزوج بغير مهر ، ويقول : أرثك وترثيني ، فنزلت الآية { وَءاتُواْ النساء } يعني الأزواج { صدقاتهن نِحْلَةً } أي مهور النساء نحلة يعني فريضة { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } يا معشر الأزواج أي أحللن لكم ووهبن لكم ، قال في رواية الكلبي : يعني الأولياء إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } { عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً } أي طيباً لا إثم فيه { مَّرِيئاً } أي لا داء فيه ، ويقال : هنيئاً مريئاً يعني حلالاً طيباً . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا كان أحدكم مريضاً فليسأل من امرأته درهمين من مهرها ، حتى تهب له بطيبة نفسها ، فيشتري بذلك عسلاً فيشربه مع ماء المطر ، فحينئذٍ قد اجتمع الهنيء والمريء ، والشفاء والماء المبارك ، يعني أن الله سبحانه تعالى سمى المهر هنيئاً مريئاً إذا وهبت ، وسمى العسل شفاء ، وسمى ماء المطر مباركاً ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } يعني النساء والأولاد الصغار ، يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده ، ثم يجعل نفسه محتاجاً إليهم فلا يدفع إليه عند حاجته . ويقال : لا تدفعوا أموالكم مضاربة ، ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا . فذلك قوله تعالى { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم } يعني الجهال بالأحكام . ويقال : لا تدفعوا إلى الكفار ، ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذمياً بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه مضاربة ثم قال تعالى : { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } يعني الأموال التي جعل الله قواماً لمعاشكم . ثم قال : { وارزقوهم فِيهَا } يعني الأولاد الصغار أطعموهم { واكسوهم } من أموالكم ، وكونوا أنتم القوام على أموالكم { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء ، فعدوا لهم عدة حسنة ، أي سأفعل ذلك .

ثم قال : { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم ، { حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } يعني الحلم ويقال : مبلغ الرجال { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا } يقول : إذا رأيتم منهم رشداً ، وصلاحاً في دينهم ، وحفظاً لأموالهم { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } التي معكم { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً } في غير حق { وَبِدَاراً } يعني مبادرة في أكله { أَن يَكْبَرُواْ } يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم .
ثم قال : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي ليحفظ نفسه عن مال اليتيم { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، وقالوا فيها ثلاثة أقوال . قال بعضهم : يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه . وقال بعضهم : لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض ، ويرد عليه إذا كبر . وقال بعضهم : لا يجوز في الأحوال كلها . فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم المراد منه بيت المال فمن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال : يا ابن عباس أتي إليّ بمواشي أيتام فهل عليَّ جناح إن أصبت من رسل مواشيهم؟ قال ابن عباس : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها ، فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها . وقال مجاهد : كان يقول من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم ، فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه ، وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سيرين أنه قال : سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قال : هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر . فقال : ألا ترى أنه قال في سياق الآية { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } ؟ وقال أبو العالية : ما أكل فهو دين عليه . وقال الشعبي : مثله . وأما من قال إنه لا يجوز أكله ، فلأن الله تعالى قال { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة ، لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة ، فيرد حكم المتشابه إلى المحكم . وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بتلك الآية . قال الفقيه رحمه الله : إذا كان الوصي فقيراً ، فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه ، أرجو أن لا بأس به ، لأن كثيراً من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل .
قرأ نافع وابن عامر { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قَيِّماً } بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف ، والباقون بالألف ومعناهما قريب .

وقال أهل اللغة : قياماً وقواماً وقيماً بمعنى واحد . وقوله تعالى { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم } يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } على ذلك ، وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه ، ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ثم قال : { وكفى بالله حَسِيباً } أي شهيداً في أمر الآخرة ، وأما في أمر الدنيا ينبغي أن يشهد العدول على ذلك لدفع القال عن نفسه ، لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا .
قوله تعالى :

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ، وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة ، حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري ، وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها : أم كجة ، فقام ابن عمه وأخذ ماله ، فجاءت المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له القصة . ويقال : مات رفاعة وترك ابنه وابنته ، فأخذ الابن ميراثه كله فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزل قوله { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } أي حظ { مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } { وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ } أي حظ { مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ } يعني إن قل المال { أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي حظاً معلوماً لكل واحد من الميراث ، فبيّن في هذه الآية أن للرجال نصيباً وللنساء نصيباً ، ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم . ثم بيّن في الآية التي بعدها فقال : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين } قال مقاتل : فيها تقديم وتأخير ، ومعناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث { فارزقوهم مّنْهُ } يعني فأعطوهم من الميراث . قال مقاتل : وهذا كان قبل قسمة الميراث .
ثم قال تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يعني إذا كان الورثة كباراً يعطون من الميراث لذوي القربى ، وإن كانت الورثة صغاراً ليقل لهم الأولياء قولاً معروفاً ، أي عدوا لهم عدة حسنة . يقول لهم : إذا أدرك الصغار أمرناهم يعطوكم شيئاً ويعرفون حقكم . وقال القتبي : { إِذَا حَضَرَ القسمة } فيه قولان : أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم ، فاجعلوا لهم حظاً من الثلث . ووجه آخر : أن يكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها .
ثم قال : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ } يقول : وليخش على أولاد الميت الضياع ، كما أنكم لو تركتم أولاداً { ذُرّيَّةً ضعافا } يقول : عجزة صغار ، يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله ، فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إذا حضر الرجل الوصية ، فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك؛ فإن الله تعالى رازق أولادك ولكن يقول : له قدم لنفسك واترك لولدك؛ فذلك قوله تعالى : { خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } يعني : يقول للميت قولاً عدلاً ، وهو أن يلقنه لا إله إلا الله ولا يأمره بذلك ، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن . وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله » ولم يقل مروهم بذلك ، لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد .

قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } يعني بغير حق { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } أي حراماً ، لأن الحرام يوجب النار ، فسماه الله باسمها ويقال : إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم ، فذلك قوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } . وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال : « رَأَيْتُ أَقْوَاماً بُطُونُهُمْ كَالحُبَالَى فِيهَا الحَيَّاتُ وَالعَقَارِبُ ، فَقُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ : هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً » ، { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } أي سيدخلونها في الآخرة . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ( وسيصلون ) بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون النصب ، وهذا كقوله : سيدخلون . وسيدخلون وقال القتبي في قوله : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ } معناه : وليخش الذين يكفلون اليتامى ، وليفعل بهم ما يحب أن يفعل بولده من بعده .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

{ يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } أي يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بيّن قسمة المواريث ، يعني : إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً ، يكون { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين } يعني لكل ابن سهمان ، ولكل بنت سهم . وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال : كان ابن عباس يقول : كان الميراث للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس ، وللمرأة الثمن أو الربع ، وللزوج النصف أو الربع . ثم قال تعالى : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين } يعني إذا ترك الميت بناتاً ولم يترك أبناء ، فللبنات إن كن اثنتين فصاعداً { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } من الميراث ، ولم يذكر في الآية حكم البنتين ، ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن ابن عباس أنه قال : للاثنتين النصف ، كما كان للواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا : إن للاثنتين الثلثين ، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى جابر بن عبد الله قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هاتان ابنتا سعد وقد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً ، ولا تنكحان إلا ولهما مال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَيَقْضِي الله ذلك» فأنزل الله تعالى آية الميراث ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال : " أَعْطِ لابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلثَيْنِ وَأَعْطِ أمَّهُمَا الثُّمُنَ وَالبَاقِي لَكَ "
ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } يعني : إن ترك الميت بنتاً واحدة فلها النصف من الميراث ، والباقي للعصبة بالخبر . قرأ نافع : ( وإن كانت واحدة ) بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر؛ ويكون الاسم فيه مضمراً . ثم قال تعالى : { وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ } الميت من المال { وَإِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى أو ولد الابن { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ } للميت { وَلَدَ } ولا ولد ابن { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } يعني : إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين { فَلاِمّهِ الثلث } يعني للأم ثلث المال والباقي للأب . قرأ حمزة والكسائي : ( فلإمه ) بكسر الألف لكسر ما قبله ، وقرأ الباقون بالضم . ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَ *** لَهُ إِخْوَةٌ فَلاِمِهِ السدس } يعني : إذا كان للميت إخوة ، وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعداً ، إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعداً ، واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء ، فيكون للأم السدس والباقي للأب { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } يعني : أن قسمة المواريث من بعد وصية { يُوصِى بِهَا } الميت { أَوْ دَيْنٍ } يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية .

وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية ، وأنتم تقرؤون { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } يعني أن في الآية تقديماً وتأخيراً ، وروي عن ابن عباس هكذا . قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم ( يوصى بها ) على فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون { يُوصِى بِهَا } يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين .
ثم قال تعالى : { وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً } يعني في الآخرة ، إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يعني أيهم أرفع درجة ، فيلتحق به صاحبه . ويقال : معناه أن الله علمكم قسمة المواريث ، وأنكم لا تدرون { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } حتى تعطوه حصته ، ويقال { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } موتاً فيرث منه الآخر . ثم قال تعالى : { فَرِيضَةً مّنَ الله } يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى ، ويقال : القسمة فريضة من الله تعالى ، لا يجوز تغييرها عما أمر الله به . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بالمواريث { حَكِيماً } حكم قسمتها وبيّنها لأهلها . وقال الزجاج : معناه وكان الله عليماً بالأشياء قبل خلقها ، حكيماً فيما يقرر بتدبيره منها . وقال بعضهم : لأن الله تعالى لم يزل ، ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال . وقال سيبويه : كأن القوم شاهدوا علماً وحكماً ، فقيل لهم : إن الله كان عليماً كذلك ، لم يزل على ما شاهدتم .
ثم قال تعالى : { ولكن *** نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم } إذا ماتت المرأة فتركت زوجاً ، فللزوج النصف { إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } ذكراً أو أنثى أو ولد ابن { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } أو ولد ابن فللزوج الربع { فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } مما تركت المرأة { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } . ثم قال : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ } يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ } ولا ولد ابن { فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ } فإن كان للميت ولد وولد ابن { فَلَهُنَّ الثمن } سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير ولد ، والثمن مع الولد أو مع ولد الابن ، لأنه قال : { وَلَهُنَّ الربع } فجعل حصتهن الربع أو الثمن .

ثم قال : { مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
ثم قال : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة } والكلالة ما خلا الوالد والولد ، ويقال : هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد . قال أبو عبيدة : هو مصدر من تكله النسب أي أحاط به ، والأب والابن طرفا الرجل فيسمى لذهاب طرفيه كلالة . وقرأ بعضهم : ( يورث ) بكسر الراء . قال أبو عبيدة : من قرأ ( يورث ) بكسر الراء جعل الكلالة الورثة ، ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت . وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا : الكلالة من لا ولد ولا والد .
وروي عنهما أيضاً أنهما قالا : الكلالة ما سوى الولد والوالد . قوله تعالى : { أَو امرأة } يعني إن كانت الكلالة هي امرأة . ثم قال تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس } من الميراث { فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث } يعني : الإخوة من الأم ، وقد أجمع المسلمون أن المراد ها هنا الإخوة من الأم ، لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين ، ففهموا أن المراد ها هنا الإخوة من الأم . ثم قال : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وقد ذكرناه { غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ الله } يعني : غير مضار للورثة ، فيوصي بأكثر من الثلث { وَصِيَّةً مّنَ الله } يعني أن تلك القسمة فريضة من الله { والله عَلِيمٌ } يعني علم بأمر الميراث { حَلِيمٌ } على أهل الجهل منكم . وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ قَطَعَ مِيْرَاثاً فَرَضَهُ الله قَطَعَ الله مَيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ » وقرأ بعض المتقدمين : ( والله عليم حكيم ) ، يعني حكم بقسمة الميراث والوصية .
ثم قال : { تِلْكَ حُدُودُ الله } يعني هذه فرائض الله مما أمركم به من قسمة المواريث ، ويقال : تلك أحكام الله ، وتلك بمعنى هذه ، يعني هذه أحكام الله قد بيّنها لكم لتعرفوا وتعملوا . { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث فيقر بها ، ويعمل بها كما أمره الله { يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهر خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم } أي ذلك الثواب هو الفوز العظيم إلى النجاة الوافرة . قوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث ، فلم يقسمها ولم يعمل بها { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } أي خالف أمره { يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا } لأنه إذا جحد صار كافراً { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يهان فيه . قرأ نافع وابن عامر : ( ندخله ) كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه ، وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

{ واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ } يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ } أي اطلبوا عليهن { أَرْبَعَةِ } من الشهود { مّنكُمْ } أي من أحراركم المسلمين عدولاً { فَإِن شَهِدُواْ } عليهن بالزنى { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت } يعني : احبسوهن في السجن { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أي حتى يمتن في السجن { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } يعني مخرجاً من الحبس ، ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالحِجَارَةِ » ثم ذكر في الآية حد البكر فقال : { واللذان } لم يحصنا { يأتيانها } يعني الفاحشة { مّنكُمْ } يعني من الأحرار المسلمين { فَئَاذُوهُمَا } باللسان ، يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا { فَإِن تَابَا } من بعد الزنى { وَأَصْلَحَا } العمل { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } أي فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أي متجاوزاً { رَّحِيماً } بهما . ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد ، وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد ، وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير . وروي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : واللاتي يأتين الفاحشة ( من نسائكم ) واللذان يأتيانها منكم كان ذلك في أول الأمر ، ثم نسخ بالآية التي في سورة النور . قرأ ابن كثير : ( واللذان ) بتشديد النون ، لأن الأصل ( اللذيان ) . فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه ، وقرأ الباقون بالتخفيف .
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } يعني قبول التوبة على الله ويقال : توفيقه على الله ، ويقال : إنما التجاوز من الله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة } قال ابن عباس رضي الله عنه : كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله ، ويقال : إنما الجهالة أنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية ، وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا . قوله { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } قال ابن عباس : كل من تاب قبل موته فهو قريب { فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } أي يقبل توبتهم { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } يعني عليماً بأهل التوبة حكيماً حكم بالتوبة . وقال مقاتل : نزلت الآية في رجل من قريش ، سكر وذكر شعراً ذكر فيه اللات والعزى وأنكر البعث ، فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك واسترجع ، فنزلت الآية { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } يعني قبل الموت . قال : حدّثنا محمد بن الفضل ، قال : حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدّثنا أبو حفص ، عن صالح المري ، عن الحسن قال : من عيّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يغَرْغِرْ » وقال الحسن : إن إبليس لما أهبط من الجنة ، قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى : فبعزتي فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه . قال أبو العالية الرياحي : نزلت أول الآية في المؤمنين ، والوسطى في المنافقين ، والأخرى في الكافرين . فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى . وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } الآية . يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } أي الشرق والنزع وعاينه ملك الموت { قَالَ إِنّى تُبْتُ الان } فليس لهذا توبة . ثم ذكر توبة الكفار { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي وجيعاً دائماً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها ، أو له وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها ورث نكاحها بالصداق الأول . ويقول : أنا ولي زوجك فورثتك . فإن كانت جميلة أمسكها ، وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه ، فنزلت هذه الآية . وقال في رواية الضحاك : كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة ، فيكره فراق العجوز لمالها ، فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت ، فيرث مالها ، فنزلت هذه الآية ، وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرهاً . فذلك قوله تعالى : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع : ( كَرهاً ) بنصب الكاف . وقرأ حمزة والكسائي : ( كُرها ) بالضم . قال القتبي : ( الكَره ) بالنصب بمعنى الإكراه ، ( والكُره ) بالرفع المشقة ، ويقال : ليفعل ذلك طوعاً أو كرهاً ، يعني طائعاً أو مكرهاً .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } أي لا تمنعوهن من الأزواج { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } من المهر وغيره { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } وهي المعصية في النشوز على زوجها ، فيحل له ما أخذ منها . ويقال : إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منها ، يعني إذا كانت بطيبة نفسها . قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ( بفاحشة مبيَنة ) بنصب الياء ، وقرأ الباقون ( مبِّيِنة ) بكسر الياء . فمن قرأ بالكسر يعني الفعل الفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها . ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول . قال مقاتل : نزلت هذه الآية في محصن بن أبي قيس ، وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة . وقال الكلبي : نزلت في حصن بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن .
ثم قال تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أي صاحبوهن بالجميل { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } أي كرهتم صحبتهن { فَعَسَى } يقول فلعل { أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } من صحبتكم إياهن { وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } يعني في صحبتهم يرزق لكم ولداً صالحاً ، وهذا كقوله عز وجل { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ويقال { وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك ، وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجاً غيره ، فيرزقها الله منه الولد . ثم قال : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ } يعني تغيير زوج { مَّكَانَ زَوْجٍ } يعني إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته ولم يكن منها نشوز ، وأراد أن يتزوج غيرها { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال } من الذهب في المهر . قال مجاهد : القنطار سبعون ألف دينار .

وقال عطاء : سبعة آلاف دينار . وقال الحسن : ألف دينار أو اثني عشرة ألف درهم . وقال قتادة : كان يقال القنطار مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألفاً من ورق . وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال : كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس . قال : القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة .
ثم قال تعالى { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } أي فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئاً إذا لم يكن النشوز من قبلها . ثم قال : { أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا } يقول : أتستحلون أخذه ظلماً { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي ذنباً ظاهراً . ثم قال تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } يقول : كيف تستحلون أخذه ، يعني أخذ مهورهن { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } يقول : قد اجتمعا في لحاف واحد . قال الفراء : الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة إن لم يجامعها ، أو جامعها وقد وجب المهر . وقال الكلبي : الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، فقد وجب المهر . وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً وأرخى ستراً ، فقد وجب المهر والعدة . وقال مقاتل : الإفضاء الجماع . وبهذا القول قال بعض الناس : وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة ، دخل بها أو لم يدخل بها . ثم قال : { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } يقول : أوجبن عليكم عقداً وثيقاً بالنكاح . وهو قوله تعالى { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ البقرة : 229 ] فصار ذلك على الرجال ميثاقاً غليظاً من النساء ثم بيّن ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال :

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

فقال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } يعني : لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء ، ويقال : اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج ، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح ، حرمت على ابنه . وقوله : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يقول : لا تفعلوا ما قد فعلتم في الجاهلية ، وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } حتى نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } الآية . فصار حراماً في الأحوال كلها . ويقال : إلا ما قد سلف ، يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 92 ] ولا خطأ . وقد قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً ، ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، فإنكم إن فعلتم تؤاخذون وتعاقبون إلا ما قد سلف ، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف . وقد قيل : إن في الآية إضماراً تقول : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } من النساء ، فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف . ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي معصية { وَمَقْتاً } أي بغضاً { وَسَاء سَبِيلاً } أي بئس المسلك { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } أي نكاح أمهاتكم ، فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات { وبناتكم } ذكر البنات ، والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد .
ثم قال تعالى : { وأخواتكم } يعني من النسب { وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة } . ثم قال تعالى : { وأمهات نِسَائِكُمْ } يعني أن نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم ، سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها . هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك . ثم قال : { وَرَبَائِبُكُمُ } يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم { اللاتى فِى حُجُورِكُمْ } يعني التي يربيها في حجره ، حرام عليه إذا دخل بأمها { مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يعني : إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها ، وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط ، غير قول روي عن بعض المتقدمين ، وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم ، وتسميتهم بذلك الاسم .

ثم قال تعالى : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } يعني حرام عليكم نساء أبنائكم { الذين مِنْ أصلابكم } يقال : إنما اشترط الذين من الأصلاب لزوال الاشتباه ، لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة . وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ، فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعيّره المشركون بذلك وقالوا : تزوج امرأة ابنه ، فنزل قوله تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 40 ] وذكر في هذه الآية فقال : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم } لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه .
ثم قال تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين } أي حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة ، ثم قال تعالى : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يقول : إلا ما قد مضى في الجاهلية . وروى هشام بن عبيد الله ، عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية ، إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب ، والثانية الجمع بين الأختين . ألا ترى أنه قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ولم يذكر في سائر المحرمات إلا ما قد سلف . ويقال : إلا ما قد سلف ، يعني : دع ما قد مضى { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً } لما كان في الجاهلية ، { رَّحِيماً } بما كان في الإسلام إن تاب من ذلك . ثم قال تعالى :

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

{ والمحصنات مِنَ النساء } قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك ، يعني ذوات الأزواج حرام عليكم { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } من سبايا ، فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة ، فهي حلال له . وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين ، فتأثم المسلمون منهن وقالوا : لهن أزواج ، فأنزل الله تعالى { والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } يقول : ما أفاء الله عليكم من ذلك ، وإن كان لهن أزواج من المشركين ، فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها . وقال في رواية مقاتل : { والمحصنات مِنَ النساء } يعني كل امرأة ليست تحتكم ، فهي حرام عليكم . ثم استثنى من المحصنات فقال : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع . قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } أي هذا ما حرم عليكم في الكتاب ، ويقال : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } معناه : هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى ، فاتبعوه ولا تخالفوه . وقال الزجاج : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } منصوب على التأكيد ، محمول على المعنى ، لأن معناه حرمت عليكم أمهاتكم ، كتب الله عليكم هذا كتاباً . ويجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ، كأنه قال : الزموا كتاب الله فيكون عليكم مفسراً له . ثم قال تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } يقول : رخص لكم ما سوى ذلكم ، فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } أربع عشرة من المحرمات ، سبع بالنسب وسبع بالسبب .
ثم بيّن المحللات فقال : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية ، فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية ، لكان يجوز ما سوى ذلك؛ إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ » وقال : « لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِها » فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الحشر : 7 ] . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : { وَأُحِلَّ لَكُمْ } بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب ، فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } . ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله { كتاب الله عَلَيْكُمْ } .

ثم قال تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم } يعني أن تتزوجوا بأموالكم ، ويقال : تشتروا بأموالكم الجواري { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } يقول : كونوا متعففين من الزنى غير زانين { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } قال مقاتل : يعني به المتعة ، أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى { والمحصنات مِنَ } أي أعطوهن ما شرطتم لهن من المال؛ وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي ، ثم نهي عن ذلك . وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة ، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إنما رخص في المتعة في بعض المغازي ، ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } قال النكاح فآتوهن أجورهن ، يعني مهورهن . وقال في رواية الكلبي : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } بعد النكاح فآتوهن أجورهن ، أي مهورهن { فَرِيضَةً } لهن عليكم . وقال الضحاك : فما استمتعتم به منهن أي فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } قال بعضهم : يعني المتعة قبل أن تنسخ ، أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال . وقال بعضهم : يعني المهر ، لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } فيما رخّص لكم من نكاح الأجانب { حَكِيماً } فيما حرم عليكم من ذوات المحارم .
ثم قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } أي غنى ، يقول : من لم يجد منكم سعة في المال { أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } يعني الحرائر ، فليتزوج الإماء فذلك قوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } من الإماء . ويقال : من لم يستطع منكم طولاً ، يعني من لم يكن له منكم مقدرة على الحرة ، فليتزوج الأمة ، يعني : إذا لم يكن له امرأة حرة . وقد قال بعض الناس : إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة ، لا يجوز أن يتزوج الأمة . وفي قول علمائنا : يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة ، لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر ، لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ، ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل . ثم قال : تعالى { مّن فتياتكم المؤمنات } يعني يتزوج الأمة المسلمة . وقال بعض الناس : لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية ، لأن الله تعالى قال { مّن فتياتكم المؤمنات } . وفي قول علمائنا : يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية ، وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها ، وهذا بمنزلة قوله

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز ، ولكن الأفضل أن لا يتزوج ، فكذلك ها هنا الأفضل أن يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز .
ثم قال تعالى : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ } يقول : والله أعلم بإيمانكم في الحقيقة ، وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن . وقال مقاتل : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه فما ملكت أيمانكم بعضكم من بعض يعني يتزوج هذا وليدة هذا ، وهذا وليدة هذا . ثم قال : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } من غيره . ويقال : معناه والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ، يعني بعضكم من بعض في النسب ، يعني محلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم . ويقال : دينكم واحد أي بعضكم على دين بعض . ثم قال تعالى : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يعني الولاية بإذن أربابهن { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } يقول : أعطوهن مهورهن بالمعروف ، يعني بإذن أهلهن ، لأنه إذا أعطى الأمة مهرها بغير إذن مولاها واستهلكت ، ضمن الزوج للمولى . ويقال : مهراً غير مهر البغي ، يعني بعدما أطلق ذلك . ثم قال : { محصنات } أي عفائف { غَيْرَ مسافحات } أي زواني ، ويقال : غير معلنات بالزنى { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني أخلاء في السر ، لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية ، ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخداناً يعني أخلاء في السر ، ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعاً . فقال : تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر . قرأ الكسائي : محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله { والمحصنات مِنَ النساء } وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب .
ثم قال تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يعني أسلمن . ويقال : إذا أعففن . قرأ عاصم وحمزة والكسائي : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } بالنصب . وقرأ الباقون بالضم . وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب ، ومعناه إذا أسلمن . وقرأ ابن عباس بالضم ، يعني أحصن بالأزواج . { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } يعني الزنى { فَعَلَيْهِنَّ } أي وجب عليهن { نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } يعني إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرة ، خمسون جلدة . والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر ، فجعل عقوبتهن أقل . ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن . ويقال : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم { يانسآء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } [ سورة الأحزاب : 30 ] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد ، فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى .

وذكر في الآية حدّ الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ، ولكن حد العبيد والإماء سواء ، خمسون جلدة في الزنى ، وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة ، لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق ، وذلك في العبد موجود . وروي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا : حدّ العبد نصف حد الحر .
ثم قال تعالى : { ذلك } يعني هذا الذي ذكر في الآية ، وهو رخصة نكاح الأمة { لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } يعني الإثم في دينه . ويقال : الزنى والفجور . قال القتبي : أصله المضرور الإفساد . قال تعالى { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تزوجهن ، لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبداً . وروي عن عمر أنه قال : أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه ، أي يصير ولده رقيقاً ، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده . وقال مجاهد : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول : وإن تصبروا على نكاح الأمة خير لكم من أن تقعوا في الفجور . { والله غَفُورٌ } لما أصبتم منهن قبل تحليله { رَّحِيمٌ } حين رخص في نكاح الإماء . ويقال : رحيم إذ لم يعجل العقوبة .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

{ يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } أي بيّن لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء ، ويقال : يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر . ثم قال تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء ، وقد أحل لكم ذلك . وقال مقاتل : { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } حكم حلاله وحرامه من النساء ، { وَيَهْدِيَكُمْ } أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم . { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم { والله عَلِيمٌ } بمن فعله منكم بعد التحريم { حَكِيمٌ } فيما نهاكم عن نكاح الاماء إن لم يجد طولاً . والنهي نهي استحباب لا نهي وجوب . ويقال : إن هذا ابتداء القصة ، يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته { وَيَهْدِيَكُمْ } يعني يعرفكم سنن الذين من قبلكم ، يعني أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم؟ وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ، ولكني أتوب عليكم { والله عَلِيمٌ } بمن تاب { حَكِيمٌ } حكم بقبول التوبة .
ثم قال تعالى : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي يتجاوز عنكم ما كان منكم من قبل التحريم ، ويقال : يتجاوز عنكم الزلل والخطايا { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } يعني اليهود والنصارى ، ويقال : المجوس . { أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } يعني أن تخطئوا خطأً عظيماً ، لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرم الله تعالى ذلك قالوا للمسلمين : إنكم تنكحون ابنة الخالة والعمة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ويقال : ويريدون الذين يتبعون الشهوات ، ويقال : إن اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا ، يعني : أن الله تعالى قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزلل والخطايا . ثم قال تعالى : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } يقول : يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح الإماء ، { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } أي لا يصبر على النكاح . وقال الضحاك : يخفف عنكم أي يريد أن يضع عنكم أوزاركم ، ويضع عنكم آثامكم .
قوله تعالى : { ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل } يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه . ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } ويقال : إلا ما كان بينهما تجارة ، وهو أن يكون مضارباً له ، فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر . ويقال : إلا ما يأكل الرجل شيئاً عند اشترائه ليذوقه . قرأ حمزة والكسائي وعاصم : { تجارة } بنصب الهاء على معنى خبر تكون .

وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم . ثم قال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم بعضاً ، فإنكم أهل دين واحد . ويقال { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه ، فإيجابه باطل . وقال القتبي : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم } يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، ولا يقتل بعضكم بعضاً كقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } { صلى الله عليه وسلم [ سورة الحجرات : 11 ] أي لا تعيبوا إخوانكم . ويقال : { ولا تقتلوا أنفسكم } أي لا تقتلوها بالكسل والبخل { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال .
قوله تعالى { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا } يعني اعتداء ويقال : مستحلاً { وَظُلْماً } أي وجوراً { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } هذا وعيد لهم من الله تعالى ، يعني يدخله في الآخرة النار { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } أي عذابه هين عليه . قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } قال مقاتل : يعني ما نهي عنه من أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه . { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكبائر كل شيء سمى الله تعالى فيه النار لمن عمل بها ، أو شيء نزل فيه حدّ في الدنيا ، فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة ، والجمعة إلى الجمعة ، وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى . قال : حدّثنا محمد بن الفضل ، قال : حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدّثنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي الضحاك ، عن مسروق ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول السورة إلى قوله { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : الإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله . وروى عامر الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ألا أُنْبِئَكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ : الإِشْرَاكُ باللهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ » وقال ابن عمر الكبائر تسعة : الشرك بالله ، وقتل المؤمن متعمداً ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والسحر ، وعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة البيت الحرام . ويقال : الكبيرة ما أصر عليها صاحبها . ويقال : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار .
ثم قال تعالى : { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } يقول : نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } في الآخرة وهي الجنة . قرأ نافع : مدخلاً بنصب الميم ، والباقون بالضم . فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة ، ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعاً . قوله تعالى :

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } قال ابن عباس : يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه ، ولا امرأته ، ولا دابته ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله . وقال الكلبي مثله . وفيها وجه آخر وهو أن الرجال قالوا : إن الله فضلنا على النساء ، فلنا سهمان ولهن سهم ، ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال . وقالت أم سلمة : ليت الجهاد كتب على النساء . فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن } ويقال : إن النساء قلن : كما نقص سهمنا في الميراث ، كذلك ينقص من أوزارنا ، ويكون الإثم علينا أقل من الرجال ، فنزلت الآية { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا } ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل { وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن } من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم . { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } جميعاً الرجال والنساء { مِن فَضْلِهِ } أي من رزقه { إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام ، وبمن يصلح للجهاد . قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز في جميع القرآن . وقرأ الباقون واسألوا الله بالهمز وأصله الهمز ، إلا أنه حذف الهمز للتخفيف .
قوله تعالى : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } أي بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم . ويقال : الموالي العصبة : العم ، وابن العم ، وذوي القربى كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] معناه : ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث { مّمَّا تَرَكَ } وهم { الوالدان والاقربون } . ثم قال : { والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال الكلبي ومقاتل : كان الرجل يرغب في الرجل ، فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال : { وَلِكُلٍ جَعَلْنَا } أي أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقوله تعالى : { والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 75 ] ويقال : إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال ، فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث . ويقال : أراد به مولى الموالاة كانوا يرثون السدس .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً } أي شاهد إن أعطيتموهم أو لم تعطوهم . قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم : والذين عقدت أيمانكم بغير ألف ، والباقون بالألف . قال أبو عبيدة : والاختيار عاقدت بالألف لأنه من معاقدة الحلف ، فلا يكون إلا بين اثنين . ومن قرأ عقدت معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم .

ثم قال : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } نزل في سعد بن الربيع ، لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فنزل جبريل من ساعته بهذه الآية { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهم { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها ، ودفع الحق إليها . ويقال : إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير ، فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء . ويقال : للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء ، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة ، فيكون فيه قوة وشدة ، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة ، فيكون فيه معنى اللين والضعف ، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك . ثم قال : { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم } أي فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة . ثم قال : { فالصالحات قانتات } يعني المحصنات من النساء في الدين ، قانتات مطيعات لله تعالى ولأزواجهن . ويقال : الصالحات يعني المحسنات إلى أزواجهن من النساء في الدين { قانتات } أي مطيعات لله ولأزواجهن . ويقال : الصالحات يعني الموحدات { قانتات } يعني قائمات بأمور أزواجهن { حفظات لّلْغَيْبِ } أي لغيب أزواجهن في فروجهن ، وفي أموال الأزواج { بِمَا حَفِظَ الله } يقول : أي يحفظ الله إياهن . قال مقاتل : وما صلة ، يعني يحفظ الله لهن . ثم قال عز وجل : { واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي تعلمون عصيانهن { فَعِظُوهُنَّ } بالله ، أي يقول لها : اتق الله ، فإن حق الزوج عليك واجب ، فإن لم تقبل ذلك .
قوله تعالى { واهجروهن فِى المضاجع } قال الكلبي : أي ينسها وهو الهجر ، ويقال : لا يقرب فراشها ، لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح ، وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيها ، فيتبين أن النشوز من قبلها . وقال الضحاك : { واهجروهن فِى المضاجع } أي يعرض عنها ، فإن ذلك يغيظها ، فإن لم ينفعها ذلك { واضربوهن } يعني ضرباً غير مبرح { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } يقول : لا تطلبوا عليهن عللاً ، ولا تكلفوهن الحب لكم ، فإن الحب أمر القلب وليس لها ذلك بيدها { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } أي رفيعاً علا فوق كل كبير ، فلا يطلب من عباده الحب ، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه ، ويطلب منهم الطاعة ، فأنتم أيضاً لا تكلفوهن . ويقال : إن الله مع علوه يتجاوز عن عباده ، فأنتم أيضاً تجاوزوا ولا تطلبوا العلل .
ثم قال تعالى للأولياء { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } يقول : إن علمتم خلافاً بين الزوجين ، ويقال : إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من أيهما يقع النشوز فيقول : { فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } يعني رجلاً عدلاً من أهل الزوج له عقل وتمييز ، يذهب إلى الرجل ويخلو به ، ويقول له : أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا؟ حتى أعلم بمرادك ، فإن قال : لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها ، فيعرف أن من قبله جاء النشوز .

وإن قال : فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها ، فيعرف أنه ليس بناشز . ويخلو ولي المرأة بها ويقول : أتهوين زوجك أم لا؟ فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد ، علم أن النشوز من قبلها . وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثّه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي ، علم أن النشوز ليس من قبلها . فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي ، وذلك قوله تعالى { فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } { إِن يُرِيدَا إصلاحا } يعني عدلاً فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } بالصلاح ويقال : كل اثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة ، يقع الصلح بينهما لقوله تعالى { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } أي عليماً بهما خبيراً بنصيحتهما . وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم ، وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى الله تعالى ، فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل .
قوله تعالى :

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

{ واعبدوا الله } قال بعضهم : هذا الخطاب للكفار ، واعبدوا الله يعني وحدوا الله { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } أي لا تثبتوا على الشرك . ويقال : الخطاب للمؤمنين اعبدوا الله ، يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به . ويقال : اعبدوا الله يعني أطيعوا الله فيما أمركم به ، وأخلصوا له بالأعمال ، ولا تشركوا به شيئاً . ويقال : هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار ، فأمر المؤمنين بالطاعة ، والمنافقين بالإخلاص ، والكفار بالتوحيد . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد . ويقال : هذه الآيات محكمات في جميع الكتب ، وذكر فيها أحكاماً كانت تعرف تلك من طريق العقل ، وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } { وبالوالدين إحسانا } يعني أحسنوا إلى الوالدين { وَبِذِى القربى } يعني صلوا القرابات . قوله : { واليتامى } يعني أحسنوا إلى اليتامى . ويقال : هذا أمر للأوصياء بالقيام على أموالهم . ثم قال تعالى : { والمساكين } أي عليكم بإطعام المساكين . ثم قال : { والجار ذِى القربى } أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابة ، فله ثلاث حقوق . هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ : جَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ ، وَجَارٌ لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ . فَأَمَّا الجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ فَالجَارُ القَرِيبُ المُسْلِمُ ، فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ ، وَحَقُّ القَرَابَةِ ، وَحَقُّ الإِسْلامِ . وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ : وَهُوَ الجَارُ المُسْلِمُ ، فَلَهُ حَقُّ الإِسلامِ ، وَحَقُّ الجِوَارِ . وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ هُوَ الجَارُ الكَافِرُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ »
ثم قال تعالى : { والجار الجنب } يعني الجار الذي لا قرابة بينهما ، وهو من قوم آخرين { والصاحب بالجنب } أي الرفيق في السفر . وروي عن معاذ بن جبل أنه قال : الصاحب بالجنب يعني المرأة . ثم قال : { وابن السبيل } يعني الضيف ، ينزل عليكم فأحسنوا إليه ، وحقه ثلاثة أيام ، وما زاد على ذلك فهو صدقة . ثم قال : { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } من الخدم أحسنوا إليهم . وقد روي في الخبر « أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ ، فَإنَّهم لَحْمٌ وَدَمٌ وَخَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ » رواه علي عن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الله الله فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ » وذكر الحديث . وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّساءِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلاَقَهُنَّ ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّةً إذَا انْتَهَوْا إِلَيْها أُعْتِقُوا ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَن يُحْفِي فَمِي ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَمْ يَنَامُوا لَيْلاً »

ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } يعني من كان مختالاً في مشيه فخوراً على الناس؛ وهذا قول الكلبي . وقال القتبي : المختال ذو الخيلاء والكبر ، وهذا قريب من الأول . ويقال : فخوراً في نعم الله ، لا يشكرها ويتكبر على الناس . ثم قال تعالى : { الذين يَبْخَلُونَ } قال مجاهد ومقاتل : نزلت في اليهود ، يبخلون بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } يعني : أمروا قومهم أن يكتموا صفته صلى الله عليه وسلم - { وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } في التوراة . ويقال : أبخل الناس الذي يبخل بعلمه . ويقال : { الذين يَبْخَلُونَ } يعني في المال ، لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحداً من أموالهم شيئاً ، لأن عادتهم كان الأخذ والمنع ، وكانوا أيضاً يأمرون بالبخل ، لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيره بذلك لكي لا يظهر عيبه { وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } يعني : لا يشكرون على ما أعطاهم الله من نعمته ، ولا يخرجون الزكاة .
ثم قال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } أي عذاباً شديداً . قرأ حمزة والكسائي : بالبخل بنصب الباء والخاء ، وقرأ الباقون بالبُخْل بضم الباء وجزم الخاء . وقال بعض أهل اللغة : ها هنا أربع لغات وهي لغة الأنصار : بخل ، وبخل ، وبخل ، وبخل إلا أنه قرأ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين . ثم قال تعالى : { والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس } قال مقاتل : يعني اليهود . وقال الضحاك : يعني المنافقين ، ينفقون أموالهم مراءاة للناس { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر } يعني : ولا يصدقون في السر . ويقال : نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة ، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر . ثم قال تعالى : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً } ففي الآية مضمر فكأنه قال : ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان ، ومن يكن الشيطان له قريناً { فَسَاء قِرِيناً } أي قرينهم الشيطان في الدنيا ، يأمرهم بالبخل . ويقال : قرينه في النار في السلسلة .
ثم قال تعالى :

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } أي وما كان عليهم { لَوْ ءامَنُواْ بالله } مكان الكفر { واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله } مكان البخل في غير رياء . ويقال : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } أي لم يكن عليهم شيء من العذاب لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال ، وهي الصدقة { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } أنهم لم يؤمنوا . ويقال : إن الله عليم بثواب أعمالهم ، ولا يظلمهم شيئاً من ثواب أعمالهم . قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة . قال الكلبي : وهي النملة الحميراء الصغيرة . ويقال : هو الذي يظهر في شعاع الشمس ، ويقال : لا يظلم مثقال ذرة يعني لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة ، ولا ينقص من ثواب المؤمنين مثقال ذرة .
ثم قال تعالى : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها } قرأ نافع وابن كثير : وإن تك حسنة بضم الهاء لأنه اسم تك بمنزلة اسم كان . قرأ الباقون : حسنة بالنصب ، وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر معناه : وإن تكن الفعل حسنة يضاعفها ، يعني : إذا زاد على حسناته مثقال ذرة من حسنة يضاعفها الله تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة ، فذلك قوله تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة . وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها : قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ سورة النساء : 31 ] الآية . وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } [ سورة النساء : 64 ] الآية . وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية . وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [ سورة النساء : 48 ] الآية . وقوله : و { لَّيْسَ بأمانيكم ولا أَمَانِىِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [ سورة النساء : 123 ] الآية . وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } أي فكيف يصنعون؟ وكيف يكون حالهم؟ إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، يعني بنبيها هو شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { على هَؤُلاء شَهِيداً } يعني على أمتك شهيداً بالتصديق لهم ، لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى للأمم الخالية : هل بلغتكم الرسل رسالاتي؟ فيقولون : لا . فقالت الرسل : قد بلغنا ولنا شهود ، فيقول عز وجل : ومن شهودكم؟ فيقولون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون بتبليغ الرسالة ، بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية .

فتقول الأمم الماضية : إن فيهم زواني وشارب الخمر ، فلا يقبل شهادتهم ، فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول المشركون : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ سورة الأنعام : 23 ] فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ، فذلك قوله تعالى { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض } أي تخسف بهم الأرض . ويقال : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة ، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بتبليغ الرسالة من قبل ومن لم يقبل .
حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا أبو منيع ، قال : حدّثنا أبو كامل ، قال : حدّثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم من بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ، ومعه ابن مسعود ، ومعاذ وناس من الصحابة ، فأمر قارئاً فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه فقال : « يَا رَبّ هذا عِلْمِي بِمَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُمْ؟ »
ثم قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } يعني : يتمنى الذين كفروا يعني الكفار { وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض } أي يكونوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } وهو قولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } . قال الزجاج : قال بعضهم : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } مستأنف ، لأن ما عملوا ظاهر عند الله تعالى لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه مظهر كذبهم . قرأ حمزة والكسائي { تسوى } بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني يخسف بهم ، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو { تسوى } بضم التاء فأدغم إحدى التاءين في الأخرى على فعل لم يسم فاعله ، أي يصيروا تراباً وتسوى بهم الأرض . وقرأ نافع وابن عامر : { تسوى } بنصب التاء وتشديد السين والواو ، لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين .
ثم قال تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } قال مقاتل : وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ، فدعا أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً ، وسعداً رضي الله عنهم ، فأكلوا وسقاهم خمراً ، فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ { قُلْ ياأيها الكافرون } [ سورة الكافرون : 1 ] على غير الوجه ، فنزل { حَدِيثاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } وكان ذلك قبل تحريم الخمر . وقال { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } يعني موضع الصلاة ، وهو المسجد حتى تعلموا ما تقولون . ويقال : حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون ، فحينئذٍ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة . ثم قال تعالى : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } يقول : ولا تقربوا الصلاة جنباً إلا عابري سبيل ، يعني إلا أن يكون مسافراً فلا يجد الماء ، فيتيمم ويصلي إذا كان جنباً . وقال الزجاج : وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنباً { حتى تَغْتَسِلُواْ } إلا أن لا تقدروا على الماء . وقال القتبي : لا تقربوا الصلاة ، يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين . وقال بعضهم : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى من النوم . وروى السدي عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال : في السفر يتيمم ويصلي . ويقال : إلا أن تكون في المسجد عين ، فيدخل ليغترف الماء .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنتُم مرضى } نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، أصابته جنابة وهو جريح ، فرخص له بأن يتيمم ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس . وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة ، أن رجلاً كان به جدري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله فَهَلاَّ يَمَّمُوهُ » وروي عن ابن عباس أنه قال : وإن كنتم مرضى قال : فإنما هو المجذوم ، والمجدور ، والمقروح . ثم قال تعالى : { أَوْ على سَفَرٍ } أي إذا كنتم مسافرين { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط } والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض ، وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة . ثم قال تعالى : { أَوْ لامستم النساء } قرأ حمزة والكسائي : { أَوْ لامستم } وقرأ الباقون { لامستم } من الملامسة . قال ابن عباس : يعني الجماع . وقال بعضهم : هو المس باليد { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } يعني : إذا أصابكم الحدث أو الجنابة ، ولم تجدوا ماءً ، فتيمموا صعيداً طيباً أي تراباً نظيفاً . ويقال : الصعيد هو ما علا وجه الأرض { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } قال بعضهم : الوجه والكفين ، وهو قول الأعمش والأوزاعي . وقال بعضهم : إلى المنكبين ، وهو قول الزهري . وقال عامة أهل العلم : الوجه واليدين إلى المرفقين ، وبذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عامة الصحابة اعتباراً بالوضوء . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء ، غفوراً لتقصيركم .
قوله تعالى :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يعني : أعطوا حظاً من علم التوراة { يَشْتَرُونَ الضلالة } يعني : يختارون الكفر على الإسلام . قال القتبي : وهذا من الاختصار ، ومعناه يشترون الضلالة بالهدى ، أي يستبدلون هذا بهذا ، كقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } [ سورة الإسراء : 34 ] أي مسؤولاً عنه . ثم قال تعالى : { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل } أي تتركوا طريق الهدى ، وهو طريق الإسلام { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي علم بعداوتهم إياكم ، يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر . ويقال : هذا وعيد لهم ، فكأنه يقول : هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين } [ سورة الأنعام : 58 ] يعني عليم بعقوبتهم ومجازاتهم . ثم قال تعالى : { وكفى بالله وَلِيّاً } أي ناصراً لكم ، ومعيناً لكم { وكفى بالله نَصِيراً } يعني مانعاً لكم .
قوله تعالى { مّنَ الذين هَادُواْ } أي مالوا عن الهدى . قال الزجاج : { مّنَ الذين هَادُواْ } فيه قولان : فجائز أن يكون من صلة ، والمعنى ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا ، ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } أي يحرفون نعته عن مواضعه ، وهو نعت محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } منك { وراعنا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي يلوون لسانهم بالسب { وَطَعْناً فِى الدين } أي في دين الإسلام . قال القتبي : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم وأمرهم سمعنا ، ويقولون في أنفسهم وعصينا . وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا : اسمع يا أبا القاسم . ويقولون في أنفسهم : لا سمعت . ويقولون : راعنا يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد ، ويريدون به السب بالرعونة { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي قلباً للكلام بها { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } مكان سمعنا وعصينا { واسمع } مكان اسمع لا سمعت { وانظرنا } مكان قولهم راعنا { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } أي وأصوب من التحريف والطعن . ثم قال تعالى : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي خذلهم الله وطردهم ، مجازاة لهم بكفرهم { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : لا يؤمنون ، إلا بالقليل ، لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ، ولا يؤمنون بجميع ما عندهم ، ولا بسائر الكتب ، وإنما يصدقون ببعض ما عندهم . ويقال : لا يؤمنون إلا القليل منهم ، وهم مؤمنو أهل الكتاب . ويقال : إنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول : فلان قليل الخير ، يعني لا خير فيه .

ثم خوفهم فقال : { قَلِيلاً يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } أي صدقوا بالقرآن { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } أي موافقاً للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أدبارها } وطمسها أن يردها على بصائر الهدى ، ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية . ويقال : يخسف الأنف والعين فيجعلها طمساً . ويقال : من قبل أن يطمس أي تسود الوجوه . قال بعضهم : يعني به في الآخرة . ويقال : هذا تهديد لهم في الدنيا . وذكر أن عبد الله بن سلام قدم من الشام ، فلم يأتِ أهله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي . ويقال : { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } يعني وجه القلب ، وهو كناية عن القسوة . وقال مقاتل : يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ سورة البقرة : 148 ] ثم قال تعالى : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت } أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة . ثم قال { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي كائناً ، وهذا وعيد من الله تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا .
قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي دون الشرك { لِمَن يَشَاء } يعني لمن مات موحداً نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة ، وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل لوحشي جزاء إن قتل حمزة فقتله ، لم يوف له ، فلما قدم مكة ندم على صنعه الذي صنع هو وأصحابه معه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وإنه ليس يمنعنا من الدخول معك إلا أنا سمعناك تقول : إذ كنت عندنا بمكة { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ سورة الفرقان : 68 ] إلى قوله { يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [ سورة الفرقان : 69 ] وقد دعونا مع الله إلهاً آخر ، وقتلنا النفس ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزل { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ سورة مريم : 60 ] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى وحشي وأصحابه ، فلما قرؤوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد ، فنخاف ألا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية . فنزل { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فبعث إليهم فقرؤوها ، فبعثوا إليه فقالوا : إن في هذه الآية شرطاً أيضاً نخاف ألا نكون من أهل مشيئته ، فنزل قوله

{ قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ سورة الزمر : 53 ] فبعثها إليهم ، فلما قرؤوها وجدوها أوسع مما كان قبلها ، فدخل هو وأصحابه في الإسلام . وروي عن ابن عمر أنه قال : كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة ، شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فأمسكنا عن الشهادة . وهذه الآية رد على من يقول : إن من مات على كبيرة يخلد في النار ، لأن الله تعالى قد ذكر في آية أخرى { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } [ سورة هود : 114 ] يعني ما دون الكبائر ، فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر . ثم قال تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } يعني اختلق على الله كذباً عظيماً . ويقال : فقد أذنب ذنباً عظيماً . قوله تعالى :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } يقول : يبرئون أنفسهم من الذنوب { بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء } وذلك لأن رؤساء اليهود كانوا يقولون : هل على أولادنا من ذنب؟ فما نحن إلا كهيئتهم . فهذا الذي زكوا به أنفسهم ، قال الله تعالى : { بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء } أي يصلح ويبرىء من يشاء من الذنوب . ويقال : يكرم من يشاء بالإسلام { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال الكلبي ومقاتل : الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض ، ويقال : هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ ، إذا مسحت إحداهما بالأخرى ، يعني : لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك المقدار . ثم قال تعالى : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } أي يختلقون على الله الكذب { وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } أي ذنباً مبيناً . روى مقاتل عن الضحاك قال : الفتيل ، والنقير ، والقطمير كلها في النواة . ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يعني أعطوا حظاً من علم التوراة { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } الجبت حيي بن أخطب ، والطاغوت كعب بن الأشرف . وقال القتبي : كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت . قال : ويقال : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . ويقال : في هذه السورة رجلان من اليهود ، وإيمانهم بهما تصديقاً لهما وطاعتهم إياهما .
ثم قال تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني لمشركي مكة { هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً } وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أُحد ، ونقضوا العهد ، وبايعوا المشركين وقالوا : أنتم أهدى سبيلاً من المسلمين . حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا الديبلي ، قال : حدّثنا أبو عبيد الله ، قال : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، قال : جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة ، فأتيا قريشاً فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، ديننا القديم ودين محمد الحديث ، ونحن نصل الرحم ، ونسقي الحجيج ، ونفك العناة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ، فنحن أهدى أم هو؟ قالا : بل أنتم أهدى سبيلاً منهم . فأنزل الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } الآية إلى قوله { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً } يعني أهدى ديناً من المهاجرين والأنصار .
قوله تعالى : { أَوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله } أي خذلهم وطردهم الله من رحمته ، ويقال : عذبهم الله بالجزية { وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } أي مانعاً . قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك } يقول : لو كان لهم ، يعني لليهود حظ من الملك { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } أي لا يعطون أحداً من بخلهم وحسدهم نقيراً ، والنقير : النقطة التي على ظهر النواة { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } أي أيحسدون الناس .

ويقال : بل يحسدون الناس يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم { على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } من النبوة وكثرة تزوجه النساء ، ويقولون : لو كان نبياً لشغلته النبوة عن كثرة النساء ، فيحسدونه بذلك .
قال الله تعالى { فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة } يعني النبوة والعلم والفهم { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } فكان يوسف عليه السلام ملكاً على مصر ، وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكاً ، وكانت له ثلاثمائة امرأة حرّة سوى السرية ، قال مقاتل هكذا . وقال الكلبي : كانت له سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، وكان لداود عليه السلام مائة امرأة ، فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك . ويقال : إن الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبياً ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحاً . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ، لأن لكل امرأة قبيلتين ، قبيلة من قبل الأب ، وقبيلة من قبل الأم ، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه ، فيكونون عوناً له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشد ، لأن الذي لا يكون تقياً إنما ينفرج بالنظر واللمس ، ألا ترى إلى ما روي في الخبر «العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ» . فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة ، فلا ينظر التقي ولا يمس ، فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه ، فيكون أكثر جماعاً . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع ، فإنه يصفي القلب ، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك .
قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ } يعني من اليهود من آمن به ، بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم ، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } يعني أعرض عنه مكذباً ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ } يعني من آل إبراهيم { مَنْ ءامَنَ بِهِ } يعني بالكتاب الذي جاء به { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } لم يؤمن به . وقال الضحاك : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } يعني اليهود كانوا يحسدون قريشاً لأن النبوة فيهم { فَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم الكتاب } يعني إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط . { الكتاب } يعني التنزيل { والحكمة } يعني السنة { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } يعني قريشاً وبني هاشم { مُّلْكاً عَظِيماً } يعني الخلافة لا تصلح إلا لقريش { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي كفر به . ثم قال تعالى : { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } أي وقوداً لمن كفر به . ثم بيّن مصير من كذب به ، وموضع من آمن به ، فقال تعالى :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } أي ندخلهم ناراً في الآخرة . ويقال : صَلِيَ إذا دخل النار لأجل شيء ، وأصلاه إذا أدخله للاحتراق . والاصطلاء بالنار الاستدفاء . ثم قال تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } يقول : كلما احترقت جلودهم { بدلناهم } يعني : جددنا لهم { جُلُوداً غَيْرَهَا } لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقاً جديداً ، ثم عادت تحرقهم ، فهذا دأبهم فيها . وقال مقاتل : تجدد في كل يوم سبع مرات . وقال الحسن : بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة . وقال الضحاك : سبعين جلداً في كل يوم . وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا : إن الجلد الذي تبدل لم يذنب ، فكيف يستحق العقوبة والعذاب؟ وقيل لهم : إن ذلك الجلد هو الجلد الأول ، ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول ، كالنفس إذا صارت تراباً وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى ، فكذلك هاهنا . وقوله تعالى { جُلُوداً غَيْرَهَا } على وجه المجاز ، كما قال في آية أخرى { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ سورة إبراهيم : 48 ] قال ابن عباس رضي الله عنه يعني يزاد في سعتها ، وتسوى جبالها وأوديتها .
ثم قال تعالى : { لِيَذُوقُواْ العذاب } أي لكي يجدوا مس العذاب { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً } في نقمته { حَكِيماً } في أمره ، حكم لهم بالنار ، ثم بيّن مصير الذين صدقوا به فقال عز وجل : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني الطاعات التي أمرهم الله بها { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ } أي مقيمين فيها { أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } في الخلق والخلق { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } . قال الضحاك : يعني ، ظلال أشجار الجنة ، وظلال قصورها وقال الكلبي : يعني ظلاً ظليلاً أي دائماً . وقال أكنان القصور ، ( ظَلِيلا ) يعني لا خلل فيها . قوله تعالى :

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

قوله تعالى :
{ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا } وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة ، وكانت السقاية في يد بني هاشم ، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له : هات المفتاح . فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس ، فجاء بالمفتاح وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خذه بأمانة الله : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ، فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه السلام مصور على الحائط ، وبيده قداح ، وعنده إسماعيل والكبش مصوران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَاتَلَ الله الكُفَّارَ مَا لإبْرَاهِيمَ والقِدَاحِ » فأمر بالصور فمحيت ، فقضى حاجته من البيت ثم خرج ، فطلب منه العباس بأن يدفع إليه المفتاح ، فنزلت هذه الآية { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا } ثم صارت الآية عامة لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها . ويقال : نزلت في شأن اليهود ، حيث كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت أمانة عندهم فمنعوها . ويقال : هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات ، لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى { إِنَّا عَرَضْنَا الامانة . . . إِلَى قَوْلُهُ : وَحَمَلَهَا الإنسان } .
ثم قال تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } يقول : بالحق ، وقال الضحاك : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } أي بين القوم { أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أي بالبينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } يعني يأمركم بالعدل والنصيحة ، والاستقامة ، وأداء الأمانة { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً } بمقالة العباس { بَصِيراً } بردِّ المفتاح إلى أهله . قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة { نِعِمَّا } بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة ، وذلك قوله تعالى { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } وقوله تعالى { بَصِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله } أي في الفرائض { وَأَطِيعُواْ الرسول } أي في السنن . ويقال : أطيعوا الله فيما فرض ، وأطيعوا الرسول فيما بيّن . ويقال { أَطِيعُواْ الله } بقول لا إله إلا الله ، وأطيعوا الرسول بقول محمد رسول الله { وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ } . يعني : أطيعوا أولي الأمر منكم . قال الكلبي ومقاتل : يعني : أمراء السرايا . وقال الضحاك : يعني : الفقهاء والعلماء في الدين . ويقال : الخلفاء والأمراء . ويجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية . قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء } من الحلال والحرام والشرائع { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } يعني إلى أمر الله فيما يأمر بالوحي ، وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي ، ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب الله تعالى ، وإلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام .

ويقال : معناه إذا أشكل عليكم شيء ، فقولوا : الله ورسوله أعلم . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وقال الخليل بن أحمد البصري : الناس أربعة : رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ، فهذا أحمق فاجتنبوه . ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري ، فهذا جاهل فعلِّموه . ورجل يدري ولا يدري أنه يدري ، فهذا نائم فأيقظوه . ورجل يدري وهو يدري أنه يدري ، فهذا عالم فاتبعوه .
ثم قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } يعني إن كنتم تصدقون بالله واليوم الآخر ثم قال : { ذلك خَيْرٌ } أي الرد إلى كتاب الله ، وإلى سنة رسوله خير من الاختلاف { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي وأحسن عاقبة . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل ، ويؤدي الأمانة إلى أهلها ، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه ، فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ، ثم أمرنا بطاعتهم . وقال مجاهد : { وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ } العلماء والفقهاء ، وهكذا روي عن جابر . وقوله تعالى :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } وذلك أنَّ منافقاً يقال له بشر ، كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافق ، وفي حكم اليهود على اليهودي . فقال اليهودي : نأتي محمداً صلى الله عليه وسلم يحكم بيننا . وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا . فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب قولهما ، فقال : ما شأنكما؟ فأخبراه بالقصة . فقال عمر : أنا أحكم بينكما . فأجلسهما ، ثم دخل البيت وخرج بالسيف ، وقتل المنافق ، فنزلت هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني بالقرآن { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني سائر الكتب المنزلة { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت } وهو كعب بن الأشرف { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } يعني أمروا بتكذيبه . وقال الضحاك : نزلت الآية في شأن المنافقين ، لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ } يعني : إلى كهنة اليهود وسحرتهم .
ثم قال : { وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ *** عَنِ الهدى وَعَن الحق { ضلالا بَعِيداً } ثم قال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } يعني : إلى ما أمر الله في كتابه ، وإلى ما أمر الرسول ، وإلى ما أنزل إلى الرسول { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أي يعرضون عنك إعراضاً . ويقال : صدّ يصد يكون لازماً ويكون متعدياً ، وإنما يتبين ذلك بالمصدر . ويقال : صد يصد صدّاً إذا صرف غيره . كقوله تعالى { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } وصد يصد صدوداً ، إذا أعرض بنفسه كقوله تعالى { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } وكقوله { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } يقول : فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بما عملت أيديهم { ثُمَّ جَاؤوكَ يَحْلِفُونَ بالله } قال في رواية الكلبي : نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب ، كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير ، فخرجا من عنده فمرا على المقدام بن الأسود ، فقال المقدام لمن كان القضاء يا ثعلبة؟ فقال ثعلبة : قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء ، فنزلت هذه الآية { فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بليه شدقه ، فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه ويحلف .

وذلك قوله : { ثُمَّ جَاؤوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً } أي ما أردنا إلا الإحسان في المقالة { وَتَوْفِيقاً } يقول : صواباً . وقال الضحاك ومقاتل : نزلت في شأن الذين بنوا مسجد ضرار ، فلما أظهر الله نفاقهم وأمر بهدم المسجد ، حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفعاً عن أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب .
قوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الضمير . وقال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون ، والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون . قال : ومعنى قوله : { وَتَوْفِيقاً } أي طلباً لما وافق الحق . ثم قال تعالى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ولا تعاقبهم { وَعِظْهُمْ } بلسانك { وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } يقول : خوفهم وهددهم إن فعلتم الثاني عاقبتكم . قال مقاتل : تقدم إليه تقدماً وثيقاً ثم نسخ بقوله { ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ سورة التوبة : 73 ] . وقوله تعالى :

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } ومن صلة فكأنه يقول : وما أرسلنا رسولاً { إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } أي لكي يطاع بأمر الله . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بصنعهم { جاؤوك } بالتوبة { جَاءوكَ فاستغفروا الله } لذنوبهم { واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } أي متجاوزاً .
قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } كقول القائل : لا والله لا يؤمنون { حتى يُحَكّمُوكَ } حتى يقروا ويرضوا بحكمك يا محمد { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي فيما اختلفوا فيه . ويقال : تشاجرا أي اختلفا . ويقال : فيما التبس عليهم . قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا الديبلي ، قال : حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمرو ، عن رجل من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت : كان بين الزبير بن العوام وبين رجل خصومة ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته . فأنزل الله تعالى { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } أي في قلوبهم { حَرَجاً } أي شكّاً { مّمَّا قَضَيْتَ } أنه الحق { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعاً . وقال الزجاج : تسليماً مصدر مؤكد ، فإذا قلت ضربه ضرباً فكأنك قلت : لا شك فيه ، كذلك { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي ويسلمون لحكمك تسليماً ، لا يدخلون على أنفسهم شكّاً .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ } يعني : لو فرضنا عليهم القتل { أَوِ اخرجوا مِن دياركم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } والقليل منهم : عمار بن ياسر ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس ، قالوا : لو أن الله تعالى أمرنا بأن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الجِبالِ الرَّوَاسِي » قرأ ابن عامر إلا قليلاً منهم بالألف وهكذا في مصاحف أهل الشام . وقرأ الباقون بغير الألف بالضم . فمن قرأ بالضم فمعناه ما فعلوه ، ويفعله قليل منهم على معنى الاستئناف . ومن قرأ بالنصب على معنى أنه على خلاف الأول للاستثناء . كقوله تعالى { إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } [ النساء : 98 ] .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي ما يؤمرون به { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي الثواب في الآخرة { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } أي تحقيقاً في الدنيا . قوله تعالى { وَإِذاً لاتيناهم } يقول : حينئذٍ لأعطيناهم { مّن لَّدُنَّا } أي من عندنا { أَجْراً عَظِيماً } في الآخرة يعني الجنة { ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً } أي ديناً قيماً يرضاه لهم . قوله تعالى :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18