كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
فلما ظهر حالهم ، عرفوا أن البعث حق وأنه كائن . { وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } ، يعني : إذ يختلفون فيما بينهم؛ وقال بعضهم : اختلفوا فيما بينهم هو ما ذكر بعد هذا في عددهم؛ وقال بعضهم : اختلفوا . فقال المؤمنون : فيما بينهم نبني مسجداً؟ وقالت النصارى : نبني كنيسة . فغلب عليهم المسلمون وبنوا المسجد . فذلك قوله تعالى : { فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } ، أي مسجداً . { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } ، أي عالم بهم . { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } ، يعني : الذين كانوا على دين أصحاب الكهف وهم المؤمنون . { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } ؛ قال الزجاج : فيه دليل أنه ظهر أمرهم ، وغلب الذين أقروا بالبعث على غيرهم ، لأنهم اتخذوا مسجداً؛ والمسجد يكون للمسلمين .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُم } ؛ قال بعضهم : اختلفوا في أمرهم في ذلك الوقت؛ ويقال : هذا الاختلاف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أخبر الله تعالى نبيه أنه لو سأل أهل الكتاب يختلفون عليه . فسألهم ، فاختلفوا وذلك أن أهل نجران ، السيد والعاقب ومن معهما ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان السيد صارماً يعقوبياً ، والعاقب نسطورياً ، وصنف منهم ملكانياً فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة أصحاب الكهف ، فقال السيد وأصحابه : ثلاثة رابعهم كلبهم . { *** } ؛ قال بعضهم : اختلفوا في أمرهم في ذلك الوقت؛ ويقال : هذا الاختلاف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أخبر الله تعالى نبيه أنه لو سأل أهل الكتاب يختلفون عليه . فسألهم ، فاختلفوا وذلك أن أهل نجران ، السيد والعاقب ومن معهما ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان السيد صارماً يعقوبياً ، والعاقب نسطورياً ، وصنف منهم ملكانياً فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة أصحاب الكهف ، فقال السيد وأصحابه : ثلاثة رابعهم كلبهم . { وَيَقُولُونَ } ، أي العاقب وأصحابه : { خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب } ، أي ظناً بالغيب لا علم لهم . { وَيَقُولُونَ } ، أي صنف منهم : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } .
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } ؛ وهذا إخبار من الله أن عدتهم سبعة . قال ابن عباس ، وفي رواية أخرى أنه قال : أظن القوم كانوا ثلاثة . قال واحد منهم : كم لبثتم؟ فقال الثاني : لبثنا يوماً أو بعض يوم . فقال الثالث : ربكم أعلم بما لبثتم . وروي عن ابن عباس أنه قال إنهم سبعة وذكر أسماءهم ، فقال : مكسلينا وهو أكبرهم ، وتمليخاً ، ومطرونس ، وسارينوس ، ونوانس ، وكشطود ، وبيونس ، وبطنبور ، وليونس . وذكر في رواية وهب أسماؤهم بخلاف هذا إلا تمليخا ، فقد اتفقوا على اسمه؛ وقال ابن عباس : كان اسم الكلب قطمير؛ وقال سعيد بن جبير : كان اسمه فرفدين؛ ويقال : كان لونه خليج؛ ويقال : كان لونه غلبة بالفارسية ومعناه بالعربية أبلق؛ وقال بعض المحدثين : إن كلب أهل الكهف يكون معهم في الجنة؛ وقال بعضهم : يصير تراباً مثل سائر الحيوانات . وإنما الجنة للمؤمنين خاصة .
ثم قال عز وجل : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظاهرا } ؛ قال قتادة : { فَلاَ تُمَارِ } ، يقول حسبك ما أعلمناك من خبرهم . { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } ، أي لا تسأل عن أصحاب الكهف من النصارى أحداً . { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء الله } ، يعني : إلا أن تستثني ، فتقول : إن شاء الله . { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } ، يعني : إذا نسيت الاستثناء ، فاذكرها بعد ما ذكرت واستثن .
وهذا في غير اليمين؛ وأما في اليمين ، فاتفق الفقهاء من أهل الفتوى أن الاستثناء لا يكون موصولاً إلا رواية عن ابن عباس ، روى عنه مجاهد قال : يستثني الرجل في يمينه متى ذكر . ثم قرأ : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } . وهذه الرواية غير مأخوذة .
وروى أبو هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كَانَ لِسُلَيْمَانَ بنِ دَاودَ مِائةُ امْرأَة ، فَقَالَ : لأَطُوفَنَّ اللَّيلةَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعاً وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَأْتِي بِغُلاَمٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله ، وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَاءَ الله . فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشَيْءٍ ، إِلاَّ امْرأَةٌ وَاحِدَةٌ أَتَتْ بِشِقِّ غُلامٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيِدِهِ ، لَوْ قَالَ : إِنْ شَاءَ الله ، لَوُلِدَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ دَركاً له فِيْ حَاجَتِهِ » . ثم قال تعالى : { وَقُلْ عسى أَن *** يَهْدِيَنِى *** رَبّى } ، أي يرشدني { لاِقْرَبَ } ، أي لأسرع { مّنْ هذا } الميعاد الذي وعدت لكم ، { رَشَدًا } ؛ أي صواباً؛ وهذا قول مقاتل؛ وقال الزجاج : معناه عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلائل على النبوة ، ما يكون أقرب في الرشد وأدل على قصة أصحاب الكهف . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { أَن يَهْدِيَنِى } بالياء عند الوصل ، وقرأ الباقون بحذف الياء .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{ وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا } ، قرأ حمزة والكسائي { ثلاث * مِاْئَةِ } بشسكسر الهاء بغير تنوين على معنى الإضافة؛ وقرأ الباقون بالتنوين . { لَهُ غَيْبُ * السموات والارض } ، أي عالم بما لبثوا في رقودهم؛ وقال الكلبي : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } ، أي هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم . { مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } ؛ أي أصحاب الكهف . { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } ؛ قرأ ابن عامر { وَلاَ تُشْرِكُواْ } بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ الباقون بالياء ، ومعناه أنه قد جرى ذكر علمه وقدرته ، وأعلم أنه لا يشرك في حكمه أحداً . كما قال : { عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 26/27 ] ، ومن قرأ بالتاء يقول : لا تنسبن أحداً إلى عالم الغيب ، ومعناه أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بين رجلين بغير حكم الله ، فيما حكم أو دل عليه حكم الله؛ فليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه .
{ واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } ، يقول : اقرأ عليهم الذي أنزل إليك { مِن كتاب رَبّكَ } ، يعني : القرآن . { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } ؛ يقول : لا مغير لنزول القرآن ولا خلف له؛ ويقال : ولا ينقص منه ولا يزاد فيه . { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } ، أي لا ملجأ يمنعك منه؛ ويقال : { مُلْتَحَدًا } ، أي مانعاً يمنعك؛ ويقال : معدلاً . وإنما سمي اللحد لحداً ، لأنه في ناحية؛ ويقال : معناه وإن زدت فيه أو نقصت منه ، لن تجد من عذابه ملجأ . { واصبر نَفْسَكَ } ، يقول : واحبس نفسك { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } ، أي يصلون لله تعالى { بالغداة والعشى } ، يعني : الصلوات الخمس .
قال ابن عباس : نزلت الآية في سلمان ، وصهيب ، وعمار بن ياسر ، وخباب بن الأرت ، وعامر بن فهيرة ، ونحوهم من الفقراء قالوا : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ذات يوم ، عنده سلمان على بساط منسق بالخوص أي منسوجاً إذ دخل عليه عيينة بن حصن الفزاري ، فجعل يدفعه بمرفقه وينحيه ، حتى أخرجه من البساط . وكان على سلمان شملة قد عرق فيها فقال عيينة : إنَّ لنا شرفاً ، فإذا دخلنا عليك فأخرج هذا واضربه؛ فوالله إنه ليؤذيني ريحه . أما يؤذيك ريحه؟ فإذا خرجنا من عندك ، فأدخلهم وأذن لهم بالدخول إن بدا لك أن يدخلوا عليك أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً ، فنزل : { واصبر نَفْسَكَ } إلى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ، أي يطلبون رضاه .
{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } ، أي لا يتجاوزهم إلى زينة الحياة الدنيا ويقال : لا تحتقرهم ولا تزدرهم . { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } ، أي ما قال عيينة بن حصن الفزاري وأمثاله { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } ، أي عن القرآن ، { واتبع هَوَاهُ } في عبادة الأصنام . { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ، أي ضياعاً؛ وقال السدي : هلاكاً . قال أبو عبيدة : ندماً؛ وقال القتبي : أصله من العجلة والسبق . قال المفسرون : أي سرفاً؛ وقال الزجاج : تفريطاً وهو العجز .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
ثم قال تعالى : { وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ } ، أي القرآن ، يعني : الذي أعطاكم به الحق من ربكم وهو قول : لا إله إلا الله ، يعني : ادعهم إلى الحق . { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } ، أي من شاء فليقل : لا إله إِلا الله؛ ويقال : معناه من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر؛ ويقال : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن } من لفظه لفظ المشيئة ، والمراد به الأمر ، يعني : آمنوا؛ ومن شاء فليكفر لفظه لفظ المشيئة والمراد به الخبر ومعناه ومن كفر . { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا } ، يعني : للكافرين { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ، يعني : أن دخانها محيط بالكافرين ، قال الكلبي ومقاتل : يخرج عنق من النار ، فيحيط بهم كالحظيرة .
{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من العطش ، { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } ، أي أسودَ غليظاً كرديء الزيت؛ وهذا قول الكلبي والسدي وابن جبير . وروى عكرمة ، عن ابن عباس مثله؛ ويقال : هو الصفر المذاب أو النحاس المذاب ، إذ بلغ غايته في الحر؛ وروى الضحاك ، عن ابن مسعود : أنه أذاب فضة من بيت المال ، ثم بعث إلى أهل المسجد وقال : من أحب أن ينظر إلى المهل ، فلينظر إلى هذا : وقال مجاهد : المهل القيح والدم الأسود كعكر الزيت . { يَشْوِى الوجوه } ، يعني : إذا هوى به إلى فيه أنضج وجهه . { بِئْسَ الشراب } المهل . { وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } ، يقول بئس المنزل النار ، رفقاؤهم فيها الشياطين والكفار . { وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } ، أي مجلساً . وأصل الارتفاق الاتكاء على المرفق .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ، أي لا نبطل ثواب من أحسن عملاً في الآخرة : ثم بيّن ثوابهم فقال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } ، العدن الإقامة؛ ويقال : العدن بطنان الجنة وهي وسطها { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } ، السندس ما لطف من الديباج ، والاستبرق ما ثخن من الديباج؛ وقال القتبي : يقول قوم : هو فارسي معرب ، أصله استبرك ، وقال الزجاج في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } : يجوز أن يكون خبره : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ، كأنه يقول : إنا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن يكون الجواب قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } ويجوز أن يكون جوابه لم يذكر ، وقد بيَّن ثواب من أحسن عملاً في موضع آخر ، وهو قوله : { مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وقوله { أَسَاوِرَ } جمع أسورة ، واحدها سوار والأسورة جمع الجمع . { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الارائك } ، أي على السرر في الحجال ، ولا يكون أريكة إلا إذا اجتمعا السرير والحجلة . { نِعْمَ الثواب } الجنة ، { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } ، أي منزلاً في الجنة قُرناؤهم الأنبياء والصالحون .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي صف لأَهل مكة صفة رجلين أخوين من بني مخزوم ، أحدهما مؤمن واسمه أبو مسلمة بن عبد الأسد ، والآخر كافر ويقال له أسود بن عبد الأسد؛ وهما من هذه الأمة . وآخرين أيضاً من بني إسرائيل مؤمن وكافر ، فالمؤمن اسمه تمليخا ، ويقال يهوذا ، والكافر اسمه أبو قطروس . هكذا روي عن ابن عباس؛ ويقال : هذا المثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر به؛ وروي عن ابن مسعود أنه قال : كانا مشركين من بني إسرائيل : أَحدهما مؤمن والآخر كافر ، فاقتسما فأصاب كل واحد منهما أربعين ألف درهم؛ وروي عن ابن عباس أنه قال : كانا أَخوين ورث كل واحد منهما من أبيه أربعة آلاف دينار ، فالكافر أنفق ماله في زينة الدنيا ، نحو شراء المنازل والخدم والحيوان؛ وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله تعالى ، وتصدق على الفقراء والمساكين .
وذلك قوله تعالى : { جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب } ، أي بساتين . قال السدي : كان بستاناً واحداً عليه جرار واحد ، وكان في وسطه نهر؛ فلذلك قال : جنتين لمكان النهر الذي بينهما ، وسماه جنة للمكان الدائر الذي عليه . { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } ، يعني : الجنتين . ثم قال { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } ، أي مزرعاً يقال : كان حول البستان نخيل وأشجار ، وداخل الأشجار كروم ، وداخل الكروم موضع الزرع والرطاب ونحو ذلك . { كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا } ، أي أعطت وأَخرجت حملها وثمارها . { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } ، أي لم تنقص من ثمر الجنتين شيئاً . وقال الزجاج : { كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا } ، لأن لفظ كلتا واحد ، والمعنى أن كل واحدة منهما آتت أكلها ، يعني : أعطت وَأَخْرَجَتْ حَمْلَهَا وَثَمَرَتَهَا { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } ، يعني : لم ينقص من ثمر الجنتين شيئاً ، ولو قال : أتت ، لكان جائزاً . { وَفَجَّرْنَا خلالهما } ، أي أجرينا وسطها { نَهَراً } ، والنهر بنصب الهاء والجزم بمعنى واحد في اللغة إلا أن قراءة النصب أصح .
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } ؛ قرأ أبو عمرو { ثَمَرٌ } بضم الثاء وجزم الميم ، وقرأ الباقون غير عاصم بضم الثاء والميم ، ومعناهما واحد ، وقرأ عاصم بنصب الثاء والميم . فمن قرأ بالنصب ، فهو ما يخرج من الشجر؛ ومن قرأ بالضم ، فهو المال . يقال : قد أثمر فلان مالاً ، ويقال : الثمر جمع ثمار؛ ويقال : ثمرة وثمار ، وجمع الثمار ثمر . { فَقَالَ لصاحبه } ، يعني : قال الكافر للمؤمن { وَهُوَ يحاوره } ، أي يفاخره ويراجعه ، وذلك أن أخاه احتاج فأتاه يسأله منه شيئاً ، فلم يعطه شيئاً ، وعاتبه بدفع ماله؛ وذلك قوله تعالى : { فَقَالَ لصاحبه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } : { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } ، يعني : وأكثر خدماً .
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } وهو آخذ بيد أخيه المسلم . { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } بالشرك ، فمن كفر بالله فهو ظالم لنفسه ، لأنه أوجب لها العذاب الدائم . { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } ، لأن أخاه المؤمن عرض عليه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ، فأجابه الكافر : فَ { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } ، يعني : لن تفنى هذه أبداً . { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } ، أي كائنة . { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى } ، أي إن كان الأمر كما يقول ، ورجعت إلى ربي في الآخرة ، { لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } في الآخرة ، أي مرجعاً . قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر { خَيْرًا * مِنْهُمَا } لأنها كناية عن الجنتين ، وقرأ الباقون { مِنْهَا } ، لأنه كناية عن قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } .
{ قَالَ لَهُ صاحبه } ، أي أخاه المسلم ، { وَهُوَ يحاوره } ، أي يكلمه ويعظه في الله تعالى : { أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } ، يعني : آدم . عليه السلام { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } ، يعني : خلقك معتدل .
قوله : { لَكُنَّا *** هُوَ الله رَبّى } ؛ قرأ ابن عامر ونافع في إحدى الروايتين { لَكُنَّا } بالألف وتشديد النون ، لأن أصله لكن أنا ، فأدغم فيه؛ وقرأ الباقون { لَكِنِ } ، وفي مصحف الإمام { لَكِنِ *** أَنَاْ ***** هُوَ الله رَبّى } ، فهذا هو الأصل في اللغة ، ومعناه لكن أنا أقول : هو الله ربي . { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } ، يقول : فهلا إذ دخلت بستانك ، { قُلْتَ مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } ، يعني : بقوة الله أعطانيها لا بقوتي . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ أُعْطِيَ خَيْراً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ ، فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله ، لَمْ ير فِيهِ مَا يَكْرَهُ » . { إِن تَرَنِ } ، يعني : إن رأيتني { أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } في الدنيا ، { فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } هذه في الآخرة ، { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } ؛ أي على جنتك { حُسْبَانًا مِّنَ السماء } ، أي ناراً من السماء . وهذا قول الكلبي أيضاً ومقاتل ، وقال القتبي : { حُسْبَاناً } ، أي مرامي واحدها حسبانة؛ وقال الزجاج : الحسبان أصله الحساب كقوله : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] ، أي بحساب ، وهكذا قال هنا حسباناً أي حساباً بما كسبت يداك؛ وقال بعض أهل اللغة : الحسبان في اللغة سهم فارق وهو ما يرقى به . ثم قال : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } ، أي فتصير تراباً أملس لا نبات فيها . { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } ، أي غائراً ، يقال : غار ماؤها فلم يقدر عليه { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } ، أي حِيلَةً . { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } ، أي فأهلك جميع ماله ، والاختلاف في الثمر كما ذكرنا . { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } أي يصفق يده على الأخرى ندامة { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } من المال ، { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ؛ أي ساقطة على سقوفها ، { وَيَقُولُ } في الآخرة : { وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } في الدنيا .
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله } ، أي جنداً وقوماً وأعواناً يمنعونه من عذاب الله . ، أي جنداً وقوماً وأعواناً يمنعونه من عذاب الله . { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } ، أي ممتنعاً هو بنفسه؛ قرأ حمزة والكسائي { وَلَمْ يَكُن } بالياء بلفظ التذكير ، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث وقال الزجاج : لو قال نصره ، لجاز وإنما ينصره على المعنى أي أقواماً ينصرونه .
{ هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } ، أي عند ذلك وهو يوم القيامة ، يعني : السلطان والحكم لله لا ينازعه أحد في ملكه يومئذٍ؛ وهذا كقوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والامر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] . فمن قرأ { الحق } بكسر القاف جعله نعتاً لله؛ ومن قرأ بالضم جعله نعتاً للولاية . قرأ حمزة { هُنَالِكَ الولاية } بكسر الواو وضم القاف ، وقرأ الباقون { الولاية لِلَّهِ الحق } ، وقال بعضهم : الولاية بالكسر والنصب لغتان ، وقيل بالكسر مصدر الوالي ، يقال : والي بين الولاية وبالنصب مصدر الولي بين الولاية . { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا } ، أي خير من أثاب العبد؛ { وَخَيْرٌ عُقْبًا } ، أي خير من أعقب . قرأ حمزة وعاصم { عُقْبًا } بجزم القاف ، وقرأ الباقون بضم القاف ، ومعناهما واحد وهو العاقبة ، فبيّن الله تعالى حال الأخوين في الدنيا وبيّن حالهما في الآخرة ، في سورة الصافات في قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] إلى قوله : { فاطلع فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] .
ثم قال : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } ، أي للمشركين شبه ما في الدنيا من الزينة والزهرة . { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } ، وهو المطر . { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض } ، أي اختلط الماء بالنبات ، لأن الماء إذا دخل في الأرض ينبت به النبات ، فكأنه اختلط به ، { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرياح } . وفي الآية مضمر ، ومعناه فاختلط الماء بنبات الأرض فنبت وحسن ، حتى إذا بلغ أرسل الله آفة فأيبسته فصار هشيماً ، أي صار يابساً متكسراً بعد حسنه . قال القتبي : وأَصْلُهُ من هشمت الشيء إذا كسرته؛ ومنه سمي الرجل هاشماً { تَذْرُوهُ الرياح } ، أَي ذرته الرياح كالرماد ولم يبق منه شيء ، فكذلك الدنيا في فنائها وزوالها تهلك إذا جاءت الآخرة وما فيها من الزهرة . { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا } ، أي قادراً من البعث وغيره . قرأ حمزة والكسائي : الريح بلفظ الوحدان ، وقرأ الباقون الرياح بلفظ الجماعة .
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ الْمَالُ والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } ، أي غروراً لا يبقى كما لا يبقى الهشيم حين ذرته الريح ، وإنما يبقى في الآخرة . { والباقيات الصالحات } ، أي الصلوات الخمس . هكذا روي عن أبي الهيثم ومسروق؛ وقال مسروق : { يَعْمَلُونَ الصالحات } هي الخمس صلوات ، وهي الحسنات يذهبن السيئات ، وكذلك قال ابن أبي مليكة : وروى سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله { والباقيات الصالحات } قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ وَقَالَ خُذُوا جُنَّتكُمْ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ الله أَمِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ ، قَالَ : لاَ بَلْ مِنَ النَّارِ . قَالُوا : وَمَا جُنَّتُنَا مِنَ النَّارِ؟ قَال : سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله وَلاَ إله إِلاَّ الله والله أَكْبَرُ . ويقال : كل طاعة يبقى ثوابها ، فهي الباقيات الصالحات : الصلاة والصدقة والتسبيح وجميع الطاعات . { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } ، أي خير من هذه الزينة والغرور عند الله تعالى ، وخير ما يثبت الله العبد ، وخير أملاً أي خير ما يوصل العبد الصلاة والتسبيح ، أي أفضل رجاء مما يرجو الكافر ، لأن ثواب الكافر النار ومرجعه إلى النار .
{ وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال } ، أي نزيلها عن وجه الأرض ونسيرها كما نسير السحاب كقوله : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [ النمل : 88 ] . { وَتَرَى الارض بَارِزَةً } ، أي ظاهرة من تحت الجبال ، ويقال : بارزة أي خالية مما فيها من الكنوز والأموات ، كما قال : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { وَيَوْمَ * مِنْهُ الجبال } بالتاء مع الضمة ونصب الياء وضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون { نُسَيّرُ } بالنون ونصب اللام ، كما قال : { وحشرناهم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } ، أي لم نترك منهم أحداً ولا نخلف منهم أحداً . { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا } ، يقول : جميعاً ، كقوله : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } [ طه : 64 ] ، أي جميعاً . يقول الله تعالى ذكره : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } فرادى عراة حفاةً ، { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } بلا أهل ولا مال . { بَلْ زَعَمْتُمْ } ، أي قد قلتم في الدنيا : { أَن لَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } ، أي لن نبعثكم في الآخرة .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{ وَوُضِعَ الكتاب } أي وضع كتاب كل امرىء منهم بيمينه أو بشماله ، { فَتَرَى المجرمين } ؛ أي المشركين والمنافقين والعاصين . { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } ، أي خائفين مما في الكتاب من الإحصاء . { وَيَقُولُونَ ياويلتنا } ، يا ندامتنا { مَّالِ * هذا ***** الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } ؟ يعني : الزلل والكبائر ويقال : تبسماً وضحكاً ، { إِلاَّ أَحْصَاهَا } ؛ يقول : حفظها عليهم ، { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ } في الكتاب { حَاضِرًا } من خير أو شر مكتوباً . { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ، أي لا ينقص من ثواب أعمالهم ولا يزيد في سيّئاتهم .
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } الذين كانوا في الأرض مع إبليس : { اسجدوا لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } ، قال بعضهم : كان أصله من الجن فلحق بالملائكة وجعل يتعبد معهم ، وقال مقاتل : كان من الجن وهو جنس من الملائكة يقال لهم الجن . روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة الذين هم خزان الجنان ، ويقال : كان من الجن أي صار من الجن ، كقوله : { قَالَ سآوى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين } [ هود : 43 ] . { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } ، أي تعظم من طاعة ربه وخرج عن طريق ربه؛ يقال : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من قشرها . { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } ؟ أفتطيعونه وتتركون أمر الله ، { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ؟ أي أعداء ، كقوله : { َإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المنافقون : 4 ] { بِئْسَ للظالمين بَدَلاً } ، أي بئس ما استبدلوا عبادة الشيطان بعبادة الله ، ويقال : بئس ما استبدلوا بولاية الله تعالى ولاية الشيطان .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
ثم قال : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض } ، أي ما استعنت بهم على خلق السموات والأرض ، يعني : إبليس وذريته { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } ، أي ولا استعنت بهم على خلق . { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } ، أي ما كنت أتخذ الذين يضلون الناس عرفاً يعني : الشياطين ، { عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِىَ } ، أي لعباد الأوثان وهو يوم القيامة ، نادوا شركائي أي ادعوا آلهتكم ، { الذين زَعَمْتُمْ } في الدنيا أنهم لي شركاء ، ليمنعوكم مني من عذابي . { فَدَعَوْهُمْ } ، يعني : الآلهة ، { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ؛ أي لم يجيبوهم . { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } ؛ قال مجاهد : وادٍ في جهنم ، وهكذا قال مقاتل ، وقال القتبي : أي مهلكاً بينهم وبين آلهتهم في جهنم ، ومنه يقال : أَوبقته ذنوبه ويقال : موعداً ، وقال الزجاج : وجعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم ، أي وجعلنا بينهم وبين شركائهم الذين أضلوهم موبقاً أي مهلكاً . قرأ حمزة ويوم { نَّقُولُ } بالنون وقرأ الباقون بالياء .
{ وَرَأَى المجرمون النار } ، أي رآها المشركون من مكان بعيد ، { فَظَنُّواْ } ؛ أي علموا واستيقنوا { أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } ، أي داخلوها ، { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا } ؛ أي معدلاً ولا ملجأً ولا مفراً يرجعون إليه . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } ، أي بيّنا { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ مِن } ، أي من كل وجه ونوع ليتعظوا فلم يتعظوا ، ويقال : بينا من كل وجه يحتاجون إليه . { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } من أمر الباطل ، يعني : من أمر البعث مثل أبيّ بن خلف وأصحابه .
قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا يحيى بن محمد الصاعد قال : حدثنا العباس بن محمد الدوري قال : حدثنا محمد بن بشر قال ، للحجاج بن دينار قال ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ » . والدليل على أن الإنسان أراد به الكافر ما قال في سياق الآية { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } الآية . ثم قال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } ؛ يقول : لم يمنع المشركون أن يصدقوا . { إِذْ جَاءهُمُ الهدى } ، يعني : الرسول والكتاب والدلائل والحجج . قوله : { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } ، أي وما منعهم من الاستغفار والرجوع عن شركهم ، { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاولين } ، أي عذاب الأمم الخالية . { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } ، أي عياناً بالسيف . قرأ عاصم وحمزة والكسائي { قُبُلاً } بضم القاف والباء ، وقرأ الباقون بكسر القاف ونصب الباء . فمن قرأ بالضم فهو بمعنى فعل من قبل ، أي مما يقابلهم ، ويجوز أن يكون جمع قبيل هو أن يأتيهم العذاب أنواعاً ، ومن قرأ بالكسر معناه عياناً .
{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ } ، أي للمؤمنين بالجنة ، { وَمُنذِرِينَ } ؛ أي للكافرين بالنار { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } أي يخاصموا بالباطل { لِيُدْحِضُواْ بِهِ } أي ليزيلوا ويذهبوا به { الحق } ومنه يقال : حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ إذا زالت عن الحجة وقال مقاتل : { لِيُدْحِضُواْ بِهِ } أي ليبطلوا به الحقَّ ، يعني : القرآن والإسلام ، يعني : يريدون أن يفعلوا إن قدروا عليه . { واتخذوا ءاياتى } ، يعني : القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } ، أي وما خوفوا به { هُزُواً } أي سخرية .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ } أي فلا أحد أظلم؛ ويقال : أشد في كفره { مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ } ، أي وعظ بالقرآن ، { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } . يقول : فكذب بها ولم يؤمن بها ، { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } ؛ أي نسي ذنوبه التي أسلفها . { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } ، أي جعلنا أعمالهم على قلوبهم أكنة { أَن يَفْقَهُوهُ } ، أي لكيلا يعرفوه ولا يفهموه . { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } ، أي صمماً وثقلاً مجازاة لكفرهم . { وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى } ، أي إِلى الإسلام ، { فَلَنْ يَهْتَدُواْ } ؛ أي لن يؤمنوا . { إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الغفور } ، أي المتجاوز إن رجعوا . { ذُو الرحمة } ، أي بتأخير العذاب عنهم ، { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ } ؛ أي لو يعاقبهم بكفرهم ، { لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } في الدنيا ، { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } ، أي أجلاً . { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } ، أي ملجأً يلجؤون إليه ولا منجى منه .
{ وَتِلْكَ القرى } ، أي أهلها يعني : { أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُواْ } ، يعني : القرون الماضية حين أقاموا وثبتوا على كفرهم . { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } ، أي لهلاكهم أَجلاً يهلكون فيه قرأ عاصم في رواية أبي بكر { لِمَهْلِكِهِم } بنصب الميم واللام ، وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الميم وكسر اللام ، وقرأ الباقون بضم الميم ونصب اللام ، ومعنى ذلك كله واحد قال الزجاج : يكون للمصدر ويجوز للوقت وإن كان مصدراً ، فمعناه جعلنا لوقت هلاكهم أجلاً .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه } ، أي لتلميذه وهو يوشع بن نون؛ وقال أَهل الكتاب : إنما هو موسى بن إفراتيم بن يوسف بن يعقوب ، وذكر عن القتبي أنه قال : زعم أهل التوراة أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب ، وقال عامة المفسرين : هو موسى بن عمران الذي هو أخو هارون . قال الفقيه رضي الله عنه : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا أبو العباس قال : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا أبو المغيرة قال : حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن منبه ، أن ابن عباس تمارى هو وقيس ، وجبر بن قيس الفزاري في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إليه قال ابن عباس : هو الخضر إذ مر أبي بن كعب ، فناداه ابن عباس فقال : تماريت أنا وهذا في صاحب موسى ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم « بَيْنَا مُوسَى فِي مَلإِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، إذْ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : هَلْ تَعْلَمُ أحَداً أعْلَمَ مِنْكَ؟ فَقَالَ لا ، فَأَوْحَى الله إلَيْهِ بَلْ عَبْدِي الخَضِرُ ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إلَى لِقَائِهِ ، فَجَعَلَ الله لَهُ الحُوتَ آيةً . فَقَالَ : إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَارْجِعْ ، فَإنَّكَ سَتَلْقَاهُ ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا ما قَصَّ الله تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ » . وروى سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوف البكالي زعم أن موسى نبي بني إسرائيل . ليس هو موسى صاحب الخضر ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله . أخبرنا أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قَامَ مُوسَى خَطِيباً في بَنِي إسْرَائِيلَ » وذكر نحو الحديث الأول .
وروى أسباط ، عن السدي قال : بلغنا أن موسى بن عمران نبي الله خطب خطبة فأبلغ فيها ، فدخله بعض العجب وتعجبت بنو إسرائيل لبلاغته فقالوا : يا نبي الله هل تعلم أحداً أبلغ منك فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبداً في الأرض هو أعلم منك فاطلبه قال : وما علامته؟ قال : تنطلق معك بزاد ، فإذا تعبت في سفرك أي أعييت وفقدت زادك ، فعند ذلك تلقاه . فانطلق موسى وفتاه يوشع بن نون وحملا معهما خبزاً وحوتاً ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه لا أَبْرَحُ } . قال الكلبي : وإنما سماه موسى فتًى لأنه كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه ، وكان يوشع من أشراف بني إسرائيل ، وهو الذي استخلفه موسى على بني إسرائيل . وقال مقاتل : كان فتاه يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى من سبط يوسف .
{ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } ، أي بحر الملح وهو بحر فارس وبحر الروم والبحر العذب؛ وقد قيل : معناه آتي الموضع الذي يجتمع فيه بين العالمين يعني : موسى والخضر ، وهما بحران في العلم .
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ } ، أي أصحبك { على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } ، أي هدى وصواباً . قرأ أبو عمرو وابن عامر { رَشَدًا } بالنصب ، وقرأ الباقون بالضم عن عاصم ونافع ، ومعناهما واحد . فقال له الخضر : إن لك فيما في التوراة كفاية من طلب العلم في بني إسرائيل وفضل أنت سترى مني أشياء تنكرها ولا ينبغي للرجل الصالح أن يرى شيئاً منكراً لا يغيره؛ فذلك قوله تعالى : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } ، يعني : إنك ترى مني أشياء لا تصبر عليها . { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ؟ أي ما لم تعلم به علماً . ويقال : معناه كيف تصبر على ما ظاهره منكر؟ { قَالَ } موسى : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } ، أي لا أترك أمرك فيما أمرتني . { قَالَ } الخضر : { فَإِنِ اتبعتنى } ، أي صحبتني { فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء } فعلت ، { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } ؛ أي حتى أخبرك منه خبراً ، يعني : إن أنكرته فلا تعجل عليّ بالمسألة . فأمر موسى يوشع أن يرجع إلى بني إسرائيل وأقام موسى مع الخضر .
قرأ نافع { فَلاَ تَسْأَلْنى } بتشديد النون مع إثبات الياء والتقدير للتأكيد للنهي ، وقرأ ابن عامر { فَلاَ تَسْأَلْنى } بتشديد النون بغير ياء لأن الكسرة تدل عليه ، وقرأ الباقون { فَلاَ تَسْأَلْنى } بالتخفيف وإثبات الياء ، وقرأ بعضهم بالتخفيف بغيره .
{ فانطلقا } ، يعني : موسى والخضر ، وذلك أن موسى رد يوشع إلى بني إسرائيل وذهب موسى مع الخضر . { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة } ؛ وذلك أنهما لما أتيا السفينة ، قال أهل السفينة؛ لا يدخل علينا هذان الرجلان ، فإنا لا نعرفهما ونخاف على متاعنا منهما . فقال الملاح؛ بل سيماهما سيما الزهاد ، فحملهما في السفينة بغير نول أي مجاناً . فأخذ الخضر فأساً لما ركب السفينة ، وجعل يثقب السفينة ويخرقها ، فقال أهل السفينة؛ الله الله لا تخرق سفينتنا فتغرق . فقال موسى؛ حملنا بغير نول وتخرق السفينة وتغرق أهلها؟ فذلك قوله؛ { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة } { خَرَقَهَا } ، أي ثقبها . { قَالَ } موسى؛ { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } . قرأ حمزة والكسائي { ***ليُغْرِقَ } بالياء والنصب { أَعِزَّةَ أَهْلِهَا } بضم اللام ، وقرأ الباقون بالتاء والضم وكسر الراء والنصب في اللام؛ فمن قرأ برفع التاء فالأهل هو المفعول . { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } ، أي منكراً شديداً . قال القتبي : { أمْراً } أي داهية وكذلك { نُّكْراً } ، إلا أن النكر أشد استعظاماً بالعين وإنكاراً بالقلب .
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ قَالَ } له الخضر : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } . روي عن ابن عباس أنه قال : قال له موسى : يا عبد الله ، إنه لا يحل لك أن تخرق سفينة القوم فتغرقهم . فلم يكلمه الخضر ، وجعل يخرق السفينة حتى خرقها ، فتنحى موسى وجلس فقال : وما كنت أمنع أن أتبع هذا الرجل يظلم هؤلاء القوم ، وقد كنت في بني إسرائيل أقرأ عليهم كتاب الله غدوة وعشية ، ويقبلون مني فتركتهم وصحبت هذا الرجل الذي يظلم هؤلاء القوم . فقال الخضر : يا موسى ، أتدري ما حدثت به نفسك؟ فقال موسى : ما هو؟ قال الخضر : قلت : كنت في بني إسرائيل أتلو عليهم كتاب الله غدوة وعشية ، يقبلونه مني فتركتهم وصحبت هذا الرجل الذي يظلم هؤلاء القوم . قال له : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } .
قال : فجاء عصفور فوقع على جانب السفينة ، فنقر من البحر نقرة من الماء ثمّ طار فقال الخضر : والله ما ذهبت أنا وأنت من العلم في علم الله تعالى ، إلا مثل ما يغرف هذا العصفور من الماء من هذا البحر . { قَالَ } موسى : { لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } ، أي بما تركت من وصيتي . وقال ابن عباس : هذا من معاريض الكلام ، لأن موسى لم ينس ولكن قال : { لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } يقول إذا كان مني نسيان فلا تؤاخذني به . { وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً } ، يعني : لا تكلفني من أمري شدة . { فانطلقا } ، أي خرجا من السفينة ومضيا ، { حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا } ؛ قال الكلبي : كان اسمه خشنوذ . وقال غيره : كان اسمه خربث بن كاذري فقتله ، أي أخذ برأسه قرعة . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان رجلاً إلا أنه لم يهتك بعد ، وكان كافراً يقطع الطريق؛ وقال سعيد بن جبير في رواية ابن عباس : كان صبياً غير مدرك فمر بغلمان يلعبون ، فأخذ برأس غلام منهم فقطعه؛ وقال في بعض الروايات : خنقه؛ فذلك قوله : { فَقَتَلَهُ } . وروي أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس أن النبي نهى عن قتل الصبيان في دار العرب ، وأن صاحب موسى قد قتل صبيّاً قكتب إليه ابن عباس : إنك لو علمت من الصبيان ما علم صاحب موسى ، جاز لك أن تقتله .
{ قَالَ } له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } ، أي طاهرة بغير ذنب؟ ويقال : زكية لم تجن عليك بغير نفس ، يقول : بغير دم وجب عليها . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { ***زَاكِيَةً } بالألف ، وقرأ الباقون بغير ألف؛ ومعناهما واحد مثل قاسية وقسية ، وقال القتبي الزكية المطهرة التي لم تذنب قط . { نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } ، أي منكراً أي أَمراً فظيعاً . قال القتبي : إنما قال ها هنا نكراً ، لأن قتل النفس أشد استعظاماً من خرق السفينة؛ وقال الزجاج : نكراً أقل من إمراً ، لأن إغراقه من في السفينة كان أعظم عنده من قتل النفس الواحدة .
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ قَالَ } الخضر : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } ؛ وقد زاد هنا لك للتأكيد . قيل : لأنه قد سبق منه الزجر مرة . { قَالَ } موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى } ، يعني : إن طلبت صحبتك فلا تبايعني؛ وقد قرىء { فَلا } أبداً . { تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } ؛ يقول : قد أعذرت فيما بيني وبينك في الصحبة . { فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } ؛ قال ابن عباس : وهي أنطاكية ، { استطعما أَهْلَهَا } ، أي : استضافاً ، قال بعضهم : سألاهم؛ وقال بعضهم : لم يسألاهم ولكن كان نزولهما بين ظهرانيهم بمنزلة السؤال منهما . { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا } ، يعني : لم يطعموهما . { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً } ، يعني : في تلك القرية . { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } ؛ وهذا كلام مجاز لأن الجدار لا يكون له إرادة ، ومعناه كاد أن يسقط ، { فَأَقَامَهُ } ؛ يعني : سواه الخضر . { قَالَ } موسى : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي جعلاً خبزاً تأكله . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ***لَتَخِذْتُ } بغير ألف وكسر الخاء؛ والباقون { شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ } ومعناهما واحد . وقرأ نافع { مِن لَّدُنّى } بنصب اللام وضم الدال وتخفيف النون؛ وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير وأبو عمرو { مِن لَّدُنّى } بتشديد النون وهي اللغة المعروفة ، والأول لغة لبعض العرب : واختلف الروايات عن عاصم . { قَالَ } الخضر : { هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } ، أي هذا شرط الفراق بيني وبينك وأنت حكمت على نفسك . { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ } ، أي بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } ، أي تعلم ما رأيتني أصنع فأنكرت لتغرق أهلها وتأويله .
{ أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر } ، ويكسبون قوتهم ، { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } ؛ أي أجعلها معيبة . { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ } ، أي أمامهم ملك . روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : وَكَانَ أَمَامَهُمْ ملك : { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } ؛ وكان ابن عباس يقرأ أيضاً كل سفينة صالحة غصباً أَي : كل سفينة بغير عيب . وكان اسم الملك جلنذا ، يعني : أنها لو كانت بغير عيب أخذها الملك؛ فإذا كانت مع العيب تبقى للمساكين . قال الفقيه أبو الليث : فيه دليل أن للوصي أن ينقض مال اليتيم إذا رأى فيه صلاحاً ، وهو أنه لو كانت له دار نفيسة ، فخاف أن يطمع فيها بعض السلاطين ، فأراد أن يخرب بعضها ليبقيها لليتيم جاز . وروي عن أبي يوسف أنه كان يجيز مصانعة الوصي في مال اليتيم ، وهو يدفع من ماله شيئاً إلى السلطان ليدفعه عن بقية ماله .
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا } ، أي يقول يكلفهما { طغيانا وَكُفْراً } ، يقول؛ تمادياً وإثماً . { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا } قرأ نافع وأبو عمرو { يُبْدِلَهُمَا } بتشديد الدال ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد . يقال : بدل وأبدل بمعنى واحد أي يعطيهما ولداً غير هذا الولد . { رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ } ، أي أفضل . { زكواة } ، أي ولداً صالحاً . { وَأَقْرَبَ رُحْماً } ، أي أوصل رحماً ويقال رحماً . ويقال : أقرب رحمة وعطفاً عليهما . قال الكلبي : فولدت امرأته جارية فتزوجها نبي من الأنبياء ، فهدى الله على يده أمة من الأمم .
{ وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة } أحدهما أصرم والآخر صريم ، { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } ؛ قال الكلبي : أي مال لهما ، وقال مقاتل ومجاهد : كل شيء في القرآن من كنز فهو مال غير هنا ، فإنه الصحف التي فيها علم؛ وقال الضحاك : كنز لهما أي علم لهما قال الفقيه : حدّثني أبي بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجد تحت الجدار الذي قال الله تعالى { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } لوح من ذهب؛ والذهب لا يصدأ ولا ينقص مكتوب فيه بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، عجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها . لا إله إلا الله محمد رسول الله . روي عن ابن عباس أنه قال : كان في اللوح خمس كلمات وذكر نحوه .
قوله : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } ذا أمانة واسمه كاشح ، فحفظا بصلاح أبيها ولم يذكر منهما صلاحاً . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنّ الله تَعَالَى لَيُصْلِحُ بِصَلاَحِ الرَّجُلِ أهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَأَهْلَ الدُّوَيْرَاتِ حوله » . { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } ، أي يبلغا مبلغ الرجال ، { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ؛ أي نعمة من ربك . { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أي من قبل نفسي ولكن الله أمرني به . { ذَلِكَ تَأْوِيلُ } ، أي تفسير { مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } . تستطع وتسطع بمعنى واحد ، يقال : اسطاع واستطاع .
قال الفقيه رضي الله عنه : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد الدوري قال : حدّثنا الحجاج الأعور قال : حدّثنا حمزة الزيات ، عن أبي إسحق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه وقال : « رَحْمَةُ الله عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى فَلَوْ كَانَ صَبَرَ لَقَصَّ الله عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا » . وفي رواية أخرى : « لَقَصَّ الله عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا العَجَائِبَ » فلما أراد موسى أن يرجع ، قال للخضر : أوصني . فقال له الخضر : إياك واللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعير الخطائين بخطاياهم ، وابكِ على خطيئتك يا ابن عمران . قال مجاهد : إنما سمي الخضر خضراً ، لأنه لا يكون بأرض إلا اخضرت .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
ثم قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين } ، وكان اسمه اسكندر . وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : لم سمي ذا القرنين؟ فقال : اختلف فيه أهل الكتاب ، فقال بعضهم : لأنه ملك الروم وفارس ، وقال بعضهم : لأنه كان في رأسه شبه القرنين ، وقال بعضهم : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها ، فسماه الملك الذي عند قاف ذا القرنين ، ويقال : رأى في المنام أنه دنا من الشمس وأخذ منها ، فقصَّ رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين ، وقال الزجاج : سمي ذا القرنين لأنه كان له ضفيرتان . وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : ضرب على قرني رأسه ، وقيل : لأنه بلغ قطر الأرض؛ وقال عكرمة : كان ذو القرنين نبياً ولقمان نبياً والخضر نبياً ، وروى مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص كان ذو القرنين نبياً؛ وروي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين ، فقال : كان رجلاً صالحاً ولقمان كان رجلاً حكيماً؛ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذي القرنين فقال : هو ملك يسبح في الأرض؛ وقال مجاهد : ملك الأرض أربعة ، اثنان مؤمنان واثنان كافران . أما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين ، وأما الكافران فالنمرود بن كنعان وبختنصر .
قال تعالى : { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً } ، أي خبراً وعلماً من الله تعالى . { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الارض } ، أي ملكناه وأعطيناه { واتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } ، أي علماً؛ ويقال : أعطيناه علم الوصول إلى كل شيء يحتاج إليه من الحروف وغيرها ، ويقال : علماً بالطريق { فَأَتْبَعَ سَبَباً } ، أي أخذ طريقاً فسار إلى المغرب ، { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ؛ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { ***حَامِئَةٍ } بالألف ، وقرأ الباقون { عَيْنٍ حَمِئَةٍ } بغير ألف . فمن قرأ { ***حَامِئَةٍ } يعني : جائرة ، ومن قرأ بغير ألف يعني : من طينة سوداء منتنة . وروي أن معاوية قرأ { فِى عَيْنٍ } فقال ابن عباس : ما نقرؤها إلا حمئة ، فسأل معاوية عبد الله بن عمرو : كيف تقرؤها؟ فقال : كما قرأتها . قال ابن عباس : في بيتي نزل القرآن ، فبعث معاوية إلى كعب يسأله : أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ قال : في ماء وطين وقال : في مذرة سوداء . قال القتبي { عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ذات حمات ، والحامية حارّة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع { فَأَتْبَعَ } بتشديد التاء وكذلك ما بعده وقرأ الباقون فأتبع بنصب الألف وجزم التاء بغير تشديد .
{ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } ، أي عند العين التي تغرب فيها الشمس مؤمنين وكافرين فظهر عليهم . { قُلْنَا ياذا *** ذَا **القرنين } ؛ قال مقاتل : أوصى الله تعالى إليه ، وقال ابن عباس : ألهمه الله تعالى . { إِمَّا أَن تُعَذّبَ } ، يعني : أن تقتل من كان كافراً؛ { وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } ، يعني : تنعم عليهم وتغفر لمن كان مؤمناً؛ وقال بعضهم : كانوا كلهم كفاراً قيل له : إما أن تعذب من لم يؤمن ، وإما أن تتخذ فيهم حسناً لمن آمن .
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{ قَالَ } ذو القرنين : { أَمَّا مَن ظَلَمَ } ، أي كفر بالله ، { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } ؛ أي نقتله إن لم يتب . { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ } في الآخرة ، { فَيْعَذّبُهُ } في النار { عَذَاباً نُّكْراً } ؛ يقول شديداً . { وَأَمَّا مَنْ امَنَ } صدق بالله ، { وَعَمِلَ صالحا } فيما بينه وبين الله تعالى ، { فَلَهُ جَزَاء الحسنى } . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { جَزَاء } بنصب الألف والتنوين ، وقرأ الباقون بضم الألف بغير تنوين؛ فمن قرأ بالنصب فمعناه أن له الحسنى جزاء ، صار الجزاء نصباً للحال؛ ومن قرأ بالضم جزاءً للإضافة بغير جزاء إحسان . { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } ، أي سنعد له في الدنيا معروفاً عدة ، ويقال : وسنقول له قولاً جميلاً .
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } ، أي أخذ طريقاً . وقال القتبي : السبب أصله الحبل ، ثمّ كل شيء توصلت به إلى موضع أو حاجة فهو سبب . تقول : فلان سببي إليك ، أي وصلتي ، وتسمى الطريق سبباً ، لأنه يصل إلى الموضع الذي يريده . { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً } ، أي لم يكن لهم من دون الشمس شيء يظلهم ، لا شجر ولا جبل ولا ثوب ، إلا عراة عماة عن الخلق؛ وكانوا في مكان لا يستقر عليه البناء وقال قتادة : يقال إنهم الزنج ، وكانوا في مكان لا ينبت فيه نبات ، وكانوا يدخلون سرباً إذا طلعت الشمس ، حتى تزول عنهم ويخرجون في معايشهم .
{ كذلك } يعني : هكذا بلغ مطلع الشمس أيضاً ، كما بلغ مغربها . ثم استأنف فقال : { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } ، أي بما عنده علماً . وهذا قول مقاتل { كذلك } أي : كما أخبرتك بهذا الخبر ، كذلك كان علمنا محيطاً به قبل ذلك . { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } ، أي أخذ طريقاً . { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } ، أي بين الجبلين؛ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { السَّدَّيْنِ } بضم السين وكذلك الثاني والذي في سورة يس ، وروى حفص عن عاصم أنه نصب كله ، وابن كثير وأبو عمرو نصبا هاهنا ورفعا في يس ، وحمزة والكسائي رفعا بين السدين ونصبا ما سوى ذلك وقال بعض أهل اللغة : ما كان مسدوداً خلقة فهو سَد بالنصب ، وما كان بعمل الناس فهو سد بالضم . وروي عن ابن عباس ومجاهد وقيل : إن المراد هاهنا طرفا الجبل . { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } ، أي من قبل الجبلين { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ، أي كلاماً غير كلامهم ولساناً غير لسانهم . قرأ حمزة والكسائي { يَفْقَهُونَ } بضم الياء وكسر القاف ، يعني : أن كلامهم لا يفهمه أحد غيرهم؛ وقرأ الباقون { يَفْقَهُونَ } بالنصب ، يعني : أنهم لا يفقهون قول غيرهم .
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{ قَالُواْ يأَبَانَا ذَا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الارض } ، أي يخرجون إلى أرضنا ويأكلون رطبنا ويحملون يابسنا ويقتلون أولادنا . وكان يأجوج رجلاً ومأجوج رجلاً ، وكانا أخوين من بني يافث بن نوح ، فكثر نسلهما فنسب إليهما . ويقال : سمي يأجوج ومأجوج لكثرتهم وازدحامهم ، لأنهم يموجون بعضهم في بعض . { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } ؛ قرأ عاصم : { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } بهمز الألف ، وقرأ الباقون بغير همز ، وقرأ حمزة والكسائي { ***خَرَاجاً } بالألف وقرأ الباقون { لَكَ خَرْجاً } بغير ألف ، ويقال : الخراج هو الضريبة ، والخرج هو الجعل؛ ويقال : أحدهما اسم والآخر مصدر . { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا سَدّا } ، أي حاجزاً .
ف { قَالَ } ذو القرنين : { مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ } ؛ قرأ ابن كثير { مَا } بنونين وهو الأصل في اللغة ، وقرأ الباقون { مَا مَكَّنّى } فأدغم إحدى النونين في الأخرى وأقيم التشديد مقامه ، أي ما ملَّكني وأعطاني فيه ربي من القوة والمال خير من جعلكم في الدنيا ، ويقال : ما يعطيني الله تعالى في الأخرى من ثواب خير . { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } قالوا : وما تريد؟ قال : آلة العمل وهي آلة الحدادين . { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } . قالوا : وَمَا هِيَ؟ قال : { زُبَرَ الحديد حتى } ، أي قطع الحديد { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ *** سَدّا } قرأ عاصم في إحدى الروايتين { ***إيتُونِي } على معنى جيئوني ، وقرأ الباقون { رَدْمًا ءاتُونِى } بمد الألف أي أعطوني . فأتوه بقطع الحديد فبناه .
{ حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } ؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { الصدفين } بضم الصاد والدال ، وقرأ عاصم بضم الصاد وجزم الدال ، وقرأ الباقون بنصب الصاد والدال؛ وهما ناحيتا الجبل . فأخذ قطع الحديد وجعل بينهما حطباً وفحماً ، ووضع المنافخ وقال : انفخوا . فنفخوه حتى صار كهيئة النار . ثم أتى بالصفر ويقال بالنحاس ، فأذابه وأفرغ عليه حتى صار جبلاً من حديد ونحاس ، فذلك قوله { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } أي بين الجبلين . { قَالَ انفخوا } ، فنفخوا . { حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } ، أي صيَّر الحديد ناراً ، { قَالَ اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } ، وهو الصفر المذاب أصبُبْ عليه . قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة { قَالَ ائتونى } بجزم الألف والباقون بالمد { فَمَا اسطاعوا } ، أي فما قدروا { أَن يَظْهَرُوهُ } ، يعني : أن يعلوا فوق السد . { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا } ، أي ما قدروا على نقب السد . ويقال : { مَا * استطاعوا لَهُ نَقْبًا } أي ما تحت السد في الأرض ، لأنه بناه في الأرض إلى السماء .
قال الفقيه رضي الله عنه : حدّثنا عمرو بن حمد قال : حدّثنا أبو بكر الواسطي قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدّثنا أبو حفص ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال :
« إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَ الرَّدْمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، حَتَّى إذا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْس ، قَالَ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَنَحْفِرُهُ غَداً ، فَيُعِيدُهُ الله كَمَا كَانَ . حَتَّى إذا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ ، قَالَ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَنَحْفِرُه غَداً إنْ شَاءَ الله تَعَالَى . فَيَعُودُونَ إلَيْهِ ، فَإذا هُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَسْتَقُونَ المِيَاهَ وَتُحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ ، فَيَبْعَثُ الله عَلَيْهِمْ نغفاً فِي أَقْفِيَتِهِمْ فَيُهْلِكُهُمُ الله بِهَا » . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس أن يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل منهم حتى يلد لصلبه ألف ابن ، وذكر أن يأجوج ومأجوج ، كما ذكرنا ، وهما ابنا يافث بن نوح ، فإذا انكسر السد ، وذلك عند اقتراب الساعة ، يخرجون فيمرون ببحيرة طبرية بأرض الشام وهي مملوءة ماء فيشربها أولهم ، ثم يمر آخرهم فيقولون لقد كان هاهنا مرة ماء . قال : والسد نحو بنات نعش ، ثم يمرون بالبحر فيأكلون ما في جوفه من سمك وسرطان وسلحفاة ودابة ، ثم يأكلون ورق الشجر ، ويأكلون ما في الأرض من شيء ، ويهرب الناس منهم فيقتلون من قدروا عليه ، ولا يستطيعون أن يأتوا أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، ومسجد طور سيناء . ثم لا يرون على الأرض غيرهم ، ثم يقولون : لقد قتلنا أهل الأرض وبقي أهل السماء ، فيرمون سهامهم نحو السماء فتصيب الطير في جو السماء ، فترجع سهامهم مختضبة بالدماء فيقولون : لقد قتلنا أهل السماء وأهل الأرض ولم يبقَ غيرنا . فيبعث الله تعالى عليهم دوداً يُسمَّى النغف ، فيدخل في آذانهم فيقتلهم ، فتنتن الأرض من جيفهم ، ثم يرسل الله تعالى أربعين يوماً حتى يحمل السيل جيفهم فيرميها إلى البحر ، ويعود البحر كما كان . قرأ حمزة { فَمَا اسطاعوا } بتشديد الطاء والباقون بالتخفيف . فلما فرغ ذو القرنين من بناء السد .
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } ، أي هذا السد رحمة من ربي عليكم . { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } ؛ يقول : إذا جاء أجل ربي ، { جَعَلَهُ دَكَّاء } يعني كسراً . قرأ أهل الكوفة { دَكَّاء } بالمد ، وقرأ الباقون بالتنوين { دَكّاً } إذا لم يكن لها سنام . { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } ، أي صدقاً وكائناً بخروجهم . { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } ، أي يحرك في بعض وراء السد ، { وَنُفِخَ فِى الصور } ؛ قال أبو عبيدة : تنفخ الأرواح في الصور ، وقال عامة المفسرين : يعني : ينفخ إسرافيل في الصور . وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَهُ وَحَنَى جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ وَيَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ » { فجمعناهم جَمْعاً } ، أي يوم القيامة نجمع يأجوج ومأجوج وجميع الخلق .
{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ } ، أي كشفنا الغطاء عنها قبل دخولهم جهنم . { للكافرين عَرْضاً } ، أي كشفاً ويكون المصدر لتأكيد الكلام . ثم نعت الكافرين فقال : { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ } ، أي أعين الكافرين { فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى } ، أي في عمى عن التوحيد والقرآن فلم يؤمنوا . { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } ، أي استماعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بغضه وعداوته .
{ أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء } ، يعني : أن يعبدوا غيري؛ ومعناه لا يحسبن الكافرون بأن يتخذوا أولياء يعبدون معي شيئاً ، لأن المشركين كانوا يدعون بعض المؤمنين إلى الشرك وهذا كقوله : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، ويقال : ومعناه أفيظن الذين كفروا أن يعبدوا عبادي ، يعني : الملائكة وعزيراً والمسيح ، من دوني أولياء ، يعني : أرباباً ، ومعناه يظنون أنهم لو اتخذوهم أرباباً تنفعهم عبادتهم ويفوتون من عذابي . ثم بيّن عذابهم فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً } ، أي منزلاً . روي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ { أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ } بجزم السين وضم الباء ، معناه أيكفيهم مني ومن طاعتي أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء فحسبهم جهنم { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً } أي منزلاً .
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{ قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالاخسرين أعمالا } يعني : الخاسرين أعمالهم ، { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } ؛ أي بطلت أعمالهم { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ } ، أي يظنون أنهم يفعلون فعلاً حسناً . قال علي بن أبي طالب : هم الخوارج؛ وهكذا روي عن أبي أمامة الباهلي؛ وروي عن سلمان الفارسي أنه قال : هم رهبان النصارى أهل الصوامع ، وهكذا قال مقاتل . { أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ } ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَلِقَائِهِ } ، أي البعث بعد الموت . { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ، أي بطلت حسناتهم ، { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } ؛ أي لا توزن أعمالهم مثقال ذرة ، ويقال : لا نقيم لأعمالهم ميزاناً . { ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } ، أي هكذا عقوبتهم . { جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى } ، أي القرآن ومحمداً صلى الله عليه وسلم { هُزُواً } ، أي استهزاء .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً } ، أي منزلاً . وقال مقاتل : الفردوس بلغة الروم البساتين عليها الحيطان ، وقال السدي : الأعناب بالنبطية؛ وروى الحسن ، عن سمرة بن جندب قال : الفردوس ربوة خضراء من الجنة هي أعلاها وأحسنها؛ وقال الكلبي : جنات الفردوس من أدنى الجنان منزلاً؛ وروى أبو أمامة الباهلي قال : الفردوس سرة الجنة أي أوسطها . { خالدين فِيهَا } ، أي دائمين فيها . { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } ، أي تحولاً رضوا بها وبثوابها . وقال بعض المفسرين تمام النعمة أنهم لا يتمنون التحول لأنهم لو تمنوا التحول عنها لتنقص النعم عليهم .
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى } ؛ وذلك أن اليهود قالوا : يزعم محمد أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، ثم يزعم ويقول : { وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] فكيف نوافق الخير الكثير مع العلم القليل؟ فنزل : قل يا محمد : { لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى } يكتب به ، { لَنَفِدَ البحر } وتكسرت الأقلام ، { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } ؛ أي لا تنفد كلمات ربي . كما قال في آية أخرى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] . { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } ، أي بمثل البحر ، وقرأ بعضهم { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَاداً } . وقراءة العامة { مَدَداً } ومعناهما واحد { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } [ البقرة : 269 ] وهو قليل عند علم الله تعالى .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } ، أي من يخاف البعث بعد الموت . { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } ، أي خالصاً فيما بينه وبين الله تعالى ، { وَلاَ يُشْرِكْ } ؛ أي لا يخلط ولا يرائي { بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } . وقال سعيد بن جبير { فَمَن كَانَ يَرْجُو } ، أي من كان يوجو ثواب ربه؛ وروي عن مجاهد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إني أتصدق بالصدقة وألتمس بها وجه الله ، وأحب أن يقال لي خيراً . فنزل : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } . قرأ حمزة والكسائي وابن عامر في إحدى الروايتين { ءانٍ * يَنفَدُ } بالياء بلفظ التذكير ، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث؛ لأن الفعل إذا كان مقدماً على الاسم يجوز التأنيث والتذكير .
قال الفقيه : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن عمران قال : حدّثنا أبو عبد الله المديني ، عن مخلد بن عبد الواحد ، عن الخليل ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن زر بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فَهُوَ مَعْصُومٌ ثَمَانِيَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ ، فَإنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ فِي تِلْكَ الثَّمَانِيَةِ أيَّامٍ ، عَصَمَهُ الله مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، وَمَنْ قَرَأ الآيةَ الَّتِي فِي آخِرِهَا { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } إلى الخاتِمَةِ حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ ، كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلألأ فِي مَضْجعِهِ إلى مَكَّةَ ، حَشْوُ ذلك النُّورِ مَلائِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَضْجَعِهِ . وَإنْ كَانَ مَضْجعُهُ بِمَكَّةَ فَتَلاَهَا ، كَانَ نُورٌ يَتلأْلأ مِنْ مَضْجَعِهِ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ ، حَشْوُ ذلكَ النُّورِ مَلائِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ مِنْ نَوْمِهِ » . إلى غير ذلك مما ورد في فضلها من الأخبار والآثار؛ وصلى الله على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحابته الأطهار ، صلاة وسلاماً دائمين ما تعاقب الليل والنهار ، آمين آمين آمين؛ والحمد لله رب العالمين
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قوله عز وجل : { كهيعص } ؛ قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص بنصب الهاء والياء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكسر الهاء والياء ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء ونصب الياء ، وقرأ حمزة وابن عامر بنصب الهاء وكسر الياء ، وقرأ نافع بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيدة؛ ومعنى هذا كله واحد . قال ابن عباس في تفسير قوله : { كهيعص } ، قال : كاف فالله كاف لخلقه بالرزق والعطف عليهم ، والهاء فالله الهادي للخلق ، وأما الياء فيد الله مبسوطة على خلقه بالرزق لهم والعطف عليهم ، وأما العين فالله تعالى عالم بخلقه وأمورهم ، وأما الصاد فالله تعالى صادق بوعده . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو اسم الله الأعظم ، وروي عنه أنه قال : هو قسم أقسم الله بكهيعص ، ويقال : هي حروف تدل على ابتداء السور نحو { الر } و { المر } وغيرهما .
ثم قال : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } ، معناه على طريق ابن عباس باسم الله الكافي الهادي العالم الصادق ذكر رحمة ربك عبده زكريا بالرحمة . ومن قال : هو ابتداء السورة ، فمعناه اقرأ { كهيعص } من قال إنه قسم ، فمعناه ورب كهيعص إنه ذكر عبده زكريا بالرحمة . ثم قال : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } ، يعني : في هذه السورة ، ومعناه : ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة ، ذكره بالرحمة لا يكون إلا بالله تعالى ففي الآية تقديم وتأخير يقول : ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة ، وهو زكريا بن ماثان { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } ، يقول : دعا ربه نداءً خفياً ، يقول : أخفاه وأسره من قومه ، ويقال : دعا ربه دعاء سراً ، لأنه علم أن دعاء السر أنفع وأسرع إجابة ، ويقال : دعا ربه نداءً خفياً يعني : خالصاً . { قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } ، أي ضعف عظمي ، { واشتعل الرأس شَيْباً } ؛ يعني : أخذ في الرأس شيباً وبياضاً . { شِيباً } صار نصباً بالتمييز ، والمعنى : اشتعل الرأس من الشيب ، يقال للشيب إذا كثر جداً قد اشتعل رأس فلان بالشيب . ثم قال : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } ، يعني : لم تكن تخيب دعائي عندك إذا دعوتك .
{ وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى } ، يعني : خشيت ، ويقال : أعلم الموالي يعني : الورثة ، ويقال : بنو العم ، ويقال : العصبة من ورائي ، يعني : من بعد موتي . خاف أن يَرِثَهُ غير الولد . وروي عن قتادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يَرْحَمُ الله تَعَالَى زَكَرِيَّا وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةٍ » . وروي عن سعيد بن العاص أنه قال : أملى علي عثمان { وَإِنّي خِفْتُ الموالى } بنصب الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء ، ويقال : يعني : ذهبت الموالي .
وقال أبو عبيدة : لولا خلاف الناس لاتبعنا عثمان فيها . ثم قال : { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } ، يعني : عقيماً لم تلد؛ { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } ، يعني : ولداً .
{ يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } . وقال عكرمة : يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، وهكذا قال الضحاك؛ وقال بعضهم : يرثني يعني : علمي وسنتي ، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالاً . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ » . وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دَرَاهِمَ وَلا دَنَانِيرَ ، وَإنَّمَا وَرَّثُوا هذا العِلْمَ » ويقال : لأنه رأى من الفتن وغلبة أهل الكفر ، فيخاف على إفساد مواليه إن لم يكن أحد يقوم مقامه ويخولهم بالموعظة . قرأ أبو عمرو والكسائي : { يَرِثُنِى وَيَرِثُ } بجزم كلا الثاءين على معنى جواب الأمر والشرط ، أي أنك إذا وهبت لي ولياً يرثني؛ وقرأ الباقون : { يَرِثُنِى وَيَرِثُ } بالضم؛ وقال أبو عبيدة : وهذا أحب إلي . قال معناه هب لي الذي هذه حاله وصفته ، لأن الأولياء قد يكون منهم الوراثة وغيره ، فيقول : هب لي الذي يكون ورائي وارث النبوة . ثم قال : { واجعله رَبّ رَضِيّاً } ، يعني : صالحاً زكياً .
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{ رَضِيّاً يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } ، يعني : أوحى الله تعالى وأرسل إليه جبريل وأن جبريل عليه السلام أدى إليه الرسالة من الله عز وجل . قال الله تعالى : { إِنَّا نُبَشّرُكَ } وقد بيّن ذلك في سورة آل عمران { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى المحراب أَنَّ الله يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصالحين } [ آل عمران : 39 ] . ثم قال هنا : { بغلام اسمه يحيى } { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } ، يعني : لم نجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً يسمى يحيى ، ويقال : لم يكن قبله أحد يسمى بذلك الاسم ، ويقال : لم يكن بذلك الاسم في زمانه أحد وإنما سمي يحيى ، لأنه حي بالعلم والحكمة التي أوتيها؛ ويقال : لأنه حي به المجالس ، ويقال : لأنه حيي به عقر أمه ، ويقال { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } أي نظيراً ومثالاً . قرأ حمزة { نُبَشّرُكَ } وقرأ الباقون بالتشديد وضم النون ونصب الباء وكسر الشين { نُبَشّرُكَ } .
فقال زكريا عند ذلك : { قَالَ رَبّ } ، يقول : يا سيدي { أنى يَكُونُ لِي غلام } ، يعني : من أين يكون لي ولد؟ ويقال : إنما قال ذلك على وجه الدعاء لله تعالى ، فقال : يا رب من أين يكون لي ولد؟ { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } من الولد ، { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } ، يقول : تحول العظم مني يابساً ، ومنه يقال : قلب عات إذا كان قاسي القلب غير لين ، ويقال لكل شيء انتهى فقد عتى . ولم يكن زكريا شاكّاً في بشارة الله عز وجل ، ولكن أحب أن يعلم من أي وجه يكون . قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص والكسائي { عِتِيّاً } بكسر العين وكذلك { صِلِيّاً } وَ { جِثِيّاً } { وَبُكِيّاً } إلا أن عاصماً خالفهما في { ***بُكِيّاً } ، والباقون كلها بالضم ، وكأن أبا عبيدة اختار الضم ، لأنه أفصح اللغتين وهي قراءة أبي .
{ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ } له جبريل عليه السلام { كذلك } ، يعني : هكذا كما قلت إنك { قَدْ بَلَغْتَ مِن *** الكبر عِتِيّاً *** قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } ولكن الله عز وجل { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } ، يعني : خلقه عليَّ يسير { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } يحيى { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } قرأ حمزة والكسائي { وَقَدْ } بالألف مؤخرة والنون مقدمة والباقون { وَقَدْ خَلَقْتُكَ } وهو اختيار أبي عبيدة قال زكريا عليه السلام { رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } في الولد . روى أسباط ، عن السدي قال : لما بشر زكريا عليه السلام جاءه الشيطان فقال : إن هذا النداء الذي نوديته ليس من الله ، وإنما هو من الشيطان ليسخر بك . ولو كان من الله عز وجل ، لأوحاه إليك كما كان يوحي إليك ، ف { قَالَ } عند ذلك : { رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أعلم بها أن هذا النداء منك . { قَالَ } الله تعالى له : { أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ } ، يعني : علامتك أن لا تستطيع أن تكلم الناس ثلاث ليال وأنت صحيح سليم من غير خرس ولا مرض . ورجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها ، ووضع الولد في رحمها؛ فلما أصبح اعتقل لسانه عن كلام الناس .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } ، أي من المسجد . { فأوحى إِلَيْهِمْ } ، يعني : أشار إليهم وأومأ إليهم ، ويقال : كتب كتاباً وألقاه على الأرض ولم يقدر أن يتكلم به . { أَن سَبّحُواْ } ، يعني : صلوا لله تعالى { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ، يعني : غدوة وعشياً . فعرف عند ذلك أنه آية الولد .
قوله عز وجل : { وَعَشِيّاً يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } ، يعني : أوحى الله تعالى إليه أن : { وَعَشِيّاً يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } ، يعني : بجد ومواظبة { وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } ، يعني : أجرينا الحكمة على لسانه في حال صغره ، وذلك أنه مرّ بصبيان يلعبون ، فقالوا له : تعال حتى نلعب . فقال لهم : ما للعب خلقنا . ويقال : { خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } ، أي بعد عون من الله تعالى ، ويقال بكثرة الدرس . { ءاتيناه *** الحكم صَبِيّاً } ، يعني : النبوة والفقه والخير كله { وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا } ، يعني : آتيناه رحمة من عندنا؛ وأصله من حنين الناقة على ولدها { وزكواة } ، يعني : وصدقة منا ، ويقال : التطهير ، ويقال : صلاحاً في دينه . وقال سعيد بن جبير الزكاة : التزكية . { وَكَانَ تَقِيّا } ، يعني : مطيعاً لربه ، { وَبَرّا بوالديه } ، يعني : مطيعاً لهما ولا يعصيهما . { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً } ، يعني : لم يكن قتّالاً ، والجبار الذي يقتل على الغضب ويضرب على الغضب { عَصِيّاً } ، يعني : لم يكن عصياً لربه؛ والعصيّ والعاصي واحد .
قوله عز وجل : { وسلام عَلَيْهِ } ، أي السلام من الله عز وجل والسعادة تناله { يَوْمَ وُلِدَ } ، أي حين ولد { وَيَوْمَ يَمُوتُ } ، يعني : حين يموت { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } ، أي حين يبعث حياً . وروى قتادة عن الحسن أن يحيى عليه السلام قال لعيسى عليه السلام حين التقيا : أنت خير مني . فقال عيسى صلوات الله عليه : بل أنت خير مني ، سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي . وروي عن بعض الصحابة أنه قال : ما من الناس أحد إلا وهو يلقى الله عز وجل يوم القيامة ذو ذنب إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام وروي عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أَذْنَبَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَلا هَمّ بِامْرَأةٍ » .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
قوله : { واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت } ، يعني : اذكر في القرآن خبر مريم ، ومعناه : اقرأ عليهم ما أنزل عليك في القرآن من خبر مريم { إِذِ انتبذت } يعني : اعتزلت وتنحت { مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } ، يعني : مشرقة الشمس في دار أهلها . { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } ، يعني : ضربت وأرخت من دونهم ستراً . { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } ، يعني : بعثنا إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } ، يعني : تشبه لها في صورة شاب تامّ الخلق فدنا منها ، فأنكرت مريم مكان الرجل . { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } ، يعني : إن كنت مطيعاً لله . وإنما قالت ذلك ، لأن التقي إذا وعظ بالله عز وجل اتعظ وخاف ، والفاسق يخوف بالسلطان ، والمنافق يخوف بالناس؛ فالتقيّ يخوف بالله . ويقال : في الآية مضمر ومعناه احذر إن كنت تقياً . { قَالَ } لها جبريل : { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } ، يعني : ولداً صالحاً . قرأ أبو عمرو ونافع في إحدى الروايتين { أَحْلَلْنَا لَكَ } بالياء ، وقرأ الباقون { لاِهَبَ } . فمن قرأ { ***لِيَهَبَ } ، فمعناه ليهب الله لك ومن قرأ { رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ } يكون فيه مضمر . ومعناه : إنما أنا رسول ربك قال : { لاِهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } يعني : قال ربك وهذا اختيار أبي عبيدة ، وهو موافق لخط المصاحف .
{ قَالَتْ } مريم لجبريل عليه السلام : { أنى يَكُونُ لِي غلام } ، يعني : من أين يكون لي ولد؟ { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } ، يعني : لم يقربني زوج ، { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } ؛ يعني : لم أك فاجرة . { قَالَ } لها جبريل : { كذلك } ، يعني : هكذا كما قلت . { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } ، يعني : خلقه عليّ يسير ، { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } ؛ يعني : عبرة لبني إسرائيل ، { وَرَحْمَةً مّنَّا } ؛ أي ونعمة منا . { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } ، يعني : قضاء كائناً .
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ فَحَمَلَتْهُ } يعني : حملت مريم بعيسى عليه السلام وقال وهب بن منبه : إن مريم حملت بعيسى عليه السلام تسعة أشهر ، وقال بعضهم : ثمانية أشهر؛ فتلك آية ، لأنه لا يعيش مولود في ثمانية أشهر . وروي في بعض الروايات ، عن ابن عباس أنه قال : ما هي إلا أن حملت ثم وضعت ، وقال مقاتل : حملت في ساعة ووضعت في ساعة . { فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } ، يعني : انفردت بولادتها مكاناً بعيداً . قال القتبي : القصيُّ أشد بعداً من القاصي .
ثم قال : { فَأَجَاءهَا المخاض } ، يعني : جاء بها وألجأها المخاض ، يعني : الطلق بولادة عيسى عليه السلام { إلى جِذْعِ النخلة } ، أي أصل النخلة . قال ابن عباس : النخلة اليابسة في شدة الشتاء ، يعني : الطلق . { قَالَتْ ياأيها *** لَيْتَنِى ***** مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } ، يعني : شيئاً متروكاً لم أذكر ، ويقال للشيء الحقير الذي إذا ألقي ينسى نسيٌ؛ وقال قتادة : يعني : لا أعرف ولا أدري من أنا؛ وقال عكرمة : يعني : جيفة ملقاة ، وهكذا قال الضحاك؛ وقال ربيعة بن أنس؛ يعني : سقطاً . قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } بنصب النون والباقون { نَسِيّاً } بكسر النون ، قال أبو عبيد : وبالكسر نقرؤها ، لأنها كانت أكثر في لغة العرب وأفشاها عليها أهل الحرمين والبصرة .
{ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } ؛ قرأ حمزة والكسائي ونافع وعاصم في رواية حفص { مِنْ } بالكسر ، يعني : الملك ، وهكذا قرأ مجاهد والحسن ، والباقون { مِنْ } بالنصب يعني به عيسى عليه السلام وقال أبو عبيد : بالأولى نقرأ يعني : بالكسر ، لأن قراءتها أكثر والمعنى فيها أعمّ ، لأنه إذا قال : { مِن تَحْتِهَا } فإنما هو عيسى خاصة . { أَلاَّ تَحْزَنِى } بولادة عيسى وبمكان الجدب ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } ؛ أي نهراً صغيراً بحبال؛ ويقال : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } ، أي بيتاً ، فذكر هذا القول عند ابن حميد فأنكره وقال : هو الجدول . ألا ترى أنه قال : { فَكُلِى واشربى } . قال مجاهد : السريّ بالسريانية ، وقال سعيد بن جبير : بالنبطية .
{ وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } ؛ يقول : حركي أصل النخلة { تساقط عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } ، أي غضاً طرياً . قرأ حمزة { تساقط } بنصب التاء وتخفيف السين ، وأصله تتساقط إلا أنه حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف وهذا كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وأصله تتسوى ، وكقوله { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن ديارهم تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[ البقرة : 85 ] ، وكقوله { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } [ مريم : 90 ] وقرأ عاصم في رواية حفص { تساقط } بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف يعني : أن النخلة تساقط عليك ، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد السين ونصب القاف ، لأن التشديد أقيم مقام التاء التي حذفت . وروي عن البراء بن عازب أنه كان يقرأ { ***يُسَاقِط } بالياء يعني : أن الجذع يساقط عليك ، وقرأ بعضهم : { ***نُسَاقِطُ } بالنون ومعناه ونحن نساقط عليك ، وروي أنها كانت نخلة بلا رأس وكان ذلك في الشتاء ، فجعل الله تعالى لها رأساً وأنبت فيها رطباً ، فذلك قوله : { النخلة تساقط عَلَيْكِ رُطَباً } أي غضاً طرياً .
قيل لها : { فَكُلِى } من الرطب ، { واشربى } من النهر ، { وَقَرّى عَيْناً } ؛ أي طيبي نفساً بولادة عيسى . وقال الربيع بن خيثم ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب ولا للمريض إلا العسل . ثم قال تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } ، يعني : إن رأيت أحداً من الناس ، { فَقُولِى } إن سألك أحد شيئاً فقولي : { إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } ، يعني : صمتاً . وروي عن ابن عباس في بعض الروايات أنه كان يقرأ { إِنّى نَذَرْتُ للرحمن } . { صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } ؛ يعني : قولي ذلك بالإشارة لا بالقول ، وكان المتقدمون يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام .
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا } ؛ وذلك أن مريم حملت عيسى عليه السلام ودخلت على أهلها ، وكان أهلها أهل بيت صالحين . { قَالُواْ } لها أي قومها : { قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } ، يعني : أتيت وفعلت أمراً عظيماً منكراً ، لا يعرف منك ولا من أهل بيتك { فَأَرْسِلْ إلى هارون } ، يعني : هارون بن ماثان ، وكان من أمثل بني إسرائيل { فَأَرْسِلْ إلى هارون } ، يعني : يا شبه هارون في الصلاة والصلاح ، ويقال : كان رجل سوء يسمى هارون فعيّروها به وشبهوها بهارون ، ويقال : كان لها أخ يقال له هارون من أبيها ولم يكن من أمها ، وذكر أن أهل الكتاب قالوا : كيف تقولون إن مريم أخت هارون وكان بينهما ستمائة سنة؟ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ » يعني : أن أخا مريم سُمِّي باسم هارون النبي عليه السلام .
ثم قال : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء } ، يعني : زانياً { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } ، يعني : فاجرة .
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } ، يعني : أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه ، يعني : كلموا عيسى . { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً } ؟ يعني : من هو في الحجر وهو رضيع . ويقال : معناه كيف نكلم من هو يكون في المهد؟ ويقال : معناه كيف نكلم من يكون في المهد صبياً؟ فأنطق الله تعالى عيسى ، فتكلم و { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله } ، فأول الكلام الذي تكلم به ردّ على النصارى ، لأنه أقر بأنه عبد الله ورسوله . ثم قال : { الكتاب وَجَعَلَنِى } ؛ روي عن ابن عباس أنه قال : معناه علمني الكتاب في بطن أمي ، ويقال : معناه يؤتيني الكتاب وهو الإنجيل ، { وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } ؛ أي أكرمني الله تعالى بأن جعلني نبياً ، { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً } ؛ يعني : جعلني معلماً للخلق { أَيْنَمَا * كُنتُ } ، يعني : حيث ما كنت ، { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ } ؛ يعني : أوصاني وأمرني بإتمام الصلاة وإعطاء الزكاة { مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِى } ، يعني : جعلني رحيماً بوالدتي ، { وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً } ؛ يعني : لم يخذلني حتى صرت به جباراً عصياً . { والسلام عَلَىَّ } ؛ يعني : السلام عليَّ من الله تعالى { يَوْمَ وُلِدْتُّ } يعني : حين ولدت ، { وَيَوْمَ أَمُوتُ } ؛ يعني : حين أموت ، { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } ؛ يعني : أبعث يوم القيامة . فكلمهم بهذا ثمّ سكت ، فلم يتكلم حتى كان قدر ما يتكلم الغلمان .
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
ثم قال عز وجل : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ، أي ذلك الذي قال إني عبد الله ، عيسى ابن مريم ، لا ما يقول النصارى إنه إله . { قَوْلَ الحق } ، يعني : خبر الصدق . قرأ عاصم وابن عامر { قَوْلَ } بنصب اللام ، والباقون بالضم؛ فمن قرأ بالنصب فمعناه أقول الحق ، ومن قرأ بالضم معناه وهو قول الحق . { الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ } ، يعني : يشكون في عيسى عليه السّلام ويختلفون فيما بينهم .
ثم كذبهم في قولهم فقال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } ، يعني : عيسى . ثم نزّه عن الولد فقال : { سبحانه إِذَا قضى أَمْراً } ، يعني : إذا أراد أن يخلق خلقاً مثل عيسى ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، قرأ ابن عامر { فَيَكُونُ } بالنصب ، وقرأ الباقون بالضم ، وقرأ بعضهم : { تَمْتَرُونَ } بالتاء على وجه المخاطبة ، وقراءة العامة بالياء لأنها ليست فيها مخاطبة . { وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } ؛ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { رَبُّكُمْ } بالنصب على معنى البناء ، والباقون { وَأَنَّ الله } بالكسر على معنى الابتداء وهي قراءة أبي عبيدة؛ وفي قراءة أبيّ { إِنَّ الله } بغير واو فتكون قراءته شاهدة على الكسر . ثم قال : { فاعبدوه } ، يعني : وحدوه وأطيعوه . { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } ، يعني : هذا الإسلام طريق مستقيم .
{ فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ } ، يعني : الكفار من أهل النصارى من بينهم ، يعني : بينهم في عيسى وتفرقوا ثلاثة فرق : قالت النسطورية : عيسى ابن الله ، واليعقوبية قالوا : إن الله هو المسيح ، والملكانية قالوا : إن الله ثالث ثلاثة . { فَوَيْلٌ } ، يعني : الشدة من العذاب { لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، يعني : من عذاب يوم القيامة ، بأن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه ، ويقال : ويل صخرة في جهنم .
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون } ، أي المشركون . { اليوم } ، يعني : في الدنيا { فِى ضلال مُّبِينٍ } ، أي في خطأ بيّن لا يسمعون الهدى ولا يبصرون ولا يرغبون فيه . { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } ، يقول : وأنذرهم يا محمد أي خوفهم بهول يوم القيامة ، { إِذْ قُضِىَ الامر } ؛ يعني : فرغ من الأمر إذا دخل أهل الجنة الجنة ، ودخل أهل النار النار ، وهو يوم القيامة . { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } ، يعني : هم في الدنيا في غفلة من تلك الندامة والحسرة . { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، يعني : لا يصدقون بالبعث .
قال : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي مسلمة ، عن الزهري ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَؤْتَى بِالمَوْتِ فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ ، فَيُقَالُ : يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ، فَيطلعُونَ . وَيُقَالُ : يا أهْلَ النَّارِ ، فيطلعونَ . فيقالُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فَيَقُولُونَ : نَعَم يَا رَبَّنَا ، هَذا المَوْتُ . قال : فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ على الصَّرَاطِ ، ثم يقالُ : للفريقينِ . خُلُودٌ لا مَوْتَ فِيهَا أبداً » . وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، فذلك قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِىَ الامر } الآية .
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
نَحْنُ نَرِثُ الارض وَمَنْ عَلَيْهَا } ، يعني : نميت أهل الأرض كلهم ومن عليها ، { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } في الآخرة . { واذكر فِى الكتاب إبراهيم } ، يعني : خبر إبراهيم . { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } ، يعني : صادقاً . وقال الزجاج : الصديق اسم للمبالغة في الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد الله عز وجل وأنبيائه عليهم السلام وفرائضه وعمل بما صدق فيه فهو صديق ، ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق . { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ } ، وهو آزر بن تارخ بن تاخور وكان يعبد الأصنام : { لاِبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ } دعاءك { وَلاَ يَبْصِرُ } عبادتك { وَلاَ يُغْنِى عَنكَ } من عذاب الله عز وجل { شَيْئاً } ؛ قرأ ابن عامر : { ***يَا أَبَتَ } بالنصب ، والباقون بالكسر ، وكذلك ما بعده . والعرب تقول في النداء : يا أبت ولا تقول يا أبتي .
ثم قال : { شَيْئاً ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم } من الله تعالى من البيان ، { مَا لَمْ يَأْتِكَ } أنه من عند غير الله ، عذبه الله في الآخرة بالنار . { فاتبعنى } ، يعني : أطعني فيما أدعوك ، ويقال : اتبع دين الله؛ { أَهْدِكَ } ، يعني : أرشدك { صِرَاطاً سَوِيّاً } ، يعني : طريقاً عدلاً قائماً ترضاه . { سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } ، يعني : لا تطع الشيطان ، فمن أطاع شيئاً فقد عبده . { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } ، يعني : عاصياً .
ثم قال : { عَصِيّاً ياأبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ } ، يعني : أعلم أن يمسك { عَذَابِ } ، إن أقمت على كفرك يصيبك عذاب . { مّنَ الرحمن } ، { فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } ؛ يعني : قريناً في النار . { قَالَ } له أبوه : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى } ، يعني : أتارك أنت عبادة آلهتي؟ { الِهَتِى ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ } ، يقول : إن لم تنته عن مقالتك ولم ترجع عنها ، لأسبنك وأشتمنك . وكل شيء في القرآن من الرجم فهو القتل غير ها هنا ، فإن هاهنا المراد به السبُّ والشتم . { واهجرنى مَلِيّاً } ، يعني : تباعد عني حيناً طويلاً ولا تكلمني؛ وقال السدي : { مَلِيّاً } تعني أبداً ، وقال قتادة : { واهجرنى مَلِيّاً } يعني : تباعد عني سالماً؛ ويقال : لا تُكلِّمني دهراً طويلاً .
{ قَالَ } إبراهيم : { سلام عَلَيْكَ } ، يعني : أكرمك الله بالهدى؛ { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } ، يعني : سأدعو لك ربي . { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } ، يعني : باراً عوّدني الإجابة إذا دعوته ، ويقال : تحفَّيتُ بالرجل إذا بالغتُ في إكرامه ، وهذا قول القتبي ، ويقال : { حَفِيّاً } يعني : عالماً يستجيب لي إذا دعوته ، وكان يستغفر له ما دام أبوه حياً؛ فلما مات كافراً ، ترك الاستغفار له وكان يرجو أن يهديه الله عز وجل . قوله عز وجل :
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } يعني : وأترككم { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } ، يعني : أترك عبادة ما تعبدون من دون الله عز وجل ، { وَأَدْعُو رَبّى عَسَى * أَن لا ****أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } ؛ يعني : لا يخيبني إذا دعوته ، فهاجر إلى بيت المقدس . { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } ، يعني : أكرمناه بالولد وهو إسحاق وولد الولد وهو يعقوب . وقال بعض الحكماء : من هاجر في طلب رضاء الله عز وجل ، أكرمه الله عز وجل في الدنيا والآخرة؛ كما أن إبراهيم هاجر من قومه في طلب رضى الله تعالى عنه ، فأكرمه الله تعالى بإسحاق ويعقوب عليهما السلام والثناء العمل الصالح .
ثم قال تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } ، يعني : إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أكرمناهم بالنبوة ، { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } ؛ يعني : من نعمتنا المال والولد في الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « نِعْمَ المالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِح » . { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } ، يعني : أكرمناهم بالثناء الحسن ، وكل أهل دين يقولون دين إبراهيم بزعمهم .
{ واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } ، يعني : أخلصه الله عز وجل ، ويقال : { مُخْلِصاً } يعني : جعله الله مختاراً خالصاً . قرأ حمزة والكسائي وعاصم بنصب اللام يعني : أخلصه الله عز وجل ويقال : مخلصاً من الكفر والمعاصي وقرأ الباقون { مُخْلِصاً } بالكسر يعني : مخلصاً في العمل . { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } إلى بني إسرائيل ، { وناديناه مِن جَانِبِ الطور الايمن } ، يعني : من يمين موسى ولم يكن للجبل يمين ولا شمال { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } ، أي كلمناه بلا وحي؛ وقال الكلبي : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } وقربناه حتى سمع صرير القلم في اللوح ، وقال السدي : أدخل في السماء الدنيا وكلم ، وقال الزجاج : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } مناجياً .
ثم قال عز وجل : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا } من نعمتنا { أَخَاهُ هارون نَبِيّاً } ، فكان معه وزيراً معيناً .
{ واذكر فِى الكتاب إسماعيل } ، يعني : اذكر في القرآن خبر إسماعيل . { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } ، إذا وعد أنجز . قال مقاتل : إن إسماعيل وعد رجلاً أنْ ينتظره ، فقام مكانه ثلاثة أيام للميعاد ، حتى رجع الرجل إليه؛ وقال في رواية الكلبي : كان ميعادُه الذي وعد فيه صاحبه انتظره حتى حال الحول ، وقال مجاهد : إنه كان صادق الوعد ، يعني : لم يعد شيئاً إلا وفى به . { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } ، يعني : كان رسولاً إلى قومه ، نبياً يُخبر عن الله عز وجل . { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } ، يعني : أهل دينه وقومه { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً } ، يعني : بإتمام الصلاة وإيتاء الزكاة . { وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً } ، يعني : صالحاً ذكياً .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ } ، يعني : خبر إدريس . { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } ، يعني : صادقاً يُخبر عن الله عز وجل ، وذكر عن وهب بن منبه أنه قال : إنما سمي إدريس لكثرة ما يدرس من كتاب الله عز وجل والسنن ، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وهو أول من لبس ثوب القطن؛ وكانوا من قبل ذلك يلبسون جلود الضأن ، واسمه أخنوخ ويقال إلياس . { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } ، يعني : الجنة؛ وقال مجاهد : يعني : في السماء الرابعة . قال : أخبرني الثقة بإسناده ، عن ابن عباس أنه سئل كعب الأحبار عن إدريس فقال كعب : إن إدريس كان رجلاً خياطاً ، وكان يقوم الليل ويصوم النهار ولا يفتر عن ذكر الله عز وجل ، وكان يكتسب فيتصدق بالثلثين . فأتاه ملك من الملائكة يقال له إسرافيل ، فبشره بالجنة وقال له : هل لك من حاجة؟ قال : وددت أني أعلم إلى متى أجلي فأزداد خيراً . فقال له : ما أعلمه ، ولكن إن شئت حملتك إلى السماء . قال : فحمله إلى السماء ، فلقي ملك الموت ، فسأله عن أجله ، ففتح كتاباً معه فقال : لم يبق من أجلك إلا ست ساعات أو سبع ساعات ، وقال : أُمرتُ أن أقبض نفسك هاهنا ، فقبض نفسه في السماء ، فذلك رفع مكانه .
وروى الكلبي ، عن زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن إدريس جد أبي نوح؛ وكان أهل الأرض يومئذ بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً ، فكان يصعد لإدريس من العمل ما كان يصعد لجميع بني آدم ، فأحبه ملك الموت ، فاستأذن الله تعالى في خلته ، قال : فأذن له . قال : فهبط إليه في صورة غير صورته ، على صورة آدمي لكيلا يعرفه فقال : يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك . فقال له إدريس : إنك لا تطيق ذلك . قال : أنا أرجو أن يقويني الله عز وجل على ذلك ، فكان معه يصحبه . وكان إدريس يسيح النهار كله صائماً؛ فإذا جنّه الليل أتاه رزقه حيث يمسي ، فيفطر عليه ثم يحيي الليل كله . فساحا النهار كله صائمين ، حتى إذا أمسيا أتى إدريس رزقه فأكله ودعا الآخر ، فقال : لا والذي جعلك بشراً ما أشتهيه ، فيطعم إدريس ثم يستقبلا الليل بالصلاة . فإدريس تناله السآمة والفترة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر ، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا صائمين فساحا ، حتى إذا جنهما الليل أتى إدريس رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال : لا والذي جعلك بشراً ما أشتهيه فيطعم .
ثم استقبلا الليل كله فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر ، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا اليوم الثالث صائمين ، فساحا فمرا على كرم قد أينع وطاب فقال : يا إدريس لو أنا أخذنا من هذا الكرم فأكلنا . فقال إدريس : ما أرى صاحبه فأشتريه منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن . قال : فمضيا حتى مرا على غنم فقال : يا إدريس لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها فقال له إدريس : إنك معي منذ ثلاثة أيام ، فلو كنت آدمياً لطعمت؛ وإني لأدعوك كل ليلة إلى الحلال فتأبى علي ، فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذه؟ فبصحبة ما بيني وبينك إلا ما أنبأتني من أنت . قال : إنك ستعلم . قال : أخبرني من أنت؟ قال : أنا ملك الموت . ففزع حين قال أنا ملك الموت .
قال : فإني أسألك حاجة . قال : ما هي قال : أن تذيقني الموت . قال : ما لي من ذلك شيء وليس لك بد من أن تذوقه . قال : فإنه قد بلغني عنه شدة؛ ولعلي أعلم ما شدته ، فأكون له أشد استعداداً . قال : فأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله . قال : فقبض نفسه ساعة ثم أرسله ، فقال : كيف رأيت؟ قال : لقد بلغني عنه شدة فلقد كان أشد مما بلغني عنه .
قال : فإني أسألك حاجة أُخرى . قال : ما هي؟ قال : أحب أن تُريني النار . قال : ما لي من ذلك شيء ، ولكن سأطلب لك ، فإن قدرت عليه فعلت . فسأل ربه ، فأمره فبسط جناحه فحمله عليه ، حتى صعد به إلى السماء فانتهى به إلى باب من أبواب النار فدقه فقيل : من هذا؟ فقال : ملك الموت . فقال : مرحباً بأمين الله عز وجل ، فهل أمرت فينا بشيء؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه النار ، فأحب أن تروها إياه . ففُتح منها بشيء ، فجاءت بأمر عظيم ، فخرّ إدريس مغشياً عليه؛ فحمله ملك الموت وحبسه في ناحية حتى أفاق فقال له ملك الموت؛ ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ، ولكن سألتني فأحببت أن أسعفك .
قال : فإني أسألك حاجة أخرى ، لا أسألك غيرها . قال : ما هي؟ قال : أحب أن تريني الجنة . قال : ما لي من ذلك شيء ، ولكن سأطلب لك فإن قدرت عليه فعلت . فانطلق به إلى خزنة الجنة ، فدق باباً من أبوابها فقيل : من هذا؟ فقال : أنا ملك الموت . فقالوا : مرحباً بأمين الله عز وجل ، هل أمرت فينا بشيء؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه . قال : ففتح له الباب فدخل فنظر إلى شيء لم ينظر مثله قط ، فطاف فيها ساعة ثم قال له ملك الموت : انطلق بنا فلنخرج . فانطلق إلى شجرة فتعلق بها ثم قال : والله لا أخرج ، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني . فقال ملك الموت : إنه ليس حينها ولا زمانها ، ولكن طلبت إليهم لترى ، فانطلق بنا . فأبى عليه فقبض الله ملكاً من الملائكة فقال له ملك الموت : اجعل هذا الملك حكماً بيني وبينك؟ قال : نعم . قال الملك : ما هو يا ملك الموت؟ فأخبره بالقصة ، ثم نظر الملك إلى إدريس قال : ما تقول يا إدريس؟ قال : أقول إن الله يقول : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } [ آل عمران : 185 ] ويقول : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] وقد وردتها وقال لأهل الجنة : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] . فوالله لا أخرج منها حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني . قال : فسمع هاتفاً يقول : بإذني دخل وبإذني فعل فخل سبيله ، فذلك قوله عز وجل : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } »
أي الجنة؛ ويقال : ورفعناه في القدر والمنزلة ، ويقال : ورفعناه في النبوة والعلم .
ثم قال عز وجل : { أولئك } ، يعني : إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وسائر الأنبياء { الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين مِن ذُرّيَّةِ *** ءادَمَ **وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } من سائر الأنبياء وهم ولد نوح إلا إدريس ، يعني : حملناهم على السفينة وهم في صلب نوح وأولاده ، { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم وإسراءيل } وهو يعقوب؛ { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا } يعني : أكرمنا بالنبوة ، ويقال : أكرمنا بالإسلام ، { واجتبينا } ؛ يعني : واصطفينا بعد هؤلاء . { أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } ، يعني : القرآن ، { خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } ؛ يعني : يسجدون ويبكون من خوف الله عز وجل . بكيّ : جمع باكي . وقوله : { سُجَّداً وَبُكِيّاً } منصوب على الحال ، وقال بعضهم : { ***بُكِياً } مصدر بكى يبكي بكياً ، وقال الزجاج : من قال مصدر فهو خطأ ، لأن { لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا } جمع ساجد { وَبُكِيّاً } عطف عليه فهو جمع باك .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } يعني : بقي بعد الأنبياء الذين ذكرناهم من أول السورة إلى هنا بقيات سوء ، وهم اليهود والنصارى . يقال : في الرداءة خَلْفٌ بإسكان اللام وفي الصلاح خَلَفَ بفتح اللام . ثم وصفهم فقال : { فَخَلَفَ مِن } ، يعني : عن وقتها ، ويقال : تركوها ، ويقال : تركوا الصلاة فلم يؤدُّوها وجحدوا بها فكفروا ، { واتبعوا الشهوات } ؛ يعني : وشربوا الخمر ، ويقال : استحلوا الزنى ، ويقال : استحلوا نكاح الأخت من الأب . { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } ، يعني : شراً ، ويقال : وادي في جهنم يسمى غَيّاً ، ويقال : مجازاة الغيّ كما قال الله عز وجل { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة الآثام .
ثم استثنى فقال تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ } ، يعني : رجع عن الكفر { وَامَنَ } ، يعني : صدق بتوحيد الله عز وجل ، { وَعَمِلَ صالحا } بعد التوبة . { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } ، يعني : لا ينقصون شيئاً من ثواب أعمالهم . ثم قال عز وجل : { جنات عَدْنٍ } صار خفضاً ، لأن معناه يدخلون في جنات عَدْنٍ . { التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب } ، يعني : ما غاب عن العباد والله عز وجل لا يغيب عنه شيء . { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } ، يعني : جائياً كائناً وقال القتبي : { مَأْتِيّاً } يعني : المفعول بمعنى الفاعل ، يعني : جائياً؛ وقال الزجاج : { مَأْتِيّاً } مفعول من الإتيان ، لأن كل من وصل إليك فقد وصلت إليه وكل من أتاك فقد أتيته .
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } ، يعني : في الجنة { لَغْواً } ، يعني : حَلفاً وباطلاً . { إِلاَّ سلاما } ، يعني : ويسمعون السلام يسلم بعضهم على بعض . وقال الزجاج : اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه ، والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن السلامة ، يعني : لا يسمعون إلا سلامهم . { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ، يعني : طعامهم على مقدار البكرة والعشي ، وليس هناك بُكرة ولا عشيّ . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك ، فأخبرهم الله تعالى أن لهم في الجنة هذه الحالة؛ وقال القتبي : الناس يختلفون في مطاعمهم ، فمنهم من يأكل وجبة أي مرة واحدة في كل يوم ، ومنهم من يأكل متى وجد بغير وقت ولا عداد ، ومنهم من يأكل الغداء والعشاء . فأعدل هذه الأحوال كلها وأنفعها الغداء والعشاء . والعرب تقول : عن ترك العشاء مهرمة ، ويذهب بلحم الكارة ، يعني : باطن الفخذ ، فجعل طعام أهل الجنة على قدر ذلك .
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
ثم قال عز وجل : { تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } يعني : مطيعاً لله عز وجل . { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } وذلك حين أبطأ عليه الوحي ، وعند سؤال أهل مكة عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وأمر الروح عاتب المصطفى جبريل ، فقال الله تعالى : قل يا جبريل لمحمد ومعناه : قل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } من أمر الآخرة { وَمَا خَلْفَنَا } من أمر الدنيا { وَمَا بَيْنَ ذلك } أي ما بين النفختين { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } يعني : لم يكن ينساك ربك حيث لم يوح إليك ، ويقال : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } من أمر الآخرة والثواب والعقاب { وَمَا خَلْفَنَا } جميع ما مضى من أمر الدنيا { وَمَا بَيْنَ ذلك } ما يكون في هذا الوقت منا . { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي قد علم الله عز وجل ما كان وما يكون وما هو كائن حافظ لذلك ، ويقال : ما نسيك ربك وإن تأخر عنك الوحي . وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : « مَا مَنَعَكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَر مِمّا تَزُورُنَا » فنزلت هذه الآية .
ثم قال { رَبّ * السموات والارض } أي : خالق السموات وخالق الأرض { وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق ، ويقال : { رَبّ * السموات والارض } أي مالكهما وعالم بهما وما فيهما . { فاعبده } أي : أطعه { واصطبر لِعِبَادَتِهِ } يعني : احبس نفسك على عبادته { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } يعني : هل تعلم أحداً يسمى الله سوى الله وهل تعلم أحداً يسمى الرحمن سواه ، ويقال هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون .
{ وَيَقُولُ الإنسان } يعني : أبي بن خلف { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } للبعث على معنى الاستفهام ، قال الله عز وجل : { أَوْ لاَ *** يَذْكُرُ إلإنسان } يعني أو لا يتعظ ويعتبر { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } قرأ : نافع وعاصم وابن عامر { أَوْ لاَ * يُذْكَرِ } بجزم الذال مع التخفيف يعني أو لا يعلم والباقون { أَوْ لاَ * يُذْكَرِ } ، بنصب الذال والتشديد ثم قال { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أقسم الرب بنفسه ليبعثنهم وليجمعنهم يعني الذين أنكروا البعث . { والشياطين } يعني الشياطين { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ } يعني : لنجمعنهم { حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } يعني : جميعاً . قال أهل اللغة : الجثيُّ جمع جَاثِي مثل بارِك وبرك وساجد وسجد وقاعد وقعد ، أي على ركبهم ، ولا يقدرون على القيام . قال الزجاج : الأصل في الجسم ، وجاز كسرها إتباعاً لكسر التاء وهو نصب على الحال { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ } يعني : لنخرجن من كل شيعة من أهل كل دين { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } يعني : جرأة على الله عز وجل ، وهم القادة في الكفر وساداتهم ، نبدأ بهم فنعذبهم في النار . وروي عن سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص في قوله { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } قال : يبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً .
قوله عز وجل : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } أي : أحق بالنار دخولاً .
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال بعضهم : أي داخلها ، المؤمن والكافر يدخلون على الصراط ، وهو ممدود على متن جهنم ، ويقال : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني الكفار الذين تقدم ذكرهم .
وروى سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أن نافع بن الأزرق خاصم ابن عباس وقال : لا يردها مؤمن ، فقال ابن عباس : أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر بماذا نخرج منها إن خرجنا .
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يرد الناس جميعاً الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يمرون على الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل ، حتى أن آخرهم مثل رجل نوره على إبهامي قدميه ، ثم يتكفأ به الصراط ، والصراط دحض مزلة كحدّ السيف عليه حسك كحسك العتاد ، وحافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس ، فبين مارٍ ناج ، وبين مخدوش مكدوش في النار ، والملائكة عليهم السلام يقولون : ربِّ سلِّم سلِّم .
وروى سفيان عن ثور بن خالد بن معدان قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : أَلَمْ يَعِدْنا رَبُّنَا أَنَّا نَرِدُ النَّارَ؟ قال : إنكم قد مررتم بها وهي خامدة ، فذلك قوله عز وجل { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني : الخلائق على الصرط ، والصراط في جهنم { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } يعني قضاء واجباً .
قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوست قال : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا عدي بن عاصم قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا جرير عن أبي السليل عن غنيم بن قيس عن أبي العوام قال : قال كعب : هل تدرون ما قوله { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ؟ قالوا : ما كنا نرى ورودها إلا دخولها . قال : لا ، ولكن ورودها أن يجاء بجهنم كأنها متن إهالة ، حتى إذا استوت عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم نادى مناد : خذي أصحابك وذري أصحابي ، فتخسف بكلّ ولي لها وهي أعلم بهم من الوالد لولده ، وينجو المؤمنون نديَّة ثيابهم .
قال : وحدثني الثقة بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية كبا لها الناس كبوةً شديدة ، وحزنوا حتى بلغ الحزن كل مبلغ ، وليس أحداً إلا وهو يدخلها فأنشؤوا يبكون .
قال : ونزل بابن مظعون ضيف فقال لامرأته : هيئي لنا طعاماً فاستوصي بضيفك خيراً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إليه وهم يبكون فقال : ما يُبْكِيكُمْ؟ قالوا : نزلت هذه الآية { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } يقول : كائناً لا يبقى أحد إلا دخلها ، فأنشأ عثمان بن مظعون يبكي ، ثم انصرف إلى منزله باكياً ، فلما أتى منزله سمعت امرأته بكاءه ، فأنشأت تبكي ، فلما سمع الضيف بكاءهما أنشأ يبكي ، فلما دخل عليهما عثمان قال لها : ما يبكيك؟ قالت : سمعت بكاءك فبكيت ، فقال للضيف : وأنت ما يبكيك؟ قال : عرفت أن الذي أبكاكما سيبكيني ، قال عثمان فابكوا وحق لكم أن تبكوا ، أنزل الله عز وجل اليوم على رسوله { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } فمكثوا بعد هذه الآية سنتين ، ثم قال عز وجل : { ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } وروي في بعض الأخبار أنه نزل بعد ثلاثة أيام { ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } الشرك والمعاصي { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } يعني : المشركين جميعاً فيها ، ففرح المسلمون بها قرأ الكسائي .
{ نُنَجّى } بالتخفيف والباقون بالنصب والتشديد ، أنجى ينجي وَنَجَّى ينجي بمعنى واحد .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } تعرض عليهم ، يعني واضحات قد بين فيها الحلال والحرام { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني أن النضر بن الحارث قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقال : أهل مكة قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } يعني أهل الدينين ، يعني : منزلاً ، قرأ ابن كثير { مَقَاماً } بضم الميم والباقون بالنصب ، فمن قرأ بالضم فهو الإقامة ، يقال : أقمت إقامة ومقاماً ، ومن قرأ بالنصب فهو المكان الذي يقام فيه { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } يعني : مجلساً ، وذلك أنهم لبسوا الثياب ، ودهنوا الرؤوس ، ثم قالوا للمؤمنين : أيُّ الفريقين خير منزلةً المسلمون أو المشركون؟ وأرادوا أن يصرفوهم عن دينهم { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً } يعني : أكثر أموالاً وَرِئْياً يعني : منظراً حسناً ، فلم يُغن عنهم ذلك من عذاب الله شيئاً . قرأ نافع وابن عامر { ***وريّاً } بتشديد الياء بغير همز ، يعني النعمة ، والباقون { ***ورئياً } بالهمز بغير تشديد يعني المنظر . قال أبو عبيد : وهكذا نقرأ مهموزاً لأنه من رؤية العين ، وإنما هي المنظر .
ثم قال عز وجل : { وَرِءياً قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة } يعني : قل يا محمد من كان في الكفر والشرك { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } يعني : يزيد له مالاً وولداً . قوله : { فَلْيَمْدُدْ } هذا لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وتأويله أن الله عز وجل جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها ، ويمده فيها ، كما قال { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني في الآخرة من العذاب والثواب { إِمَّا العذاب } في الدنيا { وَإِمَّا الساعة } أي قيام الساعة { فَسَيَعْلَمُونَ } يعني : فسيعرفون يوم القيامة { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } يعني : صنيعاً في الدنيا ، ومنزلاً في الآخرة { وَأَضْعَفُ جُنداً } يعني : أقل عدداً وقوة ومنعة أهم أم المؤمنون ، { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } يعني : يزيد الله عز وجل الذين آمنوا بالمنسوخ هدى بالناسخ ليعملوا بالناسخ دون المنسوخ ، ويقال جعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم ويزيدهم بصيرة { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } وقد ذكرناه { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } يعني : وأفضل مرجعاً في الآخرة .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{ أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَقَالَ لاَوتَيَنَّ } يعني : لأعطين { مَالاً وَوَلَدًا } في الجنة . روى أسباط عن السدي أن خباب بن الأرت كان صائغاً يعمل للعاص بن وائل حلياً ، فجاء يسأله أجره ، فقال له العاص : أنتم تزعمون أن لنا بعثة وجنة وناراً ، فإذا كان يوم القيامة ، فإني سأوتى مَالاً وَوَلداً ، وأعطيك منه ، فنزل { أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } في الجنة . قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو { مَالاً وَوَلَدًا } بفتح اللام والواو في كل القرآن ، غير أن أبا عمرو قرأ في سورة نوح بالضم ، وهكذا روي عن مجاهد ، وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو وجزم اللام من ها هنا إلى آخر السورة ، والتي في الزخرف ، والتي في سورة نوح ، وقال أبو عبيد : إنما قرأ هكذا لأنهما جعلا الوُلْد غير الوَلَد ، فيقال : الوُلْد جماعة الأهل ، والوَلَد واحد ، وقال الزجاج : الوُلْد مثل أسد وأُسْد ، وجائز أن يكون الوَلد بمعنى الولد قال أبو عبيد والذي عندنا في ذلك أنهما لغتان ، والذي نختاره منهما بفتح اللام والواو .
قال الله عز وجل رداً على الكافرين { أَطَّلَعَ الغيب } يقول : أنظر في اللوح المحفوظ { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } يعني : أعقد عند الله عقد التوحيد وهو قول لا إله إلاّ الله ، ويقال : أعهد إليه أن يجعل له في الجنة { كَلاَّ } وهو رد عليه لا يعطى له ذلك ، واعلم أنه ليس في النصف الأول كلا ، وأما النصف الثاني ففيه نيف وثلاثون موضعاً ، ففي بعض المواضع في معنى الرد للكلام الأول ، وفي بعض المواضع للتنبيه في معنى الافتتاح ، وفي بعض المواضع يحتمل كلا الوجهين . فأول ذلك { أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً *** كَلاَّ } تم الكلام عنده أي : كلا لم يطلع الغيب ولم يتخذ عهداً ، ثم ابتدأ { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } من ذلك قوله { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ } لا يقتلونك . وأما الذي هو للتنبيه في معنى الافتتاح قوله عز وجل { حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 2/3 ] وقوله عز وجل { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } من الكذب ، يعني : سنحفظ ما يقول { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب } يعني : نزيد له من العذاب { مَدّاً } يعني : بعضه على إثر بعضٍ { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } يعني : نعطيه غير ما يقول في الجنة ، ونعطي ما يدعي لنفسه لغيره { وَيَأْتِينَا فَرْداً } يعني : وحيداً بغير مال ولا ولد { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } يعني : منعة في الآخرة { كَلاَّ } رد عليهم أي لا يكون لهم منعة . وتم الكلام . ثم قال : { سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم } يعني : الآلهة يجحدون عبادتهم { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } يعني : الآلهة تكون عوناً عليهم في العذاب ، ويقال : عدواً لهم في الآخرة ، ومن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ طَلَبَ رِضَا المَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ عَادَ الحَامِدُ لَهُ ذَامّاً »
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
ثم قال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين } يعني : ألم تخبر في القرآن أنا سلطنا الشياطين { عَلَى الكافرين } مجازاة لهم ويقال : خلينا بينهم وبين الكفار فلم نعصمهم { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } يعني : تزعجهم إزعاجاً وتغريهم إغراءً حتى يركبوا المعاصي ، قال الضحاك : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } أي تأمرهم أمراً ، وقال الحسن : تقدمهم إقداماً إلى الشر ، وقال الكلبي : نزلت الآية في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط { فَلاَ تَعْجَلْ } يا محمد { عَلَيْهِمْ } بالعذاب { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } يعني : أيام الحياة ، ثم ينزل بهم العذاب ويقال : نعد عليهم النفس بعد النفس ويقال : الأيام والليالي والشهور قوله عز وجل : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين } يعني : اذكر يوم نحشر المتقين الذين اتقوا الشرك والفواحش { إِلَى الرحمن وَفْداً } يعني : ركباناً على النوق والوفد جمع الوافد مثل الركب جمع راكب والوفد الذي يأتي بالخبر والبشارة ويجازي بالحياة الكرامة . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } ثم قال : أتدرون على أي شيء يحشرون أما والله ما يحشرون على أقدامهم ، ولكن يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها أرحال الذهب ، وأزمتها من الزبرجد ثم ينطلق بهم حتى يقرعوا باب الجنة . وقال الربيع بن أنس يوفدون إلى ربهم فيكرمون ويعظمون ويشفعون ويحيون فيها بالسلام . ويقال : { إِلَى الرحمن } يعني : إلى الرحمة وهي الجنة ويقال : { إِلَى الرحمن } يعني : إلى دار الرحمن . ثم قال عز وجل { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } يعني : عطاشاً مشاة ، وأصله الورود على الماء والوارد على الماء يكون عطشاناً .
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قال عز وجل : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } يعني : من جاء بلا إله إلا الله ، وقال سفيان الثوري : إلا من قدم عملاً صالحاً { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } يعني : اليهود والنصارى { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } يعني : قلتم قولاً عظيماً منكراً ويقال كذباً وزوراً ، قال عز وجل { تَكَادُ * السموات *** يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } يعني : من قولهم { وَتَنشَقُّ الارض } يعني : تتصدع الأرض { وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } تصير الجبال كسراً { أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } يعني : بأن قالوا لله ولد . روي عن بعض الصحابة أنه قال كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم اتَّخذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً اقشعرت الأرض وهلك الشجر ، وقرأ نافع والكسائي { يَكَادُ } بالياء على لفظ التذكير والباقون بالتاء لأن الفعل مقدم ، فيجوز كلاهما ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية حفص { يَتَفَطَّرْنَ } بالتاء والباقون بالنون ومعناهما واحد مثل ينشق وتنشق ، قال الله عز وجل : { وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } يعني : ما اتخذ الله عز وجل ولداً { إِن كُلُّ مَن فِى *** السموات والارض **إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً } يعني : أقر بالعبودية يعني : به الملائكة وعيسى وعزيراً وغيرهم { لَّقَدْ أحصاهم } يعني : حفظ عليهم أعمالهم ليجازيهم بها { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } يعني : علم عددهم ، ويقال : { أحصاهم } أي : حفظ أعمالهم فيجازيهم { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي : علم عدد أنفاسهم وحركاتهم { وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } يعني : وحيداً بغير مال ولا ولد { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } يعني : يحبهم ويحببهم إلى الناس ، وقال كعب الأحبار : قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من الله تعالى ينزل إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض ، ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } يعني : محبة في أنفس القوم ، روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِذَا أَحَبَّ الله عَبْدَاً نَادَىَ جِبْرِيْلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنَاً فَأَحِبُّوهُ فَيُنَادِي في السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةُ فِي الأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ الله عَبْدَاً نَادَىَ جِبْرِيلَ قَدْ أَبْغَضْتُ فُلاناً فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ » . قوله عز وجل : { فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ } يعني : هَوَّنا قراءة القرآن على لسانك { لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين } أي : الموحدين { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } أي جُدلاً بالباطل شديدي الخصومة ، هو جمع ألد مثل أصم وصم .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } يعني : من قبل قريش { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ *** مّنْ أَحَدٍ } يعني : هل ترى منهم من أحد { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } أي صوتاً خفياً ، والركز الصوت الذي لا يفهم ، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قوله تعالى : { طه } قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي في رواية أبي بكر «طِهِ» بكسر الطاء والهاء ، وقرأ ابن عامر وابن كثير وعاصم في رواية حفص بنصب الطاء والهاء ، وقرأ نافع وسطاً بين النصب والكسر ، وقرأ أبو عمرو وابن العلاء بنصب الطاء وكسر الهاء .
قال ابن عباس رضي الله عنه في رواية أبي صالح : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة ، فاشتد عليه ، فجعل يصلي الليل كله حتى شق عليه ذلك ، ونحل جسمه ، وتغير لونه فقال أبو جهل وأصحابه : إنك شقي فأتنا بآية أنه ليس مع إلهك إله ، فنزل { طه } يعني : يا رجل بلسان عك ، وعنى به النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عكرمة والسدي : هو بالنبطية ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : طه كقولك يا فلان ، ويقال : إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع رجلاً ووضع أُخرى ، فنزل : { طه } يعني : طإ الأرض بقدميك جميعاً .
وقال مجاهد : { طه } فواتح السورة .
ويقال : طا طرب المؤمنين في الجنة وها هو أن الكافرين في النار .
ويقال : الطا طلب المؤمنين في الحرب والها : هرب الكافرين .
{ مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى } يعني : لتنصب نفسك وتتعبها { إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يخشى } يقول : لم ننزله إلا عظة لمن يسلم ، وقال القتبي : في الآية تقديم ، يقول : ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى لا أن تشقى ، ثم قال : { تَنْزِيلاً } يعني : تنزل به جبريل عليه السلام { مّمَّنْ خَلَق الارض والسماوات العلى } يعني : نزل من عند خالق السموات والأرض { العلى } يعني : الرفيع . وقال أهل اللغة : { العلى } جمع العليا ، تقول : السماء العليا والسموات العلى ثم قال { الرحمن عَلَى العرش استوى } أي : حكمه ، ويقال : كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض ويقال : استوى استولى وملك كما يقال : استوى فلان على بلد كذا يعني : استولى عليها وملكها ، فالله تعالى بين لخلقه قدرته وتمام ملكه أنه يملك العرش وله ما في السموات وما في الأرض ، فذلك قوله : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض *** وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى } يعني : ما تحت الأرض السابعة السفلى وروى أسباط عن السدي في قوله عز وجل : { وَمَا تَحْتَ الثرى } قال : الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء ، وهي سجين التي فيها كتاب الكفار ، ويقال : الثرى تراب رطب مقدار خمسمائة عام تحت الأرض ، ولولا ذلك لأحرقت النار الدنيا وما فيها . وروي عن ابن عباس أنه قال : بسطت الأرض على الصخرة ، والصخرة بين قرني الثور ، والثور على الثرى وما يعلم ما تحت الثرى ، إلا الله عز وجل .
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
ثم قال : { وَإِن تَجْهَرْ بالقول } يعني : تعلن بالقرآن { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } يعني : ما أسررت في نفسك { وَأَخْفَى } يعني : ما لم تحدث في نفسك ، وهذا قول الضحاك ، وقال ابن عباس هكذا ، وقال عكرمة : السر ما حدث الرجل به أهله وأخفى ما تكلمت به نفسك ، وروى منصور بن عمار عن بعض الصحابة قال : السر ما أسررت به في نفسك ، وأخفى من السر ما لم يطلع عليه أحد أنه كَائِنٌ ، ثم قال عز وجل : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : هو الله الخالق الرزاق لا خالق ولا رازق غيره { لَهُ الاسماء الحسنى } يعني : الصفات العلى .
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } يعني : خبر موسى عليه السلام في القرآن ثم أخبره فقال { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ امكثوا } يعني : انزلوا مكانكم وقفوا { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } يعني : أبصرت ناراً وذلك حين رجع من مدين مع أهله أصابهم البرد فرأى موسى ناراً من البعد فقال لهم : { امكثوا إِنّى ءانَسْتُ نَاراً } { لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ } يعني : بشعلة وهو ما اقتبس من عود { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } يعني : هادياً يدلنا على الطريق وكان موسى عليه السلام ضل الطريق وكانت ليلة مظلمة { فَلَمَّا أتاها } يعني : انتهى إلى النار { نُودِىَ } يعني : دعي { حَدِيثُ موسى } قال ابن عباس : لما أتى النار فإذا هي نار بيضاء تستوقد من شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها وهي خضراء فجعل يتعجب منها ، وقال في رواية كعب : فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه ، فلما طال ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده ، فاستأخر عنها ، ثم عاد فطاف بها ، فنودي { واحدة فَإِذَا هُم بالساهرة هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } يعني : المطهر ، قال مقاتل : طوى اسم الوادي ، وقال مجاهد : أي : طي الأرض حافياً . قال عامة المفسرين : إنما أمره أن يخلع نعليه لأنهما كانا من جلد حمار ميت ، وقال بعضم : أراد أن يصيب باطن قدميه من الوادي ليتبرك به ، وروي عن كعب الأحبار أنه كان جالساً في المسجد فجاء رجل يصلي فخلع نعليه ثم جاء آخر يصلي فخلع نعليه ، ثم جاء آخر فخلع نعليه ، فقال لهم كعب الأحبار : أنبيكم صلى الله عليه وسلم أمركم بهذا؟ قالوا لا . قال : فلم تخلعون نعالكم إذا صليتم؟ قالوا : سمعنا الله تعالى يقول : { أَتَاكَ حَدِيثُ موسى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } قال : أتدرون من أي شيء كانتا نعلاه؟ قالوا : لا . قال : إنما كانتا من جلد حمار ميت ، فأمره الله تعالى أن يخلعهما ليمسه القدس كله . وقال عكرمة : { أَتَاكَ حَدِيثُ موسى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } قال : لكي يمس راحة قدميه الأرض الطيبة . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } بنصب الألف يعني : بأني أنا ربك على معنى البناء ، والباقون بكسر الهاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع { طُوًى } بنصب الواو بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين .
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
ثم قال : { وَأَنَا اخترتك } يعني : اصطفيتك للرسالة ، قرأ حمزة بكسر الألف وتشديد النون { وَأَنَا } بالنون بلفظ الجماعة ، والباقون بنصب الألف وتخفيف النون و { أَنَاْ *** اخترتك } بالتاء ، قال أبو عبيدة : وبهذا نقرأ لموافقة الخط يعني : بخط عثمان ثم قال : { فاستمع لِمَا يُوحَى } يعني : اعمل بما تؤمر وتنهى ، ثم قال : { إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى } يعني : أطعني واستقم على توحيدي { إِنَّنِى أَنَا الله } يعني : لتذكرني فيها ، ويقال : إن نسيت الصلاة فصلها إذا ذكرتها . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس قال : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذا ذَكَرَهَا إِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ : { أَقِمِ الصلاة *** لِذِكْرِى } » قال بعضهم : هذا خطاب لموسى وقال بعضهم : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله { واتبع هَوَاهُ فتردى } ثم رجع إلى قصة موسى بقوله : { إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى *** موسى } ثم قال : { إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } يعني : كائنة { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يعني : أسرها عن نفسي فكيف أعلنها لكم يا أهل مكة؟ هكذا روي عن جماعة من المتقدمين ، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح ، وقال القتبي كذلك في قراءة أبيّ أخفيها من نفسي ، وهكذا روى جماعة من المتقدمين ، وروى طلحة عن عطاء في قوله { إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } عن نفسي ، وروي في إحدى الروايتين عن أبي بن كعب أنه كان يقول { أَكَادُ أُخْفِيهَا } بنصب الألف يعني : أكاد أظهرها ، وهي قراءة سعيد بن جبير قال أهل اللغة : خفى أي أظهر ، وقال امرؤ القيس :
خفاهن من انفاقهن كأنما
خفاهن ودق من عشيّ مجلب يذكر الفرس أنه استخرج الفأرة من جحرهن كالمطر ، ثم قال : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } يعني : لتثاب كل نفس بما تعمل : ثم قال عز وجل : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } يعني : لا يصرفنك عنها ، يعني : عن الإقرار بقيام الساعة { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } يعني : من لا يصدق بقيام الساعة { واتبع هَوَاهُ فتردى } يعني : فتهلك ، ويقال : الردى الموت والهلاك ، ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام .
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
فقال عز وجل : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى *** موسى } يعني : أي الشيء الذي بيدك ، وكان عالماً بما في يده ولكن الحكمة في سؤاله لإزالة الوحشة عن موسى ، لأن موسى كان خائفاً مستوحشاً كرجل دخل على ملك وهو خائف فسأله عن أي شيء فتزول بعض الوحشة عنه بذلك ويستأنس بسؤاله ، وقال بعضهم : إنما سأله تقريراً له أن ما في يده عصاً لكيلا يخاف إذا صار ثعباناً { قَالَ } موسى { قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا } يعني : أعتمد عليها إذا أعييت { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى } يعني : أخبط بها ورق الشجر لغنمي ، فإن قيل إنما سأله عما في يده ولم يسأله عما يصنع بها فلم أجاب موسى عن شيء لم يسأله عنه؟ قيل له : قد قال بعضهم : في الآية إضمار يعني : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى *** موسى * قَالَ هِىَ عَصَاىَ } فقال وما تصنع بها قال { قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } وقال بعضهم : إنما خاف موسى بذلك لأنه أمره بأن يخلع نعليه ، فخاف أن يأمره بإلقاء عصاه ، فجعل يذكر منافع عصاه فقال : { قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ } { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى } يعني : حوائج أُخرى وواحدها مأربة ، وقال مقاتل : كان موسى يحمل زاده على عصاه إذا سار ، وكان يركزها في الأرض فيخرج الماء ، وتضيء له بالليل بغير قمر ، فيهتدي على غنمه . وروى أسباط عن السدي قال : كانت عصا موسى من عود شجر آس من شجر الجنة ، وكان استودعها إياه ملك من الملائكة في صورة إنسان ، يعني : عند شعيب ، وقال علي بن أبي طالب : كانت عصا موسى من عود ورد من شجر الجنة اثني عشر ذراعاً من ذراع موسى . قوله تعالى : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى *** موسى } يعني : ألق عصاك من يدك فظن موسى أنه يأمره بإلقائها على وجه الرفض ، فلم يجد بداً { فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } يعني : تسرح وتسير على بطنها رافعة رأسها ، فخاف موسى وولى هارباً { قَالَ } الله تعالى لموسى : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولى } يعني : سنجعلها عصاً كما كانت أول مرة وأصل السيرة الطريقة كما يقال : فلان على سيرة فلان ، أي على طريقته ، وإنما صار نصباً لنزع الخافض ، والمعنى : سنعيدها إلى حالها الأولى ، فتناولها موسى فإِذا هي عصاً كما كانت ، ثم قال عز وجل : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } قال الكلبي : الجناح أسفل الإبط ، يعني : أدخل يدك تحت إبطك { تَخْرُجْ بَيْضَاء } لها شعاع يضي ( كضوء ) الشمس { مِنْ غَيْرِ سُوء } يعني : من غير برص { أخرى لِنُرِيَكَ } يعني : علامة أُخرى مع العصا { لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } يعني : العظمى ، ومعناه : لنريك الكبرى من آياتنا ولهذا لم يقل الكبريات لأنه وقع المعنى على واحدة .
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
ثم قال تعالى : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } ، يعني : علا وتكبر وادعى الربوبية ، أي : اذهب إليه وادعه إلى الإسلام . { قَالَ } موسى عليه السلام : { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } ، يعني : يا رب وسع لي قلبي حتى لا أخاف منه ، ويقال : لين قلبي بالإسلام حتى أثبت عليه ، { وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } ؛ يعني : هون علي ما أمرتني به ، { واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى } ؛ يعني : ابسط العقدة أي : الرثة من لساني { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } ، يعني : يفهموا كلامي . وذلك أن موسى عليه السلام في حال صغره رفعه فرعون في حجره فلطمه موسى لطمة ، ويقال : أخذ بلحيته ومدها إلى الأرض ، فقال فرعون : هذا من أعدائي الذين كنت أتخوف به ، فقالت امرأته آسية بنت مزاحم : صبيّ جاهل ، لا عقل له ضع له طستاً من ذهب وطستاً من نار ، حتى نعلم ما يصنع . فوضعوا له ذلك فجاء جبريل عليه السلام فأخذ يده وأهوى بها إلى النار ، فأخذ جمرة فوضعها في فيه فكانت الرثوثة من ذلك ، فذلك قوله تعالى : { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } .
{ واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى } ، يعني : اجعل لي معيناً من أهلي أخي هارون . { اشدد بِهِ أَزْرِى } ، حتى يكون قوة لي . والأزر الظهر وجمعه أزر ويراد به القوة . يقال : آزرت فلاناً على الأمر أي : قويته عليه ، وإنما نصب { هارون } لوقوع الفعل عليه ، والمعنى اجعل هارون أخي وزيراً ، فصار الوزير المفعول الثاني . ثم قال تعالى : { وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } ، يعني : في نبوتي؛ قرأ ابن عامر { اشدد } بنصب الألف { وَأَشْرِكْهُ } بضم الألف على معنى الخبر عن نفسه ، أي : أنا أفعل ذلك وإنما كان جزماً على الجزاء في الأمر ، والباقون { اشدد } بضم الألف { وَأَشْرِكْهُ } بنصب الألف على معنى الدعاء ، يعني : اللهم أشدد به أزري وأشركه في أمري ، قال أبو عبيدة : بهذه القراءة نقرأ ، ويكون حرف ابن مسعود شاهداً لها . وكان يقرأ { هارون أَخِى * واشدد ***** بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } وفي حرف أُبَي { وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * واشدد ***** بِهِ أَزْرِى } قال كأنه دعا ثم قال : { كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً } ، يعني : نصلي لك كثيراً ، { وَنَذْكُرَكَ } باللسان { كَثِيراً } ، يعني : على كل حال { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } ، أي : كنت عالماً بنا في الأحوال كلها { قَالَ } الله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى *** موسى } ، يعني : أعطيناك ما سألته .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{ ولقد منَّنا عليك مرة أخرى } ، يعني : قد أكرمتك بكرامات قبل هذا من غير أن تسألني . ثم بيّن له الكرامات والنعم فقال : { *** } ، يعني : قد أكرمتك بكرامات قبل هذا من غير أن تسألني . ثم بيّن له الكرامات والنعم فقال : { إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى } ، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم ، أي : ألهمنا أمك ما ألهمت ، ويقال : { مَا يوحى } على الحجر ، يعني : كان إلهاماً ولم يكن وحياً . { أَنِ اقذفيه فِى التابوت } ، يعني : اجعلي موسى في التابوت ، ثم { فاقذفيه فِى اليم } ، يعني : اطرحيه في البحر . { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } ، يعني : شاطىء البحر . { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } ، يعني : آل فرعون { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } ، يعني : ألقيت محبتي عليك فكل من رآك أحبك . { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } ، يقول ما يصنع بك على منظر مني وبعلمي وبإرادتي .
{ إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ } : لآل فرعون { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } ؟ يعني : أرشدكم على من يكفله ، يعني : يضمه ويحوطه ويرضعه . { فرجعناك إلى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها } ، يعني : رددناك إليها لتطيب نفسها . { وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم } ، يعني : من القود ، { وفتناك فُتُوناً } ؛ يعني : ابتليناك ببلاء بعد بلاء ويقال : بنعمة على إثر نعمة .
قال : أخبرني الثقة بإسناده ، عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس . عن قوله تعالى لموسى : { وفتناك فُتُوناً } فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير ، فإن له حديثاً طويلاً . فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس ، ليخبرني ما وعدني من حديث الفتون ، فقال ابن عباس : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه . قال فرعون : فكيف ترون؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ففعلوا ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون وأن الصغار يذبحون قالوا : يوشك أن يفني بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم ، فاقتلوا عاماً ودعوا ، أي : اتركوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً فنشأ الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانيةً حتى إذا كان من قابل حملت بموسى ، فوقع في قلبها من الحزن والهم ما لا يعلم ، فذلك من الفتون يا ابن جبير .
فأدخل عليه في بطن أمه ما يراد به فأوحى الله تعالى إليها أنْ { لا *** تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين } وأمرها إذا هي ولدته أن تجعله في التابوت ، ثم تلقيه في اليم .
فلما ولدته فعلت ما أُمرت به ، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها : ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته ، كان أحب إلي من أن ألقيته بيدي إلى دواب البحر تأكله . فانطلق به الماء حتى رقا به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون ، فرأينه وأخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن لبعض : إن في هذا مالاً ، وإنَّا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه . فحملنه كهيئته حتى دخلن به عليها فدفعنه إليها . فلما فتحنه ونظرت ، فإذا فيه غلام فألقى عليه منها محبة لم يُلْقَ مثلها على أحد قط من البشر ، { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } من ذكر كل شيء إلا ذكر موسى؛ فلما سمع الذباحون بذكره ، أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير .
فقالت للذباحين : اصبروا عليّ ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ولا ينقص ، حتى آتي فرعون فأستوهبه إياه؛ فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم أنهكم . فلما أتت فرعون به قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه ، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً . فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي يَحْلِفُ بهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ بِأنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ لَهَدَاهُ الله تَعَالَى بِمُوسَى . كَمَا هَدَى بهِ امْرَأَتَهُ » . قال : فأرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار له ظِئراً ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل من ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ثم أمرت به فأخرج إلى السوق واجتمع الناس ترجوا أن تجد له ظئراً تأخذه منها ، فلم تجد فأصبحت أم موسى والهاً ، فقالت لأخته قصي أثره فاطلبيه . هل تسمعين له ذكراً أحيٌّ ابني ، أم قد أكلته الدواب في البحر؟ فبصرت به عن جنب ، أي : عن بعد . والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد ، وهي إلى جنبه لا يشعر بها فقالت : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون } [ القصص : 12 ] فقالوا وما يدريك ما نصحهم له ، وهل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير .
فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، لرغبتهم في الملك ورجاء منفعته . فتركوها فانطلقت إلى أمها ، فأخبرتها بالخبر ، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها ، فمصه حتى امتلأ جنباه ريّاً ، فانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها بأن قد وجدنا لابنك ظئراً ، فأرسلت إليها فأتت به وبها .
فلما رأت ما تصنع به ، قالت لها : امكثي عندي ترضعين ابني ، فإني لم أحب مثل حبه شيئاً قط . قالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي ، لا آلو خيراً . إلا فعلت به ، فإن طابت نفسك؛ وإلا فإني غير تاركةٍ بيتي وولدي .
فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها ، فأنجزها الله عز وجل وعده فأنبته الله نباتاً حسناً . فلم تزل بنو إسرائيل تمتنع به من الظلم والسحرة . فلما ترعرع أي : كبر ، قالت امرأة فرعون لأم موسى : أريني ابني . فواعدتها يوماً وقالت لخزانها وقهارمتها : لا يبقى منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة . فلم تزل الهدايا والكرامة تستقبله من حيث خرج من بيت أمه إلى أن دخل إلى امرأة فرعون ، فلما دخل عليها بَجَّلَتْه وأَكرمته وفرحت به وأعجبها؛ وبَجَّلت أمه بحسن أثرها عليه . ثم قالت : لأدخلن به على فرعون فليبجلنَّه وليكرمنَّه . فلما دخلت به عليه جعلته في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون ومدها إلى الأرض ، فقالت له الغواة من أعداء الله تعالى : ألا ترى إلى ما وعد الله لإبراهيم؟ إنه يريد أن يصرعك وينزع عنك ملكك ويهلكك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير .
فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت له : ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه ، إنه سيصرعني؟ فقالت له : اجعل بينك وبينه أمراً لتعرف فيه الحق . ائت بجمرتين ولؤلؤتين؛ فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين ، علمت أنه يعقل؛ وإن تناول الجمرتين ، فاعلم بأنه لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب ذلك إليه ، فتناول الجمرتين فانتزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه .
فلما بلغ أشده وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا بسخرة . فبينما هو يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان . أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه فوكزه فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي . فأتى فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا . فقال : ائتوني بقاتله والذي يشهد عليه آخذ لكم بحقكم .
فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً ، وإذا موسى قد رأى من الغد الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني وقد ندم موسى على ما كان منه بالأمس ، وكره الذي رأى مثل ذلك ، فخاف الإسرائيلي من موسى وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال الإسرائيلي : { فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ }
[ القصص : 18 ] فخاف الإسرائيلي وظن أنه يريده فقال : يا موسى { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس } [ القصص : 19 ] ، فتتاركا فانطلق الفرعوني إلى قومه وأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر . فأرسل فرعون إلى الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى ، وجاء رجل من شيعة موسى فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا ابن جبير .
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين ، لم يلق بلاءً قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه تعالى ، فإنه قال تعالى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] . يعني : إنهما حابستان غنمهما . فقال : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم ، وإِنما ننتظر فضل حياضهم فنسقي ، فسقى لهما موسى فجعل يغدق في الدلو ماء كثيراً حتى لو كان أول الرعاة فراغاً ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما ، وانصرف موسى إلى شجرة فاستظل بها . فاستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حُفلاً بطاناً فقال : إن لكما لشأناً اليوم . فحدثاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتته فدعته . فلما دخل على شعيب فأخبره بالقصة قال : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] ، أي : ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته .
وقوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين } [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة وقال : وما يدريك ما أمانته وقوته ، فقالت : أما قوته لما سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى منه في ذلك السقي؛ وأما أمانته فإنه ما نظرني حين أقبلت إِليه صَوَّبَ رأسه ولم يرفعه ، ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك فقال لي : امشي خلفي وانعتي إلي الطريق ، يعني : صفي ودليني على الطريق ، فسري عن أبيها فقال له : { قَالَ إنى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين } [ القصص : 27 ] .
فكان على موسى ثمان سنين واجبة بسنتين عدة منه؛ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله؛ كان من أمره ما قصّ الله عليك في القرآن ، فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه عن كثير من الكلام ، فسأل ربه أن يعينه بأخيه ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به .
فأعطاه الله سؤاله وحلّ عقدة من لسانه ، فاندفع موسى بالعصا فلقي هارون ، فانطلقا جميعاً إِلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما بعد بالدخول ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا : إنَّا رسولا ربك . قال : فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قصّ الله تعالى في القرآن . فقال : مَا تُريدَانِ؟ فقال موسى : أريد أن تؤمن بالله وأن ترسل معنا بني إسرائيل . فأبى عليه ذلك وقال : { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 154 ] . فألقى عصاه فتحولت حية عظيمة ، فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون ، فاقتحم فرعون عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ، ففعل وأخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ، ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول . فاستشار الملأ فيما رأى فقالوا : اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير فأرسل فرعون في المدائن فحضر له كل ساحر متعالم . فلما أتوا فرعون ، قالوا : بمَ يعمل هذان الساحران؟ قال : يعملان بالحيات . فقالوا : والله ما في الأرض أحد يعمل بالحيات التي نعمل . فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى .
ويوم الزينة هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، وهو يوم عاشوراء ، فقال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر فنتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، يعنون بذلك موسى وهارون استهزاءً بهما . قالت السحرة لموسى { ***لِقُدْرَتِهِمْ بسحرهم } { قَالُواْ ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } [ الأعراف : 115 ] . قال لهم موسى : ألقوا . فألقوا حبالهم وعصيهم فرأى موسى من سحرهم شيئاً عظيماً ، فأوجس في نفسه خيفة فأوحى الله تعالى إليه : أن ألق عصاك . فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغرة فاها ، فجعلت تلتقم العصي والحبال حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته . فلما عرفت السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا ساحراً لم يبلغ من سحره كل هذا ، ولكن هذا أمر من أمر الله تعالى .
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، أمر موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً ، فأصبح فرعون فبعث في المَدَائِن حَاشِرين وتبعهم بجنود عظيمة فنسي موسى أن يضرب بعصاه البحر ، فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال قوم موسى إنا لمدركون ، افعل ما أمرك الله تعالى . فذكر موسى ما وعده الله عز وجل ، فضرب البحر بعصاه فانفلق البحر اثنتي عشرة فرقة . فلما جاوز أصحاب موسى كلهم ودخل أصحاب فرعون كلهم ، التقم البحر عليهم ، فقال أصحاب موسى : إنا نخاف أن لا يكون فرعون . فدعا موسى ربه فأخرجه حتى استيقنوا ، فمضوا حتى أنزلهم منزلاً ، ثم قال لهم : أطيعوا هارون فإني استخلفته عليكم ، وإني ذاهب إلى ربي . وأجَّلهم ثلاثين يوماً وصامهن .
وكره أن يكلمه ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم .
قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال الله تعالى : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ارجع حتى تصوم عشرة أيام ، ثم ائتني . ففعل موسى الذي أمره ربه تعالى ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يأتهم للأجل ، ساءهم ذلك .
وأخرج لهم السامري عجلاً جسداً ، له خوار من حلي آل فرعون فتفرقت بنو إسرائيل ، فقالت فرقة للسامري : ما هذا؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أخطأ الطريق . فقالوا : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى . وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس هذا بربنا . وأسرت فرقة في قلوبهم التصديق ، وقال لهم هارون : إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن . فلما كلم الله موسى ، أخبره بما لقي قومه بعده ، فرجع موسى إلى قومه غضبان أَسِفاً ، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه كما قصَّ الله عز وجل في هذه السورة؛ وذلك من الفتون يا ابن جبير .
ويقال : { وفتناك فُتُوناً } ، أي : اختبرناك اختباراً ، ويقال : أخلصناك إخلاصاً . كما قال تعالى : { واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 51 ] .
ثم قال عز وجل : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } ، أي : عشر سنين عند شعيب { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى *** موسى } ؛ يعني : على وقت مقدور عليك يا موسى ، وهذا قول ابن عباس ، وقال مقاتل : على قدر ، أي : على ميقات ، ويقال : على موعد ، ويقال : على قدر من تكلمي إياك ، ويقال : على قضاء قضيته ، ويقال : على تمام الذي يوحى للأنبياء أربعين سنة .
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{ واصطنعتك لِنَفْسِى } ، يعني : اخترتك للرسالة والنبوة ولإقامة حجتي . فقال موسى : يا رب حسبي حسبي فقد تمت كرامتي ، فقال الله تعالى : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى } ، يعني : آياتي التسع ، { وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى } ؛ يعني : لا تفترا ولا تعجزا ولا تضعفا عن أداء رسالتي . { اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } ، يعني : تكبر وعلا . { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } ، يعني : كلاماً باللين والشفقة والرفق ، لأن الرؤساء بكلام اللين أقرب إلى الانقياد من الكلام العنيف . أي : قولا له : أيها الملك ، ويقال : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } لوجوب حقه عليك بما رباك ، وإن كان كافراً .
وروى أسباط عن السدي قال : القول اللين أن موسى جاءه ، فقال له : تسلم وتؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين ، على أن لك شباباً لا تهرم أبداً ، ويكون لك ملك لا ينزع منك أبداً حتى تموت ، ولا ينزع منك لذة الطعام والشراب والجماع أبداً حتى تموت؛ فإذا مت دخلت الجنة . قال : فكأنه أعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان ، وكان هامان غائباً فقال له فرعون : إن لي من أوامره وهو غائب حتى يقدم . فلم يلبث أن قدم هامان فقال له فرعون : علمت بأن ذلك الرجل أتاني؟ فقال هامان : ومن ذلك الرجل؟ فقال فرعون : هو موسى . قال : فما قال؟ فأخبره بالذي دعاه إليه . قال : فما قلت له؟ قال : لقد دعاني إلى أمر أعجبني . فقال له هامان : قد كنت أرى لك عقلاً وأن لك رأياً بيناً أنت رب ، أفتريد أن تكون مربوباً ، وبينا أنت تعبد أفتريد أن تعبد غيرك؟ فغلبه على رأيه فأبى .
ثم قال تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } ، يعني : يتعظ أو يسلم . وقال الزجاج : لعل في اللغة للترجي والتطمع ، يقول : لعله يصير إلى خير . والله سبحانه وتعالى خاطب العباد بما يعقلون ، والمعنى عند سيبوبه اذهبا على رجائكما وطمعكما ، وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى؛ إلا أن الحجة إنما تجب بإبائه؛ وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فعليك باللين لأنك لست بأفضل من موسى وهارون ، ولا الذي تأمره بالمعروف ليس بأسوأ من فرعون؛ وقد أمرهما الله تعالى بأن يأمراه باللين ، فأنت أولى أن تأمر وتنهى باللين .
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
ثم قال عز وجل : { قَالاَ } ، أي : موسى وهارون : { رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } ؛ يعني : أن يبادر بعقوبتنا . يقال : قد فرط منه أمر ، أي : قد بدر منه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ » . ويقال : أن يفرط علينا ، يعني : أن يضر بنا . { أَوْ أَن يطغى } ، يعني : يقتلنا : قال : كان هذا القول من موسى وهارون حين رجع موسى إلى مصر ، وأوحى إليهما فقالا عند ذلك : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى؛ وقال بعضهم : قد قال الله ذلك لموسى عند طور سيناء؛ فأجابه موسى عن نفسه وعن هارون ، فأضاف القول إليهما جميعاً .
{ قَالَ } الله تعالى : { لاَ تَخَافَا } ، أي : لا تخافا عقوبة فرعون عند أداء الرسالة . { إِنَّنِى مَعَكُمَا } ، أي : معينكما . { أَسْمَعُ وأرى } ، أي : أسمع ما يرد عليكما ، وأرى ما يصنع بكما { فَأْتِيَاهُ } ، يعني : فاذهبا إلى فرعون ، { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : في الآية دليل أنه يجوز رواية الأخبار بالمعنى ، وإنما العبرة للمعنى دون اللفظ ، لأن الله تعالى حكى معنى واحداً بألفاظ مختلفة ، وقال في آية أخرى { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] وقال هاهنا : { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } وقال في آية أخرى : { قالوا ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وهارون } [ الأعراف : 121/122 ] ، وقال في موضع : { امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } .
ثم قال تعالى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } ، يعني : لا تستعبدهم . { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } ، يعني : باليد والعصا . { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } ، أي : على من طلب الحق ورغب في الإسلام . قال الزجاج : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } معناه أن من اتبع الهدى ، فقد سلم من عذاب الله وسخطه { إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب } في الآخرة بالدوام { على مَن كَذَّبَ وتولى } عن التوحيد ، والإيمان ولم يذكر في الآية أنهما فرعون ، لأن في الكلام دليلاً عليه حيث ذكر قول فرعون ، ومعناه أنهما أتيا فرعون وأديا إليه الرسالة وقالا : { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } .
{ قَالَ } فرعون : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى *** موسى } ، ولم يقل من ربي تكبراً منه . { قَالَ } موسى : { رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } ، يعني : شكله؛ ويقال : خلق لكل ذكر أنثى شبهه؛ { ثُمَّ هدى } ، يعني : ألهمه الأكل والشرب والجماع ، وقال القتبي : الإهداء أصله الإرشاد ، كقوله { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] . ثم الإرشاد مرة يكون بالدعاء ، ومرة بالبيان . وقد ذكرناه في سورة الأعراف ، ومرة بالإلهام كقوله : { أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } أي : صورته { ثُمَّ هدى } أي : ألهمه إتيان الإناث .
ويقال : ألهمه طلب المرعى وتوقي المهالك . وقال الحسن : أعطى كل شيء من خلقه ما يصلح له ، ثم هداه أن موسى أخبره بالبعث والجزاء وأمر الآخرة .
وقال فرعون : { فَمَا بَالُ القرون الاولى } ؟ يعني : ما حال القرون الماضية وما شأنها؟ { قَالَ } موسى : { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كتاب } ، يعني : في اللوح المحفوظ . { لاَّ يَضِلُّ رَبّى } يعني : لا يخفى على ربي ، { وَلاَ يَنسَى } ما كان من أمرهم . وقال مجاهد { لاَّ يَضِلُّ رَبّى } ، أي : لا يخفى على ربي شيء واحد . قال السدي : أي : لا يغفل ولا يترك ، وكان الحسن يقرأ { لاَّ يَضِلُّ } بضم الياء ، يعني : لا يضله الله ، يعني به الكتاب . وإلى هذا الموضع حكاية كلام موسى .
ثم إن الله تبارك وتعالى قال لمشركي مكة : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً } ، يعني : موضع القرار ، وهو الرب الذي ذكر موسى لفرعون ودعاه إلى عبادته . قرأ حمزة والكسائي وعاصم { مهادا } والباقون { مهادا } أي : فراشاً وبساطاً . قال أبو عبيد : المهد الفعل ، يقال : مهدت مهداً؛ والمهاد اسم الموضع . { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ، يعني : حصل لكم فيها طرقاً ، { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } ؛ يعني : المطر ، { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً } ؛ يعني : أنبتنا بالمطر أصنافاً وألواناً . { مّن نبات شتى } مختلف ألوانه . { كُلُواْ وارعوا أنعامكم } . اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر ، يعني : لتأكلوا منه وترعوا أنعامكم . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } ، يعني : إن في اختلاف ألوانه { لاَيَاتٍ } ، أي : لعبرات { لاِوْلِى النهى } ، يعني : لذوي العقول من الناس .
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{ مِنْهَا خلقناكم } ، يعني : آدم خلقناه من الأرض ، { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي : بعد موتكم ، { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } ؛ يعني : نحييكم ونخرجكم من الأرض { تَارَةً أخرى } . ثم رجع إلى قصة فرعون فقال : { وَلَقَدْ أريناه كُلَّهَا فَكَذَّبَ } ، يعني : العلامات والدلائل ، { فَكَذَّبَ } بالآيات ، { وأبى } أن يسلم . { قَالَ } فرعون وقومه : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى *** موسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ } ، يعني : ميعاداً لا نخلفه { نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى } أي : لا نجاوزه مكاناً سوى ذلك المكان ، وهذه قراءة نافع؛ وأبي عمرو والكسائي وابن كثير يقرؤون بالكسر قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة { سُوًى } بضم السين معناه الإنصاف ، وقال بعضهم : سُوى وسِوَى لغتان ، وقال مجاهد : مكاناً منصفاً بينهم ، وقال السدي : أي : عدلاً بينهم وقال القتبي : أي : وسطاً بين الفريقين .
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، يعني : يوم عيد لهم وهو يوم النيروز؛ وروي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : هو يوم عاشوراء . { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } ، يعني : إذا حشر الناس واجتمعوا على وقت الضحى ، { فتولى فِرْعَوْنُ } ؛ يعني : رجع إلى أهله ، { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } ؛ يعني : سحرته ، { ثُمَّ أتى } ؛ يعني : أتى الميعاد . قرأ بعضهم : { يَوْمُ الزينة } بنصب الميم ، والمعنى يقع في { يَوْمُ الزينة } وقراءة العامة يوم الزينة رفع على معنى خبر الابتداء .
{ قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } ، يعني : ضيّق الله عليكم الدنيا ، لا تفتروا على الله كذباً قال الزجاج : { وَيْلَكُمْ } منصوب على أن ألزمهم الله ويلاً ، ويجوز أن يكون على النداء كما قال : { قَالَتْ ياويلتا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] قوله { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } ، يعني : يأخذكم بعذاب ويهلككم . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { فَيُسْحِتَكُم } بضم الياء وكسر الحاء ، والباقون { فَيُسْحِتَكُم } بالنصب؛ وهما لغتان . يقال : سحته وأسحته إذا استأصله وأهلكه . { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } ، يعني : خسر من اختلق على الله كذباً .
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{ فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي : تناظروا أمرهم بينهم ، يعني : اختلفوا فيما بينهم سراً من فرعون وهم السحرة ، وقالوا فيما بينهم : إن كان ما يقول موسى حقاً واجباً فيكون الغلبة لموسى ، وذلك قوله عز وجل : { فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } ، يعني : تناظروا أمرهم بينهم . فذلك قوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى } ، أي : أخفوا الكلام . { قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران } ، يعني : موسى وهارون ، { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } ؛ قرأ أبو عمرو : { ءانٍ * هاذان لساحران } لأن إن تنصب ما بعدها . وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { إِنْ هاذان } بجزم إن وتشديد نون هذانّ عند ابن كثير خاصة ، والباقون إنَّ بالنصب والتشديد { هاذان لساحران } بالتخفيف . وقال أبو عبيد : نقرأ بهذا ورأيت في مصحف عثمان { ءانٍ } بهذا الخط ليس فيه ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في جميع المصاحف بإسقاط الألف وإذا كتبوا بالنصب والخفض كتبوها بالياء . وحكى الكسائي ، عن أبي الحارث بن كعب وخثعم وزيد وأهل تلك الناحية ، الرفع مكان النصب قال القائل :
أَي قلوص راكب تراها ... طاروا علاهن فطر علاها
وقال آخر :
إنَّ أبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الجِدِّ غَايَتَاهَا
وقال آخر :
فَمَنْ يَكُ بِالْمَدِينَةِ أَمْسَى رَحْلُه ... فَإِنِّي وَقَيَّارٍ بِهَا لَغَرِيبُ
وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قالوا : كانوا يريدون أن الألف والياء في القراءة سواء { قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران } و { ءانٍ } سواء . وفي مصحف عبد الله { إِنْ هاذان } وفي مصحف أبي { إِنْ هاذان *** إِلا } .
ثم قال الله عز وجل : { بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } ، يقول برجالكم الأمثل ، فالأمثل . يقول : ليغلبا على الرجال من أهل العقول والشرف ، وقال القتبي : يقال : هؤلاء طريقة القوم ، أي : أشرافهم ، ويقال : أراد سنتكم ودينكم ، وقال الزجاج : معناه يذهبا بأهل طريقتكم ، كما قال : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] .
ثم قال عز وجل : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } ؛ قرأ أبو عمرو { فَأَجْمِعُواْ } بجر الألف ونصب الميم ، يعني : جيئوا بكل كيد تقدرون عليه ، لا تبقوا منه شيئاً؛ وقرأ الباقون { فَأَجْمِعُواْ } بقطع الألف وكسر الميم ، ومعناه ليكن عزمكم كلكم على الكيد مجمعاً عليه ، ولا تختلفوا فتخذلوا؛ وقال أبو عبيد : بهذا نقرأ ، لأن الناس عليها ولصحتها في العربية يقال : أجمعت الأمر واجتمعت عليه؛ وإنما يقال : جمعت الشيء المتفرق فتجمّع . { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } ، يعني : جميعاً . قال أبو عبيد : الصف المصلى؛ وقال الزجاج : ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم . قال : ويجوز أن قوله ثم ائتوا مصطفين ، أي : مجتمعين ليكون أنظم لكم ولأمركم ، وأشد لهيبتكم . { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } ، يعني : قد فاز ونجا اليوم من علا بالغلبة .
ثم جمع فرعون بينهم وبين موسى عليه السلام { قَالُواْ يأَبَانَا *** موسى } ، يعني : السحرة ، { إِمَّا أَن تُلْقِىَ } ؛ يعني : أن تطرح عصاك على الأرض ، { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } إلى الأرض . { قَالَ } لهم موسى : { بَلْ أَلْقُواْ } ، فألقوا في الكلام مضمر . { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } ، يعني : تراءت إلى موسى { مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } ، يعني : كأنها حيات . وروي عن الحسن أنه كان يقرأ بالتاء { تُخَيَّلُ } لأن جمع العصي مؤنث ، وقراءة العامة بالياء يعني : سعيها .
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{ فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } ، يعني : أضمر في قلبه الخوف ، وخاف أن لا يظفر به إن صنع القوم مثل ما صنع؛ ويقال : خاف من الحيات من جهة الطبع . { قُلْنَا لاَ تَخَفْ } ، يعني : أوْحَى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن لا تخف { إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } يعني : الغالب .
قوله تعالى : { وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ } ، يعني : اطرح ما في يمينك من العصا ، { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } ؛ يعني : تلقم ما عملوا . { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } ، يعني : عمل سحر . قرأ عاصم في رواية حفص { تَلْقَفْ } بالجزم والتخفيف؛ وقرأ ابن كثير في الروايتين { تَلْقَفْ } بالنصب والتشديد وضم الفاء ، وقرأ الباقون بجزم الفاء لأنه جواب الأمر؛ وقرأ حمزة والكسائي { كَيْدَ *** ساحر } بغير ألف ، وقرأ الباقون { كَيْدُ سَاحِرٍ } ، وقال أبو عبيد : بهذا نقرأ ، لأن إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السحر . وقرأ بعضهم { كَيْدَ *** ساحر } بنصب الدال جعله نصباً لوقوع الفعل عليه وهو قوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } ؛ وهذا كقوله : إنما ضربت زيداً؛ وقراءة العامة بالضم ، لأنه خبر إن وما اسم ، ومعناه إن الذي صنعوه كيد سحار . { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } ، أي : حيثما عمل؛ ويقال : لا يفوز حيثما كان وذهب .
قوله تعالى : { فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً } ، يعني : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا وهذا قول الأخفش؛ وقال الفراء والقتبي : وقعوا للسجود { قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } يعني ، صدقنا به { قَالَ } لهم فرعون : { قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ } ، يعني : قبل أن آمركم { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } ، يعني : موسى لعالمكم . { الذى عَلَّمَكُمُ السحر } ؛ وإنما أراد به التلبيس على قومه ، لأنه علم أنهم لم يتعلموا من موسى ، وإنما علموا السحر قبل قدوم موسى وقبل ولادته . ثم قال : { فَلاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } ، اليد اليمنى والرجل اليسرى . { وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } ، يعني : على أصول النخل على شاطىء النيل ، { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } ؛ يعني : وأدوم أنا أم رب موسى .
{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } ، أي : لن نختار عبادتك وطاعتك ولن نتبع دينك { على مَا جَاءنَا مِنَ البينات } ، يعني : على دين الله بعدما جاءنا من العلامات { والذى فَطَرَنَا } ، يعني : ولا عبادتك على عبادة الذي خلقنا ، ويقال : هو على معنى القسم ، أي : لن نختارك ودينك والذي فطرنا . { فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ } ؛ يقول اصنع ما أنت صانع فاحكم فينا من القطع والصلب ما شئت . { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا } ، يقول : لست بحاكم علينا ولا تملكنا إلا في الدنيا ما دام الروح فينا .
قوله تعالى : { إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا } ، يعني : ما عملنا في حال الشرك ، { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } ؛ يعني : ليغفر لنا ما أجبرتنا عليه من السحر يروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر { والله خَيْرٌ وأبقى } ، يعني : الله خير لنا منك وأدوم ، وثواب الله عز وجل خير من عطائك وأبقى مما وعدتنا به من التعذيب .
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } أي : مشركاً؛ والهاء للعباد وهذا قول الله تعالى عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه من يأت ربه يوم القيامة كافراً ، { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } ، يعني : لا يموت فيستريح من العذاب ، ولا يحيى حياة تنفعه . قوله عز وجل : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } ، يعني : يأتي يوم القيامة مؤمناً يعني : مصدقاً ، { قَدْ عَمِلَ الصالحات } ؛ يعني : الطاعات . { فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى } ، يعني : الفضائل في الجنة .
ثم قال : { جنات عَدْنٍ } ، يعني : هي جنات عدن . { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } ، يعني : دائمين في الجنة . { وذلك جَزَاء مَن تزكى } ، يعني : ثواب من وحَّد . قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } ، يعني : سر بعبادي ليلاً { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً } ؛ يعني : بيِّن لهم طريقاً { فِى البحر يَبَساً } ، يعني : يابساً . { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } يعني إدراك فرعون ، { وَلاَ تخشى } الغرق . قرأ حمزة : { لاَ تَخَفْ * دَرَكاً } على معنى النهي ، يعني : لا تخف أن يدركك فرعون؛ وقرأ الباقون { لاَّ تَخَافُ } بالألف ومعناه لست تخاف؛ وقال أبو عبيد بهذا نقرأ ، لأن من قرأ بالجزم يلزم أن يخشى ، لأنه حرف معطوف على الذي قبله . ثم قال : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } ، يعني : لحقهم فرعون بجموعه ، { فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } ؛ يعني : أصابهم من البحر ما أصابهم؛ ويقال : علاهم من البحر ما علاهم حين التقى البحر عليهم ، ويقال : فغشيهم من البحر ما غرقهم . { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } ، يعني : أهلكهم وما نجا بنفسه ، ويقال : أضلهم بحمله إياهم على الضلالة ، { وَمَا هدى } يعني : ما هداهم إلى الرشاد وهذا رد لقوله : { وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 38 ] ويقال : { وَمَا هدى } يعني : ما هداه إلى الصواب . ثم ذكر نعمته على بني إسرائيل فقال عز وجل : { هدى يابنى إسراءيل قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ } ، يعني : فرعون ، { وواعدناكم جَانِبَ الطور الايمن } ؛ يعني : يمين موسى ، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } حيث كانوا في التيه .
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{ كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } ، يعني : قال لهم : كلوا من حلالات ما رزقناكم ، يعني : أعطيناكم . قرأ حمزة والكسائي { ***أَنْجَيْتكُمْ وَوَاعَدْتكُمْ مَا رَزَقْتكُمْ } الثلاثة كلها بالتاء؛ وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وابن عامر الثلاثة بالألف والنون ، وقرأ أبو عمرو بالتاء إلا قَوْلَهُ : { قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ وواعدناكم } . ثم قال : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } ، أي : لا ترفعوا منه شيئاً للغد ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } ؛ يعني : فيجب وينزل عليكم عذابي . { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى } ، يعني : يجب وينزل عليه غضبي ، { فَقَدْ هوى } ؛ يعني : هلك وتردى في النار . وقرأ الكسائي { فَيَحِلَّ } بضم الحاء ومن { يَحْلِلْ } بضم اللام ، والباقون كلاهما بالكسر . فمن قرأ بالضم يعني : ينزل ، ومن قرأ بالكسر يعني : يجب .
{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ } ، يعني : رجع من الشرك والذنوب { وَامَنَ } يعني : صدق بالله ورسله ، { وَعَمِلَ صالحا } ؛ يعني : خالصاً فيما بينه وبين ربه ، { ثُمَّ اهتدى } ؛ يعني : علم أن لعمله ثواباً؛ وهذا قول مقاتل . وروى جويبر عن الضحاك في قوله { ثُمَّ اهتدى } أي : ثم استقام ، وروى وكيع عن سفيان قال { ثُمَّ اهتدى } ، أي : مات على ذلك وقال ابن عباس : { ثُمَّ اهتدى } أي : مات على السنة .
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قوله عز وجل : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى *** موسى } ؛ وذلك أن موسى لما انتهى إلى الجبل مع السبعين الذين اختارهم ، عجل موسى عليه السلام شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم بأن يتبعوه إلى الجبل ، فقال الله تعالى لموسى عليه السلام { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى *** موسى } ، يعني ما أسبقك عن قومك وتركت أصحابك خلفك؟ { قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } ، ويحتمل أن يكون أولاء صلة ، يعني : هم على أثري يجيئون من بعدي . { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى } ، يعني : لكي يزداد رضاك عني .
قوله عز وجل : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } ؛ وهذا على وجه الاختصار ، لأنه لم يذكر ما جرى من القصة ، لأنه ذكر في موضع آخر فها هنا اختصر الكلام وقال : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } ، يعني : ابتلينا قومك من بعد انطلاقك إلى الجبل ، { وَأَضَلَّهُمُ السامرى } ؛ يعني : أمرهم السامري بعبادة العجل . { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً } ، حزيناً وقال القتبي : { أَسَفاً } أي : شديد الغضب؛ فلما دخل المحلة رآهم حول العجل فأبصر ما يصنعون حوله ، { قَالَ يَاءادَمُ *** قَوْمٌ *** أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } ؛ يعني : وعداً صدقاً ومعناه وعد الله عز وجل بأن يدفع الكتاب إلى موسى ليقرأه عليهم ويهتدوا به؟ { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } ، يعني : أطالت عليكم المدة؟ { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ } ، يعني : يجب { عَلَيْكُمْ غَضَبٌ } ، يعني : سخط { مّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } ؟ بترك عبادة الله .
{ قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } ، يعني : ما تعمدنا ذلك؛ قرأ حمزة والكسائي { بِمَلْكِنَا } بضم الميم ، يعني ما فعلناه بسلطان كان لنا ولا قدرة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { بِمَلْكِنَا } بكسر الميم . والملك ما حوته اليد ، وقرأ نافع وعاصم { بِمَلْكِنَا } بنصب الميم وهو بمعنى الملك . { ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً } ، يعني : آثاماً { مّن زِينَةِ القوم } ، يعني : من حلي آل فرعون؛ ويقال : أوزاراً يعني : حمالاً ، { فَقَذَفْنَاهَا } ؛ يعني : فطرحناها في النار . قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر { حُمّلْنَا } بالنصب والتخفيف ، وقرأ الباقون بضم الحاء وتشديد الميم على فعل ما لم يُسم فاعله . { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى } يعني ألقاها في النار كما ألقينا .
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان السامري من أهل قرية يعبدون البقر ، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام معهم ، وفي قلبه حب عبادة البقر ، فابتلى الله عز وجل به بني إسرائيل؛ فكشف له عن بصره ، فرأى أثر فرس جبريل عليه فأخذ من أثرها . وقد كان هارون قال لبني إسرائيل : إنكم قد تحملتم من حلي آل فرعون وأمتعتهم معكم ، وهي نجسة فتطهروا منها ، وأوقدوا لهم ناراً فأحرقوها فيه .
فجعلوا يأتون بالحلي والأمتعة فيقذفونها في النار ، فانسبك الحلي . وأقبل السامري وفي يده تلك القبضة من أثر فرس الرسول يعني جبريل عليه السلام فوقف فقال : يا نبي الله ألقها فيه . فقال : نعم . وهارون لا يظن إلا أنه من الحلي الذي يأتي به بنو إسرائيل ، فقذفها فيه وقال : كن عجلاً جسداً له خوار وقال السدي : جاء جبريل ليذهب بموسى إلى ربه ، وجبريل على فرس ، فبصر به السامري : ويقال : إن ذلك الفرس فرس الحياة فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس ، فلما ألقى التراب في الحلي صار عجلاً جسداً له خوار ، فذلك قوله تعالى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى } .
وقال بعضهم : كان السامري من بني إسرائيل وقد ولدته أمه في غار مخافة أن يذبح ، فرباه جبريل عليه السلام في الغار حتى كبر؛ فلما رأى جبريل على فرس الحياة ، عرفه لأنه قد كان رآه في صغره . فأخذ قبضة من تراب من أثر حافر فرسه ، ثم ألقاها في جوف العجل ، فصار عجلاً له خوار ، يعني : صوتاً . وقال مجاهد : خوار العجل كان هفيف الريح إذا دخلت جوفه؛ وهكذا روي عن علي بن أبي طالب ، وإحدى الروايتين عن ابن عباس أنه قال : صار عجلاً له لحم ودم وخرج منه الصوت مرة واحدة . فقال : { هذا إلهكم } ، يعني : قال السامري وَإلَهُ مُوسَى { فَنَسِىَ } ، يعني : أخطأ موسى الطريق . وروى عكرمة عن ابن عباس قوله : { فَنَسِىَ } أي نسي موسى أن يخبركم أن هنا إله ، وقال قتادة : قوله { هذا إلهكم وإله موسى } ولكن موسى نسي ربه عندكم . قال الله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } ؟ يعني : لم يكن لهم عقل يعلموا أنه لم يكن إلههم حيث لا يكلمهم ولا يجيبهم . { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً } ، يعني : لا يقدر على دفع مضرتهم ، { وَلاَ نَفْعاً } ؛ أي : ولا جر منفعة .
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ } يعني : من قبل مجيء موسى إليهم : { قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ، يعني : إنما ابتليتم بعبادة العجل . { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } ، يعني : إلهكم الرحمن ، { فاتبعونى } ، يعني : اتبعوا ديني { وَأَطِيعُواْ أَمْرِى } ؛ يعني : قولي . قوله تعالى : { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين } ، يعني : لا نزال على عبادة العجل مقيمين ، { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } . فلما جاءهم موسى ، { قَالَ يَاءادَمُ *** هارون مَا *** مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } ، يعني أخطؤوا الطريق بعبادة العجل { إِلا } يعني : أن لا تتبع أمري في وصيتي فتناجزهم الحرب؟ ثم قال : { تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } ، يعني : أفتركت وصيتي؟ .
{ قَالَ } له موسى ذلك بعدما أخذ بشعر رأسه ولحيته ، فقال هارون عليه السلام : { قَالَ ابن أُمَّ } قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { قَالَ ابن أُمَّ } بكسر الميم على معنى الإضافة ، والباقون بالنصب بمنزلة اسم واحد { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } ، أي : ولا بشعر رأسي . { إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } ، يعني : جعلتهم فريقين وألقيت بينهم الحرب ، { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى } ؛ يعني : لم تنتظر قدومي ثم أقبل على السامري ، { قَالَ } له : { فَمَا خَطْبُكَ ياسامري } ؟ يقول : ما شأنك ، وما الذي حملك على ما صنعت؟ ف { وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ } السامري : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } . قرأ حمزة والكسائي بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } ، يعني : رأيت ما لم يَرَوا وعلمت ما لم يعلموا به يعني : بني إسرائيل . قال موسى : ما الذي رأيت دون بني إسرائيل؟ فقال : رأيت جبريل على فرس الحياة .
قوله : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } ، يعني : من أثر فرس جبريل؛ وفي قراءة عبد الله بن مسعود { ***فَقَبصتُ قَبْصَةً } بالصاد ، وروي عن الحسن أنه قرأ { يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } بالصاد ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع ، وقراءة الجماعة { فَقَبَضْتُ } بالضاد وهو القبض بالكف . { فَنَبَذْتُهَا } ، يعني : فطرحتها في العجل . { وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى } ، أي : زينت لي نفسي ، فلا تلمني بهذا الفعل ولمهم بعبادتهم إياه .
{ قَالَ } له موسى : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة } ، يعني : عقوبتك في الدنيا { أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } ، يعني : لا أمس أحداً ولا يَمسَّني أحد ، ويقال : ابتلي بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت ، ويقال : معناه لن تخالط أحداً ولن يخالطك أحد فنفاه عن قومه . { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } في الآخرة . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { لَّن تُخْلَفَهُ } بكسر اللام ، لن تغيب عنه ، ومعناه تبعث يوم القيامة لا تقدر على غير ذلك ولا تخلفه ، وقرأ الباقون { تُخْلَفَهُ } بنصب اللام ، يعني : لن تؤخر ولن تجاوز عنه ، ويقال : معناه يكافئك الله تعالى على ما فعلت والله لا يخلف الميعاد .
{ وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } ، يعني : عابداً . { لَّنُحَرّقَنَّهُ } . روى معمر ، عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود { ***لَنُذَبِّحَنَّهُ } ثمَّ { عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ } ، وقرأ الحسن { لَّنُحَرّقَنَّهُ } بالتخفيف ، وقراءة العامة بالتشديد ونصب الحاء ، ومعناه أنه يحرق مرة بعد مرة؛ وقرأ أبو جعفر المدني { لَّنُحَرّقَنَّهُ } بنصب النون وضم الراء ، ومعناه لنبردنه بالمباريد ، ويقال : حرقه وأحرقه . { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى اليم نَسْفاً } ، يعني : لنذرينه في البحر ذرواً والنسف التذرية .
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{ إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ } ، يعني : أن العجل ليس بإلهكم وإنما إلهكم؛ الله الذي لا إله إلا هو . { وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } ، يعني : أحاط علمه بكل شيء ، وهو عالم بما كان وما يكون قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } ، يعني : أخبار ما مضى . { وَقَدْ اتيناك } ، يعني : أعطيناك { مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } ، يعني : أكرمناك من عندنا بالقرآن { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } ، يعني : من يكفر بالقرآن ، { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } ؛ يعني : حملاً من الذنوب . { خالدين فِيهِ } ، يعني : دائمين في عقوبة الوزر ، { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } ؛ يعني : بئس الحمل الوزر ، وبئس ما يحملون من الذنوب .
قوله عز وجل : { يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } ، يعني : في يوم ينفخ في الصور وهو يوم القيامة . قرأ أبو عمرو { وَيَوْمَ *** وَنُفِخَ فِى الصور } بالنون ، واحتج بقوله { وَنَحْشُرُ المجرمين } والباقون بالياء قال أبو عبيدة : وبهذا نقرأ ، لأن النافخ ملك قد التقم الصور ، وأما الحشر فالله تعالى يحشرهم . قال أبو عبيد : معناه ينفخ الأرواح في الصور وخالفه غيره . ثم قال : و { نَحْشُرُ *** المجرمين } ، أي : المشركين { يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } ، يعني : عطاشاً؛ ويقال : عمياً ، ويقال : زرق الأعين . وروي عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس : إن الله يقول في موضع { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] ، فقال ابن عباس : إن يوم القيامة له حالات : في حال زرقاً وفي حال عمياً . وقال القتبي : { زُرْقاً } أي تبيض عيونهم من العمى أي ذهب السواد والناظر ، وقال الزجاج : يقال عطاشاً ، لأن من شدة العطش يتغير سواد الأعين حتى تزرق .
ثم قال : { يتخافتون بَيْنَهُمْ } ، يعني : يتشاورون فيما بينهم . { إِن لَّبِثْتُمْ } ، يعني : ما مكثتم في القبور بعد الموت ، { إِلاَّ عَشْراً } ؛ يعني : عشرة أيام؛ ويقال : عشر ساعات . يقول الله عز وجل : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } ، يعني : أوفاهم عقلاً ويقال : أعدلهم رأياً عند أنفسهم . { إِن لَّبِثْتُمْ } ، يعني : ما مكثتم في القبور ، { إِلاَّ يَوْماً } .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } ؛ وذلك أن بني ثقيف من أهل مكة قالوا : يا رسول الله ، كيف تكون الجبال يوم القيامة فنزل { وَيَسْئَلُونَكَ } ، يعني : عن أمر الجبال . { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } ، يعني : يقلعها ربي قلعاً من أمكنتها . والنسف : التذرية أي تصيير الجبال كالهباء المنثور .
{ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } ؛ قال القتبي : القاع واحدة القيعة وهي الأرض التي يعلوها السراب كالماء ، والصفصف : المستوي؛ وقال السدي : القاع الأملس والصفصف المستوي . { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } ، يعني : لا ترى فيها صعوداً ولا هبوطاً؛ ويقال : لا ترى فيها أودية ، ولا أمتاً يعني : شخوصاً . والأمت في كلام العرب ما نشز من الأرض .
ثم قال عز وجل : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى } ، أي : يقصدون نحو الداعي . { لاَ عِوَجَ لَهُ } ، ومعناه لا يميلون يميناً ولا شمالاً ، { وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن } ؛ يعني : خضعت وذلت وسكنت الكلمات للرحمن ، يعني : لهيبة الرحمن . { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } ، يعني : كلاماً خفياً ويقال صوت الأقدام كهمس الإبل .
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } في الشفاعة ، { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } يعني : إذا قال بإخلاص القلب لا إله إلا الله في الدنيا { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الآخرة { وَمَا خَلْفَهُمْ } من أمر الدنيا ، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } ؛ أي : لا يدركون علم الله تعالى . { وَعَنَتِ الوجوه } ؛ قال قتادة : ذلَّت الوجوه { لِلْحَىّ القيوم } ؛ وقال القتبي : أصله من عنيته أي : حبسته ، ومنه قيل للأسير عان؛ وقال الزجاج : رحمه الله : عنت أي : خضعت ، يقال : عنا يعنو أي : خضع { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } ، أي : خسر من حمل شركاً .
ثم قال : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } ، يعني : من يعمل من الطاعات ومن للصِّلة والزينة . { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مع عمله ، لأن العمل لا يقبل بغير إيمان ، { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } ؛ قال قتادة : أي : لا يزداد في سيئاته ولا ينقص من حسناته أي : لا يهضم . قال السدي رحمه الله : الظلم أن يأخذ لما لم يعمل ، والهضم النقصان من حقه . قال القتبي : ومنه قيل هضيم الكشحين ، أي : ضامر الجنبين ، وهضمني الطعام أي أمرأني ويهضمني حقي . قرأ ابن كثير { فَلاَ يَخَافُ } على معنى النهي ، والباقون { فَلاَ يَخَافُ } على معنى الخبر .
ثم قال عز وجل : { وكذلك أنزلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } ، يعني : هكذا أنزلنا عليك جبريل ، ليقرأ عليك القرآن على لغة العرب ، وبينَّا في القرآن من أخبار الأمم الماضية وما أصابهم بذنوبهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعني : لكي يتقوا الشرك { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } ، يعني : يحدث الوعيد بهذا القرآن ، أو هذا القرآن لهم اعتباراً ، فيذكر به عذاب الله للأمم فيعتبروا؛ وهذا قول مقاتل ، ويقال : { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي يحدث الوعيد بذكر العذاب فيزجرهم عن المعاصي ، ويقال : { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } ، أي شرفاً ، والذكر الشرف .
ثم قال عز وجل : { فتعالى الله الملك الحق } ، يعني : ارتفع وتعظم عن الشريك والولد { الملك الحق } أهل الربوبية؛ ويقال : { فتعالى الله الملك الحق } ، يعني : ارتفع وتعظم من أن يزيد في سيئات أحد وينقص من حسنات أحد { الملك الحق } الذي يعدل بين الخلق ثم قال : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } ، وذلك أن جبريل عليه السلام كان إذا قرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يتعجل النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته قبل أن يختم جبريل تلاوته مخافة أن لا يحفظ ، فنزل : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ } أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته ، فيكون في الآية تعليم حفظ الأدب ، وهو الاستماع إلى من يتعلم منه؛ وهذا مثل قوله : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } روى جرير بن حازم عن الحسن أن رجلاً لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص قبل أن ينزل القرآن ، فنزل { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان } الآية ، أي لا تعجل بالقصاص من قبل أن يقضى عليك بالقرآن ، ونزل قوله عز وجل : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } قال : وكان الحسن يقرأ { مِن قَبْلُ إِنَّ *** يَقْضِى *** إِلَيْكَ وَحْيُهُ } بالنصب ، يعني : من قبل أن ينزل إليك جبريل بالوحي؛ وقراءة العامة { يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله ، ومعنى القراءتين واحد .
ثم قال : { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } ، يعني : زدني علماً بالقرآن ، معناه زدني فهماً في معناه .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ } ، يعني : أمرنا آدم عليه السلام بترك أكل الشجرة من قبل ، يعني : من قبل محمد صلى الله عليه وسلم . { فَنَسِىَ } ، يعني : فترك أمرنا ، { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } ؛ أي : حفظاً لما أمر به . روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : { عَهِدْنَا إلى *** مِن رَّبِّهِ **قَبْلُ فَنَسِىَ } يعني : فترك أمرنا { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } ، يعني : حزماً صريماً؛ وقال قتادة : يعني : صبراً؛ وقال السدي مثله ، وقال عطية : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } ، أي : حفظاً بما أمر به . روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : عهد إلى آدم فنسي ، فسمي الإنسان . وقال القتبي : النسيان ضد الحفظ . كقوله تعالى : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّى نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } [ الكهف : 63 ] ، والنسيان الترك . كقوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِىَ } وكقوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } وكقوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } .
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى } ، أي : تعظم عن السجود ، { فَقُلْنَا يائادم *** أَن لاَّ **هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } ؛ يعني : إبليس عدو لك ولزوجك حواء فاحذرا منه ، { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } ؛ يعني : فتتعب ويتعبا بعمل كفيك ولا تأكل إلا كداً بعد النعمة . وقال سعيد بن جبير : لما هبط آدم من الجنة وكلّف العمل ، فكان يمسح العرق عن جبينه ، فذلك قوله : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } ، وهو العرق الذي مسحه من الجبين .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ لَكَ *** أَن لا **تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى } ، يعني : أن حالك ما دمت في الجنة لا تجوع ولا تعرى من الثياب . { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا } ، يعني : لا تعطش في الجنة ، { وَلاَ تضحى } ؛ يعني : لا يصيبك الضحى؛ وهو حر الشمس . قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : { وَأَنَّكَ } بالكسر على معنى الابتداء ، وقرأ الباقون { وَأَنَّكَ } بالنصب على معنى البناء .
قوله عز وجل : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ يئَادَمُ *** ءادَمَ **هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } من أكل منها خلد ولم يمت { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } ؟ يعني : هل أدلك على ملك لا يفنى؟ فهو أكل الشجرة . { فَأَكَلاَ مِنْهَا } ، يعني : من الشجرة وقد ذكرنا تفسير الشجرة في سورة البقرة . { فَبَدَتْ لَهُمَا } ، أي : ظهرت لهما عوراتهما ، { سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } ؛ أي : عمدا يلزقان { عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة وعصى *** ءادَمَ ***** رَبَّهُ } ، أي : ترك أمره بأكله من الشجرة ، { فغوى } ؛ أي : أخطأ ولم يصب بأكله ما أراد وما وعد له من الخلود .
{ ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } ، أي : اختاره واصطفاه بالنبوة { فَتَابَ عَلَيْهِ } ، يعني : تجاوز عنه وقبل توبته ، { وهدى } ؛ يعني : هداه الله تعالى للتوبة بكلمات تلقاها . { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } ؛ يعني : من الجنة آدم وحواء وإبليس والحية { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } ؛ يعني : يا ذرية آدم سيأتيكم مني الكتب والرسل ، خاطبه به وعنى ذريته . { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ } ؛ يعني : أطاع كتبي ورسلي { فَلاَ يَضِلُّ } باتباعه إياها في الدنيا ، { وَلاَ يشقى } في الآخرة . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن واتَّبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، فذلك قوله : { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } .
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
ثم قال عز وجل : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } ، يعني : عن القرآن والرسل ولم يؤمن؛ وقال مقاتل : من أعرض عن الإيمان ، { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ؛ يعني : معيشة ضيقة . روي عن ابن مسعود ، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا : { مَعِيشَةً ضَنكاً } ؛ يقول عذاب القبر . وروى أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { مَعِيشَةً ضَنكاً } ، قال : « عَذَاب القَبْرِ » . { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } ، أي : أعمى عن الحجة . وقال ابن عباس : وذلك حين يخرج من القبر ، يخرج بصيراً؛ فإذا سيق إلى المحشر عمي . قال عكرمة رحمه الله في قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } ، قال : عمي قلبه عن كل شيء إلا جهنم؛ وقال الضحاك في قوله : { مَعِيشَةً ضَنكاً } . قال : الكسب الخبيث وقيل : معيشة سوء ، لأنه في معاصي الله؛ وقال السدي : { مَعِيشَةً ضَنكاً } ، أي : عذاب القبر حين يأتيه الملكان؛ وقال قتادة : الضنك الضيق ، يقول : ضنكاً في النار .
قوله عز وجل : { قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى } ، قال مجاهد : { لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى } لا حجة لي؟ { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } بالحجة في الدنيا ، ويقال : { لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى } أي : أعمى العينين { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } في الدنيا؟ { قَالَ كذلك أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا } يعني : الرسل والقرآن فنسيتها وتركت العمل بها ولم تؤمن بها . { وكذلك اليوم تنسى } ، أي : تترك في النار . ويقال : { كذلك أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا } ، أي : تعلمت القرآن فنسيته وتركته . وقال السدي : { وكذلك اليوم تنسى } أي : تترك في النار وتترك عن الخير . ثم قال عز وجل : { وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } يعني : هكذا نعاقب من أشرك بالله ، { وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ } ؛ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ وأبقى } ، يعني : وأدوم .
قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } ، يعني : أفلم يتبين لقومك؟ { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ فِى مساكنهم } ، يعني : يمرون على منازلهم . { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } ، يعني : في هلاكهم لعبرات { لاِوْلِى النهى } ، يعني : لعبرات لذوي العقول من الناس . { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } ؛ وهذا مقدم ومؤخر ، يقول : ولولا كلمة سبقت بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى أجل مسمى ، أي : إلى يوم القيامة ، أي : لكان لزاماً ، أي : لأخذتهم بالعذاب كما أخذت من كان قبلهم من الأمم عند التكذيب ، ولكن نؤجلهم إلى يوم القيامة { وَهُوَ *** أَجَلٍ مُّسَمًّى } . وقال القتبي : معناه ولولا أن الله عز وجل جعل الجزاء يوم القيامة وسبقت بذلك كلماته ، لكان العذاب ملازماً لا يفارقهم . وقال : في الآية تقديم ، أي : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى ، لكان العذاب لازماً .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } ، يعني : على ما يقول أهل مكة من تكذيبهم إياك . { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } ، يعني : صل لربك واعمل بحمد ربك وبأمره { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } يعني : صلاة الفجر وقبل غروبها ، يعني : صلاة العصر؛ ويقال : صلاة الظهر والعصر . وروى جرير ، عن عبد الله البجلي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ يعني : لا تزدحمون ، مأخوذ من الضم أي : لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته بظهوره كما في رواية الهلال . ويروى لا تضامون بالتخفيف وهو الضم أي : الظلم ، أي : لا يظلم بعضكم في رؤيته بأن يراه البعض دون البعض فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا عَنِ الصَّلاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا » . ثم قرأ هذه الآية { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } .
{ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } ، على معنى التأكيد للتكرار { وَمِنْ ءانَاء اليل } ، يعني : ساعات الليل . { فَسَبّحْ } ، يعني : صلاة المغرب والعشاء ، { وَأَطْرَافَ النهار } ؛ يعني : غدوة وعشية . { لَعَلَّكَ ترضى } ؛ يعني : لعلك تعطى من الشفاعة حتى ترضى . قرأ الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { ترضى } بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله ، والباقون بالنصب يعني : ترضى أنت؛ وقال أبو عبيدة : وبالقراءة الأولى نقرأ بالضم ، لأن فيها معنيين أحدهما ترضى أي : تعطى الرضا ، والأخرى ترضى أي يرضاك الله . وتصديقه قوله تعالى : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [ مريم : 55 ] ؛ وليس في الأخرى وهي القراءة بالنصب ، إلا وجه واحد .
ثم قال عز وجل : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ } ، يعني : لا تنظر بالرغبة إلى ما أعطينا رجالاً منهم من الأموال والأولاد . { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } ، يعني : فإن زينة الدنيا . { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، يعني : لنبتليهم بالمال وقلة الشكر . { وَرِزْقُ رَبّكَ } ، أي : جنة ربك { خَيْرٌ } من هذه الزينة التي في الدنيا ، { وأبقى } ؛ أي : وأدوم . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : حدّثنا محمد بن الفضل . قال : حدّثنا إسماعيل بن جعفر . قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدّثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي رافع قال : نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي أن يبيعنا أو يسلفنا إلى أجل ، فقال اليهودي : لا والله إلاَّ بِرَهْنٍ . فرجعت إليه فأخبرته فقال : « لَوْ بَاعَنِي أوْ أْسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ؛ وإنِّي لأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأمِينٌ فِي الأَرْضِ ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الحَدِيدِيِّ » فذهبت بها فنزل من بعدي هذه الآية تعزية عن الدنيا { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ } إلى آخر الآية .
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
ثم قال عز وجل : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } ، يعني : قومك وأهلك وأهل بيتك بالصلاة . { واصطبر عَلَيْهَا } ، يعني : اصبر على ما أصابك فيها من الشدة . روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل عليه نقص في الرزق ، أي : ضيق ، أمر أهله بالصلاة . ثم قرأ { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } . { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } لخلقنا ولا أن ترزق نفسك؛ إنما نسألك العبادة . { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } في الدنيا ما دمت حياً . { والعاقبة للتقوى } ، يعني : الجنة للمتقين . { وَقَالُواْ } ، يعني الكفار : { لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } ، يعني : هلا يأتينا محمد بعلامة لنبوته؟ قال الله تعالى : { أَوَ لَمْ *** تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ } ، يعني : بيان { مَا فِى الصحف الاولى } ، يعني : ما في التوراة والإنجيل حتى يجدوا نعته فيه؛ وهذا كقوله عز وجل : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } [ يونس : 94 ] . ثم قال عز وجل : { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ } ، يقول : لو أن أهل مكة أهلكناهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } ، يعني : من قبل أن نعذب .
ثم قال عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ } ، يعني : منتظر لهلاك صاحبه أنا وأنتم وقال مقاتل : كان كفار مكة يقولون نتربص بمحمد { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] ، يعني : الموت ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم العذاب ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ } ، يعني : أنتم متربصون بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت ، ومحمد متربص بكم العذاب ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ } { فَتَرَبَّصُواْ } ، أي : انتظروا ، { فَسَتَعْلَمُونَ } إذا نزل بكم العذاب ، { مَنْ أصحاب الصراط السوي } ، أي : العدل { وَمَنِ اهتدى } منا ومنكم . قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ } بالتاء ، لأن لفظ البينة مؤنث ، والباقون { أَوَلَمْ *** يَأْتِهِمْ } بالياء ، لأن معناه البيان . والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى : { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } ، يعني : قربت القيامة كقوله : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ لقمر : 1 ] ، ويقال : معناه اقترب وقت حسابهم ، ويقال : دنا للناس ما وعدوا في هذا القرآن ، { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } ، أي : في جهل وعمى من أمر آخرتهم . { مُّعْرِضُونَ } ، يعني : جاحدين مكذبين؛ وهم كفار مكة ومن كان مثل حالهم . ثم نعتهم فقال : { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } ، يعني : ما يأتيهم جبريل بالقرآن محدث؛ والمحدث إتيان جبريل بالقرآن مرة بعد مرة ، ويقال : قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرة بعد مرة { إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ، يعني : يستمعون لاعبين ، ويقال : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يعني : يهزؤون ويسخرون .
قوله عز وجل : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ، يعني : ساهية قلوبهم عن أمر الآخرة . { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } ، يعني : أخفوا تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ويتناجون فيما بينهم ، ثم بين أمرهم فقال : { الذين ظَلَمُواْ } ، معناه وأسروا النجوى يعني : الذين ظلموا ، ثم بين ما يسرون فقال : { هَلْ هذا } ، يعني : يقولون ما هذا : { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي : آدميّ مِثلكم؟ { أَفَتَأْتُونَ السحر } ، يعني : أفتصدقون الكذب؟ { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } وتعلمون أنه سحر .
{ قَالَ } محمد : { رَبّى يَعْلَمُ القول } ، يعني : السر ، فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم قولهم ، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وعلانيتهم فقال : { قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول } . { فِى السماء والارض } ، أي : يعلم سر أهل السموات وسر أهل الأرض . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { قَالَ رَبّى يَعْلَمُ } على معنى الخبر ، وقرأ الباقون على معنى الأمر . ثم قال : { وَهُوَ السميع } لمقالتهم ، { العليم } بهم وبعقوبتهم .
{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } ، يعني : أباطيل أحلام كاذبة؛ وقال أهل اللغة : لا يكون الضغث إلا من أخلاط شتى؛ فلذلك يقال أضغاث أحلام ، أي : لما فيها من التخاليط . وهو كل حلم لا يكون له تأويل ومن هذا قوله : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } ، أي : أخلاط العيدان عدد مائة ، ويقال : في الآية تقديم ومعناه بل قالوا أضغاث أحلام . { بَلِ افتراه } ، يعني : اختلقه من تلقاء نفسه . { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } ، يعني : ينقضون قولهم بعضهم ببعض ، مرة يقولون سحر ، ومرة يقولون أضغاث أحلام . { بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ } ، يعني : يقولون : فأتنا بآية أي : بعلامة كما في الرسل الأولين . فأخبر الله تعالى أنهم لم يؤمنوا ، وإن أتاهم بآية ، فقال عز وجل : { مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ } ، يعني : قبل كفار مكة . { مِن قَرْيَةٍ } من للصلة والزينة ، يعني : لم يصدق قبلهم أهل قرية للرسل ، أي : إذا جاءتهم بالآيات . { أهلكناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } ؟ يعني : أفقومك يصدقون إذا جاءتهم الآيات؟ أي : لا يؤمنون/
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
ثم قال عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } ، يعني : لم أرسل إليهم الملائكة بالرسالة وكانت الرسل من الآدميين . { فاسألوا أَهْلَ الذكر } ، يعني : أهل التوراة والإنجيل . { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي : لا تصدقون؛ وذلك أن أهل مكة قالوا : لو أراد الله تعالى أن يبعث إلينا رسولاً لأرسل ملائكة . قرأ عاصم في رواية حفص { نُوحِى } بالنون وكذلك في قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وقرأ حمزة والكسائي الأول بالياء والثاني بالنون ، والباقون كليهما بالياء وهو اختيار أبي عبيد .
{ وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } ، يعني : ما خلقنا الرسل جسداً لا يأكلون ولا يشربون ، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون ويشربون . وقال { جَسَداً } ولم يقل أجساداً ، لأن الواحد ينبىء عن الجماعة ، ويقال : معناه وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام ، لأنهم قالوا : { وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] ثم قال : { وَمَا كَانُواْ خالدين } ، يعني : في الدنيا . { ثُمَّ صدقناهم الوعد } ، يعني : العذاب للكفار والنجاة للأنبياء . عليهم السلام . { فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء } ، يعني : فأنجينا الأنبياء عليهم السلام ومن نشاء من المؤمنين ، { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } ؛ يعني : المشركين .
قوله عز وجل : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ، يعني : القرآن فيه عزكم وشرفكم ، يعني : شرف العرب . والذكر يوضع موضع الشرف ، لأن الشرف يذكر ، ويقال { ذِكْرُكُمْ } أي : فيه تذكرة لكم ما ترجون من رحمة وتخافون من عذابه كما قال : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } [ عبس : 11 ] . وقال السدي : { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } يعني : ما تُعْنون به من أمر دنياكم وآخرتكم وما بينكم؛ وقال الحسن : { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ، يعني : أمسك به عليكم دينكم وفيه بيان حلالكم وحرامكم ، ويقال : وعدكم ووعيدكم ثم قال : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن فيه عزكم وشرفكم فتؤمنون به . قوله عز وجل : { وَكَمْ قَصَمْنَا } القَصم الكسر يعني كم أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } ، يعني : أهل قرية؟ { كَانَتْ ظالمة } ، أي : كافرة ، { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } ؛ يعني : خلقنا بعد هلاكها قوماً آخرين خيراً منهم ، فسكنوا ديارهم . { فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا } ، يعني : رأوا عذابنا ، { إِذَا هُمْ *** يَرْكُضُونَ } ؛ يعني : يهربون ويعدون؛ وقال القتبي : أصل الركض تحريك الرجلين . يقال : ركضت الفرس إذا أعديته بتحريك رجليك . ومنه قوله : { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
ثم قال عز وجل : { لاَ تَرْكُضُواْ } يعني : قالت الملائكة عليهم السلام لا تهربوا وقال قتادة : هذا على وجه الاستهزاء ، وقال مقاتل : لما انهزموا قالت لهم الملائكة عليهم السلام كهيئة الاستهزاء : لا تركضوا وقال القتبي : هذا كما قال لبيد :
هَلا سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْدَة ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنَا
قال ابن عباس : إن قرية من قرى اليمن يقال لها حصور ، أرسل الله تعالى إليهم نبياً فكذبوه ثم قتلوه ، فسلط الله عز وجل عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم ، فقالت لهم الملائكة عليهم السلام حين انهزموا : لا تركضوا يعني : لا تهربوا . { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } يعني : خولتم فيه من أمر دنياكم { ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } . عن قتل نبيكم؛ ويقال : عن الإيمان . { قَالُواْ يأَبَانَا *** قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } بقتل نبينا عليه السلام ويقال : بالشرك بالله عز وجل .
قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } ، يعني : كلمة الويل قولهم . { حتى جعلناهم حَصِيداً خامدين } ، يعني : محصوداً . وقال أهل اللغة : فعيل بمعنى مفعول ، والحصيد بمعنى محصود ، ويقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ وقال السدي : الحصيد الذي قد حصد ، ويقال : كداسة الغنم بأظلافها خامدين ميتين لا يتحركون؛ وقال مجاهد رحمه الله : { خامدين } بالسيف . قوله عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق والعجائب { لاَعِبِينَ } ، أي : لغير شيء ولكن خلقناهم لأمر كائن ، ويقال : وما خلقت هذه الأشياء ، إلا ليعتبروا ويتفكروا فيها ويعلموا أن خالق هذه الأشياء أحق بالعبادة من غيره ويكون لِيَ عليهم الحجة يوم القيامة .
قوله عز وجل : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } يعني : زوجةً بلغة حضرموت ، { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } ؛ يعني : من عندنا . قال ابن عباس : اللهو الولد ، وقال الحسن وقتادة : اللهو المرأة ، وقال القتبي : التفسيران متقاربان ، لأن المرأة للرجل لهو وولده لهو كما يقال : ريحانتاه وأصل اللهو الجماع؛ فكني به بالمرأة والولد كما كني عنه باللمس . وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا ، في المسيح ما قالوا قال الله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } أي : صاحبةً وولداً ، لاتخذنا ذلك من عندنا لا من عندكم ، لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره . ثم قال : { إِن كُنَّا فاعلين } يعني : ما كنا فاعلين . ويجوز أن يكون إن كنا ممن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله .
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
ثم قال عز وجل : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق } ، يعني : بالحق { عَلَى الباطل } ، ومعناه نبيِّن الحق من الباطل . { فَيَدْمَغُهُ } ، أي : يبطله ويضمحل به . ويقال : يكسره . وقال أهل الله : أصل هذا إصابة الرأس والدماغ بالضرب وهو مقتل . { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ، يعني : هالك ، ويقال : زاهق أي : زائل ذاهب . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : في الآية دليل أن النكتة إذا قابلتها نكتة أخرى على ضدها سقط الاحتجاج بها ، لأنها لو كانت صحيحة ما عارضها غيرها ، لأن الحق لا يعارضه الباطل ولكن يغلب عليه فيدمغه . ثم قال : { وَلَكُمُ الويل } ، يعني : الشدة من العذاب وهم النصارى . { مِمَّا تَصِفُونَ } ، يعني : تقولون من الكذب على الله .
{ وَلَهُ مَن فِى السموات والارض } من الخلق . { وَمَنْ عِندَهُ } من الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، يعني : لا يتعظمون { عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } يعني لا يعيون . الحسير المنقطع الواقف إعياء . روي عن عبد الله بن الحارث أنه قال : قلت لكعب الأحبار . رضي الله عنه أرأيت قوله : { يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } . أما شغلهم رسالة ، أما شغلهم عمل؟ فقال لي : ممن أنت؟ فقلت من بني عبد المطلب . فضمني إليه ثم قال : يا ابن أخي إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لنا النفس ألست تأكل وتشرب وتذهب وتجيء وأنت تتنفس؟ كذلك جعل لهم التسبيح .
ثم قال عز وجل : { أَمِ اتخذوا الِهَةً } ؟ الميم صلة معناه أعبدوا من دون الله آلهةً ، ويقال : بل عبدوا آلهة . { مّنَ الارض } ، يعني : اتخذوها من الأرض ويقال : من الأرض يعني : في الأرض . { هُمْ يُنشِرُونَ } ، يعني : هل يحيون تلك الآلهة شيئاً ، وقرىء أيضاً { يُنشِرُونَ } بضم الياء ونصب الشين . هل يحيون أبداً لا يموتون . ثم قال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله } يعني : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله ، { لَفَسَدَتَا } ؛ يعني : لخربت السموات والأرض ولهلك أهلها ، يعني : أن التدبير لم يكن مستوياً ثم نزّه نفسه عن الشريك فقال تعالى : { فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ يعني : عما يقولون من الكذب .
قوله عز وجل : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ، يعني : عما يحكم في خلقه من المغفرة والعقوبة ، لأنه عادل ليس بجائر . { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } ، عما يفعلون بعضهم ببعض ، لأنهم يجورون ولا يعدلون ومعناه ، لا يسأل عما يفعل على وجه الاحتجاج عليه ، ولكن يسأل عن معنى الاستكشاف والبيان ، كقوله عز وجل : { قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتنى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [ طه : 125 ] . وروي عن مجاهد أنه قال : لا يسأل عن قضائه وقدره وهم يسألون عن أعمالهم ، ويقال : لا يسأل عما يفعل لأنه ليس فوقه أحد وهم يسألون ، لأنهم مملوكون .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
ثم قال عز وجل : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } الميم صلة ، يعني : أعبدوا من دونه آلهة؟ { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } ، يعني : حجتكم وكتابكم الذي فيه عذركم . { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } إلى يوم القيامة { وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } ؛ يعني : خبر من قبلي ، فلا أجد فيه أن الشرك كان مباحاً في وقت من الأوقات ويقال : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } ، يعني : القرآن وكتب الأولين . ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } يعني لا يصدقون بالقرآن ويقال بالتوحيد . { فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } ، يعني : مكذبون بالقرآن والتوحيد . ثم بين ما أمر في جميع الكتب للرسل ، فقال عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ } ، كما يوحى إليك { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ، يعني : وحدون .
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } وذلك حين قال مشركو قريش في الملائكة ما قالوا فقال الله تعالى : { سبحانه } نزه نفسه عن الولد . { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } ، يعني : بل عبيد أكرمهم الله تعالى بعبادته . { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } ، يعني : لا يقولون ولا يعملون شيئاً ما لم يأمرهم . { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } يعني : يعملون ما يأمرهم به { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الآخرة . { وَمَا خَلْفَهُمْ } من أمر الدنيا ، { وَلاَ يَشْفَعُونَ } ؛ يعني : الملائكة . { إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } يعني لمن رضي عنه بشهادة أن لا إله إلا الله . { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ، يعني : من هيبته خائفون ، لأنهم عاينوا أمر الآخرة فيخافون عاقبة الأمر .
ثم قال : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } ، يعني : من الملائكة : { إِنّى إله مّن دُونِهِ } ، يعني : من دون الله ، ولم يقل ذلك غير إبليس عدو الله . { فَذَلِكَ } ، يعني : ذلك القائل { نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظالمين } ، أي : الكافرين . قوله عز وجل : { أَوَ لَمْ *** يَرَ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : أولم يخبروا في الكتاب؟ قرأ ابن كثير : { أَلَمْ يَرَوْاْ } بغير واو والباقون { أَوَ لَمْ } بالواو ومعناهما قريب . { ءانٍ السموات والارض ***** كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } ، يعني : فرقناهما وأبنا بعضها من بعض؛ وقال مجاهد : كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت ، ففتقناهما بالمطر والنبات ، وقال القتبي : كانتا منضمتين ففتقناهما ، ففتقنا السماء بالمطر ، والأرض بالنبات وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كانت السموات واحدة والأرض واحدة ، فتفتقت السماء سبعاً ، والأرض مثلهن؛ وقال الزجاج : ذكر السموات والأرض ثم قال : { كَانَتَا رَتْقاً } ففتقناهما ، لأن السموات يعبر عنها بالسماء بلفظ الواحد ، وأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرض؛ والمعنى أن السموات كانت واحدة ففتقتها وجعلتها سبعاً ، وكذلك الأرض . وقيل : إنما فتقت السماء بالمطر والأرض بالنبات بدليل قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } ، فقال : رتقاً ولم يقل رتقين ، لأن الرتق مصدر ، والمعنى كانتا ذواتي رتق ، ودلهم بهذا على توحيده حيث قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } يعني : جعلنا الماء حياة كل شيء وهو قول مقاتل؛ وقال قتادة : خلق كل شيء حي من الماء؛ وقال أبو العالية رحمه الله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء } يعني : من النطفة . { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ؟ يعني : أفلا يصدقون بتوحيد الله بعد هذه العجائب .
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
وقوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا فِى الارض رَوَاسِىَ } ، يعني : الجبال الثقال الثوابت . { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } ، يعني : كيلا تميل؛ ويقال : كراهية أن تميل بكم . { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } ، يعني : في الأرض وفي الجبال أودية . والفجاج : جمع فج وهو كل شيء مخترق بين جبلين { سُبُلاً } يعني : طرقاً . { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ، أي لكي يعرفوا الطرق . { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } من الشياطين ويقال : محفوظاً من السقوط كيلا تسقط عليهم . { وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ } يعني : عن شمسها وقمرها ونجومها وما فيها من الأدلة والعبر معرضون ، يعني : لا يتفكرون فيها . وقرأ بعضهم : { وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ } ومعناه إن السماء بنفسها أعظم آية ، لأنها متمسكة بقدرته .
ثم قال عز وجل : { وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار } ، يعني : الظلمة والضوء . { والشمس والقمر كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ، أي في دوران يجرون . وقال قتادة : يعني : يجرون في فلك السلام ، وقال الكلبي : كل شيء يدور فهو فلك؛ وقال القتبي : الفلك القطب الذي تدور به النجوم ، وهو كوكب خفي بقرب الفرقدين وبنات نعش عليه تدور السماء فقد ذكر بلفظ النعل يسبحون ، لأنه وصف منهم الفعل كما ذكر من العقلاء . ثم قال عز وجل : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } ، يعني : في الدنيا { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن } ؛ وذلك أن أناساً من الكفار قالوا؛ إن محمداً يموت ، فنزل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } ، يعني : بالغنى والفقر والرخاء والشدة { فِتْنَةً } ، يعني : اختباراً لهم . { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } في الآخرة . قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { يَرْجِعُونَ } بالياء بلفظ المغايبة ، وقرأ الباقون { تُرْجَعُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين { يَرْجِعُونَ } بنصب الياء .
قوله عز وجل : { وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان بن حرب ، وأبي جهل بن هشام ، فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف . يقول ذلك كالمستهزىء ، فنزل قوله : { وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } ، يعني : ما يقولون لك إلا سخرية . ثم قال : { أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ } بالسوء؟ ويقال : أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون } ، يعني : جاحدون تاركون؛ وهذا كقوله عز وجل { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 45 ] قال الكلبي : وذلك حين نزل { إنى أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } [ الإسراء : 110 ] فقال أهل مكة : ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب ، فنزل : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون }
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
قوله عز وجل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } ، أي مستعجلاً بالعذاب وهو النضر بن الحارث ، وقال القتبي : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي خلقت العجلة في الإنسان؛ ويقال : إن آدم عليه السلام استعجل حين خلق ، واستعجل كفار قريش نزول العذاب ، كما استعجل آدم عليه السلام قال الله تعالى : { عَنْ ءاياتي } ؛ قال الكلبي رحمه الله : هو ما أصاب قوم نوح وقوم هود وصالح ، وكانت قريش يسافرون في البلدان فيرون آثارهم ومنازلهم ، ويقال : يعني : القتل ببدر ، ويقال : يعني : يوم القيامة . { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } بنزول العذاب .
ثم قال عز وجل : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } ؟ يعني : البعث { إِن كُنتُمْ صادقين } ؟ يعني : إن كنت صادقاً فيما تعدنا أن نبعث؟ فنزل قوله عز وجل : { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ } ، يعني : لا يصرفون ولا يرفعون . { عَن وُجُوهِهِمُ النار } ، لأن أيديهم تكون مغلولة ، { وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } في الآخرة ، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ؛ يعني : لا يمنعون عما نزل بهم من العذاب . وجوابه مضمر ، يعني : لو علموا ذلك الآن لامتنعوا من الكفر والتكذيب .
{ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً } ، يعني : الساعة تأتيهم فجأة ، { فَتَبْهَتُهُمْ } ؛ يعني : فتفجؤهم ، { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } ، أي صرفها عن أنفسهم . { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ، يعني : لا يمهلون ولا يؤجلون . قوله عز وجل : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } كما استهزأ بك قومك ، { فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } ؛ أي نزل بالذين سخروا منهم ، { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } ، يعني : العذاب الذي كانوا به يستهزئون . قوله عز وجل { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } يعني : من يحفظكم { باليل والنهار مِنَ الرحمن } يعني : من عذاب الرحمن ، معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن إلا الرحمن؟ { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ } ، يعني : عن التوحيد والقرآن . { مُّعْرِضُونَ } مكذبون تاركون . قوله عز وجل : { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ } ؛ الميم صلة يعني : ألهم آلهة . { تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } ، يعني : من عذابنا . { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } ، يعني : لا تقدر الآلهة أن تمنع نفسها من العذاب أو السوء ، إن أرادوا بها فكيف ينصرونكم؟ { وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } ، يعني : يأمنون من عذابنا ، وقال مجاهد : يعني : ولا هم منا ينصرون؛ وقال السدي : لا نصحبهم فندفع عنهم في أسفارهم؛ وقال القتبي : أي لا يجارون ، لأن المجير صاحب لمجاره .
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
ثم قال عز وجل : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء } ، يعني : أجلناهم وأمهلناهم { وَءابَاءهُمْ } من قبلهم . { حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } ، يعني : الأجل . { أَفَلاَ يَرَوْنَ } ، يعني : أفلا ينظر أهل مكة؟ { أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا } ، أي نأخذ ونفتح الأرض ننقصها . { مِنْ أَطْرَافِهَا } ؟ ما حول مكة ، أي ننقصها بمحمد صلى الله عليه وسلم من نواحيها؛ ويقال : يعني : نقبض أرواح أشراف أهل مكة ورؤسائها؛ وقال الحسن : هو ظهور المسلمين على المشركين؛ وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هو موت فقهائها وذهاب خيارها؛ وقال الكلبي : يعني : السبي والقتل والخراب . ثم قال تعالى : { أَفَهُمُ الغالبون } ؟ يعني : أن الله تعالى هو الغالب وهم المغلوبون .
ثم قال عز وجل : { قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى } ، يعني : بما نزل من القرآن . { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ، يعني : أن من يتصامم لا يسمع الدعاء إذا ما يخوَّفون . قرأ ابن عامر { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } بالتاء بلفظ المخاطبة ، ومعناه أن لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إِذا ما ينذرون ، يعني : إذا خوفوا؛ والباقون { وَلاَ يَسْمَعُ } بالياء على وجه الحكاية .
ثم أخبر عن قلة صبرهم عند العذاب فقال : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } ، يعني : من أصابتهم عقوبة من عذاب ربك ، ويقال : لئن أصابهم العذاب أي طرف من العذاب ، ويقال : أدنى شيء من عذاب ربك . { لَيَقُولُنَّ ياويلنا *** قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } ، أي ظلمنا أنفسنا بترك الطاعة لله . { وَنَضَعُ الموازين القسط } ، يعني : ميزان العدل { لِيَوْمِ القيامة } ، يعني : في يوم القيامة . قال ابن عباس : هو ميزان له كفتان ، وله لسانان يوزن به الأعمال الحسنات والسيئات ، فيجاء بالحسنات في أحسن صورة ويجاء بالسيئات في أقبح صورة . { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، يعني : لا ينقص من ثواب أعمالهم شيئاً؛ { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } ، يعني : وزن حبة { مّنْ خَرْدَلٍ } . قرأ نافع { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } بضم اللام؛ وقرأ الباقون بالنصب؛ فمن قرأ بالرفع فمعناه وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردل ، ومن قرأ بالنصب معناه وإن كان العمل مِثْقَالَ حَبَّة يصير خبر كان { أَتَيْنَا بِهَا } ، يعني : جئنا بها وأحضرناها ، وقرأ بعضهم { ءاتَيْنَا } بالمد ، يعني : جازينا بها وأعطينا بها ، وقراءة العامة بغير مد . ثم قال : { وكفى بِنَا حاسبين } ، يعني : مجازين .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان } ؛ يقول : النصرة والنجاة ، فنصر موسى وهارون وأهلك عدوهما فرعون . { وَضِيَاء } ، يعني : الذي أنزل عليهما من الحلال والحرام في الكتاب . قرأ ابن كثير { ***وَضِئَاءً } بهمزتين ، والباقون بهمزة واحدة . { وَضِيَاء وَذِكْراً } ، يعني : عظة { لّلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الكفر والفواحش والكبائر ، وقال مجاهد : الفرقان الكتاب ، وقال السدي : الفرقان والنصر والضياء النور وذكراً قال التوراة ، وقال مقاتل : الفرقان والتوراة؛ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان *** ضِيَاء **وَذِكْراً } ، يعني : أعطيناهما التوراة نوراً وعظة؛ ويروى ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان *** ضِيَاء } بغير واو وقال : اجعلوا هذه الواو عند قوله : { والذين استجابوا *** لِلَّهِ } .
ثم قال عز وجل : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } ، يعني : يعملون لربهم في غيب عنه ، والله تعالى لا يغيب عنه شيء . { وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } ، يعني : من عذاب الساعة خائفون . قوله عز وجل : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } ، يعني : هذا القرآن ذكر مبارك ، يعني : فيه السعادة والمغفرة للذنوب والنجاة لمن آمن به . { أنزلناه } لكم { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ؟ يعني : أفأنتم للقرآن مكذبون جاحدون؟ .
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } ، يعني : أكرمناه بالمغفرة من قبل النبوة؛ وقال مقاتل : من قبل موسى وهارون؛ وقال مجاهد : من قبل بلوغه؛ وقال الكلبي : يقول ألهمناه رشدَه الخير ، وهديناه قبل بلوغه؛ ويقال من قبل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن . { وَكُنَّا بِهِ عالمين } بأنه أهل للرشد ، ويقال : للنبوة ، ويقال : { وَكُنَّا بِهِ عالمين } . { إِذْ قَالَ } ، يعني : حين قال { لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل } ؟ أي التصاوير ، يعني : الأصنام ، { التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } ؛ أي عابدون؛ ويقال : التي عليها مقيمين . روى ميسرة النهدي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : { مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } .
فلما قال لهم ذلك إبراهيم ، { قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } ، يعني : فنحن نعبدها . { قَالَ } لهم إبراهيم : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ } ، يعني : في خطإ بَيِّنٍ . قال السدي : كان أبوه يصنع الأصنام ، يبعث بها مع بنيه فيبيعونها ، فبعث إبراهيم بصنم ليبيعه ، فجعل ينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه؛ وكان إخوته يبيعون ولا يبيع هو شيئاً ، وقال أنتم في ضلال مبين .
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين * قَالَ } إبراهيم بل أقول لكم حقاً وأدعوكم إلى عبادة الله تعالى . { بَلِ } هو { رَبُّكُمْ } ، أي خالقكم ورازقكم . { رَبّ * السموات والارض } ، هو ربكم { الذى فطَرَهُنَّ } ، يعني : هو الذي خلقهن . { وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين } بأن الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ هو ربكم ، قال عز وجل : { وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم } ، يعني : قال إبراهيم : والله لأكسرن أصنامكم . { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } ، يعني : بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى عيدكم .
وذلك أن القوم كانوا أرادوا أن يخرجوا إلى عيد لهم ، فقالوا لإبراهيم : اخرج معنا حتى تنظر إلى عيدنا . وكان القوم في ذلك الزمان ينظرون إلى النجوم فينظر أحدهم ويقول : إنه يصيبني كذا وكذا من الأمر . وكان ذلك معروفاً عندهم ، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يخلفوا بعدهم إلا من كان مريضاً { فَنَظَرَ *** إِبْرَاهِيمَ **نَظْرَةً فِى النجوم * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } يعني : أشتكي غداً . فأصبح من الغد معصوباً رأسه ، وخرج القوم إلى عيدهم ، ولم يتخلف أحد غيره . فلما خرج القوم ، قال إبراهيم : أما والله لأكيدن أصنامكم . فسمعه رجل منهم فحفظها عليه . فأخذ إبراهيم فأساً ويقال قَدُوماً ، جاء إلى بيت أصنامهم؛ وكانوا قد وضعوا ألوان الطعام بين أيديهم؛ فإِذا رجعوا من عيدهم ، رفعوا ذلك الطعام ويأكلون تبركاً . ودخل إبراهيم بيت الأصنام ، فرأى ذلك الطعام بين أيديهم ، فقال : أَلاَ تَأَكُلُونَ؟ فلم يجيبوه ، فقال : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ *** فَأَقْبَلَ * عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } ، يعني : جعل يضرب القوم بيده؛ وقال السدي : قطع رؤوسها كلها؛ وقال ابن عباس : كسرها كسراً؛ وقال بعضهم : نَحَتَ وجوههم؛ وقال بعضهم : قطع يد بعضهم ورجل بعضهم وأُذُنَ بعضهم ، فذلك قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } ، يعني : فتاتاً؛ ويقال كسرهم قطعاً قطعاً .
وقال أهل اللغة : كل شيء كسرته فقد جذذته؛ وقال أبو عبيد : يعني : فتاتاً ويقال : كسرهم أي استأصلهم ، ويقال : جذَّ الله دابرهم أي استأصلهم؛ وقرأ الكسائي : { جُذَاذاً } بالكسر؛ والباقون بالضم . وقُرِىءَ في الشاذ { جُذَاذاً } بالنصب ، ومعناه قريب بعضها من بعض ، وهو الكسر .
{ إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } لم يكسره وتركه على حاله ، وقال الزجاج : يحتمل الكبير في الخلقة ، ويحتمل أكبر ما عندهم في تعظيمهم . { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } ، يعني : إلى الصنم الأكبر؛ ويقال : يرجعون إلى قوله باحتجاجه عليهم لوجوب الحجة عليهم ، فجعل القدوم على عنق ذلك الصنم الأكبر . فلما رجعوا من عيدهم ، نظروا إلى آلهتهم مكسرة؛ ويقال : حين دخل إبراهيم بيت الأصنام ، كان عندهم خدم ، يعني : الوصائف ، فخرجن وقلن : إن هذا الرجل مريض ، جاء يطلب من الآلهة العافية . فلما خرج إبراهيم ودخلن ، فنظرن إلى الأصنام مقطوعة الرأس ، فخرجن إلى الناس بالويل والصياح وأخبرنهم بالقصة ، فتركوا عيدهم ودخلوا فلما رأوا ذلك ، { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } في فعله . { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } ، أي يَعيبهُمْ؛ ويقال : أخبر الرجل الذي سمع منه فقال : إني سمعت فتى يذكرهم قال : تالله لأكيدن أصنامكم . { يُقَالُ لَهُ إبراهيم } . صار إبراهيمُ رفعاً ، بمعنى يقال له هو إبراهيم؛ وقال : يحتمل يقال له إبراهيم رفع على معنى النداء المفرد .
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
قوله عز وجل : { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } ، يعني : يشهدون عليه بما يعرفون منه؛ ويقال : يشهدون عقوبتهم له . قال : فجاؤوا به إلى ملكهم النمرود بن كنعان . { قَالُواْ } ، أي قال له الملك : { قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا *** إِبْرَاهِيمَ *** قَالَ } إبراهيم؛ { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، يعني : عظيم عندكم . وإنما قال هذا على وجه الاستهزاء ، لا على وجه الجد . { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } ، يعني : إن كانوا يتكلمون ، فسألوهم من فعل هذا بكم . { فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } ، فلاموها يعني : إلى أصحابهم . { فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } ، يعني : حَيْثُ قلتم إن إبراهيم كَسَّرها .
{ ثُمَّ نُكِسُواْ على *** رُؤُوسَهُمْ } ، يعني : رجعوا إلى قولهم الأول ، وقال القتبي : أي ردوا إلى ما كانوا يعرفون من أنها لا تنطق ، فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } يا إبراهيم ، يعني : تعلم أنهم لا يتكلمون يا إبراهيم . { قَالَ } لهم إبراهيم : { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } ؟ إنْ عبدتموهم ، { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } إن تركتموهم . { أُفّ لَّكُمْ } ، يعني : قذراً لكم وسحقاً لكم وتعساً لكم؛ والاختلاف في قوله : { أُفّ } مثل ما سيق . { وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } ، يعني : أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ أن من ليس له ذهن ولا قوة ولا منفعة ولا مضرة أن لا تعبدوه .
قوله عز وجل : { قَالُواْ } ، يعني : قال ملكهم : { حَرّقُوهُ وانصروا ءالِهَتَكُمْ } ، يعني : انتقموا لآلهتكم ، { إِن كُنتُمْ فاعلين } به شيئاً ، فافعلوا فأمر النمرود أهل القرى أن يجمعوا له حطباً أياماً كثيرة ، وأمر بأن يبنى بنياناً ، فبنى حائطاً مستديراً وجمعوا الحطب ما شاء الله ، ثم أضرموا فيه النار ، فارتفعت النار حتى بلغت السماء في أعين الناظرين؛ وكانت الطير تمر بها فيصيبها حر النار ، فلا تستطيع أن تجوز فيه فتقع ميتة . فلما أرادوا أن يلقوه فيها ، لم يستطيعوا لشدة حرها ، ولم يقدر أحد أن يدنو منها ، فبطل تدبيرهم وكادوا أن يتركوه .
حتى جاء إبليس عدو الله لعنه الله فدلهم على المنجنيق؛ وهو أول منجنيق صُنِعَ وجاؤوا بإبراهيم ، فأوثقوا يديه وجعلوه في المنجنيق . وروي في الخبر : أن السموات والأرض والجبال بكوا عليه ، وبكت عليه ملائكة السموات ، وقالوا : ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك . فقال لهم : إن استغاث بكم فأغيثوه . فلما رمي في المنجنيق ، قال : حسبي الله ونعم الوكيل . فرمي به بالمنجنيق في الهواء ، فجعل يهوي نحو النار . فقال جبريل : يا رب ، عبدك إبراهيم يحرق فيك ، قال الله تعالى : إن استغاث بك فأَغِثْهُ . فأتاه جبريل وهو يهوي نحو النار ، فقال : أتطلب النجاة؟ فقال : أما منك فلا .
قال : أفلا تسأل الله أن ينجيك منها؟ فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي . فلما أخلص قلبه لله تعالى ، فعند ذلك قال الله تعالى : { قُلْنَا ياذا *** نَّارٍ *** كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم } ، يعني : سلميه من حرِّك وبردك .
قال عكرمة : بردت نار الدنيا كلها يومئذ ، فلم ينتفع بها أحد من أهلها؛ وقال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه؛ وقال قتادة : إن الخطاف كانت تطفىء النار بأجنحتها ، وكانت الوزغة تنفخها؛ وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اقْتُلُوا الوَزَغَةَ ، فَإنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَى إبْرَاهِيمَ النَّارَ » وكانت تقتلهن؛ وقال علي بن أبي طالب في قوله : { بَرْداً وسلاما } لو لم يقل وسلاماً ، لأهلكه البرد؛ وكذلك قال ابن عباس : فضمه جبريل بجناحه ووضعه على الأرض ، وضرب جناحه على الأرض ، فأظهر الماء واخضرت الأرض . فلما كان في اليوم الثالث ، خرج النمرود مع جيشه وأَشْرَفَ على موضع مرتفع لينظر إلى النار ، فرأى في وسط ذلك الموضع ماء وخضرة ، ورأى هناك شخصين والنار حواليهما ، فقال : إنا قد رمينا إنساناً واحداً ، فما لي أَرى فيها شخصين؟ فرجع متحيراً . قال الله تعالى : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } ، يعني : حرقاً ، { فجعلناهم الاخسرين } ؛ يعني : الأذلين الأسفلين ، { ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } ؛ يعني : إلى الأرض المقدسة ، فخرج إبراهيم من ذلك الموضع وقال للوط : إني أريد أن أهاجر ، فصدقه واتبعه ، فخرجا إلى بيت المقدس ، ويقال إلى الشام { التى بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والثمار للناس .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق } ، يعني : الولد . { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } ، يعني : زيادة؛ وذلك أنه سأل الله تعالى الولد ، فأعطاه الله تعالى الولد وهو إسحاق عليه السلام وولد الولد فضله على مسألته وهو يعقوب عليه السلام ويقال : نافلة أي غنيمة . { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالحين } ، يعني : أكرمناهم بالإسلام؛ وقال الكلبي : كان لوط ابن أخي إبراهيم ، فكان لوط بن هازر بن آزر وهو عم لوط؛ وقال بعضهم : كان ابن عمه ، وكانت سارة أخت لوط . ثم قال عز وجل : { وجعلناهم أَئِمَّةً } ، يعني : قادة في الخير؛ ويقال : أكرمناهم بالأمانة والنبوة . { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } ، يعني : يدعون الخلق { بِأَمْرِنَا } إلى أمرنا وإلى ديننا . { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } ، يعني : أمرناهم بالأعمال الصالحة ، ويقال : بالدعاء إلى الله تعالى ، أي قول لا إله إلا الله . { لَّيْسَ البر } ، يعني : تمام الصلاة ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } ؛ يعني : الزكاة المفروضة وصدقة التطوع . { وَكَانُواْ لَنَا عابدين } ، يعني : مطيعين .
وقوله عز وجل : { وَلُوطاً } ، يعني : واذكر لوطاً إذ { اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } ، يعني : النبوة والفهم؛ ويقال : { لُوطاً } ، يعني : وأوحينا إليهم وآتينا لوطاً حكماً وعلماً ، يعني : النبوة والفهم . { ونجيناه مِنَ القرية } ، يعني : مدينة سدوما { التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } ، يعني : اللواطة . { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين } ، يعني : عاصين . { وَأَدْخِلْنَا فِي *** رَّحْمَتِنَا } ، يعني : أكرمنا لوطاً في الدنيا بطاعتنا وفي الآخرة بالجنة . { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } ، يعني : من المرسلين .
قوله عز وجل : { وَنُوحاً } ، يعني : واذكر نوحاً { إِذْ نادى مِن قَبْلُ } ، يعني : دعا على قومه من قبل إبراهيم وإسحاق ، { فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } ؛ يعني : الغرق وتكذيب قومه . { ونصرناه مِنَ القوم } ، يعني : على القوم { الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } ، يعني : كذبوا نوحاً بما أنذرهم من الغرق ، ويقال : { ونصرناه مِنَ القوم } ، أي نجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا . { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء } ، أي كافرين ، { فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } ؛ يعني : الصغير والكبير فلم يبق منهم أحد إلا هلك بالطوفان ، قال عز وجل { وَدَاوُودَ وسليمان } ، يعني : واذكر داود وسليمان ، { إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين } ؛ وذلك أن غنماً لقوم وقعت في زرع رجل ، فأفسدته . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن غنم قوم وقعت في كرم قوم ليلاً حين خرج عناقيده ، فأفسدته؛ فاختصموا إلى داود بن أيشا عليه السلام فقوَّم داود الكرم والغنم ، فكانت القيمتان سواء ، يعني : قيمة الغنم وقيمة ما أفسدت من الكرم؛ فدفع الغنم إلى صاحب الكرم . فخرجوا من عنده ، فمروا بسليمان عليه السلام فقال : بمَ قضى بينكم الملك؟ فأخبروه فقال : نِعْمَ ما قضى به ، وغير هذا أرفق للفريقين جميعاً .
فرجع أصحاب الكرم والغنم إلى داود ، فأخبروه بما قال سليمان؛ فأرسل داود إلى سليمان فقال : كيف رأيت قضائي بين هؤلاء؟ فإني لم أقض بالوحي ، إنما قضيت بالرأي . فقال : نِعْمَ ما قضيت . فقال : عزمت عليك أي أنشدك بحق النبوة وبحق الوالد على ولده إلا أخبرتني . فقال سليمان : غير هذا كان أرفق بالفريقين . فقال : وما هو؟ قال سليمان : يأخذ أهل الكرم الغنم ، ينتفعون بألبانها وسمنها وصوفها ونسلها؛ ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم ، حتى إذا عاد الكرم كما كان ، ردوه . فقال داود : نِعْمَ ما قضيت به . فقضى داود بينهم بذلك .
وقال بعضهم : كان ذلك القضاء نافذاً فلم ينقض ذلك . وكان سليمان في ذلك اليوم ابن إحدى عشرة سنة فذلك قوله : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم } يعني : دخلت فيه غنم القوم ، ويقال : نفشت أي دخلت فيه بالليل من غير حافظ لها؛ وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهري رحمهم الله قال : النفش لا يكون إلا ليلاً ، والهمل بالنهار؛ وروى قتادة ، عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل الحواك ، فاختصموا إلى شريح رحمه الله فقال شريح : انظروا أوقعت ليلاً أو نهاراً . فإن كان بالليل يضمن ، وإن كان بالنهار لا يضمن ، ثم قرأ شريح : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم } وقال : النفش بالليل والهمل بالنهار ، وكلاهما الرعي بلا راع .
وروى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حَائِطاً لقوم فأفسدته ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الأموال على أهلها بالنهار ، وعلى أهل الماشية ما أصابت الماشية بالليل . وبهذا الخبر أخذ أهل المدينة ، وقال أهل العراق : لا يضمن ليلاً كان أو نهاراً ، إلا أن يتعمد صاحبها فيرسلها فيه ، وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « جُرْحُ العَجْماءِ جُبَارٌ » . { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين } ، يعني : عالمين .
قوله عز وجل : { ففهمناها سليمان } ، يعني : ألهمناها سليمان . { وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ، يعني : النبوة والفهم بالحكم . وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : لولا هذه الآية ، لم يجرؤ أحد منا أن يفتي في الحوادث . ثم قال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ * دَاوُودُ ****الجبال يُسَبّحْنَ والطير } ، يعني : كلما سبح داود ، يسبح معه الجبال والطير ، يعني : سخرنا الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح؛ وقال : كان داود يمر بالجبال صبحاً ، وهي تجاوبه وكذلك الطير؛ وقال قتادة : { يُسَبّحْنَ } أي يصلين معه إذا صلى ، يعني : كل ما سبح داود تسبح معه الجبال والطير ، يعني : سخرنا الطير والجبال يسبحن معه . { وَكُنَّا فاعلين } ، يعني : نحن فعلنا ذلك بهما .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
قوله عز وجل : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } ، يعني : دروع الحديد؛ وذلك أن داود خرج يوماً متنكراً ، ليسأل عن سيرته في مملكته ، فقال جبريل : نِعْمَ الرجل هو ، لولا أن فيه خصلة واحدة . قال : وما هي؟ قال : بلغني أنه يأكل من بيت المال ، وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يده . فرجع داود عليه السلام وسأل الله عز وجل أن يجعل رزقه من كدّ يديه ، فألان له الحديد ، وكان يتخذ منها الدروع ويبيعها ويأكل من ذلك؛ فذلك قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ } يعني : ألهمناه ، ويقال : { علمناه } بالوحي صنعة اللبوس لكم . { لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ } ، يعني : يمنعكم قتال عدوكم . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالتاء { لِتُحْصِنَكُمْ } ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { ***لنحصنكم } بالنون بدليل قوله وعلمناه وقرأ الباقون بالياء للفظ التذكير يعني : ليحصنكم الله عز وجل ، ويقال : يعني : اللبوس ، ومن قرأ بالتاء فهو كناية عن الصنعة ، واختار أبو عبيد بالتاء { لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ } ، لأن اللبوس أقرب إليه ثم قال : { فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون } . اللفظ لفظ الاستفهام ، يعني : اشكروا وارث هذه النعم ووحدوه .
قوله عز وجل : { ولسليمان الريح } ؛ قرأ عبد الرحمن { الريح } بضم الحاء على معنى الابتداء ، وقراءة العامة { الريح } بالنصب ، ومعناه وسخرنا لسليمان الريح { عَاصِفَةً } ، يعني : قاصفة شديدة ، وقال في موضع آخر { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] يعني : لينة ، فإنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } ، يعني : تسير بأمر الله عز وجل ، ويقال : بأمر سليمان . { إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والشجر { وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين } ، يعني : من أمر سليمان وغيره .
قوله عز وجل : { وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ } ، يعني : سخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر ، { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } من البنيان وغيره ، { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } من أن يهيجوا أحداً في زمانه ، ويقال : يحفظهم أن لا يفسدوا ما عملوا ، ويقال : { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } ليطيعوا سليمان ولا يعصوه .
قوله عز وجل : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ } ، يعني : اذكر أيوب عليه السلام روي في الخبر أن أيوب كان بمنزلة الملك ، وهو أيوب بن مرضي النبي عليه السلام وكانت له أموال من صنوف مختلفة ، وكانت له ضياع كثيرة ، وكان له ثلاثمائة زوج ثيران ، وغلمان يعملون له في ضياعه ، وأموال السوائم من الغنم والإبل والبقر ، وكان متعبداً ناسكاً منفقاً متصدقاً ، فحسده إبليس عدو الله وقال : إن هذا يذهب بالدنيا والآخرة . وأراد أن يفسد عليه إحدى الدارين أو كلتيهما ، فسأل الله تعالى وقال : إن عبدك أيوب يعبدك ، لأنك أعطيته السعة في الدنيا ، ولولا ذلك لم يعبدك قال الله تعالى : إني أعلم منه أنه يعبدني ويشكرني ، وإن لم يكن له سعة في الدنيا .
فقال : يا رب سلطني عليه . فسلطه على كل شيء منه إلا على روحه .
وجاء إبليس إلى غنمه كهيئة النار ، وضرب عليها فأهلك جميع غنمه ، فجاءت رعاته فأخبروه بالقصة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وقال : هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ، وهو أحق به . ويقال : إنه أحرق غنمه ورعاته ، فجاء إبليس على هيئة راع من رعاته فأخبره بذلك ، فقال له أيوب : لو كان فيك خير لهلكت مع أصحابك . ثم جاء إلى إبله وبقره ففعل مثل ذلك ، ثم جاء إلى زرعه كهيئة النار فأفسد جميع زرعه ، فأخبر بذلك ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، وقال : هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ، وهو أحق به .
وكان له سبعة بنين وثلاث بنات؛ ويقال : سبعة بنين وسبع بنات في بيت ، فجاء إبليس عليه اللعنة فهدم البيت عليهم فماتوا كلهم ، فذكر ذلك لأيوب فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه على ذلك ، ولم يجزع وقال : هو الذي أعطى ثم أخذ . ثم جاء إلى أيوب وهو في الصلاة ، فلما سجد نفخ في أنفه وفمه نفخة ، فانتفخ أيوب عليه السلام وخرجت به قروح ، وجعل تسيل منها الصديد ، وتفرق عنه أقرباؤه وأصدقاؤه ، ولم يبق معه إلا امرأته .
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان اسم امرأته ماحين بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب ، ويقال : كان اسمها رحمة . فتأذى به جيرانه ، وقالوا لامرأته : احمليه من هاهنا ، فإنا نتأذى به . فحملته حتى أخرجته إلى كناسة قوم ، ووضعته عليها ، وجعلت تدخل على الناس وتخدمهم ، وتأخذ شيئاً وتنفقه عليه . فكان ذلك البلاء ما شاء الله ، فجاء إبليس في صورة طبيب ، وقال للمرأة : إن أردت أن يبرأ من علته ، فمريه يشرب الخمر ، ويتكلم بكلمة الكفر . فأخبرته المرأة بذلك ، فقال لها : ذلك إبليس الذي أمرك بهذا ، فألحَّت عليه ، فغضب وقال : والله لئن برئت ، لأضربنك مائة سوط . فقالت : متى تبرأ؟ فقال عند ذلك : ربِّ { أَنّى مَسَّنِىَ الضر } .
ويقال : إنه اشتهى شيئاً يتخذ بالسمن ، فدخلت امرأته على امرأة غني من الأغنياء وسألتها ذلك ، فأبت عليها؛ ثم نظرت إلى ذوائبها ، فرأت ذوائبها مثل الحبل ، فقالت : لئن دفعت إليّ ذوائبك ، دفعت إليك ما تطلبين مني . فدفعت بالمقراض وقطعت ذوائبها ودفعتها إليها ، وأخذت منها ما سألت ، وجاءت به إلى أيوب فقال لها : من أين لك هذا؟ فأخبرته بالقصة ، فبكى أيوب عند ذلك ، وقال : رَبِّ { أَنّى مَسَّنِىَ الضر } .
قال بعضهم : مكث أيوب في بلائه سبع سنين ، وقال بعضهم : عشر سنين ، وروى بعضهم ، عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إنَّ أيُّوبَ نَبِيَّ الله لَبِثَ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً ، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ ، إلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إخْوَانِهِ كَانا يَعُودَانِهِ وَيَغْدُوانِ إلَيْهِ وَيَرُوحَانِ ، فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : وَالله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْباً مَا أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ . فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : وما ذلك؟ قالَ لَهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله تَعَالَى ، فَيَكْشِف ما بِهِ . ثُمَّ رَاحَا إلَيْهِ فَلَمْ يَصْبِرَا ، حَتَّى ذَكَرا ذلكَ لَهُ ، فَعِنْدَ ذلكَ قالَ : ربِّ { مَسَّنِىَ الضر } » . قال : فلما كان ذات يوم ، خرجت امرأته ، فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام في مكانه أن { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] فشرب واغتسل ، فأذهب الله عز وجل ما به من البلاء ، فقال أيوب : كان الركض برجلي أشد علي من البلاء الذي كنت فيه . قال ابن عباس : لما قال الله تعالى له : { اركض بِرِجْلِكَ } ففعل ، فانفجرت عين اغتسل منها فصح جسده . ثم قيل له : اركض برجلك ففعل ، فخرجت عين فشرب منها ، فالتأم ما في جوفه . فلما رجعت إليه المرأة ، لم تعرفه ، فقالت له : بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله المبتلى؟ فوالله ما رأيت أحداً أشبه به منك إذ كان صحيحاً . قال : فإني أيوب . قال : وكان له آنذاك أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين : إحداهما على أندر القمح فأفرغت الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأُخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض؛ ذلك قوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر } ، أصابني البلاء والشدة { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } فعرض ولم يفصل بالدعاء .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قال الله تعالى : { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ } ، يعني : رفعنا ما به من شدة { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا } ؛ قال مقاتل : ولدت امرأة أيوب منه سبعة بنين وثلاث بنات قبل البلاء ، فأحياهم الله تعالى؛ ثم ولدت بعد كشف البلاء سبعة بنين وثلاث بنات ، فذلك قوله : { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } . وقال الكلبي : ولدت سبعة بنين وسبع بنات ، فنشروا له ، وولدت امرأته مثلهم سبعة بنين وسبع بنات؛ ويقال : آتاه الله عز وجل أهله في الدنيا ، ومثلهم معهم في الآخرة . وروى وكيع ، عن ابن سفيان ، عن الضحاك : أن ابن مسعود بلغه أن مروان بن الحكم قال : { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا } أي أهلاً غير أهله . فقال ابن مسعود : لا بل أهله بأعيانهم ومثلهم معهم .
ثم قال : { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } ، يعني : نعمة منا . { وذكرى للعابدين } ؛ يعني : عظة للمطيعين؛ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا به ، لأن أيوب عليه السلام لم يفتر عن عبادة ربه عز وجل في بلائه . ثم قال تعالى : { وإسماعيل وَإِدْرِيسَ } ، يعني : واذكر إسماعيل ، وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وإدريس وهو جد أبي نوح . { وَذَا الكفل } . قال بعضهم : كان ذو الكفل نبياً؛ وقال مجاهد : ذو الكفل لم يكن نبياً ، وكان رجلاً صالحاً ، تكفل لبني قومه أن يكفيه أمر قومه ، ويقضي بينهم بالعدل؛ ولذلك سمي ذا الكفل؛ ويقال : إنما ذكره مع الأنبياء عليهم السلام لأنه عمل عمل الأنبياء؛ وقال قتادة : كفل عن رجل صلاته ، كان يصلي كل يوم ألف ركعة ، فكفل عنه فكان يصلي بعد موته؛ فسمي ذا الكفل؛ ويقال : إنه كفل مائة نبي ، وأنجاهم من القتل ، وضمهم إلى نفسه ، فسمي ذا الكفل . { كُلٌّ مّنَ الصابرين } ، يعني : صبروا على طاعة الله عز وجل وعلى ما أصابهم من الشدة في الله تعالى : { وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا } ، يعني : أكرمناهم بالنبوة ، ويقال : أدْخلناهم في الجنةِ { إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين } ، يعني : المطيعين لله تعالى .
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وَذَا النُّونِ } ، يعني : واذكر ذا النون ، يعني : ذا السمكة؛ وهو يونس بن متى عليه السلام ، يعني : واذكر ذا النون ، يعني : ذا السمكة؛ وهو يونس بن متى عليه السلام { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } ، يعني : مصارعاً من قومه؛ ويقال : كان ضيق الصدر سريع الغضب؛ وذلك أنه لما دعا قومه إلى الله تعالى ، كذبوه فأخبرهم بأن العذاب نازل بهم ، فأتاهم العذاب؛ فأخلصوا لله تعالى بالدعاء ، فصرف عنهم . وكان يونس اعتزلهم ينتظر هلاكهم ، فسأل بعض من مر عليه من أهل تلك المدينة ، فلما علم أنهم لم يهلكوا ، أنف أن يرجع إليهم مخافة أن ينسب إلى الكذب وَيُعَيَّرَ به؛ و { ذَّهَبَ مغاضبا } ، يعني : أنفاً . قال القتبي : غضب وأنف بمعنى واحد لقربهما .
وقال بعضهم : إنما غضب على الملك؛ وذلك أن ملكاً من الملوك ، يقال له ابن تغلب ، غزا بني إسرائيل ونزل أيام عافيتهم ، أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ، يسمَّى شعياء أن ائت حَزْقِيا الملك ، ومره ليبعث نبياً قوياً أميناً . وكان في ملكه خمسة من الأنبياء ، فجاء شعياء إلى حزقيا وأخبره بذلك ، فدعا الملك يونس بن متى ، وأمره بأن يخرج ، فأبى أن يخرج وقال : إن في بني إسرائيل أنبياء أقوياء غيري ، فعزم عليه الملك ، فخرج وهو كاره ، فغضب على الملك .
فوجد قوماً قد شحنوا سفينتهم ، فقال لهم : أتحملونني معكم؟ فعرفوه فحملوه . فلما شحنت السفينة بهم وأسرعت في البحر ، انكفأت وغرقت بهم ، فقال ملاحوها : يا هؤلاء ، إن فيكم رجلاً عاصياً ، وإن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيكم رجل عاصٍ ، فاقترعوا فخرج بينهم يونس عليه السلام فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله . ثم أعادوا الثانية والثالثة ، فخرج سهم يونس ، فقال : يا هؤلاء ، أنا والله العاصي . قال : فتلفف في كسائه وقام على رأس السفينة ، فرمى بنفسه فابتلعته السمكة؛ فذلك قوله تعالى : { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } يعني : لن يقدر عليه العقوبة ، ويقال : إن ذنبه لم يبلغ الذي نقدر عليه العقوبة؛ ويقال : ظن أنا لن نضيق عليه الحبس ، كقوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربى أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] أي ضيق . وقرأ بعضهم : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بالتشديد ، فهو من التقدير ، وقراءة العامة بالتخفيف . { فنادى فِى الظلمات } ، يعني : في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت : { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } ، أي ليس أحد له سجن كسجنك . { سبحانك } إني تبت إليك . { إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } لنفسي .
قال الله تعالى : { فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم } ، يعني : غم الماء في بطن الحوت ، ويقال : من غم الذنب وقد بقي في بطن الحوت أربعين يوماً ، ويقال : أقل من ذلك .
ثم قال : { وكذلك نُنجِى المؤمنين } . قرأ عاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر في إحدى الروايتين { ***نُجِّي } بنون واحدة وتشديد الجيم؛ وقال الزجاج : هو لحن ، لأن فعل ما لم يسم فاعله ، لا يكون بغير فاعل؛ وإنما كتب في المصحف بنون واحدة ، لأن الثانية تخفى مع الجيم؛ وقال أبو عبيدة : والذي عندنا أنه ليس بلحن ، وله مخرجان في العربية : أحدهما أنه يريد { ثُمَّ نُنَجّى } مشددة كقوله : ونجيناه من الغم ، ثم يدغم النون الثانية في الجيم؛ والآخر معناه نجِّي نجاة المؤمنين . قال : هذه القراءة أحب إلي ، لأن المصاحف كلها كتبت بنون واحدة ، وهكذا رأيت في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وقرأ الباقون { نُنجِى المؤمنين } بنونين .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّا } يعني : واذكروا زكريا { إِذْ نادى رَبَّهُ } ، يعني : إذ دعا ربه : { رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } ، يعني : وحيداً لا وارث لي . { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } ، يعني : أفضل الوارثين . قال الله تعالى : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } ، يعني : رحم امرأته وكانت عقيماً لم تلد قط ، سيئة الخلق ، فأصلحها الله تعالى . { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات } ، يعني : يبادرون في الطاعات ، وهو زكريا وامرأته ويحيى عليهم السلام ويقال : الأنبياء الذين سبق ذكرهم . { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } ، يعني : رغبة فيما عند الله من الثواب والجنة ، ورهباً أي فرقاً من عذاب الله تعالى . { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } ، يعني : مطيعين ، ويقال : متواضعين .
قوله عز وجل : { والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } ، يعني : واذكر مريم التي حفظت نفسها من الفواحش . { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } ، يعني : نفخ جبريل في نفسها بأمرنا { وجعلناها وابنها ءايَةً } يعني عبرة { للعالمين } أي : لجميع الخلق ويقال آية ، ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد الآية فيهما بمعنى واحد بغير أب .
قوله عز وجل : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ، يعني : دينكم دين الإسلام ديناً واحداً ، قرأ بعضهم : { أُمَّةً وَاحِدَةً } بالضم ومعناه إن هذه أمتكم وقد تم الكلام ، ثم يقول : { أُمَّةٍ } ، يعني : هذه أمة واحدة؛ وقرأ العامة بالنصب على معنى التفسير ثم قال : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون } ، يعني : فوحدوني .
ثم قال : { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } يعني : عرفوا فيما بينهم وهم اليهود والنصارى . { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } في الآخرة ، فهذا تهديد للذين تفرقوا في الدين . ثم بيَّن ثواب الذين ثبتوا على الإسلام ، فقال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } ، يعني : الطاعات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، يعني : مصدق بتوحيد الله عز وجل ، { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ، يعني : لا يُجحد ولا يُنسى ثواب عمله . والكفران مصدر مثل الشكران والغفران . { وَإِنَّا لَهُ كاتبون } ، يعني : حافظين مجازين .
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
قوله عز وجل : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ } ، يعني : على قرية فيما مضى { أهلكناها } بالعذاب في الدنيا ، { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الدنيا ، قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وَحَرَّمَ } ، الباقون { وَحَرَامٌ } بنصب الحاء والألف . وَحُرْمٌ وَحَرَامٌ بمعنى واحد ، كقوله : حلّ وحلال ، وروي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وَحَرَّمَ } وقال : واجب عليهم أن لا يرجع منهم راجع ، ويقال معناه وحرام على أهل قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل ، لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون؛ ويقال : { لاَ يَرْجِعُونَ } لا : زيادة ومعناه حرام عليهم أن يرجعوا .
ثم قال تعالى : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } ، قرأ ابن عامر { فُتِحَتْ } بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير؛ وقرأ الباقون بالتخفيف؛ وقرأ عاصم { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } بالهمز والباقون بغير همز . { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } ، قال مقاتل : يعني : من كل مكان يخرجون ، من كل جبل أو أرض أو واد ، وخروجهم عند قيام الساعة؛ وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : لا يموت واحد منهم إلا ترك من صلبه ألف ذرية فصاعداً . وروى قتادة ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنه قال : الإنس عشرة أجزاء منهم يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء ، وجزء واحد سائر الإنس .
وروى سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزبعرى ، عن عبد الله بن مسعود قال : يَخْرُجُ يَأْجُوجُ ومأجوج بعد الدجال ، يموجون في الأرض فيفسدون فيها ، ثم قرأ { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } ، أي يخرجون فيبعث الله تعالى عليهم دابة مثل هذا النغف ، فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون ، فتنتن الأرض؛ فيرسل الله تعالى ماء فيطهر منهم ، فذلك قوله عز وجل : { إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } ، يعني : أرسلت كقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السمآء والارض ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 96 ] ، يعني : أرسلنا { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ } ، أي من كل أكمة ونشرة من الأرض يخرجون ، وقال بعضهم : يكون خروجهم قبل الدجال . والأصح ما روي عن عبد الله بن مسعود .
قوله تعالى : { واقترب الوعد الحق } ، يعني : قيام الساعة . { فَإِذَا هِىَ شاخصة } ، أي فاتحة { أبصار الذين كَفَرُواْ ياويلنا } ، يعني : يقولون : يَا وَيْلَنَا { ياويلنا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ } ؛ يعني : في جهل { مّنْ هذا } اليوم . ثم ذكروا أن المرسلين كانوا أخبروهم ، فقالوا : { بَلْ كُنَّا ظالمين } ، يعني : قد أخبرونا فكذبناهم .
قوله عز وجل : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } ؛ وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ حطب جهنم ، وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ حضب جهنم ، بالضاد ، وقراءة العامة { حَصَبُ } بالصاد ، يعني : رمياً في جهنم .
وكل ما يرمى في جهنم فهو حصب ، ويقال : حصب هو الحطب بلسان الزنجية . ومن قرأ : حطب ، أي كل ما يوقد به جهنم ، ومن قرأ حضب ، بالضاد معناه ما يهيج به النار . { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، أي داخلون .
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قريشاً وهم في المسجد مجتمعون ، وثلاثمائة وستون صنماً مصفوفة ، وصنم كل قوم بحيالهم؛ فقال : « { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني : من هذه الأصنام ، فِي النَّارِ » . ثم انصرف عنهم ، فشق ذلك عليهم مشقة عظيمة شديدة . وأتاهم عبد الله بن الزبعرى ، وكان شاعراً ، فقال : ما لي أراكم بحال لم أركم عليها قبل؟ فقالوا : إن محمداً يزعم أنا وما نعبد في النار . فقال : لو كنت هاهنا لخصمته . فقالوا : هل لك أن نرسل إليه؟ فقال : نعم . فبعثوا إليه ، فأتاهم ، فقال له ابن الزبعرى : أرأيت ما قلت لقومك آنفاً ، أخاص لهم أم عام؟ فقال : بل عام ، كل من عبد من دون الله فهو وما يعبد في النار . قال : أرأيت عيسى ابن مريم عليه السلام هذه النصارى تعبده ، فعيسى والنصارى في النار؟ وهذا عزير تعبده اليهود ، فعزير واليهود في النار؟ وهذا حي يقال لهم بنو مليح يعبدون الملائكة ، فالملائكة وهم في النار؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم ، فضج أصحابه وضحكوا فنزل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } ، ونزل في عيسى وعزير والملائكة { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] .
يقال إن هذه القصة لا تصح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب ، وأنطقهم لساناً ، وأحضرهم جواباً كما وصف نفسه : « أنَا أفْصَحُ العَرَبِ » فلا يجوز أن يسكت على مثل هذا السؤال ، ولم يكن السؤال لازماً؛ ويقال : كان سكوته الاستخفاف ، لأنه سئل سؤالاً محالاً ، لأنه قال : إنكم وما تعبدون من دون الله ، ولم يقل ومن تعبدون . وما لا يقع على النواطق ، ومن تقع على النواطق؛ ويقال : هذا القول يقال لهم يوم القيامة ، لأنه قال : { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالمين } . يقال لهم عند ذلك : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، فإن قيل : ما الحكمة في إدخال الأصنام في النار؟ قيل : زيادة عقوبة للكفار ، لأن الأصنام أحجار ، فيكون الحر فيها أشد؛ ويقال : الفائدة في إدخال المعبود النار زيادة ذل وإصغار عليهم ، حيث رأوا معبودهم في النار معهم من غير أن يكون للأصنام عقوبة ، لأنه لا يجوز التعذيب بذنب غيرهم . ثم قال تعالى : { لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً } ، يعني : الأصنام { مَّا وَرَدُوهَا } ، أي ما دخلوها ومنعوا أنفسهم من النار . { وَكُلٌّ فِيهَا خالدون } ، يعني : العابد والمعبود .
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } ، يعني : في النار صوتهم مثل نهيق الحمار . { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } ، يعني : عيسى وعزيراً في الجنة لا يسمعون زفيرهم؛ ويقال : يعني : أن أهل النار لا يسمعون في النار الصوت ، وذلك حين يقال لهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } ، فصاروا صماً بكماً عمياً ثم قال عز وجل : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } ، يعني : الذين وجبت لهم منا الجنة ، يعني : عيسى وعزيراً . { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ، يعني : منجون من النار .
قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } ، يعني : صوت جهنم { وَهُمْ *** فِيمَا *** اشتهت أَنفُسُهُمْ } ، يعني : لهم ما تمنت أنفسهم في الجنة . { خالدون } ، يعني : دائمين . { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر } ؛ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني : النفخة الأخيرة دليل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] ، وقال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار؛ وقال مقاتل : إذا ذبح الموت بين الجنة والنار ، فيأمن أهل الجنة من الموت ويفزع أهل النار ، فيفزعون حين أيسوا من الموت؛ وقال الكلبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك : إنه حين وضع الطبق على النار بعد ما أخرج منها من أخرج ، فيفزعوا لذلك فزعاً لم يفزعوا لشيء قط؛ وذلك الفزع الأكبر . وقال مقاتل ، وابن شريح : حين يذبح الموت على هيئة كبش أملح على الأعراف ، والفريقان ينظرون فينادى : يا أهل الجنة ، خلود لا موت؛ ويا أهل النار ، خلود لا موت . وقال ذو النون المصري : هو القطيعة والفراق؛ ويقال : إنه الموت ، لأن أول هول يراه الإنسان من أمر الآخرة هو الموت؛ ويقال : الفزع الأكبر عند قوله : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] ويقال : هذا حين دعوا إلى الحساب؛ ويقال : عند الصراط .
ثم قال تعالى : { وتتلقاهم الملئكة } ، يعني : يوم القيامة لأهل الجنة . قال مقاتل : يعني الملائكة الذين كتبوا أعمال بني آدم ، حين خرجوا من قبورهم فيقولون للمؤمنين : { هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الجنة؛ وقال الكلبي : تتلقاهم الملائكة عند باب الجنة ويبشرونهم بذلك ، ويقولون : { هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا .
قوله عز وجل : { يَوْمَ نَطْوِى السماء } ، يعني : واذكر يوم نطوي السماء ، { كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ } . قال السدي : السجل ملك موكل بالصحف؛ فإذا مات الإنسان ، دفع كتابه إلى السجل فطواه؛ ويقال : السجل الصحيفة ، ويقال : السجل الكاتب .
وروى أبو الجوزاء ، عن ابن عباس قال : السجل كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله تعالى أنه يطوي السماء يوم القيامة ، كما يطوي السجل الكتاب . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { لِلْكُتُبِ } بلفظ الجماعة؛ وقرأ الباقون : { للكتاب } بلفظ الواحد ، وقرأ أبو حفص المدني { فِى السماء } بالتاء والضم على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقراءة العامة { نَطْوِى السماء } بالنون؛ وقرأ بعضهم : السجل بجزم الجيم والتخفيف ، وقراءة العامة بالتشديد وبكسر الجيم .