كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
ثم قال تعالى { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى } من الوجد بإسماعيل ، وهاجر ، والحب لهما ، { وَمَا نُعْلِنُ } عند سارة من الصبر عنهما { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء } يعني : لا يذهب على الله شيء { فِي الارض وَلاَ فِى السماء } يعني : من عمل أهل السماء وأهل الأرض . قال بعضهم : هذا كلام إبراهيم . وقال بعضهم : هذا كلام الله تعالى والله أعلم بالصواب .
ثم رجع إلى كلام إبراهيم فقال : { الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر } يعني : بعد الكبر ، وهو ابن تسع وتسعين سنة في رواية الكلبي ، وفي رواية الضحاك : ابن مائة وعشرين سنة . { إسماعيل وإسحاق } وكان إسماعيل أكبرهما بثلاث عشرة سنة { إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء } يعني : لمجيب الدعاء .
قوله تعالى : { رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة } يعني : أكرمني بإتمام الصلاة { وَمِن ذُرّيَتِى } يعني : فأكرمهم أيضاً لإتمام الصلاة { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } أي : استجب دعائي . ويقال : معناه تقبل عملي . واستجب دعائي { رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ } قرأ بعضهم : { ***ولوالدتي } . لأن أمه كانت مسلمة . وقرأ بعضهم : { ***ولوَلَدَيّ } يعني : إسماعيل وإسحاق ، وقراءة العامة { لِى وَلِوَالِدَىَّ } لأنه كان يستغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } يعني : اغفر لجميع المؤمنين { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } يعني : يوم القيامة .
قوله تعالى { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } قرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } بنصب السين . وقرأ الباقون : بالكسر ، ومعناهما واحد . يعني : لا تظن يا محمد أن الله غافل عما يعمل الظالمون . يعني : المشركون . يعني : إن أعمالهم لا تخفى على الله ، ولو شئت لعجلت عقوبتهم في الدنيا . قال ميمون بن مهران إن هذه الآية تعزية للمظلوم ، ووعيد الظالم { إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ } يعني : يمهلهم ، ويؤجلهم . قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { ***نُؤخِرهُمْ } بالنون وقرأ الباقون : بالياء . { يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } يعني : تذهب فيه أبصار الكافرين . وذلك حين عاينوا النار تشخص أبصارهم .
قوله { مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين يقال : أهطع البعير في السير . إذا أسرع . ويقال : { مُهْطِعِينَ } أي ناظرين ، قاصدين نحو الداعي . وقال قتادة : يعني : مسرعين { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } المقنع الذي يرفع رأسه ، شاخصاً بصره ، لا يطرق . وقال مجاهد : { مُهْطِعِينَ } مديمي النظر ، { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } ، رافعيها . وقال الخليل بن أحمد : المهطع الذي قد أقبل إلى الشيء ينظره ، ولا يرفع عينه عنه { مُقْنِعِى } يعني : رافعي رؤوسهم ، مادي أعناقهم { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } يعني : لا يرجع إلى الكفار بصرهم { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } يعني : خالية من كل خير . كالهواء ما بين السماء والأرض . وقال السدي : { وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ } بين موضعها ، وبين الحنجرة .
فلم ترجع إلى موضعها . ولم تخرج كقوله : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] وهكذا قال مقاتل ، وقال أبو عبيدة ، هواء أي مجوفة لا عقول فيها .
ثم قال : { وَأَنذِرِ الناس } يعني : خوف أهل مكة { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } في الآخرة .
قوله تعالى : { فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ } يعني : أشركوا { رَبَّنَا أَخّرْنَا } أي : أجلنا { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } لنرجع إلى الدنيا { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } يعني : الإسلام { وَنَتَّبِعِ الرسل } على دينهم . يقول الله تعالى : { أَوَ لَمْ *** تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ } يقول : حلَفْتُم ، وأنتم في الدنيا من قبل هذا اليوم { مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي : لا تزولون عن الدنيا ، ولا تبعثون .
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ } يعني : نزلتم { فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } يعني : منازل قوم عاد وثمود { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } يقول : كيف عاقبناهم عند التكذيب { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال } يقول : بيّنا ، ووصفنا لكم عصيانهم ، وجحودهم ، والعذاب الذي نزل بهم . يعني : إنكم سمعتم هذا كله في الدنيا ، فلم تعتبروا . فلو رجعتم بعد هذا اليوم ، لا تنفعكم الموعظة أيضاً .
ثم قال تعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } يعني : صنعوا صنيعهم . يعني : الأمم الخالية { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } يعني : علم الله مكرهم ، ولا يخفى عليه ، قال علي بن أبي طالب : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } التابوت ، والنسور ، وهم نمرود بن كنعان وقومه . وروى وكيع بإسناده عن عليّ رضي الله عنه قال : إن جباراً من الجبابرة قال : لا انتهي حتى أعلم ما في السماء ، فاتخذ أفراخ نسور ، ثم أمر بها ، فأطعمت اللحم حتى اشتدت ، وغلظت ، واستفحلت ، فاتخذ تابوتاً يسع فيه رجلان ، ثم أمر بالنسور ، فجوعت ، ثم ربط أرجلها بالأوتاد ، وشدت بقوائم التابوت ، وجعل في وسط التابوت اللحم ، ثم جلس في التابوت ، هو ورجل معه ، ثم أرسل النسور ، وجعل اللحم على رأس خشبة على التابوت ، فطارت النسور إلى السماء ما شاء الله . ثم قال لصاحبه انظر ماذا ترى؟ فنظر فقال : أرى الجبال كأنها الدخان . ثم سار ما شاء الله . ثم قال : انظر فنظر ، فقال : ما أرى إلا السماء ، وما نزداد منها إلا بعداً . قال : نكس الخشبة ، فانقضت النسور ، حتى سقطت إلى الأرض ، فسمع هزة الجبال ، فكادت الجبال أن تزول من أماكنها . ثم قرأ عليّ رضي الله عنه { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } أي : وقد كان مكرهم ليزيل الجبال عن أماكنها . ويقال : إن نمرود بن كنعان هو أول من تجبر ، وقهر ، وسن سنن السوء ، وأول من لبس التاج ، فأهلكه الله تعالى ببعوضة في خياشمه ، فعذب بها أربعين يوماً ثم مات . وقال قتادة : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } يعني : الكفار ادعوا لله تعالى ولداً . فكاد أن تزول الجبال . ويقال : يعني : أهل مكة مكروا في دار الندوة ، وقد كاد مكرهم أن يزول منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر دين الإسلام . إذ ثبوته كثبوت الجبال ، لأن الله تعالى وعد لنبيه صلى الله عليه وسلم إظهار دين الإسلام بدليل ما قال بعد هذا { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } قرأ الكسائي { لِتَزُولَ } بنصب اللام الأُولى ، ورفع الثانية . وقرأ الباقون : بكسر الأُولى ، ونصب الثانية { لِتَزُولَ } ومعناه : ما كان مكرهم ليزول به أمر دين الإسلام ، إذ ثبوته كثبوت الجبال . ومن قرأ { ***لَيَزُولُ } فمعناه : وإن كان مكر الكفار ليبلغ إلى إزالة الجبال ، فإن الله ينصر دينه . وروي عن ابن مسعود أن قرأ { وَإِن كَادُواْ *** مَكْرِهِمْ } قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني : في نزول العذاب بكفار مكة ، إن شاء عجل لهم العقوبة في الدنيا . { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } ذو النقم من الكفار .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض } قال عليّ بن أبي طالب يعني : غير هذه الأرض التي عليها بنو آدم ، أرض بيضاء نقية لم يعمل فيها بالمعاصي ، ولا سفك عليها الدماء . وهكذا قال ابن مسعود . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا أبو يعقوب . قال : حدثنا محمد بن يونس العامري . قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم . قال : حدثنا القاسم بن الفضل عن الحسن عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ قال : « أَمَّا عِنْدَ مَوَاطِنَ ثَلاَثَةٍ فَلاَ : عِنْدَ الصِّرَاطِ ، والكِتَابِ ، والمِيزَانِ » . قالت : قلت : ألم يقل الله تعالى { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض } أي : الناس يومئذٍ؟ قال : « سَأَلْتِنِي عَنْ شَيءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكِ » . فقال : « النَّاسُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الصِّرَاطِ » . وروي عن ابن عباس أنه قال : تمد الأرض مد الأديم ، ويزاد في سعتها .
ثم قال : { والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ } يعني : خرجوا من قبورهم ، وظهروا { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } لخلقه .
قوله تعالى : { وَتَرَى المجرمين } يعني : المشركين { يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ } مسلسلين { فِى الاصفاد } يعني : في الأغلال ، يقرن كل كافر مع شيطان { سَرَابِيلُهُم } يعني : قمصهم { مّن قَطِرَانٍ } قال قتادة : هو النحاس المذاب . وقال الحسن البصري : { قَطِرَانٍ } الإبل الآنك . وقال عكرمة : هو القطران الذي يطلى به الأشياء ، حتى يشتعل ناراً . وقال الضحاك : من صفر حار قد انتهى حّره . وقال القتبي : { مُقْرِنِينَ } أي : قرن بعضهم إلى بعض في الأغلال . وروي عن أبي هريرة أنه كان يقرأ من { قَطِرَانٍ } . يقول : القطر النحاس والآنك الذي انتهى حره .
ثم قال تعالى : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } يعني : تعلو لوجوههم النار ، لا يمتنعون منها .
قوله تعالى : { لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من خير أو شر { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } إذا حاسب ، فحسابه سريع .
قوله : { هذا بلاغ لّلنَّاسِ } يعني : هذا القرآن إرسال وبيان من الله تعالى . ويقال : أبلغكم عن الله تعالى . { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } يعني : ليخوفوا بالقرآن عن معصية الله تعالى { وَلِيَعْلَمُواْ } يعني : لكي يعلموا { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } صادق { وَلِيَذَّكَّرَ } أي ليتعظ بما أنزل من التخويف في القرآن { أُوْلُو الالباب } يعني : ذوو العقول من الناس . والله أعلم بالصواب .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قال الله عزّ وجلّ : { الر تِلْكَ ءايات الكتاب } أي : هذه آيات الكتاب { الرَ تِلْكَ } أي : بيّن حلاله ، وحرامه . والكتاب والقرآن واحد . وقال قتادة في قوله : { الرَ تِلْكَ } بيّن الله رشده ، وهداه ، وخيره ، { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } قرأ نافع وعاصم { رُّبَمَا } بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد قال عاصم : قرأت عند زر بن حبيش { رُّبَمَا } بالتشديد . فقال : إنك لتحب الرَّب . وقال : هي رُبَّمَا مخففة . ولكن معناها واحد . فالتخفيف لغة بعض العرب . واللغة الظاهرة بالتشديد ، أي : ربما يأتي على الكافر يوم يتمنى أنه كان أسلم . ويقال : أقسم الله تعالى بالألف ، واللام ، والراء ، إن هذا القرآن حق ، وهو بيّن لكم الحق من الباطل . وأقسم أنه رُبَّ يومٍ يأتي على الكافر ، يتمنى فيه أن لو كان مؤمناً في الدنيا ، يقول الكافر : يا ليتني كنت مؤمناً في الدنيا . أي : يعني : يقول يوم القيامة : يا ليت كنت . وذلك أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ، ورأى حالاً من أحوال المسلمين ، وَدَّ أن لو كان مسلماً . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : يخرج من النار حين يقال : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان . فيتمنى الكافر أن لو كان مؤمناً ، فذلك قوله { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } .
وروي عن حماد بن أبي سلمة أنه قال : سألت إبراهيم النخعي عن هذه الآية . قال : نزلت في الكفار ، يعيرون أهل التوحيد ، ويقولون : ما أغنى عنكم إيمانكم ، وأنتم معنا ، فيغضب الله لهم ، فيأمر الله النبيين والملائكة ، فيشفعون ، فيخرج أهل التوحيد من النار . حتى إن إبليس يتطاول رجاء أن يخرج ، ويتمنى الكافر أن لو كان مسلماً في الدنيا . حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا صالح بن أحمد . قال : حدّثنا محمد بن شوكر . قال : حدّثنا القاسم . قال : حدّثنا أبو حنيفة ، عن يزيد بن صهيب ، عن جابر بن عبد الله . قال : سألته عن الشفاعة . فقال : يعذب الله قوماً من أهل الإيمان ، ثم يخرجهم منها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . قلت له : فأين قوله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ المائدة : 37 ] مِنْهَا قال : اقرأ ما قبلها { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ } [ عافر : 10 ] الآية . يعني : إن تلك الآية نزلت في الكفار . وقال مجاهد : إذا أخرج من النار ، من قال : لا إله إلا الله ، فعند ذلك يقولون : يا ليتنا كنا مسلمين ، وعن أبي العالية مثله .
ثم قال : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } يقول : اتركهم ، وخلّ عنهم يا محمد في الدنيا . يأكلوا ، ويتمتعوا؛ يأكلوا كالأنعام ، ويتمتعوا بعيشهم في الدنيا ، لا تهمهم الآخرة ولا يعرفون ما في غد { وَيُلْهِهِمُ الامل } يعني : يشغلهم الأمل الطويل عن الطاعة ، وعن ذكر الله تعالى . ويقال يشغلهم طول الأمل عن الطاعة ، وعن ذكر الأجل { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وهذا وعيد لهم أي يعرفون ما نزل بهم من العذاب والشدة يوم القيامة .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله :
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } يعني : أهل قرية { إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } يعني : أجلاً مؤقتاً ، ووقتاً معروفاً { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } يعني : لا يموت أحد قبل أجله { وَمَا يَسْتَخِرُونَ } بعد أجلهم ، طرفة عين { وَقَالُواْ } يعني : أهل مكة { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي : الذي يزعم أنه ينزل عليه القرآن { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } نزلت في عبد الله بن أُمية { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة } يعني : هلاّ تأتينا الملائكة ، فتخبرنا بأنك رسول الله { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } بأنك نبي مرسل . وأن العذاب نازل بنا .
قال الله تعالى : { مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } أي : بالوحي ، والعذاب ، وقبض أرواحهم ، { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } يعني : إذا نزلت عليهم الملائكة ، لا يؤجلون بعد نزول الملائكة قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، ما { نُنَزّلُ } بالنون ، وتشديد الزاي ، ونصب { الملائكة } من قولك : نَزَّل يُنَزِّلُ . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { مَا * تُنَزَّلَ } بالتاء ، والضم ، ونصب الزاي مع التشديد ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون { مَا * تُنَزَّلَ } بنصب التاء ، وتشديد الزاي فجعل الفعل للملائكة .
ثم قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } أي : القرآن { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } يعني : القرآن . ويقال : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم من القتل . وقال قتادة : يعني : القرآن يحفظه الله تعالى ، من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً ، أو يبطل منه حقّاً . وذلك قال مقاتل .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } يعني : قد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً { فِى شِيَعِ الاولين } أي : في أمم ، وقرون الأولين قبل أمتك { وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي كانوا يسخرون منهم كما سخر منك قومك { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المجرمين } قرأ بعضهم { نَسْلُكُهُ } بضم النون ، وكسر اللام . وقراءة العامة : بنصب النون ، وضم اللام . وهما لغتان . يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، إذا أدخلته فيها . ومعناه : هكذا ندخل الإضلال في قلوب المجرمين أي : المشركين عقوبة ومجازاة لكفرهم . ويقال : معناه هكذا نطبع على قلوب المجرمين . ويقال : نجعل حلاوة التكذيب بالعذاب . ويقال : الشرك في قلوب المشركين الذين { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : لا يصدقون بالله . ويقال : بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال : بالعذاب إنه غير نازل . { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاولين } أي : مضت سنة الأولين . نأتيهم بالعذاب عند التكذيب . ويقال : تقدمت سيرة الأولين بالهلاك .
قوله : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } أي فصاروا يصعدون فيه ، وينزلون . يعني : الملائكة ، ويراهم المشركون ، وهم أهل مكة { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا } يقول : أخذت ، وغشيت أبصارنا { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } أي : ولقالوا سحرنا فلا نبصر . وروى قتادة عن أبي صالح أنه قال : لو فتح الله عليهم باباً من السماء ، فظلت الملائكة يعرجون فيه . لقالوا : أخذت أبصارنا . قرأ ابن كثير { سُكّرَتْ } بالتخفيف . وهكذا قرأ الحسن . وقرأ الباقون بالتشديد . وقال القتبي : { سُكّرَتْ } بالتشديد أي : غُشِّيَتْ . ومنه يقال : سُكِّر النهر إذا سدّ ومنه يقال سكر الشراب وهو الغطاء على العقل . ومن قرأ { سُكّرَتْ } بالتخفيف يعني : سحرت . يعني : إنهم لا يعتبرون به ، كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا } أي : خلقنا نجوماً . ويقال : هي القصور في السماء . وقال الضحاك ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد هي النجوم { وزيناها للناظرين } أي : زينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها { وحفظناها } السماء { مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } أي : مرجوم . ويقال : ملعون مبعد من الرحمة { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } أي : لكن من اختلس السمع خلسة { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } يعني : لحقه نجم حار ، متوهج ، متوقد ، لا يخطئه الشهاب أن يصيبه . فإما أن يأتي على نفسه ، أو أن يخبله ، حتى لا يعود إلى الاستماع إلى السماء . وقال ابن عباس : إن أهل الجاهلية من الكهنة قالوا : لا يكون كاهن إلا ومعه تابع من الجن ، فينطلق الشياطين الذين كانوا مع الكهنة ، فيقعدون من السماء مقاعد السمع ، ويستمعون إلى ما هو كائن في الأرض من الملائكة ، فينزلون به على كهنتهم . فيقولون : إنه قد كان كذا وكذا من الأمر فتفشيه كهنتهم إلى الناس ، فيتكلمون به قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء السابقين ، فإِذا تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد علمنا قبلك وكانت الشياطين تحجب عن الاستماع في السموات حتى بعث عيسى ابن مريم عليه السلام فلما بعث منعوا من ثلاث سماوات وكانوا يصعدون في أربع سماوات ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، منعوا من السموات السبع ، وكان الشيطان المارد منهم يصعد ، ويكون آخر أسفل منه ، فإذا استمع قال للذي أسفل منه : قد كان من الأمر كذا وكذا ، فيهرب الأسفل ، ويرمي الذي استمع بالشهاب ، ويأتي الأسفل بالأمر الذي سمع إلى كهنتهم . فذلك قوله : { إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } ثم قال : { والارض مددناها } يقول : بسطناها على الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } أي : الجبال الثوابت لكي لا تتحرك من أمكنتها { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أي : في الجبال { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } أي : مقسوم معلوم . ويقال : { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } مما يخرج من الجبال من الحديد ، والرصاص ، والفضة ، والذهب . ويقال : { وَأَنبَتْنَا } فِيهَا يعني : الأرض { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } يعني : مقداراً معلوماً من الحبوب { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } أي : عيشاً من الزرع ، والنبات . ويقال : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أي في الأرض { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } أي : معدود من الحبوب وغيره .
{ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } يعني : خلقنا فيها معايشهم ، ومعايش البهائم ، والوحوش ، والطيور ، يعني : أنتم لستم ترزقونها ، وأنا أرزقها .
قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } أي : مفاتيح رزقه . ويقال : علمه . كقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الارض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ويقال : يعني : خزائن الغيب وهو المطر { وَمَا نُنَزّلُهُ } أي : المطر { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي : بكيل ، ووزن معروف . قال ابن عباس : أي : يعلمه الخزان إلا يوم الطوفان الذي أغرق الله به قوم نوح ، فإِنه طغى على خزانه ، وكثر فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذٍ ، خرج أربعين يوماً .
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } يعني : بعث الله الريح ، فتلقح السحاب ، ثم تمر به ، فتدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر هذا قول ابن مسعود وقال ابن عباس : أي في قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } ملقحات . نُلقح الأشجار . وقال قتادة : { لَوَاقِحَ } أي : تلقح السحاب . وهكذا قال الكلبي : قرأ حمزة { وَأَرْسَلْنَا * الريح } بلفظ الوحدان . وقرأ الباقون بلفظ الجماعة .
ثم قال : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاء } يعني : المطر { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } يعني : فأرويناكموه به أي : حبستم الماء في الغدران ، والحياض ، لتسقوا الضياع ، والمواشي { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } أي : بمالكين ، وحافظين . ويقال : ليس مفاتيحه بأيديكم .
ثم قال : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ } أي : نحيي للبعث ، ونميت في الدنيا . ويقال { نُحْىِ } الأرض بالمطر أيام الربيع ، ونميتها أيام الخريف { وَنَحْنُ الوارثون } أي : المالكون . ويقال : معناه يهلك الخلق ، ويبقي الرب تبارك وتعالى { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } أي : الأموات { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } يعني : الأحياء . ويقال : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } في الصف الأول { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } في الصف الآخر . وروى أبو الجوزاء ، عن ابن عباس أنه قال : كانت امرأة حسناء تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان بعض القوم يتقدم الصف الأول لكيلا يراها ، ويتأخر بعضهم ، فإذا ركع ، نظر من تحت إبطيه ، فنزلَ { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم حرض الناس على الصف الأول ، وكان قوم بيوتهم قاصية من المسجد . فقالوا لنبيعن دورنا ، ونشتري دوراً قريبة من المسجد ، حتى ندرك الصف الأول . فصارت الديار البعيدة خالية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ أَتَى المَسْجِدَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ آثارُهُ وَيُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةٍ ، وتُرْفَعُ لَهُ كَذَا وَكَذَا دَرَجَةٍ » فجعل الناس يشترون الدور البعيدة من المسجد لكي يكتب لهم آثارهم ، فنزل { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } ، وإنما يؤجرون بالنية . فاطمأنوا ، وسكنوا . وقال مجاهد : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين } أي : ما مضى { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } ما بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : المستقدمين : آدم ومن مات قبل نزول هذه الآية . والمستأخرين من لم يخلق بعد ، كلهم قد علمهم . وقال الحسن : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين عنه ، يقول : المبطئين .
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
وقوله { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } يعني : يجمعهم يوم القيامة { إِنَّهُ حَكِيمٌ } حكم بحشر الأولين والآخرين { عَلِيمٌ } بهم .
قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أي : آدم { مِن صلصال } أي : من طين يتصلصل إذا مشيت عليه يتقلقل ، وإذا تركته ينغلق ، { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } أي : من طين أسود منتن . وقال الأخفش : أي من طين مصبوب . ويقال : { مَّسْنُونٍ } أي : متغير الرائحة كقوله { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 259 ] . ويقال : الذي أتت عليه السنون . وقال القتبي : { ***الصلصال } الطين اليابس الذي لم تصبه نار إذا ضربته صوّت ، وإذا مسته النار ، فهو فخار والمسنون المتغير الرائحة ، والحمأ جمع حمئة وهو الطين المتغير { مَّسْنُونٍ والجآن خلقناه مِن قَبْلُ } يعني : إبليس . ويقال : الجان أبو الجن خلقناه من قبل آدم { مِن نَّارِ السموم } قال ابن عباس : هي نار لا دخان لها ، تكون بين السماء وبين الحجاب . وقال آخرون : { مِن نَّارِ السموم } أي : من نار حارة . قال الكسائي : الجن والجنة من أصل واحد .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } يعني : قد قال ربك للملائكة الذين هم في الأرض مع إبليس سكان الأرض { إِنّى خالق بَشَرًا } أي : سأخلق خلقاً { مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : جمعت خلقه { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } أي : جعلت الروح فيه { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } أي : فخروا له أي فاسجدوا بأجمعكم { فَسَجَدَ الملائكة } يعني : سجدة التحية لا سجدة العبادة وكانت التحية لآدم عليه السلام والعبادة لله تعالى .
{ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } روي عن الخليل بن أحمد أنه قال : { أَجْمَعُونَ } على معنى توكيد بعد توكيد . وذكر عن محمد بن يزيد عن المبرد أنه قال : معناه سجدوا كلهم في حالة واحدة . وقال الزجاج : الأول أجود لأن أجمعين معرفة ، فلا يكون حالاً .
ثم قال : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } قال بعضهم : معناه لكن إبليس لم يكن من الساجدين ، لأن إبليس لم يكن من الملائكة ، فيكون الاستثناء من غير جنس ما تقدم بدليل قوله : { وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظالمين بَدَلاً }
[ الكهف : 50 ] . وقال بعضهم : استثنى إبليس من الملائكة ، وكان من جنسهم ، إلا أنه لما لم يسجد ، لعن ، وغيّر عن صورة الملائكة ، ولا يكون الاستثناء من غير جنس ، فذلك قوله { إِلاَّ إِبْلِيسَ } { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } أي : تعظم عن السجود لآدم مع الملائكة { قَالَ يَاءادَمُ * إِبْلِيسَ ***** مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } أي : مع الملائكة { قَالَ } أي : إبليس { لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا } أي : من الأرض . ويقال : من الجنة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : ملعون ، مطرود . فألحقه بجزائر البحور { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } أي طرد من رحمته يوم الحساب .
قوله : { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى } أي : أجلني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } من قبورهم { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين } أي : من المؤجلين { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } أي : إلى النفخة الأولى { قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } يعني كما أضللتني عن الهدى لأجل آدم . وقال القتبي : بإغوائك إياي أي : لأضلنهم عن الهدى { أَجْمَعِينَ *** إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } قرأ ابن كثير : وأبو عمرو ، وابن عامر { المخلصين } بكسر اللام أي : المخلصين في العبادة . ويقال : الموحدين . وقرأ الكسائي ، ونافع ، وحمزة ، وعاصم ، { المخلصين } بنصب اللام أي : المعصومين من الشرك . قال : حدّثنا الفقيه أبو جعفر . قال : حدّثنا أبو القاسم . قال : حدّثنا محمد بن سلمة . قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله . قال : حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن هشام عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَمَّا لُعِنَ إِبْلِيسُ ، قَالَ : فَبِعِزَّتِكَ لا أُفَارِقُ قَلْبَ ابنِ آدَمَ حَتَّى يَمُوتُ » . قال : قيل له : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ، حتى يغرغر بالموت { قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ } أي : هذا التوحيد صراط { مُّسْتَقِيمٍ } على دلالته ، وهذا قول الحسن . ويقال : معناه على ممر من أطاعك ، ومن عصاك . كقوله { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] ويقال : معناه هذا بيدي ، لا بيدك . وقال الضحاك : هذا سبيل الله عليّ مستقيم ، أي : عليّ هدايته ودلالته كقوله { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل : 9 ] وروي عن ابن سيرين : أنه كان يقرأ { هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } بكسر اللام ، ورفع الياء مع التنوين ، ومعناه هذا صراط رفيع مستقيم ، وهو قول قتادة أي طريق شريف ، لا عوج فيه .
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
{ إِنَّ عِبَادِى } أي : عبادي الذين لا يطيعونك { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } أي حجة ولا ملك ، ولا أسلطك عليهم . كقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 99 ] .
ثم قال : { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } أي : من أطاعك من الكافرين . ويقال : معناه إنما نفاذ دعوتك ، ووسوستك لمن اتبعك من المشركين .
ثم بيّن مصير من اتبعه ومصير من لم يتبعه فقال : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لمصير من اتبعه { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } أي : سبعة منازل { لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } أي : لكل منزل صنف ممن يعذب من الكفار ، على قدر منزلته من الذنب . نصيب معروف أسفلها هاوية وهي لآل فرعون ، ولأصحاب المائدة الذين كفروا بعيسى . وللمنافقين ، والزنادقة . والثانية لظى وهي منزلة المجوس ، والثنوية الذين قالوا بإلهين . والثالثة سقر وهي منزلة المشركين ، وعبدة الأوثان . والرابعة الجحيم ، وهي منزلة اليهود الذين كذبوا الرسل ، وقتلوا أنبياء الله بغير حق . والخامسة الحطمة وهي منزلة النصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقالوا قولاً عظيماً . والسادسة السعير وهي منزلة الصابئين ، ومن أعرض عن دين الإسلام ، وخرج منه . والسابعة جهنم وهي أعلى المنازل ، وعليها ممر الخلق كلهم ، وهي منزل أهل الكبائر من المسلمين وقال ابن عباس ، في رواية أبي صالح ، الباب الأول ، جهنم ، والثاني السعير ، والثالث سقر ، والرابع الجحيم ، والخامس لظى ، والسادس الحطمة ، والسابع الهاوية . وقال بعضهم : جهنم اسم عام يقع على الإدراك كلها ، والأول أصح إن جهنم اسم لا يقع على الإدراك ، وهكذا روي عن جماعة من الصحابة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } أي : الذين يتقون الشرك ، والفواحش ، ويتقون إجابة الشيطان في بساتين ، وعيون طاهرة ، { ادخلوها } أي : الجنة { بِسَلامٍ } يعني : مسلمين ، آمنين ، ويقال : سالمين ، ناجين من العذاب . { ءامِنِينَ } أي : من الموت والخوف ، وإبليس ، والعزل ، والحوادث ، والآفات والعاقبة ، والقطيعة ، والفراق ، قوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } أي : من حسد ، وعداوة كانت بينهم في الدنيا ، ويكونون في الآخرة { إِخْوَانًا } صار نصباً على الحال { على سُرُرٍ متقابلين } أي : متزاورين متحدثين . وروى سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، أن علياً قال : أرجو أن أكون أنا وطلحة ، والزبير ، من الذين قال الله فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } وروى ربعي بن خراش قال : قال رجل من همدان : فقال : يا أمير المؤمنين : الله أعدل من ذلك . فصاح به عليٌ فقال : إذا لم نكن نحن فمن هم . ثم قال : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يقول : لا يصيبهم في الجنة تعب ، ولا مشقة { وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } أي : من الجنة .
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
ثم قال : { نَبّىء عِبَادِى } أي : أخبر عبادي يا محمد { أَنّى أَنَا الغفور الرحيم } لمن تاب منهم { وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم } لمن مات على الكفر ، ولم يتب . قال : حدّثنا أبو جعفر . قال : حدّثنا إسحاق بن عبد الرحمن . قال : حدّثنا محمد بن شاذان الجوهري . قال : حدّثنا محمد بن مقاتل . قال : حدّثنا عبد الله بن المبارك . قال : حدّثنا مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد ، عن عطاء ، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، ونحن نضحك ، فقال : « أَتَضْحَكُونَ؟ » ثم قال : « لا أُرَاكُمْ تَضْحَكُونَ » ثم أدبر فكأن على رؤوسنا الرخم ، حتى إذا كان عند الحجر ، ثم رجع القهقري فقال : « جَاءَ جِبْرِيلُ . فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ : لِمَ تُقْنِطُ عِبَادِي؟ { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم } » وقال قتادة : ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لَوْ عَلِمَ العَبْدُ قَدَرَ رَحْمَةِ الله ، مَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ . وَلَوْ عَلِمَ العَبْدُ قَدَرَ عُقُوَبةِ الله ، لَبَخَعَ نَفْسَهُ » . أي : في عبادة الله تعالى .
ثم قال : { وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي : عن أضياف إلا أن هذا اللفظ مصدر ، والمصدر لا يثنى ، ولا يجمع ، وذلك حين بعث الله تعالى جبريل في اثني عشر من الملائكة .
قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي : على إبراهيم { فَقَالُواْ سَلامًا } أي : فسلموا عليه . فرد عليهم السلام . كما قال في موضع آخر { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سلاما قَالَ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] وقال الكلبي : فأنكرهم إبراهيم في تلك الأرض ، لأنهم لم يطعموا من طعامه . { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفين { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } أي : لا تخف منا ، وبشروه ، فقالوا : { إِنَّا نُبَشّرُكَ } قرأ حمزة { نُبَشّرُكَ } بجزم الباء ، مع التخفيف . ونصب النون ، وضم الشين . وقرأ الباقون بالتشديد { بغلام عَلِيمٍ } أي : بإسحاق عليم في صغره ، حليم في كبره ، { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر } أي : بعدما أصابني الكبر والهرم { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } قرأ نافع { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } بكسر النون مع التخفيف لأن أصله تبشروني بالياء فأقيم الكسر مقامه وقرأ ابن كثير { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } بكسر النون مع التشديد ، لأنه في الأصل بنونين ، فأدغم إحداهما في الأخرى مثل قوله { ***تَأْمُرُنِّي } { قَالَ أَتُحَاجُّونّى } . وقرأ الباقون { تُبَشّرُونَ } بنصب النون مع التخفيف ، لأنها نون الجماعة . وقال أبو عبيدة : هذا أعجب إليّ لصحتها في العربية { قَالُواْ بشرناك بالحق } أي : بالولد . ويقال : بالصدق { فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين } أي : من الآيسين من الولد . ويقال : من نعم الله تعالى { قَالَ إبراهيم *** وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ } أي : من نعمة ربه { إِلاَّ الضآلون } أي : الجاهلون قرأ الكسائي ، وأبو عمرو ، { يَقْنَطُ } بكسر النون ، وقرأ الباقون { يَقْنَطُ } بالنصب ومعناهما واحد .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } أي قال لهم إبراهيم ما حالكم ، وشأنكم ، وبماذا جئتم ، { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : مشركين . قال إبراهيم : من هم؟ قالوا : قوم لوط . قال إبراهيم : أتهلكونهم ، وفيهم لوط؟ فقالوا : { إِلا ءالَ لُوطٍ } يعني : ابنتيه زعورا ، وريثا . ويقال : امرأة له أخرى غير التي أهلكت { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ حمزة ، والكسائي { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } بالتخفيف . وقرأ الباقون : بنصب النون ، وتشديد الجيم . من أَنْجَى ، يُنْجِي ، وَنَجَّى ، يُنَجِّي ، بمعنى واحد { إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ } عليها الهلاك { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } أي لمن المتخلفين للهلاك . قرأ عاصم في رواية أبو بكر { قَدَّرْنَآ } بالتخفيف ، وهو من القدر . وقرأ الباقون : بالتشديد ، وهو من التقدير .
قوله : { فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي : لما دخلوا عليه ، أنكرهم ولم يعرفهم { قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي : بما كانوا يشكون من نزول العذاب بهم { واتيناك بالحق } أي : بالعذاب ، وهو العدل والصدق { وِإِنَّا لصادقون } بأن العذاب نازل بهم { قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ } أي : في بعض الليل . قرأ ابن كثير ، ونافع { فَأَسْرِ } بجزم الألف ، والباقون بالنصب ، سريت وأسريت إذا سرت ليلاً { واتبع أدبارهم } يقول : امش وراءهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } يعني لا يتخلف منكم أحد { وامضوا } أي : انطلقوا { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي إلى المدينة وهي مدينة زعر .
قوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر } يعني : أخبرناه ، وأوحينا إليه ذلك الأمر ، ثم فسّر ذلك الأمر فقال : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } يعني : إنهم مستأصلون عند الصباح . ويقال : قضينا إليه ذلك الأمر . يعني : أمرناه بالخروج إلى الشام ، إلى المدينة زعر ، لأن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين قوله : { وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ } بدخول الرجال منزل لوط { قَالَ *** لُوطٍ إِنَّا *** هَؤُلآء ضَيْفِى } يقول : أضيافي { فَلاَ تَفْضَحُونِ } فيهم { واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } أي : لا تذلوني في أضيافي { قَالُواْ أُوذِينَا *** لَمْ *** نَنْهَكَ عَنِ العالمين } ألم ننهك أن تضيف أحداً من الغرباء { قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى } أي : بنات قومي أزوجكم { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي : فتزوجوا النساء ، فإن الله تعالى خلق النساء للرجال ، وأمر بتزويجهن .
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : بحياتك يا محمد إنهم لفي جهالتهم ، وضلالتهم { يَعْمَهُونَ } أي : يترددون ، ويتجبرون . يعني : إن أهل مكة يسمعون هذه العجائب ، ولا تنفعهم ، وهم على جهلهم مصرون . قال : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا ابن معاذ . قال : حدّثنا عبد العزيز بن أبان ، عن سعيد بن زيد ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله نفساً أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره . فقال { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } ثم رجع إلى قصة قوم لوط ، فقال تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } أي : أخذتهم صيحة جبريل { مُشْرِقِينَ } يعني : عند طلوع الشمس ، وذلك أن جبريل قلع الأرض وقت الصبح ، فرفعها مع الملائكة إلى قريب من السماء ، ثم قلبها وأهواها إلى الأرض ، وصاح بهم وقت طلوع الشمس فذلك قوله : { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } وقد ذكرناها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : في هلاك قوم لوط { لاَيَاتٍ } أي : علامات { لِلْمُتَوَسّمِينَ } يقول : للمتفكرين . وقال قتادة : للمعتبرين . وقال الضحاك : للناظرين . وقال مجاهد : للمفترسين . قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا أبو يعقوب . قال : حدّثنا عمار بن الربيع الباهلي ، عن أبي صالح بن محمد ، عن محمد وهو ابن مروان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اتّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله » . ثم قرأ { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ } وقال الزجاج : حقيقته في اللغة ، النظار المثبتون في نظرهم ، حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء . يقال : توسمت في فلان كذا وكذا أي : عرفت ذلك فيه .
ثم قال : { وَإِنَّهَا } أي : قريات لوط { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي : بطريق واضح بيّن يرونها ، حين مروا بها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في هلاك قوم لوط { لآيَةً } أي لعلامة وعبرة { لِلْمُؤْمِنِينَ *** وَإِن كَانَ } يقول : وقد كان { كَذَّبَ أصحاب } أي : أصحاب الغيضة ، والغيضة والأيكة الشجرة . وهم قوم شعيب قال قتادة : مدين وإلى أصحاب الأيكة ، وقال بعضهم : آل مدين والأيكة واحد ، لأن الأيكة كانت عند مدين ، وهذا أصح { لظالمين } أي : لكافرين .
قوله : { فانتقمنا مِنْهُمْ } بالعذاب { وَإِنَّهُمَا } أي : قريات لوط وشعيب { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي لبطريق واضح . وقال القتبي : أصل الإمام ما يؤتم به . قال الله تعالى : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي : يؤتم ، ويقتدى بك ، ثم تستعمل لمعاني منها . الكتاب إماماً ، لأنه يؤتم بما أحصاه الكتاب . قال الله تعالى { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] أي : بكتابهم . وقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أحصيناه فى إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] أي : في اللوح المحفوظ . وهو الكتاب . وسمي الطريق إماماً . لأن المسافر يأتم به ، ويستدل به . قال الله تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : بطريق واضح . أي : قريات قوم لوط ، وقرية شعيب عليهما السلام .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين } وهم قوم صالح ، كذبوا صالحاً ، والحجر أرض ثمود { وءاتيناهم ءاياتنا } أي : الناقة { فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يقول : مكذبين بها { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءامِنِينَ } من أن تقع عليهم الجبال . ويقال : { ءامِنِينَ } من نزول العذاب ، فلم يعرفوا نعمة الله تعالى . ويقال { ءامِنِينَ } من العذاب بعقر الناقة . فعقروا الناقة ، وقسموا لحمها ، فأهلكهم الله تعالى بصيحة جبريل فذلك قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ } أي : حين أصبحوا { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : فما نفعهم ما كانوا يكسبون من الكفر والشرك .
قوله : { وَمَا خَلَقْنَا * السموات والارض ***** وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } أي : للحق . والباء توضع موضع اللام أي : لينظر عبادي إليها فيعتبروا . ويقال : وما خلقناهما إلا عذراً ، وحجة على خلقي ، { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } أي : لكائنة ، لا محالة { فاصفح الصفح الجميل } أي : اعرض عنهم إعراضاً جميلاً بلا جزع منك { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم } أي : عليماً بمن يؤمن ، وبمن لا يؤمن ، ويقال العليم يعلم متى تقوم الساعة .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
قوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني } أي : فاتحة الكتاب { وَلَقَدْ ءاتيناك } أي : سائر القرآن وهذا قول ابن عباس وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : السبع المثاني : السبع الطوال . وعن سعيد بن جبير قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس . قال : لأنه يثني فيها حدود الفرائض والقرآن . ويقال : السبع المثاني ، والقرآن كله وهو سبعة أسباع . سمي مثاني لأن ذكر الأقاصيص فيه مثنى كقوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] وقال طاوس : القرآن كله مثاني . وقال أبو العالية المثاني : فاتحة الكتاب سبع آيات ، وإنما سمي مثاني ، لأنه يثنى مع القرآن كلما قرىء القرآن . قيل إنهم يزعمون أنها السبع الطوال . قال : لقد أنزلت هذه الآية ، وما أنزل شيء من الطوال . وسئل الحسن عن قوله : { سَبْعًا مّنَ المثاني } قال : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } حتى أتى على آخرها . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ أُمُّ الكِتَابِ وَأَمُّ القُرْآنِ وَالسَّبْعُ المَثَانِي » . وقال قتادة : { سَبْعًا مّنَ المثاني } هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة ، وتطوع ، يعني : في كل صلاة . ويقال : من المثاني أي : مما أثني به على الله تعالى ، لأن فيها حمدَ الله تعالى وتوحيده ومن ههنا على ضربين ، يكون للتبعيض من القرآن أي : أعطيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى ، وآتيناك القرآن العظيم ، ويجوز أن يكون السبع هي المثاني كقوله : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ] أي : اجتنبوا الأوثان .
قوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي : لا تنظرن بعين الرغبة { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } أي : ما أعطيناهم في الدنيا . يعني : ما أعطيناك من القرآن أفضل مما أعطيناهم من الأموال . فاستغن بما أعطيناك من القرآن ، والدين والعلم ، ولا تنظر إلى أموالهم .
قوله : { أزواجا مّنْهُمْ } أي : أصنافاً منهم ، وألواناً من الأموال ، يعني : أعطينا رجالاً منهم ، أي : المشركين منهم { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على كفار مكة إن لم يؤمنوا ، لأن مقدوري عليهم الكفر . ويقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } إن نزل بهم العذاب { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } يقول : ليّن جناحك عليهم أي : تواضع للمؤمنين { وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } أخوفكم بعذاب مبين بلغة تعرفونها .
{ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } أي : كما أنزلنا العذاب على المقتسمين ، وهم الذين أقسموا على عقبات مكة ، ليردوا الناس عن دين الإسلام ، وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : { إِنّى أَنَا النذير المبين } بالقرآن ، كما أنزلنا التوراة والإنجيل على المقتسمين ، وهم اليهود ، والنصارى اقتسموا فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . وقال مجاهد : هم اليهود والنصارى . فرقوا القرآن ، آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه . ويقال : إن أهل مكة قالوا أقاويل مختلفة .
قوله : { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } أي : فرقوا القول فيه . قال بعضهم : سحر وقال بعضهم : شعر . وهذا قول قتادة . ويقال : أصله في اللغة الفرقة . يقال : فرّقوه أي : عضوه أعضاء . يقال : ليس دين الله بالتعضية أي : بالتفريق . وروى الضحاك ، عن ابن عباس ، أنه قال : جزؤوه ، وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ثم قال : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } يعني : أقسم بنفسه ليسألنهم يوم القيامة { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الشرك ، وعن ترك قول : لا إله إلا الله ، وعن الإيمان بالله ، والرسول { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } أي : أظهر أمرك ، وامض ، واقض ما أمرتك { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } أي : اتركهم ، حتى يجيء أمر الله تعالى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية ، مستخفياً ، لا يظهر شيئاً مما أنزل الله عليه ، حتى نزلت هذه الآية .
ثم قال : { إِنَّا كفيناك المستهزءين } أي : أظهر أمرك ، فقد أهلك الله المستهزئين ، وهم خمسة رهط . فأهلكوا كلهم في يوم وليلة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الموسم أيام الحج ، ليدعو الناس ، فمنعه المستهزئون ، وبعثوا على كل طريق رجلاً ، فإذا سألهم أحد من الغرباء عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : هو ساحر كاهن . ثم قالوا : هذا دأبنا كل سنة . فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهلكهم الله تعالى ، منهم الوليد بن المغيرة .
نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تجد هذا؟ فقال : « بِئْسَ الرَّجُلُ » . فقال : كفيناكه . فمضى وهو يتبختر في ردائه ، ويقال : ببردته ، فمر برجل يصنع السهام ، فتعلق سهم بردائه ، وأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه ، فأصاب السهم أكحله ، فنزف فمات . ومنهم العاص بن وائل السهمي ، مرّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عنه فقال : « بئس الرجل هو » . فقال : كفيناكه فوطىء على شوكة؟ فتساقط لحمه عن عظامه ، حتى هلك ، ومنهم الحارث بن حنظلة ، أصاب ساقه شيء فانتفخ فمات . ومنهم أسود بن عبد يغوث ، أصابه العطش ، فجعل يشرب الماء حتى انتفخ بطنه فمات . ومنهم أسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد عزى ، ضربه جبريل بجناحه ، فمات . ويقال : خرج مع غلام له ، فأتاه جبريل عليه السلام وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح برأسه الشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك حتى مات ، وهو يقول : قتلني رب محمد وفي رواية الكلبي : أن أسود بن عبد يغوث ، خرج من أهله ، فأصابه السواد حتى عاد حبشياً ، فأتى أهله فلم يعرفوه ، وأغلقوا دونه الباب حتى مات . وروي في خبر آخر أن العاص بن وائل السهمي ، خرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له؟ فنزل شعباً من الشعاب ، فلما وضع قدمه على الأرض ، لدغت رجله ، فطلبوا ، فلم يجدوا شيئاً ، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق بعير ، فمات مكانه وعن أبي بكر الهذلي أنه قال : قلت للزهري : إن سعيد بن جبير ، وعكرمة قد اختلفا في رجل من المستهزئين .
فقال سعيد : هو الحارث بن عيطلة . وقال عكرمة : هو الحارث بن قيس . فقال : صدقاً كانت أمه اسمها عيطلة ، وأبوه قيساً . ويقال : إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه عطش ، فلم يزل يشرب عليه الماء حتى أنفذ فمات ، وهو يقول : قتلني رب محمد فنزل { إِنَّا كفيناك المستهزءين } { الذين يَجْعَلُونَ } أي : يقولون { مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ } ماذا يفعل بهم ، هذا وعيد لسائر الكفار .
قوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } من تكذيبهم إياك { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } يقول : صلِّ بأمر ربك . ويقال : اشتغل بعبادة ربك ، ولا تشغل قلبك بهم { وَكُنْ مّنَ الساجدين } يعني : من المصلين .
قوله : { واعبد رَبَّكَ } يعني : على التوحيد { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي : واستقم على التوحيد حتى يأتيك اليقين . أي : الموت قال الفقيه : حدّثنا محمد بن الفضل . قال : حدّثنا محمد بن جعفر . قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدّثنا المحارمي ، عن إسماعيل بن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم عن جبير بن نصير ، عن أبي مسلم الخولاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَا أَوْحَى الله تَعَالَى إَليَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرينَ ، ولكن أَوْحَى إِليَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ » والله أعلم .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
قوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } أي يوم القيامة . ويقال : يعني : العذاب . كقوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] وقوله : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس : 24 ] أي : أتى أمر الله . يعني : يأتي . أي : هو قريب لأن ما هو آتٍ آتٍ . وهذا وعيد لهم إنها كائنة . وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ثم نزلت بعدها { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] قالوا : يا محمد تزعم أن الساعة قد اقتربت ، ولا نرى من ذلك شيئاً فنزل { أتى أَمْرُ الله } أي : عذاب الله ، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ، لا يشك أن العذاب قد أتاهم ، فقال لهم جبريل : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } قال : فجلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيامه ، ثم قال : { سبحانه } نزّه نفسه عن الولد ، والشريك . ويقال : ارتفع ، وتعاظم عن صفة أهل الكفر . فقال عز وجل : { وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من الأوثان . قرأ حمزة ، والكسائي { تُشْرِكُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون : بالياء بلفظ المغايبة ، وكذلك ما بعده .
ثم قال : { يُنَزّلُ الملائكة } أي : جبريل { بالروح } أي : بالوحي والنبوة والقرآن { مِنْ أَمْرِهِ } أي : بأمره . قال القتبي : { مِنْ } توضع موضع الباء كقوله : { لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد : 11 ] أي : بأمر الله . وقال ههنا : يلقي الروح { مِنْ أَمْرِهِ } أي : بأمره { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : يختار للنبوة والرسالة . وقال قتادة : ينزل الملائكة بالرحمة ، والوحي { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } يعني : من كان أهلاً لذلك . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يُنَزّلٍ } بجزم النون من قولك أنْزَلَ يُنْزِلُ ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { تُنَزَّلَ } بالتاء ، ونصب النون ، والزاي مع التشديد ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون { يُنَزّلٍ } بالياء ، وكسر الزاي مع التشديد ، من قولك : نَزَّلَ يُنَزِّلُ .
ثم قال تعالى : { أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ } أي : خوفوا بالقرآن الكفار ، وأعلموهم أن الله واحد لا شريك له . فذلك قوله : { لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون } أي : أطيعون ، ووحدون .
ثم قال : { خُلِقَ * السموات والارض بالحق } أي : للحق . ويقال : للزوال ، والفناء . { تَعَالَى } تنزه { عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من الأوثان .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
ثم قال : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } يقول : من ماء الرجل { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } يقول : جدل بالباطل ظاهر الخصومة ، وهو أبي بن خلف حيث أخذ عظماً بالياً فَفَتَّهُ بيده ، وقال : عجباً لمحمد يزعم أنه يعيدنا بعد ما كنا عظاماً ورفاتاً ، وإنا نعاد خلقاً جديداً ، فنزل { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } { صلى الله عليه وسلم [ يس : 77 ] الآية .
ثم بيّن النعمة فقال تعالى : { وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } الدفء ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها . والذي يتخذ منه البيوت من الشعر ، والوبر ، والصوف . وأما المنافع فظهورها التي تحمل عليها . وألبانها . ويقال : الدفء الصغار من الإبل .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْء } أي : في نسل كل دابة ثم قال : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : من لحومها . قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } أي : ولكم يا بني آدم في الأنعام ، جمال حسن المنظر ، { حِينَ تُرِيحُونَ } أي : حتى تروح الإبل راجعة إلى أهلها { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : تسرح إلى الرعي أول النهار { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أي : أمتعتكم وزادكم { إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الانفس } إلا بجهد الأبدان . وروى سماك عن عكرمة قال : { بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الانفس } قال : هي مكة . ويقال : هذا الخطاب لأهل مكة ، كانوا يخرجون إلى الشام ، وإلى اليمن ، ويحملون أثقالهم على الإبل .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } إذ لم يعجلكم بالعقوبة . ثم قال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي : جمالاً ، ومنظراً ، وحسناً . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه سئل عن لحوم الخيل ، فكرهه ، وتلا هذه الآية { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } يعني : إنما خلق هذه الأصناف الثلاثة للركوب والزينة ، لا للأكل ، وسائر الأنعام خلقت للركوب ، والأكل ، كما قال : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وبه كان يقول أبو حنيفة : إن لحم الخيل مكروه .
ثم قال : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : خلق أشياء تعلمون ، وخلق أشياء مما لا تعلمون . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ الله خَلَقَ أَرْضَاً بَيْضَاءَ مِثْلَ الدُّنْيَا ثَلاثِينَ مَرَّةً مَحْشُوَّةً خَلْقاً مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى ، لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله تَعَالَى يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ » قالوا : يا رسول الله أمن ولد آدم هم؟ قال : « مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله خَلَقَ آَدَمَ » . قالوا : فأين إبليس منهم؟ قال : « مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله خَلَقَ إِبْلِيسَ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } » قوله : { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } أي : بيان الهدى . ويقال : هداية الطريق { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أي : من الطرق ما هو مائل عن طريق الهدى إلى طريق اليهودية ، والنصرانية . وروى جويبر عن الضحاك أنه قال : { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } يعني : بيان الهدى ، { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أي : سبيل الضلالة . وقال قتادة : في قراءة عبد الله بن مسعود { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أي : مائل عن طريق الهدى { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لو علم الله تعالى أن الخلق كلهم أهلاً للتوحيد لهداهم . ويقال : لو شاء الله لأنزل آية يضطر الخلق إلى الإيمان بها .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
ثم قال : { هُوَ الذى أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآء } أي : المطر { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } وهو ما يستقر في الأرض من الغدران ، وتشربون منه ، وتسقون أنعامكم { وَمِنْهُ شَجَرٌ } أي : من الماء ما ينتشر في الأرض ، فينبت منه الشجر ، والنبات { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي : ترعون أنعامكم .
قوله : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون } أي : يخرج لكم بالمطر الزرع ، والزيتون { والنخيل والاعناب } أي : الكروم { وَمِن كُلّ الثمرات } أي : من ألوان الثمرات قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { الله لَكُمْ } بالنون . وقرأ الباقون بالياء ، ومعناهما واحد .
ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : فيما ذكر من نزول المطر ، وخروج النبات لعبرة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في إنشائه . ثم قال : { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } أي ذلّل لكم الليل ، والنهار لمعايشكم { والشمس والقمر } أي : خلق الشمس والقمر { والنجوم مسخرات } بأمره أي : مذللات { بِأَمْرِهِ } أي : بإذنه { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } أي : لعبرات { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لمن له ذهن الإنسانية .
ثم قال عز وجل : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الارض } أي : وما خلق لكم في الأرض ، من الدواب ، والأشجار ، والثمار { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي في اختلاف ألوانها لعبرة { لِقَوْمٍ * يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون قرأ ابن عامر { والشمس والقمر والنجوم } كلها بالرفع على معنى الابتداء . وقرأ عاصم في رواية حفص { والشمس والقمر } بالنصب على معنى البناء . أي : سخر لكم الشمس والقمر . ثم ابتدأ فقال : { والنجوم } بالضم على معنى الابتداء . وقرأ الباقون الثلاثة كلها بالنصب ، ويكون بمعنى المفعول .
ثم قال : { وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر } أي : ذلّل لكم البحر . ويقال : ذلّل لكم ما في البحر { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ } أي : من البحر { لَحْمًا طَرِيّا } أي : السمك الطري { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ } يعني : من البحر { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } يعني : لؤلؤاً تتزينون بها . يعني : زينة للنساء { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } أي : مقبلة ، ومدبرة فيه . ويقال : تذهب ، وتجيء بريح واحدة . وقال عكرمة : يعني : السفينة حين تشق الماء يقال : مخرت السفينة إذا جرت ، لأنها إذا جرت تشق الماء { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : لكي تطلبوا من رزقه ، حين تركبون السفينة للتجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لكي تشكروا الله فيما صنع لكم من النعمة .
ثم قال : { وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ } يعني : الجبال الثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } يعني : لكيلا تميد بكم ، وقد يحذف لا ويراد إثباته ، كما قال هاهنا : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لا تميل بأهلها . وروى معمر عن قتادة أنه قال لما خلقت الأرض كادت تميد فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وقال القتبي الميد الحركة والميل ويقال { أَن تَمِيدَ } أي كراهة أن تميد بكم { وأنهارا } أي : وجعل لكم أنهاراً { وَسُبُلاً } أي : طرقاً { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعرفون بها الطرق { وعلامات } أي : جعل في الأرض علامات من الجبال ، وغيرها تهتدون به الطرق في حال السفر .
{ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } أي : بالجدي ، والفرقدين ، تعرفون بها الطرق في البر والبحر . وروى عبد الرزاق عن معمر في قوله : { وعلامات } قال : قال الكلبي : الجبال . وقال قتادة : النجوم . وروى سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله : { وعلامات وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } قال : منها ما يكون علامة ، ومنها ما يهتدى به . وقال عمر بن الخطاب : تعلموا من النجوم ما تهتدون به ، في طرقكم ، وقبلتكم ، ثم كفوا ، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم . وقال السدي : { وعلامات } أي : الجبال بالنهار يهتدون بها الطرق ، والنجوم بالليل .
ثم قال : { أَفَمَن يَخْلُقُ } يعني : هذه الأشياء التي وصفت لكم { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } أي : لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم الأصنام . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أفلا تتعظون في صنعه ، فتوحّدوه وتعبدوه ، ولا تعبدوا غيره .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
ثم قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } أي : لا تطيقوا إحصاءها . فكيف تقدرون على أداء شكرها { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب ورجع . ثم قال : { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } في قلوبكم { وَمَا تُعْلِنُونَ } بالقول . ويقال : ما تخفون من أعمالكم { وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : تظهرون منها ، فالسر والعلانية عنده سواء .
ثم قال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي : يعبدون من دون الله من الأوثان { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } أي : لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : ينحتون من الأحجار ، والخشب ، وغيره . ثم قال تعالى : { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } قال في رواية الكلبي : يعني : أن الأصنام أموات ليس فيها روح { وَمَا يَشْعُرُونَ } يعني : الأصنام { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى يحيون فيحاسبون ويقال { أَمْوَاتٌ } يعني : أن الكفار غير أحياء . يعني : كأنهم أموات لا يعقلون شيئاً وما يشعرون أيَّان يبعثون غيره { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يعني : الذين لا يصدقون بالبعث { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } أي جاحدة للتوحيد ويقال قلوبهم خبيثة لا تدخل المعرفة فيها { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي متعظمون عن الإيمان ثم قال عز وجل { لاَ جَرَمَ } أي : حقاً . ويقال : نعم . وذكر عن الفراء أنه قال { لاَ جَرَمَ } بمنزلة لا بد ولا محالة .
ثم كثرت في الكلام ، حتى صارت بمنزلة حقاً { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : ما يكتمون ، وما يظهرون من الكفر ، والمكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } أي : المتعظمين عن الإيمان . ويقال : لا يحب المتكبرين الذين يتكبرون على الناس . قال الفقيه : حدّثنا محمد بن الفضل . قال : حدّثنا محمد بن جعفر . قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدّثنا الفضل بن دكين ، عن مسعر بن كدام ، عن أبي مصعب ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب قال : سيأتي المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال ، يغشاهم ، ويأتيهم الذل من كل مكان .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني : الخراصين من أهل مكة . وروى أسباط عن السدي قال : اجتمعت قريش ، فقالوا : إن محمداً رجل حلو اللسان ، إذا كلمه رجل ذهب بعقله . وفي رواية أخرى : بقلبه . فانظروا أناساً من أشرافكم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين . فمن جاء يريده ردّوه عنه . فخرج ناس منهم في كل طريق ، فكان إذا جاء الرجل من وفد القوم ، ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم . فنزل بهم ، فقالوا له : أنا فلان بن فلان ، فيعرفه بنسبه . ثم قال : أنا أخبرك ثم قال : أنا أخبرك . عن محمد ، فلا تنفر إليه هو رجل كذاب لم يتبعه إلا السفهاء والعبيد ، ومن لا خير فيه ، أما أشياخ قومه ، وأخيارهم ، فهم مفارقوه . فيرجعون أي : الوافدون . وإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشد يقول : بئس الوافد أنا لقومي . إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم ، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل ، وأنظر ماذا يقول . فيدخل مكة ، فيلقى المؤمنين ، فيسألهم : ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } [ النحل : 30 ] فذلك قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } للمقتسمين من أهل مكة { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } يعني : ما الذي أنزل ربكم على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قَالُواْ أساطير الاولين } يعني : الذين يذكرون أنه منزل ، هو كذب الأولين ، وأحاديثهم .
قال الله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } أي : آثامهم { كَامِلَةٌ } أي : وافرة { يَوْمُ القيامة } أي : لا يغفر لهم شيء . وذنوب المؤمنين تكفر عنهم من الصلاة إلى الصلاة ، ومن رمضان إلى رمضان ، ومن الحج إلى الحج ، وتكفر بالشدائد ، والمصائب . وذنوب الكفار لا تغفر لهم ، ويحملونها كاملة يوم القيامة . أي : يحملون وبال الذنوب التي عملوا بأنفسهم { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } أي : يصدُّونهم عن الإيمان { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بغير عذر ، وحجة ، وبرهان . ويقال : { مِنْ * أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } أي : أوزار إضلالهم . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من سنّ سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . ثم قال : { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي : بئس ما يحملون من الذنوب . ويقال : بئس الزاد زادهم الذنوب .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
ثم قال تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين ، فأبطل الله كيدهم { فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد } أي : قلع بنيانهم من أساس البيت { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } أي : سقف البيت ، قال الكلبي : وهو نمروذ بن كنعان ، بنى صرحاً طوله في السَّماء خمسة آلاف ذراع وخمسون ذراعاً ، وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعاً ، فهدم الله بنيانه ، وخرّ عليهم السقف من فوقهم ، فأهلكهم الله . وقال القتبي : هذا مثل . أي : أهلك من قبلهم من الكفار ، كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله ، فخرّ عليه . ويقال : هدم بنيان مكرهم من الأصل ، فخرّ عليهم السقف . أي : رجع وبال مكرهم إليهم ، كقوله تعالى : { استكبارا فِى الارض وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاٌّوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] { وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : لا يعلمون .
قوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } أي : يعذبهم ، وما أصابهم في الدنيا ، لم يكن كفارة لذنوبهم . { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ } أي : تعادونني ، وتخالفونني فيهم ، يعني : بسببهم وعبادتهم قرأ نافع { تشاقون } بكسر النون على معنى الإضافة . والباقون : بنصب النون لأنها نون الجماعة . { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } أي : الملائكة . ويقال : يعني : المؤمنين { إِنَّ الخزى اليوم } أي : العقاب { والسوء } أي : الشدة من العذاب { عَلَى الكافرين } .
قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة } أي : يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } أي : الذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله تعالى { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي : انقادوا ، واستسلموا حين رأوا العذاب . قالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } أي : ما كنا نشرك بالله . وقال الكلبي : هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر ، قد تكلموا بالإيمان ، فلما رأوا قلة المؤمنين ، رجعوا إلى الشرك فقتلوا . ويقال : جميع المشركين . قال الله تعالى : { بلى } أشركتم بالله { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الشرك .
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
قوله : { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي : يقول لهم خزنة جهنم ، ادخلوا أبواب جهنم { خالدين فِيهَا } أي : مقيمين فيها أبداً { فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } يعني : لبئس مأوى المتكبرين عن الإيمان . ثم نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان ، وذلك أن أهل مكة ، لما بعثوا إلى أعقاب مكة رجالاً ، ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً من أصحابه ، إلى أعقاب مكة . فكان الوافد إذا قدم إليهم ، قالوا له : إن هؤلاء المشركين كذبوا ، بل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ، ويأمر بصلة الرحم ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويدعو إلى الخير .
قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } أي : يدعو إلى الخير { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي : للذين وحّدوا في هذه الدنيا ، لهم الحسنة في الآخرة أي : الجنة { وَلَدَارُ الاخرة } يعني : الجنة { خَيْرٌ } أي : أفضل من الدنيا { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } يعني : المطيعين . قال مقاتل في قوله : { قَالُواْ خَيْرًا } أي : قالوا للوافد إنه يأمر بالخير ، وينهى عن الشر { قَالُواْ خَيْرًا } ثم قطع الكلام .
يقول الله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي : أحسنوا العمل في هذه الدنيا ، لهم حسنة في الآخرة أي : في الجنة { وَلَدَارُ الاخرة } خير يعني : الجنة أفضل من ثواب المشركين الذين يحملون أوزارهم . ويقال : هذه كلها حكاية كلام المؤمنين ، إلى قوله : { المتقين } قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { تُسِرُّونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . { سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ } بالياء على معنى المغايبة . وروي عن حفص : الثلاث كلها بالياء على معنى المغايبة . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة .
ثم وصف دار المتقين فقال : { جنات عَدْنٍ } يعني : الدار التي هي للمتقين جنات عدن { يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ } أي : يحبون ، ويتمنون { كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين } أي : هكذا يثبت الله المتقين الشرك .
قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة } أي : ملك الموت { طَيّبِينَ } يقول : زاكين ، طاهرين من الشرك ، والذنوب ، { يَقُولُونَ } أي : يقول لهم خزنة الجنة في الآخرة { سلام عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا . ويقال : هذا مقدم ومؤخر . أي : جنات عدن يدخلونها .
ثم قال : { الذين تتوفاهم الملائكة } قرأ حمزة : { الذين } بالياء بلفظ التذكير . والباقون : بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن الفعل إذا كان قبل الاسم جاز التذكير والتأنيث . قوله : { أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ } يقول : ما ينظرون وهم أهل مكة { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } أي : ملك الموت يقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } أي : عذاب ربك يوم بدر ، ويقال : يوم القيامة { كَذَلِكَ فَعَلَ } أي : كذلك كذب { الذين مِن قَبْلِهِمْ } رسلهم ، كما كذبك قومك ، فأهلكهم الله تعالى { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } يعني : بإهلاكه إياهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بتكذيبهم رسلهم . قرأ حمزة والكسائي : إلا أن يأتيهم بالياء بلفظ التذكير ، والباقون بلفظ التأنيث ، لأن الفعل مقدم .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{ فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي : جزاء ما عملوا { وَحَاقَ بِهِم } أي : نزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } من العذاب أنه غير نازل بهم . قوله : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } أي : أهل مكة { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } قالوا ذلك على وجه الاستهزاء . يعني : إن الله قد شاء لنا ذلك الذي { نَحْنُ } فيه { وَلاَ ىَابَاؤُنَا } ولكن شاء لنا ولآبائنا { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } ولا آباؤنا ، ولكن شاء لنا من تحريم البحيرة ، والسائبة ، وأمرنا به . ولو لم يشأ ، ما حرمنا من دونه من شيء .
قال الله تعالى : { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يقول : هكذا كذب الذين من قبلهم من الأمم { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ } أي : ليس عليهم إلا تبليغ الرسالة { المبين } أي : بينّوا لهم ما أمروا به . قوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ } أي : في كل جماعة { رَسُولاً } كما بعثناك إلى أهل مكة { أَنِ اعبدوا الله } أي : وحدوا الله ، وأطيعوه { واجتنبوا الطاغوت } أي : اتركوا عبادة الطاغوت ، وهو الشيطان ، والكاهن ، والصنم ، { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } لدينه ، وهم الذين أجابوا الرسل للإيمان { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ } يعني : وجبت { عَلَيْهِ الضلالة } فلم يجب الرسل إلى الإيمان { فَسِيرُواْ فِى الارض } يقول سافروا في الأرض { فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } يقول : اعتبروا كيف كان آخر أمر المكذبين . فلما نزلت هذه الآية ، قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يؤمنوا ، فنزل قوله : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } يعني : على إيمانهم { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } يقول : من يضلل الله ، وعلم أنه أهل لذلك ، وقدر عليه ذلك . قال مقاتل : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] قرأ أهل الكوفة ، حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، { لاَّ يَهِدِّى } بنصب الياء ، وكسر الدال ، أي لا يهدي من يضلله الله . وقرأ الباقون : { لاَّ يَهِدِّى } بضم الياء ، ونصب الدال ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، ولم يختلفوا في { يُضِلَّ } أنه بضم الياء ، وكسر الضاد . وقال إبراهيم بن الحكم : سألت أبي عن قوله تعالى : { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } فقال : قال عكرمة . قال ابن عباس : من يضلله الله لا يهدى { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } أي : من مانعين من نزول العذاب .
قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } وكل ما حلف بالله ، فهو جهد اليمين لأنهم كانوا يحلفون بالأصنام بآبائهم ، ويسمون اليمين بالله جهد باليمين ، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت ، وحلفوا بالله حين قالوا : { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } فكذبهم الله تعالى في مقالتهم ، فقال : { بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } أوجبه على نفسه ليبعثهم بعد الموت .
{ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يصدقون بالبعث بعد الموت .
قوله : { لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } من الدين يوم القيامة يعني : يبعثهم ، ليبين لهم أن ما وعدهم حقّ { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ } يعني : ليستبين لهم عندما خرجوا من قبورهم { أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين } في الدنيا .
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء } يعني : إن بعثهم على الله يسير { إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : { فَيَكُونُ } بضم النون . وقرأ الباقون : بالنصب .
قوله : { والذين هاجروا فِى الله } أي : هاجروا من مكة إلى المدينة في طاعة الله { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي : عذبوا { لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } أي : لننزلنهم بالمدينة ، ولنعطينهم الغنيمة فهذا الثواب في الدنيا { وَلاَجْرُ الاخرة } أي : الجنة { أَكْبَرَ } أي : أفضل { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : يصدقون بالثواب .
ثم نعتهم فقال : { الذين صَبَرُواْ } على العذاب { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يثقون به ، ولا يثقون بغيره ، منهم بلال بن حمامة ، وعمار بن ياسر ، وصهيب بن سنان ، وخباب بن الأرت؛ قال مقاتل : نزلت الآية في هؤلاء الأربعة . عذبوا على الإيمان بمكة . وقال في رواية الكلبي : نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسرهم أهل مكة ، وذكر هؤلاء الأربعة ، واثنين آخرين ، عابس وجبير مولى لقريش . فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام . فأما صهيب فابتاع نفسه بماله ، ورجع إلى المدينة وأما سائر أصحابه ، فقالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا إلى المدينة بعد ذلك .
ثم قال قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } كما أوحي إليك ، وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة ، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى ، أنكروا ذلك ، وقالوا : لن يبعث الله رجلاً إلينا ، ولو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً ، لبعث إلينا من الملائكة الذين عنده ، فنزل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } إلى الأمم الماضية { إِلاَّ رِجَالاً } مثلك { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } كما نوحي إليك قرأ عاصم في رواية حفص { نُوحِى } بالنون وقرأ الباقون : بالياء .
ثم قال : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } أي : أهل التوراة والإنجيل { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بالبينات والزبر } وفي الآية تقديم وتأخير . أي : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم بالبينات ، والزبر . وروى أسباط عن السدي قال : البينات : الحلال ، والحرام . والزبر : كتب الأنبياء . وقال الكلبي : البينات أي : بالآيات الحلال ، والحرام ، والأمر ، والنهي ، ما كانوا يأتون به قومهم منها ، وهو كتاب النبوة . ويقال : البينات التي كانت تأتي بها الأنبياء ، مثل عصا موسى وناقة صالح . وقال مقاتل : { والزبر } يعني : حديث الكتب .
ثم قال : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } يعني : القرآن { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ } لتقرأ للناس { مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } أي : ما أمروا به في الكتاب { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يتفكروا فيه ، ليؤمنوا به .
ثم خوّفهم فقال : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } أي : أشركوا بالله { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الارض } يعني : أن تغور الأرض بهم ، حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : من حيث لا يعلمون بهلاكهم .
قوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } أي : في ذهابهم ، ومجيئهم في تجارتهم { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } أي : على تنقص . ويقال : يأخذ قرية بالعذاب ، ويترك أخرى قريبةً منها ، فيخوفها بمثل ذلك . وهذا قول مقاتل : وروي عن بعض التابعين أن عمر سأل جلساءه عن قوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } فقالوا : ما نرى إلا عند بعض ما يرون من الآيات يخوفهم ، فقال عمر : ما أراه إلاَّ عندما يتنقصون من معاصي الله ، فخرج رجل فلقي أعرابياً ، فقال : يا فلان ما فعل دينك؟ قال : تخيلته أي : تنقصته . فرجع إليه فأخبره بذلك . ثم قال تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ * لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } أي : لا يعجل عليهم بالعقوبة .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } قرأ حمزة والكسائي { أَوَلَمْ *** تَرَوْاْ } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون : بالياء على معنى المغايبة يعني : أولم يعتبروا { إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } عند طلوع الشمس وعند غروبها { يَتَفَيَّأُ ظلاله } يعني : يدور ظله { عَنِ اليمين والشمآئل } قال القتبي : أصل الفيء الرجوع . وتفيؤ الظلال : رجوعها من جانب إلى جانب { سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون } أي : صاغرون ، وهم مطيعون . وأصل السجود التطأطؤ ، والميل . يقال : سجد البعير إذا تطأطأ ، وسجدت النخلة إذا مالت . ثم قد يستعار السجود ، ويوضع موضع الاستسلام ، والطاعة ، ودوران الظل ، من جانب إلى جانب . هو سجوده لأنه مستسلم ، منقاد ، مطيع . فذلك قوله : { سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون } قرأ أبو عمرو : { ***تَتَفَيَّأُ } بالتاء بلفظ التأنيث ، والباقون : بالياء ، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ، ولأن الفعل مقدم ، فيجوز التذكير والتأنيث .
ثم قال تعالى : { داخرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } أي : يستسلم { مَا فِي السموات } من الملائكة ، والشمس ، والقمر ، والنجوم ، { وَمَا فِى الارض مِن دَآبَّةٍ } يعني : يسجد لله جميع ما في الأرض من دابة { والملئكة } يعني : وما على الأرض من الملائكة . ويقال : فيه تقديم وتأخير ، ومعناه : ما في السموات من الملائكة ، وما في الأرض من دابة . ويقال : معناه يسجد له جميع ما في السموات ، وما في الأرض ، من دابة والملائكة . يعني : الدواب ، والملائكة ، والذين هم في السموات والأرض .
ثم قال : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : لا يتعظمون عن السجود لله تعالى { يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } أي : يخافون الله تعالى . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ لله تَعَالَى مَلائِكَةً فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ سُجّداً مُذْ خَلَقَهُمُ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ الله تَعَالَى ، فَإِذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَقَالُوا : ما عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } » أي : يخافون خوفاً ، معظمين ، مبجلين . ويقال : خوفم بالقهر ، والغلبة ، والسلطان . ويقال : معناه يخافون ربهم الذي على العرش ، كما وصف نفسه بعلوه ، وقدرته ، والطريق الأول أوضح كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 10 ] أي : لا يعصون الله تعالى طرفة عين . قرأ أبو عمرو : { ***يتفيؤا } بالتاء بلفظ التأنيث . وقرأ الباقون : بالياء لأن تأنيثه مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث .
قوله : { يُؤْمَرُونَ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } أي : لا تقولوا ، ولا تصفوا إلهين اثنين ، أي : نفسه ، والأصنام . ويقال : نزلت الآية في صنف من المجوس ، إنهم وصفوا إلهين اثنين .
قال الله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ فإياي فارهبون } أي : فاخشوني ، ووحدوني ، وأطيعوني ، ولا تعبدوا غيري { وَلَهُ مَا فِى *** السموات } من الملائكة { والارض } من الخلق ، الجن ، والإنس ، كلهم عبيده وإماؤه { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } أي : دائماً ، خالصاً .
ويقال : الألوهية . والربوبية له خالصاً . ويقال : دينه واجب أبداً لا يجوز لأحد أن يميل عنه . ويقال : معناه : وله الدين والطاعة ، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يرض ، والوصب في اللغة : الشدة والتعب .
ثم قال : { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } أي : تعبدون غيره { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله } يعني : إن الذي بكم من الغنى ، وصحة الجسم ، من قبل الله تعالى { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } يعني : الفقر ، والبلاء في جسدكم . { وَمَا بِكُم } يعني : إليه تتضرعون ليكشف الضر عنكم ، كما قال في سورة الدخان { رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ } [ الدخان : 12 ] { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم } يعني : الكفار { بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } أي : يعبدون غيره .
قوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } أي : يجحدوا بما أعطيناهم من النعمة { فَتَمَتَّعُواْ } اللفظ لفظ الأمر والمراد به التهديد ، كقوله : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 40 ] يعني : تمتعوا بقية آجالكم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : تعرفون في الآخرة ماذا نفعل بكم .
قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا } أي : يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام ، كقوله : { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والانعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الأنعام : 136 ] وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رزقناهم تالله لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [ النحل : 56 ] قال بعضهم : يعني : الكفار جعلوا لأصنامهم نصيباً ، ولا يعلمون منهم ضراً ولا نفعاً . وبعضهم قال : معناه يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئاً نصيباً ، أي : حظاً { مّمّا رزقناهم } من الحرث والأنعام . قال تعالى : { تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } أي : تكذبون على الله ، لأنهم كانوا يقولون إنَّ الله أمرنا بهذا .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } يعني : يصفون لله ، ويقولون : الملائكة بنات الله { سبحانه } أي : تنزيهاً له عن الولد { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني : الأولاد الذكور . أي : يصفون لغيرهم البنات ، ولأنفسهم الذكور .
ثم وصف كراهتهم البنات لأنفسهم فقال : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى } يقول : إذا بشر أحد الكفار بالأنثى { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } أي : صار وجهه متغيراً من الحزن ، والخجل ، { وَهُوَ كَظِيمٌ } يعني : مكروباً ، مغموماً من الحزن ، يتردد حزنه في جوفه .
قوله : { يتوارى مِنَ القوم مِن سُوء } يعني : يكتم ما به من القوم . ويقال : يستر وجهه من القوم ، ويختفي من سوء { مَا بُشّرَ بِهِ } أي : ما ظهر على وجهه من الكراهية ، ويدبر في نفسه كيف أصنع بها { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } أي : الأنثى التي ولدت له على هوان يعني : أيحفظه على هوان { أَمْ يَدُسُّهُ فِى } أي : يدقه { التراب أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئسما يفضون به ، لأنفسهم الذكور ، وله الإناث .
ثم قال : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } أي : المشركين { مَثَلُ السوء } أي : جزاء السوء النار في الآخرة . ويقال : يعني : عاقبة السوء . ويقال : لآلهتهم صفة السوء صم ، بكم ، عمي . { وَلِلَّهِ المثل الاعلى } أي : الصفة العليا ، وهي شهادة أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له { فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3/4 ] فهذه الصفة العليا { وَهُوَ العزيز } في ملكه ، { الحكيم } في أمره ، أَمَرَ الخلق أن لا يعبدوا غيره .
قوله : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } أي : بشركهم ومعصيتهم ، { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } أي : لم يترك على ظهر الأرض من دابة ، ودل الإضمار على الأرض ، لأن الدواب إنما هي على الأرض . يقول : أنا قادر على ذلك . { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } أي : إلى وقت معلوم ، ويقال : { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } لأنه لو أخذهم بذنوبهم ، لمنع المطر . وإذا منع المطر ، لم يبق في الأرض دابة إلا أهلكت ، ولكن يؤخر العذاب إلى أجلٍ مسمًّى . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم ، لأصاب العذاب جميع الخلائق ، حتى الْجُعْلاَن في جحرها ، ولأمسكت السماء عن الأمطار ، ولكن يؤخرهم بالفضل والعفو .
ثم قال : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } أي : أجل العذاب { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } أي : لا يتأخرون عن الوقت { سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي : لا يتقدمون قبل الوقت .
ثم قال : { وَيَجْعَلُونَ } أي : يصفون ويقولون { لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم ، وهو البنات { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } أي : يقولون الكذب { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } أي : الذكور من الولد .
ويقال : الجنة أي : يصفون لأنفهسم مع أعمالهم القبيحة أن لهم في الآخرة الجنة .
ثم قال : { لاَ جَرَمَ } يعني : حقاً ويقال : لا بد ، ولا محالة { أَنَّ لَهُمُ النار } وهو كقوله : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً محياهم ومماتهم سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قرأ نافع : بكسر الراء . يعني : أفرطوا في القول ، وأفرطوا في المعصية . وقرأ الباقون : { مُّفْرَطُونَ } بفتح الراء أي : متروكون في النار . ويقال : منسيون في النار ، وهو قول سعيد بن جبير . وقال قتادة : أي معلجون في النار . ويقال : الفارط في اللغة الذي يتقدم إلى الماء ، وهذا قول يوافق قول قتادة .
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ثم قال : { تالله } يقول والله { لَقَدْ أَرْسَلْنَآ } أي : بعثنا { إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } أي : بعثنا إلى أمم من قبلك الرسل ، كما أرسلناك إلى قومك { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ } أي : ضلالهم حتى أطاعوا الشيطان ، وكذبوا الرسل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } أي : قرينهم في النار { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فهذا تهديد لكفار مكة أنه يصيبهم مثل ما أصابهم ، وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم .
ثم قال تعالى : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } أي : القرآن { إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذى اختلفوا فِيهِ } من الدين ، لأنهم كانوا في طرق مختلفة ، اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، وغيرهم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبيّن لهم طريق الهدى .
ثم قال : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي : أنزلنا القرآن بياناً من الضلالة ، ونعمة من العذاب لمن آمن به { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالقرآن .
قوله : { والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } أي : المطر { فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد يبسها { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي : في إحيائها لعلامة لوحدانيته ، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئاً { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يطيعون ، ويصدقون ، ويعتبرون ، ويبصرون .
قوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ } قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { نُّسْقِيكُمْ } بنصب النون ، وقرأ الباقون : بضم النون . ومعناهما قريب . يقال : سقيته وأسقيته بمعنى واحد { مّمَّا فِى بُطُونِهِ } ولم يقل : مما في بطونها . والأنعام جماعة مؤنثة . وفي هذا قولان : إن شئت رددت إلى واحد من الأنعام ، وواحدها نعم ، والنعم تذكر ، وتؤنث ، كقوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] أي : من الحجر . وإن شئت قلت على تأويل آخر { نُّسْقِيكُمْ } وهو { مّمَّا فِى بُطُونِهِ } أي : بطون ما ذكرنا . وهذا مثل قوله : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأنعام : 141 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] ولم يقل فاجتنبوها . أي : فاجتنبوا ما ذكرنا .
ثم قال تعالى : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } يعني : يخرج اللبن من بين الفرث والدم . قال ابن عباس ، في رواية أبي صالح : إن الدابة تأكل العلف ، فإذا استقر في كرشها ، طحنته الكبد فكان أسفله فرث ، وأوسطه لبن ، وأعلاه دم الكبد مسلط على هذه الأصناف الثلاثة .
فيقسم الدم ، فيجري في العروق ، ويجري اللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو في الكرش . وقال بعضهم : إذا استقر العلف في الكرش ، صار دماً بحرارة الكبد ، ثم ينصرف الدم في العروق ، فمقدار ما ينتهي إلى الضرع صار لبناً ، لبرودة الضرع ، بدليل أنَّ الضرع إذا كانت فيه آفة ، يخرج منه الدم مكان اللبن .
ثم قال : { لَّبَنًا خَالِصًا } صار اللبن نصباً على معنى التفسير { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي : سهلاً في الشرب لا يغص به شاربه . ويقال : يشتهي شاربه ( إليه ) .
ثم قال تعالى : { وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ } أي : من التمر . ويقال : { مِنْهُ } كناية عن الأول ، وهو قوله { وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ } من ذلك { سَكَرًا } والسكر هو نقيع التمر ، إذا غلى واشتد قبل أن يطبخ . ويقال سكراً أي : خمراً . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية وهي يومئذٍ كانت لهم حلال . وهكذا قال الحسن والقتبي : إن هذه الآية نزلت في الخمر { وَرِزْقًا حَسَنًا } يعني : الخل ، والزبيب ، والرُّبُّ . وروي عن ابن عباس أنه قال : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } يعني : ما حرم منه { وَرِزْقًا حَسَنًا } ما أحل منه . وقال الشعبي : السكر : النبيذ ، والخل ، والرزق الحسن : التمر ، والزبيب . وقال الضحاك : السكر : الحرام ، والرزق الحسن : الحلال . وهؤلاء كلهم قالوا : قبل تحريم الخمر . وقال الأخفش : سكراً طعاماً . يقال : هذا سكر لك أي : طعام لك . وقال القتبي : لست أدري هذا . ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي : لعبرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } توحيد الله تعالى .
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وقوله : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } أي : ألهمها إلهاماً مثل قوله { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا } أي : مسكناً { وَمِنَ الشجر } يعني : أن اتخذي من الجبال ، ومن الشجر ، مسكناً { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } يعني : ومما يبنون من سقوف البيت . قرأ ابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر : { يَعْرِشُونَ } بضم الراء والباقون : بالكسر . ومعناهما واحد . أي : ومما يبنون من سقوف البيت { ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات } أي من ألوان الثمرات . أي : ألهمها بأكل الثمرات ، { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً } أي : ادخلي الطريق الذي يسهل عليك . ويقال : خذي طرق ربك مذللاً أي مسخراً لك . وقال مقاتل : { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ } يعني : ادخلي طرق ربك في الجبال ، وفي خلال الشجر { ذُلُلاً } لأنَّ الله تعالى ذلل لها طرقها حيثما توجهت { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } أي : من بطون النحل ، من قبل أفواهها مثل اللعاب { شَرَابٌ } يعني : العسل { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي : العسل أبيض ، وأصفر ، وأحمر . ويقال : يخرج من أفواه الشباب من النحل الأبيض ، ومن الكهول الأصفر ، ومن الشيوخ الأحمر { فِيهِ } أي : في العسل { شِفَآء لِلنَّاسِ } روى أبو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري . قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه . فقال له : « اسْقِهِ عَسَلاً » . فسقاه . ثم جاء فقال : سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً . فقال له : « اسْقِهِ عَسَلاً » . فسقاه . ثم جاءه فقال : سقيته فلم يزده إلاَّ استطلاقاً . فقال له : « اسْقِهِ عَسَلاً . صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ » . فسقاه فبرىء . قال الفقيه أبو الليث : إنما يكون العسل شفاء إذا عرف الإنسان مقداره ، ويعرف لأي داء هو . فإذا لم يعرف مقداره ، ولم يعرف موضعه ، فربما يكون فيه ضرر . كما أن الله تعالى جعل الماء حياة كل شيء ، وربما يكون الماء سبباً للهلاك . وقال السدي : العسل شفاء الأوجاع التي يكون شفاؤها فيه . وقال مجاهد : { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } أي : في القرآن بيان للناس من الضلالة . وروى أبو الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . وروى الأسود عن ابن مسعود أنه قال : عليكم بالشفاء من القرآن ، والعسل .
ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي : فيما ذكر من أمر النحل لعلامة لوحدانيتي { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعني : علموا أن معبودهم لم يغنهم من شيء . ثم قال : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم } أي : يقبض أرواحكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أي : إلى أسفل العمر ، وهو الهرم { لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } أي : صار بحال لا يعلم ما علم من قبل .
ويقال : لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً . ويقال : إن الهرم اسوأ العمر ، وشره ، وقوله : { لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ } أي : حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً ، لشدة هرمه ، بعد ما كان يعلم الأمور قبل الهرم { إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ } على تحويلكم . ويقال : معناه { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أي : إني محولكم من حال إلى حال تكرهونه ، ولا يقدر معبودكم أن يمنعني عن ذلك ، والله عليم قدير على ذلك .
قوله : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } أي : فضّل الموالي على العبيد في المال { فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي : الموالي لا يرضون بدفع المال إلى المماليك { فَهُمْ فِيهِ سَوَآء } أي : لا ترضون لأنفسكم أن يكون عبيدكم معكم شركاء في أموالكم ، فكيف ترضون لله تعالى أن تصفوا له شريكاً في ملكه ، وصفاته ، وتصفوا له ولداً من عباده . وقال قتادة : هو الذي فضل في المال والولد لا يشرك عبيده في ماله . فقد رضيتم بذلك لله تعالى ، ولم ترضوا به لأنفسكم . وقال مجاهد : ضرب الله مثلاً للآلهة الباطلة مع الله تعالى . ويقال نزلت الآية في وفد نجران حين قالوا في عيسى عليه السلام ما قالوا .
ثم قال تعالى : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } يقول : بوحدانية الله تعالى تكفرون ، وترضون له ما لا ترضون لأنفسكم .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } يعني : خلق لكم من جنسكم إناثاً { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ } أي : خلق لكم من نسائكم بَنِينَ { وَحَفَدَةً } أي : ولد الولد . ويقال : هم الأَعوان ، والخدم ، والأصهار . وروي عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود أنه قال : الحفدة : الأختان . وقال مجاهد : الخدم ، وأنصاره ، وأعوانه . وعن ابن مسعود أنه قال : هم أصهاره . وقال الربيع بن أنس : البنون بنو الرجل من امرأته . والحفدة بنو المرأة من غيره . وقال زر بن حبيش : الحفدة : حشم الرجل . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الولد الصالح . وقال أَهل اللغة : أصله في اللغة السرعة في المشي ، ويقال : في دعاء التوتر : ونحفد أي : ونجتهد في الخدمة والطاعة .
ثم قال : { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } قال الكلبي : يعني : الحلال إن أخذتم به . وقال مقاتل : { الطيبات } الخبز ، والعسل ، وغيرهما من الأشياء الطيبة ، بخلاف رزق البهائم والطيور .
ثم قال : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } قال الكلبي : يعني : الآلهة وقال مقاتل : { أفبالباطل } يقول : بالشيطان يصدقون بأن مع الله إلهاً آخر . ويقال { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } يعني : أفيعبدون الأصنام التي لا تقدر على مضرتهم ، ولا على منفعتهم { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ } أي : يجحدون بوحدانية الله تعالى ويقال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ } فلا يؤمنون برب هذه النعمة .
قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني : الأصنام { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ } أي : لا يقدر لهم { رِزْقًا مّنَ *** السموات } أي : إنزال المطر { والارض } أي : والنبات { شَيْئاً } يعني : لا يملكون شيئاً من ذلك . وقال القتبي : إنما نصب { شَيْئاً } بإيقاع الرزق عليه . ومعناه : يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئاً . كما تقول : ويخدم من لا يستطيع إِعطاءَه درهماً .
ثم قال : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يعني : ذلك { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال } يعني : لا تصفوا لله شريكاً فإنه لا إله غيره { أَنَّ الله يَعْلَمُ } أنه لا شريك له ويقال إن الله يعلم ضرب الأمثال { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ضرب المثل .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
ثم قال تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : وصف الله شبهاً { عَبْدًا مَّمْلُوكًا } وهو الكافر { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } يقول : لا يقدر على مال ينفقه في طاعة الله { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } أي : مالاً حلالاً { فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ } أي : يتصدق منه { سِرّا وَجَهْرًا } يقول : يتصدق خفية وعلانية وهو المؤمن { هَلْ يَسْتَوُونَ } في الطاعة مثلاً { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ضرب المثل . وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان . والآخر أبو الفيض بن أمية وهو كافر ، لا يقدر أن ينفق خيراً لمعاده ، وعثمان أنفق لآخرته فهل يستويان؟ أي : هل يستوي الكافر والمؤمن؟ ويقال ضرب المثل للآلهة . ومعناه : أن الاثنين المتساويين في الخلق ، إذا كان أحدهما قادراً على الإنفاق ، والآخر عاجزاً ، لا يستويان . فكيف يسوون بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل ، وبين الذي هو على كل شيء قدير؟ فبيّن الله تعالى علامة ضلالتهم ، ثم حمد نفسه ، ودل خلقه على حمده ، فقال : { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ثم زاد في البيان ، وضرب مثلاً آخر فقال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } يعني أخرس وهو الصنم { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } من مال ولا منفعة { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } يعني : ثقل على وليه ، وقرابته . يعني : الصنم عيال ، ووبال على عابده . { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } يعني : حيث يبعثه لا يجيء بخير { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } يعني : بالتوحيد { وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يدل الخلق على التوحيد . ويقال : هذا المثل للكافر مع النبي صلى الله عليه وسلم يعني : الكافر الذي لا يتكلم بالخير ، هل يستوي هو { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي : التوحيد ويدعو الناس إليه { وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يدعو الناس إليه وهو دين الإسلام . وقال السدي : المثلان ضربهما الله لنفسه وللآلهة .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
ثم قال تعالى : { وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض } يعني : ما غاب عن العباد { وَمَا أَمْرُ الساعة } يعني : قيام الساعة { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } كرجع البصر { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } يقول : بل هو أقرب . أي أسرع . قال الزجاج : أخبر الله تعالى أن البعث والإحياء في قدرة الله تعالى ، ومشيئته كلمح البصر . ولم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ، ولكنه وصف سرعة القدرة على الإتيان بها . ويقال : أو هو أقرب الألف زيادة ، ومعناه : وهو أقرب .
ثم قال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : من البعث وغيره .
قوله : { والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم } قرأ حمزة والكسائي «أُمَّهاتكم» بكسر الألف . والباقون : بالضم . ومعناهما واحد . وقال الزجاج : الأصل في الأمهات ، ولكن الهاء زيدت مؤكدة ، كما زادوها في قولهم : أهرقت الماء ، وأصله أرقت الماء . { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } يعني : لا تعقلون شيئاً . ويقال : لا تعلمون الأشياء كلها . { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة } تعقلون بها الخير والشر { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لكي تشكروا النعمة .
ثم بيّن لهم العبرة ليعتبروا بها ، ويعرفوا بها وحدانيته فقال : { أَلَمْ تَرَوْاْ * إلى الطير مسخرات } يقول : مذللات { فِى جَوّ السمآء } قال ابن عباس أي : في الهواء { مَا يُمْسِكُهُنَّ } عند قبض الأَجنحة ، وعند بسطها { إِلاَّ الله إِنَّ فِى ذلك } أي : فيما ذكرت { لاَيَاتٍ } أي : علامات لوحدانية الله ، لمن علم أن معبودهم لم يعنه في ذلك . يعني : الكفار لا يعلمون متى يبعثون وأيان كلمة الاختصار وأصله أي أوان؟ .
ثم قال تعالى { إلهكم إله واحد } يعني : ربكم رب واحد فاعبدوه ، ولا تعبدوا غيره { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : لمن آمن به . قرأ ابن عامر وحمزة { أَلَمْ تَرَوْاْ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء .
ثم قال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } أي : خلق لكم البيوت قراراً ومأوًى لكم . ويقال : معناه سخر لكم الأرض ، لتبنوا فيها البيوت . ويقال : معناه وفقكم لبناء البيوت لسكناكم ، وقراركم ، فذكر النعم ، والمنن ، والدلائل لوحدانيته .
ثم قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام } أي : من الشعر ، والصوف ، والوبر ، { بُيُوتًا } أي : الفساطيط والخيام { تَسْتَخِفُّونَهَا } أي : تستخفون حملها { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم } أي : يوم انتقالكم ، وسفركم ، ويوم نزولكم { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } أي : من أصواف الغنم { وَأَوْبَارِهَا } يعني : الإبل { وَأَشْعَارِهَا } يعني : أشعار المعز { أَثَاثاً } أي : متاع البيت من الفرش ، والأكسية . وقال قتادة والكلبي : يعني : المال . { ومتاعا إلى حِينٍ } يعني : المنفعة حتى تعيشون فيه إلى الموت . ويقال : تنتفعون بها إلى حين تبلى ، وتهلك . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو { ظَعْنِكُمْ } بنصب العين . وقرأ الباقون : بالجزم ومعناهما واحد .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا } أي : أشجاراً تستظلون بها . ويقال : بيوتاً تسكنون فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا } أي : جعل لكم من الجبال بيوتاً تسكنون فيها . ويقال : أكناناً يعني : الغيران ، والأسراب واحدها كنّ { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } أي : القمص { تَقِيكُمُ الحر } يعني : والبرد اكتفاء أحدهما إذا كان يدل على الآخر . وقال قتادة في قوله : { مّمَّا خَلَقَ ظلالا } أي : من الشجر وغيره { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا } يعني : غيراناً في الجبال يسكن فيها { تَقِيكُمُ * مِنَ الحرث } أي : من القطن ، والكتان ، والصوف . قال : وكانت تسمى هذه السورة سورة النعم . { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } وهي الدروع من الحديد تدفع عنكم قتال عدوكم .
ثم قال : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : ما ذكر من النعم في هذه السورة { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي : تعرفون رب هذه النعم . فتوحّدوه ، وتخلصوا له بالعبادة . وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } بنصب التاء واللام ، ومعناه : تسلمون من الجراحات إذا لبستم الدروع ، وتسلمون من الحر والبرد إذا لبستم القمص .
ثم قال : بعد ما بيّن العلامات : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن الإيمان { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } تبلغهم رسالتي ، وتبيّن لهم الهدى من الضلالة .
ثم قال تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } أي : يعرفون أن خالق هذه الأشياء هو الله تعالى ، ثم ينكرونها . ويقولون : هي بشفاعة آلهتنا ، وهذا قول الكلبي . وقال السدي : يعني : يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم أنه نبي ، وأنه صادق ، ولا يؤمنون به . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } قال : هي المساكن ، والأنعام ، وما يرزقون منها . وسرابيل الحديد والثياب ، يعرف هذا الكافرون { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } ويقولون : هذا كان لآبائنا ، وورثناها . ويقال : إنكارهم قولهم : لولا كذا لكان كذا . ويقال : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } وذلك أنهم إذا سئلوا من خلقهم؟ يقولون : الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } يعني : البعث { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } يعني : كلهم كافرون بالتوحيد . ويقال : جاحدون بالنعم .
قوله { وَيَوْمَ نَبْعَثُ } اذكر يوم نبعث { فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } أي : نبياً شاهداً على أمته بالرسالة أنه بلغها { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : في الكلام { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يقول : لا يرجعون من الآخرة إلى الدنيا . وقال أهل اللغة : عَتَب يَعْتِب إذا وجد عليه ، وأعْتَبَ يُعْتِبُ إذا رجع عن ذنبه ، واستعتب يستعتب إذا طلب منهم الرجوع ، أي : لا يطلب منهم الرجوع إلى الدنيا .
قوله : { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب } أي : الكفار { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ } أي : لا يهوّن عليهم العذاب حين رأوها { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : لا يمهلون ، ولا يؤجلون ، ولا يتركون ساعة ، ليستريحوا .
قوله : { وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ } أي : آلهتهم { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا } يعني : نعبد { مِن دُونِكَ } يقولون : نعبد دونك ، وهم أمرونا بذلك . ويقال : يعني : السفلة إذا رأوا شركاءهم . يعني : أمراءهم ورؤساءهم قالوا : ربنا هؤلاء قادتنا الذين كنا ندعو من دونك . أي : هم أَمرونا بالمعصية فأطعناهم { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } يعني : الآلهة ، والقادة ، وأجابوهم { إِنَّكُمْ لكاذبون } ما أمرناكم بذلك .
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } أي : استسلموا ، وخضعوا ، وانقادوا . العابد والمعبود ، والتابع والمتبوع ، يومئذٍ خضعوا كلهم لله تعالى { وَضَلَّ عَنْهُم } أي : اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : يختلفون . ويقال : بطل عنهم ما كانوا يقولون من الكذب في الدنيا .
ثم بيّن عذابهم فقال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : صرفوا الناس عن دين الإسلام { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } يعني : القادة { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } من الشرك والتكذيب . زدناهم عذاباً فوق عذاب السفلة . ويقال : التابع والمتبوع زدناهم في كل وقت عذاباً مع العذاب . وقال مقاتل : يجري الله عليهم خمسة أنهار من نحاس ذائب . ثلاثة أنهار في مقدار وقت الليل ، واثنان في مقدار وقت النهار بما كانوا يفسدون في الدنيا . وقال الكلبي نحو هذا . قال الفقيه أبو الليث : حدثنا محمد بن الفضل . قال : حدثنا محمد بن جعفر . قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } قال : أفاعي في النار . وعن ابن مسعود أيضاً قال : زيدوا عقارب في النار . أنيابها كالنخيل الطوال . وعن مجاهد أنه قال : في النار عقارب كالبغال ، أنيابهن كالرماح ، تضرب إحداهن على رأسه ، فيسقط لحمه على قدميه . وقال : يسألون الله تعالى المطر في النار ألف سنة ، ليسكن ما بهم من شدة الحر ، والغم ، فيظهر لهم سحابة ، فيظنون ، أنها تمطر عليهم ، فجعلت السحابة تمطر عليهم الغيث . فإذا هي تمطر عليهم بالحيات ، والعقارب . ويقال : يسلط عليهم الجوع . ويقال : الجرب . ويقال : الخوف .
قوله { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي : رسولاً من الآدميين { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآء } أي : على أمتك { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } أي : القرآن { تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } من الأمر والنهي . إلا أن بعضه مفسر ، وبعضه مجمل ، يحتاج إلى الاستخراج ، والاستنباط . وقال مجاهد : ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب الله تبيانه ، ثم قرأ : { تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } وقال علي بن أبي طالب : كل شيء علمه في الكتاب إلا أن آراء الرجال تعجز عنه .
ثم قال : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي { هُدًى } من الضلالة { وَرَحْمَةً } أي : نعمة لمن آمن به ، وعمل بما فيه { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } بالجنة .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } أي : بتوحيد الله ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان إلى الناس ، والعفو عن الناس . ويقال : الإحسان القيام بالفرائض { وَإِيتَآء ذِى القربى } أي : صلة الرحم { وينهى عَنِ الفحشاء } أي : عن الزنى ويقال : جميع المعاصي { والمنكر } يعني : ما لا يعرف في شريعة ، ولا في سنة . ويقال : المنكر ما وعد الله عليه النار { والبغى } يعني : الاستطالة ، والكبر . فقد أمر بثلاثة أشياء ، ونهى عن ثلاثة أشياء ، وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين ، وجميع الخصال المحمودة . وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال : ما أسلمت يوم أسلمت إلا حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه كان يدعوني ، فيعرض عليَّ الإِسلام ، فاستحييت منه ، فأسلمت ، ولم يقر الإِسلام في قلبي ، فمررت به ذات يوم وهو بفناء بابه ، جالساً محتبياً ، فدعاني ، فجلست إليه ، فبينما هو يحدثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماء حتى رأيت طرفه قد انقطع ، ثم رأيته خفضه عن يمينه ، ثم ولاَّني وركه ينفض رأسه كأنه يستفهم شيئاً يقال له : ثم دعا فرفع رأسه إلى السماء ، ثم خفضه حتى وضعه عن يساره ، ثم أقبل عليَّ محمراً وجهه ، يفيض عرقاً ، فقلت : يا رسول الله ما رأيتك صنعت هذا في طول ما كنت أجالسك فقال : « وَلَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ » قلت : نعم . قال : « بَيْنَمَا أُحَدِّثُكَ إذْ رَفَعْتُ بَصَرِي إلى السَّمَاءِ ، فَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ عَلَيَّ ، فَلَمْ تَكُنْ لِي هِمَّةٌ غَيْرَهُ ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ يَمِينِي فَقَالَ : يا مُحَمَّدُ { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآء ذِى القربى } إلى آخر الآية » . قال عثمان : فوقر الإيمان في قلبي ، فآمنت ، وصدقته . قال : فأتيت أبا طالب ، فأخبرته بما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معشر قريش ، اتبعوا ابن أخي ، ترشدوا ، وتفلحوا ، ولئن كان محمد صادقاً أو كاذباً ، ما يأمركم إلاَّ بمكارم الأخلاق . فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عمه اللين ، قال : « يا عَمَّاهُ أَتَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُونِي وَتَدَعُ نَفْسَكَ » وجهد عليه ، فأبى أن يسلم فنزل { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } [ القصص : 56 ] إلى آخر الآية . قال الفقيه أبو الليث : حدثنا أبو منصور عبد الله الفرائضي بسمرقند بإسناده عن عكرمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } إلى آخر الآية . فقال له : يا ابن أخي أعد عليَّ ، فأعاد عليه ، فقال : والله يا ابن أخي إنّ له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هذا بقول البشر . وقال قتادة في قول الله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية . قال : ليس من خلق حسن ، كان أهل الجاهلية يستحسنونه بينهم إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيِّىءٍ يتعايرونه بينهم إلاَّ نهى الله عنه .
ثم قال تعالى : { يَعِظُكُمُ } أي : يأمركم ، وينهاكم عن هذه الأَشياء التي ذكرها الله في الآية { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم } يقول : إذا حلفتم بالله ، فأتموا له بالفعل . ويقال : { أَوْفُواْ بِعَهْدِ الله } يعني : العهود التي بينكم وبين الله تعالى ، والعهود التي بينكم وبين الناس .
ثم قال : { وَلاَ تَنقُضُواْ الايمان } يعني : لا تنكثوا العهود { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يعني : بعد تغليظها ، وتشديدها ، { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي : شهيداً على إتمام العهود ، والوفاء بها . ويقال : حفيظاً على ما قال الفريقان { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } في وفاء العهد ، والنقض .
ثم ضرب الله تعالى مثلاً فقال عز وجل : { وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض العهد { كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } وهي ريطة الحمقاء بنت عمرو بن كعب بن سعد وهي أم أخنس بن شريق الزهري { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنكاثا } أي : من بعد ما أبرمته ، وأحكمته ، كانت إذا غزلت الشعر والكتان نقضته ، ثم غزلته . فقال : ولا تنقضوا العهد بعد توكيده ، كما نقضت المرأة غزلها ، وقال القتبي : أي لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان ، والعهود ، ثم تنقضوا ذلك ، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ، ثم نقضت ذلك النسج فجعلته أنكاثاً ، والأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره ، واحدها نكث .
ثم قال : { تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } أي : دغلاً وخيانة { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } أي : فريق منكم { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي : هي أكثر وأغنى من أمة ، من فريق . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كندة ، ومراد ، وذلك أنه كان بينهم قتال ، حتى كَلَّ الظهر . ثم توادعوا لستة أشهر ، حتى يصلح الظهر أي : الدواب ، ويجم الخيل . فلما مضت خمسة أشهر ، أمر قيس بن معديكرب بالجهاد إليهم ، فقالوا : قد بقي من الأجل شهر ، فمكث حتى علم أنه يأتيهم بعد انقضاء الأجل بيوم ، ثم سار إليهم ، فإذا هو يوم انقضاء الأجل ، فقتلوه ، وهزموا قومه ، فذلك قوله : { وَلاَ تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 94 ] يعني : عهودكم بالله دخلاً أي : مكراً وخديعة بينكم { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } يعني : أن تكون أمة أكثر من أمة فينقضون العهد ، لأجل كثرتهم ، فلا تحملنكم الكثرة على نقض العهد { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } يعني : إنما يبتليكم الله بالكثرة ، لنقض العهد والوفاء . وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فإِذا وجدوا أكثر منهم وأعز ، نقضوا ، وحالفوا الأعز ، فنزل { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } أي : يختبركم بنقض العهود وبالكثرة { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين ويبيّن لكم ما نقضتم من العهود ، ويجازيكم به .
قوله : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } أي : على ملة واحدة . وهي الإسلام { ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآء } يعني : يخذل من علم أنه ليس من أهل الإسلام { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } أي : يكرم بالإِسلام من هو أهل لذلك { وَلَتُسْئَلُنَّ } فهذه اللام لام القسم ، والتأكيد يَوْمَ الْقِيَامَةِ { عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يسألكم { عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الوفاء ، والنقض بالعهد .
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
ثم قال تعالى : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أي : إنّ ناقض العهد يزل عن الطاعة ، كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة { وَتَذُوقُواْ السوء } أي : تتجرعوا العقوبة { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله } أي : صرفتم الناس عن دين الإسلام { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني : شديد في الآخرة { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله } أي : لا تختاروا على عهد الله ، والحلف به { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : عرضاً يسيراً من الدنيا { إِنَّمَا عِنْدَ الله } في الآخرة من الثواب الدائم { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : ثواب الجنة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أَن الآخرة خير من الدنيا . ويقال : إن كنتم تصدقون بثوابه . قال الكلبي : نزلت الآية في رجل من حضرموت يقال له : عبدان بن الأشوع . قال : يا رسول الله إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرض ، فاقتطع أرضي ، فذهب بها ، وغلبني عليها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَيَشْهَدُ لَكَ أَحَدٌ عَلَى ما تَقُولُ " قال : يا رسول الله إِنَّ القوم كلهم يعلمون أنِّي صادق فيما أقول ، ولكنه أكرم عليهم مني عليهم : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرىء القيس " مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ " قال : الباطل ، والكذب . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف . فقال عبدان : إنه لفاجر ، وما يبالي أن يحلف . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ شُهُودٌ فَخُذْ يَمِينَهُ " فقال عبدان : وما لِي يا رسول الله إلا يمينه؟ فقال : «لا» فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف . فلما قام ليحلف ، أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : " انْصَرِفْ " . فانصرف من عنده . فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } إلى قوله : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } أي : ما عندكم من أمور الدنيا يفنى { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } أي : ثواب الله في الجنة دائم لأَهلها { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ } عن اليمين وأقروا بالحق . ويقال : الذين صبروا على الإيمان ، وأقروا بالحق { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : بالإحسان الذي كانوا يعملون في الدنيا . ويقال : يجزيهم بأحسن أعمالهم ، ويبقى سائر أعمالهم فضلاً . قال الكلبي : فلما نزلت هاتان الآيتان ، قال امرؤ القيس : أَمَّا ما عندي فينفد ، وأمَّا صاحبي فيجزى بأَحسن ما كان يعمل . اللَّهم إنه صادق فيما قال . لقد اقتطعت أرضه ، والله ما أدري كم هي ، ولكنه يأخذ ما يشاء من أرض ومثلها معها بما أكلت من ثمارها . فنزل : { مَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يعني : لا يقبل العمل منه ما لم يكن مؤمناً .
فإذا كان مؤمناً ، وعمل صالحاً ، يقبل منه .
ثم قال : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } في الجنة . ويقال : يجعل حياته في طاعة الله . ويقال : فلنقنع منه باليسير من الدنيا . وروي عن ابن عباس أنه قال : الكسب الطيب ، والعمل الصالح . وعن علّي أنه قال : القناعة . وقال الحسن : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة . وقال الضحاك : الرزق الحلال ، وعبادة الله تعالى .
ثم قال : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم } أي : ثوابهم { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : يثيبهم بإحسانهم ، ويعفو عن سيئاتهم . قرأ ابن كثير ، وعاصم وابن عامر في إحدى الروايتين { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ } بالنون . وقرأ الباقون : بالياء . واتفقوا في قوله : «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ» بالنون .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } يعني : إذا أردت أن تقرأ القرآن في الصلاة ، وفي غير الصلاة ، فتعوذ بالله . وهذا كقولك : إذا أكلت فقل : بسم الله يعني : إذا أردت أن تأكل وهذا مثل قوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الغائط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ المائدة : 6 ] يعني : إذا أردتم القيام للصلاة . وقوله { مِنَ الشيطان الرجيم } يعني : اللعين . ويقال : الخبيث . ويقال : المرجوم . ويقال : فيه تقديم . ومعناه : فاستعذ بالله ، إذا قرأت القرآن .
ثم قال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } ليس له غلبة ، ولا حجة . ويقال : ليس له نفاذ الأمر { عَلَى الذين ءامَنُواْ } أي : صدقوا بتوحيد الله تعالى { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يثقون به ، ولا يثقون بغيره .
قوله : { إِنَّمَا سلطانه } أي غلبته وحجته { على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } أي : يطيعونه من دون الله تعالى . فمن أطاعه فقد تولاه { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } أي : أشركوا بعبادة ربهم إياه . وقال مقاتل : أي بالله تعالى . وقال القتبي : { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } لم يرد أنهم بإبليس كافرون ، ولو كان هكذا ، لكانوا مؤمنين . وإنَّما أراد به الذين هم من أجله مشركون بالله تعالى ، كما يقال : صار فلان بك عالماً أي : من أجلك .
قوله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً } يعني : ناسخة { مَّكَانَ ءايَةٍ } يعني : منسوخة . أي : نسخنا آية بآية . قال ابن عباس : إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية فيها شدة ، أخذ الناس بها ، وعملوا ما شاء الله أن يعملوا ، فيشق ذلك عليهم . فينسخ الله تعالى هذه الشدة ، ويأتيهم بما هي ألين منها ، وأهون عليهم ، رحمة من الله لهم ، فيقول لهم كفار قريش : والله ما محمد إِلاَّ يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وغداً يأتيهم بما هو أهون عليهم منه . وما يعلمه إلا عابس ، غلام حويطب بن عبد العزى ، ويسار بن فكيهة مولى ابن الحضرمي ، وكانا قد أسلما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهما ، فيحدثهما ، ويعلمهما ، وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانية . فنزل { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } يعني : بما يصلح للخلق { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } أي : مختلق من تلقاء نفسك { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله أمرك بما يشاء ، نظراً لصلاح العباد . وقال مقاتل : في الآية تقديم ، ومعناه : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } فتقول على الله تعالى الكذب . قلت : كذا ثم نقضته ، فجئت بغيره . ثم قال في التقديم : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } .
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
ثم قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } يعني : قل يا محمد نزل جبريل بالقرآن ، والتشديد لكثرة نزوله . ويقال : نَزَّلَ بمعنى تَنَزَّلَ . كما يقال : قَدَّمَ بمعنى تَقَدَّمَ . وَبَيَّنَ : بمعنى تَبَيَّنَ . ويقال : { نَزَّلَهُ } بمعنى : تلاه ، وبلغه . ويقال : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } يعني : جبريل الذي يأتيك بالناسخ والمنسوخ { مِن رَبّكَ } أي : من عند ربك . ويقال : من كلام ربك { بالحق } أي : بالوحي . ويقال : بالصدق . ويقال : للحق . ويقال : لصلاح الخلق { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } أي : ليحفظ قلوب الذين آمنوا على الإسلام . ويقال : لِتَطمئن إليه قلوب الذين آمنوا { وهدى } من الضلالة { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } بالجنة .
ثم قال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ } يعني : أن كفار قريش يقولون : { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } يعنون : جبراً ويساراً . وروى حصين عن عبد الله بن مسلم قال : كان لنا غلامان من أهل اليمن نصرانيان ، اسم أحدهما يسار ، والآخر جبر ، صيقليان . وكانا يقرآن بلسانهما ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ، يسمع منهما . فقال المشركون : إنما يتعلم منهما ، فأكذبهم الله تعالى حيث قال : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } أي : رومي اللسان . وقال مقاتل كان غلام لعامر بن الحضرمي اسمه يسار ، يهودي أعجمي اللسان ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه كفار قريش يدخل عليه ، ويحدثه ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار . فقال الله تعالى رداً عليهم : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } أي : يميلون إليه ، ويزعمون أنه يعلمه أعجمي أي : عبراني . وأصل الإلحاد الميل { وهذا } يعني : القرآن { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } يعني : مفقه بلغتهم . وروي عن طلحة بن عمير أنه قال : بلغني أن خديجة كانت تختلف إلى غلام ابن الحضرمي ، وكان نصرانياً ، وكان صاحب كتب . يقال له : جبر وكانت قريش تقول : إنَّ عبد ابن الحضرمي يعلم خديجة ، وخديجة تعلم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فنزل { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } ثم أسلم جبر بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وهاجر مع سيده . قرأ ابن كثير { رُوحُ القدس } بجزم الدال . وقرأ الباقون : { القدس } بضم الدال وقرأ حمزة والكسائي { يُلْحِدُونَ } بنصب الياء والحاء . وقرأ الباقون : { يُلْحِدُونَ } بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
ثم قال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي : القرآن { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } أي : لا يوفقهم الله ، ولا يكرمهم ، لقلة رغبتهم في الإيمان . ويقال : لا ينجيهم في الآخرة من النار { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .
ثم قال : { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون } قال الزجاج : معناه { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاَّ الله ، كذبوا بها ، وهؤلاء أكذب الكذبة .
قوله { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه } فعليهم غضب من الله على معنى التقديم .
ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } أي : أكره على الكفر ، وتكلم بالكفر مكرهاً { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } أي : قلبه معتقد عليه . وهو عمار بن ياسر ، وأصحابه . وذلك أن ناساً من أهل مكة آمنوا ، فخرجوا مهاجرين ، فأدركتهم قريش بالطريق ، فعذبوهم ، فكفروا مكرهين ، فنزلت هذه الآية فيهم . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله . وروي عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة ، فطرحوه في بئر ميمونة حتى أمسى ، فقالوا له : اكفر بمحمد ، وأشرك بالله فبايعهم على ذلك ، وقلبه كاره فنزلت الآية . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمار بن ياسر وهو يبكي ، فجعل يمسح الدموع من عينيه ، ويقول : أخذني الكفار ، ولم يتركوني حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير . فقال : " كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ " قال : مطمئن بالإيمان . فقال : «إنْ عَادُوا فَعُدْ» . وقال مقاتل : أسلم جبر مولى ابن الحضرمي ، فأخذه مولاه وعذبه ، حتى رجع إلى اليهودية . ثم رجع إلى هؤلاء النفر ، فنزلت الآية { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ثم بيّن حال الذين ثبتوا على الكفر فقال : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي : فتح صدره بالقبول . يعني : قبل الكفر طائعاً وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتدّ ولحق بمكة { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : شديد في الآخرة { ذلك } العذاب { ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة } أي : اختاروا الدنيا { على الاخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى } أي : لا يرشد إلى دينه { القوم الكافرين } أي : لا يرشدهم إلى دينه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله : { أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } مجازاة لهم { وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم } أي : ختم على قلوبهم ، وسمعهم ، وأبصارهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون } أي : التاركون لأمر الله تعالى { لاَ جَرَمَ } أي : حقاً { أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون } { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا } قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وأبويه ، وبلال ، وصهيب ، وخباب بن الأرت ، عذبهم المشركون ، ثم هاجروا إلى المدينة ، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا } { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } يقول : عذبهم أهل مكة { ثُمَّ جاهدوا } مع النبي صلى الله عليه وسلم { وَصَبَرُواْ } على البلاء ، وصبروا على دينهم ، وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاعة الله تعالى { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : من بعد الفتن . ويقال : من بعد الهجرة { لَغَفُورٌ } لذنوبهم { رَّحِيمٌ } . ويقال : نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة . وقد ذكرناه في سورة النساء . قرأ ابن عامر { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بفتح الفاء والتاء ، أي : أصابتهم الفتنة . وقرأ الباقون { فَتَنُواْ } على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قوله : { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ } ، صار نصباً لنزع الخافض ، ومعناه : إن ربك من بعدها لغفور رحيم . في { يَوْمَ تَأْتِى } أي : تحضر . ويقال : معناه واذكروا { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } يعني : كل إنسان يخاصم عن نفسه ، ويذبُّ عنها ، ويقول : نفسي نفسي ، وذلك حين زفرت جهنم زفرة ، فلا يبقى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، إلا جثا على ركبتيه . ويقول : ربِّ نفسي نفسي ، أي : أريد نجاة نفسي . { وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي : كل نفس برة أو فاجرة جزاء ما عملت في دار الدنيا من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : لا ينقصون من حسناتهم ، ولا يزادون على سيئاتهم .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً } يقول : وصف الله شبهاً { قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً } يعني : مكة من العدو { مُّطْمَئِنَّةً } من العدو أي : ساكنة مقيمة أهلها بمكة { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أي : يحمل إليها طعامها ، ورزق أهلها { رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ } يعني : موسعاً من كل أرض ، يحمل إليها الثمار وغيرها { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } أي : طغت وبطرت . ويقال : كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع } أي : عاقبهم الله تعالى سبع سنين . ومعنى اللباس هنا : سوء الحال ، واصفرار الوجوه ، { والخوف } يعني : خوف العدو ، وخوف سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ، { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي : عقوبة لهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : « اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ . اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ » فاستجاب الله دعاءه ، فوقع القحط والجدوبة ، حتى اضطروا إلى أكل الميتة والكلاب . قال القتبي : أصل الذوق بالفم . ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختيار { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } يعني : ابتلاهم الله بالجوع والخوف ، وظهر عليهم من سوء آثارهم ، وتغير الحال عليهم .
قوله : { وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ } أي : محمد صلى الله عليه وسلم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب } أي : الجوع { وَهُمْ ظالمون } أي : كافرون . ثم إن أهل مكة بعثوا أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما هذا البلاء ، هبك عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحمل إليهم الطعام ، فحمل إليهم الطعام ، ولم يقطع عنهم وهم مشركون ، فقال الله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلاً طَيّباً } أي : من الحرث ، والأنعام ، { حلالا طَيّباً } يعني : وهم خزاعة وثقيف { واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني : إن كنتم تريدون بذلك رضاء الله وعبادته . فإن رضاه أن تستحلوا ما أحلّ الله ، وتحرّموا ما حرّم الله .
ثم بيّن المحرمات فقال تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي : ذبح بغير اسم الله { فَمَنِ اضطر } أي : أجهد إليَّ بشيء مما حرّم الله عليه { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } في أكله أي : لا يأكل فوق حاجته . ويقال : غير مفارق الجماعة ، ولا عاد عليهم { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } فيما أكل { رَّحِيمٌ } حين رخص له في أكل الميتة عند الاضطرار .
ثم قال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } أي : لا تقولوا يا أهل مكة فيما أحللت لكم { هذا حلال } على الرجال ، { وهذا حَرَامٌ } على النساء . ويقال : في الآية تنبيه للقضاة ، والمفتين ، كي لا يقولوا قولاً بغير حجة وبيان .
ثم قال : { لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } أي : بتحريم البحيرة والسائبة { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } أي : لا يفوزون ، ولا ينجون من العذاب { متاع قَلِيلٌ } أي : عيشهم في الدنيا قليل { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
ثم قال تعالى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ } يقول : مالوا عن الإسلام ، وهم اليهود { حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي : في القرآن من قبل هذه السورة في سورة الأنعام { وَمَا ظلمناهم } بتحريم ما حرّمنا عليهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بكفرهم ، فحرَّمنا عليهم الأشياء عقوبة لهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة } أي : عملوا المعصية بجهالة . وروي عن ابن عباس أنه قال : كل سوء يعمله العبد فهو فيه جاهل ، وإن كان يعلم أن ركوبه سيئة . { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ } أي : العمل { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : من بعد السيئة ويقال : من بعد التوبة { لَغَفُورٌ } لذنوبهم { رَّحِيمٌ } بهم .
قوله : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ } أي : إماماً يقتدى به { قانتا } أي : مطيعاً لربه . وروى عامر عن مسروق أنه قال : ذكر عند عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال عبد الله بن مسعود : كان معاذ بن جبل أمةً قانتاً . فقال رجل : وما الأُمة؟ قال الذي يعلِّم الناس الخير ، والقانت الذي يطيع الله ورسوله . وقال القتبي : إنَّما سماه أمةً ، لأنه كان سبب الاجتماع . قال : وقد يجوز أنه سماه أمةً لأنه اجتمع عنده خصال الخير . ويقال : إنّما سماه أمةً ، لأنه آمن وحده حين لم يكن مؤمن غيره . وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يَجيءُ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَحْدَهُ » . وقد كان أسلم قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم حين لَم يكن بمكة مؤمن غيره ، وتابعه ورقة بن نوفل ، وعاش ورقة بن نوفل إلى وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل عليه الوحي .
ثم قال : { حَنِيفًا مُّسْلِمًا } أي : مستقيماً مائلاً عن الأديان كلها { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } أي : مع المشركين على دينهم . وأصله ولم يكن فحذفت النون لكثرة استعمال هذا الحرف .
قوله : { شَاكِراً لاّنْعُمِهِ } أي : ما أنعم الله عليه { اجتباه } أي : اصطفاه ، واختاره للنبوة ، { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي : إلى دين قائم وهو الإسلام { وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً } يقول : أكرمناه بالثناء الحسن . ويقال : بالنبوة . ويقال : بالولد الطيب { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } يعني : مع الأنبياء في الجنة .
قوله : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : بعد هذه الكرامة التي أعطيناها إياك ، أمرناك { أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم } أي : دين إبراهيم . يعني : استقم عليه { حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } على دينهم .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قوله : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } يقول : إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل { على الذين اختلفوا فِيهِ } يعني : في يوم الجمعة ، وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوماً واحداً ، فيعبدوه ، ولا يعملوا فيه شيئاً من أمر الدنيا ، وستة أيام لصناعتهم ، ومعايشهم ، ويتفرغوا في يوم الجمعة . فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم ، وقالوا : إنَّما نختار السبت ، اليوم الذي فرغ الله فيه من أمر الخلق . فجعل ذلك عليهم ، وشدد عليهم ، ثم جاءهم عيسى بالجمعة ، فاختاروا يوم الأحد . وقال مجاهد : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } أي : في السبت اتَّبعوه . وتركوا الجمعة . وروى همام عن أبي هريرة أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ » يعني : يوم الجمعة . فهذا يومهم الذي فرض عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، واليهود غداً ، والنصارى بعد غد .
ثم قال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : يقضي بينهم { يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين ، فبيّن لهم الحق معاينة .
ثم قال : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ } أي : إلى دين ربك ، وإلى طاعة ربك { بالحكمة } يعني : بالنبوة والقرآن { والموعظة الحسنة } يعني : عظهم بالقرآن { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي : حاجهم ، وناظرهم بالحجة والبيان . ويقال : باللين . وفي الآية دليل أن المناظرة ، والمجادلة ، في العلم جائزة ، إذا قصد بها إظهار الحق . وهذا مثل قوله : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وقولوا ءَامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ العنكبوت : 46 ] وقوله : { سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 22 ] ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي : عن دينه { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } لدينه .
قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } قال ابن عباس : وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، ومثلوا به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَئِنْ أمْكَنَنَا اللَّهُ لَنُمَثِّلَنَّ بِالأحْيَاءِ فَضْلاً عَنِ الأمْوَاتِ » . فنزل { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } الآية . وقال محمد بن كعب القرظي : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين مثل به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ مِنْهُمْ » . فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من الوجع . قالوا : لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب أحد . فنزل { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } فلم تعاقبوا ، ولم تمثلوا { لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } من المثلة أي : ثواب الصبر خير من المكافأة . ثم صارت الآية عامة في وجوب القصاص ، أنه لا يجوز إلا مثلاً بمثل ، والعفو أفضل .
قال : { واصبر } يعني : أثبت على الصبر { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } يعني : ألهمك ووفقك للصبر { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على كفار قريش إن لم يسلموا { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ } قرأ ابن كثير { فِى ضَيْقٍ } بكسر الضاد . وقرأ الباقون : بالنصب . ومعناهما واحد . أي : لا يضيق صدرك مما يقولون لك ، ويصنعون بك . وقال مقاتل : نزلت الآية في المستهزئين .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } أي : معين للذين اتقوا الشرك { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } في العمل . ويقال : معين الذين اتقوا مكافأة المسيء { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } إلى من أساء إليهم . والله أعلم بالصواب . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قال ابن عباس في قوله تعالى : { سُبْحَانَ } يقول : عجبٌ من أمر الله الذي أسرى . ويقال : تنزيه لله تعالى . وروى موسى بن طلحة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبحان . فقال : «نَزَّهَ الله نَفْسَهُ عَنِ السُّوءِ» . وروي عن عليّ بن أبي طالب ، أن ابن أبي الْكَوَّاءَ سأله عن سبحان ، فقال عليّ : كلمة الله لنفسه . ويقال : معناه سبحوا الله { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ } أي : أدلج برسوله صلى الله عليه وسلم { لَيْلاً } أي : في ليلة . ويقال : { أسرى } يعني : سار بعبده ليلاً { مّنَ المسجد الحرام } أي : مكة . وقال ابن عباس : من بيت أم هانىء { إلى المسجد الاقصى } يعني : إلى بيت المقدس . قال الفقيه : أخبرني الثقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري . قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الليلة التي أسرى به فيها ، فقال : " أوتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالبَغْلِ وَهُوَ البُرَاقُ ، وَهُوَ الَّذِي كَان يَرْكَبُهُ الأَنْبِيَاءِ " . قال : " فَانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ ، فَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمِيني : يا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ . فَمَضَيْتُ وَلَمَّا أعَرِّجْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي فَمَضَيْتُ . ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينةٍ ، فَمَدَّتْ يدَيْهَا ، وَقَالَتْ : عَلَى رِسْلِكَ فَمَضَيْتُ . وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْهَا . ثُمَّ أَتَيْتُ البَيْتَ المَقْدِسَ . أوْ قَالَ المَسْجِدَ فَنَزَلْتُ وَأَوْثَقْتَهُ بِالحَلقَةِ الَّتِي كَانَتِ الأنْبِياءُ يُوثِقُونَ بِهَا ، ثُمَّ دَخَلْتُ ، المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ ، فَقُلْتُ : يا جِبْرِيلُ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمينِي ، فَقَالَ : ذاكَ داعِي اليَهُودِيَّةِ ، أما إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ . فَقُلْتُ : وَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي . قالَ : كانَ ذلك دَاعِيَ النَّصَارَى ، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ وَأمَّا المَرْأَةُ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزَيَّنَتْ لَكَ . أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا لاخْتَارَتْ أمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ . قالَ : ثُمَّ أوتِيتَ بِإنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ ، وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ . فَقَالَ لِي : اشْرَبْ أيَّهُمَا شِئْتَ فأَخَذْتُ اللَّبَنَ وَشَربْتُ . فَقَالَ أَصَبْتَ الفِطْرَةَ ، أَيْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُكَ الإسْلاَم . أَمَا إنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَةَ لَغَوَتْ أمَّتُكَ . ثُمَّ جِيءَ بِالمِعْرَاجِ الْذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ . فَإذا هُوَ أَحْسَنُ ما رَأَيْتُ فَعُرِجَ بِنَا فيهِ " . وذكر قصة طويلة فنزل { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم من أول الليل من المسجد الحرام . يقول : من الحرم من بيت أم هانىء بنت أبي طالب ، إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى أي : الأبعد . يعني : إلى مسجد إيلياء وهو بيت المقدس { الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالماء ، والأشجار ، وهو المدائن التي حوله مثل دمشق ، والأردن ، وفلسطين . { لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا } أي : لكي نريه من آياتنا . أراه الله تعالى في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض .
{ إِنَّهُ هُوَ السميع } لمقالة أهل مكة وإنكارهم { البصير } أي : العليم بهم . وذلك أنه لما أخبرهم عن قصة تلك الليلة ، أنكروا . وروى الزهري عن عروة قال : إنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ، فأخبر الناس بذلك ، فارتد ناس كثير ممن كان صدقه ، وفتنوا بذلك ، وكذبوا به ، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر ، فقالوا له : هذا صاحبك يزعم أنه قد أُسري به الليلة إلى بيت المقدس ، ثم رجع من ليلته . فقال أبو بكر : أو قال ذلك؟ قالوا : نعم . قال : فإني أشهد إن كان قال ذلك أنه قد صدق . فقالوا : أتصدقه بأنه جاء إلى الشام في ليلة واحدة : ورجع قبل أن يصبح . فقال أبو بكر : نعم . إني أصدقه في أبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية . فبذلك سمي أبا بكر الصديق . قال الزهري : أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به خمسين ، ثم نقصت إلى خمس ، ثم نودي يا محمد ما يبدل القول لدي ، وإن لك بالخمس خمسين .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{ وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } أي التوراة جملةً واحدةً { وجعلناه } أي : الكتاب { هُدًى لّبَنِى إسراءيل } أي : بياناً لهم من الضلالة . أي : دللناهم به على الهدى { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً } يعني : ألاَّ تعبدوا من دوني ربّاً .
قوله : { ذُرّيَّةِ } يعني : بالذرية { مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } في السفينة ، في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء . ويقال : معناه ألاّ تعبدوا ذُريةً من حملنا مع نوح مثل عيسى وعزير . قرأ أبو عمرو { يَتَّخِذُواْ } بالياء على معنى المغايبة . والخبر عنهم أي : أعطيناك الكتاب لكيلا يتخذوا إلها غيري . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة . أي : قل لهم لا تتخذوا إلها غيري .
ثم أثنى على نوح فقال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } أي : كان يحمد الله إذا شرب ، وأكل ، واكتسى . ويقال : الشكور هو المبالغ في الشكر . أي : كان شاكراً في الأحوال كلها .
قوله : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل } يقول : أعلمنا وبينّا كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر } أي : أعلمناه ، وبينّاه { فِى الكتاب } يعني : أخبرناهم في التوراة { لَتُفْسِدُنَّ } أي : لتعصن { فِى الارض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } والعلو العتو على الله تعالى ، والجرأة . وهذا قول ابن عباس .
وقال مقاتل : يعني : لتهلكن في الأرض مرتين { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } يعني : لتقهرن قهراً شديداً .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت ، حتى بعث الله طالوت ، ومعه داود ، فقتله داود . ثم رُدَّت الكرة لبني إسرائيل . ثم جاء وعد الآخرة من المرتين { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } [ الإسراء : 7 ] أي : يقبحوا وجوهكم ، وليدمروا تدميراً ، وهو بُخْتَنَصَّر . وإن عدتم عدنا . فعادوا ، فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : وَعْدُ أُولاهُمَا جاءتهم فارس معهم بختنصر ، ثم رجعت فارس يعني : أهل فارس ولم يكن قتال ، ونصرت بنو إسرائيل عليهم . فذلك وعد الأولى . فإذا جاء وَعْدُ الآخرة ، جاءهم بختنصر ، ودمر عليهم .
وروى أسباط عن السدي ، أن وعد الأولى كان ملك النبط ، فجاسوا خلال الديار . ثم إن بني إسرائيل تجهزوا ، وغزوا النبط ، فأصابوا منهم ، واستنقذوا ما في أيديهم ، فردت الكرة عليهم . وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيماً في ذلك العسكر ، وخرج ليسأل شيئاً . فلما رأى كبر جمع الجيوش ، وجاء بهم ، وخوفهم ، وخرب البلدة .
قال القتبي : إن بختنصر غزاهم ، فرغبوا إلى الله ، وتابوا ، فردَّ الله عنهم بعد أن فتحوا المدينة ، وجالوا في أسواقها ، ثم أحدثوا ، فبعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي الله ، فضربوه ، وقيدوه ، وحبسوه ، فبعث الله تعالى إليهم عند ذلك بختنصر ، ففعل ما فعل .
وقال الكلبي : لما عصوا الله ، وهو أول الفسادين ، سلط الله عليهم بختنصر ، خرج من بابل فأتاهم بالشام ، وظهر على بيت المقدس ، فقتل منهم أربعين ألفاً ممن كان يقرأ التوراة ، وأدخل بقيتهم أرضه . فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلاً من أهل همدان يقال له : كورش غزا أهل بابل ، فظهر عليهم ، وسكن الدار ، وتزوج امرأة من بني إسرائيل ، وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم ، ففعل ، فردهم إلى أرض بيت المقدس ، فمكثوا فيها ، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه . ثم عادوا فعصوا المرة الثانية ، فسلط الله عليهم ملكاً من ملوك الروم يقال له : إسبسيانوس ، فحاصرهم سنين ثم مات . فبعث الله عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس ، فحاصرهم سنين . ثم فتحها بعد ذلك ، فقتل منهم مائة ألف ، وثمانين ألفاً حتى قتل يحيى بن زكريا ، وحبس منهم مثل ذلك ، وخرب بيت المقدس فلم يزل خراباً حتى بناه المؤمنون في زمن عمر رضي الله عنه . فذلك قوله : { فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما } يقول : أول الفسادين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } أي : سلطنا عليكم { عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني : ذوي قتال شديد { فَجَاسُواْ خلال الديار } يقول : قتلوكم وسط الأزقة . وقال القتبي { فَجَاسُواْ } أي : عاثوا ، وأفسدوا . ويكون جاسوا بمعنى دخلوا بالفساد { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } يعني : كائناً لئن فعلتم ، لأفعلن بكم .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } يقول : أعطيناكم الدولة . ويقال : الرجعة عليهم .
قوله : { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا } يعني : أكثر رجالاً وعدداً . وقال القتبي : أصله من نفر ، ينفر مع الرجل من عشيرته ، وأهل بيته ، والنفير والنافر مثل القدير والقادر .
قوله : { إِنْ أَحْسَنتُمْ } يقول : إن وحدتم الله وأطعتموه { أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ } أي : يثاب لكم الجنة { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } أي : أشركتم بالله { فَلَهَا } ويقال : في الآية مضمر . ومعناه : وإن أسأتم فلها رب يغفر لها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة } أي : آخر الفسادين { لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ } أخذ من السوء أي : بعثناهم إليكم ، ليقبحوا وجوهكم بالقتل ، والسبي . قرأ حمزة ، وابن عامر ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { ***لِيَسُوءَ } بالياء ، وفتح الهمزة . يعني : الوعد . ويقال : يعني الملك سلط عليهم . وقرأ الكسائي { ***لنَسُوءَ } بالنون ، ونصب الواو . فيكون الفعل لله تعالى . وقرأ الباقون { الاخرة لِيَسُوءواْ } بالياء ، وضم الهمزة ، بلفظ الجماعة . يعني : إن القوم يفعلون ذلك { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : بيت المقدس { وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } يقول : وليخربوا ما ظهروا عليه تخريباً . وقال الكلبي : أي ليدمروا ، وليخربوا ، { مَا عَلَوْاْ } . أي : ما ظهروا { تَتْبِيرًا } أي : إهلاكاً . وقال الزجاج : يقال لكل شيء متكسر من الحديد ، والذهب ، والفضة ، والزجاج تبر ، ومعنى ما علوا أي : وليدمروا في حال علوهم .
قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد هذين الموتين . فرحمهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وبعث فيهم الأنبياء ، وكانوا رحمة لهم { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي : إن { عُدتُّمْ } إلى المعصية { عُدْنَا } ، إليكم بالعذاب . ويقال : { ءانٍ *** عُدتُّمْ } إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم كما كذبتم سائر الأنبياء { عُدْنَا } يعني : سلطناه عليكم ، فيعاقبكم بالقتل ، والجزية في الدنيا . { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا } أي : سجناً ومحبساً . قال الحسن : أي سجناً . وقال قتادة : أي وحبساً يحبسون فيها . وقال مقاتل : أي محبساً ينحبسون فيها ، ولا يخرجون أبداً ، كقوله : { لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ } ويقال : هذا فعيل بمعنى فاعل . وقال الزجاج : { حَصِيرًا } أي حبيساً . أخذ من قوله : حصرت الرجل إذا حبسته ، وهو محصور ، والحسير المنسوج وإنما سمي { حَصِيرًا } لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
ثم قال : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } أي : يدعو ، ويدل ، ويرشد إلى التي هي أقوم . وهو توحيد الله تعالى ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، والإيمان برسله ، والعمل بطاعته . هذه صفة الحال التي هي أقوم ، { وَيُبَشّرُ المؤمنين } يعني : القرآن بشارة للمؤمنين { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } في الجنة { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } أي : لا يصدقون بالبعث { أَعْتَدْنَا لَهُمْ } أي هيّأنا لهم { عَذَاباً أَلِيماً } أي : وجيعاً . قرأ حمزة والكسائي : { وَيُبَشّرُ } بنصب الياء ، وجزم الباء ، والتخفيف . وقرأ الباقون : { وَيُبَشّرُ } بضم الياء والتشديد .
قوله : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر } وأصله في اللغة . ويدعو بالواو إلا أنه حذف الواو في الكتابة ، لأن الضمة تقوم مقامه مثل قوله : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] وأصله سندعو أي : يدعو الإنسان باللعن على نفسه ، وأهله ، وولده ، وماله ، وخدمه ، { دُعَاءهُ بالخير } أي : دعاءه بالرزق ، والعافية ، والرحمة ، وما يستجاب له . فلو استجيب له إذا دعا باللعن ، كما يستجاب له بالخير هلك . ويقال : نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا *** مّنَ السماء } { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } يستعجل . يعني : إن آدم عجل بالقيام ، قبل أن يتم فيه الروح . وكذلك النضر بن الحارث يستعجل بالدعاء على نفسه ، ويستعجل بالعذاب . ويروي الحكم ، عن إبراهيم ، عن سلمان أنه قال : لما خلق الله تعالى آدم ، بدأ بأعلاه قبل أسفله . فجعل آدم ينظر ، وهو يخلق ، فلما كان بعد العصر ، قال : يا رب عجّل قبل الليل . فذلك قوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } قال ابن عباس : لما جعل فيه الروح ، فإذا جاوز عن نصفه ، أراد أن يقوم فسقط ، فقيل له : لا تعجل ، فذلك قوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } قوله : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } يعني : خلقنا الشمس والقمر علامتين يدلان على أن خالقهما واحد { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } يعني : ضوء القمر ، وهو السواد الذي في جوف القمر . وقال محمد بن كعب : كانت شمس بالليل ، وشمس بالنهار ، فمحيت شمس الليل . وقال ابن عباس : كان في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار . فبعث الله جبريل ، فمسح جناحه بالقمر ، فذهب ضوءه ، وبقي علامة جناحه وهو السواد الذي في القمر ، فذلك قوله : { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } أي : وتركنا علامة النهار مضيئة مبينة { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } أي : لكي تطلبوا رزقاً من ربِّكم في النهار { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } أي : حساب الشهور والأيام { وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي : بينّاه في القرآن .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
قوله : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } قال ابن عباس : أي خيره وشره مكتوب عليه لا يفارقه . وقال قتادة : سعادته ، وشقاوته . قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل . قال : حدثنا محمد بن جعفر . قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدثنا يزيد بن ربيع عن يونس عن الحسن . قال : في قوله : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } طائره عمله ، وإليه هداه أُمِّيَّاً كان أو غير أمي . وروى الحكم عن مجاهد أنه قال : ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد . وقال الضحاك : { طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } الشقاوة ، والسعادة ، والأجل ، والرزق . { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } أي : مفتوحاً . قرأ ابن عامر : { يلقاه } بضم الياء ، وتشديد القاف . يعني : يعطاه . والباقون { يلقاه } أي : يراه .
وقوله : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : شاهداً . ويقال : محاسباً . لما ترى فيه كل حسنة ، وسيئة محصاة عليك . قال ابن عباس : فإن كان مؤمناً ، أعطي كتابه بيمينه وهي صحيفة يقرأ سيئاته في باطنها ، وحسناته في ظاهرها . فيجد فيها : عملت كذا وكذا وصنعت كذا وكذا ، وقلت كذا وكذا ، في سنة كذا وكذا ، في شهر كذا وكذا ، وفي يوم كذا وكذا ، وفي ساعة كذا وكذا ، وفي مكان كذا وكذا . فإذا انتهى إلى أسفلها ، قيل له : قد غفرها الله لك . اقرأ ما في ظهرها فيقرأ حسناته ، فيسره ما يرى فيها ، ويشرق لونه ، عند ذلك يقول : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] . قال : ويعطى الكافر بشماله ، ويقرأ حسناته في باطنها ، وسيئاته في ظاهرها . فإذا انتهى إلى آخره ، قيل له : هذه حسناتك قد ردت عليك . اقرأ ما في ظهرها . فيرى فيها سيئاته ، قد حفظت عليه كل صغيرة وكبيرة فيسوءه ذلك ، ويسود وجهه ، وتزرق عيناه ، ويقول عند ذلك : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } [ الحاقة : 25 ] وهو قوله : { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : حفيظاً . وقال مقاتل : وذلك حين جحد ، فختم على لسانه ، وتكلمت جوارحه . فشهدت جوارحه على نفسه ، وذلك قوله : { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : شهيداً . فلا شاهد عليك أفضل من نفسك .
قوله : { مَّنِ اهتدى } يعني : من اجتهد حتى اهتدى { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } يعني : فثوابه لنفسه { وَمَن ضَلَّ } أي : ومن تغافل حتى ضل { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : إثمه على نفسه { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي : لا تؤاخذ نفس بذنب نفس أُخرى .
ثم قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } حجة عليهم مع علمه أنهم لا يطيعون ، وينذرهم ما هم عليه من المعصية ، فإن أجابوا وإلاّ عذبوا .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
ثم قال : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } يعني : أهل قرية { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي : أكثرنا جبابرتها ، يقال : أَمَرَ إِذَا أكثر وآمَرَ أيضاً . هما لغتان . وروي عن زينب بنت جحش أنها قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق إبهامه بالتي تليها . قالت : قلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . ويقال : أمَرَ وآمر مثل فعل وأفعل يعني : أكثر . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " خير المال مهرة مأمورة " أي : خيل كثير النتاج قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين ونافع في إحدى الروايتين وابن كثير في إحدى الروايتين «أَمَّرْنَا» بالتشديد بغير مد ، وفي إحدى الروايتين عن ابن كثير ونافع «آمَرْنَا» بالمد والتخفيف . وقرأ الباقون بالتخفيف بغير مد . فمن قرأ بالتشديد فمعناه : سلطنا جبابرتها ، ومن قرأ بالمد يعني : أكثرنا جبابرتها . ومن قرأ بالتخفيف له معنيان : أحدهما : أكثرنا جبابرتها وأشرافها ، ومعنى آخر : أمرناهم بالطاعة وخذلناهم حتى تركوا الأمر وعصوا الله تعالى { فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي : عصوا فيها { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي : وجب عليها السخط بالعذاب { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } أي : أهلكناها بالعذاب إهلاكاً . قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } يعني : إن الله تعالى عالم بذنوبهم قادر على أخذهم ومجازاتهم ، فيه تهديد لهذه الأمة لكي يطيعوا الله تعالى ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم ، قوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } أي : من كان يريد بعمله الذي افترض الله عليه ثواب الدنيا { عَجَّلْنَا لَهُ } أي : أعطينا له { فِيهَا مَا نَشَاء } من عرض الدنيا { لِمَن نُّرِيدُ } أن نهلكه { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } أي : أوجبنا له جهنم { يصلاها } أي : يدخلها { مَذْمُومًا } ملوماً في عمله { مَّدْحُورًا } أي : مطروداً مقصيَّاً من كل خير قوله : { وَمَنْ أَرَادَ الاخرة } من المؤمنين بعمله الذي افترض الله عليه { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } يعني : عمل للآخرة عملها { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } يعني : عملهم مقبولاً ويقال : معناه : من كان غرضه وقصده وعزمه الدنيا وحطامها وزهرتها عجلنا له فيها أي للمزيد في الدنيا ما نشاء لمن نريد يعني لمن نريد أن نعطيه بإرادتنا لا بإرادته ومن كان قصده وعزمه الآخرة فنعطي له ما نريد من الآخرة .
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
قوله : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء } يعني : كلا الفريقين من المؤمنين والكافرين نعطي هؤلاء من أهل المعصية { وَهَؤُلاء } من أهل الطاعة { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } أي : من رزق ربك . وقال الحسن : كلاًّ نمد . نعطي من الدنيا البر والفاجر { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا } يعني : محبوساً عن البر والفاجر في الدنيا . { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في الدنيا بالمال { وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات } يقول : ولفضائل الآخرة أرفع درجات مما فضلوا في الدنيا { وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي : وأرفع في الثواب . وقال الضحاك : «وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ» في الجنة ، الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أَن فوقه أحداً . وقال مقاتل : فضل المؤمنين في الآخرة على الكفار أكبر من فضل الكفار على المؤمنين في المال في الدنيا ، وقال بعض الحكماء : إذا أردت هذه الدرجات وهذا التفضيل فاستعمل هذه الخصال التي ذَكَرَ في هذه الآيات إلى قوله { عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام حيث كتب الله له فيها ، أنزلها الله تعالى على نبيه محمد عليه السلام وهي كلها في التوحيد وهي في الكتب كلها موجودة لم تنسخ قط وهو قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا } يعني : تبقى شقياً مذموماً يذمك الله ويذمك الناس بفعلك { مَّخْذُولاً } يعني : يخذلك الذي تعبده . ويقال : فتبقى في النار يذمك الله ويذمك الناس وتذم نفسك مخذولاً أي : يخذلك معبودك ولا ينصرك . قوله : { وقضى رَبُّكَ } يعني : أمر { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي أمر ربك ألا تطيعوا أحداً إلا إياه ، يعني : إلا الله تعالى يعني : لا تطيعوا أحداً في المعصية وتطيعوا الله في الطاعة ، ويقال لا تحدوا إلا الله . وفي قراءة ابن مسعود وَوَصَّى رَبُّكَ ألا تطيعوا إلاَّ إيَّاهُ { وبالوالدين إحسانا } أي : أمر بالإِحسان إلى الوالدين بِراً بهما وعطفاً عليهما { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر } قرأ حمزة والكسائي «إِمَّا يَبْلَغَانِ» بلفظ التثنية لأنه سبق ذكر الوالدين . وقرأ الباقون «يَبْلُغَنَّ» بلفظ الوحدان . لأنه انصرف إلى قوله : { أَحَدُهُمَا } يعني : إن بلغ الكبر أحدهما { أَوْ كِلاَهُمَا } يعني : إن بلغ أحد الأبوين عندك الهرم أو كلا الأبوين { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } أي : لا تقذرهما ولا تقل لهما قولاً رديئاً عند خروج الغائط منهما إذا احتاجا إلى معالجتهما عند ذلك . قال الفقيه : حدثنا أبو عبد الرحمن بن محمد قال : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا أصرم عن عيسى بن عبد الله الأشعري عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« لَوْ عَلِمَ الله شَيْئَاً مِنَ العَقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍ لحرمه فَلْيَعْمَلِ العَاقّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَلْيَعْمَلَ البَارّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلِ النَّار » . وقال مجاهد : إذا كبرا فلا تأف لهما لأنهما قد رأيا منك مثل ذلك . وقال القتبي : أُفٍ بكسر وفتح وبضم وهو ما غلظ من الكلام يعني : لا تستثقل شيئاً من أمورهما ولا تغلظ لهما القول . قرأ ابن كثير وابن عامر بنصب الفاء ، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص أُفٍّ بكسر الفاء مع التنوين وقرأ الباقون أفِّ بكسر الفاء بغير تنوين ومعنى ذلك كله واحد . ثم قال تعالى : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } يعني : لا تغلظ عليهما بالقول { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أي ليناً حسناً .
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } أي : كن ذليلاً رحيماً عليهما . وروى هشام عن عروة عن أبيه في قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } قال : كن لهما ذليلاً ولا تمتنع من شيء أحباه . وقال عطاء : جناحك يعني : يداك لا ينبغي أن ترفع يدك على والديك ولا ينبغي لك أن تحد بصرك إليهما تغيظاً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا دَعَاكَ أَبَوَاكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ فَأَجِبْ أُمَّكَ وَلاَ تُجِبْ أَبَاكَ » . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ الرَّاهِبِ فَقِيهاً لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلَ مِنْ صَلاتِهِ » . قال الفقيه أبو الليث رضي الله عنه لأن في ذلك الوقت كان الكلام الذي تحتاج إليه مباحاً في الصلاة . وكذلك في أول شريعتنا ثم نسخ الكلام في الصلاة فلا يجوز أن يجيبها إلا إذا علم أنه وقع لها أمر مهم فيجوز له أن يقطع ثم يستقبل . ثم قال تعالى : { وَقُل رَّبّ ارحمهما } أي : عند معالجتك إياهما في الكبر . ويقال : معناه : رب اجعل رحمتهما في قلبي حتى أربيهما في كبرهما { كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } أي : كما عالجاني في صغري ، ويقال : معناه : ادع لهما بالرحمة بعد موتهما أي : كن باراً بهما في حياتهما وادع لهما بعد موتهما . ثم قال : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } من اللين لهما { إِن تَكُونُواْ صالحين } أي بارين بالوالدين محسنين إليهما { فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً } أي : للراجعين من الذنوب إلى طاعة الله تعالى . ويقال : في الآية مضمر ومعناه : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صالحين } فإِن لم تكونوا صالحين فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه تعالى . وقال مجاهد : الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلوة ويستغفر منها . . وقال سعيد بن جبير الأواب : الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقال الحسن الأواب : الذي يقبل إلى الله بقلبه وعمله . وقال السدي الأواب : المحسن وقال القتبي : الأواب : التائب مرة بعد مرة من قولك آب يؤوب . ويقال : الأواب : الذي يصلي بين المغرب والعشاء . قوله : { وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } أي : صلته { والمساكين } أي : أعط السائلين { وابن السبيل } أي : الضيف النازل وحقه ثلاثة أيام . ثم قال تعالى : { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } أي : لا تنفق مالك في غير طاعة الله تعالى . وروي عن عمثان بن الأسود أنه قال سمعت مجاهداً ونحن نطوف بالبيت ، ورفع رأسه إلى أبي قبيس فقال : لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله تعالى كان مسرفاً . وروى الأعمش عن الحكم عن أبي عبيد وكان ضريراً وكان عبد الله بن مسعود يدنيه فجاءه يوماً فقال : من نسأل إن لم نسألك؟ فقال سل . قال فما الأواب؟ قال الرحيم قال فما التبذير؟ قال إنفاق المال في غير حقه . قال فما الماعون؟ قال : ما يعاون الناس فيما بينهم . قال فما الأمة؟ قال الذي يعلم الناس الخير .
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
ثم قال تعالى : { إِنَّ المبذرين } أي : المنفقين أموالهم في غير طاعة الله تعالى { كَانُواْ إخوان الشياطين } يعني : أعوان الشياطين { وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا } أي : كافراً { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } أي : عن قرابتك في الرحم وغيرهم ممن يسألك حياء منه ورحمة له { ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا } أي : انتظار رزق من ربك أن يأتيك أو قدوم مال غائب عنك ترجو حضوره { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } أي : هيناً ليناً . يعني : عِدْهُمْ عدة حسنة وقال مقاتل : نزلت الآية في خباب بن الأرت وبلال وعمَّار ونحوهم من أصحاب الصُّفة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجد شيئاً يعطيهم فيعرض عنهم فنزلت الآية . وقال السدي : معناه لا تعرض عن قرابتك وعن المساكين وابن السبيل ابتغاء أن تصيب مالاً «فقل لهم قولاً ميسوراً» أي قل لهم نعم وكرامة . ليس عندنا اليوم شيء فإِن أتانا شيء نعرف حقكم . وقال محمد بن الحنفية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول لشيء لا ، فإِذا سئل وأراد أن يفعل . يقول نعم وإذا لم يرد أن يفعل سكت . فكان قد علم ذلك منه قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } يقول : لا تمسك يدك في النفقة من البخل بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } في الإسراف فتعطي جميع ما عندك فيجيء الآخرون ويسألونك فلا تجد ما تعطيهم . وهذا قول ابن عباس . وقال قتادة : لا تمسكها عن طاعة الله وعن حقه ولا تبسطها كل البسط يقول لا تنفقها في المعصية وفيما لا يصلح . وقال مقاتل في قوله : لا تبسطها كل البسط . أي : في العطية ولا يبقى عندك شيء فإِذا سئلت لم تجد ما تعطيهم . وقال بعض الحكماء : كان النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كالوالد . ولا ينبغي للوالد أن يعطي جميع ماله لبعض ولده ويترك الآخرين فنهاه الله تعالى أن يعطي جميع ماله المسكين الواحد وأمره أن يقسم بالسوية كي لا ييأسوا منه ثم قال تعالى { فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً } يعني : لو أعطيت جميع مالك فتبقى مَلُوماً يلومك الناس وتلوم نفسك ، مَحْسُوراً . منقطعاً عن المال فلا مال لك ، والمحسور في اللغة المنقطع . وروي في الخبر أن امرأة بعثت ابنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : قل له إن أمي تستكسيك درعاً ، فإِن قال حتى يأتينا شيء فقل له إنها إِذَنْ تستكسيك قميصك . فأتاه فقال له إن أمي تستكسيك درعاً فقال له : حتى يأتينا شيء . فقال : إنها تستكسيك قميصك . قال : فنزع قميصه ودفعه إليه ولم يبق له قميص يخرج به إلى الصلاة فنزلت هذه الآية . يعني : تبقى عرياناً لا تقدر أن تخرج إلى الصلاة .
قال الفقيه : إذا أردت أن تعرف أن البخل قبيح فانظر إلى هذه الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى قميصه حتى عجز عن الخروج إلى الصلاة عاتبه الله على ذلك فبدأ بالنهي عن الإمساك فقال { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } فنهاه أولاً عن البخل ثم نهاه عن دفع الكل وهو التبذير .
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أي : يوسع الرزق على من يشاء من كان صلاحه في ذلك { وَيَقْدِرُ } أي : يضيق على من يشاء ، ويقدر لمن يشاء { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } من البسط ، والتقتير ، يعلم صلاح كل واحد من خلقه .
قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق } أي : مخافة الفقر ط { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ *** حُوباً كَبِيراً } أي : ذنباً عظيماً . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : « أن تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ » قال : يا رسول الله ثم أي؟ قال : « أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ » . قال : ثم أي؟ قال : « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » . قرأ ابن عامر { ***خَطْأً } بنصب الخاء ، وجزم الطاء . وقرأ ابن كثير : خِطَاءً بكسر الخاء ، وفتح الطاء ، ومد الألف . وقرأ الباقون : { ***خِطْأً } بكسر الخاء ، وجزم الطاء بغير مد يعني : إثماً كبيراً . ويقال : خَطِىءَ يَخْطَأُ خِطْأً مثل أَثم يأْثم إثماً . ومن قرأ بالنصب معناه : إنَّ قتلهم كان غير صواب . يقال : أَخْطَأَ يُخْطِىءُ خَطْأً وإِخْطَاءً . وقرأ بعضهم بنصب الخاء والطاء ، وهي قراءة شاذة .
ثم قال : { كَبِيرًا وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : معصية { وَسَاء سَبِيلاً } أي : بئس المسلك . وروى عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا أحد أغير من الله ، وبذلك حرم الفواحش ما ظهر منها ، وما بطن . ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى . ولذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العُذْر من الله تعالى ، ولذلك بعث الرسل ، وأنزل الكتب .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } يعني إلا بإحدى ثلاث مواضع . إذا قتل أحداً فيقتص به ، أو زنى وهو محصن فيرجم ، أو يرتد فيقتل . { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا } أي : سبيلاً وحجة عليه . إن شاء قتله ، وإن شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ الدية . يعني : إذا اصطلحا . وقال مجاهد : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وكل ظن في القرآن فهو يقين .
ثم قال : { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل } يعني : لا يقتل غير القاتل حمية ، ولا يقتل بالواحد اثنين ، ولا يقتل بعد ما عفا أو أخذ الدية { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي : معاناً من الله تعالى في كتابه . جعل الأمر إليه في القَوَدِ . قرأ حمزة والكسائي { ***تُسْرِفْ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
ثم قال { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي : إلا على وجه التجارة ، لينمو مال اليتيم بالأرباح ، أو ينمو على وجه المضاربة { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } يعني : حتى يتم خلقه . وقال القتبي : أشد الرجل ، غير أشد اليتيم ، وإن كان لفظهما واحداً . لأن قوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [ الأحقاف : 25 ] إنَّما هو الاكتمال ، وذلك ثلاثون سنة . وأشد الغلام أن يشتد خلقه ، وذلك ثمان عشرة سنة . وقال مقاتل : هذه الآية منسوخة بقوله : { فِى الدنيا والاخرة وَيَسْألُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 220 ] .
ثم قال : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } يعني : الذي بينكم وبين الله تعالى ، والعهد الذي بينكم وبين الناس { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } يعني : إن ناقض العهد يسأل عنه يوم القيامة .
ثم قال تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } لغيركم { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } أي : بالميزان العدل . بلغة الروم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص { بالقسطاس } بكسر القاف . والباقون ، بالضم . وهما لغتان يعني : الميزان . ويقال : هو القبان . { ذلك خَيْرٌ } أي : الوفاء بجميع ما أمركم الله تعالى به ، ونهاكم عنه ، خير من البخس والنقصان . { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ، ومرجعاً في الآخرة { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يقول : لا تقل ما لم تعلم ، فتقول : علمت ولم تعلم ، ورأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع . أي : كأنك تقفو الأمور . يقال : قفوت أثره ، والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها .
ثم حذرهم فقال : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } أي : يسأل العبد عن أعضائه يوم القيامة ، فيشهدن عليه . ويقال : معناه صاحب السمع ، والبصر ، والفؤاد ، يسأل يوم القيامة عن السمع والبصر والفؤاد . ويقال : قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تقل ما لم تعلم ، ولا تسمع اللغو ، ولا تنظر إلى الحرام ، ولا تحكم على الظن { كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } يعني : عن الكلام باللسان ، والتسمع بالسمع ، والتبصر بالبصر على وجه الإخبار ، وهو من جوامع الكلم .
ثم قال : { وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا } يعني : بالتكبر والفخر { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ } يعني : لن تدخل { الارض } ولن تجاوزها { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } قال القتبي : يعني : لا تقدر أن تقطعها ، حتى تبلغ إلى آخرها . يقال : فلان أخرق إلى الأرض من فلان ، إذا كان أكثر أسفاراً ، { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } يريد ، أنه ليس للعاجز أن يمدح نفسه ، ويستكبر .
ثم قال : { كُلُّ ذلك } أي : كل ما أمرتك به ، ونهيتك عنه { كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ } يعني : ترك ذلك معصية عند الله { مَكْرُوهًا } أي : منكراً . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، سَيِّئَةً بنصب الهاء مع التنوين ، يعني : خطيئة . ومعناه : ما ذكر في الآية ، تركه كان معصية وسيئة . وقرأ الباقون { سَيّئُهُ } بضم الهاء على معنى الإضافة . قال أبو عبيدة : وبهذه القراءة نقرأ ، وحجته قراءة أُبَيّ ، كان يقرأ سَيِّئَاتِهِ على معنى الإضافة .
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
ثم قال : { ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ } ، أي مما بيّن الله تعالى وأمر ونهى . كان ذلك مكتوباً في اللوح وأوحى إليك ربك . { مِنَ الحكمة } ، أي بيان الحلال والحرام . { وَلاَ تَجْعَلْ } ، أي لا تقل . { مَعَ الله إلها ءاخَرَ } ؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته . { فَتَلَقَّى } ، أي فتطرح { فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا } ، أي يلومك الناس . { مَّدْحُورًا } ، أي مقصيّاً من كل خير . وقال القتبي : مدحوراً ، أي مبعداً . يقال في الدعاء : اللَّهُمَّ ادْحَرْ عَنِّي الشَّيْطَانَ ، أي ابعده مني . { أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين } ، أي أفاختاركم بالبنين . { واتخذ } لنفسه { مِنَ الملئكة إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } في العقوبة ، ويقال : قولاً منكراً قبيحاً .
قوله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } ، لقد بينا { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا } ، أي ليتعظوا بالقرآن ، ويقال : في القرآن من كل شيء يحتاج إليه الناس ، ويقال : بيّنا في هذا القرآن من كل وعد ووعيد ، ليتعظوا بما في القرآن فينتهوا عن عبادة الأوثان . { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا } ، أي القرآن لا ينفعهم إلا تباعداً عن الإيمان . قرأ حمزة والكسائي { لّيَذْكُرُواْ } بالتخفيف ، يعني : ليذكروا ما فيه؛ وقرأ الباقون بالتشديد ، لأن أصله ليتذكروا فادغم التاء في الذال وشدد .
قوله { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ } ، قال ابن عباس : لأهل مكة . { كَمَا يَقُولُونَ } من الأوثان . { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } ، أي طريقاً فكانوا كهيئته؛ وقال قتادة : أي لعرفوا فضل ذي العرش ومزيته عليهم؛ ويقال : ابتغوا طريقاً للوصول إليه ، وقال مقاتل : لطلبوا سبيلاً ليقهروه كفعل الملوك بعضهم مع بعض .
ثم نزه نفسه عن الشريك ، فقال تعالى : { سبحانه } ، أي تنزيهاً له . { وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } ، أي عما يقول الظالمون إن معه شريكاً . { عُلُوّاً كَبِيراً } ، أي بعيداً عما يقول الكفار . قوله : { تُسَبّحُ لَهُ السموات **السبع والارض وَمَن فِيهِنَّ } من الخلق؛ { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } ، أي ما من شيء إلا يسبح بأمره وبعلمه؛ وقال الكلبي : كل شيء ينبت يسبح من الشجر وغير ذلك ، فإِذا قطع منه صار ما قطع منه ميتاً لا يسبح؛ وقال قتادة : كل شيء فيه الروح يسبح من شجر أو غيره؛ وقال السدي : ليس شيء في أصله الأول إلا وهو يسبح .
وروي عن الحسن أنه قيل له : أيسبح هذا الخوان؟ قال : كان يسبح في شجره ، فأَمَّا الآن فلا . ويقال : إذا قطع الشجر ، فإِنه يسبح ما دام رطباً ، بدليل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بقبرين ، فقال : « إنَّهُمَا لَيُعَذَّبانِ في القَبْرِ ، ومَمَا يُعَذَّبَانِ بِكَبِيرَةٍ . فَأَمَّا أَحَدَهُمَا كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، وَأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَنْزِهُ عن البَوْلِ » .
ثم أخذ جريدتين من شجر ، وغرس إحداهما في قبر والأُخرى في قبر الآخر ، فقال : « لَعَلَّهُمَا لا يُعَذَّبَانِ ما دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ » . قال الحكماء : الحكمة في ذلك أنهما ما دامتا رطبتين تسبحان الله تعالى ، ويقال : معناه ما من شيء إلا يسبح بحمده ، ويقال : معناه وإن من شيء يسبح بحمده ، إلا يدل على وحدانية الله تعالى ، ويسبحه وأن الله خالقه .
{ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ، يعني : أثر صنعه فيهم ، ولكن هذا بعيد . وهو خلاف أقاويل المفسرين ، ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } ، حيث لم يجعل العقوبة لمن اتخذ معه آلهة . { غَفُوراً } لمن تاب منهم .
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{ وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } ، يعني : أخذت في قراءة القرآن . { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } ؛ قال بعضهم : الحجاب المستور ، هو أن يمنعهم عن الوصول إليه؛ كما روي أن امرأة أبي لهب جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عنده أبو بكر فدخلت فقالت لأبي بكر : هجاني صاحبك . قال أبو بكر : والله هو ما ينطق بالشعر ولا يقوله . فرجعت ، فقال أبو بكر : أما رأتك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَمْ يَزَلْ بَيْنِي وَبَيْنَها مَلَكٌ يَسْتُرُنِي عَنْهَا حَتَّى رَجَعَتْ » . وقال قتادة : الحجاب المستور هو الأكنة؛ وقال مقاتل : الحجاب هو قوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } يعني جعلنا أعمالهم على قلوبهم أغطية ، حتى لا يرغبوا في الحق؛ ويقال : جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعني : الجن والشياطين حجاباً مستوراً ، فلا يصلون إليك؛ وقال الكلبي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن ، ستره الله وحجبه عن المشركين بثلاث آيات ، إذا قرأهن حجب عنهم . إحداهن في سورة الكهف { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بأايات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 57 ] والآية الثانية في النحل { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم وأولئك هُمُ الغافلون } [ النحل : 108 ] والثالثة في حم الجاثية { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الجاثية : 23 ] الآية .
ثم قال : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } ، أي صمماً وثقلاً لا يسمعون الحق . قرأ ابن كثير { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] بالياء ، وكذلك في قوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 43 ] ، وكذلك { فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال } [ النور : 36 ] الثلاثة كلها بالياء على معنى المغايبة؛ وقرأ حمزة والكسائي كلهن بالتاء على معنى المخاطبة ولفظ التأنيث؛ وقرأ نافع وابن عمر الأول خاصة بالتاء والآخرين بالياء ، وقرأ أبو عمرو الأوسط بالياء ، واختلفوا عن عاصم في رواية حفص الآخر خاصة بالياء ، وروى أبو بكر مثل ابن عامر .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } ، يعني : وحدانيته ، قول لا إله إلا الله . { وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً } ، أي أعرضوا تباعداً عن الإيمان؛ وقال القتبي : ولوا على أدبارهم هرباً وهو مثل ما قال مقاتل؛ وذلك حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :
« قُولُوا لا إله إلاَّ اللَّهُ تَتَمَلَّكُوا بِهَا العَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ » فنفروا من ذلك .
ثم قال : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } ، يعني : بالقرآن . { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي إلى قراءتك القرآن . { وَإِذْ هُمْ نجوى } ، يعني : يتناجون فيما بينهم . { إِذْ يَقُولُ الظالمون } ، أي يقول المشركون للمؤمنين : { إِن تَتَّبِعُونَ } ، يعني : ما تطيعون { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } ، يعني : مقلوب العقل . وذكر القتبي ، عن مجاهد أنه قال : مسحوراً أي مخدوعاً ، لأن السحر حيلة وخديعة ، كقوله { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 89 ] أي من أين تخدعون . وذكر عن أبي عبيدة قال : السَّحر الرئة . يقال للرجل : انتفخ سَحرك ، إذا جبن ، يعني : إن تتبعون إلا رجلاً ذا رئة ، أي بشراً مثلكم .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
ثم قال : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال } ، أي وصفوا لك الأمثال حيث قالوا : ساحر أو مجنون . { فُضّلُواْ } ، أي أخطأوا في المقالة فتحيروا . { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } ، أي لا يجدون مخرجاً مما قالوا لتناقض قولهم ، لأنهم قالوا مرة : ساحر والساحر عندهم المبالغ في العلم ، ومرة قالوا : مجنون والمجنون عندهم من هو في غاية الجهل . قال ابن الصائب : وذلك أن أبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث وغيرهم ، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النضر ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه : ما أدري ما يقول محمد ، غير أني أرى شفتيه تتحركان . فقال أبو جهل : هو مجنون؛ وقال أبو لهب : بل هو كاهن؛ وقال حويطب : بل هو شاعر . فنزل : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } إلى قوله : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } وقوله : { وَقَالُواْ *** أَءذَا كُنَّا عظاما } ، أي صرنا عظاماً { ورفاتا } ، أي تراباً . { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؟ أي لمجيئون { خَلْقاً جَدِيداً } . والاختلاف في قوله : { ***أئنا } في القرآن مثل ما ذكرنا في الرعد .
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
قال الله تعالى : { جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً } اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر ، يعني : لو كنتم من الحجارة . { أَوْ حَدِيداً } أو من الحديد . { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } ؛ قال مجاهد : حجارة أو حديداً أو ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله الذي فطركم أول مرة كما كنتم؛ ويقال : { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى } يعني : السماء والأرض والجبال؛ وقال الكلبي : معناه لو كنتم الموت لأماتكم . وعن الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا : { حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } ، يعني : الموت ، فيبعثكم كما خلقكم أول مرة . قالوا : لو كنا من الحجارة أو من حديد أو من الموت فمن يعيدنا؛ وهو قوله تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ } يا محمد : فسيعيدكم الله { الذى فَطَرَكُمْ } ، أي خلقكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } ، يهزون إليك رؤوسهم تعجباً من قولك؛ وقال القتبي : يعني : يحركونها استهزاء بقولك؛ وقال الزجاج : أي سيحركون رؤوسهم تحريك من يستثقله ويستبطئه .
{ وَيَقُولُونَ متى هُوَ } ، يعنون البعث . { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } . وكل ما هو آت فهو قريب ، وعسى من الله واجب . قالوا يا محمد : فمتى هذا القريب؟ فنزل : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } ؛ يعني : إسرافيل ، وهي النفخة الأخيرة . { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } ؛ يقول : تخرجون من قبوركم بأمره وتقصدون نحو الداعي ، وقال مقاتل : يوم يدعوكم من قبوركم فتستجيبون للداعي بأمره؛ وذلك أن إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن : أيتها العظام البالية ، واللحوم المتفرقة ، والعروق المتقطعة اخرجوا من قبوركم ، فيخرجون من قبورهم .
ثم قال : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي ما لبثتم في القبور إلا يسيراً . قال الكلبي : وذلك أنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة فينسون العذاب ، فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا يسيراً؛ وروي ذلك عن ابن عباس . وهذا أصح ما قيل فيه ، لأن بعض المبتدعين قالوا : إذا وضع الميت في قبره ، لا يكون عليه العذاب إلى وقت البعث ، فيظنون أنهم مكثوا في القبر قليلاً .
قوله : { وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ } ؛ قال ابن عباس : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيهم المشركون بمكة بالقول ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل { وَقُل لّعِبَادِى } ، أي المسلمين { يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ } ، أي يجيبوا بجواب حسن ، برد السلام بلا فحش . وهذا كقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 61 ] { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] ؛ ويقال : نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبّه رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله تعالى بالكف عنه؛ ويقال : نزلت في شأن عمر رضي الله عنه كان بينه وبين كافر كلام .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي يوسوس ويوقع بينهم العداء لعنه الله ليفسد أمرهم . { إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا } ، أي ظاهر العداوة . وهذا كقوله :
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
ثم قال : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } ، أي أعلم بأحوالكم وما أنتم فيه من أذى المشركين . { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } ، فينجيكم من أهل مكة إذا صبرتم على ذلك . { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } ، فيسلطهم عليكم إذا جزعتم ولم تصبروا . { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } ، يعني : مسلطاً . وهذا قبل أن يؤمر بالقتال؛ ويقال : { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } ، أي ليست المشيئة إليك في الهدى والضلالة .
ثم قال : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى *** السموات والارض } ، أي ربك عالم بأهل السموات وأهل الأرض ، وهو أعلم بصلاح كل واحد منهم . ثم قال : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } ، منهم من فضل الله بالكلام ، وهو موسى عليه السلام ومنهم من اتخذه خليلاً ، وهو إبراهيم عليه السلام ومنهم من رفعه مكاناً عليّاً ، وهو إدريس عليه السلام ومنهم من اصطفاه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . { وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ ***** زَبُوراً } ، أي كتاباً . قال مقاتل : الزبور مائة وخمسون سورة ، ليس فيها حكم ولا فريضة إنما ثناء على الله تعالى . قرأ حمزة { زَبُوراً } بضم الزاي ، وقرأ الباقون بالنصب؛ وهما لغتان ومعناهما واحد .
قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ } ، قال ابن عباس : إن ناساً من خزاعة كانوا يعبدون الجن ، وهم يرون أنهم هم الملائكة ، فقال الله تعالى : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ } يعني : تعبدون من دون الله . { فَلاَ يَمْلِكُونَ } ، لا يقدرون { كَشَفَ الضر عَنْكُمْ } ؛ يقول : صرف السوء عنكم من الأمراض والبلاء إذا نزل بكم . { وَلاَ تَحْوِيلاً } ؛ يقول : ولا تحويله إلى غيره ما هو أهون منه ، ويقال : ولا يحولونه إلى غيرهم .
قوله : { أولئك } ، يعني : الملائكة { الذين يَدْعُونَ } ، أي يعبدونهم ويدعونهم آلهة . قرأ ابن مسعود { تَدْعُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } ، يقول : يطلبون إلى ربهم القربة والفضيلة والكرامة بالأعمال الصالحة . { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ، أكرم على الله تعالى ، وأقرب في الفضيلة والكرامة . { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } ، أي جنته . { ويخافون عَذَابَهُ } ، أي ناره . { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ، يعني : لم يكن لأحد أمان من عذاب الله تعالى ، ويقال : { مَحْذُورًا } أي ينبغي أن يحذر منه .
وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : كان ناس من الإنس يعبدون قوماً من الجن ، فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم ، فأنزل الله : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ } ، يعني : الجن { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . وروى السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قال : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ } عيسى وعزيراً والملائكة ، وما عبد من دون الله وهو لله مطيع .
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
قوله : { وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة } ؛ قال ابن عباس : يعني : نميت أهلها . { أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا } ، يعني : بالسيف والزلازل والأمراض والخوف والغرق والحرق . { كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا } ، أي في الذكر الذي عند الله ، وقال مجاهد : { مُهْلِكُوهَا } أي مبيدوها أو معذبوها بالقتل والبلاء؛ ما من قرية في الأرض إلا سيصيبها بعض ذلك . روى حماد بن سلمة ، عن أبي العلاء ، عن مكحول أنه قال : أول أرض تصير خراباً أرض أرمينية؛ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : أول أرض تصير خراباً أرض الشام؛ وروى ابن سيرين : عن ابن عمر أنه قال : البصرة أسرع الأرضين خراباً وأخبثهم تراباً؛ عن عليّ أنه قال : أكثروا الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه ، فكأني برجل من الحبشة حمش الساقين ، قاعداً عليها يهدمها حجراً حجراً .
ثم قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات } ، وذلك أن قريشاً طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية ، فنزل { وَمَا مَنَعَنَا } أي ليس أحد يمنعنا أن نرسل الآيات عندما سألوها . { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون } ، يعني : تكذيب الأولين حين أتتهم الآيات ، فلم يؤمنوا فأتاهم العذاب .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا أبو العباس بن السراج قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : حدّثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الصفا لهم ذهباً ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعونها ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نتخير منهم ذرية ، وإن شئت أن نريهم الذي سألوا ، فإن كفروا ، أهلكوا كما هلك من كان قبلهم . فقال : « بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ » فنزل { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون } .
ثم قال : { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ } ، أي معاينة يبصرونها ، ويقال : علامة لنبوته . { فَظَلَمُواْ بِهَا } ، أي جحدوا بها فعقروها ، فعذبوا؛ فقال الله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بالايات إِلاَّ تَخْوِيفًا } لهم ليؤمنوا ، فإِن أَبَوا أتاهم العذاب . قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } ؛ قال الكلبي : أحاط علمه بالناس ، ويقال : هم في قبضته ، أي قادر عليهم؛ وقال قتادة : يعني : يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالات الله تعالى؛ وقال السدي : معناه إن ربك مطهرك على الناس .
ثم قال : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } ؛ قال : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد الدبيلي قال : حدّثنا أبو عبد الله قال : حدّثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به .
{ والشجرة الملعونة فِى القرءان } ؛ قال : هي شجرة الزقوم . قال الكلبي : هي ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، فنشر له الأنبياء كلهم ، فصلى بهم ثم صلى الغداة بمكة فكذبوه ، وهو قوله : { فِتْنَةً لّلنَّاسِ } حين كذبوه يعني أهل مكة . قال عكرمة أمَا إنَّهَا رؤيا يقظة ليست برؤيا منام؛ وقال سعيد بن المسيب : أُرِي النبي صلى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر ، فساءه ذلك ، فقيل له : إنّما هي دنيا يعطونها . فقرَّت عينه ، فنزل : { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } يعني : بني أمية . ثم قال : { والشجرة الملعونة فِى القرءان } ، يعني : ذكر الشجرة الملعونة في القرآن فتنة لهم ، يعني : بلية لهم؛ وذلك أن المشركين قالوا : يخبرنا هذا أنَّ في النار شجرة ، وكيف يكون في النار شجرة؟ والنّار تأكل الشجرة . فصار ذلك فتنة لهم ، يعني : بلية لهم؛ ويقال : لما نزل : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الاثيم } قالوا فيما بينهم : وما شجرة الزقوم؟ قالوا : التّمر والزبد . فرجع أبو جهل إلى منزله ، فقال لجاريته : زقمينا . وأمرها أن تأتي بالتمر والزبد ، فخرج به إلى الناس وقال : كلوا فإِن محمداً يخوفكم بهذا . فصار ذكر الشجرة فتنة لهم . ثم قال : { وَنُخَوّفُهُمْ } أي بذكر شجرة الزقوم . { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } ، يعني : تمادياً في المعصية .
قوله : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } فتعظم عن السجود لآدم .
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{ قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ } . في الآية مضمر ، معناه فلعنه الله تعالى . قال إبليس : أرأيتك هذا الذي لعنتني لأجله وفضلته عليَّ؟ { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة } ، يعني : لئن أجلتني إلى يوم البعث . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع { أَخَّرْتَنِى } بالياء عند الوصل ، وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسرة تقوم مقامه . ثم قال : { لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } ، أي لأستزلنَّ ذريته . يقول : أطلب زلتهم؛ وقال القتبي : لاستأصلنهم ، يقال : احتنك الجراد ما على الأرض ، إذا أكله كله؛ ويقال : هو من حنك الدابة يحنكها حنكاً ، إذا شدّ في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به ، أي لأقودنهم حيث شئت . { إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ يعني : الأنبياء والمخلصين لله ، ويقال : إِلاَّ من عصمته مني .
{ قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ } ، أي من أطاعك { مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } ، يعني : نصيبكم من العذاب في النار . { جَزَاء مَّوفُورًا } ، أي نصيباً وافراً لا يفتر عنهم . قوله { واستفزز } ، يقول استزلّ { مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ؛ يقول : بدعائك ووسوستك ، ويقال : بأصوات الغناء والمزامير . { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } ، يعني : استعن عليهم بأعوانك من مردة الشياطين { وَرَجِلِكَ } ، يعني : الشياطين الذين يوسوسون للناس ، ويقال : خيل المشركين ورجالتهم ، وكل خيل تسعى في معصية الله تعالى ، فهي من خيل إبليس؛ وكل راجل يمشي في معصية الله ، فهو من رجالته . قرأ عاصم في رواية حفص { وَرَجِلِكَ } بفتح الراء وكسر الجيم ، يعني : راجلك . فدل الواحد على الجنس؛ وقرأ الباقون بجزم الجيم وهو جمع الراجل .
{ وَشَارِكْهُمْ فِى الاموال } ، أي ما أكل من الأموال بغير طاعة الله تعالى وما جمع من الحرام؛ ويقال : { وَشَارِكْهُمْ فِى الاموال } وهو ما جعلوا من الحرث والأنعام نصيباً لآلهتهم؛ ويقال : كل طعام لم يذكر اسم الله عليه فللشيطان فيه شركة . قال الفقيه رضي الله عنه حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدّثنا أحمد بن حنبل قال : حدّثنا سفيان بن يحيى قال : حدّثنا أبو مطيع ، عن الربيع بن زيد ، عن أبي محمد وهو رجل من أصحاب أنس قال : قال إبليس لربه : يا رب جعلت لبني آدم بيوتاً فما بيتي؟ قال الحمام . قال : وجعلت لهم مجالس فما مجلسي؟ قال : السوق . قال : وجعلت لهم قرآناً فما قرآني؟ قال الشعر . قال : وجعلت لهم حديثاً فما حديثي؟ قال : الكذب . قال : وجعلت لهم أذاناً فما أذاني؟ قال : المزمار . قال : وجعلت لهم رسلاً فما رسلي؟ قال : الكهنة . قال : وجعلت لهم كتاباً فما كتابي؟ قال الوشم . قال : وجعلت لهم طعاماً فما طعامي؟ قال : كل ما لم يذكر عليه اسم الله . قال : وجعلت لهم شراباً فما شرابي؟ قال : كل مسكر .
قال وجعلت لهم مصايد فما مصايدي؟ قال : النساء .
ثم قال : { وَشَارِكْهُمْ فِى الاموال } ، يعني : كل نفقة في معصية الله تعالى . { والاولاد } ، أي أولاد الزنى ، فهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير؛ ويقال : هو ما سموا أولادهم عبد العزى وعبد الحارث؛ ويقال كل معصية بسبب الولد؛ ويقال : إذا جامع الرجل أهله ولم يذكر اسم الله تعالى ، جامع معه الشيطان؛ ويقال : المرأة النائحة والسكرانة يجامعها الشيطان ، فيكون له شركة في الولد . قال الفقيه أبو الليث : هذا الكلام مجاز لا على وجه الحقيقة ، إنما يراد به المثل . ثم قال : { وَعَدَّهُمْ } ، أي مَنِّهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث . { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } ، أي باطلاً .
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قوله : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } ، أي حجة ويقال : نفاذ الأمر . { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } ، أي كفيلاً على ما قال؛ ويقال : حفيظاً لهم؛ وقال أبو العالية : إنَّ عبادي الَّذين لا يطيعونك . ثم ذكر الدلائل والنعم ليطيعوه ولا يطيعوا الشيطان . ثم قال : { رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك } ، أي يسيِّر لكم الفلك . { فِى البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } ، أي من رزقه . { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ، أي رحيم بكم .
ثم قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر } ، أي إذا أصابكم الخوف وأهوال البحر . { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } ، أي بطل من تدعون من الآلهة وتخلصون بالدعاء لله تعالى . { فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر } ، يعني : من أهوال البحر . { أَعْرَضْتُمْ } ، أي تركتم الدعاء والتضرع ورجعتم إلى عبادة الأوثان . { وَكَانَ الإنسان كَفُورًا } ، أي الكافر كفوراً بأنعم الله .
ثم قال : { أَفَأَمِنتُمْ } إن عصيتموه { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ } أي يغور بكم ، { جَانِبَ البر } ، يعني : إلى الأرض السفلى؛ وقال مقاتل : يعني : ناحية من البر . { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ، أي حجارة من فوقكم كما أرسل على قوم لوط . { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } ، أي مانعاً يمنعكم .
قوله : { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } ، أي البحر { تَارَةً أخرى } ، يعني : مرة أخرى . { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح } ، أي ريحاً شديداً؛ { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } بالله وبنعمه ، { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } ، أي من يتبعنا ويطالبنا بدمائكم ، كقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بإحسان ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 178 ] ، أي مطالبة حسنة؛ ويقال : يعني : ثائراً ولا ناصراً ، لينتقم لكم مني . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ءانٍ *** نَخْسِفْ *** بِكُمْ } { أَوْ * نُرْسِلُ } { ءانٍ * نُعِيدُكُمْ } هذه الخمسة كلها بالنون ، وقرأ الباقون كلها بالياء .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
ثم قال تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } بعقولهم؛ وقال الضحاك : بالعقل والتمييز؛ ويقال : إن الله تعالى خلق نبات الأرض والأشجار وجعل فيها الروح ، لأنه ينمو ويزداد بنفسه ما دام فيه الروح؛ فإذا يبس ، خرج منه الروح وانقطع نماؤه وزيادته؛ وخلق الدواب وجعل لهن زيادة روح تطلب بها رزقها ، وتسمع بها الصوت . وخلق بني آدم وجعل لهم زيادة روح ، يعقلون بها ويميزون ويعلمون . وخلق الأنبياء وجعل لهم زيادة روح ، يبصرون بها الملائكة ويأخذون بها الوحي ويعرفون أمر الآخرة .
ثم قال : { وحملناهم فِى البر والبحر } يعني : في البر على الرطوبة يعني : الدواب وفي البحر على اليبوسة وهي السفن { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } ، يعني : الحلالات ويقال : من نبات الحبوب والفواكه والعسل ، وجعل رزق البهائم التبن والشوك . { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ، يعني : على الجن والشياطين والبهائم . وروي عن ابن عباس أنه قال : فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة ، وهم جبريل وميكاييل وإسرافيل وأشباههم منهم ، وروي عن أبي هريرة أنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده .
قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } ، أي أذكر يوم ندعو كل أناس بكتابهم ، ويقال بداعيهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى يدعى إمامهم قبلهم؛ وقال أبو العالية : بإمامهم أي بأعمالهم ، وقال مجاهد : بنبيهم؛ وقال الحسن : بكتابهم الذي فيه أعمالهم . { فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم } ، يعني : يقرؤون حسناتهم ويعطون ثواب حسناتهم . { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ، يعني : لا يمنعون من ثواب أعمالهم مقدار الفتيل ، وهو ما فتلته من الوسخ بين أصبعيك .
ثم قال الله تعالى : { وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى } ، أي من كان في هذه النعم أعمى ، يعني : لم يعلم أنها من الله ، { فَهُوَ فِى الاخرة أعمى } عن حجته ، { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ؛ يعني : عن حجته . قال مجاهد : { مَن كَانَ فِى *** هذه الدنيا *** أعمى } عن الحجة فهو في الآخرة أعمى عن الحجة { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ، أي أخطأ طريقاً؛ وقال قتادة : { مَن كَانَ فِى *** هذه الدنيا *** أعمى } عمَّا عاين من نعم الله وخلقه وعجائبه ، فهو في الآخرة التي هي غائبة عنه ولم يرها أعمى؛ وقال مقاتل : فيه تقديم ومعناه { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } . ومن كان عن هذه النعم أعمى ، فهو عما غاب عنه من أمر الآخرة أعمى؛ وقال الزجاج : معناه إذا عمي في الدنيا وقد تبين له الهدى وجعل إليه التوبة فعمي عن رشده ، فهو في الآخرة لا يجد متاباً ولا مخلصاً مما هو فيه ، فهو أشد عمًى وأضلّ سبيلاً أي أضل طريقاً ، لأنه لا يجد طريقاً إلى الهداية فقد حصل على عمله . وذكر عن الفرّاء أنه قال : تأويله من كان في هذه النعم التي ذكرتها أعمى ، لا يعرف حقها ولا يشكر عليها وهي محسوسة ، فهو في الآخرة أعمى؛ يعني : أشد شكاً في الذي هو غائب عنه في الآخرة من الثواب والعقاب .
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
ثم قال تعالى { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، أي : وقد كادوا ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك إن قدروا على ذلك؛ وذلك أن ثقيفاً أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : نحن إخوانك وأصهارك وجيرانك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَاذَا تُرِيدُونَ؟ » قالوا : نريد أن نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال . فقال صلى الله عليه وسلم : « وَمَا هُنَّ؟ » قالوا : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تمتَّعنا بالطاغية سنة يعني : بطاعة الأصنام سنة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « أمّا قَوْلُكُمْ لا نَنْحَنِي فِي الصَّلاةِ ، فَإنَّهُ لا خَيْرَ في دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ وَلا سُجُودٌ » . قالوا : فإنا نفعل ذلك وإن كان فيه دناءة . « وَأمَّا قَوْلُكُمْ : إنا لا نَكْسِرُ أصْنَامَنَا بِأيْدِينَا ، فَإنَّا سَنَأْمُرُ مَنْ يَكْسِرُهَا » . قالوا : فتمتَّعنا باللات سنة فقال : « إنِّي غَيْرُ مُمَتِّعكُمْ بِهَا » . قالوا : يا رسول الله فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكره أن يقول لا ، مخافة أن يأبوا الإسلام ، فنزل { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } .
وقال السدي : إن قريشاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك ترفض آلهتنا كل الرفض ، فلو أنك تأتيها فتلمسها أو تبعث بعض ولدك فيمسها ، كان أرق لقلوبنا وأحرى أن نتبعك؛ فأراد أن يبعث ابنه الطاهر فيمسح ، فنهاه الله تعالى عن ذلك ونزل : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } وروى أبو العالية ، عن أصحابه منهم القرظي قال : لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فبلغ { ومناة الثالثة الاخرى } [ النجم : 20 ] ، جرى على لسانه تلك الغرانيق العلى وأنَّ شفاعتهن لترتجى؛ فلما بلغ السجدة ، سجد وسجد معه المشركون ، ثم جاء جبريل فقال : ما جئتك بهذا فنزل : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } إلى قوله : { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم مغموماً حتى نزل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } الآية .
وروى سعيد بن جبير ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ، وكان في قولهم أن قالوا : يا محمد إنك تأتي بشيء لم يأت به أحد من الناس ، وأنت سيدنا وابن سيدنا ، فما زالوا يكلمونه حتى كاد أن يقاربهم . ثم إن الله تعالى منعه وعصمه عن ذلك ، فقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] الآية؛ وذلك قوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } في القرآن . { لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } ، يعني : لتقول أو تفعل غير الذي أمرتك في القرآن . { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ، أي صفياً وصديقاً؛ ويقال : إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد عن مجلسك سقاط الناس ومواليهم حتى نجلس معك ، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك ، فنزل : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من تقريب المسلمين . { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } لو فعلت ما طلبوا منك .
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
ثم قال { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } ، يقول : عصمناك ، ويقال : حفظناك . { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } ، يعني : لقد هممت أن تميل إليهم . { شَيْئًا قَلِيلاً } ، وتعطي أمنيتهم شيئاً قليلاً . { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة } ، أي عذاب الدنيا ، { وَضِعْفَ الممات } ؛ يعني : عذاب الآخرة ، وهذا قول ابن عباس . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : ضعف الحياة عذابها أي عذاب الدنيا ، وضعف الممات أي عذاب الآخرة ، وهذا مثل الأول؛ ويقال : ضعف الممات أي عذاب القبر؛ ويقال : هذا وعيد للنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : إنك لو فعلت ذلك ، يضاعف لك العذاب على عذاب غيرك؛ كما قال تعالى : { يانسآء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } [ الأحزاب : 30 ] ، لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم ودرجة من وصفهم فوق درجة غيرهم ، فجعل لهم العذاب أشد . وروي عن مالك بن دينار أنه قال سألت أبا الشعثاء عن قوله : { ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } ، فقال : ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة .
ثم قال : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } ؛ يقول : مانعاً يمنعك من ذلك ، ويقال : مانعاً يمنع من العذاب . قوله : { وَإِن كَادُواْ } وقد كادوا { لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } ، أي ليستزلونك ليخرجوك من أرض مكة . { وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك } ، أي بعدك { إِلاَّ قَلِيلاً } ، فيهلكهم الله تعالى . وروى عبد الرزاق ، عن معمر أنه قال : قد فعلوا ذلك فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ، ولم يلبثوا بعده إلا قليلاً؛ وقال مقاتل : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض } ، يعني : من أرض المدينة . نزلت الآية في حيي بن أخطب وغيره من اليهود حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسدوه وقالوا : إنك لتعلم أن هذه ليست من أرض الأنبياء إنما أرض الأنبياء الشام ، فإن كنت نبياً فاخرج منها ، فنزل : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } ، أي من أرض المدينة إلى الشام { وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً } وأمر بالرجوع إلى المدينة .
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
ثم قال تعالى : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } ، أي هكذا سنتي فيمن قد مضى أن أهلك من عصوا الرسول ولم يتبعوه ، ولا أهلكهم ونبيهم بين أظهرهم؛ فإذا خرج نبيهم من عندهم ، عذبوا . { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } ، يعني : تغييراً أو تبديلاً . قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية حفص : { لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك } ، وقرأ الباقون : { خَلْفَكَ } ومعناهما قريب ، يعني بعدك .
ثم قال : { أَقِمِ الصلاة } ، يعني أتمم الصلاة ودم عليها { لِدُلُوكِ الشمس } يعني : بعد زوالها الظهر والعصر { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ } يعني : إلى دخول الليل وهي المغرب والعشاء . وروى سالم ، عن ابن عمر أنه قال : دلوكها زيفها بعد نصف النهار أي تزوالها؛ وقال قتادة : زيفها عن كبد السماء؛ وروى ابن طاوس ، عن أبيه أنه قال : دلوكها غروبها؛ وروى معمر ، عن الشعبي ، عن ابن عباس أنه قال : { لِدُلُوكِ الشمس } حين نزول الشمس؛ وروى مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : دلوكها غروبها؛ وقال ابن مسعود : غروبها؛ وقال القتبي : إلى غسق الليل . الغسق ظلامه .
ثم قال : { أَقِمِ الصلاة } ، أي صلاة الغداة؛ وإنَّما سميت صلاة الغداة قرآناً ، لأن القراءة فيها أكثر وأطول . ويقال : لأنه يقرأ كلتا الركعتين ، وفي كلتا الركعيتن القراءة فريضة . { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى } ، أي صلاة الغداة مشهودة ، يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار؛ ويقال : كان بمعنى صار ، يعني صار مشهوداً ، لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الغداة ، فينزل ملائكة النهار والقوم في صلاة الغداة قبل أن تعرج ملائكة الليل؛ فإذا فرغ الإمام من صلاته ، عرجت ملائكة الليل فيقولون : ربنا إنا تركنا عبادك وهم يصلون لك . ويقول الآخرون : ربنا أدركنا عبادك وهم يصلون لك . { وَقُرْءانَ } صار نصباً ، لأن معناه أقم قرآن الفجر؛ ويقال : صار نصباً على وجه الإغراء أي عليك بقرآن الفجر
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
ثم قال : { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ } ، يعني : قم بالليل بعد النوم والتهجد القيام بعد النوم؛ { نَافِلَةً لَّكَ } ؛ روى شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة أنه قال : كانت النافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة؛ وقال مجاهد : لم تكن النافلة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ويقال : { نَافِلَةً لَّكَ } ، أي فضلاً لك؛ ويقال : خاصة لك { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } ؛ قال مقاتل : يعني : إن الشفاعة لأصحاب الأعراف يحمده الخلق كلهم؛ ويقال : إخراج قوم من النار .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن معاوية الأنماطي قال : حدّثنا الحسن بن الحسين ، عن عطية العوفي قال : حدّثنا أبو حنيفة ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } قال : « يُخْرِجُ الله أقْوَاماً مِنَ النَّارِ مِنْ أهْلِ الإيمانِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فذلك المَقَامُ المَحْمُودُ ، فَيُؤْتَى بِهِمْ نَهَراً يُقَالُ لَهُ الحَيَوَانُ ، فَيُلْقَوْنَ فِيهِ؛ فَيُنْبَتُونَ كَمَا ينبتُ التَّقَاريرُ . ثم يُخْرَجُونَ فَيُدْخَلُونَ الجَنَّةَ ، فَيُسَمَّوْنَ فِيهَا الجَهَنَّمِيُّونَ . قال : ثم يطلبونَ إلى الله تعالى أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُمْ هذا الاسْمَ ، فَيُذْهِبَهُ عَنْهُمْ » . وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال : يجمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ويسمعهم المنادي ، فيقول : يا محمد ، فيقول : « لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ » . وهو المقام المحمود ، ويغبطه به الأولون والآخرون . ثم قال تعالى : { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، أي قال هذا حين أمره الله تعالى بالرجوع إلى المدينة بعدما خرج منها ، فأمره الله بأن يقول حين دخل المدينة : { رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، أي أدخلني في المدينة إدخال صدق . { وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، يعني : من المدينة إلى مكة إخراج صدق؛ ويقال : { أَدْخِلْنِى } في الدين { مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، أي ثبتني على الدين { وَأَخْرِجْنِى } ، أي احفظني من الكفر؛ ويقال : أخرجني من الدنيا إخراج صدق وأدخلني في الجنة؛ ويقال : أدخلني بعز وشرف وإظهار الإسلام؛ ويقال : أدخلني في القبر مدخل صدق وأخرجني من القبر مخرج صدق؛ وقال مجاهد : أدخلني في النبوة والرسالة مدخل صدق؛ وقال الحسن : مخرج صدق من مكة إلى المدينة ومدخل صدق الجنة وقال السدي : أدخلني المدينة وأخرجني من مكة؛ وعن أبي صالح : أدخلني في الإسلام وارفعني بالإسلام .
{ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ } ، يعني : من عندك { سلطانا نَّصِيرًا } ، أي ملكاً مانعاً لا زوال فيه ولا يرد قولي ويقال : حجة ثابتة ظاهرة . قوله : { وَقُلْ جَاء الحق } ، ظهر الإسلام والقرآن ، { وَزَهَقَ الباطل } ؛ يقول هلك الشرك وأهله . { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } ، يعني : الشرك كان هالكاً لم يكن له قرار ولا دوام . روي عن عبد الله بن الشخير ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] { جَاء الحق وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك والصنم ينكب لوجهه .
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
ثم قال : { وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء } ، أي بيان من العمى؛ ويقال : شفاء للبدن ، إذا قرىء على المريض يبرأ أو يهون عليه . { وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } ، أي ونعمة من العذاب لمن آمن بالقرآن . { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } ، أي المشركين ما نزل من القرآن ما يزيدهم إلاَّ خساراً ، أي تخسيراً وغبناً .
قوله : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } ، أي إذا وسعنا على الكافر الرزق ورفعنا عنه العذاب في الدنيا ، { أَعْرَضَ } عن الدعاء؛ ويقال : النعمة هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ، أعرض عنه الكافر . { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } ، يعني : تباعد عن الإيمان فلم يقربه . قرأ ابن عامر : { ***وَنَاءَ } بمد الألف على وزن باع؛ وقرأ أبو عمرو بنصب النون وكسر الألف؛ وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون والألف؛ وقرأ الباقون بنصب النون والألف .
{ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ } ، يعني : إذَا أصابه الفقر في معيشته والسقم في الجسم ، كان آيساً من رحمة الله تعالى .
ثم قال : { يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } ؛ قال القتبي : على خليقته وطبيعته وهو من الشكل؛ وقال الحسن : { على شَاكِلَتِهِ } على بنيته وكذلك قال معاوية بن قرة؛ وقال الكلبي : على ناحيته ومنهاجه وحديثه وأمره الذي هو عليه . { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } ، أي بمن هو أصوب ديناً ، ويقال : هو عالم بمن هو على الحق .
قوله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } ، أي لا علم لي فيه؛ وقال مجاهد : الروح خلق من خلق الله تعالى ، له أيْدٍ وأرجل؛ وقال مقاتل : الروح ملك عظيم على صورة الإنسان ، أعظم من كل مخلوق . وروى معمر ، عن قتادة والحسن أنهما قالا : الروح هو جبريل؛ وقال قتادة : كان ابن عباس يكتمه ، أي يجعله من المكتوم الذي لا يفسر .
وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود أنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه . فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فقام متوكئاً على عسيب ، فظننت أنه يوحى إليه ، فنزل : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } ، فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه .
ويقال : الروح ، القرآن كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } وروي في بعض الروايات ، عن ابن عباس أنه قال : الروح ملك له مائة ألف جناح ، وكل جناح لو فتحه يأخذ ما بين المشرق والمغرب؛ ويقال : إن جميع الملائكة تكون صفاً واحداً والروح وحده يكون صفاً واحداً ، كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] واحداً ويقال : معناه يسألونك عن الروح الذي هو في الجسد ، كيف هو؟ قل : الروح من أمر ربي؛ ويقال : الروح جبريل؛ كقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الامين } [ الشعراء : 193 ] أي يسألونك عن إتيان جبريل كيف نزوله عليك؟ { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } . { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي ما أعطيتموه من العلم مما عند الله إلاَّ يسيراً .
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
ثم قال : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، يعني : حفظ الذي أوحينا إليك من القرآن من قلبك؛ ويقال : لئن شئنا لمحونا من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر . { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } ، أي لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه؛ ويقال : ثم لا تجد لك مانعاً يمنعني من ذلك . قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ، يعني : لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين . وروى أبو حازم ، عن أبي هريرة أنه قال : سيؤتى على كتاب الله تعالى ، فيرفع إلى السماء فلا تصبح على الأرض آية من القرآن ، وينزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو؛ وروي عن ابن مسعود أنه قال : يصبح الناس كالبهائم . ثم قرأ : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية . ثم قال : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } ، أي بالنبوة والإسلام . قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ، أي بمثل هذا القرآن على نظمه وإيجازه ونسقه مع كثير مما ضمن فيه من الأحكام والحدود وفنونها؛ ويقال : مثل هذا القرآن من تعريه عن التناقض مع كثرة الأقاصيص والأخبار؛ ويقال : { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ، لأن فيه علم ما كان وعلم ما يكون ، ولا يعرف ذلك إلاَّ بالوحي؛ ويقال : بمثل هذا القرآن ، لأنه كلام منثور لا على وجه الشعر ، لأن تحت كل كلمة معاني كثيرة . { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ، أي معيناً .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
ثم قال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ } ، يعني : بينّا للناس . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان } ، أي من كل لون ، ومن الحلال والحرام ، والأحكام والحدود ، والوعد والوعيد . { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } ، أي ثباتاً على الكفر؛ ويقال : أبوا عن الشكر إلاَّ كفوراً ، أي كفراناً مكانه؛ ويقال : لم يقبلوه .
قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } ؛ أي لن نقربك ولن نصدقك ، وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي وأصحابه ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } . { حتى تَفْجُرَ لَنَا } ، يعني : تشقق الماء { مِنَ الارض يَنْبُوعًا } ، أي عيوناً . قرأ أهل الكوفة ، عاصم وحمزة والكسائي { تَفْجُرَ } بنصب التاء وجزم الفاء وضم الجيم مع التخفيف ، وقرأ الباقون : { تَفْجُرَ } بضم التاء ونصب الفاء مع التشديد؛ وقال أبو عبيدة : هذا أحب إليّ ، لأنهم اتفقوا في الذي بعده ولا فرق بينهما في اللغة . فمن قرأ بالتشديد فللتكثير والمبالغة ، كما يقال : قَبّل تَقْبيلاً للمبالغة .
ثم قال : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } ، أي بستاناً { مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ } ، أي الكروم . { فَتُفَجّرَ الانهار } ، أي تشقق الأنهار { خِلاَلَهَا } ، يعني : وسطها . { تَفْجِيرًا } ، أي تشقيقاً . { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } ، أي قطعاً . قرأ ابن عامر وعاصم ونافع { كِسَفًا } بنصب السين ، وقرأ الباقون بالجزم؛ ومعناهما واحد ، أي تسقط علينا طبقاً . واشتقاقه من كسفت الشيء ، إذا غطيته . ومن قرأ بالنصب ، جعلها جمع كسفة وهي القطعة { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً } ، أي ضميناً كفيلاً ، والقبيل الكفيل؛ ويقال : من المقابلة أي معاينة شهيداً ، يشهدون لك بأنك نبي الله تعالى . { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ } ، أي من ذهب . { أَوْ ترقى فِى السماء } ، أي تصعد إلى السماء .
{ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ } ، أي لصعودك . { حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } ، روى أسباط ، عن السدي أنه قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، جاءه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعبد الله بن أمية المخزومي أخو أم سلمة ، فأبى أن يبايعهما ، فقالت أم سلمة : ما بال أخي يكون أشقى الناس بك يا رسول الله وابن عمك؟ فقال : « أمَّا ابْنُ عَمِّي ، فَإنَّهَ كَانَ يَهْجُونا؛ وأمَّا أَخُوكِ ، فَإنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِي حَتَّى أَرْقَى فِي السَّمَاءِ؛ وَلَوْ رَقِيتُ إلَى السَّمَاءِ ، لَنْ يُؤْمِنَ حَتَّى آتِيَهُ بِكِتَابٍ يَقْرَؤُهُ » . ثم دعاهما ، فقبل منهما وبايعهما .
قال الله تعالى : { قُلْ سبحان رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } ، فإني لا أقدر على ما تسألوني . قرأ ابن كثير وابن عامر { قَالَ سبحانك *** رَبّى } بالألف على وجه الحكاية وقرأ الباقون : { قُلْ سبحان } بغير ألف على وجه الأمر .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
ثم قال { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } ، يعني : أهل مكة { إِذْ جَاءهُمُ الهدى } ، يعني : القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم . { إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً } ، يعني : الرسول من الآدميين ، ومعناه أنه ليست لهم حجة سوى ذلك القول .
قال الله تعالى : { قُلْ } يا محمد : { لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ } ، أي لو كان سكانٌ ملائكة يمشون { مُطْمَئِنّينَ } ، أي مقيمين في الأرض؛ { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } ، أي لبعثنا عليهم رسولاً من الملائكة . وإنما يبعث الملك إلى الملائكة والبشر إلى البشر ، فلما قال لهم ذلك ، قالوا له : من يشهد لك بأنك رسول الله تعالى؟ قال الله تعالى : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } بأني رسول الله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } .
ثم قال : { وَمَن يَهْدِ الله } ، أي من يكرمه الله تعالى بالإسلام ويوفقه ، { فَهُوَ المهتد } ؛ يعني : فهو على الهدى وعلى الصواب . قرأ نافع وأبو عمرو { المهتدى } بالياء عند الوصل؛ وقرأ الباقون بغير ياء . { وَمَن يُضْلِلِ } ، أي ومن يخذله الله عن دينه ، { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ } ، أي يهدونهم من الضلالة . { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } ، أي نبعثهم يوم القيامة ونسوقهم منكبين على وجوههم ، يسحبون عليها { عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } ، عن الهدى؛ ويقال : في ذلك الوقت يكونون عمياً وبكماً وصماً كما وصفهم .
{ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ، أي : مصيرهم إلى جهنم { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } . يقول : كلما سكن لهبها ولم تجد شيئاً تأكله ، { زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } ، أي وقوداً ، أعيدوا خلقاً جديداً . قال مقاتل : وذلك أن النار إذا أكلتهم ، فلم يبقَ منهم شيء غير عظام وصاروا فحماً ، سكنت النار فهو الخبو . ثم بدلوا جلوداً غيرها ، فتشتعل وتسعر عليهم ، فذلك قوله : { زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } ؛ وقال أهل اللغة : يقال خبت النار ، إذا سكن لهبها ، وإذا بقي من جمرها شيء ، يقال خمدت ، فإذا طفئت ولم يبقَ شيء ، قالوا همدت . ثم قال تعالى : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } ، أي ذلك العذاب عقوبتهم وجزاء أعمالهم . { ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ } ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا } ، أي تراباً . { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } بعد الموت .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
قال الله تعالى : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } ، يعني : أو لم يخبروا في القرآن؟ { أَنَّ الله الذى خَلَقَ *** السموات والارض **قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } ، يعني : يحييهم بعد الموت . { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } ، أي لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن . { فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا } ، أي أبى المشركون عن الإيمان ، ولم يقبلوا إلاّ الكفر .
ثم قال تعالى : { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } ، يقول : لو تقدرون على مفاتيح رزق ربي ، { إِذًا لأمْسَكْتُمْ } ؛ أي لبخلتهم وامتنعتم عن الصدقة { خَشْيَةَ الإنفاق } ، أي مخافة الفقر . { وَكَانَ الإنسان قَتُورًا } ، أي ممسكاً بخيلاً . قال الزجاج هذا جواب لقولهم : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ] وقال بعضهم : هذا ابتداء وصف بخلهم . قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ } ، أي علامات واضحات ، مضيئات بالحجة عليهم وهاديات ، إذ جاءهم موسى بالبينات . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس في قوله : { تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ } ، وهي في سورة الأعراف { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 130 ] قال : السنين لأهل البوادي ، ونقص الثمرات لأهل القرى ، فهاتان آيتان . والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وهذه خمسة؛ ويد موسى إذ أخرجها بيضاء من غير سوء ، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا أبو موسى محمد بن إسحاق وخزيمة قالا : حدّثنا علي بن حزم بن حشرم قال : حدّثنا عيسى بن يونس ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي ، فنسأله عن هذه الآيات : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات } . فقال : لا تقل نبي ، فإنه لو سمعها صارت له أربعة أعين . فأتوه فسألوه ، فقال : « ألاّ تُشْرِكُوا بالله شَيْئاً ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاَّ بِالحَقِّ ، وَلا تَسْرِقُوا ، ولاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَناً أو قال : ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَلا تَمْشُوا بَبرِيءٍ إلى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يا مَعْشَرَ اليَهُودِ ألا تَعْتَدوا فِي السَّبْتِ » . فقبَّلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي الله ورسوله . فقال : « وَمَا يَمْنَعُكُمَا أنْ تُسْلِمَا؟ » فقالا : إن داود دعا ربه ألاَّ يزال في ذريته نبي ، فنخاف أن يقتلنا اليهود .
ثم قال تعالى : { فاسأل بَنِى إسراءيل } ، يعني : سل مؤمني أهل الكتاب عن هذه الآيات . { إِذْ جَاءهُمُ } ، يعني : حين جاءهم موسى ، { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لاظُنُّكَ ياموسى *** موسى *** مَّسْحُورًا } ؛ أي مغلوب العقل .
قوله : { قَالَ } أي موسى : يا فرعون ، { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء } ؛ الآيات . قرأ الكسائي : { عَلِمَتِ } بضم التاء ، يعني : علمت أنا من أنزل هؤلاء الآيات { إِلاَّ رَبُّ *** السموات والارض } ، يعني : إن لم تصدقوني ، فأنا على يقين من ذلك؛ وقرأ الباقون بالنصب ، يعني : إنك تعلم ذلك ، كما قال في آية أخرى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } [ النمل : 14 ] . { بَصَائِرَ } ، أي علامات لنبوتي ، ويقال : علامات بينات . { وَإِنّى لاظُنُّكَ } ، أي لأعلمنك { لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا } ، أي ملعوناً هالكاً . قال الحسن : { مَثْبُورًا } أي مهلكاً ، وكذا قال قتادة . وروى مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : { مَثْبُورًا } أي ملعوناً ، وكذا روى الكلبي والضحاك .
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الارض } { أي يَسْتَنْزلهُمْ ويخرجهم ، ويقال : أي يستخفهم من الأرض ، يعني : من الأردن وفلسطين ومصر . { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل } ، الذين مع موسى : { اسكنوا الارض } ، أي انزلوا أرض الأردن وفلسطين ومصر . { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة } ، أي البعث بعد الموت ، { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } ؛ أي جميعاً . واللفيف الجماعة من كل قبيلة .
ثم قال : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } ، أي أنزلنا عليك جبريل بالقرآن . { وبالحق نَزَلَ } ، أي بالقرآن نزل جبريل؛ ويقال : أنزلناه بالحق والحكمة والحجة . ثم قال : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا } بالجنة للمؤمنين { وَنَذِيرًا } بالنار للكافرين . ثم قال تعالى : { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ } ، حين أنزلنا به جبريل متفرقاً ، آية بعد آية ، وسورة بعد سورة . { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } ، أي على ترسل ، وسهل ليفهموه ويحفظوه . وكان ابن عباس يقرأ : { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد ، أي بيّنا فيه الحلال والحرام؛ ويقال : أنزلناه متفرقاً . { ونزلناه تَنْزِيلاً } ، أي بيّناه تبييناً .
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله : { قُلْ ءامِنُواْ بِهِ } ، أي صدقوا بالقرآن . { أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } ، يعني : أو لا تصدقوا؛ ومعناه إن صدقتم به أو لم تصدقوا ، فإنه غني عن إِيمانكم وتصديقكم . { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } ، يعني : أعطوا علم كتابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب من قبل القرآن . { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } ، أي يعرض عليهم القرآن عرفوه . { يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ } ، أي يقعون على الوجه { سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا } ، أي تنزيهاً لربنا؛ وقال الكلبي : أي نصلي لربنا . { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } وقد كان وعد ربنا لمفعولاً أي كائناً ومقدوراً .
قوله : { وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ } ، أي يقعون على الوجوه . { يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } ، أي تواضعاً ومذلة . { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } ؛ قال الكلبي : كان ذكر الرحمن في القرآن قليلاً في بدىء ما نزل من القرآن ، وقد كان أسلم ناس من اليهود ، منهم عبد الله بن سلام وأصحابه ، وكان ذكره في التوراة كثيراً ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزل : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } . قرأ حمزة والكسائي : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } بكسر اللام والواو؛ وقرأ أبو عمرو بكسر اللام في { قُلِ ادعوا } وضم الواو في { أَوِ ادعوا الرحمن } ، وقرأ الباقون كليهما بالضم ، ومعناهما واحد . { أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى } يعني : بأي الاسمين تدعون ، فهو حسن { فَلَهُ الاسماء الحسنى } ، أي له الصفات العلى .
ثم قال : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمكة وكان يصلي بأصحابه ، وإذا رفع صوته ، أذاه المشركون؛ وإذا خفض لا يسمع صوته الذين خلفه ، فأنزل الله تعالى { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } ، أي بقراءتك فيؤذيك المشركون { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } في جميع الصلوات ، يعني : لا تسر بقراءتك فلا يسمع أصحابك قراءتك . { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } ؛ يقول : بين الرفع والخفض ، ويقال : معناه ولا تجهر في جميع الصلوات ، ولا تخافت في جميع الصلوات . { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } ، أي اجهر في بعض الصلوات ، وخافت في البعض .
ثم قال : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } ؛ قال الكلبي : وذلك أنه لما نزل : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } ، قالت كفار قريش : كان محمد يدعو إلهاً واحداً ، وهو اليوم يدعو إلهاين ما نعرف الرحمن إلاَّ صاحب اليمامة مسيلمة الكذاب . فنزل : { وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } ، يعني : ذكر الرحمن ، وأمره بأن يقول : { الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } ، أي لم يتخذ ولداً فيرث ملكه .
{ وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } في عظمته؛ وقال أبو العالية : معناه وقل الحمد لله الذي لم يجعلني ممن يتخذ له ولداً ، ولم يجعلني ممن يقول له شريك في الملك . { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل } ، أي من اليهود والنصارى؛ وهم أذل خليقة الله تعالى ، يؤدون الجزية؛ وقال مقاتل : معناه لم يذل فيحتاج إلى ولي يعينه ، أي لم يكن له ولي ينتصر به من الذل .
{ وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } ، أي عظمه تعظيماً ، ولا تقل له شريك . وروى إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه أنه قال : بلغني أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رجل كثير الدين ، كثير الهم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اقْرَأْ آخِرَ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } حَتَّى تَخْتِمَهِا ، ثُمَّ قُلْ : تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ » .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
قوله تعالى : { الحمد للَّهِ } ، يقول : الشكر لله والألوهية لله . { الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } ، أي أنزل على عبده محمدٍ صلى الله عليه وسلم القرآن . { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ، أي لم ينزله متناقضاً . { قَيِّماً } ، بل أنزله مستقيماً؛ ويقال : في الآية تقديم ، ومعناه الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً أي مستقيماً ، ولم يجعل له عوجاً؛ أي لم ينزله مخالفاً للتوراة والإنجيل . قال أهل اللغة : «عوجاً بكسر العين في الأقوال وبنصب العين في الأشخاص»؛ ويقال : في كلامه عوج ، وفي هذه الخشبة عوج . { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } ، أي لينذركم ببأس شديد ، كما قال : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] أي بأوليائه وهذا قول القتبي»؛ وقال الزجاج : أي لينذرهم بالعذاب البئيس . { مِن لَّدُنْهُ } ، أي من قبله؛ ويقال : { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } ، أي يخوفهم بالعذاب الشديد بما في القرآن { مِن لَّدُنْهُ } ، أي من عنده . قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { مِن لَّدُنْهُ } بجزم الدال؛ وقرأ الباقون بالضم ، ومعناهما واحد .
{ وَيُبَشّرُ المؤمنين } ، بالجنة . ثم وصف المؤمنين ، فقال : { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } ، فيما بينهم وبين ربهم . ثم بيّن الذي يبشرهم به ، فقال : { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } في الْجَنَّةِ ، { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } ؛ أي مقيمين في الثواب والنعيم خالداً مخلداً و { مَّاكِثِينَ } منصوب على الحال في معنى خالدين .
{ وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ } ، أي يخوف بالقرآن الذين قالوا : { اتخذ الله وَلَدًا } ، وهم المشركون والنصارى . { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } ، أي ليس لهم بذلك القول بيان ولا حجة ، { وَلاَ لائَبَائِهِمْ } ؛ أي ولا حجة لآبائهم الذين مضوا ، فأخبر أنهم أخذوا دينهم من آبائهم بالتقليد لا بالحجة والبيان ، لأنهم قالوا كان آباؤُنا على هذا . { كَبُرَتْ كَلِمَةً } ، أي عظمت الكلمة . قرأ الحسن بالضم ، ومعناه عظمت كلمة وهي قولهم : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض كُلٌّ لَّهُ قانتون } [ البقرة : 116 ] { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ، فصارت نصباً بالتفسير . { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } ، أي ما يقولون إلا كذباً . { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } ، أي قاتل نفسك أسفاً وحزناً { على ءاثارهم } ، أي على أعمالهم . { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } ، أي بهذا القرآن أسفاً؛ والأسف المبالغة في الحزن والغضب ، وهو منصوب لأنه مصدر في موضع الحال .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا } ، أي ما على وجه الأرض من الرجال زينة لها ، أي للأرض؛ ويقال : جعلنا ما على الأرض من النبات والأشجار والأنهار زينة لها أي للأرض { لِنَبْلُوَهُمْ } ، أي لنختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، أي أخلص؛ ويقال : أيهم أخلص في الزهد في الدنيا وأترك لها . { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } ، أي ما على الأرض في الآخرة من شيء من الزهرة . { صَعِيداً جُرُزاً } ، أي تراباً أملس لا نبات فيه وقال القتبي : الصعيد المستوي قال : ويقال وجه الأرض ، ومنه يقال للتراب صعيد ، لأنه وجه الأرض والجرز الذي لا نبات فيه . يقال أرض جرز وسنة جرز ، إذا كان فيه جدوبة .
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف } ، أي غار في الجبل { والرقيم } الكتاب؛ وقال قتادة : دراهمهم؛ وقال عكرمة ، عن ابن عباس قال : كل القرآن أعلمه إلا أربعة غسلين ، وحنان ، والأواه ، والرقيم ، وقال القتبي : الرقيم لوح كتب فيه خبر أصحاب الكهف ، ونصب على باب الكهف؛ والرقيم الكتاب وهو فعيل بمعنى مفعول «وبِهِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ» أي مكتوب؛ وقال الزجاج : هو اسم الجبل الذي فيه الكهف؛ وقال كعب الأحبار : الرَّقِيمُ اسم القرية .
روي عن ابن عباس أن قريشاً اجتمعوا وكان فيهم الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل السهمي ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية وأبي أبناء خلف والأسود بن عبد المطلب ، وسائر قريش ، فبعثوا منهم خمسة رهط إلى يهود يثرب أي يهود المدينة فسألوهم عن محمد وعن أمره وصفته ، وأنه خرج من بين أظهرنا ويزعم أنه نبي مرسل ، واسمه محمد ، وهو فقير يتيم . فلما قدموا المدينة ، أتوا أحبارهم وعلماءهم ، فوجدوهم قد اجتمعوا في عيد لهم ، فسألوهم عنه؛ ووصفوا لهم صفته فقالوا لهم : نجده في التوراة كما وصفتموه لنا ، وهذا زمانه . ولكن سلوه عن ثلاث خصال؛ فإن أخبركم بخصلتين ولم يخبركم بالثالثة ، فاعلموا أنه نبي فاتبعوه؛ فإنا قد سألنا مسيلمة الكذاب عن هؤلاء ، فلم يدر ما هن ، وقد زعمتم أنه يتعلم من مسيلمة الكذاب . سلوه عن أصحاب الكهف ، أي قصوا عليه أمرهم؛ وسلوه عن ذي القرنين أن كان ملكاً وكان أمره كذا وكذا؛ وسلوه عن الروح : فإن أخبركم عن قليل أو كثير فهو كاذب .
ففرحوا بذلك ، فلما رجعوا وأخبروا أبا جهل ، ففرح وأتوه ، فقال أبو جهل : إنا سائلون عن ثلاث خصال . فسألوه عن ذلك ، فقال لهم : ارجعوا غداً أخبركم ، ولم يقل : إن شاء الله . فرجعوا ولم ينزل عليه جبريل إلى ثلاثة أيام وفي رواية الكلبي إلى خمسة عشر يوماً ، وفي رواية الضحاك إلى أربعين يوماً فجعلت قريش تقول : يزعم محمد أنه يخبرنا غداً بما سألناه ، وقد مضى كذا وكذا يوماً؛ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم أتاه جبريل ، فقال لجبريل : لقد علمت ما سألني عنه قومي ، فلم أبطأت علي؟ فقال : أنا عبد مثلك { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] ؛ وقال : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا } [ الكهف : 23/24 ] . وكان المشركون يقولون : إن ربه قد ودعه وأبغضه ، فنزل : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] ونزل : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم } { كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا } . فلما قرأ عليهم ، قالوا : هذان ساحران ، يعني : محمداً وموسى عليهما السلام ولم يصدقوه .
وقوله : { عَجَبًا } يقول هم عجب ، وأمرهم أعجب ، وغيرهم مما خلقت أعجب منهم ، الشمس والقمر والجبال والسموات والأرض أعجب منهم . ثم بيَّن أمرهم ، فقال تعالى : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } ، أي صاروا إِليه وجعلوه مأواهم . والفتية جمع فتى ، غلام وغلمة ، وصبي وصبية . { فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } ، أي ثبتنا على الإسلام . { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } ، أي هب لنا من أمرنا مخرجاً .
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{ فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } ، أي أنمناهم وألقينا عليهم النوم؛ وقال الزجاج : { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } ؛ أي منعناهم أن يسمعوا ، لأن النائم إذا سمع انتبه . { فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا } ؛ ويراد بذكر العدد التأكيد ، لأن الكثير يحتاج أن يعد . وإنما صار نصباً ، لأنه مصدر .
قال ابن عباس في حديث أصحاب الكهف أنه قال : إن مدينة كانت بالروم ظهر عليها ملك من الملوك يقال له دقيانوس ، غلب على مدينتهم وأرضهم؛ وكانت المدينة تسمى أفسوس ، فجعل يدعوهم إلى عبادة الأوثان ويقتلهم على ذلك؛ فمن كفر بالله واتبع دينه ، تركه . فهدى الله شاباً من أهل تلك المدينة إلى دين الإسلام ، فجعل يدعوهم سراً حتى تابعه على ذلك سبعة غلمة ، ففطن لهم الملك ، فأرسل إليهم وأخذهم ودفعهم إلى آبائهم يحفظونهم ، حتى يرسل إليهم من يطلبهم من آبائهم . فأَرسل إليهم فهربوا ، فقالت آباؤهم : والله لقد خرجوا من عندنا بالأمس ، فما ندري أَين هم . فمروا بغلام راعٍ ومعه كلب له ، فدعوه إلى أمرهم فأعجبه ذلك ، فتابعهم عليه . فمضى معهم واتبعه كلبه ، حتى أَتوا غاراً أي كهفاً فدخلوا فيه . ثم أرسلوا بعضهم إلى السوق ، ليشتري لهم طعاماً من السوق فركب الملك والناس معه في طلبهم ، وهم يسألون عنهم . فسمع رسولهم بذلك ، فعجَّل أن يشتري لهم كل الذي أرادوا؛ فاشترى بعضه وأتاهم فأخبرهم أن الملك والناس في طلبهم ، فأكلوا ما أتاهم به ولم يشبعوا . ثم ناموا على وجوههم ، فضرب الله على آذانهم بالنوم سنين عدداً .
وسار الملك والناس معه ، حتى انتهوا إلى باب الكهف ، فوجدوا آثارهم داخلين ولم يجدوا آثارهم خارجين؛ فدخلوا الكهف فأعمى الله عليهم ، فطلبوهم فلم يجدوا شيئاً . فقال الملك : سدوا عليهم باب الكهف ، حتى يموتوا فيه ، فيكون قبرهم إن كانوا فيه . ثم انصرف الملك والناس معه ، فعمد رجلان مسلمان يكتمان إيمانهما إلى لوح من رصاص ، فكتبا فيه أسماء الفتية وأسماء آبائهم ومدينتهم ، وأنهم خرجوا فراراً من دقيانوس الملك الكافر؛ فمن ظهر عليهم ، يعلم بأنهم مسلمون . وأَلْزَقَاهُ في السد من داخل الكهف .
وقال في رواية السدي ، في قصة أصحاب الكهف : كان في المدينة فتية ليس منهم أحد يعرف صاحبه ، فخرج ملكهم مخرجاً له وخرج الفتية ومنهم واحد له كلب ، وليس منهم أحد إلا وهو يقول في نفسه : إن رأيت أحداً استضعف ، دعوته إلى الإيمان بالله . فلما رجع الناس ، تخلف الفتية فاجتمعوا على باب المدينة ، وقد أغلق الباب دونهم ، فطلبوا أن يدخلوا فلم يفتح لهم . فقال بعضهم : إني أسر إليكم أمراً ، فإن تابعتموني عليه رشدتم . فقص عليهم أمره ، فقالوا جميعاً نحن على هذا آنذاك .
قوله عز وجل : { إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض } الآية ، فصاروا إلى الكهف فدخلوه ورقدوا فيه ، ورقد الكلب بفناء الكهف؛ فضرب الله على آذانهم بالنوم .
فلما فقدهم أهلوهم ، انطلقوا إلى الملك فأخبروه . فدعا بصخرة ، فكتب فيها أسماءهم وكتب فيها أنهم هلكوا في زمن كذا ، ثم ضربها في سور المدينة على الباب وهو الرقيم .
وفي رواية وهب بن منبه قال : جاء حواريّ من حواريي عيسى ابن مريم عليهما السلام إلى مدينة أَصحاب الكهف ، فأَراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلاَّ سجد له . فكره أن يدخلها؛ وأتى حماماً كان قريباً من تلك المدينة ، فكان يعمل فيه يعني : أجّرَ نفسه من صاحب الحمام فرأى صاحب الحمام . في حمامه البركة ، ودر عليه الرزق ، واجتمع إليه فتية من أهل المدينة ، فكان يخبرهم بخبر السماء والأرض وخبر الآخرة ، حتى آمنوا به وصدقوه . وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة ، فكانوا في ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فماتا في الحمام جميعاً . فأتي الملك ، فقيل له : صاحب الحمام قتل ابنك : فالتمسه ، فلم يقدر عليه . فقال : من كان يصحبه فسموا الفتية ، فالتمسوهم فخرجوا من المدينة .
فمروا بصاحب لهم في زرع له ، وكان على مثل أمرهم ، فذكروا له أنهم التمسوا؛ فانطلق معهم ومعه الكلب ، حتى آواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوه ، وقالوا : نبيت ها هنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله ، فترون رأيكم . فضرب على آذانهم . فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم ، حتى وجدوا آثارهم وقد دخلوا الكهف ، فلما أراد رجل منهم أن يدخل الكهف ، أرب فلم يطق أحد أن يدخل عليهم ، فقال له قائل : ألست لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ فسد عليهم باب الكهف ودعهم حتى يموتوا عطشاً وجوعاً ، ففعل ذلك .
ثم إن راعياً احتاج أن يبني حظيرة لغنمه ، فهدم ذلك السد وبنى عليه لغنمه ، فصار باب الكهف مفتوحاً . وكلما غزا تلك المدينة فظهر عليها ، أظهر علامته . إن كان مسلماً أظهر علامة المسلمين ، وإن كان كافراً أظهر علامة المشركين . ثم مات دقيانوس ، وملك ملك آخر مسلم ، فأظهر علامة المؤمنين بالمدينة ، وكان يقال له : ستفاد الملك .
ثم إن أصحاب الملك استيقظوا بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فنظر واحد منهم إلى الشمس وقد دنت إلى الغروب ويقال : عند زوال الشمس فقال : كم لبثتم؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم . { فقال كبيرهم : لا تختلفوا ، فإنه لم يختلف قوم إلا هلكوا . ثم قال : فقال الآخرون : { وكذلك بعثناهم لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } [ الكهف : 19 ] ، أي أحلَّ وأظهر ، لأنهم كانوا يذبحون الخنازير .
فدفعوا الدراهم إلى رجل يقال له تمليخا .
فلما انتهى إلى باب الكهف ، رأى حجارة مكسرة على بابه فقال : إن هذا شيء ما رأيناه بالأمس . فلما خرج ، أنكر الطريق ، فدنا إلى باب المدينة ، فلم يعرفها . فلما دخل المدينة لم يعرف أحداً من الناس ، فأشكل عليه فقال : لعل هذه غير تلك المدينة . فسأل إنساناً ، فقال : أي مدينة هذه؟ فقال : أقسوس . فقال : لقد أصابني شر وتغير عقلي؛ فهذه مدينتنا ، ولا أعرفها ولا أعرف أحداً من أهلها . فأخرج الدراهم ، وجاء إلى الخباز ودفعها إليه؛ فأخذ الخباز الدراهم فأنكرها ، وقال : من أين لك هذه الدراهم؟ لقد وجدت كنزاً لتخبرني ، وإلا دفعتك إلى الملك .
وكان كل ملك يحدث بعد آخر ، يضرب دراهم على سكته وختمه؛ فمن وجد معه دراهم غير تلك الدراهم ، علم أنه كنز . فلما وجدوا معه تلك الدراهم ، قالوا : هذا كنز . فقال : هذه الدراهم ما أخرجت من المدينة إلا أمس . فظن الخباز أنه يتجانن عليه ليرسله ، فقال له : لقد علمت أنك تتجانن علي . لا أرسلك حتى تعطيني من هذا الكنز ، وإلا دفعتك إلى الملك .
اجتمع الناس عليه وذهبوا به إلى الملك ، فجعل تمليخا يبكي خوفاً من الملك ، وأن يرفع إلى ملكهم الجبار الذي فرّ منه فلما رأى أنّ الذي أدخل على غيره سكن فقال له الملك : من أين لك هذه الدراهم؟ فقال : خرجت بها عشية أمس أنا وأصحاب لي فراراً من دقيانوس الملك . فقال : إنك رجل شاب ، وذلك الملك قد مضى عليه دهر طويل . فما أنا بالذي أرسلك ، حتى تخبرني من أين لك هذه الدراهم؟ فقص عليه أمره وأمر أصحابه ، فقال : أُنَاسٌ من المسلمين قد أخبروا بقصتهم ، أن آباءنا أخبرونا أن فتية قد خرجوا بدينهم وهم مسلمون فراراً من دقيانوس الملك؛ وإنا والله لا ندري ولعله صادق . فاركب وانظر لعله شيء أراد الله أن يظهرك عليه ، أو يكون في ولايتك ، فركب الملك وركب معه الناس ، المسلم والكافر ، حتى انتهوا إلى الكهف . فلما رأى أصحابه الناس قد انتهوا إليهم ، عانق بعضهم بعضاً يبكون ولا يشكون ، إلا أنه الملك الجبار الكافر ، فقال لهم تمليخا : امكثوا حتى أدخل أولاً . فدخل عليهم ، فأخبرهم بالقصة .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح : دخل عليهم الملك والناس ، فسألوهم عن أمرهم ، فقصوا عليهم قصتهم ، فنظروا فإذا اللوح الرصاص الذي كتبه المسلمان فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم ، فقال الملك : هم قوم هلكوا في زمن دقيانوس؛ وأحياهم الله في زماني ، فلم يبق أحد من الكفار مع الملك ، إلا أسلموا كلهم إذا رأوهم . فبينما هم يتحدثون ، إذ ماتوا كلهم؛ وقال في رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن القوم لما انتهوا إلى الكهف ، قال لهم الفتى : مكانكم حتى أدخل على أصحابي ، لا تهجموا عليهم فيفزعوا منكم .
فدخل فعمي عليهم المكان ، فلم يدروا أين ذهب ولم يقدروا على الدخول عليهم ، فقالوا : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } ، فجعلوا عليهم مسجداً وصاروا يصلون فيه .
فذلك قوله : { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بعثناهم } ، أي أيقظناهم . { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } ، يعني : أي الفريقين المسلم والكافر { أحصى } ، أي أحفظ . { لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا } ، يعني : لما مكثوا أجلاً؛ وكان المسلمان كتبا في اللوح ، فظهر لهم مقدار ما لبثوا فيه ، ولم يعلم الكفار مقدار ذلك؛ ويقال : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } ، يعني : الذين كانوا مؤمنين قبل ذلك ، والذين أسلموا في ذلك الوقت؛ ويقال : أي الفريقين أصدق قولاً ، لأنهم قد اختلفوا في البعث منهم من كان ينكر ذلك ، فظهر لهم أن البعث حق . { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم } ، أي ننزل عليك في القرآن خبر الفتية { بالحق } ، أي بالصدق . { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم } ، أي صدقوا بتوحيد ربهم . { وزدناهم هُدًى } ، أي يقيناً وبصيرة في أمر دينهم .
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } ، أي حفظنا قلوبهم على الإيمان : وقيل : ألهمناهم الصبر حتى ثبتوا على دينهم . { إِذْ قَامُواْ } من نومهم : ويقال : قاموا بإثبات الحجة؛ ويقال : خرجوا من عند الملك . { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض ****لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } ، أي لم نقل من دون الله رباً وإن فعلنا { فَقَدْ *** قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } ، أي كذباً وجوراً؛ ويقال : { شَطَطًا } ، أي علواً ، يقال : قد أشط إذا علا في القول ، أي جاوز الحد . { هَؤُلاء قَوْمُنَا اتخذوا } ، أي عبدوا . { مِن دُونِهِ ءالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بسلطان بَيّنٍ } ، يعني : هلا يأتون بحجة بينة على عبادة آلهتهم .
قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى } ، أي اختلق { عَلَى الله كَذِبًا } أن له شريكاً . { وَإِذِ اعتزلتموهم } ، يقول بعضهم لبعض : لو تركتموهم وما يعبدون إلا الله ، يعني : لو تركتم ما يعبدون . { وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } ؛ ويقال : لو اعتزلتم عبادتهم إلا الله ، يعني : قولهم : الله خالقنا ، ويقال : { وَإِذِ اعتزلتموهم } ؛ هذا قولهم ثم قال حكاية عن قولهم ، فقالَ : { وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } يعني : أَصحاب الكهف . { فَأْوُواْ إِلَى الكهف } ، أي فارجعوا إلى الكهف؛ ويقال : فادخلوا الكهف . { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } ، أي يهب لكم ربكم من نعمته؛ ويقال : يبسط لكم من رزقه . { وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } ، أي يجعل لكم من أَمركم الذي وقعتم فيه ما يرفق بكم ويصلحكم؛ ويقال : مخرجاً ونجاة .
{ وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } ، أي تميل وتنحرف عن كهفهم . { ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } ، أي تجاوزهم؛ ويقال : تتركهم وتمر بهم . وأصل القرض القطع ، ومنه سمي المقراض . { ذَاتَ الشمال } ، أي شمال الكهف . { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } ، أي في ناحية من الغار؛ ويقال : في متسع منه . فأخبر أنه بوأهم كهفاً مستقبلاً بنات نعش ، والشمس تميل عنه وتستدير طالعة وغاربة ، ولا تدخل عليهم فتؤذيهم ، ولا يحلفهم سمومها فيغير ألوانهم وأبدانهم ، وكانوا في متسع منه ينالهم نسيم الريح ، وينفس عنهم غمة الغار ، وكربه . الغمة الهواء العفن ، ويجوز الرفع النصب .
{ ذلك مِنْ آيات الله } ، أي ذلك الخبر والذكر؛ ويقال : ذلك الذي فعل بهم واختار لهم المكان الموافق من عجائب الله ولطفه وكرمه . { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } ، أي من يوفقه الله للهدى فهو المهتدي . { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } ، أي موفقاً يرشده إلى التوحيد . قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : { مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } بنصب الميم وكسر الفاء ، والباقون بكسر الميم ونصب الفاء { مّرْفَقًا } ، ومعناهما واحد وهو ما يرتفق به؛ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : { تَّزَاوَرُ } بتشديد الزاي مع الألف ، لأن أصله تتزاور أي : تميل ، فأدغم وشدد الزاي ، وقرأ ابن عامر { ***تَزْورُّ } بجزم الزاي وتشديد الراء؛ ومعنى ذلك كله واحد وهو الميل ، ويجوز الرفع والنصب .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ مُّرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } لأن عيونهم مفتحة؛ ويقال : من كثرة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . { وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } ؛ وذلك أن جبريل عليه السلام كان يقلبهم في كل سنة مرة؛ لكيلا تأكل الأرض لحومهم؛ وهو قول ابن عباس؛ وقال مجاهد : مكثوا ثلاثمائة عام على شق واحد وقلبوا في التسع سنين . { وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } ، أي مَاداً ذراعيه بفناء الباب . { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } ، أي لو هجمت عليهم اليوم ، لأدبرت فراراً من هيئتهم .
وروى سعيد بن جابر ، عن ابن عباس أنه قال : غزا معاوية غزوة نحو الروم ، فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف؛ فقال : لو كشفنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس : قد منع الله ذلك عمن هو خير منك ، يعني : قال للنبي صلى الله عليه وسلم { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } ؛ فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم ، فبعث ناساً ، فقال : اذهبوا فادخلوا الكهف ، فلما ذهبوا ودخلوا ، بعث الله تعالى ريحاً فأخرجتهم .
ثم قال تعالى : { وكذلك بعثناهم } ، أي أيقظناهم من نومهم جياعاً كما رقدوا . { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } ، أي ليتحدثوا بينهم . { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ } ، أي كم مكثتم في نومكم؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا } ؛ فلما رأوا الشمس قد زالت قالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة } . وروى مجاهد ، عن ابن عباس قال : كانت دراهم أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل . قرأ ابن كثير ونافع { وَلَمُلِئْتَ } بتشديد اللام ، وهي لغة لبعض العرب ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، وهما لغتان؛ وقرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر { بِوَرِقِكُمْ } بجزم الراء؛ وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان .
{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا } ، أي أطيب خبزاً أو أحل ذبيحة؛ وهذا قول ابن عباس؛ ويقال : أي أهلها أزكى طعاماً؛ وقال عكرمة : أي أكثر وأرخص طعاماً . { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ } ، أي بطعام مِنْهُ؛ وَيُقَالُ : أَزْكَى طعاماً أي : لم يكن غصباً ولا من جهة لا تحل . { وَلْيَتَلَطَّفْ } ، أي وليرفق في الشراء . { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } ، أي لا يُعلمن بمكانكم أحداً من الناس . { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } ، يعني : إن يطلعوا عليكم { يَرْجُمُوكُمْ } ، أي يقتلوكم . { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } ، أي لن تفوزوا ، ولن تسعدوا إذاً أبداً إن عبدتم غير الله تعالى .
{ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } ، يقول : أطلعنا الملك عليهم . قال القتبي : وأصله في اللغة أن من عثر بشيء ، نظر إليه حتى يعرفه فاستعير العثار مكان التبين والظهور { لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } ، يعني : البعث بعد الموت؛ وذلك أن القوم كانوا مختلفين ، منهم من كان مقراً بالبعث ، ومنهم من كان جاحداً .