كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

قرأ أبو عمرو : { بَادِىَ الرأى } بالهمز ، وقرأ الباقون : على ضد ذلك .
ثم قال : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } قوم نوح قالوا لنوح : ما نرى لكم علينا من فضل في مُلْكٍ ولا مال ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } يعني : نحسبك من الكاذبين . وقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة ، ويقال : إنما أراد به نوحاً ومن آمن معه . { قَالَ } نوح : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } يعني : إن كنت على دين ويقين وبيان من ربي ، { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن } يقول : أكرمني بالرِّسالة والنُّبُوَّةِ { فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ } ، يعني : عميت عليكم هذه البينة . ويقال : عُميتم عن ذلك . يقال : عمي عليه هذا إذا لم يفهم . ويقال : التبست عليكم هذه النعمة ، وهذه البينة التي هي من الله تعالى ، فلم تبصروها ولم تعرفوها . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، فَعُمِّيَتْ بضم العين وتشديد الميم ، على معنى فعل ما لم يُسَمَّ فاعله . وقرأ الباقون : بنصب العين والتخفيف ، ومعناه واحد ، يعني : خَفِيَتْ عليكم هذه النعمة ، والرحمة . واتفقوا في سورة القصص { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربى وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } [ هود : 28 ] الأَنْبَاءُ بالنصب .
ثم قال : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } ؟ يعني : كيف نعرفكموها وأنتم للنبوة كارهون؟ قال قتادة : أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك . ويقال : أفنفهمكموها وأنتم لها كارهون؟ يعني : منكرون . ويقال : أنحملكموها ، يعني : معرفتها . ويقال : أنعلمكموها وأنتم تكذبونني ولا تناظروني في ذلك .
ثم أخبرهم عن شفقته ، وقلة طمعه في أموالهم ، فقال : { كارهون وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } يعني : لا أطلب منكم على الإيمان أجراً ، يعني : رزقاً ولا جعلاً { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } يعني : ما ثوابي إلا على الله ، { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ } ، لأنهم طلبوا منه أن يطرد من عنده من الفقراء والضعفاء ، فقال { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ } فيجزيهم بأعمالهم . ويقال : إنهم ملاقو ربهم فيشكونني إلى الله تعالى ، إن لم أقبل منهم الإيمان وأطردهم ، { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } ما أمرتكم به وما جئتكم به .

وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)

ثم قال تعالى : { تَجْهَلُونَ وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ } يعني : لو طردتهم فيعذبني الله بذلك ، فمن يمنعني من عذاب الله ، إن طردتهم عن مجلسي؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أفلا تَتَّعِظُون؟ ولا تفهمون أنّ مَنْ آمن بالله لا يُطْرَدُ . ثم قال : { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } يعني : مفاتيح الله في الرزق ، { وَلا أَعْلَمُ الغيب } أن الله يهديكم أم لا . ويقال : { وَلا أَعْلَمُ الغيب } ، يعني : علم ما غاب عني ، { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } من الملائكة ، { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } يعني : تحتقر أعينكم من السفلة ، { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } يعني : لا أقول : إن الله تعالى لا يكرم بالإيمان ، ولا يهدي من هو حقير في أعينكم ، ولكن الله يهدي من يشاء .
ثم قال : { الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } يعني : بما في قلوبهم من التصديق ، والمعرفة ، { إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } يعني : إن طردتهم فلم أقبل منهم الإيمان ، بسبب ما لم أعلم ما في قلوبهم ، كنت ظالماً على نفسي . فعجز قومه عن جوابه ، { قَالُواْ يَا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا } ، قال مقاتل : ماريتنا { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } يعني : مرانا . وقال الكلبي : دعوتنا ، فأكثرت دعاءنا . ويقال : وعظتنا ، فأكثرت موعظتنا . { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } يعنيَ : لا نقبل موعظتك ، فأتنا بما تعدنا من العذاب ، { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } بأن العذاب نازل بنا .
{ قَالَ } لهم نوح : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء } إن شاء يُعذبكم ، وإن شاء يصرفه عنكم ، { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } يعني : إن أراد أن يعذبكم لا تفوتون من عذابه . ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } يعني : دعائي ، وتحذيري ، ونصيحتي ، { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } يعني : إن أردت أن أدعوكم من الشرك ، إلى التوحيد ، والتوبة ، والإيمان ، { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } يعني : لا تنفعكم دعوتي ، إن أراد الله أن يضلكم عن الهدى ، ويترككم على الضلالة ويهلككم . { هُوَ رَبُّكُمْ } يعني : هو أولى بكم . ويقال : هو ربكم ، رب واحد ليس له شريك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني : بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم . ثم قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } قَال مقاتل : الخطاب لأهل مكة . معناه أَتقولون إن محمداً تقوله من ذات نفسه { قُلْ إِنِ افتريته } من ذات نفسي { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } يعني خطيئتي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } يعني من خطاياكم . وقال الكلبي : الخطاب أيضاً لقوم نوح .
{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه } يعني : قوم نوح يقولون افتراه ، أي : اختلقه من تلقاء نفسه ، فقال لهم نوح : { افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } أي آثامي ، { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي مما تأثمون .

قوله تعالى : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } قال الحسن : إن نوحاً عليه السلام لم يدع على قومه ، حتى نزلت هذه الآية : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ } فدعا عليهم عند ذلك ، فقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] .
ثم قال : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } وذلك أن نوحاً ندم على دعائه ، وجعل يحزن عليهم ، فقال الله تعالى : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } يعني : لا يحزنك إذا نزل بهم الغرق ، بما كانوا يفعلون من الكفر .
قوله تعالى : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } يقول : اعمل السفينة ، ويقال : للواحد وللجماعة الفلك ، { بِأَعْيُنِنَا } قال الكلبي : يعني : بمنظر منا ، { وَوَحْيِنَا } يعني : بوحينا إليك . وقال مقاتل : يعني : بتعليمنا وأمرنا . { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } يعني : فلا تراجعني في قومك ، ولا تدعني بصرف العذاب عنهم ، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } بالطوفان . ويقال : { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } ، يعني ابنه كنعان .
وقال عكرمة : كان طول سفينة نوح ثلاثمائة ذراع ، وعرضها وإرتفاعها أحدهما ثلاثون ، والآخر أربعون . وقال الحسن : طولها ألف ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع . وقال ابن عباس : طولها ثلاثمائة ذراع ، وطولها في الماء ثلاثون ذراعاً ، وعرضها خمسون ذراعاً .
وقال القتبي : قرأت في التوراة : إن الله تعالى أوحى إليه أن اصنع الفلك ، وليكن طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعاً ، وارتفاعها ثلاثون ذراعاً ، وليكن بابها في عرضها . وادخل أنت في الفلك ، وامرأتك ، وبنوك ، ونساء بنيك ، ومن كل زوجين من الحيوان ذكراناً وإناثاً ، فإني منزل المطر على الأرض ، أربعين يوماً وأربعين ليلة ، فأتلف كل شيء خلقته على الأرض .
فأرسل الله تعالى ماء الطوفان على الأرض ، في سنة ستمائة من عمر نوح ولبث في الماء مائة وخمسين يوماً ، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة . وروي عن وهب بن منبه ، أنه قال : مكث نوح ينجر السفينة مائة سنة ، فلما فرغ من عملها أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، فحمل فيها امرأته وبنيه ونساءهم ، فركب فيها لسبع عشرة ليلة خلت من صفر ، فمكث في الماء سبعة أشهر لم يقر لها قرار ، فأرسيت على الجودي خمسة أشهر ، فأرسل الغراب لينظر كم بقي من الماء ، فمكث على جيفة فغضب عليه نوح ولعنه ، ثم أرسل الحمامة فوقعت في الماء ، فبلغ الماء قدر حمرة رجليها ، فجاءت فأرته فبارك عليها نوح .

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)

قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الفلك } يعني : ينجر السفينة . ويقال : إن الله تعالى أمره بأن يغرس الأشجار ، فغرسها حتى أدركت ، وقطعها حتى يبست ، ثم اتخذ منها السفينة ، فاستأجر أجراء ينحتون معه . { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ } يعني : الأشراف من قومه { سَخِرُواْ مِنْهُ } يعني : استهزؤوا به ، وكانوا يقولون : إن الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً ، ومرة كانوا يقولون : أتجعل للماء إكافاً فأين الماء .
{ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } يعني : إن تسخروا منا اليوم ، فإنا نسخر منكم بعد الهلاك ، يعني : يصيبكم جزاء السخرية ، { كَمَا تَسْخَرُونَ } منا ، يعني : بما تسخرون ويقال إن تستجهلوا بنا بهذا الفعل ، فإنا نستجهلكم بترك الإيمان ، كما تستجهلوننا { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : تعرفون بعد هذا من أحق بالسخرية ، وهذا وعيد لهم . { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } يعني : يهلكه ويذله { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } يعني : ينزل عليه عذاب دائم ، لا ينقطع عنه .
قوله تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } يعني : قولنا بالعذاب ، ويقال : عذابنا ، وهو الغرق { وَفَارَ التنور } يعني : نبع الماء من أسفل التنور . وقال مقاتل : التنور الذي يخبز فيه في أقصى داره بالشام . وقال ابن عباس : وفار التنور ، يعني : نبع الماء من وجه الأرض . وقال علي بن أبي طالب : يعني : طلوع الفجر ، أي تنوير الصبح ، يعني : إذا طلع الفجر ، كان وقت الهلاك . وروي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً أنه قال : فار منه التنور وجرت منه السفينة ، أي مسجد الكوفة { قُلْنَا احمل فِيهَا } يعني : في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } يعني : من كل صنفين { وَأَهْلَكَ } يعني : واحمل أهلك فيها معك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالغرق ، يعني : سوى من قدرت عليه الشقاوة والكفر ، فلا تحمله ، يعني : امرأته الكافرة وابنه كنعان ، { وَمَنْ ءامَنَ } معه ، يعني : احمل في السفينة من آمن معك .
قال الفقيه : أخبرني الثقة ، بإسناده عن وهب بن منبه ، قال : أمر نوح بأن يحمل من كل زوجين اثنين ، فقال : رب كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام والهرة؟ قال : يا نوح من ألقى بينهم العداوة؟ قال : أنت يا رب ، قال : فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا .
قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الماسرخسي ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : كثر الفأر في السفينة ، حتى خافوا على حبال السفينة ، فأوحى الله تعالى إلى نوح ، أن امسح عن جبهة الأسد ، فمسحها فعطس ، فخرج منها سنوران ، فأكلا الفأر .

وكثرت العذرة في السفينة ، فشكوا إلى نوح ، فأوحى الله تعالى إلى نوح : أن امسح ذنب الفيل ، فمسحه فخرج خنزير ، فأكل العذرة . وفي خبر آخر فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة . قال الفقيه ، أبو الليث رحمه الله : في خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة ، كانت من قبل . وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل ، والله أعلم بالصواب منهما .
وروي عن ابن عباس أنه قال : لما فار الماء من التنور ، فأرسل الله تعالى من السماء بمطر شديد ، فأقبلت الوحوش حتى أصابتها السماء إلى نوح ، وسخرت له فحمل في السفينة من كل طير زوجين ، ومن كل دابة زوجين ، ومن كل بهيمة زوجين ، ومن كل سبع زوجين ، يعني : الذكر والأنثى . فقال نوح : رب هذه الحية والعقرب ، كيف أصنع بهما؟ فبعث الله تعالى جبريل ، فقطع فقار العقرب ، وضرب فم الحية . وكان نوح جعل للسفينة ثلاثة أبواب ، بعضها أسفل من بعض ، فجعل في الباب الأسفل : السباع والهوام ، وجعل في الباب الأوسط : البهائم والوحوش ، وجعل في الباب الأعلى : بني آدم من ذكر منهم .
فذلك قوله تعالى : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال ابن عباس : هم ثمانون إنساناً ، وقال الأعمش في قوله : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } كان نوح ، وثلاث بنين ، ونساؤهم . وقال مقاتل : كانوا أربعين رجلاً ، وأربعين امرأة . قرأ عاصم في رواية حفص : { مِن كُلّ } بالتنوين ، يعني : من كل شيء ، ثُمَّ قال { زَوْجَيْنِ } على وجه التفسير للكل ، وقرأ الباقون : { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } بغير تنوين على معنى الإضافة .

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

قوله تعالى : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا } يعني : ادخلوا في السفينة . ويقال : الجؤوا فيها من الغرق { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا } يعني : إذا ركبتموها فقولوا : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } . قرأ حمزة والكسائي ، وعاصم في رواية حفص : { ***مَجْرِيها } بنصب الميم ، وهكذا قرأ ابن مسعود ، والأعمش . وقرأ الباقون : بضم الميم . واتفقوا في { أَيَّانَ مرساها } ، أنها بضم الميم ، إلا أن حمزة ، والكسائي قرآ بالإمالة .
فأما من قرأ بضم الميم ، فيكون بمعنى المصدر ، ومعناه : يعني إجراؤها وإرساؤها بأمر الله تعالى ، وهذا قول الفراء . ويقال : معناه بسم الله من حيث تجري وتحبس . ومن قرأ بالنصب فمعناه : بسم الله جريها وحبسها يعني : بأمر الله تعالى . { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } بالمؤمنين .
قوله تعالى : { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ } يعني : أمواجاً { كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه } كنعان ، وقرأ بعضهم : ابنها ، يعني : ابن امرأته ، وقرأ بعضهم : { نُوحٌ ابنه } بضم الألف ، وهي بلغة طيىء . ويقال : إنه لم يكن ابنه ، ولكن كان ابن امرأته . وقراءة العامة : { ونادى نُوحٌ ابنه } قالوا : { وَكَانَ } ابن نوح { فِى مَعْزِلٍ } يعني : في ناحية من السفينة ، ويقال : من الجبل ، { مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا } أسلم ، واركب في السفينة معنا { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } يعني : لا تثبت على الكفر ، ولا تتخلف مع الكافرين .
قرأ عاصم : { مَعْزِلٍ يابنى اركب } بنصب الياء قرأ الباقون { مَعْزِلٍ يابنى اركب } بالكسر . وقال أبو عبيدة : القراءة عندنا بالكسر ، للإضافة إلى نفسه كما اتفقوا في قوله : { قَالَ يابنى لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يوسف : 5 ] وفي لقمان : { يابنى إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] وإنما فرق عاصم فيما يرى الألف الخفيفة الحقيقة التي في قوله اركب .
{ قَالَ سَاوِى } يعني : قال ابنه : سأصعد { إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء } يعني : يمنعني من الماء ، أم من الغرق ، ولا أؤمن ، ولا أركب السفينة ، { قَالَ } نوح : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } يقول : لا مانع اليوم من عذاب الله ، أي الغرق ، لا جبل ولا غيره { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } يعني : إلا من قد آمن ، فعصمه الله .
ثم قال : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج } يعني : فرَّقَ بين كنعان ، وبين الجبل الموج ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : وحال بينهما ، يعني بين نوح وابنه الموج ، { فَكَانَ مِنَ المغرقين } يعني : فصار من المغرقين .
وروي عن ابن عباس أنه قال : أمطرت السماء أربعين يوماً ، وخرج ماء الأرض أربعين يوماً الليل والنهار ، فذلك قوله :

{ فَفَتَحْنَآ أبواب السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 ، 12 ] وارتفع الماء على كل جبل في الأرض ، خمسة عشر ذراعاً . وروي عن الحسن ، أنه قال : ارتفع الماء فوق كل جبل ، وكل شيء ، ثلاثين ذراعاً . وسارت بهم السفينة ، فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر ، ما استقرت على شيء ، حتى أتت الحرم فلم تدخله ، ودارت بالحرم أسبوعاً ، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة ، وهو البيت المعمور ، وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس . ويقال : أودع فيه ، ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي ، وهو جبل بأرض الموصل ، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر .
قال ابن عباس : ركب نوح السفينة لعشر مضين من رجب ، وخرج منها يوم عاشوراء ، فذلك ستة أشهر ، فلما استقرت على الجودي ، كشف نوح الطبق الذي فيه الطير ، فبعث الغراب ليأتيه بالخبر فأبصر جيفة ، فوقع عليها فأبطأ على نوح ، فلم يأته ، ثم أرسل الحدأة على أثره ، فأبطأت عليه ، ثم أرسل بالحمامة فلم تجد موقفاً في الأرض ، فجاءت بورق الزيتون ، فعرف نوح أن الماء قد نقص ، فظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقفت على الأرض ، فغابت رجلاها في الطين فجاءت إلى نوح ، فعرف أن الأرض قد ظهرت .
وذلك قوله : { وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ } معناه : انشفي ماءك الذي خرج منك { مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى } يعني : احبسي وامسكي { وَغِيضَ الماء } يعني : نقص الماء ، وظهرت الجبال والأرض ، { وَقُضِىَ الامر } يعني : فرغ من الأمر ، ومعناه : نجا من نجا وهلك من هلك { واستوت عَلَى الجودى } يعني : استقرت السفينة على الجودي . وروي في الخبر : أن الله تعالى أوحى إلى الجبال ، أني أنزل السفينة على جبل ، فتشامخت الجبال ، وتواضع الجودي لله تعالى ، فأرسيت عليه السفينة . وقال الحكيم : خرج قوس قزح بعد الطوفان أماناً لأهل الأرض أن يغرقوا جميعاً { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين } يعني : سحقاً ونكساً للقوم الكافرين ، وهو التبعيد من رحمة الله تعالى .

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)

قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } فإنك قد وعدتني ، أن تنجيهم من العذاب ، { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } يعني : أنت الصَّادق في وعدك ، { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } يعني : أعدل العادلين { قَالَ يَاءادَمُ *** نُوحٍ إِنَّهُ *** لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذي وعدتك أن أنجيهم . وروي عن الحسن ، أنه قال : إنه تخلف ، لأنه لم يكن ابن نوح .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كنت عند الحسن ، قال : ونادى نوح ابنه ، فقال : لعمر الله ما هو ابنه ، قلت : يا أبا سعيد ، يقول الله تعالى : { ونادى نُوحٌ ابنه } وأنت تقول : هو ليس بابنه؟ قال : أفرأيت قوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } قلت : إنه ليس من أهلك ، الذي وعدتك أن أنجيهم . ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه . قال : إنَّ أهل الكتاب يكذبون .
وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، أنه ابنه غير أنه خالفه في العمل . وقال بعض الحكماء : إن الابن إذا لم يفعل ما يفعل الأب انقطع عنه ، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيُّهم ، أخاف أن ينقطعوا عنه .
ثمَّ قال : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } قرأ الكسائي : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } ، بكسر الميم ونصب الراء . وروت أُمُّ سَلَمَةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هكذا ، ومعناه : إن ابنك عمِلَ عَمَلَ المشركين ، ولم يعمل عمل المؤمنين . وقرأ الباقون : { عَمَلٌ غَيْرُ } ، بالتنوين والضم ، وضم الراء ، ومعناه : إنَّ سؤالك ودعاءك لابنك الكافر عَمَلٌ غير صالح ، { فَلاَ تَسْأَلْنى *** مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يعني : بياناً . وقرأ أهل الكوفة : فلا تسألن بتخفيف النون بغير ياء ، لأن الكسر يقوم مقام الياء . وروي عن أبي عبيدة ، أنه قال : رأيت في مصحف عثمان هكذا .
وقرأ أبو عمرو : { فَلاَ تَسْأَلْنى } بإثبات الياء بغير تشديد ، وهو الأصل في اللغة . وقرأ ابن كثير : { فَلاَ تَسْأَلْنى } بنصب النون والتشديد بغير ياء ، ويكون معناه : التأكيد في النهي . وقرأ ابن عامر ، ونافع في رواية قالون : { فَلاَ تَسْأَلْنى } بالكسر بغير ياء مع التشديد . وقرأ نافع في رواية ورش : { فَلاَ تَسْأَلْنى } بالياء مع التشديد .
ثم قال : { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } أي أنهاك أن تكون من الجاهلين . يعني : من يترك أمري . ويقال : من المكذبين بقدر الله تعالى . { قَالَ } نوح عليه السلام : { رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ } ، يعني : اعتصم وامتنع بك { أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } يعني : احفظني بعد اليوم ، لكيلا أسألك ما ليس به علم { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى } يعني : إن لم تغفر لي ، ولم ترحمني ، { أَكُن مّنَ الخاسرين } .

قوله تعالى : { قِيلَ يانوح *** نُوحٌ اهبط بسلام مّنَّا } يعني : انزل من السّفينة مسلّماً من عذابنا ، وغرقنا . ويقال : بسلام عليك ، كما قال : { سلام على نُوحٍ فِى العالمين } [ الصافات : 79 ] ، { وبركات } يعني : وسعادات { عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } يعني : الذين كانوا في السفينة معه ، { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } يعني : من كان من أهل الشّقاء سنمتِّعهم في الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } يَصِيبهم في الآخرة ، وقَالَ مقاتل : اهبط من السفينة بسلام منا . فسلمه الله ومن معه من الغرق وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . يعنى بالبركة إنهم توالدوا وكثروا { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } ، وهم قوم هود ، وشعيب ، ولوط .
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله : { اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال : دخل في السلام والبركة ، كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في المتاع والعذاب ، كل كافر إلى يوم القيامة . ويقال : إنهم لمَّا خرجوا من السفينة ، بنوا مدينة وسموها : مدينة ثمانين ، ويقال : ماتوا كلهم ، ولم يكن منهم نسل ، إلا من أولاد نوح ، وكان له ثلاثة بنين سام وحام ويافث ، سوى الذي غرق كما قال في موضع آخر : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } [ الصافات : 77 ] .

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

قوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب } يعني : ما سبق من ذكر نوح ، وقومه في أخبار الغيب ، يعني : من أحاديث ما غاب عنك ، فكان في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قصته دلالة نُبُوَّته ، لأنه لا يُعْرَفُ ذلك إلاّ بالوحي . { نُوحِيهَا إِلَيْكَ } يعني : أخبار الغيب ينزل بها عليك جبريل { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا } القرآن ، { فاصبر } يعني : إن لم يصدِّقوك فاصبر على تكذيبهم . { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } يعني : آخر الأمر للموحدين ، الذين يتقون الشرك والفواحش .
قوله تعالى : { وإلى عَادٍ } يعني : أرسلنا إلى عاد { أخاهم } نبيُّهم { هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله } يعني : وحِّدُوا الله ، { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } يعني : ليس لكم من رب سواه ، { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } يعني : ما أنتم إلا تكذبون في مقالتكم بأن لله شريكاً .
قوله تعالى : { الصالحات قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على الإيمان { أَجْراً } يعني : جعلاً ، ورشوة . ومعناه لست بطامع في أموالكم ، { إِنْ أَجْرِىَ } يعني : ما ثوابي { إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى } يعني : خلقني { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الذي خلقكم هو ربكم ، وهو أحق بعبادتكم من غيره؟ ثم قال : { إِسْرَاراً فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } قال الضحاك : يعني : وحِّدوا ربكم . وقال الكلبي : يعني : صلُّوا لربكم . ويقال معناه : قولوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } يعني : توبوا إليه من شرككم { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } يعني : إن تبتم يغفر لكم ذنوبكم ، ويرسل عليكم المطر متتابعاً دائماً ، وينبت لكم كل ما تحتاجون إليه ، { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } يعني : شدة مع شدتكم بالماء والولد . ويقال : صحة الجسم ، وطول العمر .
{ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } يقول : لا تُعْرِضُوا كافرين . ويقال : لا تعرضوا عما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد . { قَالُواْ يأَبَانَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } يعني : بحجة وبيان { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } يقول : لا نترك عبادة آلهتنا بقولك { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } يعني : لا نصدقك بأنك رسول الله { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك } يعني : ما نقول : إلا أصابك { بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } يعني : بشرٍّ من بعض الأوثان ، الجنون ، والخبل فاجتنبها سالماً . ويقال : ما نقول لك إلا نصيحة ، كيلا يصيبك من بعض آلهتنا شدة .
فردّ عليهم هود ف { قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا } أنتم { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ *** مِن دُونِهِ } من الأوثان { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } يعني : اعملوا بي أنتم وآلهتكم ما استطعتم ، واحتالوا في هلاكي { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } أي لا تمهلون . ثمّ قال تعالى : { إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله } يعني : فَوَّضْتُ أمري إلى الله ، { رَبّى وَرَبَّكُمْ } يعني : خالقي وخالقكم ، ورازقي ورازقكم ، { مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } يعني : قادراً عليها يحييها ويميتها ، وهو يرزقها ، وهي في ملكه ، وسلطانه .

ثمّ قال : { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : على الحقّ ، وإن كان هو قادراً على كل شيء ، فإنه لا يشاء إلا العدل . وقال مجاهد : إن ربي على صراط مستقيم ، يعني : على الحق . ويقال : على صراط مستقيم ، يعني : بيده الهدى ، وهو يهدي إلى صراط مستقيم ، وهو دين الإسلام . ويقال : يعني : يدعوكم إلى طريق الإسلام . ويقال معناه : أمرني ربي أن أدعوكم إلى صراط مستقيم .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : تتولوا ، ومعناه ، إن أعرضتم عن الإيمان ، فلم تؤمنوا . وهذا كقوله : { هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] . ثمّ قال : { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } يعني : إن تتولوا ، فأنا معذور ، لأني قد أبلغتكم الرسالة ، { وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ } إن شاء . ويقال : قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، من التوحيد ، ونزول العذاب في الدنيا . { وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى } بعد هلاككم { قَوْماً غَيْرَكُمْ } يعني : خيراً منكم وأطوع لله تعالى .
{ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا } يعني : إن لم تؤمنوا به ، فلا تنقصون من ملكه شيئاً . ويقال : إهلاككم لا ينقصه شيئاً { إِنَّ رَبّى على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ } يعني : حافظاً ، ولا يغيب عنه شيء . ويقال : معناه : حفظ كل شيء عليه . ثمّ قال : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } يعني : عذابنا ، وهو الريح العقيم { نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } يعني : بنعمة منا { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } يعني : من العذاب الذي عذب به عاد في الدنيا ومما يعذبون به في الآخرة ثم قال عز وجل : { عَادٌ جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ } يعني : كذبوا بعذاب ربهم ، أنه غير نازل بهم ، ومعناه يا أهل مكة ، انظروا إلى حالهم ، كيف عذبوا في الدنيا ، وفي الآخرة . وهذا كقوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا إِنَّ فِى ذلك لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 52 ] فكذلك هاهنا ، { عَادٌ جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ } بَيَّنَ جرمهم ، ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم ، فقال : { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } يعني : هوداً خاصة ، ويقال : معناه كذبوا هوداً ، بما أخبرهم عن الرشد ، { واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يعني : عملوا بقول كل جبار . ويقال : أخذوا بدين كل جبار . والجبار الذي يضرب ، ويقتل عند الغضب ، { عَنِيدٍ } يعني : معرضاً ، ومجانباً عن الحق .
ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم ، فقال : { واتبعوا } يعني : ألحقوا { فِى هذه الدنيا لَعْنَةً } يعني : العذاب والهلاك ، وهي الريح العقيم . { وَيَوْمَ القيامة } لعنة أُخرى ، وهو عذاب النار إلى الأبد { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } ، وهذا تنبيه للكفار أن عاداً كفروا ربهم ، فأهلكهم الله تعالى ، فاحذروا كيلا يصيبكم بكفركم ، ما أصابهم بكفرهم ، ويقال : { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } يعني : ينادي مناد يوم القيامة ، لإظهار حالهم { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } وقال الضّحَّاك : ترفع لهم راية الغدر يوم القيامة ، فينادي منادٍ يوم القيامة : هذه غدرة قوم عاد ، فيلعنهم الملائكة ، وجميع الخلق . فذلك قوله تعالى : { أَلاَ بُعْدًا } يعني : خزياً وسحقاً { لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

قوله تعالى : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } يعني : وأرسلنا إلى ثمود . وإنما لم ينصرف ، لأنه اسم لقبيلة ، وفي الموضع الذي ينصرف ، جعله اسماً للقوم . { قَالَ يَاءادَمُ *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله } أي : وَحِّدُوا الله ، وأطيعوه ، { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } يعني : ليس لكم رب غيره { هُوَ أَنشَأَكُمْ } يعني : هو الذي خلقكم ، { مّنَ الارض } يعني : خلق آدم من أديم الأرض ، وأنتم ولده ، { واستعمركم فِيهَا } يعني : أسكنكم وأنزلكم فيها ، وأصله أعمركم . يقال : أعمرته الدار إذا جعلتها له أبداً ، وهي العُمْرَى . وقال مجاهد : { واستعمركم } يعني : أطال عمركم فيها { فاستغفروه ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } يعني : توبوا من شرككم ، { إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } يعني : قريباً ممن دعاه ، مجيباً بالإجابة لمن دعاه ، من أهل طاعته .
قوله تعالى : { قَالُواْ يأَبَانَا * صالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } يعني : كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا ، قبل أن تدعونا إلى دين غير دين آبائنا ، { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ } يعني : يريبنا أمرك ، ودعاؤك إيانا ، إلى هذا الدين . ومعناه : إنا مريبون في أمركم .
{ قَالَ } لهم صالح : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } ، يقول : أخبروني إن كنت على بيان ، وحجة ، ودين ، أتاني من ربي ، { قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ } يقول : أكرمني الله تعالى بالإسلام ، والنبوة؛ أيجوز لي أن أترك أمره ، ولا أدعوكم إلى الله ، وإلى دينه؟ { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } يقول : فمن يمنعني من عذاب الله ، إن رجعت إلى دينكم ، وتركت دين الله تعالى .
{ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ } يقول ما تزيدونني في مقالتكم ، إلا بصيرة في خسارتكم . ويقال : معناه : فما تزيدونني غير تكذيب ، لأن التكذيب سبب لخسارتهم . ويقال : معناه : فما تزيدونني ، إن تركت ما أوجب الله عليَّ من الدعوة غير تخسير؛ لأن العذاب إذا نزل بي لا تقدرون على دفعه عني .

وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

ثم قال تعالى : { مّن رَّبّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : « إنَّ صَالِحاً ، لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ إلى الإسلامِ كَذَّبُوهُ ، فَضَاقَ صَدْرُهُ ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يَأذَنَ لَهُ بِالخُرُوج مِنْ عِنْدِهِمْ ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ وَانْتَهَى إلى سَاحِلِ البَحْرِ ، فَإذا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى المَاءِ ، فقالَ لهُ صَالحٌ : وَيْحَكَ مَنْ أنْتَ؟ فقالَ : أنا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ . قالَ : كُنْتُ في سَفِينَةٍ كَانَ قَوْمُهَا كَفَرَةً غَيْرِي ، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَنَجَّانِي مِنْهُم ، فَخَرَجْتُ إلى جَزِيرَةٍ أتَعَبَّدُ هُناكَ ، فَأَخْرُجُ أحْيَاناً وَأطْلُبُ شَيْئاً مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ أرْجِعُ إلى مَكَانِي فَمَضَى صَالِحٌ ، وَانْتَهَى إلى تَلَ عَظِيم ، فَرَأَى رَجُلاً يَتَعَبَّدُ ، فَانْتَهَى إلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ ، فقالَ لَهُ صَالِحٌ مَنْ أنْتَ؟ قال : كَانَتْ هاهُنَا قَرْيَةٌ ، كانَ أهْلُهَا كُفّاراً غَيْرِي ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تعالى ، وَنَجَّانِي مِنْهُم ، فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أنْ أَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هاهنا إلى المَوْتِ ، وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِي شَجَرَةَ رُمَّانٍ ، وَأَظْهَرَ لِي عَيْنَ ماءٍ ، فآكُلُ مِنَ الرُّمَّانِ ، وَأشْرَبُ مِنْ ماءِ العَيْن ، وَأَتَوَضّأ مِنْهُ . فَذَهَبَ صالحٌ ، وَانْتَهَى إلى قَرْيَةٍ كانَ أَهْلُها كُفَّاراً كُلُّهُمْ ، غَيْرَ أَخَوَيْن مُسْلِمَيْنِ يَعْمَلان عَمَلَ الخُوصِ فَضَرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم : مثلاً قال : لَوْ أنَّ مُؤْمِناً دَخَلَ قَريَةً فِيها ألفُ رَجُلٍ ، كُلُّهُمْ كُفّارٌ ، وفِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُهُ مَعَ أحَدٍ ، حَتَّى يَجِد المُؤْمِنَ . وَلَوْ أنَّ مُنَافِقاً دَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ ، وَمُنَافِقٌ وَاحِدٌ ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُ المُنَافِقِ مَعَ أحَدٍ ، ما لَمْ يَجِدِ المُنَافِقَ .
فَدَخَلَ صَالِحٌ ، فانتهى إلى الأَخَوَيْن ، وَمَكَثَ عِنْدَهُمَا أياماً . وَسَأَلَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا ، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا يَصْبِرَانِ عَلَى إيذاءِ المُشْركِينَ ، وَأَنَّهُمَا يَعْمَلانِ عَمَلَ الخُوصِ ، وَيُمْسِكانِ قُوتَهُمَا ، وَيَتَصَدَّقَانِ بِالفَضْلِ . فَقالَ صَالِحٌ : الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرَانِي في الأرْضِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى أذَى الكُفَّارِ ، فأنا أرْجِعُ إلى قَوْمِي ، وَأَصْبِرُ عَلَى أذاهُمْ . فَرَجَعَ إليْهِمْ ، وَقَدْ كانُوا خَرَجُوا إلى عِيدِ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فَسَألُوا مِنْهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرَةِ ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، فَأخْرَجَ لَهُمْ ناقةً عُشَرَاءَ » .
فذلك قوله : { مّن رَّبّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } أي : علامة وعبرة ، { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } يعني : في أرض الحجر { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } يعني : لا تعقروها { فَيَأْخُذَكُمْ } ، يعني : يصيبكم { عَذَابٌ قَرِيبٌ } .
فولدت الناقة ولداً وكانت لهم بئر واحدة عذبة ، قال ابن عباس : كان للناقة شرب يوم لا يقربونها ، ولهم شرب يوم ، وهي لا تحضرها ، وكانوا يستقون الماء في يومهم ما يكفيهم للغد ، فيقسمونه فيما بينهم ، فإذا كان يوم شربها ، كانت ترتع في الوادي ، ثم تجيء إلى البئر ، فتبرك ، فتدلي رأسها في البئر ، فتشرب منها ، ثم تعود فترعى ، ثم تعود إلى البئر ، فتشرب منها ، فتفعل ذلك نهارها كله .

وكان في المدينة تسعة رهط ، يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون . منهم : قدار بن سالف ، ومصدع بن دهر وكانت في تلك القرية امرأة جميلة غنية ، وكانت تتأذى بالناقة لأجل سايمتها فقالت : مَنْ عقر الناقة ، أزوج نفسي منه . فخرج قدار بن سالف ، ومصدع بن دهر ، وكمن لها مصدع في مضيق من ممرها ، ورماها بسهم ، فأصاب رجلها . فَمَرَّتْ بقدار ، وهي تجر رجلها ، فضربها بالسيف فعقرها ، وقسموا لحمها على جميع أهل القرية . وكان في القرية تسعمائة أهل بيت ويقال ألف وخمسمائة .
فذلك قوله { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ } لهم صالح : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ } يعني : عيشوا ، وانتفعوا في داركم ، { ثلاثة أَيَّامٍ } ثمَّ يأتيكم العذاب ، { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } فقالوا له : ما العلامة في ذلك؟ قال : أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني محمرة ، وفي اليوم الثالث مسودة . ثم خرج صالح من بينهم .
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } يعني : عذابنا { نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } يعني : بنعمة منا ، { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } يعني : من عذاب يومئذ . قرأ نافع ، والكسائي : { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } بنصب الميم ، لأنه إضافة إلى اسم غير متمكن ، فيجوز النصب . وقرأ الباقون : { يَوْمَئِذٍ } ، بكسر الميم ، على معنى الإضافة .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز } أخبر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ، أنه قادر في أخذه المنيع ، ممن عصاه . ثم قال تعالى : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } يعني : صيحة جبريل صاح صيحة ، فماتوا كلهم ، { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } يعني : صاروا خامدين ميتين ، { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يعني : صاروا كأن لم يكونوا في الدنيا . ويقال : كأن لم ينزلوا في ديارهم ، ولم يكونوا .
{ إِلا أَنْ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } يعني : جحدوا وحدانية الله فهذا تنبيه ، وتخويف لمن بعدهم { أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ } يعني : خزياً ، وسحقاً لثمود في الهلاك . قرأ الكسائي : { أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ } بكسر الدال مع التنوين ، وجعله اسماً للقوم ، فلذلك جعله منصرفاً . وقرأ الباقون بنصب الدال ، لأنه اسم القبيلة . وإنما يجري في قوله : { إِلا أَنْ } اتباعاً للكتابة في مصحف الإمام ، وأما الكسائي ، فأجراه لقربه من قوله : { إِلا أَنْ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } .

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

قوله تعالى { وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى } يعني : ببشارة الولد . وذلك أن مدينة يقال لها : سدوما . ويقال : سدوم ، وكانت بلدة فيها من السعة والخير ، ما لم يكن في سائر البلدان وكان الغرباء يحضرون من سائر البلدان ، في أيام الصيف ، ويجمعون من فضل ثمارهم ، مما كان خارجاً من الكروم ، والحدائق . فجاء إبليس لعنه الله ، فشبه نفسه بغلام أمرد ، وجعل يدخل كرومهم ، وحدائقهم ، ويراودهم إلى نفسه ، حتى أظهر فيهم الفاحشة .
وجاء إلى نسائهم ، وقال : إن الرجال قد استغنوا عنكن ، فعلَّمَهُنَّ أن يستغنين عن الرجال ، حتى استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء . فأوحى الله تعالى إلى لوط ، ليدعوهم إلى الإيمان ، ويمتنعوا عن الفواحش ، فلم يمتنعوا . فبعث الله جبريل ، ومعه أحد عشر من الملائكة بإهلاكهم ، فجاؤوا إلى إبراهيم كهيئة الغلمان ، فدخلوا على إبراهيم ، فنظر فرأى اثني عشر غلاماً أمرد ، ويقال : كانوا ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ويقال : كانو أربعة ، فسلموا عليه { قَالُواْ سلاما قَالَ سلام } يعني : ردّ عليهم السلام .
قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، { قَالُواْ سلاما قَالَ سلام } ، كلاهما سلام ، إلا أن الأول صار نصباً ، لوقوع الفعل عليه؛ والآخر رفعاً بالحكاية . ومعناه : قال : قولاً : فيه سلام . وقرأ حمزة ، والكسائي : { قَالُواْ سلاما قَالَ *** سلام } بكسر السين ، وسكون اللام ، يعني : أمري سلم ، ما أريد إلا السلامة . { فَمَا لَبِثَ } يعني : فما مكث { أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } قال السِّدِيّ : الحنيذ السمين ، كما قال في آية أُخرى : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] ويقال : حنيذ ، يعني : نضيج . ويقال : المشوي الذي يقطر منه الدسم . وقال أهل اللغة بأجمعهم : الحنيذ ، المشوي بغير تنور ، وهو أن يتخذ له في الأرض حنذاً ، فيلقى فيه . قال مقاتل : إنما جاءهم بعجل ، لأنه كان أكثر ماله البقر ، فلما قربه إليهم ووضع بين أيديهم كفوا ولم يأكلوا ، ولم يتناولوا منه .
{ فَلَماَّ رَأَى } إبراهيم { أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } يعني : لا تصل إلى الطعام { نَكِرَهُمْ } يقول : أنكرهم { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } يعني : وأضمر منهم خوفاً ، حيث لم يأكلوا من طعامه ، وظن أنهم لصوص . وذلك أنه في ذلك الزمان إذا لم يأكل أحد من طعام إنسان ، يخاف عليه عائلته ، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } بهلاكهم . وقال السدي : لما لم يأكلوا من الطعام ، قال لهم إبراهيم : ما لكم لا تأكلون طعامي؟ قالوا : إنا قوم لا نأكل طعاماً إلا بثمن . فقال إبراهيم : إن لطعامي ثمناً ، فأصيبوا منه . قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله عليه في أوله ، وتحمدونه في آخره . فقال جبريل لميكائيل : حق له أن يتخذه الله خليلاً .

قوله تعالى { وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } وفي الآية تقديم ، يعني : بشرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً . ويقال : ضحكت تعجباً من خوف إبراهيم ، ورعدته في حشمه ، وخدمه ، ولم يخف ، ولم يرتعد من نمرود الجبار حين قذفه في النار ، وهذا قول القتبي . وقال عكرمة : ضحكت ، يعني : حاضت . يقال : ضحكت الأرنب ، إذا حاضت . وغيره من المفسرين يجعلها الضحك بعينه ، وكذلك هو في التوراة . قرأت فيها أنها حين بشرت بالغلام ، ضحكت في نفسها ، وقالت : من بعد ما بليت ، أعود شابة؟ وقال قتادة : ضحكت من أمر القوم ، وغفلتهم ، وجبريل جاءهم بالعذاب ، يعني : قوم لوط { فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } قال الشعبي : الوراء ، ولد الولد . وروى حبيب بن أبي ثابت ، أن رجلاً دخل على ابن عباس ، ومعه ابن ابنه ، فقال له : من هذا؟ فقال ابن ابني . فقال : ابنك من وراء فوجد الرجل في نفسه ، فقرأ ابن عباس : { وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } وقال مقاتل : يعني : ومن بعد إسحاق يعقوب . وقال أبو عبيدة : الوراء ولد الولد .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم في رواية حفص ، بنصب الباء ، وقرأ الباقون بالضم . فمن قرأ بالضم ، فهو على معنى الابتداء ، يعني : ويكون من وراء إسحاق ، يَعْقُوبُ . ومن قرأ بالنصب ، فهو عطف على الباء في قوله : { بإسحاق } فيكون في موضع الخفض ، إلا أنه لا ينصرف .
{ قَالَتْ ياأيها * ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا } يعني : عقيماً لم ألد قط ، وقد كبرت في السن ، { وهذا بَعْلِى شَيْخًا } قال الكلبي : كانت سارة بنت ثمان وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ، أكبر منها بسنة . وقال الضحاك : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة ، وسارة بنت تسع وتسعين سنة ، { إِنَّ هذا لَشَىْء عَجِيبٌ } أي : لأمر عجيب { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } يعني : من قدرة الله { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ } يعني : نعمته وسعادته عليكم ، { أَهْلَ البيت } يعني : يا أهل البيت . ويقال : أتعجبين؟ أي ألا تعلمين أن رحمة الله ، وبركاته عليكم ، أن يستخرج الأنبياء كلهم من هذا البيت؟ وقال السدي : أخذ جبريل عوداً من الأرض يابساً ، فدلكه بين أصبعيه ، فإِذا هو شجرة تهتز ، فعرفت أنه من الله تعالى . ثم قال { إِنَّهُ حَمِيدٌ } في فعاله ، ويقال : حميد لأعمالكم ، { مَّجِيدٌ } يعني : شريف .

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع } يعني : الفزع من الرسل { وَجَاءتْهُ البشرى } بالولد ، { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } يعني : يخاصم ويتشفع في قوم لوط . وكان لوط ابن أخيه ، وهو لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر ، ويقال : ابن عمه ، وسارة كانت أخت لوط؛ فلما سمعا بهلاك قوم لوط ، اغتما لأجل لوط . وروى معمر ، عن قتادة ، قال لهم : أرأيتم لو كان فيها خمسون من المسلمين ، أتعذبونهم؟ قالوا : لا نعذبهم . قال : أربعون؟ قالوا : ولا أربعون . قال : ثلاثون؟ قالوا ولا ثلاثون ، حتى بلغوا عشرة . قال مقاتل : فما زال ينقص خمسة خمسة ، حتى انتهى إلى خمسة أبيات ، يعني : لو كان فيها خمسة أبيات من المسلمين لم يعذبهم .
ثمّ قال { إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } الأواه : الذي إذا ذكر الله تعالى تأوه . منيب : أي راجع إليه بالتوبة . وقد ذكرناه في سورة التوبة . ثم قال جبريل { مُّنِيبٌ يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا } يعني : اترك جدالك { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ } يعني : عذاب ربك { وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } يعني : غير مصروف عنهم .
ثم خرجوا من عند إبراهيم ، متوجهين إلى قوم لوط ، فانتهوا إليهم نصف النهار ، فإذا هم بجواري يسقين من الماء ، فأَبصرتهم ابنة لوط ، وهي تستقي من الماء ، فقالت لهم : ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا أقبلنا من مكان كذا ، ونريد مكان كذا . فأخبرتهم عن حال أهل المدينة ، وخبثهم ، فأظهروا الغم من أنفسهم ، فقالوا : هل أحد يضيفنا؟ قالت : ليس فيها أحد يضيفكم ، إلا ذلك الشيخ ، وأشارت إلى أبيها لوط ، وهو على بابه . فأتوا لوطاً فلما رآهم وهيئتهم ، ساءه ذلك ، فذلك قوله تعالى :

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ } يقول : ساءه مجيئهم ، { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } يعني : صدره اغتماماً ، ومخافة عليهم ، لا يدري أيأمرهم بالرجوع أم بالنزول؟ { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } يعني : شديد . ثم قال لامرأته : ويحك ، قومي واخبزي ، ولا تعلمي أحداً . وكانت امرأته كافرة منافقة ، فانطلقت تطلب بعض حاجاتها ، وجعلت لا تدخل على أحد إلا أعلمته ، وتقول : إن عندنا قوماً من هيئتهم كذا وكذا . فلما علموا بذلك ، جاؤوا إلى باب لوط . فذلك قوله تعالى : { وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } يعني : يسرعون إليه ، وهو مشي بين المشيتين ، ويقال : يدفعون إليه دفعاً ، ويقال يشتدون إليه شداً ، { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } يعني : من قبل أن يبعث إليهم لوط ، ويقال : من قبل إتيان الرسل ، كانوا يعملون الفواحش ، وهي اللواطة والكفر ، فلما أرادوا الدخول ، { قَالَ } لهم لوط : { قَالَ ياقوم هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يعني : أحل لكم من ذلك ، وكان لوط يناظرهم ، ويقول : هن أطهر لكم ، وكان جبريل مع أحد عشر من الملائكة ، وكسروا الباب ، فضرب أعينهم .
قال الضحاك : { هؤلاءآء بَنَاتِى } عرض عليهم بنات قومه . وقال قتادة : أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء ، وقال : هن أطهر لكم ، ولم يعرض عليهم بناته . وروى سفيان عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لم يكنَّ بناته ، ولكن كُنَّ من أمته ، وكل نبي هو أب أمته . وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يقرأ : { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكتاب مَسْطُوراً } [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم ، وهي قراءة أبي بن كعب . وهكذا قال سعيد بن جبير : إنه أراد بنات أمته .
ويقال : إن رؤساءهم كانوا خطبوا بناته ، وكان يأبى ، فقال لهم : إني أزوجكم بناتي ، هنّ أطهر لكم من الحرام ، وكان النكاح بين الكافر والمسلم جائزاً { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } يقول : لا تفضحوني في أضيافي { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يعني : مرشداً صالحاً يزجركم عن هذا الأمر . ويقال : رجل عاقل ، ويقال : رجل على الحق يستحي مني . { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } يعني : من حاجة ، ويقولون : ما لنا في النساء من حاجة { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } إنما نريد الأضياف ف { قَالَ } لوط : { لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً } يعني : منعة بالولد { أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } ، أي : أرجع إلى عشيرة كثيرة ، يعني : لو كانت لي عشيرة ومنعة لمنعتكم مما تريدون .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« رَحِمَ اللَّهُ لُوطاً لَقَدْ أَوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ » يعني : إن الله ناصره وروى عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما بعث الله نبياً بعد لوط ، إلا في عز من قومه . ويقال : لما أرادوا الدخول ، وضع جبريل يده على الباب ، فلم يقدروا على فتحه ، فكسروا الباب ودخلوا فامتلأت داره ، فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم ، كما قال في آية أُخرى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ } [ القمر : 37 ] فرجعوا وقالوا : يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا ، والله لنهلكنك غداً .
فلما سمع لوط تهديدهم إياه ، ساءه صنيع القوم وخاف ، فلمَّا رأى جبريل ما دخله { قَالُواْ يأَبَانَا *** لُوطٍ إِنَّا *** رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } يعني : لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئاً ، { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } يعني : سر وادلج بأهلك { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } . قال الكلبي : القطع من الليل ، آخر السحر ، وقد بقيت منه قطعة . وقال السدي : سألت أعرابياً عن قوله : { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } قال : ربع الليل { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } يعني : لا يتخلف منكم أحد { إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا } من العذاب ، { مَا أصابهم } .
قرأ ابن كثير ، ونافع : { فَأَسْرِ } بجزم الألف ، وقرأ الباقون : { فَأَسْرِ } ، ومعناهما واحد . يقال : سريت وأسريت ، إذا سرت بالليل . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، { إِلاَّ امرأتك } بضم التاء ، وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب ، انصرف إلى الإسراء ، يعني : أسر بأهلك إلا امرأتَكَ ، على معنى الاستثناء؛ وفي قراءة ابن مسعود : فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتَكَ . ومن قرأ بالضم ، فهو ظاهر ، يعني : أنها تتخلف مع الهالكين .
وقال لوط ، لجبريل عليه السلام : إن أبواب المدينة قد أُغلقت ، فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزغورا ، فحمل جبريل لوطاً ، وابنتيه ، وماله على جناحه إلى مدينة ذعر ، وهي إحدى مدائن لوط ، وهي خمس مدائن ، وهي على أربعة فراسخ من سدوما ، ولم يكونوا على مثل عملهم .
فقال له جبريل { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } يعني : هلاكهم وقت الصبح . فقال لوط : يا جبريل ، الآن عجل هلاكهم . فقال له جبريل : { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } فلما كان وقت الصبح ، أدخل جبريل جناحه تحت أرض المدائن الأربعة ، فاقتلعها من الماء الأسود ، ثم صعد بها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح وصياح الديك . ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ، فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض فذلك قوله : { فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً } .
قال وهب بن منبه : لما رفعت إلى السماء ، أمطر الله عليهم الكبريت والنار ، ثم قلبت . وقال مقاتل : أمطر على أهلها من كان خارجاً من المدائن الأربعة ، حجارة { مّن سِجّيلٍ } يعني : من طين مطبوخ ، كما يطبخ الآجر ، { مَّنْضُودٍ } يعني : متتابع بعضه على أثر بعض .

وقال مجاهد : سجيل بالفارسية : سنج وجك ، كقوله : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] وروي عن ابن عباس ، في بعض الروايات ، قال : سنك وكل . وقال أبو عبيدة : السجيل : الشديد ، منضود : أي ملتزق بالحجارة .
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ } قال الفراء مخططة بالحمرة ، والسواد في البياض . وقال أبو عبيدة : مسومة ، أي : معلمة . ويقال : مكتوب على كل حجر ، اسم صاحبه الذي يصيبه . ويقال : مختمة . وقال وكيع : رفع إلي حجر منها بطرسوس .
ثم قال : { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } يعني : من قوم لوط عليه السلام ويقال : هذا تهديد لأهل مكة ، وغيرهم من المشركين . فقال : { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } لكيلا يعملوا مثل عملهم . ويقال : ما هن من الظالمين ببعيد . قريات لوط ليست ببعيدة من أهل مكة ، فأمرهم بأن يعتبروا بها . وقال الزجاج : سجيل ، يعني : ما كتب لهم أن يعذبوا به . ويقال : سجيل من سجلته ، يعني : أرسلته ، ومعناه : حجارة مرسلة عليهم ، ويقال : كثيرة شديدة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)

قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أخاهم } يعني : وأرسلنا إلى مدين أَخَاهُمْ { شُعَيْبًا قَالَ ياقوم *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله } يعني : وحدوا الله وأطيعوه ، { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } يعني : ليس لكم رب سواه ، { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } في البيع والشِّراء ، { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } يعني : بسعة في المال ، والنعمة ، { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يعني : إن لم ترجعوا عن نقصان المكيال والميزان ، تزول عنكم النعمة والسعة ، ويصيبكم القحط والشدة وعذاب الآخرة . وقال مجاهد : إني أراكم بخير يعني : برخص السعر .
{ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان } ، يعني : أتموا الكيل والوزن { بالقسط } يقول : بالعدل { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } يعني : لا تنقصوا الناس حقوقهم { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ } يعني : لا تسعوا في الأرض ، بالفساد والمعاصي ، ونقصان الكيل ، والوزن . وقال سعيد بن المسيب : إذا أتيت أرضاً يوفون المكيال ، والميزان ، فأطل المقام بها ، وإذا أتيت أرضاً ينقصون المكيال والميزان ، فأقل المقام بها . وقال عكرمة : أشهد أن كل كيال ووزان في النار . قيل له : فمن وفى الكيل والوزن؟ قال : ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال ، ولا يزن كما يتزن . والله تعالى يقول : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] .
ثم قال تعالى { بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ } قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال ، خير لكم من الحرام ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين . فصدقوني فيما أقول لكم . وقال مجاهد : { بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني : طاعة الله خير لكم . ويقال : ثواب الله خير لكم في الآخرة . { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يعني : رقيباً ووكيلاً ، وإنما عليَّ البلاغ .
{ قَالُواْ يأَبَانَا * شُعَيْبٌ ***** أصلواتك تَأْمُرُكَ } يعني : قال له قومه . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص ، { ***أصلاتُكَ } بلفظ الواحد يعني : أقراءتك . ويقال : أدعاؤك . وقرأ الباقون : { ياشعيب أصلواتك } بلفظ الجماعة ، يعني : أكثرة صلواتك تأمرك { أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ *** ءابَاؤُنَا } وكان شعيب كثير الصلاة ، { قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا } من نقصان الكيل والوزن؟ { إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد } يعني : السفيه الضال ، استهزاء منهم به .
{ قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } يعني : على دين ، وطاعة ، وبيان ، وأتاني رحمة من ربي ، { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } يعني : بعثني بالرسالة فهداني لدينه ، ووسع عليَّ من رزقه . وقال الزجاج : جواب الشرط ههنا متروك . المعنى : إن كنت على بينة من ربي ، أتبع الضلال : فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى .
ثم قال : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } يعني : لا أنهاكم عن شيء ، وأعمل ذلك العمل ، من نقصان الكيل والوزن .

ومعناه : أختار لكم ما أختار لنفسي ، نصيحة لكم وشفقة عليكم ، { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } يقول : ما أريد إلا العدل { مَا استطعت } يعني : ما قدرت يعني لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم .
ثم قال { وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله } يعني : وما تركي هذه الأشياء ودعوتي إلا بالله ، يعني : إلا بتوفيق الله وبأمره ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } يعني : وثقت به { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } يعني : أقبل وأدعو إليه بالطاعة .
ثم قال تعالى : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى } يعني : لا يحملنكم بغضي وعداوتي ، أن لا تتوبوا إلى ربكم ، { أَن يُصِيبَكُمُ } يعني : يقع بكم العذاب ، { مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } يعني : مثل عذاب قوم نوح بالغرق ، { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } بالريح ، { أَوْ قَوْمَ صالح } الصيحة ، فإن طال عهدكم بهم ، فاعتبروا بمن أقرب منكم ، وهم قوم لوط ، فقال : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } يعني : كان هلاكهم قريباً منكم ، ولا يخفى عليكم أمرهم .

وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

قوله تعالى : { واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } يعني : وتوبوا إلى الله ، { إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ } بعباده ، { وَدُودٌ } يعني : متودد إلى أوليائه بالمغفرة ، ويقال : محب لأهل طاعته . ويقال : الودود بمعنى الواد .
قوله تعالى : { قَالُواْ يأَبَانَا * شُعَيْبٌ ***** مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } يعني : لا نعقل ما تدعونا إليه ، من التوحيد ، ومن وفاء الكيل والوزن . يعنون : إنك تدعونا إلى شيء ، خلاف ما كنا عليه وآباؤنا ، { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } يعني : ومع ذلك أنت ضعيف فينا . وقال مقاتل : يعني : ذليلاً لا قوة لك ، ولا حيلة . وقال الكلبي : يعني : ضرير البصر . ويقال : إنه ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى ، ويقال : وحيداً لم يوافقك من عظمائنا أحد . { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك } يعني : لولا عشيرتك لقتلناك ، لأنهم كانوا يقتلون رجماً . وقال القتبي : أصل الرجم : الرمي . كقوله : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } [ الملك : 5 ] ثم قد يستعار ويوضع موضع الشتم إذ الشتم رَمْيٌ ، كقوله : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] يعني : لأشتمنك . ويوضع موضع الظن ، كقوله : { سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 22 ] أي ظناً .
والرجم أيضاً : الطرد واللعن ، وقيل للشيطان رجيم : لأنه طريد يرجم بالكواكب . وقد يوضع الرجم موضع القتل ، لأنهم كانوا يقتلون بالرجم . ولأن ابن آدم قتل أخاه بالحجارة . فلما كان أول القتل رجماً ، سمي القتل رجماً ، وإن لم يكن بالحجارة .
ثم قالوا { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } يعني : بكريم ، ويقال : بعظيم ، يعني : لا خطر لك عندنا لولا حرمة عشيرتك . ويقال : ما قتلك علينا بشديد . ثمّ { قَالَ } لهم شعيب عليه السلام : { قَالَ ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } يعني : حرمة قرابتي أعظم عندكم من حرمة الله تعالى؟ ويقال خوفكم من عقوبة قرابتي أكبر من خوف الله . ويقال : عشيرتي أعظم عليكم من كتاب الله تعالى ، ومن أمره؟ { واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } يقول : تركتم أمر الله تعالى وراءكم ، خلف ظهوركم ، وتعظمون أمر رهطي ، وتتركون تعظيم الله تعالى ، ولا تخافونه؟ وهذا قول الفراء . وقال الزجاج : معناه : اتخذتم أمر الله وراءكم ظهرياً ، أي نبذتموه وراء ظهوركم ، والعرب تقول : لكل من لا يعبأ بأمر قد جعل فلان هذا الأمر بظهره . وقال الأخفش ، وراءكم ظهرياً ، يقول : لم تلتفوا إليه .
{ إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } يعني : عالماً بأعمالكم ، من نقصان الكيل والوزن ، وغيره . والإحاطة : هي إدراك الشيء بكماله . ثم قال تعالى { لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } يعني : اعملوا في هلاكي ، وفي أمري ، { إِنّى عامل } في أمركم ، والمكانة ، والمكان بمعنى واحد .
ثم قال : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، وهذا وعيد لهم ، { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } يعني : يهلكه ويهينه ، { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } يعني : ستعلمون من هو كاذب . ويقال معناه : من يأتيه عذاب يخزيه ، ويخزي أمره . من هو كاذب على الله بأن معه شريكاً ، { وارتقبوا } يعني : انتظروا بي العذاب { إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } يعني : منتظر بكم العذاب في الدنيا .

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } يعني : عذابنا ، وذلك : أنه أصابهم حر شديد ، فخرجوا إلى غيضة لهم ، فدخلوا فيها ، فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة ، فأحرقت الأشجار . وصاح جبريل صيحة ، فماتوا كلهم ، كما قال في آية أُخرى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] وذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } يعني : عذابنا { نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } يعني : صيحة جبريل { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } يعني : صاروا في مواضعهم ميتين لا يتحركون .
قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يعني : كأن لم يعمروا فيها ، { أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ } يعني : بعداً من رحمة الله تعالى ، { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } من رحمته . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس ، قال : لم تعذب أمتان بعذاب واحد ، إلا قوم شعيب وصالح ، صاح بهم جبريل فأهلكهم .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } التسع ، { وسلطان مُّبِينٍ } يعني : حجة بينة ، { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } يعني : قومه ، { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } يعني : أطاعوا قول فرعون حين قال : { ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] فأطاعوه في ذلك ، وحين قال لهم : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّى صَرْحاً لعلى أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } [ القصص : 38 ] ، فأطاعوه وتركوا موسى . قال الله تعالى : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } يقول : ما قول فرعون بصواب .
قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } يقول : يتقدم أمام قومه يوم القيامة ، وهم خلفه ، كما كانوا يتبعونه في الدنيا ، ويقودهم إلي النار ، { فَأَوْرَدَهُمُ النار } يقول : أدخلهم النار ، { وَبِئْسَ الورد المورود } يقول : بئس المدخل المدخول ، يعني : بئس المصير الذي صاروا إليه .
قوله تعالى : { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه لَعْنَةً } يعني : جعل عليهم اللعنة في الدنيا ، وهو الغرق ، { وَيَوْمَ القيامة } لعنة أُخرى ، وهي النار ، { بِئْسَ الرفد المرفود } يعني : اللعنة على أثر اللعنة ، ومعناه : بئس الغرق وزفرة النار ، ترادفت عليهم اللعنتان ، لعنة الدنيا الغرق ، ولعنة الآخرة النار .
وقال القتبي : { بِئْسَ الرفد المرفود } يعني : بئس العطاء المعطى ، يقال : رفدته أي : أعطيته ، وقال الزجاج : كل شيء جعلته عوناً لشيء ، وأسندت به شيئاً فقد رفدته وقال قتادة : في قوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } يعني يمضي بين أيديهم ، حتى يهجم بهم على النار . وفي قوله : { بِئْسَ الرفد المرفود } قال : لعنة في الدنيا ، وزيدوا بها اللعنة في الآخرة .
قوله تعالى { ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى } يعني : هذا الذي وصفت لك وقصصت عليك من أخبار الأمم ، والقرون الماضية ، { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } يعني : ينزل جبريل ، ليقرأ عليك ليكون فيها دلالة نبوتك ، { مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } يعني : من تلك القرى قائم ، ومنها ما هو حصيد والقائم ، يعني : الظاهر ينظر إليه الناظر ، والحصيد : الذي قد أبيد وحصد ، يعني : خرب وهلك أصحابه .

ويقال : القائم على بنيانه ، والحصيد ما خرب . وقال قتادة : منها قائم ، يعني : خاوية على عروشها وحصيد ، يعني : مستأصلة . وقال الضحاك : منها قائم ، يعني : مدينة عاد هلكوا ، وبقيت مساكنهم ، وحصيد ، يعني : مدائن قوم لوط ، حصدت أي قلعت من الأرض السفلى .
ثم قال تعالى { وَمَا ظلمناهم } يعني : لم نعذبهم بغير ذنب ، { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } يعني : أضروا بأنفسهم حيث أكلوا رزق الله ، وعبدوا غيره ، وكذبوا رسله ، { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } يعني : ما نفعتهم عبادة آلهتهم ، { التى يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَىْء } إنما سماهم آلهة على وجه المجاز ، يعني : آلهتهم بزعمهم ، ولم يكونوا آلهة في الحقيقة . ومعناه : لم تقدر أصنامهم أن تمنعهم من عذاب الله من شيء ، { لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ } يعني : حين جاء عذاب ربك ، وقال القتبي : إذا رأيت لِلَمَّا جواباً فهو بمعنى حين ، كقوله تعالى : { فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] يعني : حين أغضبونا ، وكقوله : { لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ } يعني : حين جاء أمر ربك ، يعني : عذاب ربك ، { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } يعني : غير تخسير ، كقوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] أي خسرت .

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

قوله تعالى { وكذلك أَخْذُ رَبّكَ } يعني : هكذا عقوبة ربك ، { إِذَا أَخَذَ القرى } يعني : إِذا عاقب القرى ، { وَهِىَ ظالمة } يعني : أهلها كفار ، جاحدون بوحدانية الله تعالى . قرأ عاصم الجحدري : { إِذْ * أَخَذَ } ، بألف واحدة ، لأن إذ تستعمل للماضي ، وإذا تستعمل للمستقبل ، وهذه حكاية من الماضي ، يعني : حين أخذ ربك القرى . وهي قراءة شاذة ، وقراءة العامة : { إِذَا أَخَذَ } بألفين ، ومعناه : أخذ ربك متى أخذ القرى .
ثم قال { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } يعني : عقوبته مؤلمة شديدة . وروى أبو موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . ثم قرأ : { وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة } الآية .
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : في الذي أخبرتك عن الأمم الخالية لعبرة ، { لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة } ويقال : في عذابهم موعظة ، وعبرة بالغة لمن آمن بالله ، واليوم الآخر . ويقال : فيه عبرة لمن أيقن بالنار ، وأقرّ بالبعث { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } يعني : مجموع فيه الأولون والآخرون { وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } يشهده أهل السموات ، وأهل الأرض .
قوله تعالى : { وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ } يعني : إلى حين معلوم . ويقال : لانقضاء أيام الدنيا . ومعناه : أنا قادر على إقامتها الآن ، ولكن أؤخرها إلى وقت معدود ، { يَوْمَ يَأْتِ } يعني : إذا جاء يوم القيامة ، ويقال : يوم يأْت ذلك اليوم ، { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } يعني : لا تتكلم نفس بالشفاعة ، إلا بأمره ، ويقال : معناه : لا يجترىء أحد أن يتكلم من هيبته ، وسلطانه بالاحتجاج ، وإقامة العذر إلا بإذنه .
قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، { يَوْمَ يَأْتِ } بغير ياء في الوصل والقطع ، وقرأ الباقون : بالياء عند الوصل . قال أبو عبيدة : القراءة عندنا على حذف الياء ، في الوصل والوقف . قال : ورأيت في مصحف الإمام عثمان : { يَوْمَ يَأْتِ } بغير ياء ، وهي لغة هذيل . قال : وروي عن عثمان ، أنه عرض عليه المصحف ، فوجد حروفاً من اللحن ، فقال : لو كان الكاتب من ثقيف ، والمملي من هذيل ، لم توجد فيه هذه الحروف ، فكانت قدم هذيلاً في الفصاحة .
ثم قال { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } يعني : يوم القيامة من الناس شَقِيٌّ معذب في النار ، وسعيد ، يعني : مكرم في الجنة . قوله تعالى { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } يعني : كتب عليهم الشقاوة ، { فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } قال الربيع بن أنس الزَّفير في الحلق ، والشهيق في الصدر ، وروي عن ابن عباس ، أنه قال : زفير كزفير الحمار ، وهو أول ما ينهق الحمار والشهيق ، وهو أول ما يفرغ من نهيقه في آخره .

ويقال : زفير وشهيق ، معناه : أنيناً وصراخاً ، { خالدين فِيهَا } يعني : مقيمين دائمين في النار { مَا دَامَتِ *** السموات والارض } يعني : سماء الجنة وأرضها : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } يعني : إلا من أخرجهم منها وهم الموحدون .
وقال الكلبي ، ومقاتل : { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ *** السموات والارض } يعني : كما تدوم السموات والأرض ، لأهل الدنيا ، فكذلك يدوم الأشقياء في النار { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } أي : الموحدون ، يخرجون من النار . وقال الضحاك : يعني : سماء القيامة وأرضها ، وهما باقيتان . ويقال : العرب كانت من عادتهم ، أنهم إذا ذكروا الأبد يقولون : ما دامت السموات والأرض ، فذكر على عادتهم ، ومعناه : إنهم خالدون فيها أبداً . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } إن شاء أدخل النار خالداً ، وإن شاء أخرجه إن كان موحداً ، وأدخله الجنة .

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

قوله تعالى : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص : { سُعِدُواْ } بضم السين . وقرأ الباقون بنصب السين . فمن قرأ بالنصب ، فمعناه : الذين استوجبوا السعادة في الجنة ، ومن قرأ بالضم ، فمعناه : وأما الذين سُعِدُوا ، أي قدر لهم السعادة ، وخلقوا للسعادة { فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ *** السموات والارض *** إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } أن يحبس في المحشر ، وعلى الصراط . ويقال : الذين شقوا يعني : الكفار ، والذين سعدوا المؤمنين ، ومعناه : الكفار في النار إلا ما شاء الله أن يسلموا ، والمؤمنون في الجنة إلا ما شاء الله أن يرجعوا عن الإسلام . ويقال : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } يعني : قد شاء ربك .
ثم قال : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } يعني : رزقاً غير منقطع عنهم ، ولا ينقص من ثمارهم ، ولا من نعمتهم . ثم قال تعالى : { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } يعني : في شك { مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } إن الله تعالى يعاقبهم بذلك ، { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ } يعني : لا يرغبون في التوحيد ، كما لم يرغب آباؤهم من قبل ، الذين هلكوا ، { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } يعني : نوف لهم ولآبائهم حظهم ، من العذاب غير منقوص عنهم ، وهو قول مقاتل . وقال سعيد بن جبير : نصيبهم من الكتاب ، الذي كتب في اللوح المحفوظ ، من السعادة والشقاوة . وقال مجاهد : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } يعني : ما قدر لهم من خير ، أو شر .
قوله تعالى { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : أعطينا موسى التوراة { فاختلف فِيهِ } يعني : آمن به بعضهم وكفر به بعضهم ، وهذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى يصبر كما صبر موسى على تكذيبهم ، ثم قال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } يعني : وجب قول ربك بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يعني : لجاءهم العذاب ، ولفرغ من هلاكهم ، { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ } يعني : من القرآن ، { مُرِيبٍ } يعني : ظاهر الشك .
قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { وَإِن كُلُّ } بجزم النون ، وقرأ الباقون بالنصب والتشديد . فمن قرأ بالجزم ، معناه : وما كل إلا ليوفينهم ، كقوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] يعني : ما كلٌ . ومن قرأ بالتشديد ، يكون إنَّ لتأكيد الكلام . وقرأ حمزة ، وابن عامر وعاصم ، في رواية حفص : { لَّمّاً } بتشديد الميم ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، فمن قرأ بالتخفيف ، يكون لصلة الكلام ، ومعناه : وإنَّ كلاً ليوفينهم ، فتكون ما صلة كقولهم : عما قليل ، يعني : عن قليل . ومن قرأ بالتشديد : يكون بمعنى إلاَّ ، يعني : وإنَّ كُلاً إلا ليوفينهم ، كقوله :

{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] فمن قرأ بالتشديد كتلك الآية ، يكون معناه : إلا عليها حافظ . ومعنى الآية : إن كلا الفريقين { لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ } ثواب { أعمالهم } بالخير خيراً ، وبالشر شراً . { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من الخير والشر .
قوله تعالى : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } يعني : استقم على التوحيد ، والطاعة كما أمرت { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أيضاً يستقيموا على التوحيد { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : لا تعصوا الله ، في التوحيد وطاعته .
{ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قال : حدّثنا محمد بن الفضل ، قال : حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدّثنا أبو حفص ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله تعالى : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } قال : إن الله تعالى أمر بالاستقامة على التوحيد ، وأن لا يطغى في نعمته . وقال القتبي : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } يعني : امضِ على ما أمرت به .

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)

قوله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار } قال قتادة : ولا ترجعوا إلى الشرك ، فتمسكم النار ، يعني : تصيبكم النار ، وقال أبو العالية : ولا ترضوا بأعمال أهل البدع . والركون : هو الرضا . ويقال : ولا تميلوا إلى دين الذين كفروا . ويقال : ولا ترضوا قول الذين ظلموا . وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ، لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلِ » . وعن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : اعتبروا الناس بأخدانهم .
ثم قال { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } يعني : حين تمسكم النار ، لم يكن لكم من عذاب الله من أولياء يعني : من أقرباء ينفعنكم ، { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } يعني : لا تمنعون من العذاب .
قوله تعالى : { اتل مَا } يعني : واستقم كما أمرت ، وأقم الصلاة ، أي : أتممها ، { طَرَفَىِ النهار } صلاة الفجر ، والظهر ، والعصر ، { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } يعني : دخولاً من الليل ، ساعة بعد ساعة ، واحدها زلفة ، وهي صلاة المغرب ، والعشاء ، { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } يعني : الصلوات الخمس ، يكفرن السيئات فيما دون الكبائر ، { ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ } يعني : الصلوات الخمس توبة للتائبين .
قال الكلبي : نزلت الآية في عمرو بن غزية الأنصاري ، ويقال : نزلت في شأن أبي اليسر ، كان يبيع التمر ، فجاءته امرأة تشتري تمراً ، فأدخلها في الحانوت ، وفعل بها كل شيء إلا الجماع ، ثم ندم ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت في شأن أبي مقبل التمار . وروي عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إليَّ ، وقبلتها وفعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل ، وقرأها عليه ، فقال عمر رضي الله عنه : أله خاصة أم للناس كافة؟ قال : « بل للناس كافة » . وروى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان ، قال : كنت مع سلمان ، فأخذ غصناً من شجرة يابسة ، فحته ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتّ هذا الوَرَقُ » ثم قرأ هذه الآية : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } إلى آخرها .
ثم قال تعالى : { واصبر } يا محمد ، على التوحيد ، ولا تركن إلى الظلمة ، واصبر على ما أصابك ويقال : واصبر ، أي أقم على هذه الصلوات الخمس ، حتى لا تترك منها شيئاً ، { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } يعني : ثواب الموحِّدين المخلصين . ويقال المقيمين على الصّلوات .

فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ } يعني : فهلا كان { مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ *** بَقِيَّتُ } يعني : ذوو بقية من آمن وقال مقاتل : يعني : فلم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ، يعني : ذو بقية من دين ، { يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } وهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض . وقال القتبي : فهلا أولو بقية من دين ، يقال : قوم لهم بقية ، إذا كان فيهم خير . قال القتبي : إذا رأيت «فلولا» بغير جواب ، يريد به هلا ، كقوله : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] وقال بعض المفسرين : جعل «لولا» هاهنا . وفي سورة يونس ، بمعنى لم . وقال الزجاج : معناه : أولو تمييز ، ويجوز أولو طاعة وفضل . ومعنى بقية : إذا قلت في فلان بقية ، معناه : فيه فضل ، فيما يمدح به .
{ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع ، والمعنى : لكن قليلاً ممن أنجينا ممن ينهي عن الفساد . وروى سيف بن سليمان المكي ، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ العَامَّةَ بِعَمَلِ الخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا المُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهمْ ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ ، فَلاَ يُنْكِرُونَهُ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَذَّبَ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ " . ثم قال : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } يقول : اشتغل الذين كفروا { مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } يعني : ما أنعموا وأعطوا من المال . ويقال : ارتكبوا على ما خولوا في الدنيا ، واشتغلوا عما سواها من أمر الآخرة ويقال : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } يعني : السفلة ، ما أترفوا ، يعني : من أترفوا ، وهم القادة والرؤساء . وقال الفراء : اتبعوا في دنياهم ، ما عودوا من النعيم ، وإيثار الدنيا على الآخرة . { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } يعني : مشركين .
قوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ } ، يعني : لم يكن ربك يعذب أهل قرية ، { بِظُلْمٍ } بغير جرم ، { وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } يعني : موحِّدين مطيعين . وروي عن ابن عباس ، أنه قال : ما أهلك الله قوماً إلا بعملهم ، ولم يهلكهم بالشرك ، يعني : لم يهلكهم بشركهم وهم مصلحون ، لا يظلم بعضهم بعضاً ، لأن مكافأة الشرك النار ، لا دونها ، وإنما أهلكهم الله بمعاصيهم ، زيادة على شركهم ، مثل قوم صالح بعقر الناقة ، وقوم لوط بالأفعال الخبيثة ، وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن ، وقوم فرعون بإيذائهم موسى عليه السلام وبني إسرائيل . ويقال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي : فيهم من يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر . وقال الفراء : لم يكن ليهلكهم ، وهم يتعاطون الحق فيما بينهم ، وإن كانوا مجرمين .

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)

قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : لجمع الناس على أمة الإسلام ، وأكرمهم بدين الإسلام كلهم ، ولكن علم أنهم ليسوا بأهل لذلك ، { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } يعني : عصم ربك من الاختلاف . وقال عطاء : ولا يزالون مختلفين ، يعني : اليهود والنصارى ، والمجوس ، إلا من رحم ربك الحنيفية { ولذلك خَلَقَهُمْ } يعني : الحنيفية خلقهم للرحمة . وقال الحسن : لذلك خلقهم ، يقول : للاختلاف ، هؤلاء لجنته ، وهؤلاء لناره .
وقال ابن عباس : ولذلك خلقهم ، يعني : فريقين ، فريقاً يرحم ولا يختلف ، وفريقاً لا يرحم ويختلف . ويقال : ولذلك خلقهم ، يعني : للأمر والنهي ، بدليل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] يعني : للأمر والنهي ، وقال الضحاك : وللرحمة خلقهم . وقال مقاتل : وللرحمة خلقهم ، وهو الإسلام . وروى حماد بن سلمة ، عن الكلبي قال : خلقهم أهل الرحمة ، أن لا يختلفوا . وقال قتادة : ولذلك خلقهم للرحمة ، والعبادة ، ولا يزالون مختلفين . يقول : لا يزال أهل الأديان مختلفين في دين الإسلام .
ثم استثنى بعضاً . وقال : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } وهم المؤمنون أهل الحق ، { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } يقول : سبق ووجب قول ربك للمختلفين ، { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فهذا لام القسم فكأنه أقسم أن يملأ جهنم ، من كفار الجنة والناس أجمعين .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل } يعني : ننزل عليك من أخبار الرسل { مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } يقول : ما نشدد به قلبك ، ونحفظه ، ونعلم أن الذي فعل بك ، قد فعل بالأنبياء قبلك ، { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } قال قتادة : أي : في الدنيا . وقال ابن عباس يعني : في هذه السورة . وروى سعيد بن عامر ، عن عوف ، عن أبي رجاء ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فقرأ سورة هود وفسرها ، فلما أتى على هذه الآية : { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } قال : في هذه السورة . وقال سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، ومجاهد مثله . وهكذا قال مقاتل : عن الفراء . ثم قال : { وَمَوْعِظَةً } يعني : تأدبة لهذه الأمة ، { وذكرى } يعني : عظة وعبرة ، { لِلْمُؤْمِنِينَ } يعني : المصدقين بتوحيد الله تعالى .

وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

قال الله تعالى : { وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون بتوحيد الله تعالى ، { واعملوا * على مَكَانَتِكُمْ } يعني : في منازلكم على إهلاكي ، { إِنَّا عَامِلُونَ } في أمركم ، { وانتظروا } بهلاكي ، { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } بكم العذاب والهلاك ، فهذا تهديد لهم .
ثم قال تعالى : { وَللَّهِ غَيْبُ *** السموات والارض } يعني : غيب نزول العذاب ، متى ينزل بكم ، ويقال : سر أهل السموات وسر أهل الأرض { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ } يعني عواقب الأمور كلها ترجع إليه يوم القيامة { فاعبده } يقول : أطعه واستقم على التوحيد ، { وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } يقول : فوض إليه جميع أمورك ، { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } يعني : الذي يفعل الكفار . قرأ نافع ، وعاصم ، في رواية حفص : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ } بضم الياء ونصب الجيم ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الجيم ، فيكون الفعل للأمر . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، في رواية حفص : { عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالتاء على وجه المخاطبة ، وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة ، وروي عن كعب الأحبار ، أنه قال : خاتمة التوراة هذه الآية { وَللَّهِ غَيْبُ *** السموات والارض } إلى آخر السورة والله سبحانه أعلم .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)

قوله تعالى : { الر تِلْكَ } وذلك أن اليهود والنصارى ، قالوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا صاحبكم عن انتقال يعقوب ، وأولاده من كنعان إلى مصر ، ومبدأ أمرهم ، فنزل : { الر } يقول : أنا الله أرى ، وأسمع سؤالهم إياك يا محمد ، عن هذه القصة . ويقال معناه : أنا الله أرى صنيع إخوة يوسف ، ومعاملتهم معه . ويقال : أنا الله أرى ما يرى الخلق ، وما لا يرى { تِلْكَ ءايات الكتاب } يعني : حججه وبراهينه . ويقال : هذه الآيات ، التي وعدتكم في التوراة ، أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم . وعدهم بأن ينزل عليه كتاباً ، في كثير من أوائل سوره حروف الهجاء . { المبين } يعني : مبين حلاله وحرامه . ويقال : بَيَّنَ فيه خبر يوسف وإخوته . وروى معمر ، عن قتادة ، قال : بَيَّنَ الله رشده وهداه .
قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } يقول : إنا أنزلنا جبريل ليقرأ على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن ، بلسان العرب ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : لعلكم تفهمون ما فيه . ثم قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } وذلك أن المسلمين ، قالوا لسلمان : أخبرنا عن التوراة ، فإن فيها العجائب . فأنزل الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } في هذا القرآن ، ويقال : لا يصح هذا ، لأن سلمان أسلم بالمدينة ، وهذه السورة مكية . ولكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمنوا نزول سورة ، لا يكون فيها أمر ونهي وأحكام ، فنزلت هذه السورة . ويقال :
كانت اليهود تفاخروا بأن لهم قصة يوسف مذكورة في التوراة ، فنزلت هذه السورة أفصح من لغة اليهود ، لذهاب افتخارهم على المسلمين . فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } سماه الله في ابتدائه أحسن القصص ، وفي آخره عبرة ، فقال : { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الألباب مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] . ويقال : ينزل عليك جبريل بأحكم الخبر ، { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يقول : بالذي أوحينا إليك . ويقال : بوحينا إليك { هذا القرءان وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ } يعني : وقد كنت من قبل أن ينزل عليك القرآن ، { لَمِنَ الغافلين } عن خبر يوسف ، لم تعلمه .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبِيهِ ياأبت } قرأ ابن عامر : { ***يا أبتَ } بنصب التاء ، في جميع القرآن ، لأن أصلها يا أبتاه . وقرأ الباقون بالكسر ، لأجل الإضافة . { لاِبِيهِ ياأبت إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } يعني : رأيت في المنام كأن أحد عشر كوكباً ، نزل من السماء والشمس والقمر نزلا من السماء يسجدون لي . وروي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : الكواكب إخوته ، والشمس والقمر أبواه . وقال معمر : قال بعض أهل العلم : أبوه وخالته . وفي رواية الكلبي : رؤياه كانت ليلة القدر ، في ليلة الجمعة .

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

قال تعالى : { قَالَ يَاءادَمُ بَنِى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ } فلمّا قصّها على أبيه ، انتهره وزجره ، وقال ليوسف في السر : إذا رأيت رؤيا بعد هذا ، فلا تقصها على إخوتك { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } يعني : يعملوا بك عملاً ، ويحتالوا بك حيلة في هلاكك فإن قيل قوله : { رَأَيْتَهُمْ } هذا اللفظ يستعمل في العقلاء ، وفي غير العقلاء ، يقال : رأيتها ورأيتهن ، فكيف قال ههنا : رأيتهم؟ قيل له : لأنه حكى عنها الفعل الذي يكون من العقلاء ، وهي السجدة . فذكر باللفظ الذي يوصف به العقلاء .
{ إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة . قرأ أبو جعفر القاريء المدني ، { أَحَدَ عَشَرَ } بجزم العين ، وقراءة العامة { أَحَدَ عَشَرَ } بالنصب . قال أبو عبيدة : هكذا تقرؤها ، لأنها أعرف اللغتين ، والناس عليه . ثم قال : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يقول : يصطفيك ويختارك بالنبوة . قال : بالحسن ، والجمال ، والمحبة في القلوب . { وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } يعني : من تعبير الرؤيا . ويقال : يعني : هي الكتب المنزلة . ويقال : عواقب الأمور ، يعني : يفهمك حتى تكون عالماً بعواقبها { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يعني : يثبتك على الإسلام ، ويقال : بالنبوة والإسلام { وعلى ءالِ يَعْقُوبَ } يعني : إخوة يوسف { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق } وأكرمهما بالنبوة ، وثبتهما على الإسلام .
قال الزجاج وقد فسّر له يعقوب الرؤيا ، فالتأويل أنه لما قال يوسف : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } تأول لأحد عشر نفساً لهم فضل وأنهم يستضاء بهم ، لأن الكواكب لا شيء أضوء منها ، وتأول الشمس والقمر أبويه ، فالقمر الأب ، والشمس الأم ، والكواكب إخوته ، فتأول ليوسف أنه يكون نبياً ، وأن إخوته يكونون أنبياء ، لأنه أعلمه أن الله تعالى يتم نعمته عليه ، وعلى إخوته ، كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق . ويقال : { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ } حين رأى إبراهيم في المنام ذبح ابنه ، فأمره الله تعالى أن يفديه . وروي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يجعل الجد أباً ، ثم يقرأ هذه الآية : { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ } ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يعني : عليم بما صنع به إخوته ، حكيم بما حكم من إتمام النعمة عليه .

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ } قرأ ابن كثير : «آية» بلفظ الوحدان ، وهكذا قرأ مجاهد . يعني : فيه علامة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون : «آيات» بلفظ الجماعة ، وهذا موافق لمصحف الإمام عثمان . حكى أبو عبيدة : أنه رأى في مصحف الإمام هكذا ، ومعنى الآية : أن في خبر يوسف ، وإخوته عبرة وموعظة لمن سأل عن أمرهم .
قال ابن عباس : وذلك أن حبراً من أحبار اليهود ، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وكان قارئاً للتوراة ، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة يوسف كما أنزلت في التوراة ، فقال له الحبر : يا محمد ، من علمكها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله علمنيها . فرجع الحبر إلى اليهود ، فقال لهم : أتعلمون ، والله إن محمداً يقرأ سورة يوسف كما أنزلت في التوراة؟ فانطلق بنفرٍ منهم حتى جاؤوا ، ودخلوا عليه ، فجعلوا يستمعون إلى قراءته ، ويتعجبون ، فقالوا : يا محمد ، من علمكها؟ قال : الله علمنيها ، فنزلت : { لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ } .
وكان بدء أمرهم أن يعقوب عليه السلام كان مع خاله ، وكان لخاله ابنتان إحداهما «لايا» ، ويقال : «لاواه» ، وهي أكبرهما ، والأخرى «راحيل» وهي أصغرهما ، فخطب يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما ، فقال له خاله : هل لك مال؟ قال : لا ولكن أعمل لك . قال : صداقها أن ترعى لي سبع سنين . وفي بعض الروايات ، قال : أن تخدمني سبع سنين . فقال يعقوب : أخدمك سبع سنين ، على أن تزوجني راحيل ، وهي شرطي ، قال : ذلك بيني وبينك ، فرعى له يعقوب سبع سنين ، فلما قضى الأجل زفت إليه الكبرى ، وهي لايا . قال يعقوب : إنك خدعتني ، وإنما أردت راحيل ، فقال له خاله : إنا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة ، فهلمَّ فاعمل لي سبع سنين أخرى ، أزوجك أختها ، وكان الناس يجمعون بين الأختين ، إلى أن بعث الله موسى عليه السلام .
فرعى له سبع سنين ، فزوجه راحيل ، فجمع بينهما ، وكان خاله حين جهزها دفع إلى كل واحدة منهما أمة تخدمها ، فوهبتا الأمتين ليعقوب . فولدت لايا أربعة بنين ، وولدت راحيل اثنين ، وولدت كل واحدة من الأمتين ثلاثة بنين ، فجملة بنيه اثنا عشر سوى البنات .
قال الفقيه أبو الليث : سمعت أهل التوراة يقولون إن أسماء أولاد يعقوب مبينة في التوراة : روبيل ، وشمعون ، ويهوذا ، ولاوي ، فهؤلاء من امرأته لايا . ويوسف ، وبنيامين ، من امرأته الأخرى راحيل . والستة الباقون من الأمتين : خورية ، وبالعربية يساخر ، وزبلون وبالعربية زبالون ، ودون ، ونفتال ، وحوذ وبالعربية حاذ ، وروى بعضهم : خاذ بالخاء ، وأوشر . فأراد يعقوب أن يخرج إلى بيت المقدس ، ولم يكن له نفقة ، وكان ليوسف خال له أصنام من ذهب ، فقالت لايا ليوسف : اذهب واسرق من أصنامه ، فلعلنا نستنفق به .

فذهب يوسف فأخذها ، وكان يوسف أعطف على أبيه ، وكان أحب أولاده إليه . فحسده إخوته مما رأوا من حب أبيه له .
ورأى يوسف في المنام ، أن أحد عشر كوكباً ، والشمس ، والقمر ساجدين له { إِذْ قَالُواْ } عند ذلك { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } بنيامين ، { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } يعني : جماعة عشرة ، فهو يؤثرهما علينا ، في المنزلة والحب ، { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : في خطأ بَيِّنٍ في حب يوسف وأخيه ، حيث قدم الصغيرين في المحبة علينا ، ونحن جماعة ، ونفعنا أكثر من نفعهما . وقال مقاتل : كان فضل حُسْنِ يوسف على الناس في زمانه ، كفضل القَمَرِ ليلة البدر على سائر الكواكب . وقال القتبي : العصبة : ما بين العشرة إلى الأربعين .
ثم قال بعضهم لبعض : { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا } بعيداً من أبيكم { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقول : ليقبل لكم أبوكم بوجهه ، ويصف لكم وجهه . ويقال : يصلح حالكم عند أبيكم ، وتكونوا من بعدِهِ قوماً صالحين . يعني : تصلح أحوالكم عند أبيكم ، بعد ذهاب يوسف . ويقال : وتكونوا من بعد هلاكه قوماً تائبين إلى الله تعالى . وقال بعض العلماء : هكذا يكون المؤمن يهيىء التوبة قبل المعصية .

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)

قوله تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } يعني : من إخوة يوسف { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } فإن قتله عظيم . وقال الكلبي : كان صاحب هذا القول : يهوذا ، لم يكن أكبرهم ، ولكن كان أعقلهم . وقال قتادة ، والضحاك : صاحب هذا القول : روبيل ، وكان أكبر القوم سناً . { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } يعني اطرحوه في أسفل الجب . وقال الزجاج : الغيابة كل ما غاب عنك أو غيب شيئاً عنك . قرأ نافع : غيابات بلفظ الجماعة ، وقرأ الباقون غَيَابَة ، لأن المعنى على موضع واحد . وروي عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : { غَيَابَةِ الجب } . وقال الزجاج : الجُبُّ : البئر . التي ليست بمطوية سميت جُبًّا ، لأنها قطعت قطعاً ، ولم يحدث فيها غير القطع .
ثم قال : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } يعني : يأخذه بعض من يمر عليه من المسافرين { إِن كُنتُمْ فاعلين } يعني : إن كنتم لا بد فاعلين من الشر الذي تريدون . وروي عن الحسن ، ومجاهد ، أنهما قرآ : { ***تلتقطه } بالتاء ، ومعناه : تلتقطه السيارة ، وينصرف إلى المعنى . فلما قال لهم ذلك يهوذا أو روبيل ، أطاعوه في ذلك ، وجاؤوا إلى أبيهم و { قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا * مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } أن ترسله معنا ، { وَإِنَّا لَهُ لناصحون } يعني : لحافظون . ويقال : محبون مشفقون . قرأ أبو جعفر القارىء المدني : { لاَ تَأْمَنَّا } بجزم النون ، وقرأ الباقون بإشمام النون إلى الرفع ، لأن أصلها تأمننا ، فأدغمت إحداهما في الأخرى ، وأقيم التشديد مقامه ، وبقي رفعه .
ثم قال : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً } يعني : أخوة يوسف قالوا لأبيهم : أرسل يوسف معنا إلى الغنم { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } قال مجاهد : يحفظ بعضنا بعضاً ، ونتحارس . وقال قتادة : نشط ، ونسعى ، ونلهو . وقال القتبي : من قرأ بتسكين العين ، أي نأكل يقال : رتعت الإبل إذا رعت ، ومن قرأ بكسر العين ، أراد به نتحارس ، ويرعى بعضنا بعضاً ، أي : يحفظ . قرأ ابن كثير : { ***نَرْتَعِ } بالنون وكسر العين ، { نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } بالنون . وقرأ نافع : { يَرْتَعْ } بالياء وكسر العين ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } بالياء وجزم العين ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر : { نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } بالنون وجزم العين . واتفقوا في جزم الباء .
قال أبو عبيدة ، قلت لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ قال : لم يكونوا يومئذٍ أنبياء . قال أبو الليث رحمه الله : لم يريدوا به اللعب الذي هو منهيّ عنه ، وإنما أرادوا به المطايبة في خروجهم ، وفيه دليل أن القوم إذا خرجوا من المصر ، فلا بأس بالمطايبة والمزاح ، في غير مأثم . ويقال : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } يعني : يجيء ويذهب ، حتى يتشجع ويترجل . ويقال : حتى نجمع النفع والسرور .
{ وَإِنَّا لَهُ لحافظون } لا يصيبه أذًى ولا مكروه ، وإنا مشفقون عليه { قَالَ } لهم يعقوب : { إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } يعني : إنَّ ذهابكم به ليحزنني .

قرأ نافع : { لَيَحْزُنُنِى } بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ الباقون بنصب الياء ، وضم الزاي . ومعناهما واحد . ثم قال { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } يعني : أخاف أن تضيعوه فيأكله الذئب ، { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون } يعني : مشغولين في أمركم . قرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ونافع ، في رواية ورش : { ***الذِّيبُ } بغير همز . وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان . وروي عن بعض الصحابة ، أنه قال : لا ينبغي أن يلقن الخصم بحجة ، لأن إخوة يوسف كانوا لا يعلمون أن الذئب يأكل الناس ، إلى أن قال ذلك يعقوب ، وإنما قال ذلك يعقوب ، لأنه رأى في المنام أن ذئباً كان يعدو على يوسف فأنجاه بنفسه .

قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

{ قَالُواْ } يعني : إخوة يوسف { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } يعني : جماعة عشرة { إِنَّا إِذَا لخاسرون } يعني : لعاجزين . فلما قالوا ذلك رضي بخروجه ، فبعثه معهم ، وأوصاهم عند خروجه ، أن يحسنوا إليه ، ويتعاهدوا أمره ، ويردوه إذا طلب الرجوع . فقبلوا ذلك منه . ويقال : إنه أبى أن يرسله معهم ، حتى أتوا يوسف ، فقالوا له : اطلب من أبيك ليبعثك معنا ، وطلب يوسف ذلك من أبيه ، فبعثه معهم .
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } يعني : فلما برزوا به إلى البَريَّة { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } يقول : واتفقوا أن يلقوه في أسفل الجب ، ثم أظهروا له العداوة فجعل أحدهم يضربه فيستغيث ، فيضربه الآخر ، فجعل لا يرى منهم رحيماً ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه . فقال يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ، وهي بئر على رأس فرسخين من كنعان ، ويقال : أربع فراسخ ، فجعلوا يدلونه في البئر ، فيتعلق بشفة البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه . فقال : يا إخوتاه ، ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب ، فقالوا : ادع الأحد عشر كوكباً ، والشمس ، والقمر يؤنسوك فدلوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ، وأرادوا أن يموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة في البئر ، وقام عليها وجعل يبكي . فجاءه جبريل يؤنسه ويطعمه .
قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ } يعني : لتخبرهم { بِأَمْرِهِمْ هذا } يعني : بصنيعهم هذا بمصر { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : لا يعرفونك بمصر . ويقال : معناه وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ، وهم لا يشعرون ، أن الله تعالى أوحى إليه ، وهم لا يعرفون . ويقال : لما أرادوا أن يلقوه في البئر ، تعلق بإخوته ، فقال له جبريل : لا تتعلق بهم فإنك تنجو من البئر . فألقوه حتى وقع في قعرها ، فارتفع حجر حتى قام عليه ، ثم إنهم أخذوا جدياً من الغنم فذبحوه ، ثم لطخوا القميص بدمه .
{ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } يعني : أقبلوا إلى أبيهم عشاء يبكون ، فلما سمع أصواتهم يعقوب ، فزع وقال : يا بني ما لكم { قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا * إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } يعني : ويقال : نتصيَّد ننتضل ، أي يسابق بعضنا البعض في الرمي ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب } فلما قالوا هذا القول : بكى يعقوب ، وصاح بأعلى صوته : ثم قال : أين قميصه؟ فأخذ القميص وبكى ، ثم قال إن هذا الذئب كان بابني رحيماً ، كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ وروى سماك ، عن عامر ، أنه قال : في قميص يوسف ثلاث آيات ، حين قُدَّ قميصه من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه ، فارتد بصيراً ، وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب ، على أن الذئب لو أكله لخرق قميصه .

فقال لهم كذبتم ، فقالوا له : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } يعني : بمصدق لنا في مقالتنا { وَلَوْ كُنَّا صادقين } في مقالتنا { وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } يعني : بدم السخلة ولم يكن دم يوسف . ويقال : بدم كذب أي مكذوب به . وقرأ بعضهم : { بِدَمٍ } بالدال ، يعني : بدم طري . فأروه القميص بالدم ليعرف به ، وهي قراءة شاذة ، وقراءة العامة بالذال { كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } يقول : زينت واشتهت لكم أنفسكم أمراً ، فضيعتموه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يعني : على صبر جميل ، بلا جزع . ويقال : معناه لا حيلة لي إلا الصبر . ويقال : فصبري صبر جميل .
وروي عن بعض الصحابة ، أنه كان يقرأ { سَرَاحاً جَمِيلاً } ، يعني : أصبر صبراً جميلاً . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قوله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال « صبر لا شكوى فيه ، ومن بث فلم يصبر » . ثم قال : { والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } يقول : أستعين بالله ، وأطلب العون من الله ، على ما تقولون ، وتكذبون من أمر يوسف .

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

قوله تعالى :
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ } أي : قافلة يمرون من قبل مدين إلى مصر ، فنزلوا بقرب البئر ، { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } أي : طالب مائهم ، ويقال : أرسل كل قوم ساقيهم ليستقي لهم الماء ، فجاء مالك بن ذعر إلى الجب ، الذي فيه يوسف ، { فأدلى دَلْوَهُ } يقول أرخى ، وأرسل دلوه في البئر ، فتعلق يوسف بالدلو ، فنظر مالك بن ذعر ، فإذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان .
{ قَالَ يَاءادَمُ * بُشْرىً ***** هذا غُلاَمٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { ***يَا بُشْرَايَ } بالألف والياء ، ونصب الياء ، وقرأ عاصم : { الرياح بُشْرىً } بنصب الراء وسكون الياء ، وقرأ نافع ، في رواية ورش : بالألف والياء مع السكون { ***يَا بُشْرَايْ } ، وكذلك يقرأ في { رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } و { ***مَحْيَايَ } و { هِىَ عَصَاىَ } ، بسكون بالياء . وقرأ حمزة ، والكسائي : { ***يَا بُشْرِي } بغير ألف ، وسكون الياء ، وكسر الراء .
فمن قرأ : { ***يا بشرَايَ } ، يكون بمعنى الإضافة إلى نفسه ، ومن قرأ : { الرياح بُشْرىً } يكون على معنى تنبيه المخاطبين ، كقوله يا عجبَا ، وإنما أراد به : اعجبوا ، ومن قرأ : { الرياح بُشْرىً } ، كأنه اسم رجل دعاه باسمه بشرى ، وقال أبو عبيدة : هذه القراءة تقرأ ، لأنها تجمع المعنيين ، إن أراد به الاسم ، أو أراد به البشرى بعينها .
وقال السدي : تعلق يوسف بالحبل ، فخرج فلما رآه صاحب الدلو ، نادى رجلاً من أصحابه ، يقال له البشرى ، وقال : يا بشراي ، هذا غلام . وقال قتادة وغيره : إنه بشر واردهم حين وجد يوسف .
ثم قال : { وَأَسَرُّوهُ بضاعة } يعني : التُّجار بعضهم من بعض ، وقال بعضهم لبعض : اكتموه من أصحابكم لكيلا يسألوكم فيه شركة ، فإن قالوا لكم ما هذا الغلام؟ قولوا : استبضعنا بعض أهل الماء ، لنبيعه لهم بمصر ، فذلك قوله : { وَأَسَرُّوهُ بضاعة } يعني : أسروه ، وأعلنوه بضاعة ، فرجع إخوته بعد ثلاثة أيام ، فرأوا يوسف في أيديهم ، فقالوا : هذا غلام أبق منا منذ ثلاثة أيام ، فقيل لهم : ما بال هذا الغلام لا يشبه العبيد ، وإنما هو يشبهكم؟ فقالوا : إنما وُلِدَ في حجرنا وإنه ابن وليدة أمنا ، أمرتنا ببيعه . وقالوا ليوسف بلسانهم : لئن أنكرت أنك عبد لنا ، أخذناك ونقتلك . أترى أنا نرجع بك إلى يعقوب أبداً ، وقد أخبرناه أن الذئب قد أكلك . فقال : يا إخوتاه ارجعوا بي إلى أبي ، ضامن لكم رضاه ، وأنا لا أذكر لكم هذا أبداً . فأبوا عليه فذلك قوله تعالى { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } يعني : بما يصنع به إخوته .
قوله تعالى { وَشَرَوْهُ } بثمن ، يعني : باعوه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } يعني : ظلماً وحراماً لم يحل بيعه . ويقال : بدراهم رديئة ويقال : البخس : الخسيس { دراهم مَعْدُودَةٍ } أي : يسير عددها . وقال مجاهد : البخس القليل ، والمعدودة : عشرين درهماً ، وقال : كان في ذلك الزمان ، ما كان فوق الأوقية ، وزنوه وزناً وما كان دون الأوقية عدّوه عداً .

وقال بعضهم : باعوه بعشرة دراهم لأن اسم الدرهم يقع على ما بين الثلاثة إلى العشرة ، فأصاب كل واحد منهم درهماً .
وروي عن الضحاك ، أنه قال : باعوه باثني عشر درهماً ، وقال ابن مسعود بيع بعشرين درهماً ، وقال عكرمة : البخس : أربعون درهماً ، وقال بعضهم : لم يبعه إخوته ولكن الذين وردوا الماء ، وجدوه في البئر ، وأخرجوه من البئر ، فباعوه بثمن بخس ، دراهم معدودة ، وهو قول المعتزلة ، لأن مذهبهم أن الأنبياء معصومون عن الكبيرة قبل النبوة ، لأن الكبيرة عندهم تخرج المؤمن عن الإيمان ، وعند أهل السنة ، الكبيرة لا تخرج المؤمن عن الإيمان . وجاز جريان المعصية قبل النبوة وقال عامة المفسرين : إن إخوته باعوه وروي عن ابن عباس : أن إخوته باعوه بعشرين درهماً ، وكتب يهوذا شراءه على رجل منهم .
ثم قال : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين } يعني : الذين اشتروه لم يعلموا بحاله وقصته . ويقال : يعني : إخوة يوسف ، في ثمنه لم يكونوا محتاجين إليه . ثم إن مالك بن ذعر ، لما أدخله مصر باعه . قال مقاتل : باعه بعشرين ديناراً ، ونعلين ، وحلة . وقال الكلبي : بعشرين درهماً ، ونعلين ، وحلة . وقال بعضهم : باعه بوزنه فضة . وقال بعضهم : باعه بوزنه ذهباً . وقال وهب بن منبه : باعه مالك بن ذعر ، بعدما عرضه في بيع «من يزيد» ، ثلاثة أيام ، فزاد الناس بعضهم على بعض ، حتى بلغ ثمنه بحيث لا يقدر أحد عليه ، فاشتراه عزيز مصر ، وكان خازن الملك وصاحب جنوده لامرأته زليخا ، بوزنه مرة مسكاً ، ومرة لؤلؤاً ، ومرة ذهباً ، ومرة فضة ، ومرة حللاً ، وسلم إليه كلها .

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ } قال ابن عباس : كان اسمه قطيفر ، وهو العزيز ، قال لامرأته ، واسمها : زليخا { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } يعني : منزله وولايته { عسى أَن يَنفَعَنَا } في ضياعنا وغلاتنا ، على وجه التبرك به { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } يقول : نتبناه فيكون ابناً لنا . وروى ابن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز ، حين قال لامرأته { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا } وبنت شعيب التي قالت { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين } [ القصص : 26 ] وأبو بكر ، حين تفرَّس في عمر وولاه من بعده .
قال الله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض } يعني : في أرض مصر ، وهي أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } يعني : كي يلهمه تعبير الرؤيا ، وغير ذلك من العلوم ، { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } إذا أمر بشيء ، لا يقدر أحد أن يرد أمر الله تعالى ، إذا أراد بأحد من خلقه . ويقال : { والله * تَعَالَى ***** غَالِبٌ على أَمْرِهِ } ، يعني : وليته فيتم أمر يوسف ، الذي هو كائن { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : أهل مصر . ويقال : يعني : أهل مكة لا يعلمون أن الله تعالى غالب على أمره .
قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } يعني : تمت قوة نفسه ، وعقله . ويقال : بلغ مبلغ الرجال . ويقال : الأشد بلوغ ثلاثين سنة . وقال الضحاك : يعني : بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة . ويقال الأشد : ما بين ثماني عشرة سنة ، إلى ثمان وثلاثين سنة { اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي : أكرمناه بالنبوة ، والعلم ، والفهم ، والفقه ، فجعلناه حكيماً ، وعليماً ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } يعني : هكذا نكافىء من أحسن . ويقال : هكذا نجزي المخلصين في العمل ، بالفهم والعلم .
قوله تعالى { وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } يعني : راودته عما أرادت عليه ، مما تريد النساء من الرجال ، فعلم بذكره ذكر الفاحشة ، ومعناه : طلبت إليه أن يمكنها من نفسه ، يعني : امرأة العزيز واسمها زليخا { وَغَلَّقَتِ الابواب } عليها ، وعلى يوسف ، وجعلت تغره وتمازحه ، ويوسف يعظها بالله ، ويزجرها . ويروى عن ابن عباس ، أنه قال : كان يوسف إذا تبسم ، رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلم ، رأيت شعاع النور في كلامه ، يذهب من بين يديه ، ولا يستطيع آدمي أن ينعت نعته . فقالت له : يا يوسف ما أحسن عينيك قال : هما أول شيء يسيلان إلى الأرض من جسدي . ثم قالت : يا يوسف ما أحسن ديباج وجهك قال : هو للتراب يأكله . ثم قالت : يا يوسف ما أحسن شعرك قال : هو أول ما ينتشر من جسدي . { وَقَالَتِ } : يا يوسف ، { هَيْتَ لَكَ } .

قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، { هَيْتَ } بنصب الهاء والتاء ، يعني : أقبل ، ويقال : هلم إليّ ، والعرب تقول : هيت فلان لفلان ، إذا دعاه وصاح به ، وهكذا قرأ ابن مسعود وابن عباس والحسن ، وقرأ ابن عامر في رواية هشام { ***هِئْتُ } بكسر الهاء والهمز وضم التاء ، بمعنى تهيأت لك ، وقرأ ابن كثير { وَقَالَتْ هَيْتَ } لك بنصب الهاء وضم التاء ، ومعناه أنا لك ، وأنا فداؤك ، وقرأ نافع وابن عامر في إحدى الروايتين { هَيْتَ } بكسر الهاء ونصب التاء ، بغير همز . { قَالَ مَعَاذَ الله } يعني : قال يوسف : أعوذ بالله أن أعصيه وأخونه . { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } يعني : إن سيدي الذي اشتراني أحسن إكرامي ، فلم أكن لأفعل بامرأته ذلك . { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } يعني : لا ينجو الزناة من عذاب الله تعالى ، وفي هذه الآية دليل أن معرفة الإحسان واجب ، لأن يوسف امتنع عنها لأجل شيئين لأجل المعصية والظلم ، ولأجل إحسان الزوج إليه .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } روى حماد بن سلمة ، عن الكلبي أنه قال : كان من همها أنها دعته إلى نفسها واضجعت وهَمَّ بها بالموعظة والتخويف من الله تعالى ، وقيل إنه حلَّ سراويله ، وجلس بين رجليها { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } يقول : مثل له يعقوب في الحائط عاضاً على شفتيه ، فاستحيى ، فتنحى بنفسه ، وقال وهب بن منبه : لم تزل تخدعه حتى همَّ بها ، ودخل معها في فراشها ، فنودي من السماء . مهلاً يا يوسفُ فإنك لو وقعت في الخطيئة محي اسمك عن ديوان النبوة . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن قوله { لَقَدِ *** هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ما بلغ من همه؟ قال : أطلق هميانه فنودي يا يوسف لا تكن كالطائر له ريش فزنى ، فسقط ريشه . ويقال : كان همها هم إرادة وشهوة ، وهمه همّ اضطرار وغلبة . وقال بعضهم : كان همه حديث النفس والفكر ، وحديث النفس والفكر مرفوعان . وقال بعضهم : { هُمْ * بِهَا } يعني : يضربها . وقال بعضهم : يعني : هم بالفرار عنها . وقال بعضهم : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } تم الكلام ، ثم { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } يعني : لما رأى البرهان لم يهم بها ، فقد قيل هذه الأقاويل ، والله أعلم . وقد روي في الخبر أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همَّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا ، ولكنهم كانوا معصومين من الفواحش .
قوله تعالى : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : مثل له يعقوب ، فضرب بيده على صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
وقال محمد بن كعب { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } قال : لولا أن قرأ القرآن من تحريم الزنى ، وذلك أنه استقبل بكتاب لله تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
قال الله تعالى { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء } يقول : هكذا صرفت السوء والفحشاء عن يوسف بالبرهان ، حين استعاذ إليّ بقوله : معاذ الله .
ثم قال : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بالتوحيد والطاعة . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { المخلصين } بكسر اللام ، ومعناه ما ذكرناه . وقرأ الباقون { المخلصين } بالنصب ، يعني : المعصومين من الذنوب والفواحش ، ويقال : أخلصه الله تعالى بالنبوة والرسالة والإسلام .

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

قوله تعالى : { واستبقا الباب } يعني : تبادرا إلى الباب ، يعني : يوسف وزليخا . أما يوسف ، فاستبق ليخرج من الباب ، وأما زليخا فاستبقت لتغلق الباب على يوسف ، فأدركته قبل أن يخرج ، فتعلقت به قبل أن يخرج من الباب . { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } يعني : مزقت قميصه من خلفه . { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } يعني : صادفَ ، ووجدا سيدها { لدى الباب } يعني : زوجها عند الباب . { قَالَتْ } زليخا لزوجها : { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } يعني : قالت لزوجها : { مَا جَزَاء } ، يعني : ما عقاب { مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } يعني : قصد بها الزنى { إِلا أَن يُسْجَنَ } يعني : يحبس في السجن . { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : يضرب ضرباً وجيعاً ، وذلك أن الزوج قال لهما ما شأنكما؟ قالت له زليخا : كنت نائمة في الفراش عريانة ، فجاء هذا الغلام العبراني ، وكشف ثيابي ، وراودني عن نفسي ، فدفعته عن نفسي ، فانشق قميصه . { قَالَ } يوسف : بل { هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } يعني : دعتني إلى نفسها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قال مجاهد : قميصه شاهد أنه قَدْ قُدَّ من دبر فظهر أن الذنب لها بتلك العلامة . وروي عن ابن عباس أنه قال : كان صبي في المهد لم يتكلم بعد فتكلم ، وقال { إِن كَانَ * قَدْ ***** قَمِيصَهُ مِن ***** قَبْلُ } الآية . وقال قتادة : كان رجلاً حكيماً من أهلها . ويقال : كان رجلاً من خواصِّ الملك . وروي عن عكرمة أنه قيل له إنه صبي قال : لا ، ولكنه رجل حكيم . وقال الحسن : كان رجلاً له رأي ، فقال برأيه . وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : كان زوجها على الباب مع ابن عم لها يقال له ممليخا ، وكان رجلاً حكيماً ، فقال : قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب ، ولا ندري أيكما قدام صاحبه؟ إن كان قد شقّ القميص من قدامه فأنت صادقة فيما قلت ، وإن كان مشقوقاً من خلفه فهو صادق ، فنظروا إلى قميصه ، فإذا هو مشقوق من خلفه ، فذلك قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } يعني : زليخا { وَهُوَ } يعني : يوسف { مِنَ الكاذبين } . { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } ، يعني : زليخا { وَهُوَ } يعني : يوسف { مِنَ الصادقين } وذلك أن الرجل لا يأتيها إلا مقبلاً . { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } يعني : مقدوداً من دبر { قَالَ } ابن العم { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } يعني : صنيعكن ، ويقال قال الزوج : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } يعني : صنيعكن عظيم يخلص إلى البريء والسقيم والصالح والطالح . وفي هذه الآية دليل أن القضاء بشهادة الحال جائز وقال بعض الحكماء : سمى الله كيد الشيطان ضعيفاً ، وسمى كيد النساء عظيماً لأن كيد الشيطان بالوسوسة والخيال ، وكيد النساء بالمواجهة والعيان .
ثم أقبل على يوسف فقال : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } يعني : يا يوسف أعرض عن هذا القول ، ولا تذكره ، واكتم هذا الحديث .
ثم أقبل عليها فقال : { واستغفرى لِذَنبِكِ } يعني : توبي وارجعي عن ذنبك ، ويقال ابن عمها هو الذي قال لها : واستغفري لذنبك ، يعني : اعتذري إلى زوجك من ذنبك . { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } يعني : من المذنبين . وفشا ذلك الخبر في مصر وتحدثت النساء فيما بينهن .

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)

قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المدينة } قال الكلبي : ( هنَّ ) أربع نسوة امرأة ساقيه يعني : ساقي الملك ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة صاحب الدوابّ . ويقال هن خمس ، خامستهن امرأة صاحب الملك . ويقال : أربعون امرأة . ويقال : جماعة كثيرة من النساء اجتمعت في موضع ، وقلن فيما بينهنّ { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المدينة امرأت العزيز } يعني : تطلب عبدها وتدعوه إلى نفسها . { قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ } قال : الحسن أي شق شغاف قلبها حبه . وقال عامر الشعبي : الشغوف المحب ، والمشغوف المحبوب . وقال القتبي : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } بلغ الحب شغافها ، وهو غلاف القلب ، قال : ومن قرأ شغفها أي فتنها من قولك فلان شغوف بفلانة . ويقال : شغف الشيء إذا علاه { قَدْ شَغَفَهَا } أي علاها . ويقال : أهلكها ، فلا تعقل غيره { إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : في خطأ بيّن . ويقال : في عشق بيّن . أي : لا تعقل غيره .
قوله تعالى : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } يعني : سمعت زليخا بمقالتهن . وإنما سمَّي قولهنّ مكراً والله أعلم ، لأن قولهن لم يكن على وجع النصيحة ، والنهي عن المنكر . ولكن كان على وجه الشماتة والتعيير . { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } فدعتهن { ***وَأعَدَّتْ لَهُنَّ متكأ } أي : اتخذت لهن وسائد يتكين عليها . وذلك أنها اتخذت ضيافة ، ودعت النساء ، ووضعت الوسائد لجلوسهن . وقال الفراء : من قرأ متكاً غير مهموز فإنه الأترج . وكذلك قال ابن عباس .
روى منصور عن مجاهد أنه قال : من قرأ مثقلة قال : يعني : الطعام ، ومن قرأ : مخففة قال الأترج . ويقال : الزُّمَّاوَرْد وهو نوع من التمر . وقال عكرمة كل شيء يقطع بالسكين { فِى ضلال مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } يعني : أعطت زليخا كل واحدة من النسوة سكيناً ، وأمرت يوسف بأن يلبس أحسن ثيابه ، وزيّنته أحسن الزينة { وَقَالَتِ } له { اخرج عَلَيْهِنَّ } يعني : اخرج على النساء فخرج عليهن . روى أبو الأحوص عن ابن مسعود قال : أوتي يوسف وأمه ثلث حسن الناس ، في الوجه ، والبياض ، وغير ذلك . وكانت المرأة إذا رأت يوسف ، غطّى وجهه مخافة أن تفتن به . فلما خرج يوسف إلى النسوة غطى نفسه فنظرن إليه { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } يقول : أعظمنه . أي : أعظمن شأنه ، وتحيرن ، وبقين مدهوشات ، طائرة عقولهن ، { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } يقول : حززن ، وخدشن أيديهن بالسكين ، ولم يشعرن بذلك { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } يعني : معاذ الله { مَا هذا بَشَرًا } قرأ بعضهم : بالرفع . وقرأ بعضهم { مَا هذا } يعني : مثل هذا لا يكون بشراً . وقراءة العامة ما هذا بشراً بنصب الراء والتنوين ، لأنه خبر «ما» . ولأنه صار نصباً لنزع الخافض . ومعناه : { للَّهِ مَا هذا بَشَرًا } يعني : مثل هذا لا يكون آدمياً { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } يعني : على ربه .

فإن قيل : إنهن لم يرين الملك فكيف شبّهنه بشيء لم يرينه؟ قيل له : لأن المعروف عند الناس ، أنهم إذا وصفوا أحداً بالحسن ، يقولون : هذا يشبه الملك ، وإن لم يروا الملائكة ، كما أنهم إذا وصفوا أحداً بالقبح ، يقولون : هو كالشيطان ، وإن لم يروا الشيطان . قرأ أبو عمرو { يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } بالألف . وقرأ الباقون : بغير ألف . وكذلك الذي بعده { قَالَتْ } زليخا للنسوة { فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } يقول : عذلتنني فيه وعبتنني فيه فهل عذرتنني؟ فقلن لها : أنت معذورة . قالت : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } يعني : طلبت إليه أن يمكنني من نفسه { فاستعصم } أي فامتنع بنفسه مني { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } يعني : احبسنه في السجن { وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين } يعني : من المهانين بالسجن . ويقال : مذللين . وقرأ بعضهم { لَّيَكُونُنَّ } بتشديد النون وهذا خلاف مصحف الإمام . وقراءة العامة : { وَلَيَكُونًا } لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف بالألف .
{ قَالَ رَبّ } يقول : يا سيدي { السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى } النسوة { إِلَيْهِ } من العمل القبيح . قرأ بعضهم { قَالَ رَبّ السجن } بنصب السين على معنى المصدر . يقال : سجنته سَجْناً وهي قراءة شاذة . وقراءة العامة بالكسر يعني : نزول بيت السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، يعني به : امرأة العزيز خاصة . ويقال : أراد به النسوة اللاتي حضرن هناك ، لأنهن قلن له : أطع مولاتك ، ولا تخالفها ، فإن لها عليك حقاً . وقد اشترتك بمالها وهي تحسن إليك ، وتحبك ، وتطلب هواك . فقال : { رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ } وقال بعض الحكماء : لو أنه قال : رب العافية أحَبُّ إليّ ، لعافاه الله تعالى . ولكن لما نجا بدينه ، لم يبال بما أصابه في الله .
ثم قال : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } يعني : إذا لم تصرف عني عملهن وشرهن { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : أمل إليهن { وَأَكُن مّنَ الجاهلين } يعني : من المذنبين .

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)

قوله تعالى : { فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } فيما دعاه { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } يعني : فعلهن ، وشرهن . { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } يسمع لمن دعاه . يعني : { السميع } للدعاء فيما دعاه يوسف { العليم } به .
ثم إن المرأة قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني لا ينقطع عني ، وقد فضحني في الناس ، يعتذر إليهم ويخبرهم ، أنني راودته عن نفسه ، ولست أطيق أن أعتذر بعذري . فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس ، وأخبرهم بحالي . وإما أن تحبسه حتى ينقطع حديثه فذلك قوله تعالى { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات } يعني : ثم بدا للزوج من بعد ما رأى شق القميص ، وقضاء ابن عمها بينهما { لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ } قال الكلبي : سجنه خمس سنين . ويقال : { حتى حِينٍ } يعني : إلى يوم من الأيام وإلى وقت من الأوقات .
قوله تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ } يعني : حبس معه في السجن الخباز ، والساقي . عبدان للملك غضب عليهما . يعني : صاحب شرابه ، وصاحب مطعمه { قَالَ أَحَدُهُمَا } ليوسف { إِنّى أَرَانِى } في المنام { أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني : عنباً بلغة عمان . قال الضحاك : إن ناساً من العرب يسمون العنب خمراً . ويقال : معناه أعصر العنب الذي يكون عصيره خمراً ، وذلك أنه قال : رأيت في المنام ، كأني دخلت كرماً فيه حبلة حسنة ، فيها ثلاث من القضبان ، وفي القضبان ثلاثة عناقيد ، عنب قد أينع ، وبلغ ، فأخذته وعصرته في الكأس ، ثم أتيت به الملك فسقيته .
{ وَقَالَ الآخر إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا } يقول : رأيت في المنام ، كأني أحمل فوق رأسي ثلاث سلال خبزاً { تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } يقول : أخبرنا بتفسير هذه الرؤيا { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } أي : من الموحدين . وذلك أنه ينصر المظلوم ، ويعين الضعيف ، وكان يداوي مرضاهم ، ويعزي مكروبهم . فإذا احتاج واحد منهم ، قام وجمع له شيئاً . ويقال : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } يعني : من الصادقين في القول . ويقال : كان متعبداً لربه . ويقال : كان أهل السجن يجتمعون عنده ، ويسألونه أشياء ، فيخبرهم . فقالا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } يعني : نراك عالماً ، وقد أحسنت العلم { قَالَ } لهما يوسف عليه السلام { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } يعني : تطعمانه { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } يقول : أخبرتكما بتفسيره ، وألوانه { قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } الطعام . وإنما أراد بذلك ، أن يبيّن لهما علامة نبوته . وهذا مثل قول عيسى عليه السلام لقومه : { وَرَسُولاً إلى بنى إسراءيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أنى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الاكمه والابرص وَأُحْىِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 49 ] فلما أخبر يوسف بذلك ، قالا وكيف تعلم ولست بساحر ، ولا عرّاف ، ولا كاهن؟ قال يوسف : { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } أراد أن يبيّن لهما علامة نبّوته لكي يسلما .
ثم قال : { إِنّى تَرَكْتُ } يعني : تبرأت من { مِلَّةَ قَوْمٍ } يعني : دين قوم { لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } أي : لا يصدّقون بوحدانيته { وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون } يعني : بالبعث جاحدون . ثم :

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)

قال تعالى : { واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } يعني : دينهم { مَا كَانَ لَنَا } أي : ما جاز لنا { أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء } من الآلهة { ذلك مِن فَضْلِ الله } يعني : ويقال ذلك الإرسال ، الذي أرسل إليه بالنبوة من فضل الله { وَعَلَيْنَا *** وَعَلَى الناس } يعني : المؤمنين { ولكن أَكْثَرَ الناس } يعني : أهل مصر { لاَ يَشْكُرُونَ } النعمة .
ثم دعاهما إلى الإسلام فقال : { يَشْكُرُونَ ياصاحبى السجن } يعني : الخباز والساقي { مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ } أي : الآلهة وعبادتها { خَيْرٌ أَمِ } عبادة { الله الواحد القهار } .
ثم قال : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أي : من الآلهة { لاَ يَعْلَمُونَ ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاخر } يعني : لا عذر ، ولا حجة لعبادتكم إياها ، { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ما القضاء في الدنيا والآخرة إلا لله { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } يعني : أمر في الكتاب أن لا تطيعوا في التوحيد إلا إياه { ذلك الدين القيم } يعني : التوحيد الدين المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا عوج فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس } يعني : أهل مصر { لاَّ يَعْلَمُونَ } أن دين الله هو الإسلام .
ثم أخبرهما بتأويل الرؤيا ، بعد ما نصحهما ودعاهما إلى الإسلام ، وأخذ عليهما الحجة ، فقال : { يَعْلَمُونَ ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا } وهو الساقي . قال له يوسف : تكون في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج ، فتكون على عملك ، وتسقي سيدك خمراً . قراءة العامة { فَيَسْقِى } بنصب الياء . يقال : سَقَيْتُهُ إذا ناولته . وقرأ بعضهم { فَيَسْقِى } من أسقيته إذا جعلت له ساقياً . يعني : تتخذ الشراب الذي يسقي الملك .
ثم بيّن تأويل رؤيا الآخر فقال : { وَأَمَّا الاخر } وهو الخباز { فَيُصْلَبُ } يعني : يخرج من السجن بعد ثلاثة أيام ويصلب { فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } . فلما أخبرهما يوسف بتأويل الرؤيا ، قالا : ما رأينا شيئاً فقال لهما يوسف عليه السلام : { قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } يعني : تسألان . رأيتماها أو لم ترياها ، قلتما لي ، وقلت لكما ، فكذلك يكون . وروى إبراهيم النخعي عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إنهما كانا تحالما ليجرّباه . فلما أوَّلَ رؤياهما ، قالا : إنما كنا نلعب ، قال يوسف : { قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } .

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)

قوله تعالى : { وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } يعني : قال يوسف عليه السلام للذي علم أنه ينجو من السجن والقتل ، وهو الساقي { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } قال يوسف للساقي : إذا دعاك الملك ، وسقيته ، فاذكرني عنده إني مظلوم قد عدا عليّ إخوتي فباعوني . { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ } يعني : أنسى الشيطان يوسف أن يستغيث بالله ، فاستغاث بالملك ، وقال الفراء : أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { فَأَنْسَاهُ الشيطان } قال : هو يوسف . أنساه الشيطان ذكر ربه ، وأمره بذكر الملك ، وابتغى الفرج من عنده { فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } بقوله : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } .
وروى معمر عن قتادة أنه قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لَوْ لَمْ يَسْتَعِنْ يُوسُفُ عَلَى رَبِّهِ ، لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ » . وروي عن أبي عبيدة أنه قال : البضع ما دون نصف العقد . يعني : من واحد إلى أربعة . وقال الأصمعي : ما بين الثلاث إلى التسع . هكذا قال قطرب ، والسدي . وروى منصور عن مجاهد قال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع . وذكر عبد العزيز بن عمير الكندي ، أن يوسف رأى جبريل في السجن . فقال له : يا أبا المنذرين ، ما لي أراك بين الخاطئين؟ فقال له جبريل : يا طاهر الطاهرين ، رب العزة يُقْرِئُكَ السلام ، ويقول : أما استحيت مني إذ استغثت بالآدميين ، فبعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين . قال بعضهم : يعني سبع سنين ، سوى الخمس الذي مكث فيه . وذلك اثنتا عشرة سنة . وقال بعضهم : جميع ما أقام فيه سبع سنين . وقال بعضهم : ثماني عشرة سنة . وقال بعضهم : إن الملك رأى في المنام ، واسم الملك ريان بن الوليد فذلك قوله تعالى : { وَقَالَ الملك إِنّى أرى } يعني : رأيت في المنام { سَبْعَ بقرات سِمَانٍ } خرجن من نهر مصر { يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ } بقرات { عِجَافٌ } هزلى ، فابتلع العجاف السمان ، فدخلن في بطونهن ، فلم يرَ منهنّ شيء ، ورأيت { وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات يأَيُّهَا *** أَيُّهَا *** الملا } يعني : العرافين ، والسحرة ، والكهنة ، { أَفْتُونِى فِى رؤياى } يعني : عبروا رؤياي ، وبيّنوا تفسيرها { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أي : تفسرون { قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } يعني : أباطيل الأحلام مختلطة { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام بعالمين } يعني : ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل . وقال أهل اللغة كل رؤيا لا تأويل لها ، فهي { أضغاث أَحْلاَمٍ } أي : أباطيل الأحلام واحدها ضغث .

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا } وهو الساقي { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } يعني : تذكر بعد حين . يعني : بعد سبع سنين . وقال الزجاج : أصل ادكر اذكر . ولكن التاء أبدلت بالدال وأدغم الذال في الدال . وقال القتبي : الأمة الصنف من الناس ، والجماعة كقوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ثم تستعمل الأمة في الأشياء المختلفة . يقال للإمام : أمة كقوله : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] لأنه سبب للاجتماع . ويسمى الدين أمة كقوله : { بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] أي : على دين ، لأن القوم يجتمعون على دين واحد ، فيقام ذلك اللفظ مقامه . ويسمى الحين أمة كقوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } وكقوله : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [ هود : 8 ] وإنما سمي الحين أمة أيضاً ، لأن الأمة من الناس ينقرضون في حين ، فيقام الأمة مقام الحين وقرأ بعضهم { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } يعني : بَعْدَ بعُدَ نسيانٍ يقال : أمَهْتُ أي : نسيت . وقال الفراء : يقال رجل مأموه ، كأنه ليس معه عقل فلما تذكر الساقي حال يوسف ، جاء وجثا بين يدي الملك ، وقال : { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } يعني : بتأويل ما رأيت من الرؤيا . وروي عن الحسن : أنه كان يقرأ : { أَنَاْ *** ءاتِيكُمْ *** بِتَأْوِيلِهِ } ، وقراءة العامة { أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } فقال : وما يدريك يا غلام ، ولست بمعبّر ، ولا كاهن؟ فقصَّ عليه أمره الذي كان وقت كونه في السجن برؤيته ، وتعبير يوسف لها ، وصدق تعبيره على نحو ما وصفه له . وأخبره بحال يوسف وحكمته ، وعلمه ، وفهمه ، { فَأَرْسِلُونِ } يعني : أرسلوني أيها الملك إلى يوسف . خاطبه بلفظ الجماعة ، كما يخاطب الملوك . فأرسله الملك . فلما جاء إلى يوسف في السجن ، ودخل عليه ، واعتذر إليه بما أنساه الشيطان ذكر ربه ، وقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } والصديق كثير الصدق : يعني : أيها الصادق فيما عبرت لنا { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } هزلى { وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس } يعني : إلى أهل مصر { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } قَدْرك ، ومنزلتك . ويقال : إلى الناس ، يعني إلى الملك ، لكي يعلم مكانك ، فيكون ذلك سبباً لخلاصك إذا علم تعبير رؤياه . فعبر يوسف ورؤياه وهو في السجن ، فقال : أما السبع البقرات السمان ، فهي سبع سنين خصب . أما السبع العجاف ، فهي سبع سنين شدة وقحط ، ولا يكون في أرض مصر البر . وأما السبع السنبلات الخضر ، فهي الخصب ، واليابسات هي القحط .

{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا } يعني : ازرعوا لسبع سنين { دَأَبًا } يعني : دائماً { فَمَا حَصَدتُّمْ } من الزرع { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } يعني : في كعبره . فهو أبقى لكم ، لكي لا يأكله السوس إذا كانت في الكعبرة ، { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ } يعني : تدرسون بقدر ما تحتاجون إليه ، فتأكلون .
{ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك } الخصب { سَبْعٌ شِدَادٌ } يعني : مجدبات { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } يعني : للسنين . ويقال : { مَا قَدَّمْتُمْ } يعني : ما جمعتم { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } يعني : تدّخرون ، وتحرزون .
{ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك } القحط { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس } يعني : يمطر الناس . والغيث : المطر . ويقال : هو من الإغاثة يعني : يغاثون بسعة الرزق { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يعني : ينجون من الشدة ويقال يعصرون العنب ، والزيتون . قرأ حمزة والكسائي : { ***تَعْصِرُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة . يعني : الناس وقرأ بعضهم { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } بضم الياء ، ونصب الصاد ، يعني : يمطرون من قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] فرجع الساقي إلى الملك ، وأخبره بذلك ، { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ } قال بعضهم : كان الملك رأى الرؤيا ، ونسيها ، فأتاه يوسف ، فأخبره بما رأى ، وأخبره بتفسيره . ولكن في ظاهر الآية ، أن الملك كان ذاكراً لرؤياه ، وأن يوسف عبّر رؤياه وهو في السجن . قبل أن ينتهي إلى الملك { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ } يعني : بيوسف { فَلَمَّا جَاءهُ الرسول } برسالة الملك ، أنَّ الملك يدعوك { قَالَ } يوسف للرسول { ارجع إلى رَبّكَ } يعني : إلى سيدك وهو الملك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة *** التى **قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } يعني : سله حتى يتبيّن أني مظلوم في حبسي أو ظالم { إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } يعني : إن سيدي وخالقي ، عالم بما كان منهن . قال : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا إبراهيم الدبيلي . قال : حدّثنا أبو عبيد الله ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَوْلا الكَلِمَةُ الَّتِي قَالَ يُوسُفُ { لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ } ما لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبَثَ وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَكَرَمِهِ ، وصَبْرِهِ ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أنا الَّذِي دُعِيتُ إلى الخُرُوجِ لَبَادَرْتُهُمْ إلى البَابِ ، وَلكِنْ أَحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ العُذْرُ بِقَوْلِهِ { فَلَمَّا جَاءهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة *** التى **قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } » قال ابن عباس لو خرج يوسف حين دعي ، لم يزل في قلب الملك منه شيء . فلذلك { قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة } .

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

قوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ } وذلك أن الملك أرسل إلى النسوة ، وجمعهن ، ثم سألهنّ فقال : { مَا خَطْبُكُنَّ } يعني : ما حالكن ، وشأنكن ، وأمركن ، { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } يعني : طلبت امرأة العزيز إلى يوسف المراودة عن نفسه ، هل ليوسف في ذلك ذنب؟ فأخبرن الملك ببراءة يوسف { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ } يعني : معاذ الله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } يعني : ما رأينا منه شيئاً من الفاحشة ، ولم يكن له ذنب . فلما رأت امرأة العزيز ، أن النسوة شهدن عليها ، اعترفت على نفسها ، وأقرت بذلك ، فذلك قوله تعالى : { قَالَتِ امرأت العزيز الئن حَصْحَصَ الحق } يعني : ظهر الحق ، ووضح . ويقال : استبان . قال زجاج : هو في اللغة من الحصة أي : بانت حصة الحق ، وجهته من حصة الباطل ، ومن جهته { أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ } يعني : طلبت إليه أن يمكنني من نفسه { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } أي : إنه لم يراودني وهو صادق فيما قال ذلك اليوم . قال يوسف عند ذلك إنما فَعَلَت { ذلك لِيَعْلَمَ } العزيز { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } لم أخن في امرأته ، إذا غاب عني ، فذلك قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } يعني : لا يرضى عمل الزانين . وروى إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } قال : هو يوسف لم يخن العزيز في امرأته . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما قال يوسف { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } قال له جبريل عند ذلك : ولا يوم هممت بما هممت به . قال يوسف عليه السلام : { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } يعني : من الهم الذي هممت به { إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء } يعني : بالمعصية . ويقال : القلب آمر للجسد بالسوء ، والإثم . يقال في اللغة : إذا أمرت النفس بشيء ، هي آمرة . وإذا أكثرت الأمر ، يقال : هي أمارة . فقال : { إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء } يعني : مائلة إلى الشهوات { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } إلا من عصم الله تعالى من المعصية { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ } للهم الذي هممت به { رَّحِيمٌ } حين تاب عليّ وعصمني وغفر لي

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)

قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } يعني : أجعله في خاصة نفسي . فلما خرج يوسف من السجن ، ودّع أهل السجن ، ودعا لهم ، وقال : اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم ، ولا تستر الأخبار عنهم . فمن ثمة تقع الأخبار عند أهل السجن ، قبل أن تقع عند عامة الناس . ولما دخل يوسف على الملك وكان الملك ، يتكلم سبعين لساناً ، فأجابه يوسف بذلك كله . ثم تكلم يوسف بالعبرانية ، فلم يحسنها الملك ، فقال : ما هذا اللسان يا يوسف؟ قال : هذا لسان آبائي إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب عليهم السلام .
ثم كلمه بالعربية ، فلم يحسنها الملك . فقال : ما هذا اللسان؟ فقال : لسان عمي إسماعيل { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } أي : قال له الملك { مَّكِينٍ } في المنزلة { أَمِينٌ } على ما وكلتك . قَالَ له يوسف عليه السلام : { اجعلنى على خَزَائِنِ الارض } يعني : على خراج مصر { إِنّى حَفِيظٌ } للتدبير . ويقال : { حَفِيظٌ } بما وكلت به { عَلِيمٌ } بجميع الألسن . ويقال : عليم بأخذها ، ووضعها مواضعها . وإنما سأل ذلك صلاحاً للخلق ، لأنه علم أنه ليس أحد يقوم بإصلاح ذلك الأمر مثله . ويقال : { حَفِيظٌ } يعني : عليماً بساعة الجوع . وكان الملك يأكل في كل يوم نصف النهار . فلما كانت الليلة التي قضى الله بالقحط ، أمر يوسف بأن يتخذ طعام الملك بالليل . فلما أصبح الملك ، قال : الجوع الجوع . فأتي بطعام مهيىء . قال : وما يدريكم بذلك؟ قالوا : أمرنا بذلك يوسف . ففوض الملك أموره كلها إلى يوسف ، وهو قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } يعني : صنعنا ليوسف { فِى الارض } يعني : أرض مصر { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } يعني : ينزل منها { حَيْثُ يَشَاء } . قرأ ابن كثير { حَيْثُ نَشَاء } بالنون يعني : حيث يشاء الله . وقرأ الباقون : بالياء { حَيْثُ يَشَاء } يوسف { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء } نختص بنعمتنا ، النبوة ، والإسلام ، والنجاة من نشاء { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } يعني : لا نبطل ثواب الموحدين ، حتى نوفيّه جزاءه في الدنيا ، ومع ذلك له ثواب في الآخرة ، فذلك قوله تعالى : { وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ } يعني : ثواب الآخرة أفضل مما أعطي في الدنيا { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي : صدقوا بوحدانية الله تعالى { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الشرك .
وروي في الخبر ، أن زوج زليخا مات . وبقيت امرأته زليخا . فجلست يوماً على الطريق ، فمر عليها يوسف في حشمه . فقالت زليخا : الحمد لله الذي جعل العبد ملكاً بطاعته ، وجعل الملك مملوكاً بشهوته ، وتزوجها يوسف فوجدها عذراء ، وأخبرت أن زوجها كان عنيناً ، لم يصل إليها . ثم وقع القحط بالناس حتى أكلوا جميع ما في أيديهم ، واحتاجوا إلى ما عند يوسف .

وقد كان يوسف جمع في وقت الخصب ، مقدار ما يكفي السنين المجدبة للأكل والبيع ، فجعل الناس يعطونه أموالهم ، العروض ، والرقيق ، والعقار ، وغير ذلك . ويأخذون منه الطعام . ووقع القحط بأرض كنعان ، حتى أصاب آل يعقوب الحاجة إلى الطعام . فقال يعقوب لبنيه : إنهم يزعمون أن بمصر ملكاً يبيع الطعام ، فخرج بنو يعقوب وهم عشرة نحو مصر ، حتى أتوا يوسف فدخلوا عليه ، وعليه زي الملك فلم يعرفوه ، وعرفهم يوسف وكلموه بالعبرانية ، فأرسل يوسف إلى الترجمان ، وهو يعلم لسانهم . ولكنه أراد أن يشتبه عليهم ، فذلك قوله تعالى : { وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ } يعني : عرف يوسف أنهم إخوته { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } يعني : لم يعرفوا أنه يوسف . لأنهم رأوه في حال الصغر ، وكان يوسف على زي الملوك ، بخلاف ما كانوا رأوه في الصغر .
روى أسباط عن السدي وغيره ، قال : استعمله الملك على مصر ، وكان صاحب أمره الذي يلي البيع والتجارة . فبعث يعقوب بنيه إلى مصر فلما دخلوا على يوسف ، عرفهم . فلما نظر إليهم ، قال : أخبروني ما أمركم؟ فإني أنكر شأنكم . قالوا : نحن قوم من أرض الشام . قال : فما جاءكم؟ قالوا : جئنا نمتار طعاماً . قال : كأنكم عيون . كم أنتم؟ قالوا : عشرة . قال : أنتم عشرة آلاف . كل رجل منكم أمير ألف . فأخبروني خبركم . قالوا : إنا إخوة بنو رجل ، صديق ، وإنا كنا اثني عشر ، فكان أبونا يحب أخاً لنا ، وهو هلك في الغنم ، ووجدنا قميصه ملطخاً بالدم ، فأتينا به أبانا ، فكان أحبنا إلى أبينا منا . قال : فإلى من سكن منكم أبوكم بعده؟ قالوا : إلى أخ له أصغر منه . قال : فكيف تخبروني أنه صديق ، وهو يختار الصغير منكم دون الكبير؟ وكيف تخبروني أنه هلك ، وبقي قميصه؟ فلو : كان اللصوص قتلوه ، لأخذوا قميصه ، ولو كان الذئب أكله ، لمزق قميصه . فأرى كلامكم متناقضاً . احبسوهم . ثم قال : إن كنتم صادقين في مقالتكم ، فخلفوا عندي بعضكم ، واتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ } قالوا : اختر أينا شئت ، فارتهن شمعون ، ثم أمر بوفاء كيلهم ، فذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } يعني : كال لهم كيلهم ، وأعطى كل واحد منهم حمل بعير ، ثم { قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } يعني : أفضل من يضيف ، ويكرم الذي نزل به { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ } أي : بالأخ { فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى } فيما تستقبلون { وَلاَ تَقْرَبُونِ } يعني : ولا تستقبلوا إليَّ مرة أخرى ، فإني لا أعطي لكم الطعام . قال الزجاج : القراءة بالكسر يعني : بكسر النون وهو الوجه . ويجوز { وَلاَ تَقْرَبُونِ } بفتح النون ، لأنها نون الجماعة كما قال : { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] بفتح النون . قال : ويكون { وَلاَ تَقْرَبُونِ } لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : النهي .

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

قوله تعالى : { قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } يعني : سنطلب من أبيه أن يبعثه معنا { وَإِنَّا لفاعلون } يعني : لصانعون ذلك فنطلبه من أبيه ليبعثه ويقال : وإنا لضامنون ذلك { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص { لِفِتْيَانِهِ } بالألف والنون وقرأ الباقون { ***لِفِتَيْتِهِ } . فقال أهل اللغة : الفتيان والفتية بمعنى واحد ، وهم الغلمان والخدم . يعني : قال يوسف لغلمانه وقومه الذين يكيلون يعني الطعام { واجعلوا *** بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ } يعني : دسوا دراهمهم في رحالهم . يعني : في جواليقهم { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } يعني : يعرفون كرامتي عليهم { إِذَا انقلبوا } يعني : إذا رجعوا { إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } الثانية . قال الفراء : فيها قولان . أحدهما أن يوسف خاف ألا يكون عند أبيهم دراهم ، فجعل البضاعة في رحالهم ، لعلهم يرجعون ، ولا يتأخرون عن الرجوع بسبب الدراهم . والقول الآخر : أنهم إذا عرفوا بضاعتهم ، وقد اكتالوا الطعام ، ردوها عليه ، ولا يستحلون إمساكها ، لأنهم أنبياء الله تعالى ، لا يستحلون إمساك مال الغير { فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل } فيما نستقبل يعني : الحنطة ، وأخبروه بالقصة . قالوا : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا } بنيامين { نَكْتَلْ } يعني : يشتري هو ، ويكيلون لنا { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من الضيعة حتى نرده إليك . قرأ حمزة والكسائي { ***يَكْتَلْ } بالياء . وقرأ الباقون بالنون . فمن قرأ بالياء ، يعني : هو يكتال لنفسه ، لأنهم كانوا لا يبيعون من كل رجل إلا وقراً واحداً . ومن قرأ بالنون ، فمعناه : أن الملك قد أخبر أنه لا كيل لنا في المستقبل . فلو أرسلته معنا ، فإنا نكتال منه ، فلما أخبروه بذلك { وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ } يعقوب عليه السلام { هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ } يعني : هل أئتمنكم عليه { إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ } يوسف { مِن قَبْلُ } ومعناه : هكذا قلتم لي في أمر يوسف ، ولا أقدر أن آخذ عليكم من العهد أكثر ما أخذت عليكم في يوسف من قبل . قرأ ابن مسعود : هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل { فالله خَيْرٌ حافظا } منكم إن أرسله معكم { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } حين أطعته ولا بد أن أرسله قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { حافظا } بالألف . وقرأ الباقون { حافظا } بغير ألف ، والحافظ الاسم ، والحفظ : المصدر .

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

قوله تعالى : { وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم } يعني : أوعيتهم وجواليقهم { وَجَدُواْ بضاعتهم } يعني : دراهمهم { رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ } لأبيهم { قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِى } يعني : ما نكذب . إنه ألطف علينا وأكرمنا { هذه بضاعتنا } أي : دراهمنا { رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } يعني : نمتار لأهلنا . يقال : مار أهله ، وأمار لأهله ، إذا حمل إليهم قوتهم من غير بلده . يعني : ابعثه معنا ، لكي نحمل الطعام لأهلنا { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } من الضيعة { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } أي : حمل بعير من أجله .
روى الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة ، أنه كان يقرأ { رُدَّتْ إِلَيْنَا } بكسر الراء ، لأن أصله رددت . فأدغمت إحدى الدالين بالأخرى ، ونقل الكسر إلى الراء وهي قراءة شاذة .
ثم قال : { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } يعني : سريع ، لا حبس فيه إن أرسلته معناه ويقال : ذلك أمر هين الذي نسأل منك .
{ وَقَالَ } لهم يعقوب { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } يعني : تعطوني عهداً وثيقاً من الله { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } قال الكلبي : إلا أن ينزل بكم أمر من السماء ، أو من الأرض . وروى معمر عن قتادة أنه قال : إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك . وقال مجاهد : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } يعني : تهلكوا جميعاً . وقال الفراء : إلا أن يأتيكم من أمر الله تعالى ما يعذركم .
{ فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } يعني : أعطوه عهودهم { قَالَ } يعقوب { الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } يعني : كفيلاً . ويقال : شهيداً .
ثم : { قَالَ يَاءادَمُ *** بَنِى *** لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } قال يعقوب لبنيه ، حين أرادوا الخروج : يا بني لا تدخلوا من باب واحد . يعني : إذا دخلتم مصر ، فلا تدخلوا من سكة واحدة ، ومن طريق واحد؛ ويقال : من درب واحد { وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } يعني : من سكك متفرقة ، ومن طرق شتى . لكي لا يظن بكم أحد ، أنكم جواسيس . ويقال : خاف يعقوب عليهم العين لجمالهم ، وقوتهم ، وهم كلهم بنو رجل واحد . فإن قيل : أليس هذا بمنزلة الطيرة ، وقد نهي عن الطيرة قيل له : لا . ولكن أمر العين حق . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي من العين ، ويتعوذ منها للحسن والحسين .
ثم قال : { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله } يعني : من قضاء الله { مِن شَىْء إِنِ الحكم } يعني : ما القضاء { أَلاَ لِلَّهِ } إن شاء أصابكم العين ، وإن شاء لم يصبكم . { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } يعني : فوضت أمري ، وأمركم إليه { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } يعني : فليثق الواثقون .
قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } من السكك المتفرقة { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مّنَ الله مِن شَىْء } يعني : حذرهم لا يغني من قضاء الله من شيء .

يعني : إن العين لو قدرت أن تصيبهم ، لأصابتهم وهم متفرقون ، كما تصيبهم وهم مجتمعون { إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ } يعني : حزازة في قلبه ، وهي الحزن { قَضَاهَا } يعني : أبداها ، وتكلم بها . ويقال : معناه لكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ } يعني : علم يعقوب أنه لا يصيبهم إلا ما أراد الله تعالى ، وقدر عليهم . وعلم أن دخولهم في سكك متفرقة ، لا ينفعهم من قضاء الله تعالى من شيء . ويقال : معناه أنه عالم بما علمناه . ويقال : { لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ } أي : لتعليمنا إياه . ويقال : لذو حظ لما علمناه .
ثم قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنه لا يصيبهم إلا ما قدر الله تعالى عليهم .

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } يعني : إخوته { اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } يعني : ضمّ إليه أخاه بنيامين { قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } قال بعضهم : أخبره في السر أنه أخوه . وقال بعضهم : لم يخبره . ولكن معناها : إني لك كأخيك الهالك . فأنزلهم يوسف منزلاً ، وأجرى عليهم الطعام والشراب ، فلما كان الليل أتاهم بالفرش ، وقال : لينام كل أخوين منكم على فراش واحد . ففعلوا . وبقي الغلام وحده فقال يوسف : هذا ينام معي على فراشي . فبات معه يوسف ، يشم ريحه . ويقال : لما كان عند الطعام ، أمر كل اثنين ليأكلا في قصعة واحدة ، وبقي بنيامين وحده ، فبكى وقال : لو كان أخي في الأحياء ، لأكلت معه . فقال له يوسف : إني أنا أخوك ، يعني : بمنزلة أخيك { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يقول : لا تحزن بما يعيرون يوسف ، وأخاه بشيء .
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } يعني : كال لهم كيلهم { جَعَلَ السقاية } يعني : وضع ودس الإناء { فِى رَحْلِ أَخِيهِ } بنيامين ، فخرجوا ، وحملوا الطعام ، وذهبوا . فخرج يوسف على أثرهم ، حتى أدركهم { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } يعني : نادى منادٍ بينهم ، واسم المنادي أفرايم من فتيان يوسف . قال : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } إناء الملك ، فانقطعت ظهورهم ، وساء ظنهم .
قوله تعالى : { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } يعني : وأقبلوا إليهم { مَّاذَا تَفْقِدُونَ } يعني : ماذا تطلبون { قَالُواْ } يعني : قال النادي والغلمان { نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } قال قتادة : إناء الملك الذي يشرب فيه . وقال عكرمة : هو إناء من فضة . وقال سعيد بن جبير : هو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه ، وكانت الأعاجم تشرب فيه . وروى سعيد بن حبير ، عن ابن عباس أنه قال : كان إناء من فضة مثل المكوك ، وكان للعباس واحد منها في الجاهلية . وروي عن أبي هريرة أنه قرأ : { وَقَالَ الملك } يعني : الصاع الذي يكال به الحنطة . وقرأ بعضهم : { وَقَالَ الملك } . وقرأ يحيى بن عمرو { وَقَالَ الملك } بالغين . يعني : إناء مصوغاً . وقراءة العامة { صُوَاعَ الملك } يعني : الإناء وهي المشربة من فضة . وكان الشرب في إناء الفضة مباحاً في الشريعة الأولى . وأما في شريعتنا ، فالشراب في إناء الفضة حرام .
ثم قال : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } يعني : قال المنادي : من جاء بالصوع ، فله حمل بعير من بر ، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } يعني : أنا كفيل بتسليمها إليه ، لأن الملك يتهمني في ذلك .
{ قَالُواْ تالله } يعني : قال إخوة يوسف والله { لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارض } يعني : ما جئنا لنعمل بالمعاصي في أرض مصر ، ونخون أحداً . { وَمَا كُنَّا سارقين } وكان الحكم في أرض مصر للسارق الضرب والتضمين ، وكان الحكم بأرض كنعان ، أنهم يأخذون السارق ، ويسترقونه ، ففوضوا الحكم إلى بني يعقوب ، ليحكموا بحكم بلادهم { قَالُواْ } يعني : المؤذن وأصحابه لأولاد يعقوب { فَمَا جَزَاؤُهُ } يعني : فما جزاء السارق { إِن كُنتُمْ كاذبين *** قَالُواْ } يعني : إخوة يوسف { جَزَاؤُهُ } يعني : عقابه { مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ } يعني : في وعائه { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } يعني : الاستعباد جزاء سرقته { كذلك نَجْزِى الظالمين } يعني : هكذا نعاقب السارق في سنة آل يعقوب .

{ فَبَدَأَ } يعني : المنادي ، ويقال : يوسف { بِأَوْعِيَتِهِمْ } يعني : أوعية إخوته ، وطلب في أوعيتهم { قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ } فلم يجد فيها . وروى معمر عن قتادة أنه قال : كلما فتح متاع رجل ، استغفر الله تائباً مما صنع ، حتى بقي متاع الغلام ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئاً ، قالوا : بلى ، فاستبرأه ، فطلب ، فوجد فيه ، فاستخرجها من وعاء أخيه ، فلما استخرجت من رحله ، انقطعت ظهور القوم ، وتحيروا ، وقالوا : يا بنيامين لا يزال لنا منكم بلاءً ما لقينا من ابني راحيل . فقال بنيامين : بل ما لقي ابنا راحيل منكم ، فأما يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم ، وأما أنا فسرقتموني . قالوا : فمن جعل الإناء في متاعك؟ قال : الذي جعل الدراهم في متاعكم . فسكتوا . فذلك قوله { ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاء أَخِيهِ كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } يعني : كذلك صنعنا ليوسف ، والكيد : الحيلة . يعني : كذلك احتلنا له وألهمناه الحيلة .
ثم قال : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } يعني : في قضاء ملك مصر ، لأنه لم يكن في قضائه أن يستعبد الرجل في سرقته .
ثم قال : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } يعني : وقد شاء الله أن يأخذه بقضاء أبيه . ويقال : ما كان يقدر أن يأخذ في ولاية الملك بغير حكم ، إلا بمشيئة الله تعالى . ويقال : إلا أن يشاء الله ذلك ليوسف .
ثم قال : { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } يعني : من نشاء بالفضائل . وقرأ أهل الكوفة { نَرْفَعُ درجات } بتنوين التاء . وقرأ الباقون : { درجات مَّن نَّشَاء } بغير تنوين ، على معنى الإضافة { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } يعني : ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه ، حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى . وروى وكيع ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، أن رجلاً سأل علياً عن مسألة . فقال فيها قولاً . فقال الرجل : ليس هو كذا ، ولكنه كذا . فقال : عليّ أصبتَ وأخطأت { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } . وروي عن سعيد بن جبير ، أن ابن عباس حدث بحديث ، فقال : رجل عنده : الحمد لله { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } فقال ابن عباس : إن الله هو العالم وهو فوق كل عالم .

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)

{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ } يعني : قال إخوة يوسف : إن يسرق بنيامين { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } يعنون يوسف { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ } يعني فأضمر الكلمة يوسف { فِى نَفْسِهِ } أي في قلبه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } يعني : لم يعلن لهم جواباً { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } يعني : صنيعاً من يوسف ، لأن يوسف سرق الوثن ، وأنتم تسرقون الصواع . وذلك أن يوسف كان سرق صنماً من ذهب من خاله لاوي وقال قتادة : ذكر لنا أنه سرق صنماً ، كان لجده أب أمه . فعيّروه بذلك . فقال : أنتم شر مكاناً ، لأن سرقتكم قد ظهرت ، وسرقة أخيه لم تظهر إلا بقولكم ، ولا ندري أنتم صادقون في مقالتكم أم لا . { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } يعني : بما تقولون . وروى عكرمة عن ابن عباس . قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : حين هَمَّ ، فسجن . وحين قال : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } وحين قال : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } فردوا عليه ، وقالوا : فقد سرق أخ له من قبل .
قوله تعالى : { قَالُواْ يأَبَانَا *** أَيُّهَا *** العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } يعني : ضعيفاً حزيناً على ابن له مفقود { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } رهناً { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إن فعلت ذلك إلينا ، فقد أحسنت إلينا الإحسان كله . ويقال : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } يعني : من أتاك من الآفاق فأحسن إلينا ف { قَالَ مَعَاذَ الله } يعني : أعوذ بالله { أَن نَّأْخُذَ } رهناً { إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لظالمون } لو أخذنا غيره .
قوله تعالى : { فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ } يعني : من بنيامين أن يرد عليهم ويقال أيسوا من الملك أن يقضي حاجتهم { خَلَصُواْ نَجِيّا } يعني : اعتزلوا ، يتناجون بينهم ، ليس معهم غيرهم . { قَالَ كَبِيرُهُمْ } يعني : كبيرهم في العقل ، وهو يهوذا . ولم يكن أكبرهم في السن . وهذا في رواية الكلبي ، ومقاتل . وقال مجاهد : { كَبِيرُهُمْ } أي : أعلمهم وهو شمعون . وكان رئيسهم . وقال قتادة : { كَبِيرُهُمْ } في السن روبيل ، وهو الذي أشار إليهم ألا يقتلوه { أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله } يعني : عهداً من الله في هذا الغلام { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } أي : لتردنه إليَّ { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } يعني : ما تركتم ، وضيعتم العهد في أمر يوسف من قبل هذا الغلام { فَلَنْ أَبْرَحَ الارض } يعني : فلن أزال في أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لِى *** رَبّى } أي : حتى يبعث إليَّ أحداً أن آتيه { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } فيرد عليّ أخي بنيامين { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } يعني : أعدل العادلين ، وأقضى القاضين .

وروى أسباط ، عن السدي . أنه قال : كان بنو يعقوب إذا غضبوا ، لن يطاقوا . فغضب روبيل ، فقال : أيها الملك ، والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة ، لا تبقى امرأة حامل ، إلا ألقت ما في بطنها ، وقامت كل شعرة في جسده ، فخرجت من ثيابه . وقال ابن عباس : كان يهوذا إذا غضب ، وصاح ، لم تسمع صوته امرأة حامل ، إلا وضعت حملها ، وتقوم كل شعرة في جسده . فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه ، فيسكن . فقال يوسف لابن له صغير : اذهب وضع يدك عليه ، فذهب ووضع يده عليه ، فسكن غضبه ، فقال : إن في هذا الدار أحداً من آل يعقوب .
ثم قال لإخوته : { ارجعوا إلى أَبِيكُمْ } يعني : قال يهوذا { فَقُولُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ } أي : سرق الصواع ، يعني : إناء الملك . وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { سَرَقَ } بضم السين وكسر الراء مع التشديد ، يعني : اتهم بالسرقة { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أي : وما قلنا إلا ما رأينا حين أخرج من رحله { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } يعني : وما كنا نرى أنه سرق ، ولو علمنا ما ذهبنا به . ويقال : إنا لم نطلع على أنه سرق ولكنهم سرقوه .

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

قوله تعالى؛ { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا } يعني : أهل القرية . قال الكلبي : وهي قرية من قرى مصر . ويقال : هي مصر بعينها . ويقال : هو المنزل المؤذن فيه ، إنكم لسارقون { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } يعني : سل أهل العير الذين كانوا معنا من أرض كنعان { وِإِنَّا لصادقون } في قولنا . فرجعوا إلى يعقوب بذلك القول ، فاتهمهم ، فقال : كلما خرجتم من عندي ، نقصتم واحداً ، ذهبتم مرة ، فنقصتم يوسف . وذهبتم مرة ، فنقصتم شمعون . وذهبتم الآن ، ونقصتم بنيامين . فقد صرتم كالذئاب ، يأكل بعضهم بعضاً .
ثم قال تعالى : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } قال يعقوب اشتهت ، وزينت لكم قلوبكم { أمْراً } فصنعتموه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يعني : عليّ صبر جميل ، حسن ، من غير جزع ، لا أشكو فيه إلى أحد { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } يعني : لعل الله أن يرد عليّ يوسف ، ويهوذا ، وبنيامين { إِنَّهُ هُوَ العليم } بمكانتهم { الحكيم } أن يردهم عليّ .
قوله تعالى : { وتولى عَنْهُمْ } يعني : أعرض عن بنيه وخرج عنهم { وَقَالَ يأَبَتِ *** دَخَلُواْ على يُوسُفَ } يعني : يا حزناً ، والأسف : أشد الحسرة { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } يعني : من البكاء { فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني : مغموماً ، مكروباً ، يتردد الحزن في جوفه . والكظيم والكاظم بمعنى واحد مثل القدير والقادر . وهو المتمسك على حزنه ، لا يظهره ، ولا يشكوه . وروي عن الحسن أنه قال : مكث يعقوب ثمانين سنة ، ما تجف دموعه ، ولا يفارق قلبه الحزن يوماً ، وما كان على الأرض يومئذٍ أحد أكرم على الله منه . قال : وألقي يوسف في الجب ، وهو يومئذٍ ابن سبع سنين ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعدما جمع الله شمله ثلاثاً وعشرين سنة . وروي عن ابن عباس أنه قال : غاب يوسف عنه اثنين وعشرين سنة . وقال سعيد بن جبير : ما أعطيت أمة من الأمم { الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون } [ البقرة : 156 ] غير هذه الأمة ، ولو كان أوتيها أحد قبلكم لأوتيها يعقوب حين قال : { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } وروي عن إبراهيم بن ميسرة أنه قال : لو أن الله أدخلني الجنة ، لعاتبت يوسف بما فعل بأبيه ، حيث لم يكتب إليه ، ولم يعلمه حاله ، ليسكن ما به من الغم .

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)

قوله تعالى : { قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } يعني : لا تزال تذكر يوسف { حتى تَكُونَ حَرَضاً } أي : دنفاً من الوجع . ويقال : حتى تبلى وتهرم . وقال القتبي : لا تحذف من الكلام ، ويراد إثباتها ، لقوله : { ***تفتؤ } أي : لا تزال . كقوله : { تَالله تَفْتَأُ } وكقول { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ ترفعوا أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] أي : أن لا تحبط . وقال الربيع بن أنس : حتى تكون بالياً ، يابس الجلد ، وقال محمد بن إسحاق : حتى تكون حرضاً يعني : لا عقل لك { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } يعني : من الميتين . وقال مجاهد : الحرض ما دون الموت والهالك الميت { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى } يعني : همي وغمي { إِلَى الله } لما رأى من فظاظتهم ، وسوء لفظهم ، ولا أشكو ذلك إليكم . وقال القتبي : البث أشد الحزن ، إنما سمي الحزن البث ، لأن صاحبه لا يصبر عليه ، حتى يبثه أي : يفشوه .
ثم قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أن يوسف حي ، وليس بميت . وإنما كان يعلم ذلك من تحقيق رؤيا يوسف ، حين رأى في المنام أحد عشر كوكباً ، أن ذلك سيكون . ويقال : إن يعقوب رأى ملك الموت في المنام ، وسأله هل قبضت روح قرة عيني يوسف؟ قال : لا . ولكن هو في الدنيا حي ، فلذلك قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
ثم قال تعالى : { تَعْلَمُونَ يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ } يعني : انطلقوا إلى مصر ، فاطلبوا خبر يوسف { وَأَخِيهِ } قالوا له : أما بنيامين فلا نترك الجهد في أمره ، وأما يوسف فإنه ميت ، وإنا لا نطلب الأموات . فقال لهم يعقوب : { وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } يعني : لا تقنطوا من رحمة الله { يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن } يعني : الجاحدون للنعمة .
قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } يعني : رجعوا إلى يوسف ، ودخلوا عليه { قَالُواْ يأَبَانَا *** أَيُّهَا *** العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } يعني : أصابنا ، وأهلنا الجوع { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } قال الحسن يعني : قليلة . ويقال : نفاية . وكان لا يؤخذ في الطعام ، ويؤخذ في غيره ، لأن الطعام كان عزيزاً . فلا يؤخذ فيه إلا الجيد . وعن عبد الله بن الحارث في قوله : { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } قال : متاع الأعراب الصوف ، والسمن ، ونحو ذلك . وعن ابن عباس قال : يعني جئنا بدراهم رديئة . وقال سعيد بن جبير بدراهم زيوف { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } يعني : أتمم لنا الكيل { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } يعني : تفضل علينا باستيفائه منا ، مكان الجيد ، وتصدق علينا ، ما بين الثمنين . يعني : ما بين الجيد والرديء { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } يعني : يثيبهم في الآخرة بما صنعوا .

وقال ابن عباس : لو علموا أنه مسلم ، لقالوا : إن الله يجزيك بالصدقة . يعني : إنه كان يلبس عليهم ، فلا يعرفون حاله ، ومذهبه . فأخرج يوسف الكتاب الذي كان كتبه يهوذا حين باعوا يوسف ، ودفعه إليهم ، فعرف يهوذا خطه ، وقالوا : نحن بعنا هذا الغلام ، إذ كنا نرعى الغنم . فقال لهم : ظلمتم ، وبعتم الحر . فدعا يوسف السيافين ، وأمر بإخوته بأن يقتلوا جميعاً ، فاستغاثوا كلهم ، وصرخوا ، وقالوا : إن لم ترحمنا ، فارحم الشيخ الضعيف . فإنه قد جزع على ولد واحد ، فكيف وقد أهلكت أولاده كلهم . { قَالَ } لهم يوسف { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون } يعني : شابون ، مذنبون ، ووصف لهم ما فعلوا به .

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

{ قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ } قرأ ابن كثير { إِنَّكَ لاَنتَ } بهمزة واحدة ، وكسر الألف . يعني : حققوا أنه يوسف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وابن عامر : { أَءنَّكَ } بهمزتين على معنى الاستفهام . يعني : إنك يوسف أم لا؟ وقرأ نافع وأبو عمرو ، { ***آينك } بهمزة واحدة مع المد . ومعناه : مثل الأول على معنى الاستفهام { يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا } يعني : أنعم علينا بالصبر { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } أي : يتق الله { وَيِصْبِرْ } على البلاء { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي : ثواب الصابرين .
قوله تعالى : { قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا } يعني : إخوة يوسف اعتذروا إليه ، وقالوا : لقد فضلك الله علينا ، واختارك { وَإِن كُنَّا لخاطئين } يقول : وقد كنا لعاصين لله فيما صنعنا بك { قَالَ } يوسف عليه السلام { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } يعني : لا تعيير عليكم اليوم ، ولا عيب ، ولا عار عليكم ، وأصل التثريب : الإفساد . ويقال : أثربت الأمر علينا إذا أفسدت .
ثم قال : { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } فيما فعلتم { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } من غيره .
ثم قال تعالى : { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } وروي عن وهب بن منبه قال : كان القميص من الجنة . وهو القميص الذي ألبس جبريل إبراهيم ، حين ألقي في النار ، فبردت عليه النار ، فصار عند إسحاق ، ثم صار عند يعقوب ، فجعله يعقوب في عوذة ، وعلقه في عنق يوسف ، فكان معه حين ألقي في الجب ، ونزع عنه القميص ، فبشره جبريل ، وألبسه عي ألج ، وكان القميص معه ، وقال لإخوته : { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } وذلك أنه سألهم ، فقال : ما فعل أبي بعدي؟ قالوا : لما فارقه بنيامين ، عمي من الحزن . قال : { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } فألقوه على وجه أبي ، يأت بصيراً ، كما كان أول مرة .
ثم قال : { وَائْتُونِي بَأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } فاختلفوا فيما بينهم . فقال كل واحد منهم : أنا أذهب به . فقال يوسف : يذهب به الذي ذهب بقميصي الأول . فقال يهوذا : أنا ذهبت بالقميص الأول ، وهو ملطخ بالدم ، وأخبرته بأنه قد أكله الذئب ، وأنا اليوم أذهب بالقميص ، فأخبره أنه حي ، وأفرحه ، كما أحزنته . وأمر لهم بالهدايا ، والدواب ، والرواحل ، فتوجهوا نحو كنعان .

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

قوله تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } يعني : خرجت العير من مصر { قَالَ أَبُوهُمْ إنَّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } قال ابن عباس : لما خرجت العير ، هاجت ريح ، فجاءت بريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ، فقال يعقوب : إني لأشم ريح يوسف { لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون } يقول لولا أن تعيروني ، وتجهلوني . يقال : فنده الهرم إذا خلط في كلامه { قَالُوا تَالله إنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } يعني : ولد ولده قالوا ليعقوب : إنك مختلط في الكلام كما كنت في القديم من ذكر يوسف .
قوله تعالى : { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ } يعني : جاء يهوذا بالبشارة { أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ } يعني : دفع القميص إليه ، ووضعه على وجهه ، { فَارْتَدَّ بَصِيراً } يعني : رجع بصيراً كما كان { قَالَ } يعقوب لولد ولده { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنَّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ويقال : قال لولده : ألم أقل لكم حين قلت لكم : { إنَّمَا أشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أن يوسف في الأحياء { قَالُوا يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فاعتذروا إليه ، فيما فعلوا به ، وطلبوا منه أن يستغفر لهم ، واعترفوا بذنبهم ، وقالوا : { إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } . { قَالَ } لهم يعقوب عليه السلام { سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } يعني : عند السحر استغفر لكم . ويقال : معناه سوف استغفر لكم إن شاء الله على وجه التقديم في قوله : { وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِينَ } ، فأخّر الاستغفار ، إلى أن قدموا مصر ، فاستغفر لهم ليلة الجمعة عند السحر { إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } لمن تاب ، ورجع ، وندم على ما فعل ، فخرجوا كلهم بأثقالهم ، وأهاليهم ، ومواشيهم ، وكانوا اثنين وسبعين رأساً ، وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : كان أهل بيت يعقوب حين دخلوا مصر ، ثلاثة وسبعين إنساناً ، رجالهم ونساؤهم ، فخرجوا مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً ، فلما دنوا من مصر ، خرج يوسف بجماعته وحاشيته حتى أدخلهم مصر .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ } أي : ضمّ إليه { أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِينَ } قال أبو عبيدة : هذا من كلام يعقوب ، حيث قال : سوف استغفر لكم إن شاء الله . وكذلك قال ابن جريج . ويقال : هذا من كلام يوسف . قال لهم حين دخلوا مصر : انزلوا بأرض مصر . ويقال : إنما قال لهم قبل أن يدخلوها { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } من الجوع . ويقال : { آمنين } من الخوف ، لأنها أرض الجبابرة .
قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى الْعَرْشِ } يعني : على السرير . أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله . قال مقاتل : يعني أباه وخالته . وكانت أمه راحيل قد ماتت ، وخالته تحت يعقوب ، وعن وهب بن منبه قال : أبوه وخالته . وعن سفيان الثوري مثله ، وهو قول ابن عباس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الخالة أم » . ويقال : إن أمه راحيل قد ماتت في ولادة بنيامين . ولذلك سمي بنيامين ، واليامين وجع الولادة بلسانهم .
ثم قال : { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً } على وجه التقديم ، يعني : { وخرُّوا له سجداً } ورفع أبويه على العرش ، وكانت تحيتهم ، أن يسجد الوضيع للشريف ، فسجد له إخوته ، وأبوه ، وخالته ، { وَقَالَ } يعني يوسف عند ذلك { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } يعني : هذا السجود تحقيق رؤياي من قبل { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } يعني : جعل رؤياي صدقاً . ويقال : كائناً . وروي عن ابن عباس أنه قال : كان بين رؤياه ، وبين ذلك ، اثنان وعشرون سنة . وروى أبو عثمان النهدي ، عن سلمان أنه قال : كان بين رؤياه ، وبين أن رأى تأويلها ، أربعون سنة . وعن عبد الله بن شداد أنه قال : وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة ، وإليه تنتهي الرؤيا . وقال السدي : كان بينهما تسع وثلاثون سنة . وقال : حين رأى رؤياه ، كان يوسف ابن تسع سنين ، فظهر تأويلها وهو ابن أربعين سنة .
ثم قال : { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَني مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } يعني : جاء بكم معافين ، سالمين من البادية . يعني : أرض كنعان و { مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ } يعني : من بعد أن أفسد وألقى الشيطان { بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ } من الفرقة ، والجماعة . ويقال : { لطيف } في فعاله ، إن شاء فرق ، وإن شاء جمع { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بما صنعوا { الْحَكِيمُ } إذ رد عَليّ أبي ، وجمع بيني وبين إخوتي .

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : إن الله تعالى مدح يوسف في هذه السورة ، في ثمانية مواضع . أولها أن أخوته لما فعلوا به ما فعلوا ، صرف العداوة من إخوته إلى الشيطان . فقال : { مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشيطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوِتِي } والثاني : حين راودته المرأة ، قال : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } فعرف حرمة سيده ، ولم يهتك حرمته . الثالث { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فاختار السجن على الشهوة الحرام .
والرابع قال : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ } بعد ما ظهر أن الذنب كان من غيره .
والخامس لما اعتذر إليه إخوته ، قال لهم : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } والسادس أنه بعث القميص على يد إخوته كما أدخلوا على أبيهم الحزن في الابتداء ، أراد أن يدخلوا عليه السرور . فقال : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا } والسابع : لما لقي أباه ، لم يذكر عنده ما لقي من الشدة ، وإنما ذكر المحاسن ، حيث قال : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البَدْوِ } .
والثامن : لما تمّ أمره ، تمنى الموت ، وترك الدنيا ، قال : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } أي : أعطيتني من الملك . يعني : بعض الملك ، وهو ملك مصر { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } يعني : بعض التأويل . ويقال : من ههنا لإبانة الجنس ، لا للتبعيض . ومعناه { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني تأويل الأحاديث } يعني : تعبير الرؤيا { فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يعني : خالق السموات والأرض { أَنْتَ وَلِييِّ فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَة تَوَفَّنِي مُسْلِماً } يعني : أمتني مخلصاً بتوحيدك { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } يعني : بآبائي المرسلين . ويقال : عاش يعقوب في أرض مصر ، سبع عشرة سنة ، وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة . وعاش يوسف بعده ثلاثاً وعشرين سنة ، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . ويقال : ابن مائة وعشر سنين . وأوصى يعقوب بأن يدفن عند آبائه ، فحمل إلى الأرض المقدسة ، فدفن مع أخيه يحصوص بن إسحاق . فلما مات يوسف ، أرادوا أن يحملوه إلى الأرض المقدسة ، فلم يتركهم أهل مصر ، واختلفوا في دفنه ، وأراد أهل كل محلة أن يدفن في مقابرهم ، وكاد أن يقع بينهم قتال ، حتى اصطلحوا واتفقوا على أن يدفن عند قسمة مياههم في أعلى مصر ، لكي يصيب بركته أهل مصر ، وكان هناك إلى زمن موسى عليه السلام ، فرفعه موسى ، وحمله إلى الأرض المقدسة ، ووضعه عند آبائه ، وقد كان يوسف أوصى إلى بني إسرائيل أن يحملوا عظامه من أرض مصر إذا خرجوا من مصر .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } يقول : من أخبار ما غاب عنك ، علمه يا محمد { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } يعني : ننزل عليك جبريل بالقرآن ، ليقرأه عليك { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ } يعني : عند إخوة يوسف { إذْ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ } يعني : قولهم أن يطرحوا يوسف في البئر { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } أي : يحتالون ليوسف .
ثم قال : { وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصَتْ بِمُؤْمِنِينَ } في الآية تقديم . ومعناه : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت لعلم الله السابق فيهم . ويقال : { ولو حرصت بمؤمنين } . يعني : من قدرت عليه الكفر ، وعلمت أنه أهل لذلك . لا يؤمن بك .
ثم قال تعالى : { وَمَا تَسْألُهُمْ عَلَيْهِ } يعني : على الإيمان { مِنْ أَجْرٍ } يعني : إن لم يجيبوك ، فلا تبال ، لأنهم لا ينقصون من رزق ربك شيئاً { إِنْ هُوَ } يعني : ما هذا القرآن { إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } من الجن والإنس . وقوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ } يعني : وكم من علامة { فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } يعني : الشمس والقمر والنجوم ، وفي الأرض الأمم الخالية ، والأشياء التي خلقت في الأرض ، { يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } يعني : مكذبين ، لا يتفكرون .
ثم قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قال ابن عباس : ولئن سألتهم من خلقهم ، ليقولن الله ، فهذا إيمان منهم . ثم هم يشركون به غيره . وقال القتبي : الإيمان قد يكون في معان . فمن الإيمان تصديق ، وتكذيب ببعض . قال الله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] يعني : مقرون أن الله خالقهم ، وهم مع ذلك يجعلون لله شريكاً . وقال الضحاك : كانوا مشركين في تلبيتهم . وقال عكرمة : يعلمون أنه ربهم ، وهم مشركون به من دونه .
ثم قال تعالى : { أَفَأَمِنُوا } يعني : أهل مكة { أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ } يعني : مغشاهم العذاب ، ويقال : غاشية قطعة { مِنْ عَذَابِ الله } في الدنيا { أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } يعني : فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بقيامها { قُلْ } يا محمد { هَذِهِ سَبِيلي } يعني : هذه الملة ، ديني الإسلام ، ويقال : هذه دعوتي { أدْعُوا } الخلق { إلَى الله } تعالى . ويقال : أدعوكم إلى توحيد الله وعبادته { عَلَى بَصِيرَةٍ } أي : على يقين وحقيقة . ويقال : على بيان { أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } يعني : من اتبعني على ديني ، فهو أيضاً على بصيرة { وَسُبْحَانَ الله } تنزيهاً لله عن الشرك { وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ } على دينهم .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)

قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ } يعني : الأنبياء كانوا من الآدميين ، ولم يكونوا من الملائكة . قرأ عاصم في رواية حفص : { نُوحِي إلَيْهِمْ } بالنون . وقرأ الباقون بالياء { يُوحَى إِلَيْهِمْ } ، ومعناهما واحد { مِنْ أهْلِ الْقُرَى } يعني : منسوبين إليها . ثم أمرهم بأن يعتبروا ، فقال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } يعني : يسافروا { فِي الأَرْضِ } ويقال : يقرؤوا القرآن { فَيَنْظُرُوا } يعني : يعتبروا { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : كيف كان آخر المنذرين من قبلهم من الأمم الخالية { وَلَدَارُ الآخِرَةِ } وهي الجنة { خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } الشرك { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الآخرة أفضل من الدنيا . ثم رجع إلى حديث الرسل الذين كذبهم قومهم ، فقال تعالى : { حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } يعني : أيسوا من إيمان قومهم أن يؤمنوا { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قرأ أهل الكوفة عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، { كُذِبُوا } بتخفيف الذال . وقرأ الباقون : بالتشديد . وروى الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : { كُذِبُوا } بالتخفيف . ويقال : لما أيست الرسل ، أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا عليهم ، جاءهم بالنصرة . وروى ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أنه قال : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } قال : كانوا بشراً ، فضعفوا ، وسئموا ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، وأشار بيده إلى السماء . قال ابن أبي مليكة : فذكرت ذلك لعروة . فقال : قالت عائشة رضي الله عنها : معاذ الله ما حدث شيئاً إلا وعلم الله ورسوله أنه سيكون قبل أن يموت . قالت : ولكن نزل الأنبياء البلاء حتى خافوا أن يكون من معهم ، كذبوهم من المؤمنين؛ وكانت تقرأ { قد كُذِّبُوا } بالتشديد . وعن عائشة قالت : استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ، أن يصدقوهم ، وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم ، قد كذبوهم . وقال القتبي : الذي قالت عائشة أحسنها في الظاهر ، وأولاها بأنبياء الله تعالى { جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } أي : للأنبياء بالنصرة .
ثم قال : { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءَ } يعني : من آمن بالأنبياء . قرأ عاصم وابن عامر { فَنُجِّيَ } بنون واحدة مع التشديد . وقرأ الباقون بالنونين ، وأصله { فَنُنْجِيَ } بالنونين ، إلا أن من قرأ بنون واحدة ، أدغم إحداهما في الأُخرى ثم قال : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } يعني : عذابنا { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } يعني : الكافرين .

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } يعني : في قصة يوسف وإخوته { عِبْرَةٌ لاُِولِى الأَلْبَابِ } يعني : لذوي العقول . يعني : عجيبة لمن له عقل ، لكيلا يحسد أحد أحداً . ويقال : لمن أراد أن يعتبر بيوسف ، ويقتدي به ، ولا يكافىء أحداً بسيئة . ويقال : { عبرة } يعني : دلالة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يؤمن به { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } يعني : مثل هذا الكلام لا يكون اختلاقاً وكذباً { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب التوراة والإنجيل { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } يعني : بيان الحلال والحرام { وَهُدًى } من الضلالة { وَرَحْمَةً } يعني : رحمة من العذاب { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون بتوحيد الله تعالى ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن .

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

قوله تعالى : { المر } قال ابن عباس : أنا الله أعلم وأرى ، ويقال : معناه أنا الله أرى ما تحت العرش إلى الثرى ، وما بينهما . ويقال : أنا الله أعلم ، وأرى ما لا يعلم الخلق ، وما لا يرى . ويقال : أنا الله أعلم ، وأرى ما يعملون ، ويقولون . ويقال : هذا قسم أقسم الله به { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } قال قتادة : يعني : التي قبل القرآن . يعني : التوراة والإنجيل { وَالَّذِي } يعني : القرآن { أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ } يعني : الكتب التي قبل القرآن ، والقرآن الذي أُنزل إليك ، كله من الله تعالى ، وهو الحق ، والإيمان به واجب . وقال ابن عباس : { تلك آيات الكتاب } ، يعني : تلك آيات القرآن . ومعناه : هذه آيات الكتاب . والذي أُنزل من ربك هو الحق يعني : القرآن . ويقال : { تلك آيات الكتاب } يعني : الأحكام ، والحجج ، والدلائل { والذي أنزل إليك } يعني : جبريل ، ليقرأ عليك من ربك الحق . يعني : اتبعوه ، واعملوا به . { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } يعني : أهل مكة { لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون أنه من الله تعالى فلما ذكر أنهم لا يؤمنون بيّن في الدلائل التي توجب التصديق بالخالق .
ثم قال تعالى : { الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها } يعني : ليس لها عمد ترونها . وهذا قول الحسن وقتادة ، رفعها الله تعالى بغير عمد وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، معناه : لها عمد ، ولكن لا ترونها . يعني : أنتم ترونها بغير عمد في المشاهدة ، ولكن لها عمد . وكلا التفسيرين معناهما واحد . لأن من قال : إن لها عمداً ، ولكن لا ترونها ، يقول : العمد هو قدرة الله تعالى التي تمسك السموات والأرض .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال ابن عباس : كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض ، وقد ذكرناه من قبل { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } يعني : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل ، ذلك لبني آدم { كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَلٍ مُّسَمًّى } يقول : يسير إلى وقت معلوم لا يجاوزه ، وللشمس والقمر منازل ، كل واحد منهما يغرب في كل ليلة في منزل ويطلع في منزل ، حتى ينتهي إلى أقصى منازله { يُدَبِّرُ الأمْرَ } يعني : يقضي القضاء ، ويبعث الملائكة بالوحي ، والتنزيل { يُفَصِّلُ الآيَاتِ } يقول : يبيّن العلامات في القرآن { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } يعني : تصدقون بالبعث .

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } يعني : بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء . وكانت تكفي بأهلها ، كما تكفي السفينة ، فأرساها الله بالجبال ، وهو قوله تعالى { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } يعني : الجبال الثوابت من فوقها { وَأَنْهَاراً } يعني : خلق في الأرض أنهاراً { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يعني : خلق فيها من ألوان الثمرات { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } يعني : خلق من كل شيء لونين من الثمار ، حلواً وحامضاً . ومن الحيوان ذكراً وأنثى .
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } يعني : يعلو الليل على النهار ، ويعلو النهار على الليل ، واقتصر بذكر أحدهما ، إذا كان في الكلام دليل عليه . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { يُغَشِّي } بنصب الغين ، وتشديد الشين . وقرأ الباقون : بالجزم والتخفيف .
ثم بيّن أن ما ذكر من هذه الأشياء ، فيه برهان وعلامات لمن تفكر فيها فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } يعني : فيما ذكر من صنعه { لآيَاتٍ } يعني : لعبرات { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في اختلاف الليل والنهار ، فيوحّدونه .
ثم بيّن أن في الأرض علامات كثيرة ، ودلائل كثيرة لوحدانيته ، لمن له عقل سليم فقال تعالى : { وَفِى الارض قِطَعٌ متجاورات } يعني : بالقطع الأرض السبخة ، والأرض العذبة . { متجاورات } يعني : ملتزقات ، متدانيات ، قريبة بعضها من بعض ، فتكون أرض سبخة ، وتكون إلى جنبها أرض طيبة جيدة . وقال قتادة : { قِطَعٌ متجاورات } أي : قرى متجاورات . ويقال : العمران ، والخراب ، والقرى والمغاور . { وجنات مّنْ أعناب } يعني : الكروم { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان وَغَيْرُ صنوان } قرأ بعضهم : بضم الصاد . وقراءة العامة : بالكسر . وهما لغتان ومعناهما واحد . قال مجاهد وقتادة : الصنوان النخلة التي في أصلها نخلتان ، وثلاث أصلهن واحدة . وقال الضحاك : يعني : النخل المتفرق والمجتمع ويقال { صنوان } النخلة التي بجنبها نخلات وغير صنوان يعني : المنفردة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لاَ تُؤْذُونِي فِي العَبَّاسِ ، فإِنَّهُ بَقِيةُ آبَائي ، وإنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية حفص : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان } كلها بالضم على معنى الابتداء . وقرأ الباقون : كلها بالكسر على معنى النعت للجنات . ويقال : على وجه المجاورة . لأن الزرع لا يكون في الجنات .
ثم قال : { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل } يعني : الماء ، والتراب واحد . وتكون الثمار مختلفة في ألوانها ، وطعومها ، لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب ، لوجب في القياس ، أن لا تختلف الألوان والطعوم ، ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا ثبت في مغرس واحد ، وسقي بماء واحد ، ولكنه صنع اللطيف الخبير . وقال مجاهد : هذا مثل لبني آدم ، أصلهم من أب واحد ، ومنهم صالح ، ومنهم خبيث .
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : فيما ذكر { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أنه من الله تعالى . قرأ حمزة والكسائي : { يسقى } وَ { ***يُفَضَّلُ } بالياء وقرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين : { صنوان يسقى } بالياء بلفظ التذكير ، { وَنُفَضّلُ } بالنون . وقرأ الباقون : تُسْقَى بالتاء { وَنُفَضّلُ } بالنون .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)

ثم قال تعالى :
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } قال الكلبي : يعني : إن تعجب من تكذيب أهل مكة لك ، وكفرهم بالله ، { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } يقول : أعجب من ذلك قولهم . { أَءذَا كُنَّا تُرَابًا } وقال مقاتل : { وَإِن تَعْجَبْ } مما أوحينا إليك من القرآن ، تعجب . قولهم : { أَءذَا كُنَّا تُرَابًا } { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } إكذاباً منهم بالبعث . قرأ الكسائي : { أَءذَا } بهمزتين على وجه الاستفهام ، { أَنَاْ *** لَفِى خَلْقٍ } بهمزة واحدة . وقرأ عاصم وحمزة كليهما : بهمزتين . وقرأ أبو عمرو : { ***آيِذَا } بهمزة واحدة مع المد ، وكذلك في قوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } بالمد . وقرأ ابن كثير : { ***أَيِذَا } بالياء ، وكذلك { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } ، وقرأ ابن عامر { أَن كُنَّا } بهمزة واحدة بغير استفهام ، { أَيُّنَا } بالهمزة والمد . قال : لأنهم لم يشكوا في الموت ، وإنما شكوا في البعث ، فينبغي أن يكون الاستفهام في الثاني دون الأول .
ثم قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } يعني : جحدوا بوحدانية الله تعالى { وَأُوْلَئِكَ الاغلال فِى أعناقهم } يعني : تغل أيمانهم على أعناقهم بالحديد في النار { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } أي : دائمون فيها ، ولا يخرجون منها .
قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } قال ابن عباس : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم العذاب ، استهزاءً منهم بذلك ، فنزل { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } يعني : بالعذاب قبل العافية { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } يعني : العقوبات ، والنقمات قبل قريش فيمن هلك ، وأصل المثلة : الشبه ، وما يعتبر به ، وجمعه المثلات { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } يقول : تجاوز { لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } يعني : على شركهم إن تابوا . ويقال : بتأخير العذاب عنهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } لمن مات منهم على شركه .
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ } يعني : هلاّ أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم علامة من ربه لنبوته .
قال الله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } يعني : مخوف ، ومبلغ لهذه الأمة الرسالة { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } قال الكلبي : داعٍ يدعوهم إلى الضلالة ، أو إلى الحق . وقال الضحاك : يعني : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } وأنا الهادي . وقال سعيد بن جبير الهادي ، هو الله . وقال عكرمة : محمد صلى الله عليه وسلم هو نذير ، وهو الهادي . يعني : يدعوهم إلى الهدى . { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } وقال مجاهد : يعني : لكل قوم نبي . قرأ ابن كثير . { هَادِيَ } بالياء عند الوقف . وكذلك قوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ } [ الرعد : 37 ] وقرأ الباقون : بغير ياء .
قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } ذكراً أو أُنثى ، ويعلم ما في الأرحام سوياً أو غير سوي .

ثم قال : { وَمَا تَغِيضُ الارحام } يعني : ما تنقص الأرحام من تسعة أشهر في الحمل { وَمَا تَزْدَادُ } يعني : على التسعة أشهر في ذلك الحمل { وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال قتادة : رزقهم ، وأجلهم ، وقال ابن عباس . من الزيادة ، والنقصان ، والمكث في البطن ، والخروج ، كل ذلك بمقدار قدره الله تعالى ، فلا يزيد على ذلك . وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الارحام } يعني : الحامل إن ترى الدم نقص من الولد ، وإن لم تر الدم ، يزيد في الولد . وروى أسباط عن السدي قال : إن المرأة إذا حملت ، واحتبس حيضها ، كان ذلك الدم رزقاً للولد . فإذا حاضت على ولدها ، خرج وهو أصغر من الذي لم تحض عليه { وَمَا تَغِيضُ الارحام } وهي الحيضة التي على الولد ، { وَمَا تَزْدَادُ } . فحين يستمسك الدم ، فلا تحيض وهي حبلى . قال الفقيه : هذا الذي قال السدي . إن الحامل تحيض ، إنما هو على سبيل المجاز ، لأن دم الحامل لا يكون حيضاً . ولكن معناه : إذا سال منها الدم فيكون ذلك استحاضة . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا ابن خزيمة . قال : حدثنا عليّ . قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الله بن دينار ، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : « مِفْتَاحُ الغَيبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ الله ، لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ أَحَدٌ إلاَّ الله ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ أحَدٌ إلاَّ الله ، ولاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أحَدٌ إلاَّ الله ، ولاَ تَدْرِي نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ الله ، ولاَ يَعْلَمُ أَحْدٌ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ الله » .

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)

ثم قال تعالى : { عالم الغيب والشهادة } يعني : ما غاب عن العباد ، وما شاهدوه . ويقال : عالم بما كان ، وبما لم يكن . ويقال : عالم السر والعلانية { الكبير المتعال } يعني : هو أكبر وأعلى من أن تكون له صاحبة وولد .
قوله تعالى : { سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول } يعني : سواء عند الله من أسر القول { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } يعني : من أخفى العمل ، وأعلن العمل { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ } يعني : في ظلمة الليل { وَسَارِبٌ بالنهار } أي : منصرف في حوائجه . يقال : سَرَبَ يَسْرُبُ إذا انصرف ، ومعناه المختفي ، والظاهر عنده سواء . وقال مجاهد : المستخفي؛ المختفي بالمعصية ، والسارب يعني : الظاهر بالمعاصي { لَهُ معقبات } قال ابن عباس : له حافظات { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } يعني : بأمر الله حتى ينتهوا به إلى المقادير . فإذا جاءت المقادير ، خلوا بينه وبين المقادير ، المعقبات يعني : الملائكة يعقب بعضهم بعضاً في الليل والنهار ، إذا مضى فريق خلفه بعده فريق . وروي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، { لَهُ معقبات } قال : الملائكة يتعاقبون بالليل والنهار { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } يعني : بأمر الله . ويقال : للمؤمن طاعات وصدقات { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } أي : من عذاب الله عند الموت ، وفي القبر ، وفي يوم القيامة .
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } يعني : لا يبدل ما بقوم من النعمة التي أنعمها عليهم { حتى يُغَيّرُواْ } يقول : يبدلوا { مَا بِأَنفُسِهِمْ } بترك الشكر . قال مقاتل : يعني : كفار مكة نظيرها في الأنفال . { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 53 ] ، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، وأطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فلم يعرفوها ، فغيّر ما بهم ، فجعل ذلك لأهل المدينة . قال أبو الليث رحمه الله : في الآية تنبيه لجميع الخلق ، ليعرفوا نعمة الله عليهم ، ويشكروه ، لكيلا تزول عنهم النعم .
ثم قال تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } يعني : إذا أراد بهم عذاباً أو هلاكاً فلا مردّ لقضائه { وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } يعني : ليس لهم من عذابه ولي ، ولا قريب يمنعهم ، ولا ملجأ يلجؤون إليه .
قوله تعالى : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا } يعني : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم الحاضر ، ويقال : خوفاً لمن يخاف ضرر المطر ، وطمعاً لمن يحتاج إلى المطر ، لأن المطر يكون لبعض الأشياء ضرراً ، ولبعضها رحمة .
ثم قال : { وَيُنْشِىء السحاب الثقال } يعني : يخلق السحاب الثقال من الماء .

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)

قوله تعالى : { وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } يعني : بأمره . قال : عمر بن محمد . قال : حدثنا أبو بكر الواسطي . قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدثنا وكيع عن عمرو بن أبي زائدة أنه قال : سمعت عكرمة يقول : الرعد ملك يزجر السحاب بصوته كالحادي بالإبل . وروى وكيع ، عن المسعودي ، عن سلمة بن كهيل ، أنه سئل عن الرعد فقال : هو ملك يزجر السحاب . وسئل عن البرق : فقال هو في مخاريق بأيدي الملائكة . وسئل وهب بن منبه عن الرعد فقال : ثلاث ما أظن أحداً يعلمهن إلا الله عز وجل : الرعد ، والبرق ، والغيث ، وما أدري من أين هن ، وما هن . فقيل له : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } قال : نعم . ولا ندري أنزل من السماء أو من السحاب ، ولقحت فيه أو يخلق في السحاب فيمطر . وسمى السحاب سماء . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرعد فقال : « هُوَ مَلِكٌ فِي السَّمَاءِ ، وَاسْمُهُ الرَّعْدُ ، وَالصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ هوُ زَجْرُ السَّحَابِ ، وَيُؤَلِّفُ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ فَيَسُوقُهُ » . ثم قال : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } يقول : يسبح الملائكة كلهم خائفين لله تعالى { وَيُرْسِلُ الصواعق } وهي نار من السماء لا دخان لها { فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } من خلقه { وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } قال ابن عباس هو الله تعالى ، { شَدِيدُ المحال } يعني : شديد العقاب . ويقال : أصله في اللغة الحيلة . وقال قتادة : يعني : الحيلة ، والقوة . ويقال : هو شديد القدرة ، والعذاب . ويقال : { المحال } في اللغة هو الشدة . ويقال بعضهم : هو كناية عن الذي يجادل ، ويكون معناه { فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } { وَهُمْ يجادلون فِى الله } يعني : يصيبهم في حال جدالهم . وقال مجاهد : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني من أي شيء ربك أمن لؤلؤ هو؟ فأرسل الله عليه صاعقة فقتلته ، فنزل { وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } يعني : شديد العداوة . وقال قتادة : دخل عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أسلم على أن لك المدر ، ولي الوبر . يعني : لك ولاية القرى ، وليَ ولاية البوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَنْتَ مِنْ المُسْلِمِينَ لَكَ مَا لِلْمُسْلِمينَ ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ » ؟ قال عامر : لك الوبر ، ولي المدر . فأجابه بمثل ذلك . قال عامر : ولي الأمر من بعدك . فأجابه بمثل ذلك . فغضب عامر وقال : لأملأنها عليك رجالاً ألفا رجل أشعر ، وألفا أمرد ، فخرج ولقي أربد بن قيس ، فقال له ادخل على محمد وآلهه ، وأنا أقتله فدخلا عليه ، فجعل عامر يسأله ويقول : أخبرنا يا محمد عن إلهك ، أمن ذهب هو أم من فضة؟ فلما طال حديثه قاما وخرجا ، فقال مالك لم تقتله؟ قال : كلما أردت أن أقتله وجدتك بيني وبينه .

فجاء جبريل ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فدعا عليه ، فأصابته صاعقة فقتلته . فنزل { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } .
قوله تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } يعني : كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ، يدعو الخلق إليها . ويقال معناه : له على العباد دعوة الحق أن يدعوه فيجيبهم { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني : الأصنام والأوثان { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } يقول : لا ينفعهم بشيء { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ } يعني : كمادٍ يديه { إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ } والعرب تقول لمن طلب شيئاً لا يجده ، هو كقابض الماء . يعني : كمن هو مشرف يدعو الماء بلسانه ، ويشير إليه { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } يعني : فلا يناله أبداً . وقال مجاهد كالذي يشير بيده إلى الماء ، فيدعوه بلسانه ، فلا يجيبه أبداً . هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك الذي عبد مع الله إلها آخر ، أنه لا يجيبه الصنم ، ولا ينفعه كمثل العطشان الذي ينظر إلى الماء من بعيد ، ولا يقدر عليه { وَمَا دُعَاء الكافرين } يقول : ما عبادة أهل مكة { إِلاَّ فِى ضلال } يضل عنهم ، إذا احتاجوا إليه في الآخرة .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

قوله تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى * السموات والارض } من الخلق { طَوْعًا وَكَرْهًا } قال قتادة : أما المؤمن فيسجد لله طائعاً ، وأما الكافر فيسجد . كرهاً ويقال : أهل الإخلاص يسجدون لله طائعين ، وأهل النفاق يسجدون له كرهاً ، ويقال : من ولد في الإسلام يسجد طوعاً ، ومن سبي من دار الحرب يسجد كرهاً . ويقال : { يَسْجُدُ * لِلَّهِ } يعني : يخضع له من في السموات والأرض ، ولا يقدر أحد أن يغير نفسه عن خلقته { وظلالهم } يعني : تسجد ظلالهم ، وسجود الظل دورانه . ويقال : ظل المؤمن يسجد معه ، وظل الكافر يسجد لله تعالى إذا سجد الكافر للصنم . { بالغدو والاصال } يعني : أول النهار ، وآخره ، وقال أهل اللغة : الأصيل ما بين العصر إلى المغرب ، وجمعه أُصُل والآصال جمع الجمع .
قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ *** السموات والارض } يعني : قل يا محمد لأهل مكة من خالق السموات والأرض؟ فإن أجابوك وإلا ف { قُلِ الله } .
ثم قال : { قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني : أفعبدتم غيره { لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير } أي : كما لا يستوي الأعمى والبصير ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن . ويقال : الأعمى الجاهل الذي لا يتفكر ، ولا يرغب في الحق ، والبصير العالم الذي يتفكر ، ويرغب في الحق .
{ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور } أي : كما لا تستوي الظلمات والنور ، فكذلك لا يستوي الإيمان والكفر . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { يَسْتَوِى } بلفظ التذكير بالياء . وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ، فيجوز أن يذكر ويؤنث ، ولأن الفعل مقدم على الاسم .
ثم قال : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } يعني : بل جعلوا لله شركاء من الأصنام . ويقال : معناه أجعلوا لله شركاء ، والميم صلة . ثم قال : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } يعني : هل خلق الأوثان خلقاً كما خلق الله فاشتبه عليهم خلق الله تعالى من خلق غيره ، فلما ضرب الله مثلاً لآلهتهم سكتوا .
قال الله تعالى : { قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء } قل يا محمد الله عز وجل خالق جميع الموجودين { وَهُوَ الواحد القهار } يعني : الذي لا شريك له ، القاهر لخلقه ، القادر عليهم . ثم ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل ، لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل ، وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب ، فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } يعني : المطر { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } يعني : سال في الوادي الكبير بقدره ، وفي الوادي الصغير بقدره ، فشبه القرآن بالمطر ، وشبه القلوب بالأودية ، وشبه الهدى بالسيل { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } يعني : عالياً على الماء .

فشبه الزبد بالباطل يعني : احتملته القلوب على قدر أهوائها باطلاً كبيراً . فكما أن السيل يجمع كل قدر ، كذلك الأهواء تحتمل الباطل ، وكما أن الزبد لا وزن له ، فكذلك الباطل لا ثواب له . فذلك قوله : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء } يعني : يذهب كما جاء . ويقال : { جُفَاء } أي سريعاً . وقال مقاتل : { جُفَاء } أي يابساً ، فلا ينتفع به ، ويقذفه السيل . وقال القتبي : الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته . ويقال : جفأت القدر بزبدها إذا ألقيته عنها { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الارض } يعني : يبقى الماء الصافي . فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة ، كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا . والباطل ، لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة .
ثم ضرب مثلاً آخر بالذهب والفضة ، فقال تعالى : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار } من الذهب والفضة { ابتغاء حِلْيَةٍ } يعني : النحاس { حِلْيَةٍ } تلبسونها . يخرج منها الخبث ، ويبقى الذهب والفضة خالصاً .
ثم ضرب مثلاً آخر فقال : { أَوْ متاع زَبَدٌ مّثْلُهُ } يعني : النحاس ، والحديد ، والصفر يزول عنها الخبث ، ويبقى الصفر والحديد خالصاً ، فيتخذ منها المتاع . فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد ، كما يضمحل هذا الزبد ، ويبقى خالص الماء ، وخالص الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، فكذلك يضمحل الباطل عن أهله . وكما يمكث الماء في الأرض ، ويخرج نباتها ، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار ، فكذلك يبقى الحق ، وثوابه لصاحبه . وقال القتبي في قوله : { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } قال : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل . يقول : الباطل وإن ظهر على في بعض الأحوال وعلا فلان فإن الله سيمحقه ، ويبطله ، ويجعل العاقبة للحق وأهله ، مثل مطر سال في الأودية بقدرها { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } أي : عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق . ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير ، توقدون عليها ، بمعنى الذهب والفضة للحلية . { أَوْ متاع } يعني : الشبه ، والحديد ، والآنك ، يكون للآنية له خبث يعلوها مثل زبد الماء . فأما الزبد ، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر ، وكنبات الوادي ، وكذلك خبث الفلز يعني : الجوهر يقذفه ، فهذا مثل الباطل . وأما ما ينفع الناس ، وينبت المرعى ، فيمكث في الأرض . فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحاً فهو مثل الحق .
ثم قال : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } على وجه التقديم والتأخير . يعني : هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل . ويقال : معناه هكذا يبيّن الحق من الباطل { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الارض } على معنى التقديم والتأخير ، وقد ذكرناه من قبل { كذلك يَضْرِبُ الله الامثال } يعني : يبيّن الله الأشباه ، ويوضح الطريق ، ويقيم الحجة .

ثم قال : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى } يعني : للذين أجابوا ربهم بالطاعات في الدنيا ، لهم الجنة في الآخرة .
ثم قال : { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } يعني : لم يجيبوه ، ولم يطيعوه في الدنيا { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً } يوم القيامة { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } يعني : وضعفه معه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } يقول : لفادوا به أنفسهم من العذاب ، ولو فادوا به لا يقبل منهم { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب } يعني : شديد العقاب . ويقال : المناقشة في الحساب . وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال : أتدرون ما سوء الحساب؟ قالوا لا . قال هو الذنب يحاسب عليه العبد ثم لا يغفر له . وعن الحسن أنه سئل عن سوء الحساب ، وقال : يؤخذ العبد بذنوبه كلها فلا يغفر له منها ذنب .
ثم قال : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مصيرهم ومرجعهم إلى جهنم { وَبِئْسَ المهاد } يعني : الفراش من النار ويقال بئس موضع القرار في النار .

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

قوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } يعني : يعلم أن القرآن الذي أنزل من الله تعالى هو الحق { كَمَنْ هُوَ أعمى } يعني : كمن هو لا يعلم . ويقال : { أَفَمَن يَعْلَمُ } أن ما ذكر من المثل حق كمن لا يعلم . وهذا كقوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } [ البقرة : 26 ] يعني : المثل . ويقال : أفمن يرغب في الحق حتى يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق { كَمَنْ هُوَ أعمى } يعني : كمن لا يرغب فيه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب } يعني : يتعظ بما أنزل إليك من القرآن ذوو العقول من الناس ، وهم المؤمنون .
ثم وصفهم فقال : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } يعني : العهد الذي بينهم وبين الله تعالى والعهد الذي بينهم وبين الناس { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } يعني : الميثاق الذي أخذ عليهم . يوم الميثاق . ويقال : يعني : أهل الكتاب الميثاق الذي أخذ عليهم في كتابهم .
قوله : { والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } يعني : يصلون الأرحام ، ولا يقطعونها ، وقال : يعني : الإيمان بجميع الأنبياء { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يعني : يمتنعون عما نهاهم الله تعالى عنه ، والخشية من الله ، الامتناع عن المحرمات والمعاصي { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } يعني : شدته { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } يعني : صبروا عن المعاصي ، وصبروا عن أداء الفرائض ، وصبروا على المصائب والشدائد ، وصبروا على أذى الكفار والمنافقين { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } يعني : صبروا على طلب مرضاة الله تعالى { والذين يُمَسّكُونَ } يعني : أتموها بركوعها ، وسجودها في مواقيتها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } يعني : من الأموال { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يعني : يتصدقون في الأحوال كلها ظاهراً ، وباطناً . ويقال : مرة يتصدقون سراً مخافة الرياء ، ومرة يتصدقون علانية لكي يقتدى بهم . ويقال : يتصدقون صدقة التطوع في السر ، وزكاة الفريضة علانية { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } يقول : يدفعون بالكلام الحسن السيئة . يعني : الكلام القبيح . فهذا كله صفة ذوي الألباب ، وهم الذين استجابوا لربهم .
ثم بيّن ثوابهم ، ومرجعهم في الآخرة فقال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار } يعني : لهم الجنة ، وهم المهاجرون ، والأنصار ، ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة فقال تعالى : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ } يعني : ومن آمن ، وأطاع الله تعالى { مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم } يدخلون أيضاً جنات عدن وهذا كقوله : { والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ ألتناهم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } ويسلمون عليهم ، ويقولون : { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } على أمر الله تعالى وطاعته { فَنِعْمَ عقبى الدار } يعني : نعم العاقبة الجنة .

فقد بيّن حال الذين استجابوا لربهم ، والذين يعلمون أن الذي أنزل إليك هو الحق .
ثم بيّن حال الذين لم يستجيبوا له ، وهم الذين ينقضون الميثاق ، فقال تعالى : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } يعني : من بعد تأكيده ، وتغليظه ، يعني : بعد إقرارهم بالتوحيد يوم الميثاق { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } يعني : الأرحام . ويقال : الإيمان بالنبيّين { وَيُفْسِدُونَ فِى الارض } بالدعاء إلى عِبادة غير الله تعالى { أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة } يعني : يلعنهم في الدنيا والآخرة { وَلَهُمْ سُوء الدار } يعني : سوء المرجع . ويقال : لهم اللعنة . يعني : هم مطرودون من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة ، { وَلَهُمْ سُوء الدار } يعني : عذاب النار في الآخرة .

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)

قوله تعالى : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء } يعني : يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ، { وَيَقْدِرُ } يعني : يقتر في الرزق . يعني : يختار للغني الغنى ، وللفقير الفقر ، لأنه يعلم أن صلاحه فيه . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى خلق الخلق ، وهو بهم عليم . فجعل الغنى لبعضهم صلاحاً ، وجعل الفقر لبعضهم صلاحاً ، فذلك الخيار للفريقين وقال الحسن البصري : ما أحد من الناس يبسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه ، وما أمسكها الله تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه .
ثم قال تعالى : { وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا } يقول : استأثروا الدنيا على الآخرة { وَمَا الحياة الدنيا فِى الاخرة إِلاَّ متاع } يعني : الدنيا بمنزلة الأواني التي لا تبقى مثل السكرجة ، والزجاجة ، وأشباه كل ذلك التي يتمتع بها ثم تذهب ، فكذلك هذه الدنيا تذهب وتفنى . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُم أصْبُعَهُ هذه فِي اليَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجعُ » . وقال مجاهد : { إِلاَّ متاع } أي : قليل ذاهب ، وهكذا قال مقاتل .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)

قوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا } يعني : هلاَّ { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } يعني : علامة لنبوته { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } من عباده من الهدى يعني : إذا لم يرغب فيه { وَيَهْدِى إِلَيْهِ } يرشد إلى دينه { مَنْ أَنَابَ } يعني : من رجع إلى الحق . ويقال : رجع عن الشرك .
ثم قال تعالى : { الذين كَفَرُواْ } هذا مقرون بالأولى . يعني : ويهدي الَّذِينَ آمَنُوا { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ } يعني : تسكن وترضى قلوبهم { بِذِكْرِ الله } يعني : إذا ذكروا الله تعالى بوحدانيته ، آمنوا به ، غير شاكين . وقال الكلبي : يعني : وتسكن ، وترضى قلوبهم لمن يحلف لهم بالله { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } يعني : ترضى وتسكن قلوب المؤمنين { الذين كَفَرُواْ } يعني : صدقوا بالله ، وبمحمد ، وبالقرآن ، { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات { طوبى لَهُمْ } يعني : غبطة لهم . قال مجاهد : { طوبى لَهُمْ } يعني : الجنة . ويقال : شجرة في الجنة . قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل . قال : حدثنا محمد بن جعفر . قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف . قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي اليسر ، عن مغيث بن سمي في قوله تعالى { طوبى لَهُمْ } قال : طوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب ، الورقة منها تغطي الدنيا ، ليس في الجنة منزل إلا وفيه غصن من أغصانها . وقال أبو هريرة ، { طوبى } شجرة في الجنة . وقال قتادة : هي كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك إذا أصبت خيراً . وقال عكرمة : { طوبى لَهُمْ } أي : نعمّا لهم . ويقال : { طوبى لَهُمْ } أي : خير لهم .
ثم قال تعالى : { وَحُسْنُ مَئَابٍ } يعني : حسن المرجع في الآخرة .
قوله تعالى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ } يقول : هكذا بعثناك في أمة كما بعثنا إلى من كان قبلك من الرجال في الأمم الخالية { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا } يعني : قد مضت من قبل قومك { أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ } يعني : أرسلناك لتقرأ عليهم { الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من القرآن { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } يعني : يجحدون ، ويكذبون ، وذلك أن عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه ، قالوا : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب .
قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ رَبّى } يعني : قل يا محمد : الرحمن الذي تكفرون به ، هو الله ربي الذي { لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } يعني : فوضت أمري إليه { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } يعني : وإليه أتوب وأرجع .

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } وذلك أن عبد الله بن أمية وغيره من كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : سيرت لنا جبال مكة ذهباً وفضة ، حتى نعلم أنك صادق في مقالتك ، أو قرب أسفارنا كما فعل سليمان بن داود بريحه ، أو كلم موتانا كما فعل عيسى ابن مريم بدعائه ، فنزل { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } عن أماكنها { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الارض } غدوها شهر ، ورواحها شهر { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } فلم يذكر جوابه ، لأن في الكلام دليلاً عليه . يعني : لو فعلنا بقرآن قبل قرآن محمد صلى الله عليه وسلم ، لفعلنا ذلك بقرآن محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : لو فعل أحد من الأنبياء ما تسألوني ، لفعلت لكم . ولكن الأمر إلى الله تعالى ، إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، فذلك قوله تعالى : { بَل للَّهِ الامر جَمِيعًا } ويقال : معناه ولو أن قرآناً سيرت به الجبال عن أماكنها ، أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى ، لم يؤمنوا به .
وهذا كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] الآية إلى قوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] { بَل للَّهِ الامر جَمِيعًا } إن شاء هدى من كان أهلاً لذلك ، وإن شاء لم يهد من لم يكن أهلاً لذلك .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ } قال الحسن وقتادة : أفلم يعلم . وقال الفراء : لم أجد في العربية مثل هذا . ويقال : معناه أفلم يتبيّن للذين آمنوا ، وهو بلسان النخع . ويقال : هو من الإياس . ومعناه : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون { أَن لَّوْ يَشَاء الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا } يعني : إنهم لم يكونوا أهلاً لذلك ، فلم يهدهم . وروى ابن أبان بإسناده عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ { أَفَلَمْ * يَتَبَيَّنَ } فقيل له : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ } فقال : إني لأَرى الكاتب كتبها وهو ناعس . وروي في خبر آخر أن نافع بن الأزرق ، سأل ابن عباس عن قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ } قال : أفلم يعلم . قال : وهل تعرف العرب ذلك . قال ابن عباس : نعم أما سمعت قول مالك بن عوف وهو يقول :
قد يئس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
ثم قال : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ } يعني : أهل مكة { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } يعني : نكبة وشدة .

ويقال : القارعة داهية تقرع . ويقال : لكل مهلكة قارعة . ويقال : نازلة تنزل لأمر شديد . فالمراد هنا سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم ، وتصيبهم من ذلك شدة { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } يعني : تنزل أنت يا محمد بجماعة أصحابك قريباً من دارهم ، يعني : من مكة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سار بجنوده حتى أتى عسفان ، ثم بعث مائتي راكب حتى انتهوا قريباً من مكة ، ثم قال : { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } يعني : فتح مكة . قالوا : هذه الآية مدنية .
ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } أي : بفتح مكة على النبي صلى الله عليه وسلم .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)

قوله تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } كما استهزأ بك قومك { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني : أمهلتهم بعد الاستهزاء ، ولم أعاقبهم { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بالعذاب عند المعصية بالتكذيب ، فأهلكتهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } يعني : فكيف رأيت إنكاري وتعبيري عليهم بالعذاب . لم ير النبي صلى الله عليه وسلم عقوبتهم إلا أنه علم بحقيقته فكان رأي عيانٍ .
قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يقول : هو الله القائم على كل نفس برة ، وفاجرة ، بالرزق لهم ، والدفع عنهم ، وجوابه مضمر . يعني : كمن هو ليس بقائم على ذرة ، وهذا كقوله : { َفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] ثم قال : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } يعني : قالوا ، ووصفوا لله شريكاً . وقال مقاتل : { وَجَعَلُواْ * الله شُرَكَاء } يقول : أنا القائم على كل نفس بأرزاقهم ، وأطعمتهم ، كالذين يصفون أن لي شريكاً . معناه : لا تكون عبادة الله بعبادة غيره { قُلْ سَمُّوهُمْ } يعني : قل يا محمد سموا هؤلاء الشركاء . يعني : سموا دلائلهم ، وبراهينهم ، وحججهم . ويقال : سموا منفعتهم ، وقدرتهم .
ثم قال { أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الارض } يعني : تخبرونه بما علم أنه لا يكون . ويقال : معناه أتشركون معه جاهلاً لا يعلم ما في الأرض . ويقال : معناه أتخبرون الله بشيء لا يعلم من آلهتكم . يعني : يعلم الله أنه ليس لها في الأرض قدرة { أَم بظاهر مّنَ القول } يعني : أتقولون قولاً بلا برهان ، ولا حجة . ويقال : بباطل من القول . يعني : إن قلتم إن لها قدرة لقلتم باطلاً . وقال قتادة الظاهر من القول الباطل ، وكذلك قال مجاهد .
ثم قال : { بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } يقول : ولكن زين للذين كفروا من أهل مكة كفرهم ، وقولهم الشرك { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمر ، { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } بنصب الصاد . يعني : إن الكافرين صدوا الناس عن السبيل . يعني : عن دين الله الإسلام . وقرأ الباقون : { وَصُدُّواْ } بضم الصاد على فعل ما لم يسم فاعله . مثل قوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ فاطر : 8 ] .
ثم قال : { وَمَن يُضْلِلِ الله } يعني : من يخذل عن دينه الإسلام ، ولا يوفقه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعني : ما له من مرشد إلى دينه غير الله تعالى .
قوله تعالى : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } يعني : لهم في الدنيا الشدائد ، والأمراض . ويقال : وعند الموت . ويقال : القتل على أيدي المسلمين ، والغلبة عليهم { وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ } يعني : أشدّ { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } يعني : ملجأ يلجؤون إليه فيمنعهم من عذاب الله تعالى .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)

قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } قال بعضهم : المثل هنا أراد به الصفة ، ولم يرد به التشبيه ، لأنه قد ذكر من قبل حديث الجنة ، وهو قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أولئك لَهُمْ سواء الحساب وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ الرعد : 18 ] وقال بعد ذلك : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرِّيَّاتِهِمْ والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } [ الرعد : 23 ] ثم بيّن ههنا صفة الجنة . فقال : { مَّثَلُ الجنة } يعني : صفة الجنة { التى وُعِدَ المتقون } ، الذين يتقون الشرك ، والفواحش . روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقرأ { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } يعني : صفاتها وأحاديثها { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار أُكُلُهَا دَائِمٌ } يعني : نعيمها لا ينقطع عنهم أبداً { وِظِلُّهَا } يقول : وهكذا ظلها دائم أبداً ، ليس فيها شمس . وقال بعضهم : أراد به التشبيه ، لأن الله عرفنا أمور نعيم الجنة ، التي لم نراها ، ولم نشاهدها بما شاهدنا من أمور الدنيا ، ومعناه : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } جنة تجري من تحتها الأنهار .
ثم قال : { تِلْكَ عقبى الذين اتقوا } يعني : تلك الجنة ، جزاء الذين اتقوا الشرك ، والفواحش { وَّعُقْبَى الكافرين النار } يعني : مصيرهم ، وجزاؤهم النار .
ثم قال تعالى : { والذين ءاتيناهم الكتاب } أي : التوراة { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } وهم مؤمنو أهل الكتاب ، يعجبون بذكر الرحمن { وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } يعني : أهل مكة ينكرون ذكر الرحمن ، ويقولون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ، يعنون : مسيلمة الكذاب . ويقال : { وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } يعني : ومِن أهل الكتاب من ينكر ما كان فيه نسخ شرائعهم { قُلْ } يا محمد { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } يعني : أمرت أن أقيم على التوحيد { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ } شيئاً .
ثم قال : { إِلَيْهِ أَدْعُو } يقول : أدعو الخلق إلى توحيده { وَإِلَيْهِ مَابِ } يعني : المرجع في الآخرة . ثم قال { وكذلك أنزلناه } يعني : القرآن { حُكْمًا } يعني : القرآن حكماً على الكتب كلها . ويقال : محكماً { عَرَبِيّاً } يعني : القرآن بلغة العرب { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } قال الكلبي : يعني : لئن صليت إلى قبلتهم يعني : نحو بيت المقدس { بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } يعني : من بعد ما أتاك العلم بأن قبلتك نحو الكعبة . ويقال : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } يعني : أهل مكة فيما يدعونك إلى دين آبائك بعد ما ظهر لك أن الإسلام هو الحق { مَا لَكَ مِنَ الله } يعني : من عذابه { مِن وَلِىّ } ينفعك { وَلاَ وَاقٍ } يقيك من عذاب الله الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمُراد به أصحابه .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ } وذلك أن اليهود عَيَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لو كان هذا نبيّاً كما يزعم ، لشغلته النبوة عن تزوج النساء . فنزل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ } يا محمد { وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً } قال الكلبي : كان لسليمان بن داود عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية ، وتسعمائة سرية ، وكان لداود مائة امرأة .
ثم قال : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ } يعني : ليس ينبغي لرسول { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً } إلى قومه { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } يعني : بأمر الله تعالى . ويقال : معناه ما كان يقدر أحد أن يأتي بآية من الآيات إلا بإذن الله { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل أجل من آجال العباد كتاب مكتوب ، لا يزاد عليه ، ولا ينقص منه ، ويقال : لكل أجل وقت قد كتب . وقال الفراء : هذا مقدم ومؤخر أي : لكل كتاب أجل مثل قوله : { َجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] أي : سكرة الحق بالموت ، وكذلك قال ابن عباس .
قوله تعالى : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن قريشاً ، لما نزلت هذه الآية { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِأايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] قالوا : ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد فرغ من الأمر . فنزلت هذه الآية تخويفاً ، ووعيداً لهم . فإنّا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء ، فيمحو الله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء من أرزاق العباد ، ومصايبهم ، وما يعطيهم ، وما يقسم لهم . وروى وكيع عن الأعمش ، عن أبي وائل أنه كان يقول في دعائه : اللَّهم إن كنت كتبتنا سعداء ، فأثبتنا . وإن كنت كتبتنا أشقياء ، فامحنا واكتبنا سعداء . فإنك تمحو ما تشاء ، وتثبت ما تشاء ، وعندك أم الكتاب . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } إلا الشقاوة ، والسعادة ، والموت ، والحياة . وروى منصور عن مجاهد أنه قال : إلا الشقاوة ، والسعادة ، لا يتغيران . ويقال : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء } من أعمال بني آدم . ما كتب الحفظة ما ليس فيه جزاء خير ولا شر { وَيُثَبّتْ } ما فيه جزاء خير أو شر . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن الحفظة إذا رفعت ديوان العبد ، فإن كان في أوله وآخره خير ، يمحو الله ما بينهما من السيئات ، وإن لم يكن في أوله وآخره حسنات ، يثبت ما فيه من السيئات . وقال مقاتل : { يَمْحُو الله } يعني : ينسخ الله ما يشاء من القرآن ، ويثبت ، ويقر المحكم الناسخ ما يشاء فلا ينسخه . ويقال : { يَمْحُو الله } يعني : المعرفة عن ما يشاء { وَيُثَبّتْ } في قلب من يشاء . وهو مثل قول { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] ويقال : يقضي على العبد البلاء ، فيدعو العبد ، فيزول عنه . كما روي في الخبر «الدُّعَاءُ يَرُدُّ البَلاَءَ» .
ثم قال : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } يعني : أصل الكتاب ، وجملته ، وهو اللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء قبل أن يخلقهم .

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

قوله تعالى : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب ، والزلازل ، والمصايب ، في الدنيا إذ كذبوك ، وأنت حي { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } يقول : أو نميتك قبل أن نرينك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } بالرسالة { وَعَلَيْنَا الحساب } يعني : الجزاء .
ثم قال : { أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } يعني : نفتحها من نواحيها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هُوَ ذَهَابُ العُلَمَاءِ » . وقال ابن عباس : ذهاب فقهائها ، وخيار أهلها . وعن ابن مسعود نحوه . وقال الضحاك : أو لم ير المشركون أنا ننقصها من أطرافها يعني : يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما حولهم من أراضيهم ، وقراهم ، وأموالهم ، أفهم الغالبون؟ يعني : أو لا يرون أنهم المغلوبون ، والمنتقصون ، وعن عكرمة . أنه قال : الأرض لا تنقص ، ولكن تنقص الثمار ، وينقص الناس . وعن عطاء أنه قال : هو موت فقهائها ، وخيارها . وقال السدي : يعني : ينقص أهلها من أطرافها ، ولم تهلك قرية إلا من أطرافها . يعني : تخرب قبل ، ثم يتبعها الخراب . { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } يقول : لا راد لحكمه ، ولا مغير له ، ولا مرد لما حكم لمحمد صلى الله عليه وسلم النصرة والغنيمة { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } إذا حاسب فحسابه سريع .
قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : صنع الذين من قبلهم ، كصنيع أهل مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } يعني : يجازيهم جزاء مكرهم ، وينصر أنبياءه ، ويبطل مكر الكافرين . ثم قال : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } برّة وفاجرة { وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار } يعني : الجنة .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

قوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } يعني : كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، وسائر اليهود . ويقال : يعني : أهل مكة { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } يقول : كفى الله شاهداً بيني وبينكم على مقالتكم { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يعني : ومن آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام ، وأصحابه { شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } لأنهم وجدوا نعته ، وصفته ، في كتبهم . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } بجزم الثاء والتخفيف . وقرأ الباقون : بنصب الثاء ، وتشديد الباء { وَيُثَبّتْ } ومعناهما واحد . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، { وَسَيَعْلَمْ *** الكافر } بلفظ الوحدان ، وهو اسم جنس ، فيقع على الواحد ، وعلى الجماعة . وقرأ الباقون { الكفار } بلفظ الجماعة . وقال أبو عبيدة : رأيت في مصحف الإمام { وَسَيَعْلَمُ الكفار } بلفظ الجماعة . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ { وَمَنْ عِندَهُ } بالكسر . يعني : القرآن من عند الله تعالى . وروي عنه أيضاً : { وَسَيَعْلَمْ *** الكافرون } . وقرأ أبي بن كعب : { وَسَيَعْلَمْ الذين *** كَفَرُواْ } . وقال عبد الله بن مسعود : هذه السورة مكية ، وعبد الله بن سلام أسلم بعد ذلك بمدة ، فكيف يجوز أن يكون المراد به عبد الله بن سلام ، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ : بالكسر . وقرأ بعضهم { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } بضم العين ، وكسر اللام ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وروى عن ابن عباس أنه كان يقول : هذه السورة مدنية ، وكان يقرأ { وَمَنْ عِندَهُ } بالنصب .

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

قوله تعالى : { الر كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ } يعني : هذا كتاب أنزلنا جبريل ليقرأه عليك ، وهو القرآن { لِتُخْرِجَ الناس } أي : لتدعو الناس { مِنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : من الكفر إلى الإيمان . وسمى الكفر ظلمات ، لأن الكفر طريق الضلالة . فمن وقع فيه ضلّ الطريق . وسمى الإيمان نوراً ، لأنه طريق واضح مبين { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } يقول : بأمر ربهم { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } يعني : دين الإسلام العزيز ، المنيع بالنقمة لمن عصاه ، ولم يجب الرسل . الحميد لمن وحده . ويقال : { الحميد } في فعاله . ويقال : { الحميد } لأفعال الخلق . يشكر لهم اليسير من أعمالهم ، ويعطي الجزيل .
ثم قال تعالى : { الله الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض } من الخلق . قرأ ابن عامر ونافع : { الله } بالضم على معنى الابتداء . وقرأ الباقون { الله } بالكسر على معنى البناء .
ثم قال : { وَوَيْلٌ للكافرين } يعني : الكافرين بوحدانية الله تعالى { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي : غليظ ، دائم . والويل : الشدة من العذاب . ويقال : الويل وادٍ في جهنم .
ثم نعتهم فقال : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الاخرة } يعني : يستأثرون ، ويختارون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ، { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يعني : يصرفون الناس عن ملة الإسلام { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يعني : يريدون بملة الإسلام غيراً وزيغاً { أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ } عن الحق . يعني : في خطأ طويل بعيد عن الحق .
قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } يعني : بلغة قومه ، ليفهموه وليكون أبيَنَ لهم . يعني : { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } طريق الهدى { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء } عن دين الإسلام من لم يكن أهلاً لذلك { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } إلى دينه الإسلام من كان أهلاً لذلك ، { وَهُوَ العزيز } في ملكه ، { الحكيم } في أمره ، وقضائه ، ويقال : { الحكيم } حكم بالضلالة والهدى لمن يشاء .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } يعني : باليد والعصا { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } يعني : ادع قومك { مِنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : من الكفر إلى الإيمان { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } يعني : خوّفهم بمثل عذاب الأمم الخالية ، ليؤمنوا . وقال مجاهد : أيام نعمه . وكذلك قال قتادة والسدي . يعني : ذكرهم نعمائي ليؤمنوا بي . وروي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن حببني إلى عبادي . قال : يا رب كيف أحببك إلى عبادك ، والقلوب بيدك؟ فأوحى الله إليه أن ذكرهم نعمائي .
ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : في الذي فعلت بالأمم الخالية ، وما أعطيتهم من النعم لعلامات { لّكُلّ صَبَّارٍ } على طاعة الله ، والصبار هو البالغ في الصبر { شَكُورٍ } يعني : شكور لنعم الله تعالى ، وهو على ميزان فَعُول وهو المبالغة في الشكر .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

ثم قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } يعني : من فرعون وآله . كما قال في آية أخرى : { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبِّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين } [ الأنفال : 54 ] يعني : فرعون وآله . { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } يقول : يعذبونكم بأشد العذاب { وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } الصغار { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } يعني : يستخدمون نساءكم { وَفِى ذلكم } يعني : ذبح الأبناء ، واستخدام النساء ، { بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } يعني : بلية عظيمة لكم من خالقكم . ويقال : في إنجاء الله نعمة عظيمة لكم .
قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } يعني : قال . ويقال : أعلم ربكم { لَئِن شَكَرْتُمْ } نعمتي عليكم { لازِيدَنَّكُمْ } من النعمة { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } بتوحيد الله وجحدتم نعمتي عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } في الآخرة . قال الفقيه : حدثنا أبي رحمه الله بإسناده عن أبي هريرة أنه قال : من رزق ستاً لم يحرم ستاً . من رزق الشكر لم يحرم الزيادة لقوله تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } ومن رزق الصبر لم يحرم الثواب لقوله تعالى : { قُلْ ياعباد الذين ءَامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] ومن رزق التوبة لم يحرم القبول لقوله تعالى : { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ الشورى : 25 ] ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة لقوله تعالى : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ومن رزق الدعاء لم يحرم الإجابة لقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } [ غافر : 60 ] ومن رزق النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ سبأ : 39 ] قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الارض جَمِيعًا } يعني : إن جحدتم نعم الله ، ولم تؤمنوا به { فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ } يعني : عن إيمانكم وطاعتكم { حَمِيدٌ } لمن عبده منكم بالمغفرة .
قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } يقول : ألم يأتكم في القرآن خبر الذين من قبلكم من الأمم الماضية ، كيف عذّبهم الله تعالى عند تكذيب رسلهم { قَوْمُ نُوحٍ } كيف أهلكهم بالغرق ، { وَعَادٌ } كيف أهلكهم الله بالريح ، { وَثَمُودُ } كيف أهلكهم بالصيحة ، فهذا تهديد لأهل مكة ليعتبروا بهم .
قوله تعالى : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } كيف عذبوا { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } يعني : لا يعلم عددهم إلا الله . قال ابن مسعود : كذب النسابون وقرأ : { والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني : جاء الرسل بالأمر والنهي { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } قال مقاتل : وضع الكفار أيديهم على أفواههم .

فقالوا للرسل : اسكتوا فإنكم كذبة ، وإن العذاب غير نازل بنا . وروى هبيرة بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود في قوله { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } قال : جعلوا أصابعهم في فيهم . وقال القتبي : أي عضوا عليها حنقا وغيظاً .
قال مجاهد وقتادة : يعني : ردّوا عليهم قولهم وكذبوهم ويقال : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ } يعني : نِعَم رسلهم ، لأن مجيئهم بالبينات نعم . ومعنى قوله : { فِى أَفْوَاهِهِمْ } أي : بأفواههم . أي : ردوا تلك النعمة بالنطق بالتكذيب { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا } فهذا هو ردهم { بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } يعني : بما تدعونا إليه { وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } وهو المبالغة في الشك يعني : ظاهر الشك .

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)

قوله تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ } يقول : أفي وحدانية الله شك؟ وعلامات وحدانيته ظاهرة { فَاطِرَ *** السموات والارض } يعني : تشكون في الله خالق السموات والأرض { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ } يعني : يدعوكم إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى ليتجاوز عنكم { مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : منتهى آجالكم ، فلا يصيبكم فيه العذاب . فأجابهم قومهم { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } يقول : ما أنتم إلا آدميون مثلنا ، لا فضل لكم علينا بشيء . { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا } أي : تصرفونا { عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } من الآلهة { فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } يعني : بحجة بيّنة { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } يقول : ما نحن إلا آدميون مثلكم كما تقولون { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } ويختاره للنبوة { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان } جواباً لقولهم : { فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } يعني : لا ينبغي أن نأتيكم بِسُلْطَانٍ { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } لأن الأمر بيد الله تعالى { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } يعني : على المؤمنين أن يتوكلوا على الله .
قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } يعني : وفقنا لطريق الإسلام . ويقال : أكرمنا بالنبوة { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } أي فليثق الواثقون .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } يعني : لتدخلن في ديننا . فهذا كله تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } يقول : أوحى الله تعالى إلى الرسل { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } فهذا لام القسم ، ويراد به التأكيد للكلام أن يهلك الكافرين من قومهم { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارض مِن بَعْدِهِمْ } يقول : لننزلنكم في الأرض من بعد هلاكهم . فأهلك الله تعالى قومهم فسكن الرسل ، ومن آمن معهم من المؤمنين ديارهم { ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } يعني : ذلك الثواب لمن خاف مقامه يوم القيامة بين يدي رب العالمين .
وروي عن أبي بن كعب أنه قال : يقومون ثلاثمائة عام ، لا يؤذن لهم فيقعدون . أما المؤمنين فيهون عليهم ، كما يهون عليهم الصلاة المكتوبة . وروي عن منصور عن خيثمة أنه قال : كنا عند عبد الله بن عمر فقلنا : إن عبد الله بن مسعود كان يقول : إن الرجل ليعرق حتى يسبح في عرقه ، ثم يرفعه العرق حتى يلجمه . فقال ابن عمر : هذا للكفار ، فما للمؤمنين؟ فقلنا : الله أعلم . فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، حدثكم أول الحديث ، ولم يحدثكم آخره . إن للمؤمنين كراسي يجلسون عليها ، ويظلل عليهم بالغمام ، ويكون يوم القيامة عليهم كساعة من نهاره .
ثم قال تعالى : { وَخَافَ وَعِيدِ } أي : وخشي عذابي عليه . قرأ نافع في رواية : ورش «وَعِيدِي» بالياء يعني : عذاب الله . وقرأ الباقون : بغير ياء ، لأن الكسرة تقوم مقامه وأصله الياء .

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)

ثم قال : { واستفتحوا } يقول : واستنصروا . قال قتادة : استنصرت الرسل على قومها . وقال مقاتل : يعني : قومهم دعوا الله ، فقالوا : اللهم إن كانت رسلنا صادقين فعذبنا . ويقال : استنصر كلا الفريقين { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يقول : خسر عند الدعاء كل متكبر عن الإيمان ، معرض عن التوحيد . وقال الزجاج : الجبار الذي يضرب عند الغضب ، ويقتل عند الغضب . وقال مجاهد : { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : معاند للحق ، مجانب . ويقال : نزلت في أبي جهل .
قوله تعالى : { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } يقول : من قدامهم . يعني : بعد الموت . ويقال : من بعدهم جهنم . ويقال : يعني : أمامه . كقوله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] يعني : أمامهم .
ثم قال : { ويسقى مِن مَّاء صَدِيدٍ } يعني : بما يسيل من جلودهم من القيح والدم . ويقال : ماء كهيئة الصديد .
قوله تعالى : { ***وَيَتَجَرَّعُهُ } يعني : يرددن في حلقه { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } يقول ولا يقدر على ابتلاعه لكراهيته ويقال يجتره { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ } يعني : غم الموت ، وألمه ، وطعمه ، من كل مكان من جسده . ويقال : من كل ناحية ، ومن كل عرق ، ومن كل موضع شعرة يجد مرارة الموت { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } ، يعني : لا يموت أبداً { وَمِن وَرَائِهِ } يعني : من بعد الصديد { عَذَابٍ غَلِيظٍ } يعني : شديد لا يفتر عنه .
قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ } يعني : صفة الذين كفروا . ويقال : مثل أعمال الذين كفروا بربهم يوم القيامة { كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح } يقول : ذرت به الريح { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } يعني : قاصف شديد الريح . فكذلك أعمال الكفار أحبط الله ثواب أعمالهم ، وهذا كقوله { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] لأن أعمالهم كانت بغير إيمان ، ولا تُقبل الأعمال إلا بالإيمان ، ولا ثواب لهم بها . قرأ نافع { اشتدت بِهِ *** الرياح } بالألف . وقرأ الباقون : بغير ألف . { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَىْء } يعني : لا يقدرون على ثواب أعمالهم { ذلك هُوَ الضلال البعيد } يعني : الخطأ البعيد عن الحق .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله } يعني : ألم تعلم أن الله { خُلِقَ * السموات والارض } قرأ حمزة والكسائي { خالق * السموات والارض } بكسر الضاد على معنى الإضافة .
وقرأ الباقون : { خُلِقَ * السموات والارض } بنصب الضاد على معنى فعل الماضي .
وقوله : { بالحق } يعني : بالعدل . ويقال : ببيان الحق { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يقول : يميتكم ، ويهلككم إن عصيتموه { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : قوماً غيركم ، خيراً منكم ، وأطوع لله تعالى . فهذا تهديد من الله ليخافوه .
ثم قال : { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } يعني : إهلاككم ليس على الله بشديد .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

قوله تعالى : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } يقول : وخرجوا من قبورهم لأمر الله تعالى . يعني : القادة ، والأتباع اجتمعوا للحشر والحساب ، وهذا كقوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الارض بَارِزَةً وحشرناهم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] { فَقَالَ الضعفاء } يعني : الأتباع والسفلة { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم القادة { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } في الدنيا نطيعكم فيما أمرتمونا به { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } يقول : حاملون عنا { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء قَالُواْ } يعني : القادة للسفلة { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } يعني : لو أكرمنا الله بالهدي ، والتوحيد لهديناكم لدينه . ويقال : معناه لو أدخلنا الله الجنة ، لشفعنا لكم .
ثم قالت القادة للسفلة { سَوَاء عَلَيْنَا } العذاب { أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } يعني : من مفر ولا ملجأ من العذاب . وروى أسباط عن السدي أنه قال : يقول أهل النار : تعالوا فلنصبر ، لعلّ الله يرحمنا بصبرنا ، فيصبرون ، فلا يرحمون . فيقولون : تعالوا فلنجزع ، لعل الله يرحمنا بجزعنا فيجزعون ، فلا يغني عنهم شيئاً ، فيقولون : { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .
قوله تعالى : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر } روى سفيان ، عن رجل ، عن الحسن أنه قال : إذا كان يوم القيامة ، ودخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة ، قام إبليس خطيباً على منبر من نار ، فقال : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } الآية . ويقال : إنهم لما دخلوا النار ، أقبلوا على إبليس ، وجعلوا يلومونه ، ويقولون : أنت الذي أضللتنا ، فيرد عليهم ، فبيّن الله تعالى ردّه عليهم ، لكيلا يغتروا به في الدنيا ، فذلك قوله : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر } يعني : لما فرغ من الأمر حين دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فقال إبليس لأهل النار : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } يعني : البعث بعد الموت أو الجنة والنار { وَوَعَدتُّكُمْ } بأنه لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ، ولا حساب { فَأَخْلَفْتُكُمْ } فكذبتكم الوعد { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } يعني : لم يكن لي قدرة الإكراه والقهر . ويقال : لم أكن ملكاً فقهرتكم على عبادتي . ويقال : لم يكن لي حجة على ما قلت لكم { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } يعني : سوى أن دعوتكم إلى طاعتي { فاستجبتم لِى } يعني : أجبتم لي طوعاً ختياراً { فَلاَ تَلُومُونِى } بدعوتي إياكم { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } بالإجابة { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بمغيثكم ، فأخرجكم من النار { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } يقول : ولا أنتم مغيثي ، فتخرجونني من النار . { إِنّى كَفَرْتُ بِمَا *** أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } قال الكلبي : فيه تقديم وتأخير . يقول : إني كفرت من قبل ما عذلتموني وكنت كافراً قبل ذلك ، فليس لكم عندي صراخ ، ولا إجابة .

وقال مقاتل : معناه إني تبرأت اليوم مما أشركتموني مع الله في طاعتي من قبل في الدنيا . وقال القتبي في قوله : إني كفرت ، وتبرأت كقوله في سورة الممتحنة : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } [ الممتحنة : 4 ] أي : تبرأنا منكم . وكقوله في العنكبوت : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين } [ العنكبوت : 25 ] يعني : يتبرأ . وهذا موافق لقوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] ثم قال : { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : الكافرين لهم عذاب دائم . قرأ حمزة { بِمُصْرِخِىَّ } بكسر الياء ، وهي قراءة الأعمش . وقرأ الباقون : بنصب الياء . قال أبو عبيدة : النصب أحسن . والأول ما نراه إلا غلطاً . وهكذا قال الزجاج . ويقال : هي لغة لبعض العرب . والنصب هي اللغة الظاهرة . قرأ أبو عمرو { ***أَشْرَكْتُمُونِي } بالياء عند الوصل . وقرأ الباقون بغير ياء .

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

قوله تعالى : { أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : وحدوا الله ، وأدّوا الفرائض ، وانتهوا عن المحارم { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنهار مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين وأنهار مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [ محمد : 15 ] وهي الأنهار التي ذكرت في آية أُخرى { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } الآية { خالدين فِيهَا } مقيمين في الجنة لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } بأمر سيدهم { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } يعني : يسلم بعضهم على بعض . ويقال لهم : التحية من الله تعالى .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً } يقول كيف بيّن الله شبهاً { كَلِمَةً طَيّبَةً } وهي كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ، لا تكون في كلمة التوحيد زيادة ، ولا نقصان ، ولكن يكون لها مدد ، وهو التوفيق بالطاعات في الأوقات { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهي النخلة . كما أنه ليس في الثمار شيء أحلى وأطيب من الرطب ، فكذلك ليس في الكلام شيء أطيب من كلمة الإخلاص .
ثم وصف النخلة فقال : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني : في الأرض { وَفَرْعُهَا فِى السماء } يعني : رأسها في الهواء فكذلك الإخلاص يثبت في قلب المؤمن ، كما تثبت النخلة في الأرض . فإذا تكلم المؤمن بالإخلاص ، فإنها تصعد في السماء ، كما أن النخلة رأسها في السماء ، وكما أن النخلة لها فضل على سائر الشجر ، في الطول ، واللون ، والطيب والحسن ، فكذلك كلمة الإخلاص لها فضل على سائر الكلام ، فهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول : المعرفة في قلب المؤمن العارف ، ثابتة كالشجرة الثابتة في الأرض ، بل هي أثبت ، لأن الشجرة تقطع . ومعرفة العارف لا يقدر أحد أن يخرجها من قلبه ، إلا المعرف الذي عرفه . ويقال : { وَفَرْعُهَا فِى السماء } يعني : ترفع أعمال المؤمن المصدق إلى السماء ، لأن الأعمال لا تقبل بغير إيمان ، لأن الإيمان أصل ، والأعمال فروعه ، فترفع الأعمال ، ويقبل منه .
ثم قال : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } يعني : تخرج ثمارها في كل وقت ، وتخرج منها في كل وقت من ألوان المنفعة كل حين . يعني : في كل وقت . روى الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس أنه قال : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } يعني : غدوة وعشية . وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : النخلة يكون حملها شهرين . فنرى أن الحين شهران . وروى هشام بن حسان ، عن عكرمة ، أنه قال : حلف رجل فقال : إن فعلت كذا إلى حين ، فعليَّ كذا . فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى ناس من الفقهاء فسألهم ، فلم يقولوا شيئاً .

قال عكرمة . فقلت : إن من الحين حيناً لا يدرك كقوله تعالى { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] ومنها ما يدرك كقوله { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } فأراد ما بين خروج الثمرة إلى صرامها ، فأراد به ستة أشهر . قال : فأعجب أي : فرح بذلك عمر بن عبد العزيز . وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن امرأة حلفت ألاَّ تدخل على أهلها حيناً . قال : الحين ما بين طلوع الطلع إلى أن يجد وبين أن يجد إلى أن يطلع الطلع . يعني : ستة أشهر . وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الحين ما بين الثمرتين . يعني : سنة . وعن وهب بن منبه أنه قال : الحين السنة . وعن مقاتل : سنة . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الحين ستة أشهر . وقال عكرمة : النخلة لا يزال فيها شيء ينتفع به إما ثمرة وإما حطبه . فكذلك الكلمة الطيبة ينتفع بها صاحبها في الدنيا والآخرة .
ثم قال تعالى : { بِإِذْنِ رَبّهَا } أي : بأمر ربها { وَيَضْرِبُ الله الامثال } يعني : يبيّن الأشباه { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يعني : يتعظون ، ويتفكرون في الأمثال فيوحّدونه .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

قوله تعالى { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } يعني : كلمة الشرك { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } وهي الحنظلة ليس لها حلاوة ، ولا طهارة ، ولا رائحة طيبة . فكذلك الشرك بالله خبيث . ثم وصف الشجرة فقال : { اجتثت مِن فَوْقِ الارض } يقول : اقتلعت من فوق الأرض { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } يعني : ليس لها أصل يجيء بها الريح ، ويذهب . فكذلك الكفر ليس له أصل ، ولا حجة في الأرض ، ولا في السماء .
ثم قال تعالى : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت } بلا إله إلا الله { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } يعني : يثّبتهم على ذلك القول عند النزع { وَفِي الاخرة } يعني : في القبر . وقال البراء بن عازب : نزلت الآية في عذاب القبر . يسأل من ربك ، ومن نبيك ، وما دينك؟ يعني : إذا أجاب فقد ثبّته الله تعالى . وقال الضحاك : إذا وضع المؤمن في قبره ، وانصرف عنه الناس ، دخل عليه ملكان ، فيجلسانه ، ويسألانه : من ربك ، ومن نبيك ، وما دينك ، وما كتابك ، وما قبلتك؟ فيثبّته الله في القبر ، كما يثبته في الحياة الدنيا بالإقرار بالله تعالى ، وكتبه ، ورسله . وروى ابن طاوس عن أبيه أنه قال : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } يعني : قول لا إله إلا الله ، يثّبتهم عليها في الدنيا ، وفي الآخرة عند المسألة في القبر . وهكذا قال قتادة ، وقال الربيع بن أنس { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } يعني : في القبر { وَفِي الاخرة } يعني : يوم الحساب . ويقال : { فِي الحياة الدنيا وَفِى الاخرة } يعني : يموت على الإيمان ، ويبعث يوم القيامة مع الإيمان .
ثم قال : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } يعني : عن الحجة . فلا يقولونها في القبر . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا دخل الكافر ، والمنافق قبره . قالا له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فيقول : لا أدري . فيقولان له : لا دريت ويضربانه بمرزبة ، فيصيح صيحة يسمعها ما بين الخافقين ، إلا الجن والإنس » . وهو قوله تعالى : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء } يعني : ما شاء للمؤمنين أن يثبتهم ، وللكافرين أن يضلهم عن الجواب .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا } قال مقاتل : كانت النعمة أن الله أطعمهم من جوع ، يعني : قريشاً . وآمنهم من خوف ، يعني : من القتل . ثم بعث فيهم رسولاً منهم ، فكفروا بهذه النعمة ، وبدّلوها ، وهم بنو أمية ، وبنو المغيرة { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } يعني : وأنزلوا سائر قريش دار البوار . يعني : دار الهلاك بلغة عمان . أهلكوا قومهم ، ثم يصيرون بعد القتل إلى جهنم يوم القيامة . فذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا } أي : غيّروا نعمة الله عليهم بالكفر { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } يعني : دار الهلاك { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } هي دارهم في الآخرة . قال الكلبي : { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } يعني : مصرعهم ببدر . { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } يعني : يدخلونها يوم القيامة { وَبِئْسَ القرار } يعني : بئس المستقر جهنم .
ثم قال تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } يعني : أي شركاء { لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } يعني : ليصرفوا الناس من دين الإسلام . قرأ أبو عمرو وابن كثير : { لِيُضِلُّواْ } بنصب الياء . يعني : إنهم أخطأوا الطريق ، وضلوا . وقرأ الباقون : بالضم . يعني : ليصرفوا الناس عن الهدى . قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَمَتَّعُواْ } يعني : عيشوا في الدنيا ، وتمتعوا بها . { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } يعني : مرجعكم يوم القيامة إلى النار .
قوله تعالى : { قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ } قرأ حمزة والكسائي وابن عامر : { قُل لّعِبَادِىَ } بغير ياء . وقرأ الباقون : { لّعِبَادِىَ } بالياء مع النصب ، وأصله الياء ، إلا أن الكسرة تغني عن الياء . وقال بعض الحكماء : شرف الله تعالى عباده بهذه الياء ، وهي خير لهم من الدنيا ، وما فيها ، لأن فيه إضافة إلى نفسه ، والإضافة تدل على العتق ، لأن رجلاً لو قال لعبده : يا ابن ، أو يا ولد لا يعتق ، ولو قال يا ولدي أو يا ابني يعتق بالإضافة إلى نفسه . فكذلك إذا أضاف الله العباد إلى نفسه ، فيه دليل على أن يعتقهم من النار { يُقِيمُواْ الصلاة } يعني : يتمونها بركوعها ، وسجودها ، ومواقيتها ، { وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } من الأموال { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يعني : سراً على المتعففين ، وعلانية على السائلين { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } يعني : لا فداء فيه { وَلاَ خلال } يعني : لا مخالة تنفعه ، وهي الصداقة «لأنه» إذا نزل بهم شدة في الدنيا ، يعادون ، ويشفع خليلهم ، وليس في الآخرة شيء من ذلك ، وإنما هي أعمالهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لاَّ بَيْعٌ وَلاَ خلال } بنصب العين واللام . وقرأ الباقون : بالرفع والتنوين فيهما . وهذا الاختلاف مثل قوله { ياأيها الذين ءامنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة والكافرون هُمُ الظالمون }

[ البقرة : 254 ] .
ثم بيّن دلائل وحدانيته فقال تعالى : { الله الذى خَلَقَ *** السموات والارض ***** وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } وهو المطر { فَأَخْرَجَ بِهِ } يعني : فأنبت بالمطر { لِتَجْرِىَ فِى البحر بِأَمْرِهِ } يقول بإذنه { وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار * وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ } يعني : دائمين ، مطيعين . يعني : ذلّل لكم ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } يعني : لبني آدم ، يلتمسون فيها المعيشة ، وينتشرون في النهار إلى حوائجهم ، وفي الليل مستقرهم ومنامهم ، { وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يعني : أعطاكم من كل شيء لم تحسنوا أن تسألوا ، فأعطيتكم برحمتي . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : لم تسألوه بكل الذي أعطاكم . وقال معمر والحسن : آتاكم من كل الذي سألتموه . قال مجاهد : كل ما رغبتم إليه ، قرأ بعضهم { مِن كُلّ } بالتنوين يعني : أعطاكم من كل شيء . ثم قال { مَا سَأَلْتُمُوهُ } يعني : لم تسألوه ، ولا طلبتموه ، ولكن أعطيتكم برحمتي . يعني : ما ذكر مما سُخِّر للناس في هذه الآيات . وقرءاة العامة { مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } من غير تنوين على معنى الإضافة . يعني : من جميع ما سألتموه .
ثم قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } يعني : لا تقدروا على أداء شكرها . ويقال : { تُحْصُوهَا } يعني : لا تحفظوها { إِنَّ الإنسان } يعني : الكافر { لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } يعني : يظلم نفسه بالكفر بنعم الله تعالى .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا } يعني : مكة آمناً من القتل والغارة . ويقال : من الجذام والبرص { واجنبنى وَبَنِىَّ } وذلك أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ، سأل ربه أن يجعل البلد آمناً ، وخاف على بنيه . لأنه رأى القوم يعبدون الأصنام ، والأوثان . فسأل ربه أن يجنبهم عن عبادة الأوثان فقال : { واجنبنى وَبَنِىَّ } يقول : احفظني وبنيّ { أَن نَّعْبُدَ الاصنام } يعني : لكي لا نعبد ، وفيه دليل أن المؤمن لا ينبغي له أن يأمن على إيمانه ، وينبغي أن يكون متضرعاً إلى الله . ليثبّته على الإيمان ، كما سأله إبراهيم لنفسه ولبنيه بهذا الإسلام . وأخاف أن تنزعه مني فما دام هذا الخوف معي ، رجوت ألا تنزعه مني .
ثم قال : { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } يقول : بهن ضلّ كثير من الناس . فكأن الأصنام سبب لضلالتهم . فنسب الإضلال إليهن ، وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة . وقال بعضهم : كان الإضلال منهن ، لأن الشياطين كانت تدخل أجواف الأصنام ، وتتكلم ، فذلك الإضلال منهن .
ثم قال : { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى } يعني : من آمن بي فهو معي على ديني . ويقال : فهو من أمتي { وَمَنْ عَصَانِى } يعني : لم يطعني ، ولم يوحدك { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب .
ثم قال تعالى : { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } يعني : أنزلت بعض ذريتي ، وهو إسماعيل عليه السلام { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } يعني : بأرض مكة ، وذلك أن لسارة كانت جارية يقال لها : هاجر ، فوهبتها من إبراهيم ، فولدت منه إسماعيل ، فغارت سارة ، وناشدته أن يخرجها من أرض الشام ، فأخرجهما إبراهيم عليه السلام إلى أرض مكة ، ثم رجع إلى سارة . فلما كبر إسماعيل ، رجع إبراهيم إليه ، وبنى معه البيت . فذلك قوله : { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } يعني : بأرض ليس فيها زرع { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } يعني : حرم فيه القتال والاصطياد ، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام وغير ذلك ، { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } يعني : ليتموا الصلاة ، وإنما ذكر الصلاة خاصة ، لأنها أولى العبادات وأفضلها { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ } يعني : تشتاق إليهم . قال مجاهد : لو قال إبراهيم : أفئدة الناس لزاحمتكم الروم وفارس . ولكنه قال : { أَفْئِدَةً مّنَ الناس } وقال سعيد بن جبير : لو قال إبراهيم أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى ، ولكن قال : { أَفْئِدَةً مّنَ الناس } { وارزقهم } يعني : أطعمهم { مّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } يعني : لكي يشكروا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18