كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

ثم استأنف الكلام فقال تعالى : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ، يعني : خلقهم في الدنيا يعيدهم في الآخرة؛ ويقال : كما بدأناهم شقياً وسعيداً في الدنيا . فكذلك يكونون في الآخرة؛ ويقال : كما بدأنا أول خلق من نطفة في الدنيا ، نعيده وأن تمطر السماء أربعين يوماً كمني الرجال فينبتون فيه . { وَعْداً عَلَيْنَا } ، يعني : وعدنا البعث صدقاً وحقاً لا خلاف فيه ، كقوله { تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } [ السجدة : 2 ] { وَعْداً } صار نصباً للمصدر . { إِنَّا كُنَّا فاعلين } بهم ، أي باعثين بعد الموت . وروي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « إنَّكُمْ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً ، ثمَّ قال : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } » .

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } ، يعني : في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، وكل كتاب زبور . { مِن بَعْدِ الذكر } ، يعني : من بعد اللوح المحفوظ؛ ويقال : الذكر التوراة ، يعني : كتبنا في الإنجيل والزبور والفرقان من بعد التوراة ، أي بيَّنا في هذه الكتب { إِنَّ الارض } ، يعني : أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } ، يعني : ينزلها عبادي المؤمنون ، وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل رضي الله عنه ويقال : إن الأرض المقدسة يرثها ، أي ينزلها ، بنو إسرائيل؛ ويقال : يعني أرض الشام يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال جميع الأرض تكون في آخر الزمان . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « سَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا » . قوله عز وجل : { إِنَّ فِى هذا } ، أي في هذا القرآن . { لبلاغا } إلى الجنة { لّقَوْمٍ عابدين } ، أي موحدين؛ ويقال : في هذا القرآن لبلاغاً بلغهم من الله عز وجل لقوم مطيعين . وعن كعب أنه قال : إنهم أهل الصلوات الخمس . قوله عز وجل : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } ، يعني : ما بعثناك يا محمد إلاَّ رحمة للعالمين ، يعني : نعمة للجن والإنس؛ ويقال : { للعالمين } أي لجميع الخلق ، لأن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن وكافر ومنافق . وكان رحمة للمؤمنين ، حيث هداهم طريق الجنة؛ ورحمة للمنافقين ، حيث أمنوا القتل؛ ورحمة للكافرين بتأخير العذاب . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من آمن بالله ورسوله فله الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي أن يصيبه ما كان يصيب الأمم السالفة قبل ذلك؛ فهو رحمة للمؤمنين والكافرين . وذكر في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام : يقول الله عز وجل : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } ، فهل أصابك من هذه الرحمة؟ قال : نعم أصابني من هذه الرحمة . أني كنت أخشى عاقبة الأمر ، فآمنت بك لثناء أثنى الله تعالى عليّ بقوله عز وجل : { ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ * مطاع ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20/21 ] .
قوله عز وجل : { قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد } ، أي ربكم رب واحد . { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } ؟ أي مخلصون بالتوحيد ، ويقال : مخلصون بالعبادة . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر يعني : أسلموا . ثم قال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } ؛ قال : فإن أعرضوا عن الإيمان ، { فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ } يعني : أعلمتكم { على سَوَاء } ، أي على بيان علانية غير سر؛ ويقال : أعلمتكم بالوحي الذي يوحى إليّ ، لنستوي في الإيمان به؛ ويقال : معناه أعلمتكم ، فقد صرت أنا وأنتم على سواء . وهذا من الاختصار .

ثم قال عز وجل : { وَإِنْ أَدْرِى } ، يعني : وما أدري ، { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } من نزول العذاب بكم في الدنيا فقل لهم : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول } ، يعني : العلانية . { وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } ، يعني : ما تسرون من التكذيب بالعذاب . ثم قال عز وجل : { وَإِنْ أَدْرِى } ، يعني : وما أدري { لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } ، لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا فتنة لكم ، لأنهم كانوا يقولون : لو كان حقاً لنزل بنا العذاب . { ومتاع إلى حِينٍ } ، أي بلاغ إلى منتهى آجالكم ، يعني : تعيشون إلى الموت .
قوله عز وجل : { قَالَ رَبّ احكم بالحق } ، يعني : اقض بيني وبين أهل مكة بالعدل ، ويقال : بالعذاب { وَرَبُّنَا الرحمن } ، أي العاطف على خلقه بالرزق . { المستعان على مَا تَصِفُونَ } ، يعني : أستعين به على ما تقولون وتكذبون؛ ويقال : المطلوب منه العون والنصرة . وروي عن الضحاك أنه قرأ { قُل رَّبّ * احكم بالحق } على معنى الخبر على ميزان افعل ، يعني : هو أحكم الحاكمين . قال : لأنه لا يجوز أن يسأل أن يحكم بالحق ، وهو لا يحكم إلاَّ بالحق . وقرأه العامة { قُل رَّبّ *** أَحْكَمُ } على معنى السؤال؛ معناه احكم بحكمك . ثم يخبر عن ذلك الحكم أنه حق ، قرأ عاصم في رواية حفص { قَالَ رَبّ احكم } على معنى الحكاية؛ وقرأ الباقون { قُل رَّبّ *** أَحْكَمُ } . وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين { على مَا * يَصِفُونَ } بالياء بلفظ المغايبة ، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ حمزة { الزبور } بضم الزاي؛ وقرأ الباقون بالنصب؛ والله أعلم بالصواب .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

ياأيُّها النَّاسُ اتّقُوا رَبَّكُمْ } ، يقول : أطيعوا ربكم؛ ويقال : اخشوا ربكم . ، يقول : أطيعوا ربكم؛ ويقال : اخشوا ربكم . { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء } ، يعني : قيام الساعة { شَىْء عَظِيمٌ } ؛ يقول : هولها عظيم . والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة من قولهم : زلت قدمه ، إذا زالت عن الجهة سرعة . ثم وصف ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ، يعني : تشغل كل مرضعة { عَمَّا أَرْضَعَتْ } ، يعني : كل ذات ولد رضيع؛ ويقال : تحَير كل والدة عن ولدها . { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } ، أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم .
وروى منصور ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمَة { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ } قال : هذا بين يدي الساعة؛ وقال مقاتل : وذلك قبل النفخة الأولى ، ينادي ملك من السماء : يا أيها الناس أتى أمر الله . فيسمع الصوت أهل الأرض جميعاً ، فيفزعون فزعاً شديداً ، ويموج بعضهم في بعض ، فيشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، وتضع الحوامل ما في بطونها؛ وتزلزلت الأرض ، وطارت القلوب . وعن سعيد بن جبير أنه قال : إنما هو عند النفخة الأولى التي هي الفزع الأكبر؛ ويقال : هو يوم القيامة . وقال : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم قال : حدّثنا الدبيلي قال : حدّثنا أبو عبد الله قال : حدّثنا سفيان ، عن علي بن زيد بن جدعان قال : سمعت الحسن يقول : حدّثنا عمران بن الحسين قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ، فنزلت عليه هذه { تَصِفُونَ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، » " أَتَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ ذلكَ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك يَوْمَ يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ لآدمَ . قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ أَهْلِ الجَنَّةِ . قالَ : فيقولُ آدَمْ : وَمَا بَعْثُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ يقولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ . قال : فَأَنْشَأَ القَوْمُ يبكون« " . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » " إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ قَطَّ ، إلاَّ كَانَتْ قَبْلَهُ جَاهِلِيَّةٌ ، فَيُؤْخَذُ العَدَدُ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ . فإنْ لَمْ يَكُنْ كملَ العددُ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ ، أخذَ من المنافقينَ . وَمَا مَثَلُكُمْ في الأمَمِ ، إلا كَمَثَلِ الرّقْمَةِ في ذِراعٍ ، وَكالشَّامَةِ في جَنْبِ البَعِيرِ« " . ثم قال عليه الصلاة والسلام : " »إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ« " فَكبروا ، ثم قال : " »إنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ ما كانتا في شَيْءٍ إلا كَثَّرَتَاهُ : يأجوجُ ومأجوجُ ومن مات من كفرةِ الجَنَّةِ وَالإنْسِ« " . وروى أبو سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يَقُولُ الله تَعَالَى لآدَمَ : قُمْ فَابْعَثْ أَهْلَ النَّارِ . فقالَ : يا رَبِّ وَمَا بَعْثُ أَهْلِ النَّارِ؟ فيقولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتسعةٌ وتسعون . فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَتَضَعُ الحَامِلُ ما فِي بَطْنِها« "

ويقال : هذا على وجه المثل ، لأن يوم القيامة لا يكون فيه حامل ولا صغير ، ولكنه بيَّن هول ذلك اليوم ، أنه لو كان فيه حاملاً ، لوضعت حملها من شدة ذلك اليوم .
ثم قال تعالى : { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى } ، يعني : ترى الناس سكارى من الهول ، أي كالسكارى وما هم بسكارى من الشراب . { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } ؛ قرأ حمزة والكسائي { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى } بغير ألف؛ وقرأ الباقون كلاهما بالألف . وروي عن ابن مسعود وحذيفة أنهما قرآ { سكارى } وهو اختيار أبي عبيدة؛ وروي عن أبي زرعة أنه قرأ على الربيع بن خثيم { وَتَرَى } بضم التاء؛ وقراءة العامة بالنصب .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

قوله عز وجل : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } ، يعني : يخاصم في الله ، يعني : في وحدانية الله؛ ويقال : في دين الله . { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، يعني : بغير حجة؛ ويقال : بغير علم يعلمه ، وهو النضر بن الحارث وأصحابه . { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } ، يعني : يطيع ويعمل بأمر كل شيطان متمرد في معصية الله عز وجل؛ ويقال : معناه ويتبع ما سول له الشيطان . والمريد : الفاسد ، يقال : مرد الشيء إذا بلغ في الشر غايته؛ ويقال : مرد الشيء إذا جاوز حد مثله .
ثم قال عز وجل : { كُتِبَ عَلَيْهِ } ، يعني : قضي عليه ، يعني : الشيطان . { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } ، يعني : من يتبع الشيطان؛ { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } عن الهدى ، { وَيَهْدِيهِ } ؛ يعني : يدعوه { إلى عَذَابِ السعير } ، يعني : إلى عمل عذاب النار . قوله عز وجل : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } ، يعني : يا كفار مكة . { إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } ، يعني : في شك { مّنَ البعث } بعد الموت ، فانظروا إلى بدء خلقكم . { فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ } يعني : من آدم عليه السلام من تراب . { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } ، وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق . { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } ، وهي اللحمة القليلة قدر ما يمضغ مثل قطعة كبد . { مُّخَلَّقَةٍ } ، أي تامة { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ، يعني : غير تامة ، وهو السقط؛ ويقال : مصورة وغير مصورة .
{ لّنُبَيّنَ لَكُمْ } بدء خلقكم؛ ويقال : يخرج السقط من بطن أمه مصوراً أو غير مصور لنبين لكم بدء خلقكم كيف نخلقكم في بطون أمهاتكم؛ ويقال : لنبين لكم في القرآن أنكم كنتم كذلك . { وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَاء } فلا يكون سقطاً . { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، يعني : إلى وقت خروجه من بطن أمه؛ ويقال : إلى وقت معلوم لتسعة أشهر . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } من بطون أمهاتكم أطفالاً صغاراً؛ وقال القتبي : لم يقل أطفالاً ، لأنهم لم يخرجوا من أم واحدة ، ولكنه أخرجهم من أمهات شتى ، فكأنه قال : يخرجكم طفلاً طفلاً .
{ ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } ، يعني : ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة ، ويقال : إلى ست وثلاثين سنة . والأشد هو الكمال في القوة والخير . { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } مِنْ قَبْل أن يبلغ أشده ، { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } ، أي أضعف العمر وهو الهرم؛ ويقال : يعني : يرجع إلى أسفل العمر ، يعني : يذهب عقله . { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } ، يعني : لكيلا يعقل بعد عقله الأول .
ثم دلهم على إحياء الموتى بإحيائه الأرض ، فقال تعالى : { وَتَرَى الارض هَامِدَةً } ، يعني : ميتة يابسة جافة ذات تراب . { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء } ، يعني : المطر ، { اهتزت } ؛ يعني : تحركت بالنبات .

كقوله عز وجل : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } [ النمل : 10 ] يعني : تتحرك؛ ويقال : اهتزت ، يعني : استبشرت . { وَرَبَتْ } ، يعني : انتفخت للنبات . وأصلهُ من ربا يربو ، وهو الزيادة . { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ } ، يعني : من كل صنف من ألوان النبات . { بَهِيجٍ } ، يعني : حسناً حتى يُبْهَجَ به ، فدلهم للبعث بعد إحياء الأرض ، ليعتبروا ويعلموا بأن الله هو الحق ، وعبادته هي الحق ، وغيره من الآلهة باطل . { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى } ؛ أي يعلم أنه يحيي الموتى . { وَأَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } ، أي قادر على كل شيء من البعث وغيره .

وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)

قوله عز وجل : { وَأَنَّ الساعة } ، يعني : يَعْلَمُوا أنَّ السّاعَة { ءاتِيَةٌ } ، أي كائنة أي جاثية . { لاَ رَيْبَ فِيهَا } ، أي لا شك فيها عند المؤمنين ، وعند كل من كان له عقل وذهن . { وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور } . قوله عز وجل : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } ، يعني : يخاصم في دين الله عز وجل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، أي بلا بيان وحجة ، { وَلاَ هُدًى } ؛ يعني : ولا دليل واضح من المعقول ، { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } يعني : ولا كتاب منزل مضيء فيه حجة .
{ ثَانِىَ عِطْفِهِ } ، يعني : لاوي عنقه عن الإيمان ، وهو على وجه الكِنَايَةِ ، ومعناه يجادل في الله بغير علم متكبراً؛ ويقال { ثَانِىَ عِطْفِهِ } ، أي معرضاً عنه . { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } ؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { لِيُضِلَّ } بنصب الياء ، يعني : ليعرض عن دين الله عز وجل ، والباقون بالضم ، يعني : ليصرف الناس عن دين الإسلام . قال الله تعالى : { لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ } ، يعني : النضر بن الحارث قتل يوم بدر صبراً ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } ؛ يعني : عذاب النار فأخبر الله تعالى أن ما أصابه في الدنيا من الخزي ، لم يكن كفارة لذنوبه .
ثم قال عز وجل : { ذلك } ، يعني : ذلك العذاب ، يعني : يقال له يوم القيامة : هذا العَذَابُ { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ، يعني : بما عملت يداك . وذكر اليدين كناية ، يعني : ذلك العذاب بكفرك وتكذيبك . { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } ، يعني : لا يعذب أحداً بغير ذنب .
قوله عز وجل : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } ، يعني : على شك ، وعلى وجه الرياء ، ولا يريد به وجه الله تعالى؛ ويقال : على شك . والعرب تقول : أنت على حرف ، أي على شك؛ ويقال : على حرف بلسانه دون قلبه . وروي عن الحسن أنه قال : { يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } أي على إيمان ظاهر وكفر باطن؛ ويقال : { على حَرْفٍ } ، أي على انتظار الرزق . وهذه الآية مدنية ، نزلت في أناس من بني أسد أصابتهم شدة شديدة فاحتملوا العيال ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأغلوا الأسعار بالمدينة .
{ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } ، يعني : إن أصابه سعة وغنية وخصب اطمأن به؛ وقال : نعم الدين دين محمد صلى الله عليه وسلم . { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } ، أي بلية وضيق في المعيشة ، { انقلب على وَجْهِهِ } ؛ أي رجع إلى كفره الأول؛ وقال : بئس الدين دين محمد . { خَسِرَ الدنيا والاخرة } ، أي غبن الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بذهاب ماله ، وفي الآخرة بذهاب ثوابه؛ ويقال : خسر الدنيا والآخرة ، لأنه لم يدرك ما طلب من المال ، وفي الآخرة بذهاب الجنة . وروي عن حميد أنه كان يقرأ { ***خَاسِرَ } بالألف ، وقراءة العامة { لَفِى خُسْرٍ } بغير ألف . { ذلك هُوَ الخسران المبين } ، يعني : الظاهر البين .

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)

قوله عز وجل : { يَدْعُواْ *** مِن دُونِ الله } ، يعني : يعبد من دون الله { مَا لاَ يَضُرُّهُ } ، إن لم يعبده ، يعني : الصنم ، { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن عبده . { ذلك هُوَ الضلال البعيد } ، يعني : الخطأ البين؛ ويقال : في خطأ طويل بعيد عن الحق . { يَدْعُواْ *** لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } ، يعني : يعبد لمن إثمه وعقوبته أكثر من ثوابه ومنفعته؛ ويقال : ضره في الآخرة أكثر من نفعه في الدنيا؛ فإن قيل : لم يكن في عبادته نفع البتة ، فكيف يقال : من نفعه ولا نفع له؟ قيل له : إنما قال هذا على عاداتهم؛ وهم يقولون لشيء لا منفعة فيه : ضره أكثر من نفعه ، كما يقولون لشيء لا يكون هَنَا بَعِيدٌ ، كما قالوا { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] .
ثم قال تعالى : { لَبِئْسَ المولى } ، يعني : بئس الصاحب ، { وَلَبِئْسَ العشير } ؛ يعني : بئس الخليط؛ ويقال : معناه من كانت عبادته عقوبة عليه ، فبئس المعبود هو . ثم ذكر ما أعد الله تعالى لأهل الصلاح والإيمان ، فقال تعالى : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ، يعني : يحكم في خلقه ما يشاء من السعادة والشقاوة .
قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } ، الهاء كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز في اللغة الإضمار في الكناية وإن لم تكن مذكورة إذا كان الأمر ظاهراً ، كقوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [ فاطر : 45 ] ، يعني : على ظهر الأرض ، وكقوله عز وجل : { فَقَالَ إنى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] يعني : الشمس . ومعناه من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالغلبة والحجة . { فِى الدنيا والاخرة } الشفاعة في { الاخرة } .
قوله : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } ، يعني : فليربط بحبل من سقف البيت ، لأن كل ما علاك فهو سماء . { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } ، يعني : ليختنق ، { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } ، يعني : اخْتِنَاقُه . { مَا يَغِيظُ } ، معناه هل ينفعه ذلك . قال ابن عباس : نزلت الآية في نفر من أسد وغطفان ، فقالوا : نخافُ أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيقطع ما بيننا وبين حلفائنا من المودة يعني : اليهود وقال القتبي : كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد لهم من النصرة ، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يتم لهم أمره ، فنزل { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم بعدما سمعوا منه النصرة والإظهار .

ولكن كلام العرب على وجه الاختصار ، يعني : إن لم تثق بما أقول لك ، فاذهب واختنق أو اجتهد جهدك .
قال : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون هاهنا السماء بعينها لا السقف ، فكأنه قال { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء } أي بحبل وليرتق فيه ، ثم ليقطع ، يعني : الحبل ، حتى يخر فيهلك ، فلينظر هل ينفعه ، كقوله عز وجل : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض أَوْ سُلَّماً فِى السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَةٍ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] وقال أبو عبيدة : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والاخرة } يعني : أن لن يرزقه الله . وذهب إلى قول العرب : أرض منصورة ، أي ممطورة؛ فكأنه قال : من كان قانطاً من رزق الله ورحمته ، فليفعل ذلك { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } ، أي حيلته ما يغيظ ، أي غيظه لتأخير الرزق عنه؛ وقال الزجاج : من كان يظن أن لن ينصره الله ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، حتى يظهره الله على الدين كله فليمت غيظاً .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

ثم قال تعالى : { وكذلك أنزلناه } ، يعني : جبريل عليه السلام بالقرآن { بَيّنَاتٍ فاسأل } ، يعني : واضحات بالحلال والحرام . { وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ } ، يعني : يرشد إلى دينه من كان أهلاً لذلك ، فيوفقه لذلك؛ وهذا كقوله : { والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ يونس : 25 ] .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ } ، يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان مثل حالهم ، { والذين هَادُواْ } ؛ يعني : مالوا عن الإسلام يعني : اليهود { والصابئين } ؛ وقد ذكرناه من قبل ، { والنصارى والمجوس } ، يعني : عبدة النيران ، { والذين أَشْرَكُواْ } ؛ يعني : عبدة الأوثان والأديان ستة : فواحد لله تعالى ، والخمسة للشيطان . { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } ، يعني : يقضي ويحكم بينهم { يَوْمُ القيامة } ، يعني : بين هذه الأديان الستة؛ وقال بعضهم : إن الفاء مضمرة في الكلام ومعناه : فإن الله يفصل بينهم على معنى جواب الشرط؛ ويقال : جوابه في قوله : { فالذين كَفَرُواْ } .
ثم قال : { إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } ، من أعمالهم . ثم قال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ } ، يعني : ألم تعلم؟ ويقال : ألست تعلم ، ويقال : ألم تخبر في الكتاب؟ { أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى * السموات } من الملائكة ، { وَمَن فِى الارض } من الخلق ، { والشمس والقمر والنجوم والجبال } . قال مقاتل : سجود هؤلاء حين تغرب الشمس تحت العرش؛ ويقال : سجودها دورانها { ***وَ } سجود { الشجر *** والدواب } ، إذا تحول ظل كل شيء فهو سجوده .
قوله : { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } ، أي المؤمنين . { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي : بترك سجودهم في الدنيا ويقال { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } بعدم الطاعة؛ ويقال : سجود الشجر ، أي هو سجود ظلّها ، ويقال : يسجد أي يخضع . وفيه آية الخلق ، فهو سجودهم . { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } ، يعني : من قضى الله عز وجل عليه بالشقاوة ، فما له من مسعد . { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } ، يعني : يحكم ما يشاء في خلقه من الإهانة والإكرام .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

قوله عز وجل : { هذان خَصْمَانِ } ، يعني : أهل دينين { اختصموا فِى رَبّهِمْ } ، يعني : احتجوا في دين ربهم . قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في الذين بارزوا يوم بدر ، يعني : حمزة ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث من المؤمنين رضي الله عنهم وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة من المشركين ، يعني : أن المؤمنين يخاصمون الكفار ويجاهدونهم ويقاتلونهم .
ثم بيَّن مصير كلا الفريقين بقوله : { فالذين كَفَرُواْ } ؛ وقال مجاهد : { هذان خَصْمَانِ } ، يعني : المؤمنين والكافرين اختصما في البعث ، فالكافرون { قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } ، والمؤمنون يدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار ، وقال عكرمة : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } ، أي اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : خلقت للرحمة ، وقالت النار : خلقت للعذاب .
وروي عن ابن عباس أنه قال : { هذان خَصْمَانِ } ، وذلك أن اليهود قالوا : كتابنا ونبينا أفضل ، وقالت النصارى : ونبينا كان يحيي الموتى وهو أفضل من نبيكم ، فنحن أولى بالله؛ وقال المؤمنون : نحن آمنا بالله وبجميع الأنبياء عليهم السلام وبجميع الكتب ، وأنتم كفرتم ببعض الرسل وببعض الكتب ، فديننا أولى من دينكم ، فنزل : { هذان خَصْمَانِ } الآية؛ وقال : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } ، ولم يقل اختصما ، لأن كل واحد من الخصمين جمع . قرأ ابن كثير { هذان } بتشديد النون ، والباقون بالتخفيف . وفي الآية دليل أن الكفر كله ملة واحدة ، لأنه ذكر ستة ملل من الأديان .
ثم قال : { هذان خَصْمَانِ } ثم بيَّن مصير كلا الفريقين ، فقال : { فالذين كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } ، أي جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، هيئت لهم ثياب أي قُمُصٌ من نار ، ويقال : نحاس . { يُصَبُّ مِن فَوْقِ * رُؤُوسَهُمْ ****الحميم } ؛ قال مقاتل : يضرب الملك رأسَه بالمقمع ، فيثقب رأسه . ثم يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، الذي قد انتهى حَرُّهُ . { يُصْهَرُ } به ، يعني : يذاب به { مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود } ، يعني : تنضج الجلود فتسلخ . { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } ، يضرب بها هامتهم ، { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ } ، يعني : من الغم والشدة التي أدركته ، ضرب بمقمعة من حديد ، فيهوي بها كذلك . فذلك قوله : { غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا } ، أي ردوا إليها . { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، أي المحرق ، يعني : يقال لهم : ذوقوا عذاب النار؛ وهذا الجزاء لأحد الخصمين .
ثم بين جزاء الخصم الآخر ، فقال عز وجل : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا } ، يعني : يلبسون في الجنة . { مِنْ أَسَاوِرَ } ، يعني : أقلبة . { مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } . قرأ نافع وعاصم في رواية حفص { وَلُؤْلُؤاً } بالهمز والنصب ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هكذا إلا أنه لم يهمز الواو الأولى؛ وقرأ الباقون بالهمز والكسر . فمن قرأ بالكسر ، فلأجل مِنْ ، ومن قرأ بالنصب فمعناه يحلون . لؤلؤاً نصب لوقوع الفعل عليه ، وهو اختيار أبي عبيد . ثم قال : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ، أي في الجنة . قوله عز وجل : { وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول } ، يعني : أرشدوا؛ ويقال : دعوا إلى قول التوحيد ، لا إله إلا الله ، ويقال : القرآن . { وَهُدُواْ إلى صراط الحميد } ، يعني : الطريق المحمود في أفعاله وهو دين الإسلام .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

ثم قال عز وجل : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : أهل مكة . { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ، يعني : صرفوا الناس عن دين الإسلام . { والمسجد الحرام } ؛ يعني : وعن المسجد الحرام . وهذه الآية مدنية ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج مع أصحابه من الحديبية ، منعهم المشركون عن المسجد الحرام . ثم وصف المسجد الحرام ، فقال : { الذى جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء } ، يعني : عاماً للمؤمنين جميعاً { العاكف فِيهِ والباد } ، يعني : سواء المقيم في الحرم ، ومن دخل مكة من غير أهلهما؛ ومعناه المقيم والغريب فيه سواء؛ ويقال : في تعظيمه وحرمته؛ ويقال : المسجد الحرام أراد به جميع الحرم المقيم وغيره ، في حق النزول سواء . وقال عمر رضي الله عنه : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبواباً ، لينزل البادي حيث يشاء . ولهذا قال أبو حنيفة : إن بيع دور مكة لا يجوز . وفي إحدى الروايتين يجوز ، وهذا قول أبي يوسف ، والأول قول محمد . قرأ عاصم في رواية حفص { سَوَآء } بالنصب ، يعني : جعلناه سواء ، وقرأ الباقون { سَوَآء } بالضم على معنى الابتداء .
ثم قال : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } ، وهو الظلم والميل عن الحق؛ ويقال : أصله ومن يرد فيه إلحاداً ، فزيد فيه الباء ، كما قال : { تَنبُتُ بالدهن } ، ويقال : من اشترى الطعام بمكة للاحتكار ، فقد ألحد . { بِظُلْمٍ } ، يعني : بشرك أو بقتل . { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، أي مؤلم . قال الزجاج : الإلحاد في اللغة العدول عن القصد ، وقال مقاتل : نزلت الآية في عبد الله بن أنيس بن خطل القرشيّ ، وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلين أحدهما مهاجريّ ، والآخر أنصاريّ ، فافتخرا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنس ، فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهرب إلى مكة . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتله ، فقتل . قرأ أبو عمرو : { ***وَالبَادِي } بالياء عند الوصل ، وكذلك نافع في رواية ورش ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بغير ياء في الوصل والقطع ، وقرأ ابن كثير بالياء في الوصل والقطع . وهو الأصل في اللغة . ومن أسقطه ، لأن الكسر يدل عليه .

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

قوله عز وجل : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } ، قال مقاتل : يعني : دللنا لإبراهيم موضع البيت ، فبناه مع إسماعيل عليهما السلام ولم يكن له أثر ولا أساس البيت ، لأن البيت كان أيام الطوفان مرفوعاً ، قد رفعه الله إلى السماء وهو البيت المعمور؛ وقال الكلبي : { وَإِذْ بَوَّأْنَا } أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت يتكلم ، فيقول : بموضع البيت . جعله الله منزلاً لإبراهيم ، بعث الله تعالى سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم ، فيقول : يا إبراهيم ، ابن على قدري وحيالي ، فأسس عليها البيت ، وذهبت السحابة . ثم بناه حتى فرغ منه ، فأوحى الله تعالى إليه : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً } ؛ وقال أبو قلابة : بناه من خمسة أجبل : حراء ، وثبير ، وطور سيناء ، ولبنان ، وجبل أحد؛ وقال الزجاج : { وَإِذْ بَوَّأْنَا } ، أي جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم . والمبوأ المنزل ، يعني أن الله تعالى علم إبراهيم عليه السلام مكان البيت ، فبناه على أسه القديم ، وكان البيت قد رفع إلى السماء . قال : ويروى أن البيت الأول كان من ياقوتة حمراء .
وروي عن ابن عباس أنه قال : رفع السماء إلى السادسة ، يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك ، وهو بحيال الكعبة . ثم قال؛ { وَطَهّرْ بَيْتِىَ } ، يعني : أوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن طهر بيتي من النجاسات ومن عبادة الأوثان { لِلطَّائِفِينَ } ، يعني : لأجل الطائفين بالبيت من غير أهل مكة { والقائمين } ، يعني : المقيمين من أهل مكة { والركع السجود } ، يعني : أهل الصلاة بالأوقات من كل وجه .
ثم قال الله عز وجل : { وَأَذّن فِى الناس بالحج } ، يعني : ناد في الناس ، وذلك أن إبراهيم لما فرغ من بناء الكعبة ، أمره الله تعالى أن ينادي ، فصعد إبراهيم على أبي قبيس ونادى : يا أيها الناس ، أجيبوا ربكم . إن الله تعالى قد بنى بيتاً وأمركم بأن تحجوه؛ وقال مجاهد : فقام إبراهيم على المقام ، فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب : يا أيها الناس ، أجيبوا ربكم ، فأجابوه من أصلاب الرجال : لبيك . قال : فإنما يحج من أجاب إبراهيم يومئذٍ؛ ويقال : التلبية اليوم جواب الله عز وجل من نداء إبراهيم عن أمر ربه ، فذلك قوله : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } ، يعني : على أرجلهم مشاة { وعلى كُلّ ضَامِرٍ } ، يعني : على الإبل وغيرها . فلا يدخل بعيره ولا غيره الحرم ، إلا وقد ضمر من طول الطريق .
{ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ } ، أي من نواحي الأرض { عَميِقٍ } ، يعني : بعيد . وقال مجاهد : الفج الطريق ، والعميق البعيد ، وقال : إن إبراهيم وإسماعيل . عليهما السلام حجا ماشيين؛ وقال ابن عباس : ما آسى على شيء ، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً ، لأن الله تعالى قال : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلّ ضَامِرٍ } . قال الفقيه أبو الليث : هذا إذا كان بيته قريباً من مكة؛ فإذا حج ماشياً ، فهو أحسن . وأما إذا كان بيته بعيداً ، فالركوب أفضل . وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال : الراكب أفضل ، لأن في المشي يتعب نفسه ويسوء خلقه . وإن كان الرجل يأمن على نفسه أن يصبر ، فالمشي أفضل ، لأنه روي في الخبر أن الملائكة عليهم السلام تتلقى الحاج ، فيسلمون على أصحاب المحامل ، ويصافحون أصحاب البعير والبغال والحمير ويعانقون المشاة .

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

ثم قال عز وجل : { لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ } ، يعني : الأجر في الآخرة في مناسكهم؛ ويقال : وليحضروا مناحرهم وقضاء مناسكهم . { وَيَذْكُرُواْ اسم الله } ، يعني : ولكي يذكروا الله { فِى أَيَّامٍ معلومات } ، يعني : يوم النحر ويومين بعده؛ وقال مجاهد وقتادة : المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق؛ وقال سعيد بن جبير : كلاهما أيام التشريق؛ ويقال : المعلومات أيام النحر ، والمعدودات أيام التشريق ، وهو طريق الفقهاء وأشبه بتأويل الكتاب ، لأنه ذكر في أيام معلومات الذبح ، وذكر في أيام معدودات الذكر عند الرمي ، ورخص بتركه في اليوم الآخر بقوله : { واذكروا الله فى أَيَّامٍ معدودات فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ البقرة : 203 ] .
ثم قال : { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام } ، يعني : ليذكروا اسم الله عند الذبح والنحر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وهو البقر والإبل والغنم . ثم قال : { فَكُلُواْ مِنْهَا } ، يعني : من لحوم الأنعام ، { وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير } ؛ يعني : الضرير والزمن والفقير ، الذي ليس له شيء؛ وقال الزجاج : البائس الذي أصابه البؤس وهو الشدة .
قوله عز وجل : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ، يعني : مناسكهم؛ وقال مجاهد : التفث حلق الرأس وتقليم الأظفار . وروي عن عطاء ، عن ابن عباس وقال : التفث : الرمي ، والحلق ، والتقصير ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وقص الأضافير ، والشارب ، والذبح . وروى نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال : التفث : ما عليه من المناسك؛ وقال الزجاج : التفث ، لا يعرف أهل اللغة ما هو؛ وإنما عرفوا في التفسير ، وهو الأخذ من الشارب ، وتقليم الأظافر ، والأخذ من الشعر ، كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال .
ثم قال : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } ، يقول : من كان عليه نذر في الحج والعمرة مما أوجب على نفسه من هدي أو غيره؛ فإذا نحر يوم النحر ، فقد أوفى بنذره . ثم قال : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } ، يعني : طواف الزيارة ، بعدما حلق رأسه أو قصر؛ وقال مقاتل : { العتيق } يعني : عتقه في الجاهلية من القتل والسبي والجراحات ، وغيرها؛ وقال الحسن : { العتيق } يعني : القديم ، كما قال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى للعالمين } [ آل عمران : 96 ] ؛ وقال مجاهد : عتيق ، يعني : أعتق من الجبابرة ، ويقال : أعتق من الغرق يوم الطوفان؛ وهذا قول الكلبي؛ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم : { لْيَقْضُواْ } بجزم اللام وكذلك { وَلْيُوفُواْ } ؛ وقرأ أبو عمرو الثلاثة كلها بالكسر ، بمعنى لام كي؛ وقرأ ابن كثير بكسر اللام الأولى خاصة . فمن قرأ بالجزم ، جعلها أمر الغائب؛ ومن قرأ بالكسر ، جعله خبراً عطفاً على قوله : { لّيَذْكُرُواْ } . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { وَلْيُوفُواْ } بنصب الواو وتشديد الفاء ، وقرأ الباقون بالتخفيف من أوفى يوفي ، والأول من وفَّى يوفّي؛ ومعناهما واحد .

ثم قال عز وجل : { ذلك } ، يعني : هذا الذي ذكر من أمور المناسك . ثم قال : { وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله } ، يعني : أمر المناسك كلها ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ } ؛ يعني : أعظم لأجره ، { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام } ؛ يعني : الإبل والبقر والغنم وغيره . { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } في التحريم في سورة المائدة . { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } ، يعني : اتركوا عبادة الأوثان ، { واجتنبوا } ؛ يعني : اتركوا { قَوْلَ الزور } ، يعني : الكذب؛ وهو قولهم : هذا حلال وهذا حرام؛ ويقال : معناه اتركوا الشرك؛ ويقال : اتركوا شهادة الزور .
ثم قال عز وجل : { حُنَفَاء للَّهِ } ، يعني : مخلصين مسلمين لله؛ ويقال : معناه كونوا مخلصين بالتلبية ، لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك . ويقال : إن هذا القول بالزور الذي أمرهم الله باجتنابه . ثم قال : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء } ، أي وقع من السماء ، { فَتَخْطَفُهُ الطير } ، يعني : تختلسه الطير ، { أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح } ، يعني : تذهب به الريح { فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ } ، يعني : بعيد؛ فكذلك الكافر في البعد من الله عز وجل؛ ويقال : معناه من يشرك بالله ، فقد ذهب أصله . وقال الزجاج : الخطف هو أخذ الشيء بسرعة ، فهذا مثل ضربه الله عز وجل للكافرين في بعدهم من الحق ، فأخبر أن بعد من أشرك من الحق ، كبعد من خر من السماء ، فذهبت به الطير وهوت به الريح في مكان { سَحِيقٍ } ، يعني : بعيد . قرأ نافع : { فَتَخْطَفُهُ الطير } بنصب الخاء والتشديد ، وقرأ الباقون بالجزم والتخفيف من خطف . ومن قرأ بالتشديد ، فلأن أصله فتخطفه فأدغم التاء في الطاء ، وألقيت حركة التاء على الخاء .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

ثم قال عز وجل : { ذلك } ، يقول هذا الذي أمر من اجتناب الأوثان . { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } ، يعني : البدن فيذبح أعظمها وأسمنها . وروي عن ابن عباس أنه قال : تعظيمها استعظامها ، وأيضاً استسمانها واستحسانها . ثم قال : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } ، يعني : من إخلاص القلوب؛ ويقال : من صفاء القلوب ، وشعائر الله : معالم الله ودينه ، ندب الله إليها وأمر بالقيام بها ، وواحدها شعيرة .
قوله عز وجل : { لَكُمْ فِيهَا منافع } ، يعني : في البدن؛ وقال مجاهد : يعني : في ركوبها وشرب ألبانها وأوبارها . { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، يعني : إلى أجَلٍ مسمًّى بدناً ، فمحلها إلى البيت العتيق . وروي عن ابن عباس نحو هذا قول بعض الناس : إنه يجوز ركوب البدن؛ وقال أهل العراق : لا يجوز إلا عند الضرورة ، ويضمن ما نقصها الركوب ، وهذا القول أحوط الوجهين . { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق } ، يعني : منحرها في الحرم . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « جَمِيعُ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ » . ثم قال عز وجل : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ } ، أي لكل أهل دين؛ ويقال : لكل قوم من المؤمنين فيما خلا ، { جَعَلْنَا مَنسَكًا } ؛ يعني : ذبحاً لهراقة دمائهم؛ ويقال : مذبحاً يذبحون فيه . قال الزجاج : معناه جعلنا لكل أمة أن تتقرب بأن تذبح الذبائح لله تعالى . قرأ حمزة والكسائي { مَنسَكًا } بكسر السين ، وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالكسر ، يعني : مكان النسك؛ ومن قرأ بالنصب ، فعلى المصدر؛ وقال أبو عبيد : قراءتنا هي بالنصب لفخامتها .
ثم قال : { لّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام } ، يعني : يذكرون اسم الله تعالى عند الذبح . { فإلهكم إله واحد } ، أي ربكم رب واحد . { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } ، يعني : أخلصوا بالتسمية عند الذبيحة وفي التلبية . { وَبَشّرِ المخبتين } ، يعني : المخلصين بالجنة؛ ويقال : { المخبتين } المجتهدين في العبادة والسكون فيها . قال قتادة : المخبتون المتواضعون؛ وقال الزجاج : أصله من الخبت من الأرض ، وهو المكان المنخفض من الأرض؛ ويقال : المخبت الذي فيه الخصال التي ذكرها الله بعده ، وهو قوله : { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ، يعني : خافت قلوبهم { والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ } من أمر الله من المرازي والمصائب { الذين إِذَا } يعني : يقيمونها بمواقيتها ، { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } ؛ يعني : يتصدقون وينفقون في الطاعة . ثم ذكر البدن ، يعني : ينحرون البدن . فهذه الخصال الحسنة صفة المخبتين .

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

قوله عز وجل : { والبدن جعلناها لَكُمْ } ؛ قرأ بعضهم : { والبدن } بضم الدال والباء ، وقراءة العامة بسكون الدال والمعنى واحد . { مِن شَعَائِرِ الله } ، يعني : جعلنا البدن من مناسك الحج . { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ، يعني : في نحرها أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا . { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، يعني : إذا نحرتم ، فاذكروا اسم الله عليها { صَوَافَّ } أي قائمة قد صفت قوائمها . والآية تدل على أن الإبل تنحر قائمة . وروي عن عبد الله بن عمر ، أنه أمر برجل قد أناخ بعيره لينحره ، فقال له : انحره قائماً ، فإنه صفة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس أنهما كانا يقرآن { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } ، والصوافن التي تقوم على ثلاثة قوائم ، إذا أرادوا نحره ، تعقل إحدى يديه فهو الصافن ، وجماعته صوافن؛ وقال مجاهد : من قرأ صوافن ، قال : قائمة معقولة . من قرأها صواف ، قال يصف بين يديها . وروي عن زيد بن أسلم أنه قرأ { ***صوافي } بالياء منتصبة ، ويقال : خالصة من الشرك؛ وروي عن الحسن مثله وقال : خالصة لله تعالى ، وهكذا روى عنهما أبو عبيدة ، وحكى القتبي عن الحسن قال : كان يقرأ { عَلَيْهَا صَوَافَّ } مثل قاض وغاز أي خالصة لله تعالى ، يعني : لا تشرك به في حال التسمية على نحرها .
ثم قال : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } ، يعني : إذا ضربت بجنبيها على الأرض بعد نحرها ، يقال : وجب الحائط إذا سقط ، ووجب القلب إذا تحرك من الفزع؛ ويقال : وجب البيع إذا أبرم . { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } ، فالقانع الراضي الذي يقنع بما أعطي وهو السائل والمعتر الذي يتعرض للمسألة ولا يتكلم؛ ويقال : القانع المتعفف الذي لا يسأل ويقنع بما أرسلت إليه والمعتر : السائل الذي يعتريك للسؤال .
وقال الزهري : السنة أن يأكل الرجل من لحم أضحيته قبل أن يتصدق ، وروي عن عطاء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَتِه » . وروى منصور ، عن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم ، فرخص للمسلمين بقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا *** فَمَن شَاء ***** أَكَلَ *** وَمَن شَاء ***** لَمْ ***** يَأْكُلُ } . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : والأفضل أن يتصدق بثلثه على المساكين ، ويعطي ثلثه للجيران والقرابة أغنياء كانوا أو فقراء ويمسك لنفسه ثلثه . وروي عن ابن مسعود نحو هذا . وروي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن القانع والمعتر ، فقال : القانع الذي يقنع بما أعطي ، والمعتر الذي يعتري بالأبواب ، قال : أما سمعت قول زهير :
عَلَى مُكْثريهمُ حَقُّ مَنِ يَعتَرِيهِم ... وَعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالبَذْلُ

وقال مجاهد : القانع جارك وإن كان غنياً . ثم قال تعالى : { كذلك سخرناها لَكُمْ } ، أي ذللناها لكم وهي البدن . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، يعني : لكي تشكروا رب النعمة . قوله عز وجل : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا } ، وذلك أن أهل الجاهلية ، كانوا إذا نحروا البدن عند زمزم ، أخذوا دماءها ، ولطخوها حول الكعبة ، وعلقوا لحومها بالبيت ، وقالوا : اللهم تقبل منا . فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ، فنزل : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا } ، يعني : لن يصل إلى الله عز وجل لحومها ولا دماؤها . { ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } ، أي يصل إليه التقوى من أعمالكم الزاكية والنية الخالصة . قرأ الحضرمي : { لَن تَنَالُواْ *** الله } بالتاء ، لأن لفظ اللحوم مؤنثة ، ولكن تناله بالتاء ، لأن لفظ التقوى مؤنث ، وقراءة العامة بالياء ، وانصرف إلى المعنى ، لأن الفعل مقدم .
ثم قال : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } ، يعني : ذلَّلها لكُم ، { لِتُكَبّرُواْ الله } ؛ يقول : لتعظموا الله { على مَا هَدَاكُمْ } ، يعني : أرشدكم لأمر دينه . { وَبَشّرِ المحسنين } بالجنة ، فمن فعل ما ذكر في هذه الآيات ، فهو محسن؛ ويقال : المحسن الذي يحسن الذبيحة فيختار بغير عيب .

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

قوله تعالى : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ } ، يعني : يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا ، فلا ينالون منهم شيئاً؛ وقال الزجاج : إذا فعلتم هذا وخالفتم أهل الجاهلية ، فيما يفعلون في نحرهم وإشراكهم ، فإن الله يدافع عن حزبه ، أي المؤمنين؛ ويقال : إن أهل مكة آذوا المسلمين قبل الهجرة ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم في السر ، فنهاهم الله عز وجل عند ذلك . ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ } ، يعني : يدفع أذاهم عن المسلمين ، فأمرهم بالصبر . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { إِنَّ الله } ، بغير ألف ، والباقون { الله يُدَافِعُ } بالألف ، من دافع يدافع ، بمعنى دفع . ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } ، يعني : أثيم لأمانته ، كفور لربه ولنعمته؛ وقال أهل اللغة : الخوان الفعال من الخيانة ، وهو المبالغة في الخيانة ، فمن ذكر اسماً غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته ، فهو خوان كفور .
قوله عز وجل : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون } ، يعني : أذن للمؤمنين بقتال المشركين . { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } ، يعني : أذن لهم بالقتال بسبب أنهم ظلموا . قرأ عاصم في رواية حفص { أَذِنَ } بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله . أذن الله للذين يقاتلون بنصب التاء على معنى أنهم مفعولون ، وقرأ ابن عامر : { أَذِنَ } بنصب الألف على معنى أذن الله للذين يقاتلون بنصب التاء؛ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو { أَذِنَ } بالضم { يقاتلون } بالكسر؛ وقرأ الباقون بالنصب . قرأ حمزة والكسائي وابن كثير { يقاتلون } بالكسر ثم قال : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ، يعني : قادر ، وكان المشركون لا يزالون يؤذونهم باللسان وباليد ، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما هاجروا ، أمروا بالقتال .
ثم أخبر الله عن ظلم كفار مكة ، فقال عز وجل : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ } ، يعني : بلا جرم أجرموا . { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } ، يعني : لم يخرج كفار مكة المؤمنين بسبب ، سوى أنهم كانوا يقولون : ربنا الله ، فأخرجوهم بهذا السبب ويقال : في الآية تقديم ومعناه { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون } الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
ثم قال : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بالجهاد و إقامة الحدود وكف الظلم؛ يقول : لولا أن يدفع المشركين بالمؤمنين ، لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين . { لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ } ؛ ويقال : ولولا دفع الله بالأنبياء وبالمؤمنين من غيرهم ، لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى . { وصلوات } ، يعني : كنائس اليهود ، { ومساجد } المسلمين . { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } ؛ وقال مجاهد : لولا دفع الله تعالى الناس بعضهم ببعض في الشهادة في الحق ، لهدمت هذه الصوامع ، وما ذكر معها .

وقال الزجاج : تأويل هذا ، ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض ، لهدمت في شريعة كل نبي المكان الذي يصلي فيه ، فكان معناه : لولا دفع الله ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المساجد . قرأ نافع : { وَلَوْلاَ *** عَبْدُ الله } بالألف ، والباقون بغير ألف؛ وقرأ ابن كثير ونافع { لَّهُدّمَتْ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير .
ثم قال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } ، يعني : لينصرن بالغلبة على عدوه من ينصره بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال : لينصرن الله من ينصره ، يعني : ينصر الله من ينصر دينه بالغلبة ، كما قال في آية أخرى : { ياأيها الذين ءامنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] . ثم قال : { إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } ، أي منيع قادر على أن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بغير عونكم .
قوله عز وجل : { الذين إِنْ مكناهم فِى الارض } ، يعني : إن أنزلناهم بالمدينة ، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . قوله : { الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ } ، يعني : بالتوحيد واتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } ؛ أي عن الشرك . { وَلِلَّهِ عاقبة الامور } ، يعني : لله ترجع عواقب الأمور ، يعني : عاقبة أمور العباد في الآخرة .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

قوله عز وجل : { وَإِن يُكَذّبُوكَ } ، يعني : إن يكذبوك يا محمد أهل مكة ، { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } ؛ يعني : قبل قومك . { قَوْمُ نُوحٍ } كذبوا نوحاً ، { وَعَادٌ } كذبت هوداً ، { وَثَمُودُ } كذبوا صالحاً ، { وَقَوْمِ إبراهيم } كذبوا إبراهيم ، { وَقَوْمُ لُوطٍ } كذبوا لوطاً { وأصحاب مَدْيَنَ } كذبوا شعيباً ، { وَكُذّبَ موسى } يعني : كذبه قومه . { فَأمْلَيْتُ للكافرين } ؛ يعني : أمهلتهم . { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } ؛ يعني : عاقبتهم بعد المهل بالعذاب . { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } ؟ يعني : كيف رأيت تغييري وإنكاري عليهم؟ يعني : أليس قد وجدوا حقاً؟ فكذلك كفار مكة تصيبهم العقوبة ، كما أصابهم .
ثم قال عز وجل : { فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } ، يعني : وكم من أهل قرية { أهلكناها } ، يعني : أهلكنا أهلها ، { وَهِىَ ظالمة } ؛ يعني : كافرة . { فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ، يعني : ساقطة حيطانها على سقوفها { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } ، يعني : خالية ليس عندها ساكن ، { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } ؛ يعني : طويلاً في السماء؛ ويقال : معناه كم من بئر معطلة ، عطلها أربابها وليس عليها أحد يستسقي ، وقصر مشيد يعني : كم من حصن طويل مشيد ليس فيه ساكن؛ ويقال : المشيد هو المبني بالشيد ، وهو الجص وهو المشيد المطول؛ ويقال : المشيد والمشيد سواء ، أي المطول . قرأ أبو عمرو : { ***أهلكتها } بالتاء ، وقرأ الباقون : { قَرْيَةٍ أهلكناها } بلفظ الجماعة ، وقرأ نافع في رواية ورش ، وأبو عمرو في إحدى الروايتين وبير بالتخفيف ، وهي لغة لبعض العرب؛ وقرأ الباقون بالهمز ، وهي اللغة المعروفة .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

ثم قال عز وجل : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض } ؛ يعني : أو لم يسافروا في الأرض فيعتبروا . { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } ، يعني : فتصير لهم قلوب بالنظر والعبرة يعقلون بها ، { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض } التخويف . { فَإِنَّهَا } ، أي النظرة بغير عبرة؛ ويقال : كلمة الشرك . { لاَ تَعْمَى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور } ، يعني : العقول التي في الصدور؛ وذكر الصدر للتأكيد .
ثم قال عز وجل : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } ؛ وهو النضر بن الحارث . { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } في العذاب . { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ } ، يعني : إن يوماً من الأيام التي وعد لهم في العذاب عند ربك في الآخرة ، { كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } في الدنيا . ثم بيَّن لهم العذاب في الآخرة ، حيث قال : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } ، ووصف طول عذابهم؛ ويقال : إنه أراد بذلك قدرته عليهم بحال استعجالهم ، أنه يأخذهم متى شاء . قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { مّمَّا * يَعْدُونَ } بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة .
ثم قال عز وجل : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا } ، فلم أعجل عليها العقوبة . { وَهِىَ ظالمة } ، أي كافرة . { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب ، ولكن لم يذكر العذاب لأنه سبق ذكره . ثم قال : { وَإِلَىَّ المصير } ، يعني : المرجع في الآخرة .
قوله عز وجل : { قُلْ يأَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، يعني : رسول مبين أبلغكم بلغة تعرفونها . { فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، يعني : الطاعات ، { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } حسن في الجنة . { والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا } ، يعني : عملوا في القرآن بالتكذيب { معاجزين } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { معاجزين } بغير ألف والتشديد في جميع القرآن ، والباقون بالألف والتخفيف . فمن قرأ : { معاجزين } ، أي يعجزون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويثبطونهم ، ومن قرأ : { معاجزين } ، أي ظانين أنهم يعجزوننا ، لأنهم يظنون أنهم لا يبعثون . وقيل : { معاجزين } أي معاندين ، ومعناه ليسوا بفائتين . { أولئك أصحاب الجحيم } ، يعني : النار .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

قوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى } ، يعني : حدث نفسه ، { أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } ؛ أي في حديثه؛ ويقال : تمنى أي قرأ ، كما قال القائل :
تَمَنَّى كِتَابَ الله أوَّلَ لَيْلِه ... وَآخِرَهُ لاَقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
وقال آخر :
تَمَنَّى دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى الرِّسْلِ أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ ... أي في تلاوته : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } ، يعني : يذهب الله به ويبطله . { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } ، يعني : بيَّن الله عز وجل الناسخ من المنسوخ . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أتاه الشيطان في صورة جبريل ، وهو يقرأ سورة { والنجم إِذَا هوى } ( النجم 1 ) عند الكعبة ، حتى انتهى إلى قوله : { أَفَرَءَيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الاخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فلما سمعه المشركون يقرأ ذلك ، أعجبهم : فلما انتهى إلى آخرها ، سجد وسجد المشركون معه والمسلمون . فأتاه جبريل عليه السلام فقال : ما جئتك بهذا . فنزل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } الآية .
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحو هذا قال : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثنا أبو عاصم ، عن عمار بن الأسود ، عن سعيد بن جبير ، وعن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومناة الثالثة الاخرى } ثم قال : تلك الغرانيق العلى وإن الشفاعة منها ترتجى ، فقال المشركون : قد ذكر آلهتنا . فنزلت الآية .
وقال مقاتل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة عند مقام إبراهيم ، فنعس ، فقرأ تلك الغرانيق العلى . فلما فرغ من السورة ، سجد وسجد من خلفه فنزل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } ؛ وقال قتادة : لما ألقى الشيطان ، ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتنا بخير ففرحوا بذلك؛ فذلك قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 52/53 ] .
روى أسباط ، عن السدي ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأ سورة النجم ، فلما انتهى إلى قوله : { ومناة الثالثة الاخرى } [ النجم : 20 ] فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، حتى بلغ إلى آخر السورة ، سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم . فلما رفع رأسه ، حملوه وأسندوا به بين قطري مكة؛ حتى إذا جاءه جبريل عليه السلام عرض عليه ، فقرأ عليه الحرفين ، فقال جبريل عليه السلام معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا واشتد عليه ، فأنزل الله تعالى لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أن الأنبياء عليهم السلام قبله قد كانوا مثله .

ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وجلس عنده جماعة من المشركين ، فتمنى في نفسه أن لا يأتيه من الله شيء ينفرون منه ، فابتلاه الله تعالى بما ألقى الشيطان في أمنيته؛ وقال بعضهم : تمنى : أي تفكر وحدث تلك الغرانيق العلى ، ولم يتكلم به ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة ، فلا يجوز أن يكون يجري على لسانه كلمة الكفر . وقال بعضهم : لما رآه الشيطان يقرأ ، خلط صوته بصوت النبي صلى الله عليه وسلم : فقرأ الشيطان : تلك الغرانيق ، فظن الناس أنه قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قرأها؛ وقال بعضهم : قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعيير والزجر ، يعني : أنكم تعبدونها كأنهن الغرانيق العلى ، كما قال إبراهيم عليه السلام { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وقال الزجاج : ألقى الشيطان في تلاوة؛ فذلك محنة يمتحن الله تعالى بها من يشاء؛ فجرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم شيء من صفة الأصنام ، فافتتن بذلك أهل الشقاوة والنفاق . وروي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس كان يقرأ ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) والمحدث الذي يرى أمره في منامه من غير أن يأتيه الوحي .
ثم قال : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، أي عليم بمَا ألقى الشيطان { حَكِيمٌ } حكم بالناسخ . وبيّن قوله عز وجل : { لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً } ، يعني : بلية { لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، أي شك ، { والقاسية قُلُوبُهُمْ } ؛ يعني : الذين قست قلوبهم عن ذكر الله وهم المشركون . { وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، عن الحق؛ يعني : المشركين في خلاف طويل عن الحق .
ثم ذكر المؤمنين فقال : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم } ، يعني : الذين أكرموا بالتوحيد والقرآن؛ ويقال : هم مؤمنو أهل الكتاب . { أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } ، يعني : القرآن . { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } ، أي فيصدقوا به؛ ويقال : لكي يعلموا أن ما أحكم الله في آياته حق ، وأن ما ألقى الشيطان باطل ، ويزداد لهم يقين وبيان ، فذلك قوله : { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } ، أي يثبتوا على إيمانهم . { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } ، يعني : فتخلص له قلوبهم . { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } ، يعني : إن الله عز وجل لحافظ قلوب المؤمنين في هذه المحنة ، حتى لم ينزع المعرفة من قلوبهم عند إلقاء الشيطان

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } ، أي في شك منه ، يعني : من القرآن . { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } ، يعني : فجأة ، { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } لا فرح فيه ولا راحة ولا رحمة ولا رأفة ، وهو عذاب يوم القيامة؛ وقال السدي وقتادة : { يَوْمٍ عَقِيمٍ } ؛ يوم بدر؛ ويقال : إنما سمي يوم عقيم ، لأنه أعقم كثيراً من النساء؛ وقال عمرو بن قيس : { يَوْمٍ عَقِيمٍ } يوم القيامة يوم ، ليس له ليلة ولا بعده يوم . والعقيم أصله في اللغة المرأة التي لا تلد؛ وكذلك رجل عقيم ، إذا كان لا يولد له؛ وكذلك كل شيء لا يكون فيه خير ، يعني : لا يكون للكافرين خير في يوم القيامة ، كما قال الله تعالى : { عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 ] ثم وصف ذلك اليوم ، فقال عز وجل : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } لا ينازع فيه أحد { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ، يعني : يقضي بين الخلق لا حاكم في ذلك اليوم غيره . ثم قال : { فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، يعني : أن حكمه في يوم القيامة أن المؤمنين { فِي جنات النعيم } .
قوله عز وجل : { الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا * فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ، يعني : الشدة . ثم قال عز وجل : { والذين هاجروا } ، وذلك أن المسلمين قاتلوا فاستشهدوا { فِى سَبِيلِ الله } ، فقال الذين لم يستشهدوا : وهل لنا أجر؟ فنزل : { والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله } ، يعني : في طاعة الله من مكة إلى المدينة . { ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } ، يعني : يرزقهم الغنيمة في الدنيا لمن لم يموتوا ولم يقتلوا . { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين } ، يعني : أفضل الرازقين وأقوى المعطين . { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } ، يعني : الجنة إذا قتلوا وماتوا . { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ * حَكِيمٌ } ، حيث لم يعجل بالعقوبة؛ وهذه الآية مدنية .

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

قوله عز وجل : { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ } ؛ قال مقاتل : وذلك أن مشركي العرب لقوا المسلمين في الشهر الحرام ، فكره المسلمون القتال ، فقاتلهم المشركون فبغوا عليهم ، فنصر الله المسلمين عليهم . فوقع في أنفس المؤمنين من القتال في الشهر الحرام ، فنزل : { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ } ؛ يقول : هذا جزاء من عاقب { بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } ؛ وقال بعضهم : ذلك يعني : ما وصفنا من صفة أهل الجنة وأهل النار ، فهو كذلك . فقد تم الكلام { وَمَنْ عَاقَبَ } ابتداء الكلام بمثل ما عوقب به في الدنيا؛ وقال الكلبي : الرجل يقتل وله الحميم ، فله أن يقتل به قاتله .
{ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله } على من بغى عليه؛ ويقال : إذا زاد على القتل لينصرنه الله؛ ويقال : إن الرجل إذا وجب له القصاص ، فله أن يقتل أو يأخذ الدية . فإن أخذ أكثر من حقه بالقتل وأخذ الدية { ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ } ، أي ظلم عليه ، يعني : غضب عليه أولياء المقتول باستيفاء حقه ، فجنوا عليه؛ لينصرنه الله ، أي له أن يطلب بجنايته؛ ويقال له : إذا ظلم على ولي المقتول بالاستطالة بالقتل ، أو بأخذ الدية لينصرنه الله بأخذ حقه . { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } بقتالهم .
ثم قال عز وجل : { ذلك } ، يعني : ذلك القدرة { ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } . ثم قال : { ذلك } ، يعني : هذا الذي ذكر من صفته وقدرته ، { بِأَنَّ الله } ؛ يعني : لعلموا أن الله { هُوَ الحق } ، وأن عبادته الحق ، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل } ؛ ولا يقدرون على شيء . { وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير } ؛ يعني : هو أعلى وأكبر من أن يعدل به الباطل . قرأ ابن عامر : { ثُمَّ قُتِلُواْ } بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } بالياء بلفظ المغايبة ، وقرأ الباقون بالتاء ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً } بنصب الميم ، وقرأ الباقون بالضم .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)

ثم قال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } ، يعني : المطر . { فَتُصْبِحُ الارض مُخْضَرَّةً } ، يعني : تصير الأرض مخضرة بالنبات؛ ويقال : ذات خضرة . { إِنَّ الله لَطِيفٌ } باستخراج النبات ، { خَبِيرٌ } ؛ أي عليم به وبمكانه . ثم قال عز وجل : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق . { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى } عن الخلق وعن عبادتهم ، { الحميد } ؛ يعني : المحمود في أفعاله .
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم } ، يعني : ذلل لكم { مَّا فِى الارض والفلك تَجْرِى } ، يعني : تسير { فِى البحر بِأَمْرِهِ } ، يعني : بإذنه . وروي عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأ : { الفلك } بضم الكاف على معنى الابتداء ، وقراءة العامة بالنصب لوقوع التسخير عليها ، يعني : سخر لكم الفلك؛ ويقال صار نسباً بمنطلق على أن تعني أن الفلك تجري .
ثم قال : { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الارض } ، يعني : لكيلا تقع على الأرض؛ ويقال : كراهية أن تقع على الأرض ، { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ، يعني : بأمره يوم القيامة . { إِنَّ الله بالناس *** لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، يعني : رحيم مع شركهم ومعصيتهم ، حيث يرزقهم في الدنيا ولم يعاقبهم في العاجل . ثم قال عز وجل : { وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ } ، يعني : خلقكم ولم تكونوا شيئاً ، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } في الدنيا ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث . { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } ، أي كفور لنعمه لا يشكره ولا يطيعه .
قوله عز وجل : { لِكُلّ أُمَّةٍ } ، يعني : لكل قوم { جَعَلْنَا مَنسَكًا } ، يعني : مذبحاً . { هُمْ نَاسِكُوهُ } ، يعني : ذابحوه؛ وفي منسك من الاختلاف ما سبق . { فَلاَ ينازعنك فِى الامر } ، لا يخالفنك في أمر الذبيحة . نزلت في قوم من خزاعة قالوا : ما ذبح الله ، فهو أحل مما ذبحتم؛ وقال الزجاج : المعنى فيه ، أي فلا يجادلنك ولا تجادلهم ، والدليل عليه وإن جادلوك؛ ويقال : فلا ينازعنك في الأمر ، يعني : لا يغلبونك في المنازعة . { وادع إلى رَبّكَ } ، يعني : ادع الخلق إلى معرفة ربك ، وإلى توحيد ربك . { إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } ، يعني : على دين مستقيم .
قوله عز وجل : { وَإِن جادلوك } ، يعني : إن حاججوك في أمر الذبيحة والتوحيد ، { فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ يعني : عالماً بأعمالكم فيجازيكم ، وذلك قوله : { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } ، يقضي بينكم { يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين والذبيحة . قال عز وجل : { أَلَمْ تَعْلَمْ } يا محمد ، { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى *** السموات والارض *** إِنَّ ذلك فِى كتاب } ، يعني : إن ذلك العلم مكتوب في اللوح المحفوظ .
{ إِنَّ ذلك فِى كتاب } يعني : إن كتابته . { عَلَى الله يَسِيرٌ } ، يعني : هين حال حفظه على الله ، أي كتابته على الله يسير . ثم قال عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } ، يعني : عذر ولا حجة . قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { مَا لَمْ يُنَزّلْ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } ، يعني : ليس لهم بذلك حجة من المعقول . { وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } ، أي مانع يمنعهم من العذاب .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)

ثم قال عز وجل : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } ، يعني : يعرض عليهم القرآن . { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } ، يعني : الغم والحزن والكراهية . { يكادون يَسْطُونَ } ، أي هموا لو قدروا يضربون ويبطشون أشد البطش { بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } ، يعني : يقرؤون عليهم القرآن؛ وقال القتبي : { يَسْطُونَ } أي يتناولونهم بالمكروه من الضرب والشتم؛ ويقال : { يَسْطُونَ } يعني : يفرطون عليهم ، والسطوة العقوبة .
{ قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار } ، يعني : بأشد وأسوأ من ضربكم وبطشكم؛ ويقال : إنهم كانوا يعيرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ببذاذة حالهم ورثاثتها . قال الله تعالى : قل لهم يا محمد : أفأنبئكم بشر من ذلك يعني : مما قلتم للمؤمنين؟ قالوا : ما هي؟ قال : النَّارُ . { وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } يعني : للكافرين . قوله : { وَبِئْسَ المصير } صاروا إليه . قوله عز وجل : { المصير يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } يعني : بين ووصف شبه به لآلهتكم ، أي أجيبوا عنه؛ وقال بعضهم : ليس هاهنا مثل ، وإنما أراد به قطع الشغب لأنهم كانوا يقولون : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، فقال : يا أيها الناس ضرب مثل ، فاصغوا إليه استماعاً للمثل . فأوقع في أسماعهم عيب آلهتهم ، فقال : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } ، ويقال مثلكم مثل من عبد آلهة ، { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } ، أي يقدروا على خلق الذباب؛ ويقال : المثل في الآية لا غير ، وهو قوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } ، أي لن يقدروا أن يخلقوا ذباباً من الذباب في المثل . { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } ، أي على تخليقه .
ثم ذكر من أمرها ما هو أضعف من خلق الذباب ، فقال : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } ، وذلك أنَّهم كانوا يلطخون العسل على فم الأصنام ، فيجيء الذباب فيسلب منها ما لطخوا عليها . { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } ، أي لا يقدرون أن يستنقذوا من الذباب ما أخذ منهم . { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } ، يعني : الذباب والصنم؛ ويقال : ضعف العابد والمعبود .

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

قوله عز وجل : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } ، أي ما عظموا الله حق عظمته ، حين أشركوا به غيره ولم يوحدوه؛ ويقال : ما وصفوه حق صفته؛ ويقال : ما عرفوه حق معرفته كما ينبغي . وقال ابن عباس : نزلت الآية في يهود المدينة ، حين قالوا : خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استلقى فاستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، وكذب أعداء الله ، فنزل { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } . { إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } ، أي قوي في أمره ، { عَزِيزٌ } ؛ يعني : منيع في ملكه ، ومعبودهم لا قوة له ولا منفعة؛ ويقال : إن الله لقوي على عقوبة من جعل له شريكاً ، عزيز للانتقام منهم .
قوله عز وجل : { الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً } ؛ قيل : جبريل ، وإسرافيل ، وميكائيل ، وملك الموت ، والحفظة الذين يكتبون أعمال بني آدم . { وَمِنَ الناس } ، يعني : ويختار من الناس مثل ، منهم محمد ، وعيسى ، وموسى ، ونوح عليهم السلام فجعلهم أنبياء ورسلاً إلى خلقه . { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } ، سميع لمقالتهم ، بصير بمن يتخذه رسولاً؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة قال : أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأخبر الله تعالى أنه سميع مقالة من يكفر ، بصير بمن يصلح للرسالة فيختاره ويجعله رسولاً .
ثم قال عز وجل : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ، يعني : من أمر الآخرة وأمر الدنيا . { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } ، يعني : عواقب الأمور في الآخرة؛ ويقال : معناه منه بدأ وإليه يرجع . قوله عز وجل : { الامور يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا } ، يعني : صلوا لله تعالى؛ وقال : بعض الناس يسجد في هذا الموضع ، يذكر ذلك عن عمر وابن عمر؛ وروي عن ابن عباس أنه قال : السجدة في الحج في الأولى منهما ، وهذا قول أهل العراق ، لأن السجدة سجدة الصلاة ، بدليل أنها مقرونة بالركوع . معناه : اركعوا واسجدوا في الصلوات المفروضات والتطوع؛ وروي عن ابن عباس أنه قال : أول ما أسلموا ، كانوا يسجدون بغير ركوع ، فأمرهم الله تعالى بأن يركعوا ويسجدوا . ثم قال : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } ، أي وحدوه وأطيعوه ، { وافعلوا الخير } ؛ أي أكثروا من الطاعات والخيرات ما استطعتم ، وبادروا إليها؛ ويقال : التسبيحات . { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، يعني : تنجون من عذاب الله تعالى .
قوله عز وجل : { وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده } ، يعني : اعملوا لله عز وجل حق عمله؛ ويقال : جاهدوا في طاعة الله عز وجل وطلب مرضاته؛ وقال الحسن : { حَقَّ جهاده } أن تؤدي جميع ما أمرك الله عز وجل به ، وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه ، وأن تترك رغبة الدنيا لرهبة الآخرة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله ، فقال : أي الجهاد أفضل؟ فقال : كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ .

ثم قال : { هُوَ اجتباكم } ، يعني : اختاركم واصطفاكم . { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ، يعني : في الإسلام من ضيق ، ولكن جعله واسعاً ولم يكلفكم مجهود الطاقة ، وإنما كلفكم دون ما تطيقون؛ ويقال : وضع عنكم إصركم والأغلال التي كانت عليكم؛ ويقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } وهو ما رخص في الإفطار في السفر ، والصلاة قاعداً عند العلة؛ وقال قتادة : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم يعطها إلا نبي ، كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك من حرج ، وقال لهذه الأمة { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ؛ وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال لهذه الأمة : { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ؛ وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعط ، وقال لهذه الأمة : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } [ غافر : 60 ] .
ثم قال : { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } ، قال الزجاج : إنما صار منصوباً ، لأن معناه اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم . قال : وجائز أن يكون وافعلوا الخير فعل أبيكم إبراهيم؛ ويقال : معناه { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ولكن جعل لكم ملة سمحة سهلة كملة أبيكم إبراهيم . { هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ } ، يعني : الله تعالى سماكم المسلمين؛ ويقال : إبراهيم سماكم ، أي من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ ويقال : إبراهيم سماكم المسلمين يا أمة محمد؛ والطريق الأول أصح ، لأنه قال : من قبل هذا القرآن . { وَفِى هذا } ، يعني : القرآن ، الله سماكم المسلمين في سائر الكتب من قبل هذا القرآن . وفي هذا القرآن ، { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ } ؛ يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم على أمته بأنه بلغهم الرسالة بالتصديق لهم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ؛ يعني : على سائر الأمم أن الرسل قد بلغتهم؛ وقال مقاتل : { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ، يعني : للناس ، يعني : للرسل على قومهم ، كقوله : وما ذبح على النصب أي المنصب .
ثم قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ } ، يعني : أقروا بها وأتموها ، { وَإِذْ أَخَذْنَا } ؛ يعني : أقروا بها وأدوها . ثم قال : { واعتصموا بالله } ، يعني : وثقوا بالله إذا فعلتم ذلك ، ويقال : معناه تمسكوا بتوحيد الله ، وهو قول لا إله إلا الله . { هُوَ مولاكم } ، أي وليكم وناصركم وحافظكم . { فَنِعْمَ المولى } ، يعني : نعم الحافظ ، { وَنِعْمَ النصير } ؛ يعني : نعم المانع لكم برحمته؛ والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

قال : حدثنا الفقيه أبو الليث . رحمه الله : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا أبو بكر بن أبي سعيد قال : حدثنا محمد بن علي بن طرخان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن يونس بن سليم ، عن زيد الأيلي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الرحمن بن عيد القارىء ، عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ :
{ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } إلى عشر آيات ، وروي عن كعب الأحبار قال : إن الله تعالى ، لما خلق الجنة ، قال لها : تكلمي ، فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } . وروي عن غيره . أنها قالت : أنا حرام على كل بخيل ومرائي؛ وروي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا . وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } ؛ أي سعد وفاز ونجا المصدقون بإيمانهم ، ثم نعتهم ووصف أعمالهم ، فقال : { الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون } ، يعني : متواضعين؛ وقال الزهري : سكون المرء في صلاته ، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ وقال الحسن البصري : أي خائفون؛ وروي عنه أنه قال : { خاشعون } الذين لا يرفعون أيديهم في الصلاة إلا في التكبيرة الأولى؛ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الخشوع في الصلاة ، أن لا تلتفت في صلاتك يميناً ولا شمالاً وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا قام في الصلاة ، رفع بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية ، رمى بصره نحو مسجده؛ وروي عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : « لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ » . ثم قال عز وجل : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } ، يعني : الحلف والباطل من الكلام تاركون . قال قتادة : كل كلام أو عمل لا يحتاج إليه فهو لغو؛ ويقال الذين هم عن الشتم والأذى معرضون ، كقوله عز وجل : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] . ثم قال : { والذين هُمْ للزكواة فاعلون } ، يعني : مؤدون . { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون } عن الفواحش وعن ما لا يحل لهم . ثم استثنى ، فقال : { إِلاَّ على أزواجهم } ، يعني : على نسائهم الأربع ، وذكر عن القراءة أنه قال ، على بمعنى من يعني : إلا من نسائهم مثنى وثلاث ورباع . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } ، يعني : الإماء ، { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ، لا يلامون على الحلال . { فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك } ، يعني : طلب بعد ذلك ما سوى نسائه وإِمائه ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون } ، يعني : المعتدين من الحلال إلى الحرام؛ ويقال : وأُولئك هم الظالمون الجائرون الذين تعمدوا الظلم .

{ والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون } ، يعني : ما ائتمنوا عليه من أمر دينهم ، مما لا يطلع عليه أحد ومما يأتمن الناس بعضهم بعضاً . { وَعَهْدِهِمْ } ، يعني : وفاء بالعهد راعون ، يعني : حافظين . وأصل الرعي في اللغة ، القيام على إصلاح ما يتولاه . قرأ ابن كثير { والذين هُم } بلفظ الوحدان ، وقرأ الباقون بلفظ الجمع ، يعني : بيع الأمانات .
ثم قال عز وجل : { قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ، يعني : على المواقيت يحافظون ، لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، ويتمونها بركوعها وسجودها . قرأ حمزة والكسائي { على صَلاَتِهِمْ } بلفظ الوحدان ، وقرأ الباقون { صلواتهم } بلفظ الجماعة ، ومعناهما واحد ، لأن الصلاة اسم جنس يقع على الواحد والأكثر ، فهذه الخصال صفة المؤمنين المخلصين في أعمالهم .
ثم بين ثوابهم ، فقال عز وجل : { أُوْلَئِكَ هُمُ الوارثون } ، يعني : النازلين . ثم بيّن ما يرثون ، فقال : { الذين يَرِثُونَ الفردوس } ، وهي البساتين بلغة الروم عليها حيطان ، ويقال : لم يكن أحد من أهل الجنة إلا وله نصيب في الفردوس ، لأن هناك كلها بساتين وأشجار؛ ويقال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الوارثون } ، يعني : يرثون المنازل التي للكفار في الجنة؛ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقال : الفردوس البستان الحسن . { هُمْ فِيهَا خالدون } ، يعني : في الجنة دائمون؛ وقال القتبي : حدثني أبو حاتم السجستاني قال : كنت عند الأخفش ، وعنده الثوري ، فقال : يا أبا حاتم ، ما صنعت بكتاب المذكر والمؤنث؟ قلت : قد عملت شيئاً . فقال : ما تقول في الفردوس؟ قلت : مذكر . قال : فإن الله يقول : { هُمْ فِيهَا خالدون } . قلت : أراد الجنة ، فأنث . فقال : يا غافل ، أما تسمع الناس يقولون أسألك الفردوس الأعلى؟ فقلت : يا نائم ، إنما الأعلى هاهنا أفعل وليس بفعلى .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ } ، يعني : آدم . قال الكلبي ومقاتل : السلالة إذا عصر الطين؛ يسيل الطين والماء بين أصابعه؛ وقال الكلبي : خلقنا الإنسان يعني : ابن آدم من نطفة سُلَّت تلك النطفة من طين ، والطين آدم عليه السلام والنطفة ما يخرج من صلبه فيقع في رحم المرأة؛ وقال الزجاج : { سلالة مّن طِينٍ } ، أي من طين آدم ، والسلالة القليل من أن ينسل . وكل مبني على فعالة ، فهو يراد به القليل ، مثل النخالة ، والنطفة سلالة . وإنما سميت النطفة سلالة ، لأنها تنسل من بين الصلب والترائب . ثم جعلناه { نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } ، يعني : في مكان حريز حصين . { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } ، أي حولنا الماء دماً ، { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } ، أي حولنا الدم مضغة ، { فَخَلَقْنَا المضغة عظاما } ؛ أي خلقنا في المضغة عظاماً؛ { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أنشأناه خَلْقاً ءاخَرَ } . قال عكرمة وأبو العالية والشعبي : معناه نفخ فيه الروح .
وروى الأخفش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله بن مسعود أنه قَالَ : «إِنَّ خَلْقَ أَحَدكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ الله عز وجل مَلَكاً ، فَيُأْمَرُ بأنْ يَكْتُبَ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ، فَهِيَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ . ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» .
وروي ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } قال : نفخ فيه الروح ، وروى ابن نجيح ، عن مجاهد : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } قال : حين استوى شاباً؛ وروى معمر ، عن قتادة : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } ، قال : هو نبات الشعر والأسنان ، وقال بعضهم : هو نفخ الروح؛ ويقال : ذكراً أو أنثى؛ ويقال : معناه { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } ، يعني : الجلد . وروي عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : ينفخ فيه الروح ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ : «ثم أنشأته خلقاً آخر» .
{ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } ، يعني : أحكم المصورين؛ وروى أبو صالح عن عبد الله بن عباس قال : كان عبد الله بن أبي سرح يكتب هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى قوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } ، عجب من تفضل الإنسان أي من تفضل خلق الإنسان فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكْتُبْ هاكذا أُنْزِلَتْ " فشك عند ذلك ، وقال : لئن كان محمد صادقاً فيما يقول إنه يوحى إليه ، فقد أوحي إلي كما أوحي إليه؛ ولئن قال من ذات نفسه ، فلقد قلت مثل ما قال .

فكفر بالله تعالى .
وقال مقاتل والزجاج : كان عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ أُنْزِلَتْ عليه هذه الآية ، فقال عمر : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { هاكذا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ } فكأنه أجرى على لسانه هذه الآية قبل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد قيل إن الحكاية الأولى غير صحيحة ، لأن ارتداد عبد الله بن أبي سرح كان بالمدينة ، وهذه الآية مكية . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { فَخَلَقْنَا المضغة عظاما فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } ، وقرأ الباقون بالألف ، ومعناهما واحد ، لأن الواحد يغني عن الجنس .

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ } ، يعني : تموتون عند انقضاء آجالكم . { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } ، يعني : تحيون بعد الموت؛ فذكر أول الخلق ، لأنهم كانوا مقرين بذلك؛ ثم أثبت الموت ، لأنهم كانوا يشاهدونه؛ ثم أثبت البعث الذي كانوا ينكرونه؛ ثم ذكر قدرته ، فقال عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ } ، يعني : سبع سموات بعضها فوق بعض كالقبة؛ وقال مقاتل والكلبي : غِلَظُ كل سماء خمسمائة عام ، وبين كل سماءين كذلك؛ وقال أهل اللغة : الطرائق واحدها طريقة؛ ويقال : طارقت الشيء ، يعني : إذا جعلت بعضه فوق بعض . وإنما سميت الطرائق ، لأن بعضها فوق بعض .
ثم قال : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين } ، أي عن خلقهن عاجزين تاركين؛ ويقال : لكل سماء طريقة ، لأن على كل سماء ملائكة عبادتهم مخالفة لعبادة ملائكة السماء الأخرى ، يعني : لكل أهل سماء طريقة من العبادة : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين } ، أي لم نكن نغفل عن حفظهن ، كما قال : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] .
قوله عز وجل : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ } ، يعني : بوزن ، ويقال : بقدر ما يكفيهم لمعايشهم؛ ويقال : { بِقَدَرٍ } ، يعني : كل سنة تمطر بقدر السنة الأولى ، كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ليست سنة بأمطر من سنة ، ولكن الله عز وجل يصرفه حيث يشاء ويقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء } ، أي أربعة أنهار ، تخرج من الجنة دجلة والفرات وسيحان وجيحان . { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض } ، أي فأدخلناه في الأرض؛ ويقال : جعلناه ثابتاً فيها من الغدران والعيون والركايا . { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون } ، يعني : يغور في الأرض ، فلا يقدر عليه ، كقوله عز وجل : { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] .
{ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات } ، يعني : وأخرجنا بالماء جنات ، يعني : الخضرة؛ ويقال : جعلنا لكم بالماء البساتين . { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ، يعني : الكروم { لَّكُمْ فِيهَا فواكه كَثِيرَةٌ } ، يعني : ألوان الفواكه سوى النخيل والأعناب . { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } . ثم قال عز وجل : { وَشَجَرَةً } ، أي وأنبتنا شجرة ، ويقال : خلقنا شجرة ، { تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء } ؛ قال قتادة : طور سيناء جبل حسن؛ وقال الكلبي : جبل ذو شجرة؛ وقال مجاهد : الطور جبل والسيناء حجارة؛ وقال القتبي : الطور جبل والسيناء اسم؛ وقال مقاتل : خلقنا في الجبل الحسن الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام قرأ ابن كثير وأبو عمر ونافع { طُورِ سَيْنَاء } بكسر السين ، وقرأ الباقون بالنصب ، ومعناهما واحد . ثم قال : { تَنبُتُ بالدهن } ، أي تخرج بالدهن . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { تُنبِتُ } بضم التاء وكسر الباء ، يعني : تخرج الدهن ، وقرأ الباقون { تُنبِتُ } بنصب التاء وضم الباء ، وهو اختيار أبي عبيد ، أي تنبت معه الدهن ، كما يقال : جاءني فلان بالسيف . { وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ } ، يعني : الزيت يصطبغ به ، وجعل الله عز وجل في هذه الشجرة إداماً ودهناً ، وهي صبغ للآكلين .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

ثم قال عز وجل : { وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانعام لَعِبْرَةً } ، يعني : في الإبل والبقر والغنم لمن يعتبر فيها ، يقال العبر بأوقار والمعتبر بمثقال . { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا } ، يعني : من ألبانها وهي تخرج من بين فرث ودم . قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { نُّسْقِيكُمْ } بنصب النون ، وقرأ الباقون بالضم ، وهذا مثل ما في سورة النحل .
ثم قال : { وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ } ، يعني : في ظهورها وأصوافها وألبانها وأشعارها ، { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ؛ يعني : من لبنها ولحومها وأولادها . { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } ، يعني : على الأنعام في المفازة وعلى السفينة في البحر تسافرون .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } ، يعني : أرسلناه إلى قومه كما أرسلناك إلى قومك . فإن قيل : إيش الحكمة في تكرار القصص؟ قيل له : لأن في كل قصة كررها ألفاظاً وفوائد ونكتاً ما ليس في الأخرى ، ونظمها سوى نظم الأخرى . وقال الحسن : للقصة ظهر وبطن ، فالظهر خبر يخبرهم ، والبطن عظة تعظهم؛ ويقال : إنما كررها تأكيداً للحجة والعظة ، كما أنه كرر الدلائل ويكفي دليل واحد لمن يستدل به تفضلاً من الله تعالى ورحمة منه .
فقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } ، { فَقَالَ ياقوم *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله } ؛ يعني : أطيعوا الله عز وجل ووحدوه . { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } ، يعني : ليس لكم رب سواه ، { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عبادة غير الله عز وجل فتوحدونه؟ يعني : اتقوه ووحدوه .
قوله عز وجل : { فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ } ، يعني : الأشراف الذين كفروا { مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } ، يعني : خلقاً آدمياً مثلكم . { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } . بالرسالة ، ويقال : يريد أن يتفضل عليكم ، يعني : يريد أن يجعل لنفسه فضلاً عليكم بالرسالة . { وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة } ، أي لو شاء أن يرسل إلينا رسولاً ، لأنزل ملائكة . { مَّا سَمِعْنَا بهذا } ، يعني : مما يدعونا إليه نوح من التوحيد . { فَقَالَ الملؤا الذين * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } ، يعني : الجنون ، { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } ؛ يعني : انتظروا به حتى يتبين لكم أمره وصدقه من كذبه؛ ويقال : { حتى حِينٍ } ، أي حتى يموت فتنجوا منه . فلما أبوا على نوح ، دعا عليهم .

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)

{ قَالَ رَبّ انصرنى } يعني : أعني عليهم بالعذاب . { بِمَا كَذَّبُونِ } ، يعني : بتحقيق قولي في العذاب ، لأنه أنذر قومه بالعذاب ، فكذبوه . قوله عز وجل : { فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } ، أي اعمل السفينة بأَعيننا ، يعني : بمنظر منا وبعلمنا . ثم قال : { وَوَحْيِنَا } ، يعني : بوحينا إليك وأمرنا . { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } ، يعني : عذابنا ، { وَفَارَ التنور } ؛ يعني : بنبع الماء من أسفل التنور ، { فاسلك فِيهَا } ؛ يعني : فأدخل في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } ، يعني : من كل حيوان صنفين ولونين ذكراً وأنثى ، { وَأَهْلَكَ } ؛ يعني : وأدخل فيها أهلك ، { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } ؛ يعني : إلا من وجب عليه العذاب ، وهو ابنه كنعان . { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } يعني : ولا تراجعني بالدعاء في الذين كفرُوا وهو ابنه . { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } بالطوفان . قرأ عاصم في رواية حفص { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } بتنوين اللام ، وقرأ الباقون بغير تنوين .
ثم قال عز وجل : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك } ، يعني : ركِبت في السفينة ، { فَقُلِ الحمد للَّهِ } ، يعني : الشكر لله { الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } المشركين . قوله عز وجل : { وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى } ، يعني : إذا نزلت من السفينة إلى البر ، فقل : رب أنزلني { مُنزَلاً مُّبَارَكاً } . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { مُنزَلاً } بنصب الميم وكسر الزاي ، يعني : موضع النزول؛ وقرأ الباقون { مُنزَلاً } بضم الميم ونصب الزاي ، وهو اختيار أبي عبيدة ، وهو المصدر من أنزل ينزل ، فصار بمعنى أنزلني إنزالاً مباركاً . { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } من غيرك؛ وقد قرأ في الشواذ { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } بنصب الزاي ، يعني : أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام : قل هذا القول ، حتى تكون خير المنزلين .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ فِى ذَلِكَ } ، يعني : في إهلاك قوم نوح . { لاَيَاتٍ } ، يعني : لعبراً لمن بعدهم . { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } ، يعني : وقد كنا لمختبرين بالغرق؛ ويقال : بالطاعة والمعصية . وإن بمعنى قد ، كقوله { َقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } [ إبراهيم : 46 ] ، يعني : وقد كان مكرهم .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } ، أي خلقنا من بعدهم { قَرْنٍ مكناهم } وهم قوم هود ، { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } ؛ يعني : نبيّهم هوداً عليه السلام { أَنِ اعبدوا الله } ، يعني : قال لهم هود : احمدوا الله وأطيعوه ، { مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ، يعني : اتقوه . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاخرة } ، يعني : بالبعث بعد الموت ، { وأترفناهم } ؛ يعني : أنعمنا عليهم ، ويقال : وسعنا عليهم حتى أترفوا . { وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ الذين } ، يعني قالوا : ما هذا { إِلاَّ بَشَرٌ } ، يعني : آدمياً { مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } ، يعني : كما تأكلون منه ، { وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } ؛ يعني : كما تشربون . { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً } ، يعني : آدمياً { مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } ، أي لمغبونون { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً } ، أي صرتم تراباً { وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } ، يعني : محيون .

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)

قوله عز وجل : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } قرأ أبو جعفر المدني { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } كلاهما بكسر التاء . قال أبو عبيد : قراءتها بالنصب ، لأنه أظهر اللغتين وأفشاهما ، وقال بعضهم : قد قُرىء هذا الحرف بسبع قراءات بالكسر ، والنصب ، والرفع ، والتنوين ، وغير التنوين ، والسكون . وهذه الكلمة يعبر بها عن البعد ، يعني : بعيداً بعيداً ، ومعناه أنهم قالوا : هذا لا يكون أبداً ، يعني : البعث . { لِمَا تُوعَدُونَ } ، يعني : بَعِيداً بَعيداً لِمَا تُوْعَدُونَ .
{ إِنْ هِىَ } ، يعني : ما هي { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا } ، يعني : نحيا ونموت على وجه التقديم؛ ويقال : معناه يموت الآباء وتعيش الأبناء . { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ، يعني : لا نبعث بعد الموت . { إِنْ هُوَ } ، يعني : ما هو { إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } ، أي بمصدقين ، فلما كذبوه دعا عليهم ، { قَالَ رَبّ انصرنى } ، يعني : قال هود : أعني عليهم بالعذاب { بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ } الله تعالى : { عَمَّا قَلِيلٍ } ، يعني : عن قريب . وما صلة ، كقوله { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } [ آل عمران : 159 ] . { لَّيُصْبِحُنَّ نادمين } ، يعني : ليصيرن نادمين ، فأخبر الله تعالى عن معاملة الذين كانوا من قبل مع أنبيائهم وسوء جزائهم وأذاهم لأنبيائهم ، ليصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه .
ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ، فقال تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق } ؛ يعني : العذاب وهو الريح العقيم؛ ويقال : وهي صيحة جبريل عليه السلام { فجعلناهم غُثَاء } ، يعني : يابساً؛ ويقال : هلكى كالغثاء ، وهو جمع غثاء وهو ما على السيل من الزبد ، لأنه يذهب ويتفرق؛ وقال الزجاج : الغثاء البالي من ورق الشجر ، أي جعلناه يبساً كيابس الغثاء؛ ويقال : الغثاء النبات اليابس كقوله : { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } [ الأعلى : 5 ] . ثم قال : { فَبُعْداً } ، يعني : سحقاً ونكساً { لّلْقَوْمِ الظالمين } ، يعني : بعداً من رحمة الله تعالى .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً } ، يعني : خلقنا من بعدهم قروناً { ءاخَرِينَ *** مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } ؛ وفي الآية مضمر ومعناه : فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا ما تسبق من أمة ، يعني : ما يتقدم ولا تموت قبل أجلها طرفة عين ، { وَمَا يَسْتَخِرُونَ } بعد أجلهم طرفة عين .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } ، يعني : بعضها على إثر بعض قرأ ابن كثير وأبو عمرو { رُسُلَنَا تَتْرَى } بالتنوين ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء بغير تنوين ، وقرأ الباقون بنصب الراء وبغير تنوين وهو التواتر . قال مقاتل : كلّ ما في القرآن «تَتْرا وَمِدْرَاراً وَأَبَابِيلَ وَمُرْدِفِينَ» ، يعني : بعضها على إثر بعض .

قال القتبي : أصل تترى وتراً ، فقلبت الواو تاءً كما قلبوها في التقوى والتخمة وأصلها وتراً ، والتخمة وأصلها .
ثم قال عز وجل : { كُلَّمَا جَاءهُمْ *** أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } بالهلاك الأول فالأول ، { فجعلناهم أَحَادِيثَ } ؛ أي أخباراً وعبراً لمن بعدهم؛ ويقال : فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم ، يتحدثون بأمرهم وشأنهم؛ وقال الكلبي : ولو بقي واحد منهم لم يكونوا أحاديث . { فَبُعْداً } لِلْهَالِكِ؛ ويقال : فسحقاً { لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ، يعني : لا يصدقون .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا } التسع ، { وسلطان مُّبِينٍ } ؛ يعني : بحجة بينة { إلى فِرْعَوْنَ } ، أي قومه : { عَادٌ فاستكبروا } ؛ يعني : تعظموا عن الإيمان والطاعة ، { وَكَانُواْ قَوْماً عالين } ؛ يعني : متكبرين . { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ } ، يعني : أنُصدق { لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } ؟ يعني : خلقين آدميين . { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون } ، أي مستهزئين ذليلين . { فَكَذَّبُوهُمَا } ، يعني : موسى وهارون ، { فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } ؛ يعني : صاروا مغرقين في البحر .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } ، يعني : التوراة ، { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ؛ يعني : لكي يهتدوا ، يعني : بني إسرائيل . قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } ، يعني : عبرة وعلامة لبني إسرائيل ، ولم يقل آيتين؛ وقد ذكرناه . ثم قال : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ } ، يعني : أنزلناهما إلى ربوة ، وذلك أنها لما ولدت عيسى عليه السلام هم قومها أن يرجموها ، فخرجت من بيت المقدس إلى أرض دمشق ، والربوة المكان المرتفع . { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، يعني : أرضاً مستوية { وَمَعِينٍ } يعني : الماء الجاري الطاهر ، وهو مفعول من العين ، وأصله معيون ، كما يقال : ثوب مخيط؛ وقال سعيد بن المسيب : الربوة هي دمشق؛ ويقال : هي بيت المقدس ، لأنها أقرب إلى السموات من سائر الأرض؛ ويقال : إنها الرملة وفلسطين . قرأ ابن عامر وعاصم { رَبْوَةٍ } بنصب الراء ، وقرأ الباقون بالضم ، ومعناهما واحد .
قوله عز وجل : { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . وإنما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، كما يجيء في مخاطبتهم . { كُلُواْ مِنَ الطيبات } ، يعني : من الحلالات . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا ابن صاعد قال : حدثنا أحمد بن منصور قال : حدثنا الفضيل بن دكين قال : حدثنا الفضل بن مرزوق قال : أخبرني عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً ، وَإنَّ الله تَعَالَى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : { وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } وقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] . ثمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ ، يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك » وقال الزجاج : خوطب بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } وتضمن هذا الخطاب أن الرسل عليهم السلام جميعاً كذا أمروا . قال : ويروى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه ، وكان رزق النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة وأطيب الطيبات الغنائم . ثم قال تعالى : { واعملوا صالحا } ؛ يعني : خالصاً . { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، يعني : قبل أن تعملوا .
قوله عز وجل : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة } ، يعني : دينكم الذي أنتم عليه ، يعني : ملة الإسلام دين واحد ، عليه كانت الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون .

{ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } ، يعني : أنا شرعته لكم فأطيعون . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : { ءانٍ } بنصب الألف وتشديد النون ، وقرأ ابن عامر بنصب الألف وسكون النون ، وقرأ الباقون بكسر الألف والتشديد على معنى الابتداء .
ثم قال عز وجل : { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } ، يقول : فرقوا دينهم وتفرقوا في دينهم ، ومعناه : أن دين الله تعالى واحد ، فجعلوه أدياناً مختلفة زبراً . قرأ ابن عامر : { زُبُراً } بنصب الباء ، أي قطعاً وفرقاً ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي { زُبُراً } . بضم الباء ، أي كتباً ، معناه : جعلوا دينهم كتباً مختلفة؛ ويقال : فتقطعوا كتاب الله وحرفوه وغيروه { زُبُراً } . { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ، يعني : بما هم عليه من الدين معجبون ، راضون به .

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

قوله عز وجل : { فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ } ، يعني : اتركهم في جهالتهم { حتى حِينٍ } ، يعني : إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب . { أَيَحْسَبُونَ } ، يعني : أيظنون وهم أهل الفرق ، { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ } يعني : أن الذي نزيدهم به { مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } في الدنيا . { نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات } ، يعني : هو خير لهم في الآخرة؟ قرأ بعضهم { ***يُسَارَعُ } بالياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وقراءة العامة { وَبَنِينَ نُسَارِعُ } بالنون وكسر الراء ، يعني : يظنون أنا نسارع لهم في الخيرات ، بزيادة المال والولد؛ بل هو استدراج لهم .
وروي في الخبر ، أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا ، وهو أبعد له مني ويجزع عبدي المؤمن أن أقبض منه الدنيا ، وهو أقرب له مني؟ ثم قال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } ، وقد تم الكلام ، يعني : أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا؟ ثم قال : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات } { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أن ذلك فتنة لهم؛ ويقال : { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } وقد تم الكلام ، يعني : أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا؟ ثم قال عز وجل : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات } يعني : نبادرهم في الطاعات وهو خير لهم ، أي في الآخرة { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أن زيادة المال والولد أن ذلك مكر بهم وشر لهم في الآخرة .
ثم ذكر المؤمنين ، فقال عز وجل : { إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } ، يعني : خائفين من عذابه؛ ويقال : هذا عطف على قوله : { والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون * والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون * والذين هُم مّنْ *** خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } ثم قال : { والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } ، يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن يصدقون .
قوله : { والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } ، يعني : لا يشركون معه غيره ، ولكنهم يوحدون ربهم؛ ويقال : بربهم لا يشركون ، وهو أن يقول : لولا فلان ما وجدت هذا . ثم قال عز وجل : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } ، يعني : يعطون ما أعطوا من الصدقة والخير . { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، يعني : خائفة . وروى سالم بن معول ، عن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني : أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ويزنون ، قال : « ا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ ، ولكنهم هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيُصَلُّونَ » . وروي عن أبي بكر بن خلف أنه قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقلنا : كيف تقرئين يا أم المؤمنين { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } ، فقلت يا نبي الله ، هو الرجل الذي يسرق ويشرب الخمر؟ قال :

« ا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ ، هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ ، وَيَخَافُ أنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُ » . وقال الزجاج : من قرأ { يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } ، معناه يعطون ما أعطوا ، ويخافون أن لا يقبل منهم؛ ومن قرأ { يَأْتُونَ * مَا ءاتَواْ } أي يعملون من الخيرات ما يعملون ، ويخافون مع اجتهادهم أنهم مقصرون . ثم قال تعالى : { أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون } ، يعني : لأنهم إلى ربهم راجعون ، ومعناه يعملون ويوقنون أنهم يبعثون بعد الموت .
قوله عز وجل : { أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات } ، يعني : يبادرون في الطاعات من الأعمال الصالحة ، { وَهُمْ لَهَا سابقون } ، يعني : هم لها عاملون ، يعني : الخيرات ، وقال الزجاج : فيه قولان : أحدهما معناه هم إليها سابقون ، كقوله عز وجل : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } يعني : إليها ، ويجوز هم لها سابقون أي لأجلها ، أي من أجل اكتسابها ، كقولك : أنا أكرم فلاناً لك ، أي من أجلك .

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)

قوله عز وجل : { وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، يعني : بقدر طاقتها . { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } ، يعني : وعندنا نسخة أعمالهم التي يعملون ، وهي التي تكتب الحفظة عليهم { يَنطِقُ بالحق } ، يعني : يشهد عليهم بالصدق؛ وقال الكلبي : { وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، أي طاقتها؛ فمن لم يستطع أن يصلي قائماً ، فليصلِّ قاعداً . { وَعِندَنَا كتاب * يَنطِقُ بالحق } ؛ وهو الذكر ، يعني : اللوح المحفوظ . { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، يعني : لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم . { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا } ، يعني : في غفلة من الإيمان بهذا القرآن؛ ويقال : هم في غفلة من هذا الذي وصفنا من كتابة الأعمال . { وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك } ؛ قال مقاتل : يقول : لهم أعمال خبيثة دون الشرك { هُمْ لَهَا عاملون } ، أي لتلك الأعمال لا محالة التي في اللوح المحفوظ . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : ذكر الله تعالى : { الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } . ثم قال للكفار : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا } ثم رجع إلى المؤمنين ، فقال : { وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك } الأعمال التي عددتهم لها عاملون .
ثم قال عز وجل : { حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب } ، يعني : أغنياءهم وجبابرتهم بالعذاب . قال مجاهد : يعني : بالسيوف يوم بدر ، وقال الكلبي : بالجوع سبع سنين ، حتى أكلوا الجيف . { حتى إِذَا أَخَذْنَا } ، أي يصيحون ويتضرعون إلى الله تعالى ، حين نزل بهم العذاب؛ ويقال يدعون ويستغيثون . قول الله تعالى : { لاَ تَجْئَرُواْ اليوم } ، يعني : لا تضجوا ولا تتضرعوا اليوم . { إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } ، يعني : من عذابنا لا تمنعون .
قوله عز وجل : { قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ } ، أي تقرأ وتعرض عليكم ، { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } ، أي ترجعون إلى الشرك وتميلون إليه . { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } ، أي متعظمين؛ ويقال { تَنكِصُونَ } أي تقيمون عليه { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } يعني : بالبيت ، صار هذا كناية من غير أن يسبق ذكر البيت ، لأن ذلك البيت كان معروفاً عندهم . وقال مجاهد : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي بمكة بالبلد . { سامرا } بالليل لجلسائهم . { تَهْجُرُونَ } بالقول الذي في القرآن؛ ويقال : { تَهْجُرُونَ } يعني : تتكلمون بالفحش وسب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : « زُورُوها يعني : المقابر ولا تَقُولُوا هُجْراً » يعني : فحشاً؛ وقال القتبي : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } ، يعني : بالبيت العتيق تهجرون به ، ويقولون : نحن أهله سامراً . والسمر حديث الليل؛ وقال أهل اللغة : السمر في اللغة ظل القمر؛ ولهذا سمي حديث الليل سمراً ، لأنهم كانوا يجتمعون في ظل القمر ويتحدثون . قرأ نافع { سامرا تَهْجُرُونَ } بضم التاء وكسر الجيم ، وقرأ الباقون بنصب التاء وضم الجيم ، وقال أبو عبيد : هذه القراءة أحب إلينا ، فيكون من الصدود والهجران ، كقوله : { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } ، يعني : تهجرون القرآن ولا تؤمنون به . ومن قرأ : { تَهْجُرُونَ } أراد الإفحاش في المنطق ، وقد فسرها بعضهم على الشرك .

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

ثم قال عز وجل : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } ؛ وأصله يتدبروا فأدغم التاء في الدال ، يعني : أفلم يتفكروا في القرآن؟ { أَمْ جَاءهُمْ } من الأمان { مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاولين } ، حتى يؤمنوا؛ وقال : معناه جاءهم الذي لم يجىء آباءهم الأولين؛ وهذا كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } ؛ وقال الكلبي : { مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاولين أَمْ لَمْ } من البراءة من العذاب ثم قال تعالى : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } ، يعني : نسبة رسولهم . { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ، يعني : جاحدين؛ قال أبو صالح : عرفوه ولكن حسدوه .
{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } ، يعني : بل يقولون به جنون . { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } ، يعني : الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والقرآن من عند الله عز وجل ، أن لا تعبدوا إلا الله . { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون } ، يعني : جاحدين مكذبين ، وهم الكفار .
قوله عز وجل : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } ، والحق هو الله تعالى ، يعني : لو اتبع الله أهواءهم يعني : مرادهم ، { لَفَسَدَتِ *** السموات والارض *** وَمَن فِيهِنَّ } ، يعني : لهلكت ، لأن أهواءهم ومرادهم مختلفة؛ ويقال : لو كانت الآلهة بأهوائهم ، كما قالوا : لفسدت السموات ، كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنبياء : 22 ] . ثم قال : { بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } ، يعني : أنزلنا إليهم جبريل عليه السلام بعزهم وشرفهم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم . { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } ، يعني : عن القرآن ، أي تاركوه لا يؤمنون به . { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } ، قرأ حمزة والكسائي { ***خراجاً } . { خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ } ، يعني : فثواب ربك خير ، ويقال : قوت ربك من الحلال خير من جعلهم وثوابهم . { وَهُوَ خَيْرُ الرزقين } ، أي أفضل الرازقين .
قوله عز وجل : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } ، يعني : دين مستقيم ، وهو الإسلام لا عوج فيه . { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } ، يعني : لا يصدقون بالبعث { عَنِ الصراط لناكبون } ، أي عن الدين لعادلون ومائلون .

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ } ، يعني : من الجوع الذي أصابهم ، يعني : من الجوع الذي أصابهم ، { لَّلَجُّواْ } ؛ أي مضوا وتمادوا { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } ، يعني : في ضلالتهم يترددون . قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب } ، يعني : بالجوع ، { فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ } ؛ يعني : ما تضعفوا وما خضعوا لربهم . { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } ؛ يقول : ما يرغبون إلى الله في الدعاء وبالطاعة ، { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } ؛ يعني : نفتح عليهم . قال السدي : هو فتح مكة . { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } ، قال : أبلسوا يومئذٍ وتغيرت وجوههم وألوانهم ، حين ينظرون أصنامهم تكسرت ، وقال عكرمة : ذا عذاب شديد ، يعني : فتح مكة؛ ويقال : الجوع الشديد { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } ، أي آيسون من كل خير ورزق .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة } ، فهذه الأشياء من النعم . { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ، يعني : أنتم لا تشكرون؛ ويقال : شكركم فيما صنع إليكم قليل . { وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ } ، يعني : خلقكم في الأرض . { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } في الآخرة ، { وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ } ؛ أي يحيي الموتى ويميت الأحياء . { وَلَهُ اختلاف اليل والنهار } ، أي ذهاب الليل ومجيء النهار ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أمر الله؟ ويقال : أفلا تعقلون توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون؟ ثم قال عز وجل : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاولون } ، يعني : كذبوا مثل ما كذب الأولون . { قَالُواْ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ } ، يعني : هذا القول . { إِنَّ هَذَا } ، يعني : ما هذا { إِلاَّ أساطير الاولين } ، يعني : أحاديثهم وكذبهم .
قوله عز وجل : { قُلْ } لكفار مكة : { لّمَنِ الارض وَمَن فِيهَا } من الخلق . { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن أحداً يفعل ذلك غير الله تعالى ، فأجيبوني . { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ، يعني : تتعظون فتطيعونه وتوحدونه . { قُلْ مَن رَّبُّ *** السموات **السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ، وكلهم قرؤوا الأول بغير ألف ، وأما الآخر فإن كلهم قرؤوا بغير ألف غير أبي عمرو ، فإنه قرأ الله؛ والباقون لله . قال أبو عبيد : وجدت في مصحف الإمام كلها بغير ألف . قال : وحدثني عاصم الجحدري أن أول من قرأ هاتين الألفين نصر بن عاصم الليثي . فأما من قرأ { الله } ، فهو ظاهر لأنه جواب السائل عما يسأل ، ومن قرأ { لِلَّهِ } ، فله مخرج في العربية سهل ، وهو ما حكى الكسائي عن العرب أنه يقال للرجل : من رب هذه الدار؟ فيقول : لفلان ، يعني : هي لفلان . والمعنى في ذلك أنه إذا قيل : من صاحب هذه الدار؟ فكأنه يقول : لمن هذه الدار . وإذا قال المجيب : هي لفلان أو قال : فلان ، فهو جائز ولو كان الأول { الله } ، لكان يجوز في اللغة ، ولكنه لم يقرأ والاختلاف في الآخرين .
ثم قال : { قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عبادة غير الله تعالى ، فتوحدوه .
قوله عز وجل : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } ، يعني : خزائن كل شيء . { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } ، يعني : يقضي ولا يقضى عليه ، ويقال : وهو يؤمن من العذاب ولا يؤمن عليه ، أي ليس له أحد يؤمن الكفار من عذابه . { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *** سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } ، يعني : من الذين تصرفون عن الإسلام وعن الحق . ثم قال عز وجل : { بَلْ أتيناهم بالحق } ، قال الكلبي : يعني : القرآن؛ وقال مقاتل : يعني : جئناهم بالتوحيد . { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قولهم إن الملائكة عليهم السلام كذا وكذا ثم قال :

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

{ مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } ، أي من شريك . { إِذاً لَّذَهَبَ } ، يعني : لو كان معه آلهة لذهب { كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } ، يعني : لاستولى كل إله بما خلق وجمع لنفسه كلما خلق . { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } ، يعني : ولغلب بعضهم على بعض . { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } من الكذب .
قوله عز وجل : { عالم الغيب والشهادة } ، يعني : عالم السر والعلانية؛ ويقال : عالم بما مضى وما هو كائن . { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، يعني : هو أجلُّ وأعلى مما يوصف له من الشريك والولد . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص : { عالم الغيب } بكسر الميم على معنى النعت لقوله { سبحان الله } ، وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء .
قوله : { قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ } من العذاب وما صلة؛ ويقال : إن أريتني عذابهم . { رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين } ، يعني : أخرجني منهم قبل أن تعذبهم ، فلا تعذبني معهم بذنوبهم . { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ } من العذاب { لقادرون } ؛ قال الكلبي : هذا أمر قد كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شهده أصحابه وقد مضى بعد الفتنة التي وقعت في الصحابة ، بعد قتل عثمان رضي الله عنه وذكر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بعد نزول هذه الآية ضاحكاً ولا مبتسماً؛ وقال مقاتل : { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون } يعني : يوم بدر؛ ويقال : يوم فتح مكة؛ ويقال : قل : { رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ } يعني : الفتنة { رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين } ، يعني : مع الفئة الباغية ، وهذا كقوله : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 25 ] . وذكر عن الزبير أنه كان إذا قرأ هذه الآية ، يقول قد حذرنا الله فلم نحذر .
ثم قال عز وجل : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة } ، يعني : ادفع بحلمك جهلهم؛ ويقال : بالكلام الحسن الكلام القبيح؛ ويقال : ادفع بقول لا إله إلا الله الشرك من أهل مكة . ثم قال : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } ، يعني : بما يقولون من الكذب؛ ويقال : معناه نحن أعلم بما يقولون فلا تعجل أنت أيضاً . { وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } ، يعني : أعتصم بك من نزغات الشيطان وضرباته ووساوسه . ثم قال : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } ، يعني : قل : رب أعوذ بك من قبل أن يحضرون الشياطين عند تلاوة القرآن؛ ويقال : يحضرون عند الموت؛ ويقال : عند الصلاة . وأصله أن يحضرونني ، إلا أنه يكتب { يَحْضُرُونِ } بحذف إحدى النونين للتخفيف .

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

قوله عز وجل : { حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت } ، يعني : أمهلهم وأجلهم ، حتى إذا حضر أحدهم الموت وهم الكفار ، { قَالَ رَبّ ارجعون } ؛ يعني : يقول لملك الموت وأعوانه : يا سيدي ردني؛ ويقال : يدعو الله تعالى ، ويقول : يا رب ارجعون؛ ويقال : إنما قال بلفظ الجماعة ، لأن العرب تخاطب جليل الشأن بلفظ الجماعة؛ ويقال : معناه يا رب مرهم ليرجعوني إلى الدنيا . { لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا } ، يعني : خالصاً { فِيمَا تَرَكْتُ } في الدنيا . قال الله تعالى : { كَلاَّ } ، وهو رد عليهم ، يعني : أنه لا يرد إلى الدنيا . ثم قال : { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } ، يعني : مقولها ولا تنفعه . ثم قال : { وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } ، يعني : من بعدهم القبر { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، أي والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة؛ ويقال : كل حاجز بين الشيئين . فهو برزخ؛ ويقال : هو بين النفختين؛ وقال قتادة : البرزخ بقية الدنيا؛ وقال الحسن : القبر بين الدنيا والآخرة .
قوله عز وجل : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور } ، يعني : النفخة الأخيرة ، { فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ } ؛ يعني : لا ينفعهم { يَوْمَئِذٍ } النسبُ ، { وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } عن ذلك . فهذه حالات لا يتساءلون في موضع ، ويتساءلون في موضع آخر . { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } ، يعني : رجحت حسناته على سيئاته ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } ؛ يعني : الناجون من الآخرة ، { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } ؛ يعني : رجحت سيئاته على حسناته ، { فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } ؛ يعني : تنفح . قال أهل اللغة : النفح واللفح بمعنى واحد ، إلا أن اللفح أشد تأثيراً وهو الدفع ، يعني : تضرب وجوههم النار . { وَهُمْ فِيهَا } ، يعني : في النار ، { كالحون } ؛ يعني : كلحت وعبست وجوههم ، والكالح الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه ، ونحو ما تُرى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان ، يعني : كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم . وقال ابن مسعود : كالرأس النضوج . ثم قال : { أَلَمْ تَكُنْ } ، يعني : يقال لهم : ألم تكن { تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم } ، يعني : ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم ، وما هو كائن فيه؟ { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } ، يعني : بالآيات .
قوله عز وجل : { قَالُواْ } ، يعني : إن الكفار قالوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } ، التي كتبت علينا والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ . { وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } عن الهدى . قرأ حمزة والكسائي { ***شقاوتنا } بنصب الشين والألف ، وقرأ الباقون { عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف . وروي عن ابن مسعود { ***شقاوتنا } و { عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } ومعناهما قريب . { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } ، يعني : من النار ، { فَإِنْ عُدْنَا } إلى الكفر والتكذيب ، { فَإِنَّا ظالمون *** قَالَ } ، أي فحينئذٍ يقول الله تعالى : { اخسئوا فِيهَا } ، يعني : اصغروا فيها واسكتوا ، أي كونوا صاغرين .

{ وَلاَ تُكَلّمُونِ } ، أي ولا تكلمون بعد ذلك .
قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا أبو حفص ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل النار يدعون مالكاً ، فلا يجيبهم أربعين عاماً ، ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون . ثم يدعون ربهم : ربنا أخرجنا منها ، فإن عدنا فإنا ظالمون . فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين ، ثم يجيبهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } ، فوالله ما نبت بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق .
وروي عن ابن عباس أنه قال : لما قال الله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } ، فإنما بقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم ، فمن الأجواف يعوون عواء الكلب؛ ويقال : { اخسئوا } أي تباعدوا تباعد سخط . يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ليتباعد . ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ } وهم المؤمنون : { رَبَّنَا ءامَنَّا } ، أي صدقنا ، { فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين } .
قوله عز وجل : { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } ، يعني : هزواً ، { حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى } ؛ يعني : أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي ، { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } في الدنيا . قرأ عاصم ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو { سِخْرِيّاً } بكسر السين ، وكذلك في سورة ص ، وكانوا يقرؤون في الزخرف بالرفع ، قالوا : لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء . وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية ، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر ، وما كان من التسخير فهو بالضم . وقرأ حمزة والكسائي ونافع { سِخْرِيّاً } كل ذلك بالضم؛ وقال أبو عبيد : هكذا نقرأ ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد ، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ؛ وذكر عن الخليل ، وعن سيبويه أن كليهما واحد .
قوله عز وجل : { إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ } ، يعني : جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا ، يعني : بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى . { أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون } ، يعني : الناجون . قرأ حمزة والكسائي { أَنَّهُمْ } بكسر الألف على معنى الابتداء ، والمعنى إني جزيتهم . ثم أخبر فقال : إنهم هم الفائزون ، وقال أبو عبيد ، وقرأ الباقون { أَنَّهُمْ } بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون؛ وقال أبو عبيد : الكسر أحب إليَّ على ابتداء المدح من الله تعالى .

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

قوله عز وجل : { قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض عَدَدَ سِنِينَ } ، يعني : في القبر؛ ويقال : في الدنيا . ويروى عن ابن عباس في بعض الروايات أنه قال : لا أدري في الأرض أم في القبر؟ وقال مقاتل : { كَمْ لَبِثْتُمْ } فِي القبر عدد سنين . { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين } ، قال الأعمش : يعني : الحافظين؛ وقال مقاتل : يعني : ملك الموت وأعوانه ، وقال قتادة : يعني : فاسأل الحسَّاب؛ وقال مجاهد : يعني : الملائكة عليهم السلام وهكذا قال السدي . { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ } في القبر أو في الدنيا ، { إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، يعني : لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا ، لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلاً . قرأ حمزة والكسائي وابن كثير : { قال كَمْ لَبِثْتُمْ } على معنى الأمر ، وكذلك قوله { قُلْ إِنْ * لَّبِثْتُمْ } ، وقرأ الباقون : { قَالَ } بالألف ، وقرأ حمزة والكسائي : { فَاسْأَلِ العادين } بغير همز ، وقرأ الباقون : { فَاسْأَلِ } بالهمزة .
ثم قال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً } ، أي لعباً وباطلاً لغير شيء ، يعني : أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم؟ { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } بعد الموت . قرأ حمزة والكسائي : { لاَ تُرْجَعُونَ } بنصب التاء وكسر الجيم ، وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم ، وكذلك التي في القصص قالوا : لأنها من مرجع الآخرة ، وما كان من مرجع الدنيا ، فقد اتفقوا في فتحه ، مثل قوله : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [ يس : 50 ] . قال أبو عبيد : وبالفتح نقرأ ، لأنهم اتفقوا في قوله تعالى : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناهآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] ، وقال إنهم لاَ يرجعون وَقَال { والذين يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون } [ المؤمنون : 60 ] ، كقوله : { الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون } [ البقرة : 156 ] ، فأضاف الفعل إليهم .
ثم قال عز وجل : { فتعالى الله الملك الحق } ، يقول : ارتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئاً عبثاً ، وإنما خلق لأمر كائن . ثم وحد نفسه ، فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } ، يعني : السرير الحسن .
قوله عز وجل : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، يقول : لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة . { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ } في الآخرة ، يعني : عذابه . { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } ، يعني : لا يأمن الكافرون من عذابه؛ ويقال : معناه جزاء كل كافر أنه لا يفلح الكافرون في الآخرة عند ربهم .
قوله عز وجل : { وَقُل رَّبّ اغفر وارحم } ، يعني : تجاوز عني . { وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين } ، يعني : من الأبوين؛ وهذا قول الحسن ، ويقال : من غيرك؛ ويقال : إنما حسابه عند ربه فيجازيه ، كما قال : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] { وَقُل رَّبّ اغفر وارحم } فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين ، ويسأل لهم المغفرة؛ ويقال : أمره بأن يستغفر لنفسه ، ليعلم غيره أنه محتاج إلى الاستغفار . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنِّي أسْتَغْفِرُ الله رَبِّي وَأَتُوبُ إلَى الله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ، أَوْ قالَ مِائَةَ مَرَّةٍ » والله سبحانه وتعالى أعلم .

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

قوله سبحانه وتعالى : { سُورَةٌ أنزلناها } ؛ قرأ بعضهم : { سُورَةٌ } بنصب الهاء ، وقراءة العامة بالضم . فمن قرأ بالضم فمعناه هذه سورة أنزلناها ، ومن قرأ بالنصب فمعناه أنزلنا سورة؛ ويقال : اقرأ سورة وقد قرئت { سُورَةٌ } بالهمزة وبغير همز؛ فمن قرأ بالهمز ، جعلها من أسأرت ، يعني : أفضلت كأنها قطعت من القرآن؛ ومن لم يهمز جعلها من سور المدينة سوراً . وقال النابغة للنعمان بن المنذر :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَة ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وإنما خص هذه السورة بذكر السورة لما فيها من الأحكام ، فذلك كله يرجع إلى أمر واحد وهو أمر النساء . ثم قال تعالى : { وفرضناها } ، يعني : بيَّنا حلالها وحرامها ، وقال القتبي : أصل الفريضة الوجوب ، وهاهنا يجوز أن يكون بمعنى بيّناها ، وقد يجوز أوجبنا العمل بما فيها؛ وقال بعض أهل اللغة : أصل الفرض هو القطع ، ولهذا سمي ما يقطع من حافة النهر فرضة؛ ويسمى الموضع الذي يقطع من السواك ، أي ليشد فيه الخيط فرض؛ ولهذا يسمى الميراث فريضة ، لأن كل واحد قطع له نصيب معلوم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { وفرضناها } بتشديد الراء ، وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه ألزمناكم العمل بما فرض؛ ومن قرأ بالتشديد ، فهو على وجهين : أحدهما على معنى التكثير ، أي إنا فرضنا فيها فروضاً ، ومعنى آخر : وبيَّنا وفصلنا فيها من الحلال والحرام .
ثم قال : { وَأَنزَلْنَا فِيهَا } ، يعني : في السورة { بَيّنَاتٍ فاسأل } ، يعني : الحدود والفرائض والأمر والنهي؛ ويقال : الآيات ، يعني : العلامات والعبرات؛ ويقال : يعني : آيات القرآن . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، يعني : تتعظون ، فلا تعطلون الأحكام والحدود .
قوله عز وجل : { الزانية والزانى } ؛ وقرأ بعضهم : { الزانية } بالنصب على معنى : اجلدوا الزانية والزاني ، وهكذا السارق والسارقة بالنصب على هذا المعنى؛ ويقال : في الزنى بدأ بذكر المرأة ، لأن الزنى في النساء أكثر؛ وفي السرقة بدأ بالرجال ، لأن السرقة في الرجال أكثر . وقراءة العامة بالرفع على معنى الابتداء ، وقيل : إنما بدأ بالمرأة ، لأنها أحرص على الزنى من الرجال؛ ويقال : لأن الفعل ينتهي إليها ، ولا يكون إلا برضاها .
ثم قال : { فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } ، يعني : إذا كانا غير محصنين؛ { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } . قرأ ابن كثير { رَأْفَةٌ } بالهمزة والمد ، وقرأ أبو عمرو بالمد بغير همز؛ وقرأ الباقون بالهمز بلا مد؛ ومعنى الكل واحد وهو الرحمة؛ وقال بعضهم : الرأفة اسم جنس ، والرحمة اسم نوع . قال بعضهم : الرأفة للمذنبين ، والرحمة للتائبين ، وهو قول سفيان الثوري؛ وقال بعضهم : الرأفة تكون دفع المكروه ، والرحمة إيصال المحبوب ، يعني : لا تحملنكم الشفقة عليهما على ترك الحد ، { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله } ؛ يعني : في دين الله ، أي في حكم الله إن كنتم تؤمنون بالله ، { واليوم الاخر } ؛ يعني : يوم القيامة .

وإنما سمي اليوم الآخر ، لأنه لا يكون بعده ليل ولا نهار ، فيصير كله بمنزلة يوم واحد؛ وقد قيل : إنه تجتمع الأنوار كلها ، وتصير في الجنة يوماً واحداً ، وجمعت الظلمات كلها في النار ، وتصير كلها ليلة واحدة .
ثم قال : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين } ، يعني : ليحضر عند إقامة الحد طائفة من المؤمنين . وفي حضور الطائفة ثلاث فوائد : أولها أنهم يعتبرون بذلك ، ويبلغ الشاهد الغائب والثانية أن الإمام إذا احتاج إلى الإعانة أعانوه ، والثالثة لكي يستحي المضروب ، فيكون زجراً له من العود إلى مثل ذلك الفعل؛ وقال الزهري : الطائفة ثلاثة فصاعداً ، وذكر عن أنس بن مالك أنه قال : أربعة فصاعداً ، لأن الشهادة على الزنى لا تكون أقل من أربعة؛ وقال بعضهم : اثنان فصاعداً؛ وقال بعضهم : الواحد فصاعداً؛ وهو قول أهل العراق؛ وهو استحباب وليس بواجب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : رجلان ، وعن مجاهد قال : واحد فما فوقه طائفة؛ وروي عن ابن عباس مثله .

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله عز وجل : { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } . روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلاً يقال له مرثد بن أبي مرثد ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأنكح عناقاً ، يعني : امرأة بغيَّة كانت بمكة؟ قال : فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نزلت هذه الآية { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } ، { أَوْ مُشْرِكَةً } ، فقال : « يا مَرْثَدُ لا تَنْكِحْهَا » وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ليس هو على النكاح ، ولكنه الجماع؛ ويقال : إن أصحاب الصفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتزوجوا الزواني ، وكانت لهن رايات كعلامة البيطار ليُعرف أنها زانية ، وقالوا : لنا في تزويجهن مراد ، فأذن لنا فإنهن أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيراً؛ والمدينة غالية السعر ، وقد أصابنا الجهد . فإذا جاءنا الله تعالى بالخير ، طلقناهن وتزوجنا المسلمات ، فنزلت الآية { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } .
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } أي لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله في الزنى ، والزانية لا تزني إلا بزان مثلها في الزنى . { والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } ، يعني : الزنى؛ وقال الحسن البصري : الزاني المجلود بالزنى ، لا ينكح إلا زانية مجلودة مثله في الزنى . وروي عن علي بن أبي طالب : أن مجلوداً تزوج امرأة غير مجلودة ، ففرق بينهما؛ ويقال : أراد به النكاح ، لا ينكح ، يعني : لا يتزوج . وكان التزويج حراماً بهذه الآية ، ثم نسخ بما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال : طَلِّقْهَا . قال : إني أحبها ، فقال : أَمْسِكْهَا . وقال سعيد بن المسيب : { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } . كانوا يرون الآية التي بعدها نسختها { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 32 ] الآية .
ثم قال عز وجل : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } ، يعني : يقذفون العفائف من النساء الحرائر المسلمات ، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } على صدق مقالتهم ، { فاجلدوهم } ؛ يقول : للحكام؛ ويقال : هذا الخطاب لجميع المسلمين . ثم إن المسلمين فوضوا الأمر إلى الإمام وإلى القاضي ، ليقيم عليهم الحد . { ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، يعني : ثمانين سوطاً . { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } ، أي لا تقبلوا لهم شهادة بعد إقامة الحد عليهم . { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } ، يعني : العاصين .
قال عز وجل : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } ، يعني : القذف . { وَأَصْلَحُواْ } ، يعني : العمل بعد التوبة ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } لذنوبهم بعد التوبة ، { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة؛ وقال شريح : يقبل توبته فيما بينه وبين الله تعالى . فأما شهادته ، فلا تقبل أبداً؛ وقال إبراهيم النخعي رحمه الله : إذا تاب ذهب عنه الفسق ، ولا تقبل شهادته أبداً . وروي عن ابن عباس أنه قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } تاب الله عليهم من الفسق وأما الشهادة ، فلا تقبل أبداً؛ وهكذا عن سعيد بن جبير ومجاهد . وروي عن جماعة من التابعين أن شهادته تقبل إذا تاب ، مثل عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم؛ وهو قول أهل المدينة ، والأول قول أهل العراق وبه نأخذ .

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

ثم قوله عز وجل : { والذين يَرْمُونَ أزواجهم } ، يعني : يقذفون أزواجهم بالزنى . قال أبو الليث : حدّثنا أبو جعفر قال : حدّثنا أبو الحسن علي بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن الفضل قال : حدّثنا يزيد بن هارون ، عن عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما نزل { والذين يَرْمُونَ المحصنات } الآية ، قال مسعد بن عبادة ، وهو سيد الأنصار : أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَاِر ، ألا تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ » . فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق ، وأنها من الله تعالى ، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل ، لم يكن لي أن أهيجه ، حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بأربعة شهداء ، حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلا يسيراً ، حتى جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم . فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند امرأته رجلاً ، فرأى بعينه وسمع بأذنه ، فلم يهجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً ، فرأيت بعيني وسمعت بأذني . فكره النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه .
واجتمعت الأنصار ، فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة . الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ، ويبطل شهادته في المسلمين ، فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي مخرجاً . فوالله إن النبي صلى الله عليه وسلم ليريد أن يأمر بضربه ، إذ نزل عليه الوحي ، فعرفوا بذلك في تربد وجهه ، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزل { والذين يَرْمُونَ أزواجهم } .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } ، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أَبْشِرْ يا هِلالُ فَقَدْ جَعَلَ الله لَكَ مَخْرَجاً » . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي . فأرسلوا إليها ، فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما ، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما . فقالت : كذب علي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لاعِنُوا بَيْنَهُما » . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين؛ فلما كانت الخامسة ، قيل : يا هلال ، اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . قال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها ، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .

ثم قيل لها : اشهدي . فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة ، قيل لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وان هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فمكثت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، وقال : إن جاءت به أصيهب أريسج أثيبج خمش الساقين ، فهو لهلال . وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فهو للذي رميت به . فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْلاَ الأَيْمَانُ ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ » قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميراً على مصر ولا يدعى لأب .
وروى ابن شهاب ، عن سهل بن سعد الساعدي : أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه أو كيف يفعل؟ قال : « قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآناً فَاذْهَبْ فَأْت بِهَا » فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما فرغا ، قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً . فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن شهاب : تلك سنة المتلاعنين؛ وفي رواية أخرى : أنه فرق بينهما؛ وقال الزهري : صار ذلك سنة في المتلاعنين ، فذلك قوله : { والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } يعني : الزوج خاصة .
{ فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } ، أي يحلف الزوج أربع مرات ، فيقول في كل مرة : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أني صادق فيما رميتها به من الزنى ، { والخامسة } ؛ يعني : ويقول في المرة الْخَامِسَةِ : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين } فيما رماها به من الزنى .
قوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } ، يعني : يدفع الحاكم الحد عن المرأة { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين } ، يعني : بعد ما تحلف المرأة أربع مرات ، فتقول في كل مرة : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن الزوج من الكاذبين في قوله ، { والخامسة } ؛ يعني : وتقول المرأة في الخامسة : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ } الزوج { مِنَ الصادقين } في مقالته . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { أَرْبَعُ شهادات } بضم العين ، وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالضم ، يكون على معنى خبر الابتداء ، فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع شهادات . ومن قرأ بالنصب ، فالمعنى فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات .

قال أبو عبيد : وبهذا نقرأ ، ومعناه فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات ، فيكون الجواب في قوله : إنه لمن الصادقين .
وقرأ عاصم : { أَن لَّعْنَةُ الله } بتخفيف أنْ والجزم ، وقرأ الباقون بالتشديد ، وقرأ عاصم في رواية حفص { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا } بالنصب ، وقرأ الباقون بالرفع . فإذا فرغا من اللعان ، فرق القاضي بينهما وقال بعضهم : بعد اللعان؛ وهو قول الشافعي رحمه الله أو في قول علمائنا رحمهم الله لا تقع الفرقة ، ما لم يفرق بينهما .
ثم قال عز وجل : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ؛ وجوابه مضمر ، ومعناه ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، لبين لكم الصادق من الكاذب؛ ويقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم . ثم قال : { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } ، يعني : تواب لمن تاب ورجع ، حكيم بينهما بالملاعنة .
قوله عز وجل : { إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } ، يعني : قالوا بالكذب؛ وقال الأخفش : الإفك أسوأ الكذب ، وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب ، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق . قالت : فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه في مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة ، أذن ليلة بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي . فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلهن ولم يفشهن اللحم . إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج ، حين رحلوه ورفعوه .
وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا . ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب . قالت : فجلست مكاني ، فظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي ، إذ غلبني النوم ، فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر؛ إذا ارتحل الناس ، يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم ، فيحمله إلى المنزل الآخر ، فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم . وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء ، فأصبح صفوان عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني؛ وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي .

فوالله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق بي يقود بي الراحلة .
قالت : وكان عبد الله بن أبي ، إذا نزل في العسكر ، نزل في أقصى العسكر ، فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون . قالت : وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة ، وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت ، ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن عائشة قد فقدت . فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل ، فتكلم عبد الله بن أبيّ بما تكلم ، وحسان بن ثابت وسائرهم ، وأفشوه في العسكر . وخاض أهل العسكر فيه ، فجعل يرويه بعضهم عن بعض ، ويحدث بعضهم بعضاً .
قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي . إنما يدخل ويسلم ثم يقول : « كَيْفَ تِيكُمْ » فذلك يُريبُني؟ ولا أشعر بالسر . فلما رأيت ذلك ، قلت : يا رسول الله ، لو أذنت لي فانقلبت إلى أبويّ يمرضاني . قال : « لا بَأْس عَلَيْكِ » وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه . قالت : فانقلبت إلى أمي ، ولا علم لي بشيء مما كان ، حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة .
قالت : وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم ، إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة . قالت : فخرجت في بعض الليل ، ومعي أم مسطح ، حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح ، فقالت : تعس مسطح . فقلت لها : بئس ما صنعت ، تسبين رجلاً وقد شهد بدراً . فقالت : أولم تسمعي ما قال؟ قلت : وماذا قال؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضاً إلى مرضي ، وأخذتني الحمى مكاني ، فرجعت أبكي .
ثم قلت لأمي : يغفر الله لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لي منه شيئاً . فقالت : هوني عليك ، فوالله لقلَّ ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا كثرن عليها . قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم؛ ثم أصبحت أبكي . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حيت استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . فأما علي بن أبي طالب ، فقال : لم يضيق الله عليك والنساء كثير فاستبدل . وأما أسامة بن زيد ، فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود .

فقال يا رسول الله ، ما علمت منها إلا خيراً ، فلا تعجل وانظر واسأل أهلك . قال : فسأل حفصة بنت عمر عنها ، فقالت : يا رسول الله ، ما رأيت عليها سوءاً قط . وسأل زينب بنت جحش ، فقالت مثل ذلك ، وسأل بريرة فقال : « أيْ بَرِيرَةُ ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ؟ » قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبياً ، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها ، غير أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله .
قالت : فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل علي ، وعندي أبواي ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : « يا عَائِشَةُ ، لَقَدْ بَلَغَكِ مَا يَقُولُ النَّاسُ ، فَإنْ كَانَ مَا يَكُونُ مِنْكِ زَلَّةَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ ، فَتُوبي إلى الله تَعَالَى؛ فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ . فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ ، تَابَ الله عَلَيْهِ » . فانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني ، فلم يفعلا ، فقلت : يا أبت أجبه ، فقال : ماذا أقول؟ فقلت : يا أماه أجيبيه . فقالت : ماذا أقول؟ ثم استعبرت فبكيت ، فقلت : لا والله لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس ، لقلت وأنا منه بريئة ، ولا أقول فيما لم يكن حقاً . ولئن أنكرت ، فلا تصدقني .
قالت : ثم أنسيت اسم يعقوب ، فلم أذكره ، فقلت : ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه . قالت : أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله عز وجل يبرئني ، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى ، ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بقرآن يقرأ به في المساجد ، ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه شيئاً ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عَائِشَةُ أبْشِرِي ، أَمَا والله فَقَدْ بَرَّأَكِ الله تَعَالَى » . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي .
وفي رواية قالت : أحمد الله تعالى وأذمكم . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد المنبر ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ثم قال : « يا أيُّها النَّاسُ مَنْ يُعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ ، قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي برَجُلٍ ما رَأَيْتُ عَلَيْهِ سُوءاً قَطُّ ، وَلا دَخَلَ على أهْلِي إلاَّ وأنَا مَعَهُ » .

فقام سعد بن معاذ ، فقال : أخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو؟ فإن يكن من الأوس نقتله ، وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأياً ، أمرتنا ففعلنا أمرك . فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ، ولكن حملته الحمية ، فقال : كلا ولكنها عداوتك للخزرج . قال : فاسْتَبَّا ، فقام أسيد بن حضير الأوسي ، وقال : يا سعد بن عبادة ، أتقول هذا . كلا والله ولكنك منافق تحب المنافقين ، فاستب حي هذا وحي هذا ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللغط ، نزل وتركهم ، وقد تلا عليهم ما أنزل الله عليه في أمر عائشة رضي الله عنها

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

{ إِنَّ الذين *** جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } يعني جماعة منكم ، وهو ما قال عبد الله بن أبيّ وأصحابه : ما برئت عائشة من صفوان ، وما برىء عنها صفوان ، والعصبة عشرة ، فما فوقها ، كما قال الكلبي .
{ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ، يعني : عائشة ومن كان ينسبها والنبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ لأنه لو لم يكن قولهم لم يظهر فضل عائشة رضي الله عنها وإنما ظهر فضل عائشة بما صبرت على المحنة ، فنزل بسببها سبع عشرة آية من القرآن من قوله : { إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك } إلى قوله : { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ووجه آخر ، بل هو خير لكم ، لأنه يؤخذ من حسناته ويوضع في ميزانه ، يعني : عائشة وصفوان ، وهذا خير له .
ثم قال : { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } ، يعني : لكل واحد منهم العقوبة بمقدار ما شرع في ذلك الأمر ، لأن بعضهم قد تكلم بذلك ، وبعضهم ضحك ، وبعضهم سكت . فكل واحد منهم ما اكتسب من الإِثم بقدر ذلك .
{ والذى تولى كِبْرَهُ } ، يعني : الذي تكلم بالقذف { مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، يعني : الحد في الدنيا . فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليهم ، وكان حميد يقرأ { والذى تولى كِبْرَهُ } بضم الكاف ، يعني : عظمه . قال أبو عبيد : والقراءة عندنا بالكسر ، وإنما الكبر في النسب وفي الولاء .

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

ثم قال عز وجل : { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } ، يعني : هلا إذ سمعتم قذف عائشة وصفوان . { ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } ، يعني : هلا ظننتم به كظنكم بأنفسكم؟ ويقال : ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ، كظن المؤمنين والمؤمنات بأمثالهم وبأهل دينهم خيراً؛ ويقال : يعني : هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات؟ { وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ } ، يعني : هلا قلتم حين بلغكم هذا الكذب ، هذا كذب بيّن ، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك؟ { لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } ، يعني : هلا جاؤوا بها . { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الكاذبون } في قولهم : اللفظ لفظ الماضي ، والمراد به المستقبل ، يعني : اطلبوا منهم أربعة شهداء ، فإن لم يأتوا بها؛ فأقم عليهم الحد .
ثم قال عز وجل : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ، يعني : منته ونعمته عليكم . { فِى الدنيا والاخرة لَمَسَّكُمْ } ، يعني : أصابكم { فِيمَا *** أَفَضْتُمْ فِيهِ } ، يعني : فيما قلتم من القذف { عَذَابٌ عظِيمٌ } في الدنيا والآخرة على وجه التقديم .
قوله عز وجل : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } ، أي يرويه بعضكم من بعض ، ويتلقاه بعضكم من بعض . وقرىء { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } بكسر اللام وضم القاف والتخفيف ، أي تكذبون بألسنتكم؛ ويقال : معناه تسرعون إلى الكذب . يقال : ولق يلق ، إذا أسرع إلى الكذب . وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } بكسر اللام ، وقال ابن أبي مليكة هي أعلم ، لأن الآية نزلت فيها . وروي عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ : { إِذْ } ، وقال أبو عبيد : لولا قراءة أبي وكراهة الخلاف على الناس ، ما كان أحد أولى أن يتبع فيها من عائشة ، كما احتج ابن أبي مليكة . ثم قال تعالى : { بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } من الفرية ، { وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً } ؛ أي تحسبون عقوبته هينة . { وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } في الوزر والعقوبة .

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

قوله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } ، يعني : وهلا إذ سمعتم القذف . { قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا } ، يعني : ما ينبغي لنا ولا يجوز لنا { أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ } . وفي هذا بيان فضل عائشة رضي الله عنها حيث نزهها الله باللفظ الذي نزه به نفسه ، وهو لفظ سبحان الله؛ ويقال : سبحان الله أن تكون امرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية ، ما كانت امرأة نبي زانية قط . ثم وعظ الذين يخوضون في أمر عائشة ، فقال عز وجل : { يَعِظُكُمُ الله } ، يعني : ينهاكم الله عز وجل : { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } ، يعني : القذف { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، يعني : مصدقين بالله وبرسوله عليه السلام وباليوم الآخر .
{ وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الايات } ، يعني : الأمر والنهي { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؛ ونزل في عبد الله بن أبيّ وأصحابه . { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } ، يعني : يظهر الزنى ويفشو ويقال : تحبوا ما شاع لعائشة رضي الله عنها من الثناء السيىء { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ } ، يعني : عائشة وصفوان . { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا } الحد { والاخرة } النار إن لم يتوبوا . { والله } تعالى { يَعْلَمْ } أنهما لم يزنيا { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك منهما . ثم قال عز وجل : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ، وجوابه مضمر ، يعني : لولا منُّ الله عليكم ونعمته لعاقبكم فيما قلتم في أمر عائشة وصفوان . { وَأَنَّ الله * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ } ، حيث لم يعجل بالعقوبة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

قوله عز وجل : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } ، يعني : لا تتبعوا تزيين الشيطان ووساوسه بقذف المؤمنين والمؤمنات ، { وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان } . وفي الآية مضمر ، ومعناه ومن يتبع خطوات الشيطان ، وقع في الفحشاء والمنكر . { فَإِنَّهُ } ، يعني : به الشيطان { يَأْمُرُ بالفحشاء } يعني : المعاصي { والمنكر } ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . وروي عن أبي مجلز قال : { خطوات الشيطان } ، النذور في معصية الله تعالى فيه .
قال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم } ، يعني : ما ظهر وما صلح منكم { مّنْ أَحَدٍ أَبَداً } ، يعني : أحداً ومن صلة . { ولكن الله يُزَكّى } ، يعني : يوفق للتوحيد { مَن يَشَآء } ، ويقال : ما زكى ، أي ما وحد ولكن الله يزكي أي يطهر . { والله سَمِيعٌ } لِمَقالتهم ، { عَلِيمٌ } بهم . ثم قال عز وجل : { وَلاَ يَأْتَلِ } ، يعني : لا يحلف وهو يفتعل من الألية وهي اليمين . قرأ أبو جعفر المدني ، وزيد بن أسلم { وَلاَ } على معنى يتفعل ، ويقال : معناه ولا يدع أن ينفق ويتصدق ، وهو يتفعل من ألوت أني أصنع كذا؛ ويقال : ما ألوت جهدي ، أي ما تركت طاقتي؛ وذلك أن أبا بكر كان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ، فلما تكلم بما تكلم به ، حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق عليه ، فنزلت هذه الآية : { عَلِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ } .
{ أُوْلُو *** الفضل مِنكُمْ } في طاعة الله ، لأنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . { مِنكُمْ والسعة } يعني السعة في المال . وهذا من مناقب أبي بكر رضي الله عنه حيث سماه الله { أُوْلُو * الفضل } في الإسلام؛ ويقال : { وَلاَ يَأْتَلِ } يعني : ولا يحلف { أُوْلُو *** الفضل مِنكُمْ } ، يعني : أولو الغنى والسعة في المال ، والأول أشبه لكي لا يكون حمل الكلام على التكرار . { أَن يُؤْتُواْ } ، أولي القربى ، يعني : لا يحلف أن لا يعطي ولا ينفق على { أُوْلِى القربى } ، يعني : على ذوي القربى وهو مسطح { والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله } ، وكان مسطح من فقراء المهاجرين ومن أقرباء أبي بكر .
{ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } ، يقول : ليتركوا وليتجاوزوا . { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } ، فقال أبو بكر : أنا أحب أن يغفر الله لي ، فقد تجاوزت عن قرابتي ، ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أَلاَ تُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكَ » قال : نعم . فقرأ عليه هذه الآية ، وأمره بأن ينفق على مسطح . وفي الآية دليل على أن من حلف على أمر ، فرأى الحنث أفضل منه ، فله أن يحنث ويكفر عن يمينه ، ويكون له ثلاثة أجور : أحدها ائتماره بأمر الله تعالى ، والثاني أجر بره وذلك صلته في قرابته ، والثالث أجر التكفير . ثم قال تعالى : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، يعني : غفور لذنوبكم رحيم بالمؤمنين .

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

قوله عز وجل : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } ، يعني : العفائف { الغافلات } ، يعني : عن الزنى والفواحش . { المؤمنات } ، أي المصدقات بالألسن والقلوب ، { لُعِنُواْ فِى الدنيا والاخرة } ؛ وأصل اللعنة ، هي الطرد والبعد؛ ويقال للشيطان : اللعين ، لبعده عن الرحمة . وروي في الخبر أن يوم القيامة تكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأولين ، إلا الذين تجري على لسانهم اللعنة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يلعن بعيره ، فقال : « أَتَلْعَنُهَا وَتَرْكَبُهَا؟ » فنزل عنها ، ولم يركبها أحد .
قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ، أي شديد يوم القيامة . وذكر أن حسان بن ثابت ذهب بصره في آخر عمره ، فدخل يوماً على عائشة ، فجلس عندها ساعة ، ثم خرج ، فقيل لها : إن الله تعالى قال : { لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . فقالت عائشة : أوليس هذا أعظم؟ يعني : ذهاب بصره؛ ويقال : عذاب عظيم إن لم يتوبوا . { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، أي بِمَا تكلموا . ثم قال : { يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } ، يعني : يوفيهم جزاء أعمالهم . قرأ حمزة والكسائي { يَشْهَدُ } بالياء بلفظ المذكر ، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن الفعل مقدم ، فيجوز أن يذكر ويؤنث؛ وقرأ مجاهد { الحق } بضم القاف ، فيكون الحق نعت لله ، وتكون قراءة أبي بن كعب شاهدة له ، كأنه يقول : يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم؛ وقراءة العامة الحق بالنصب . وإنما يكون نصباً ، لنزع الخافض ، أي يوفيهم الله ثواب دينهم بالحق ، أي بالعدل . وجه أخر أن يكون الحق نعتاً للدين ، ويكون كقوله : { حَقّاً } ثم يدخل عليه الألف واللام .
قوله تعالى : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } ، أي عبادة الله هي الحق المبين؛ ويقال : ما يعلمون أن ما قال الله هو الحق . { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } ؛ قال الكلبي : الخبياث من الكلام للخبيثين من الرجال ، يعني : عبد الله بن أبي ، { والخبيثون } من الرجال { للخبيثات } من الكلام على معنى التكرار والتأكيد؛ ويقال : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، مثل عبد الله بن أبي تكون له زوجة خبيثة زانية ، وامرأة النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون زانية خبيثة . ويقال : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } ، يعني : لا يتكلم بكلام الخبيث إلا الخبيث ، ولا يليق إلا بالخبيث؛ ويقال : الكلمات الخبيثات إنما تلتصق بالخبيثين من الرجال .
ثم قال : { والطيبات لِلطَّيّبِينَ } ، يعني : الطيبات من الكلام للطيبين من الرجال ، ويقال الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، { والطيبون للطيبات } على معنى التكرار والتأكيد . ثم قال : { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ } ، يعني : عائشة رضي الله عنها وصفوان مما يقولون من الفرية ، { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ، يعني : رزقاً في الجنة كثيراً؛ ويقال : { كَرِيمٌ } يعني : حسن . وذكر ابن عباس أنه دخل على عائشة رضي الله عنها في مرضها الذي ماتت فيه ، فذكرت ما كان منها من الخروج في يوم الجمل وغيره ، فقال لها ابن عباس : أبشري ، فإن الله تعالى يقول : { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ، والله تعالى ينجز وعده . فسري بذلك عنها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

قوله عز وجل : { كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ، يعني : بيوتاً ليست لكم حتى تستأنسوا ، يعني : حتى تستأذنوا . وروي عن سعيد بن جبير : أن عبد الله بن عباس كان يقرأ : { حتى } ويقال : تستأذنوا خطأ من الكاتب . وروي عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أخطأ الكاتب في قوله : { بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } ، وقراءة العامة { تَسْتَأْنِسُواْ } . وقال القتبي : الاستئناس أن تعلم من في الدار ، يقال : استأنست فما رأيت أحداً ، أي استعلمت وتعرفت ، ومنه . قوله : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً } [ النساء : 6 ] ، أي علمتم . وروي ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ، فيأتي الأب فيدخل ، فكيف أصنع؟ قال : ارجعي . فنزلت هذه الآية : { كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ، { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } . قال مجاهد : وهو التنحنح . { وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } ، يعني : التسليم والاستئذان خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن وسلام ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أن التسليم والاستئذان خير لكم . قال عز وجل : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } ، يعني : في البيوت يأذن لكم في الدخول ، { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } في الدخول ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } ، ولا تقيموا على أبواب الناس ، فلعل لهم حوائج . { هُوَ أزكى لَكُمْ } ، يعني : الرجوع أصلح لكم من القيام والقعود على أبواب الناس . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، إذا دخلتم بإذن أو بغير إذن ثم رخص لهم في البيوت على طريق الناس مثل الرباطات والخانات ، وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، فكيف بالبيوت التي بين الشام ومكة والمدينة التي على ظهر الطريق ، ليس لها ساكن ، فنزل قوله عز وجل : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } ، مثل الخانات وبيوت السوق . { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } ، يعني : منافع لكم؛ ويقال : في الخربات التي يدخل فيها لقضاء الحوائج فيها منفعة لكم؛ ويقال : في الخانات منفعة لكم من الحر والبرد . { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } من التسليم والاستئذان .
قوله عز وجل : { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم } ، يعني : يكفوا أبصارهم ومن صلة في الكلام . { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } عما لا يحل لهم؛ وقال أبو العالية الرياحي : كلما ذكر حفظ الفرج في القرآن ، أراد به الحفظ عن الزنى؛ إلا هاهنا ، فإن المراد به هاهنا الستر عن النظر ، يعني : قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم عن عورات النساء ، ويحفظوا فروجهم عن أبصار الناس؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، لعلي رضي الله عنه :

« يا عَلِيُّ لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإنَّ الأُولَى لَكَ وَالأُخْرَى عَلَيْكَ » . وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال : إياكم والنظرة ، فإنها تزرع في القلب . قوله : { ذلك أزكى * لَكُمْ } وأطهر من الزينة ، يعني : غض البصر والحفظ خير لكم من ترك الحفظ والنظر . ثم قال : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، يعني : عالم بهم .

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

قوله عز وجل : { وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن } ، يعني : يحفظن أبصارهن عن الحرام ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } عن الفواحش ، { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } ؛ يعني : لا يظهرن مواضع زينتهن ، { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : وجهها وكفيها ، وهكذا قال إبراهيم النخعي . وروي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الوجه والكفان ، وهكذا قال الشعبي . وروى نافع ، عن ابن عمر أنه قال : الوجه والكفان ، وقال مجاهد : الكحل والخضاب . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس : الكحل والخاتم . وروي ، عن ابن عباس في رواية أُخرى ، إلا ما ظهر منها ، أي فوق الثياب . وروى أبو إسحاق ، عن ابن مسعود أنه قال : ثيابها ، وروي عن ابن مسعود رواية أُخرى أنه سئل عن قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } فتقنع عبد الله بن مسعود ، وغطى وجهه وأبدى عن إحدى عينيه .
ثم قال : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } ، يعني : على الصدر والنحر . قال ابن عباس : وكان النساء قبل هذه الآية يسدلن خمرهن من ورائهن ، كما تفعل النبط . فلما نزلت هذه الآية ، سدلن الخمر على الصدر والنحر . ثم قال : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } ، يعني : لا يظهرن مواضع زينتهن ، وهو الصدر والساق والساعد والرأس ، لأن الصدر موضع الوشاح ، والساعد موضع الخلخال ، والساق موضع السوار ، والرأس موضع الإكليل ، فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة . { إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } ، يعني : لأزواجهن ، { وَقُل للمؤمنات } ؛ يعني : يجوز للآباء النظر إلى مواضع زينتهن ، { وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ } . وقد ذكر في الآية بعض ذوي الرحم المحرم ، فيكون فيه دليل على ما كان بمعناه ، لأنه لم يذكر فيها الأعمام والأخوال ، ولكن الآية إذا نزلت في شيء ، فقد نزلت فيما هو في معناه ، والأعمام والأخوال بمعنى الإخوة وبني الإخوة ، لأنه ذو رحم محرم . وقد ذكر الأبناء في آية أُخرى ، وهي قوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ أخواتهن وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً } [ الأحزاب : 55 ] .
والنظر إلى النساء على أربع مراتب : في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها ، وهو النظر إلى زوجته وأمته ، وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين ، وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرماً لها ، ويأمن كل واحد منهما على نفسه ، فلا بأس بالنظر عند الحاجة؛ وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والرأس والساق والساعد ، وهو النظر إلى امرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم ، مثل الأخت والأم والعمة والخالة وأولاد الأخ والأخت وامرأة الأب وامرأة الابن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب ، وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء ، وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر .

ثم قال تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني : نساء أهل دينهن ويكره للمرأة أن تظهر مواضع زينتها عند امرأة كتابية لأنها تصف ذلك عند غيرها ويقال : نسائهن يعني : العفائف ولا ينبغي أن تنظر إليها المرأة الفاجرة ، لأنها تصف ذلك عند الرجال . ثم قال : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، يعني : الجواري ، فإنها نزلت في الإماء؛ وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، يعني : الجواري ، فإنها نزلت في الإماء لا ينبغي للمرأة أن ينظر العبد إلى شعرها ، ولا إلى شيء من محاسنها؛ وقال مجاهد : في بعض القراءات { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، الذين لم يبلغوا الحلم . وروى سفيان ، عن ليث قال : كان بعضهم يقرأ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } من الصغار وقال الشعبي : لا ينظر العبد إلى مولاته ، ولا إلى شعرة منها .
ثم قال تعالى : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة } ، يعني : الخادم أو الأجير للمرأة ، يعني : غير ذوي الحاجة مثل الشيخ الكبير ونحوه ، وقال مجاهد : هو الذي لا إرب له ، أي لا حاجة له بالنساء ، مثل فلان ، وكذا روى الشعبي عن علقمة ، وقال الحسن والزهري : غير أولي الإربة هو الأحمق؛ وقال الضحاك هو الأبله؛ ويقال : هو الذي طبعه طبع النساء ، فلا يكون له شهوة الرجال . وسئلت عائشة رضي الله عنها هل يرى الخصي حسن المرأة قالت : لا ، ولا كرامة ، أليس هو رجل؟ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { غَيْرِ أُوْلِى الإربة } بنصب الراء ، وقرأ الباقون بالكسر . فمن قرأ بالكسر ، يكون على النعت للتابعين ، فيكون معناها التابعين الذين هذه حالهم؛ ومن نصب ، أراد به الاستثناء ، والمعنى إلا أولي الإربة .
ثم قال : { مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء } ، يعني : لم يطلعوا ولم يشتهوا الجماع . ثم قال : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } ، يعني : لا يضربن بإحدى أرجلهن على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال ، { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } ؛ يعني : ما يواري الثياب من زينتهن . وروى سفيان ، عن السدي قال : كانت المرأة تمر على المجلس وفي رجلها الخلخال؛ فإذا جازت بالقوم ، ضربت رجلها ليصوت خلخالها ، فنزلت : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } وقال بعض المفسرين : قد علم الله تعالى أن من النساء من تكون حمقاء ، فتحرك رجلها ليعلم أن لها خلخالاً ، فنهي النساء أن يفعلن ، كما تفعل الحمقاء .
ثم قال : { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً } ، يعني : من جميع ما وقع التقصير من الأوامر والنواهي التي ذكر من أول السورة إلى هاهنا .

{ أَيُّهَ المؤمنون } ، يعني : أيها المصدقون بالله ورسوله ، وفي هذه الآية دليل أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان ، لأنه أمر بالتوبة . والتوبة لا تكون إلا من الذنب ، ولم يفصل بين الكبائر وغيرها ، فقال ، بعدما أمر بالتوبة { أَيُّهَ المؤمنون } ، سماهم مؤمنين بعد الذنب . ثم قال : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، أي تنجون من العذاب . قرأ ابن عامر { أَيُّهَ } بضم الهاء ، وكذلك في قوله : { وَقَالُواْ يأَيُّهَ الساحر } ، { أَيُّهَا الثقلان } ، وقرأ الباقون بالنصب .
قوله عز وجل : { وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ } ، والأيَامَى الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم ، يقال : رجل أيم وامرأة أيم ، كما يقال : رجل بكر وامرأة بكر ، ويقال : الأيم من النساء خاصة كل امرأة لا زوج لها ، فهي أيم؛ فأمر الأولياء بأن يزوجوا النساء ، وأمر الموالي بأن يزوجوا العبيد والإماء إذا احتاجوا إلى ذلك ، فقال للأولياء : { وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ } ، يعني : من قومكم ومن عشيرتكم . ثم قال المولى سبحانه : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ } ، يعني : من عبيدكم زوجوهم امرأة ، وهذا أمر استحباب وليس بحتم ، { وَإِمائِكُمْ } ؛ يعني : زوجوا إماءكم لكيلا يقعن في الزنى . { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، يعني : يرزقهم الله من فضله وسعته .
وقال بعضهم : هذا منصرف إلى الحرائر خاصة دون العبيد والإماء؛ وقال بعضهم : انصرف إلى جميع ما سبق ذكرهم من الأحرار والمماليك { يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } يعني : من رزقه ، والغنى على وجهين ، غني بالمال وهو أضعف الحالين ، وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين . كما روي في الخبر : الغنى غنى النفس . وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أنْكِحُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ » . وقال عمر رضي الله عنه : ابتغوا الغنى في النكاح . ثم قرأ { يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } . وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر ، فأمره أن يتزوج فتزوج الرجل ، ثم جاء فشكا إليه الفقر ، فأمره بأن يطلقها؛ فسأل عن ذلك ، فقال : قلت لعله من أهل هذه الآية { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } . فلما لم يكن من أهلها قلت لعله من أهل آية أخرى { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً } [ النساء : 130 ] .
ثم قال : { والله واسع عَلِيمٌ } ، أي واسع الفضل؛ ويقال : واسع أي موسع في الرزق ، يوسع على من يشاء عليم بقدر ما يحتاج إليه كل واحد منهم . ثم أخبر أنه لا رخصة لمن لم يجد النكاح في الزنى ، وأمر بالتعفف للذي لا امرأة له ، فقال عز وجل : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين } ، أي ليحفظ نفسه عن الحرام الَّذِينَ { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } ، يعني : سعة بالنكاح ، المهر والنفقة ويقال : يعني : امرأة موافقة ، { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ؛ يعني : من رزقه بالنكاح .

وقد قيل : إنَّ الصبر والطلب خير من الهرب .
{ والذين يَبْتَغُونَ الكتاب } ؛ قال ابن عباس : وذلك أن مملوكاً لحُويطب ، يقال له صبيح ، سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية { والذين يَبْتَغُونَ الكتاب } يعني : يطلبون الكتابة { مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ، يعني : حرفة . قال مجاهد وعطاء ، يعني : مالاً .
وروي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال أدَباً وصلاحاً ، وقال إبراهيم : يعني : وفاءً وصدقاً . وروى يحيى بن أبي كثير ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ، أي حِرْفَةً وَلا تُرْسِلُوهُمْ كَلاًّ عَلَى النَّاسِ } وقال ابن عباس : الخير المال ، كقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين } [ البقرة : 180 ] أي مالاً ، وقيل : { خَيْرًا } ، يعني : صلاحاً في دينه ، لكيلا يقع في الفساد بعد العتق ، وهذا أمر استحباب لا إيجاب؛ وقال بعضهم : هو واجب . وروى معمر ، عن قتادة قال : سأل سيرين أبو محمد بن سيرين ، أنس بن مالك بأن يكاتبهُ ، فأبى أنس بن مالك ، فرفع عليه عمر الدرة وتلا عليه هذه الآية : { فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى } ، يعني : أعطاكم ، يعني : يعطيه من الكتابة شيئاً ، ويقال : يعطى من بيت المال ، حتى يؤدي كتابه . وقال عمرو ، عن علي رضي الله عنه : يترك له ربع الكتابة ، وقال قتادة : يترك له العشر؛ وقال : آتوهم أي حث الموالي وغيرهم أن يعينوهم ، هذا أمر استحباب وليس بواجب ، وقال بعضهم : الحط واجب ، والأول أصح . { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء } ، يعني : لا تكرهوا إماءكم على الزنى . وقال عكرمة : كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ، يقال لها معاذة ، وكان يكلفها الخراج على الزنى ، فنزل : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } يعني : تعففاً { لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } ، يعني : لتطلبوا بكسبهن وولدهن المال . { وَمَن يُكْرِههُنَّ } ، يعني : يجبرهن على الزنى ، { فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } ؛ يعني : من بعد إجبارهن على الزنى ، { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بهن ، يعني : الإماء ، لأنهن كن مكرهات على فعل الزنى . قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات } يعني : واضحات { وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } ، يعني : فيه خير من قبلكم من الأمم الماضية { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } ، لكي يعتبروا بما أصابهم .

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

قوله عز وجل : { الله نُورُ * السموات والارض } ؛ قال ابن عباس رضي الله عنه : هادي أهل السموات وأهل الأرض ، ويقال : هادي أهل السموات والأرض من يشاء ، وبين ذلك في آخر الآية بقوله : { يَهْدِى لِنُورِهِ مَن يَشَاء } ويقال : معناه الله مُنَّورُ السموات والأرض ، وقال ابن عباس : بدليل قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } ، فأضاف النور إليه ، وبدليل ما قال في سياق الآية { أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يغشاه مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . وروي عن أبي العالية أنه قال : معناه الله منور قلوب أهل السموات وقلوب أهل الأرض بالمغفرة والتوحيد ، يعني : من كان أهلاً للإيمان؛ ويقال : الله منور السموات والأرض . أما السموات ، فنورها بالشمس والقمر والكواكب ، وأما الأرض ، فنورها بالأنبياء والعلماء والعباد عليهم السلام .
ثم قال تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ } ، يعني : مثل نور المعرفة في قلب المؤمن ، { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } ؛ يعني : كمثل كوة فيها سراج ، ويقال : المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وهي بلغة الحبشة . وروي في قراءة ابن مسعود { مَثَلُ نُورِهِ } في قلب المؤمن ، { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } . ثم وصف المصباح ، فقال : { المصباح فِى زُجَاجَةٍ } ، يعني : كمثل سراج في قنديل في كوة ، فكذلك الإيمان والمعرفة في قلب المؤمن؛ والقلب في الصدر ، والصدر في الجسد . فشبه القلب بالقنديل ، والماء الذي في القنديل شبه بالعلم ، والدهن بالرفق . وحسن المعاملة ، وشبه الفتيلة باللسان ، وشبه النار بالجوف في زجاجة . يعني : في قلب مضيء؛ ويقال : إنما شبَّه القلب بالزجاجة ، لأن ما في الزجاجة يرى من خارجها ، فكذلك ما في القلب يرى من ظاهره ، ويبيّن ذلك في أعضائه؛ ويقال : لأن الزجاجة تسرع الكسر بأدنى آفة تصيبها؛ فكذلك القلب بأدنى آفة تدخل فيه فإنه يفسد .
ثم وصف { الزجاجة } ، فقال : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } ، يعني : استنار القنديل بصفاء الزجاجة . من قرأ بضم الدال ، فهو منسوب إلى الدر ، يعني : يشبه في ضوئه الدر ، ومن قرأ بكسر الدال ، يعني : الذي يدرأ عن نفسه ، يعني : لا يكاد يقدر النظر إليه من شدة ضوئه . قرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية حفص { دُرّىٌّ } بضم الدال غير مهموز ، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وبهمز الياء ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالضم والهمز .
ثم قال تعالى : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة } ، يعني : السراج يوقد بدهن من شجرة مباركة { زَيْتُونَةٍ } ؛ قرأ أبو عمر وابن كثير { ***توقد } بنصب التاء والواو والقاف بلفظ التأنيث؛ وأصله تتوقد فحذف إحدى التاءين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بضم التاء والتخفيف بلفظ التأنيث ، على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقرأ الباقون { ***توقد } بلفظ التذكير والتفسير ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله .

فمن قرأ بالتأنيث ، انصرف إلى الزجاجة؛ ومن قرأ بالتذكير ، انصرف إلى المصباح والسراج .
ثم وصف الشجرة المباركة ، فقال : زَيْتُونَةٍ { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي لم تكن بحال تصيبها الشمس في أول النهار وآخره ، فكذلك هذا المؤمن تكون كلمة الإخلاص في قلبه ثابتة مثل ثبوت الشجرة ، فلا يكون مشبهياً ، ولا معطلياً ، ولا قدرياً ، ولا جبرياً؛ ولكنه على الاستقامة؛ ويقال : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، يعني : تكون في وسط الأشجار ، حتى لا تحرقها الشمس؛ فكذلك هذا المؤمن بين أصحاب صلحاء ، يثبتونه على الاستقامة . وروي ، عن الحسن أنه قال : ليس هذه من أشجار الدنيا ، لكن من أشجار الآخرة ، يعني : أن أشجار الدنيا لا تخلو من أن تكون شرقية أو غربية ، ولكن هذه من أشجار الآخرة ، فكذلك هذا المؤمن أصاب المعرفة بتوفيق الله عز وجل .
قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يعني : أن الزيت في الزجاجة . يكاد أن يضيء ، وإن لم يكن موقداً؛ فكذلك المؤمن يعرف الله تعالى ويخافه ويطيعه ، وإن لم يكن له أحد يذكره ويأمره وينهاه . ثم قال : { نُّورٌ على نُورٍ } ، يعني : الزجاجة نور ، والسراج نور ، والزيت نور ، فكذلك المؤمن اعتقاده نور ، وقوله نور ، وفعله نور . وقال أبو العالية : فهو يتقلب في خمسة أنوار ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومخرجه نور ، ومدخله نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة .
{ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء } ، يعني : يوفق ويعطي من يشاء ، يعني : الهدى وللآية وجه آخر { الله نُورُ * السموات والارض } يعني : الله مرسل الرسل لأهل السموات وأهل الأرض { مَثَلُ نُورِهِ } يعني : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم ، فسماه نوراً كقوله : « ياأهل الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ » [ المائدة : 15 ] . ثم قال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، يعني : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم في صلب أبيه ، كالقنديل يضيء البيت المظلم . فكما أن البيت يكون مضيئاً بالقنديل ، فإذا أخذ منه القنديل يبقى البيت مظلماً؛ فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان كالقنديل في صلب أبيه فلما خرج بقي صلب أبيه مظلماً . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة } ، يعني : نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، يعني : لم يكن إبراهيم عليه السلام يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً مسلماً؛ ويقال : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، يعني : يعطي الله النبوة لمن يشاء ، ولها وجه آخر { الله نُورُ * السموات والارض } ، يعني : منزل القرآن ، فنور بالقرآن السموات والأرض .

{ مَثَلُ نُورِهِ } يعني : مثل نور القرآن في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، يعني : قلب المؤمن بالقرآن ، { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة } يعني : ينزل القرآن من رب كريم ذي بركة { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي ليس القرآن بلغة السريانية ولا بلغة العبرانية ، ولكنه عربي مبين { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } ، يعني : القرآن يضيء وألفاظه مهذبة ، وإن لم تفهم معانيه { يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء } ، يعني : يوفق ويكرم بفهم القرآن من يشاء . { وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ } ؛ يعني : الله عز وجل يبيِّن الأشياء للناس لكي يفهموا ، ويقال : المثل كالمرآة يظهر عنده الحق { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } من ضرب الأمثال .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

ثم قال الله عز وجل : { فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } ، يعني : ما ذكر من القنديل المضيء ، يعني : هو في المساجد . ثم وصف المساجد؛ ويقال هذا ابتداء القصة ، وفيه معنى التقديم ، يعني : أذن الله أن ترفع البيوت وهي المساجد { أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } ، أي تبنى وتعظم ، { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } ؛ يعني : توحيده؛ ويقال : بالأذان والإقامة . { يُسَبّحُ لَهُ } فيها ، يعني : يصلي لله في المساجد { بالغدو والاصال } ، يعني : عند الغداة والعشي . قرأ ابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر { يُسَبّحُ } بنصب الباء على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
ثم قال عز وجل : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة } يعني : هم رجال ، وقرأ الباقون { يُسَبّحُ } بكسر الباء ، ويكون الفعل للرجال ، يعني : يسبح فيها { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ } ، يعني : لا يشغلهم البيع والشراء عن ذكر الله ، يعني : عن طاعة الله ، وعن مواقيت الصلاة . { وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة } ، يعني : عن إتمام الصلاة .
قال بعضهم : نزلت الآية في أصحاب الصفة وأمثالهم ، الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد؛ وقال بعضهم : هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارة عن الصلوات في مواقيتها ، وهذا أشبه ، لأنه قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } ، وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة ، وقال الحسن : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة } . أما أنهم كانوا يتجرون ، ولم تكن تشغلهم تجارة عن ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . وروي عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق سمعوا الأذان ، فتركوا بياعاتهم ، وقاموا إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء من الذين . { لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .
ثم قال : { يخافون يَوْماً } يعني : من اليوم الذي { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والابصار } يعني : يتردد فيه القلوب والأبصار في الصدر ، إن كان كافراً فإنه يبلغ الحناجر من الخوف ، وإن كان تقيّاً مؤمناً تقول الملائكة { هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } فبين ما في قلبه في البصر ، وإن كان حزناً فحزن ، وإن كان سروراً فسرور ، ويقال يتقلب يعني : يتحول حالاً بعد حال مرة ، يعرفون ومرة لا يعرفون ، ويقال ينقلب يعني : يتحول عما كانت عليه في الدنيا من الشك حين رأى بالمعاينة فيتحول قلبه وبصره من الشك إلى اليقين .
ثم قال عز وجل : { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يعني : يجزيهم الله بإحسانهم ، ويقال : يجزيهم أحسن وأفضل من أعمالهم وهو الجنة ، ويقال : ويجزيهم أكثر من أعمالهم بكل حسنة عشرةً وأضعافاً مضاعفة ويقال يجزيه ويغفر له بأحسن أعماله ويبقى سائر أعماله فضلاً .
ثم قال : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي يرزقهم من عطائه { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي يرزقه ولايحاسبه ، ويقال : يرزقه رزقاً لا يدرك حسابه ، ويقال : ليس أحد يحاسبه فيما يُعطي ، ويقال : بغير حساب ، أي من غير حساب ، أي من حيث لا يحتسب .
ثم ضرب مثلاً لعمل الكفار ، فقال عز وجل :

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

{ والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } يعني : مثل أعمالهم الخبيثة في الآخرة { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } يعني : كمثل سراب في مفازة ، ويقال : قاع وقيعة وقيعان ، يعني : أرضاً مستوية كما يقال : صبي وصبية وصبيان .
ثم قال : { يَحْسَبُهُ الظمان مَاء } يعني : العطشان إذا رأى السراب من بعيد يحسبه ماء { حتى إِذَا جَاءهُ } يعني : فإذا أتاه ليشرب منه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } ، يعني : لم يجده ماء ويقال لم يجده شيئاً مما طلبه وأراده ، فكذلك الكافر يظن أنه يثاب في صدقته وعتقه وسائر أعماله ، فإذا جاءه يوم القيامة وجده هباءً منثوراً ولا ثواب له .
قوله : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } أي يوم القيامة عند عمله وهذا كما قال { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } ، يعني : مصير الخلائق إليه { فوفاه حِسَابَهُ } ، يعني : يوفيه ثواب عمله { والله سَرِيعُ الحساب } ، فكأنه حاسب ، ويقال : سريع الحفظ ، ويقال : إذا حاسب فحسابه سريع ، فيحاسبهم جميعاً ، فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة ، فلا يشغله حساب أحدهم عن الآخر ، لأنه لا يحتاج إلى أخذ الحساب ، ولا يجري فيه الغلط ، ولا يلتبس عليه ، ويحفظ على كل صاحب حسابٍ حسابه ليذكره ، فهذا المثل لأعمال الكفار ، والتي في ظاهرها طاعة ، فأخبر أنه لا ثواب لهم بها .
ثم ضرب مثلاً آخر للكافر ، فقال عز وجل : { أَوْ كظلمات } قال بعضهم : الألف زيادة ، ومعناه وكظلمات ، يعني : مثلهم أيضاً كظلمات . ويقال : أو للتخيير ، يعني : إن شئت فاضرب لهم المثل بالسراب ، وإن شئت بالظلمات ، فقال : { أَوْ كظلمات } { فِى بَحْرٍ لُّجّىّ } يعني : مثل الكافر كمثل رجل يكون في بحر عميق في الليل ، كثير الماء { يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات } يعني : يكون في ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، فكذلك الكافر في ظلمة الكفر ، وظلمة الجهل ، وظلمة الجور والظلم . ويقال : { يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يعني : المعاصي ، ومن فوقه العداوة والحسد والبغضاء ، و { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني : الخذلان من الله تعالى .
ثم قال : { ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } كما قال للمؤمن : { نُّورٌ على نُورٍ } فيكون للكافر ظلمة على ظلمة ، قوله ظلمة ، وعمله ظلمة ، واعتقاده ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمة ، وهو النار . ويقال : شبه قلب الكافر بالبحر العميق ، وشبه أعضاءه بالأمواج الثلاث ، طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق .
ثم قال : { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } يعني : لم يكن أقرب إليه من نفسه ، فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة ، ومع ذلك لم ير نفسه/
فكذلك الكافر لم ينظر إلى القبر ولم يتفكر في أمر نفسه أيضاً ، كقوله عز وجل : { وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] .
ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } يعني : من لم يكرمه الله بالهدى فما له من مكرم بالمعرفة . قرأ ابن كثير { ظلمات } بكسر التاء والتنوين ، فكأنه يجعله بمنزلة قوله كظلمات . وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء . وقرىء في الشاذ : سحاب ظلمات ، على معنى الإضافة .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ } يعني : يصلي له ويذكر له . ويقال : يخضع له . { مَن فِى *** السموات والارض } أي من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الخلق . { والطير صافات } يعني : مفتوحة الأجنحة . وأصل الصّفّ هو البسط ، ولهذا يُسمى اللحم القديد صفيفاً لأنه يبسط { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } يعني : كل واحد من المسبحين يعلم كيف يصلي ، وكيف يسبح ، يعني : والله يعلم عمل كل عامل ، فيجازيهم بأعمالهم ، إلا أنه لا يعجل بعقوبة المذنبين والكافرين ، لأنه قادر عليهم .
قوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض } وهذا معنى قوله وَلِلَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قال مجاهد في قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه ، ثم قال : { وإلى الله المصير } يعني : إليه المرجع في الآخرة .
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً } يعني : يسوق سحاباً { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } يعني : يجمع بينه { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } يعني : قطعاً قطعاً ، ويقال : يجعل بعضها فوق بعض . { فَتَرَى الودق } يعني : المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } يعني : من وسط السحاب . قرأ ابن عباس : يخرج من خلله وقراءة العامة { مِنْ خِلاَلِهِ } ، وهي جمع خلل . { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } يعني : من جبال في السماء . قال مقاتل : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : جبال السماء أكثر من جبال الأرض ، فيها من برد أي في الجبال من برد ، ويقال : وهو الجبال من البرد ، أي : ينزل من السماء من جبال البرد . وروي عن ابن عباس أنه قال : البرد هو الثلج ، وما رأيته . ويقال : الجبال عبارة عن الكثرة ، يعني : ينزل الثلج مقدار الجبال ، كما يقال : عند فلان جبال من مال ، أي : مقدار جبال من كثرته . ويقال البرد هو الذي له صلابة كهيئة الجمد { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء } يعني : البرد ، يصيب الزرع والإنسان إذا كان في مفازة .
قوله : { وَيَصْرِفُهُ *** مَا يَشَاء } فلا يصيبه ، ويقال : يصيب به ، يعني : يعذب به من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه .
قوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } يعني : ضوء برقه . { يَذْهَبُ بالابصار } يعني : من شدة نوره . قرأ أبو جعفر المدني : يذهب ، بضمِّ الياء وكسر الهاء ، وقراءة العامة يذهب بنصب الياء والهاء .
ثم قال : { يُقَلّبُ الله اليل والنهار } يعني : يذهب الله بالليل ويجيء بالنهار ، ويقال ينقص من النهار ، ويزيد من الليل . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : في تقلبهما ، واختلاف ألوانهما { لَعِبْرَةً } يعني : لآية { لاِوْلِى الابصار } يعني : لذوي العقول والفهم في الدين . وسئل سعيد بن المسيب : أي العبادة أفضل؟ فقال : التفكير في خلقه والتَّفَقُّه في دينه . ويقال العِبَرُ بِالوِقَارِ ، وَالْمُعْتَبِرُ بِمِثْقَالٍ .
ثم قال :

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله عز وجل : { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } يعني : من ماء الذكور . قرأ حمزة والكسائي { خالق كُلّ دَابَّةٍ } على معنى الإضافة . وقرأ الباقون { خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ } على معنى فعل الماضي ، ويقال هذا معطوف على ما سبق . { يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء } فكأنَّه يقول : يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء كما أنه يخلق ما يشاء من الخلق ألواناً .
ثم وصف الخلق فقال تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ } مثل الحية ونحو ذلك فإن قيل لا يقال للدواب منهم ، وإن هذا اللفظ يستعمل للعقلاء ، قيل له : الدابة اسم عام وهو يقع على ذي روح ، فيقع ذلك على العقلاء وغيرهم ، فإذا كان هذا اللفظ يقع على العقلاء وغيرهم فذكر بلفظ العقلاء ، ولو قال : فمنه كان جائزاً ، وينصرف إلى قوله كل ، ولكنه لم يقرأ ، وإنما قال : يمشي على وَجْهِ المجاز ، وإن كان حقيقته المشي بالرِّجل ، لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع .
ثم قال : { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ } مثل الإنسان ونحوه { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ } أي على أربع قوائم مثل الدوابّ وأشباهها ، فإن قيل : إيش الحكمة في خلق كل شيء من الماء؟ قيل له : لأن الخلق من الماء أعجب ، لأنه ليس شيء من الأشياء أشدّ طوعاً من الماء ، لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده ، أو أراد أن يبني عليه ، أو يتخذ منه شيئاً لا يمكنه ، والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء ، قيل : فالله تعالى أخبر أنه يخلق الماء ألواناً من الخلق ، وهو قادر على كل شيء .
ثم قال : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء } يعني : كما يشاء ، وكيف يشاء { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء } من الخلق وخلقه { قَدِيرٌ } أي قادر .
قوله عز وجل : { لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات } قرأ أبو عمرو وعاصم ونافع وابن كثير وأبو بكر : { مبينات } بنصب الياء في جميع القرآن ، يعني : مفصلات . وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر { مبينات } بكسر الياء ، يعني : يبين للناس دينهم .
{ والله يَهْدِى مَن يَشَاء } أي يرشد من كان أهلاً لذلك { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : دين مستقيم وهو دين الإسلام .

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

قوله عز وجل : { وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول } قال مقاتل نزلت في شأن بشر المنافق وذلك أن رجلاً من اليهود كانت بينه وبين خصومة ، وأن اليهودي دعا بشراً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال بشر ، نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإنَّ محمداً يحيف علينا فنزل : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } وقال في رواية أخرى : كان عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى أرضاً من عليّ ، فَنَدَّمَهُ قومه ، وقالوا : عمدت إلى أرض سَبْخَةٍ لا ينالها الماء فاشتريتها : رُدَّها عليه ، فقال : قد ابتعتها منه ، فقالوا : ردها ، فلم يزالوا به حتى أتاه فقال : اقبض مني أرضك ، فإني قد اشتريتها ، ولم أرضها لأنه لا ينالها الماء ، فقال له عليّ رضي الله عنه : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها مني ، وأنت تعرفها ، وتعلم ما هي ، فلا أقبلها منك . قال : فدعا عليٌّ عثمان رضي الله عنهما أن يخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم عثمان : لا تخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن أنت خاصمته إليه قَضَى له عليك ، وهو ابن عمه ، وأكرم عليه منك ، ثم اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقضى لعليّ على عثمان ، فنزل في قوم عثمان { وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول } { وَأَطَعْنَا } يعني : صدقنا بالله وبالرسول ، وأطعنا . { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم { مِن بَعْدِ ذلك } الإقرار { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } يعني : بمصدقين .
قال بعضهم : هذا التفسير الذي ذكره الكلبي غير صحيح ، لأن قوم عثمان إن كانوا مؤمنين من الذين هاجروا معه إلى المدينة ، وقد ذكر أنهم ليسوا بمؤمنين . وقال بعضهم هو الصحيح لأن قوم عثمان بعضهم منافقون مبغضون لبني هاشم لعداوة كانت بينهم في الجاهلية ، وكان عثمان يميل إلى قرابته ، ولا يعرف نفاقهم . ويقال : { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } يعني : ليس عملهم عمل المؤمنين المخلصين .
ثم قال عز وجل : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } يعني : إلى حكم الله ورسوله ويقال : إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يعني : ليقضي بينهم بالقرآن { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } يعني : طائفة منهم معرضون عن طاعة الله ورسوله .
قوله عز وجل : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق } يعني : القضاء { يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } يعني : خاضعين ، مسرعين ، طائعين قال الزجاج : الإذعان الإسراع مع الطاعة .
ثم قال : { أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي : شك ونفاق { أَمِ ارتابوا } يعني : شكوا في القرآن { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } يعني : يجور الله عليهم ورسوله . قال بعضهم : اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإفهام ، فكأن الله تعالى يعلمنا بأن في قلوبهم مرضاً ، وأنهم شكوا .

ويقال في قلوبهم مرض ، يعني : بل في قلوبهم مرض أم { ارتابوا } بل شكوا ونافقوا .
ثم قال تعالى : { بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } يعني : هم الظالمون لا النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } يعني : المصدقين { إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } يعني : إلى كتاب الله ورسوله يعني : أمر رسوله { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يعني : ليقضي بينهم بالقرآن { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره ، فإن فعلوا ذلك { وأولئك هُمُ المفلحون } يعني : الناجون الفائزون .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

ثم قال عز وجل : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } يعني : يطع الله في الفرائض ، ويطع الرسول في السنن . { وَيَخْشَ الله } فيما مضى { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } أي الناجون . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } فيوحده ، ورسوله فيصدقه بالرسالة ، ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه ، ويتقه فيما بقي من عمره ، فأولئك هم الفائزون ، يعني : الناجون من العذاب آمنون عند سكرات الموت . قال : فلما نزلت هذه الآية أقبل ، عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إن شئت لأخرجن من أرضي ولأدفعنها إليه ، وحلف على ذلك ، فمدحه الله عز وجل بذلك فقال عز وجل : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } يعني : حلفوا بالله ، وإذا حلفوا بالله كان ذلك جهد اليمين . { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } من الأموال . قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } أي لا تحلفوا { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يعني : هذه منكم طاعة معروفة ، لا طاعة نفاق ، فكأن فيه مضمراً ، لأن بعض الناس منافقون ، فأخبر أن هذه طاعة ليس فيها نفاق .
ثم قال : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يعني : في السر والعلانية ثم قال عز وجل { قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } يعني : أطيعوا الله في الفرائض ، وأطيعوا الرسول في السنن .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : أعرضوا عن الطاعة لله والرسول { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ } يعني : ما أمر بتبليغ الرسالة وليس عليه من وزركم شيء ، { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } يعني : ما أمرتم ، والإثم عليكم ، وإذا تركتم الإجابة { وَإِن تُطِيعُوهُ } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم { تَهْتَدُواْ } من الضلالة .
ثم قال : { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } وفي الآية مضمر ، فكأنه يقول : وإن تعصوه { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } يعني : ليس عليه إلا التبليغ .
قوله عز وجل : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وذلك أن كفار مكة لما صَدُّوا المسلمين عن مكة عام الحديبية ، فقال المسلمون : لو فتح الله مكة ودخلناها آمنين ، فنزل قوله { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض } يعني : لينزلنهم في أرض مكة { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل وغيرهم ، { وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ } يعني : ليظهرن لهم { دِينَهُمُ } الإسلام { الذى ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } من الكفار { يَعْبُدُونَنِى } يعني : لكي يعبدوني { لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } ويقال : معناه يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ، أي : يظهر عبادة الله تعالى ، ويبطل الشرك .

وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة زماناً ، نحواً من عشر سنين ، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ، حتى إذا أمروا بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، أمرهم الله تعالى بالقتال ، فكانوا بها خائفين يُمسون في السلاح ، ويصبحون في السلاح ، فقال رجل من أصحابه يا رسول الله نحن أبداً خائفون ، هل يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَكُونُ إلاّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي المَلإ العَظِيمِ مُحْتَبِياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ » ونزلت هذه الآية { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات *** ضَلَلْنَا فِى الارض } الآية .
ويقال : نزلت في شأن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } يعني : يكونوا خلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد واحد .
ثم قال : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } يعني : بعد الأمن والتمكين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي العاصون . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { كَمَا استخلف } بضم التاء على فعل ما لم يُسَمَّ فاعله . وقرأ الباقون بنصب التاء لأنه سبق ذكر الله تعالى . وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر { وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ } بالتخفيف . وقرأ الباقون بتشديد الدال من بدَّل يبدِّل والأول من أبْدَلَ يُبْدِلُ .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

قوله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : أقروا بها وأتموها . { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : أقروا بها وأعطوها . { وَأَطِيعُواْ الرسول } فيما يأمركم به من التوحيد والطاعة { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فلا تعذبون .
قوله عز وجل : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الارض } يعني : فائتين ، ويقال سابقين أمر الله تعالى ، ويقال : معناه لا تظن أنهم يهربون منا وأنهم يفوتون من عذابنا . { وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ *** المصير } يعني : صاروا إليه وبئس المرجع . قرأ حمزة وابن عامر { لا * يَحْسَبَنَّ } بالياء ونصب السين ، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة وكسر السين .
قوله عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } قال ابن عباس : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهيرة ليدعوه فانطلق الغلام ليدعوه ، فوجده نائماً قد أغلق الباب ، فأخبر الغلام أنه في هذا البيت ، فقرع الباب على عمر فلم يستيقظ ، فدخل فاستيقظ عمر ، فجلس ، فانكشف منه شيء ، فرآه الغلام ، فعرف عمر أنه قد رآه ، فقال عمر : وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعة إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { المصير ياأيها الذين ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } يعني : العبيد والإماء والولاية { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } يعني : وليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم ، يعني : الاحتلام ، وهم الأحرار من الغلمان { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } لأنها ساعات غرة وغفلة ، ثم بين الساعات الثلاث ، فقال : { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } لأن ذلك وقت لبس الثياب { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة } أي وقت القيلولة { وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء } وذلك وقت النوم { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } يعني : ثلاث ساعات وقت غرة ، أي : عورة وغفلة ، وهن أوقات التجرد وظهور العورة .
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية واحدة { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } بنصب الثاء ، وقرأ الباقون بالضم ، فمن قرأ بالنصب فمعناه ليستأذنكم ثلاث عورات أي ثلاث ساعات ، ومن قرأ بالضم معناه هي ثلاث عورات ، فيكون خبراً عن الأوقات الثلاثة .
وروى عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن قوله : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } فقال ابن عباس : إنَّ الله تعالى سِتِّيرٌ يحب الستر ، وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ، ولا حجاب في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجلَ ولده أو خادمه أو يتيم في حجره وهو مع أهله ، فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا في ثلاث ساعات التي سمى الله تعالى ، ثم جاء الله باليسر ، وبسط الرزق عليهم ، فاتخذوا الستور ، واتخذوا الحجاب ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي قد أمروا به ، وقد قيل إن فيه دليلاً أن ذلك الحكم إذا ثبت فإذا زال المعنى زال الحكم .

وقال مجاهد : الاستئذان هو التنحنح .
ثم قال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ } أي ليس عليكم معشر المؤمنين ، ولا عليهم ، يعني : الخدم { جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } يعني : بعد الساعات الثلاث { طَوفُونَ عَلَيْكُمْ } يعني : يتقلبون فيكم ليلاً ونهاراً يدخلون عليكم بغير استئذان في الخدمة { بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } أي يدخل بعضكم على بعض بغير إذن { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } يعني : أمره ونهيه في الاستئذان { والله عَلِيمٌ } بصلاح الناس { حَكِيمٌ } حكم بالاستئذان .
قوله عز وجل : { وَإِذَا بَلَغَ الاطفال مِنكُمُ الحلم } يعني : الاحتلام { فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : الكبار من ولد الرجل وأقربائه معناه فليستأذنوا في كل وقت ، كما استأذن الذين من قبلكم ، يعني : من الرجال { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أي أمره ونهيه في كل وقت ، { والله عَلِيمٌ } بِصَلاَحِكُم { حَكِيمٌ } حكم بالاستئذان .

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

{ والقواعد مِنَ النساء } يعني : الآيسات من الحيض . والقاعدة : المرأة التي قعدت عن الزوج ، وعن الحيض والولد ، والجماعة قواعد { اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } يعني : لا يحتجن إلى الزوج ، ولا يرغب فيهن . { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أي جلبابهن ويخرجن بغير جلباب { غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ } والتبرج : إظهار الزينة ، يعني : لا يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن . { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } يعني : يتعففن ، فلا يضعن الجلباب . { خَيْرٌ لَّهُنَّ } من الوضع . { والله سَمِيعٌ } لمقالتهن يعني : أن العجوز إذا وضعت جلبابها ، وتبدي زينتها وتقول : من يرغب فيَّ { عَلِيمٌ } بنيتها وبفعلها . ويقال : سميع عليم بجميع ما سبق في هذه السورة . ويقال : سميع عليم انصرف إلى ما بعده فيما يتحرجون عن الأكل .
قوله عز وجل : { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } قال في رواية الكلبي : كانت الأنصار يتنزهون عن الأكل مع الأعمى والمريض والأعرج ، وقالوا : إن هؤلاء لا يقدرون أن يأكلوا مثل ما نأكل ، فنزل { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } يعني : ليس على من أكل مع الأعمى حَرَجٌ { وَلاَ عَلَى } من أكل مع { الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى } من أكل مع { المريض حَرَجٌ } إذا أنصف في مؤاكلته . وقال بعضهم : هذا التفسير خطأ ، وهو غير محتمل في اللغة ، لأنه أضاف الحرج إلى الأعمى لا إلى من أكل معه ، وقد قيل : إن هذا صحيح ، لأنه ذكر الأعمى ، وأراد به الأكل مع الأعمى ، كقوله { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 93 ] أي حب العجل ، قال : وكما قال : { واسئل القرية } وللآية وجه آخر ، وهو أن الأعمى كان يتحرج عن الأكل مع الناس مخافة أن يأكل أكثر منهم وهو لا يشعر ، والأعرج أيضاً يقول : إني أحتاج لزمانتي أن يوسع لي في المجلس ، فيكون عليهم مضرة ، والمريض يقول : الناس يتأذون مني لمرضي ، ويقذرونني ، فيفسد عليهم الطعام ، فنزل { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } يعني : لا بأس بأن يأكلوا مع الناس ، ولا مأثم عليهم . ولها وجه آخر وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان الناس يخرجون إلى الغزو ، ويدفعون مفاتيحهم إلى الزَّمْنى والمرضى ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا في منازلنا . وكانوا يتورعون منازلهم حتى نزلت هذه الآية ، وإلى هذا يذهب الزهري رضي الله عنه .
وذكر أيضاً أن مالك بن زيد ، وكان صديقه الحارث بن عمرو خرج غازياً ، وخلف مالكاً في أهله وماله وولده ، فلما رجع الحارث رأى مالكاً متغيراً لونه ، فقال : ما أصابك ، فقال : لم يكن عندي شيء آكله ، فجهدت من الشدة والجوع ، ولم يكن يحل لي أن آكل شيئاً من مالك ، فنزلت هذه الآية إلى قوله { أَوْ صَدِيقِكُمْ } وقوله : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو من بيوت عيالكم وأزواجكم .

ويقال : بيوتكم أي بيوت أولادكم . ويقال : من بيوتكم ، يعني : من بيوت بعضكم ، وذلك أنه لما نزل { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل } امتنع الناس من أن يأكل بعضهم من طعام بعض ، فنزل في ذلك : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } يعني : من بيوت بعضكم بعضاً . { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } يعني : لا بأس أن يأكل من بيت هؤلاء بغير إذنهم ، لأنه يجري بينهما من الانبساط ما يغني عن الإذن .
ثم قال : { أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ } أي : خزائنه يعني : عبيدكم وإماءكم ، إذا كان له عبد مأذون ، فلا بأس أن يأكل من ماله ، لأن ذلك من مال مواليه . ويقال : يعني : حافظ البيوت ، فلا بأس أن يأكل مقدار حاجته .
ثم قال : { ***وَصَدِيقِكُمْ } يعني : لا جناح على الصديق أن يأكل من بيت صديقه إذا كان بينهما انبساط . وروي عن قتادة أنه قال : لو دخلت على صديق ، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه كان حلالاً .
ثم قال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } يعني : جماعة أو متفرقين في بيت هؤلاء . ويقال : إنهم كانوا يمتنعون عن الأكل وحده ، وذكر في قوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } [ العاديات : 6 ] يعني : الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده ، فرخص في هذه الآية ، لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحداً يأكل معه . وروى معمر عن قتادة قال : نزلت الآية في حي من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده ، وكان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكل معه ، فنزل { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } .
ثم قال : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } قال مقاتل : يعني : دخلتم بيوتاً للمسلمين { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } يعني : بعضكم على بعض ، كما قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : بعضكم بعضاً . وروى عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } قال : هو المسجد { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } فقولوا السلام علينا من ربنا { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } يعني : السلام { مباركة } بالأَجْرِ { طَيّبَةً } بالمغفرة . وقال إبراهيم النخعي : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } إذا كان في البيت إنسان يقول : السلام عليكم ، وإذا لم يكن فيه أحد يقول : السلام علينا من ربنا ، وعلى عباد الله الصالحين ، وهكذا قال مجاهد ، وقال الحسن والكلبي : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } يعني : بعضكم على بعض .

وروى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلامِ » ويقال : معنى السلام : إذا قال السلام عليكم يعني : السلامة لكم مني ، فكأنه أمنه من شر نفسه . ويقال : يعني : حفظكم الله من الآفات . ويقال : السلام هو الله ، فكأنه الله حفيظ عليكم ، ومطلع على ضمائركم ، فإن كنتم في خير فزيدوا ، وإن كنتم في شر فانزجروا { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } وأصل التحية هو البقاء والحياة كقوله : حَيَّاكَ الله . وإنما صار نصباً على المصدر ، ثم قال : { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } يعني : أمره ونهيه في أمر الطعام والشراب { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تعقلوا وتفهموا .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قوله عز وجل : { إِنَّمَا المؤمنون } يعني : المصدقين { الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } يعني : مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا جمعهم على أمر لتدبير في أمر جهاد ، أو في أمر من أمور الله تعالى فيه طاعة لله ولرسوله { لَّمْ يَذْهَبُواْ } يعني : لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { حتى يَسْتَذِنُوهُ } .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعهم يوم الجمعة ، فيستشيرهم في أمر الغزو ، فكان يثقل على بعضهم المقام ، فيخرجون بغير إذنه . وقال بعضهم : نزلت في يوم الخندق ، وكان بعض الناس يرجعون إلى منازلهم بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم بأن لا يرجعوا إلا بإذنه عليه السلام ، وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو ، ولا ينبغي لأحد أن يرجع بغير إذنه .
وفي الآية بيان حفظ الأدب ، بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه ، وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو ، لا ينبغي لأحد أن يرجع إلا بإذنه ، ولا يخالف أمر السرية . وروي عن مكحول أنه سئل عن هذه الآية وعنده عطاء ، فقال : هذا في الجمعة ، وفي الزحف ، وفي كل أمر جامع .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } وليسوا بمنافقين ، وكان المؤمنون بعد نزول هذه الآية لم يكونوا يرجعون حتى يستأذنوا وأما المنافقون فيرجعون بغير إذن .
ثم قال : { فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } يعني : لبعض أمورهم وحوائجهم { فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } ولا تأذن لمن شئت لأن بعض المنافقين لم يكن لهم في الرجوع حاجة ، فإن أرادوا أن يرجعوا فلم يأذن لهم ، وأذن للمؤمنين .
وقال مقاتل : نزلت في شأن عثمان حين استأذن في غزوة تبوك بالرجوع إلى أهله ، فأذن له . { واستغفر لَهُمُ الله } أي فيما استأذنوك من الرجوع بغير حاجة لهم . { أَنَّ الله غَفُورٌ } رَحِيمٌ لمن تاب { رَّحِيمٌ } به .
ثم قال عز وجل : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ } يعني : لا تدعوا محمداً باسمه صلى الله عليه وسلم { كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً } ولكن وقِّروه وعظموه ، وقولوا : يا رسول الله ، ويا نبي الله ، ويا أبا القاسم .
وفي الآية بيان توقير معلم الخير ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم الخير ، فأمر الله عز وجل بتوقيره وتعظيمه ، وفيه معرفة حق الأستاذ ، وفيه معرفة أهل الفضل .
ثم ذكر المنافقين فقال عز وجل : { قَدْ يَعْلَمُ الله } يعني : يرى الله { الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ } يعني : يخرجون من المسجد { لِوَاذاً } يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يشقُّ عليهم المقام هناك يوم الجمعة وغيره ، فيتسللون من بين القوم ، ويلوذ الرجل بالرجل ، أو بالسارية لئِلاَّ يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج من المسجد .

يقال : لاذ يلوذ إذا عاذ وامتنع بشيء . ويقال : معنى ( لِوَاذاً ) هنا من الخلاف ، يعني : يخالفون خلافاً ، فخوفهم الله تعالى عقوبته فقال : { فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ } يعني : عن أمر الله تعالى . ويقال : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقال : عن : زيادة في الكلام للصلة . ومعناه : يخالفون أمره إلى غير ما أمرهم به { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } يعني : الكفر ، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب ، فمن تركه على وجه الجحود كفر . ويقال : فتنة ، يعني : بلية في الدنيا . ويقال : فساد في القلب . ويقال : { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : يصيبهم عذاب عظيم في الآخرة . ويقال : القتل بالسيف . ويقال : يجعل حلاوة الكفر في قلبه . وقوله : { أَوْ } على معنى الإبهام ، لا على وجه الشك والتخيير .
ثم قال عز وجل : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى *** السموات والارض } من الخلق عبيده وإماؤه في مملكته { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من خير أو شر ، فيجازيكم بذلك { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } في الآخرة { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من خير أو شر ، فيجازيهم بذلك . { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } من أعمالهم وأقوالهم ، وبما في أنفسهم . وروي عن الأعمش ، عن سفيان بن سلمة ، قال : شهدت ابن عباس ولي الموسم ، وقرأ سورة النور على المؤمنين ، وفسرها على المنبر ، فلو سمعتها الروم لأسلمت . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : تعلموا سورة براءة ، وَعَلِّموا نساءكم سورة النور ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

قول الله سبحانه وتعالى : { تبارك } قال ابن عباس رضي الله عنه يعني : تعالى وتعظم . قال ابن عباس : ويقال : تفاعل من البركة ، وهذه لفظة مخصوصة ، ولا يقال : يتبارك ، كما يقال يتعالى . ولا يقال : متبارك ، كما يقال متعالٍ . ويقال تبارك أي ذو بركة . والبركة هي كثرة الخير . ويقال : أصله من بروك الإبل . ويقال للواحد بارك ، وللجماعة برك . وكان الإنسان إذا كان له إبل كثيرة وقد برك هو على الباب يقولون : فلان ذو بركة ، ويقولون للذي كان له إبل تحمل إليه الأموال من بلاد بعيدة : فلان ذو بركة ، فصار ذلك أصلاً ، حتى أنه لو كان له مال سوى الإبل لا يقال فلان ذو بركة . قال الله تعالى : { تبارك } أي ذو البركة . ويقال : أصله من الدوام . ويقال : بارك في موضوع إذا دام فيه . ويقال : معناه البركة في اسمه وفي الذي ذكر عليه اسمه .
ثم قال : { الذى نَزَّلَ الفرقان } يعني : أنزل جبريل عليه السلام بالقرآن والفرقان هو المخرج من الشبهات { على عَبْدِهِ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً } يعني : ليكون الفرقان نذيراً للإنس والجن . ويقال : يعني : النبي صلى الله عليه وسلم ويقال يعني : الله تبارك وتعالى وأراد ها هنا جميع الخلق ، وقد يذكر العام ويراد به الخاص من الناس ، كقوله عزّ وجل : { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِىَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47و122 ] أي : على عالمي زمانهم ، ويذكر ويراد به جميع الخلائق ، كقوله : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ثم قال عز وجل : { الذى لَهُ مُلْكُ *** السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض . ويقال : له نفاذ الأمر في السموات والأرض . { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } ليورثه ملكه { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } فينازعه في عظمته . { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } كما ينبغي أن يخلقهم . { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } يعني : بين الصلاح في كل شيء ، وجعله مقدراً معلوماً . ويقال : كل شي خلقه من الخلق فقدره تقديراً ، أي : قدر لكل ذكر وأنثى .
قوله عز وجل : { واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } يعني : تركوا عبادة الله الذي خلق هذه الأشياء ، وعبدوا غيره . { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } يعني : عبدوا شيئاً لا يقدر أن يخلق ذباباً ، ولا غيره { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } يتخذونها بأيديهم { وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ضَرّاً } أي : لا تقدر الآلهة أن تمتنع ممن أراد بها سوءاً { وَلاَ نَفْعاً } أي لا تقدر أن تسوق إلى نفسها خيراً . ويقال : لا يملكون دفع مضرة ، ولا جر منفعة . { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً } يعني : لا يقدرون أن يميتوا أحداً { وَلاَ يَمْلِكُونَ } أي : ولا يحيون أحداً { وَلاَ نُشُوراً } يعني : بعث الأموات . ويقال : ولا يملكون موتاً ، يعني : الموت الذي كان قبل أن يخلقوا ، ولا حياة ، يعني : أن يزيدوا في الأجل ، ولا نشوراً بعد الموت . ويقال : { لاَّ يَمْلِكُونَ *** مَوْتاً وَلاَ حياة } يعني : أن يبقوا أحداً { وَلاَ نُشُوراً } يعني : أن يحيوه بعد الموت . وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء ، لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء ، فخاطبهم بلغتهم .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)

ثم قال عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } يعني : كفار مكة { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ } يعني : ما القرآن إلا كذب { افتراه } يعني : كذباً اختلقه من ذات نفسه { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ ءاخَرُونَ } يعني : جبراً ويساراً { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } وقال بعضهم : هذا قول الله تعالى ردّاً على الكفار بقولهم هذا { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } يعني : شركاً وكذباً { وَقَالُواْ أساطير الاولين اكتتبها } يعني : أباطيل اكتتبها ، أي كتبها من جبر ويسار يعني : أساطير الأولين . { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } يعني : تقرأ وتملى عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } يعني : غدوة وعشية .
قوله عز وجل : { قُلْ } يا محمد { أَنزَلَهُ } يعني : القرآن { الذى يَعْلَمُ السر فِى * السموات والارض } يعني : يعلم السِّرَّ والعلانية ، ومعناه : لو كان هذا القول من ذات نفسه لعلمه الله تعالى ، وإذا علمه عاقبه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 44 ، 45 ] ثم قال { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } فكأنه يقول : ارجعوا وتوبوا ، فإنه كان غفوراً لمن تاب ، رحيماً بالمؤمنين .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ *** مَّالِ *** هذا ***** الرسول يَأْكُلُ الطعام } مثل ما نأكل { وَيَمْشِى فِى الاسواق } يعني : يتردد في الطريق { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يعني : معيناً يخبره بما يراد به من الشر { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } يعني : يعطى له كنز { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } يعني : بستاناً { يَأْكُلُ مِنْهَا } أي وذلك أن كفار قريش اجتمعوا في بيت ، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم ، فقال له العاص بن وائل السهمي وقريش معه : قد تعلم يا محمد أن لا بلاد أضيق من بلادنا ساحة ، ولا أقل أنهاراً ولا زرعاً ، ولا أشدَّ عيشاً ، فادع ربك أن يسير عنا هذه الجبال ، حتى يفسح لنا في بلادنا ، ثم يفجر لنا فيها أنهاراً ، حتى نعرف فضلك عند ذلك . ونراك تمشي في الأسواق معنا تبتغي من سير العيش ، فاسأل ربك أن يجعل لك قصوراً أو جناناً ، وليبعث معك ملكاً يصدقك ، فنزل حكاية عن قولهم : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } قرأ حمزة والكسائي : نأكل بالنون ، وقرأ الباقون بالتاء .
{ وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ } يعني : ما تطيعون يا أصحاب محمد { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } يعني : مغلوب العقل . ويقال : مسحوراً أي مخلوقاً ، لأن الذي يكون مخلوقاً يكون حياته بالمعالجة بالأكل والشرب ، فيسمى مسحوراً . ويقال : مسحوراً أي سحر به .
قوله عز وجل : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال } يعني : انظر يا محمد كيف وصفوا لك الأشباه إلى ماذا شبهك قومك بساحر وكاهن وكذاب { فُضّلُواْ } عن الهدى ، ويقال ذهبت حيلتهم ، وأخطؤوا في المقالة . { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } يعني : لا يجدون حيلة ، ولا حجة على ما قالوا لك ، ولا مخرجاً لأنه تناقض كلامهم ، حيث قالوا مرة : مجنون ، ومرة : ساحر .

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

ثم قال عز وجل : { تبارك } وتعالى ، وقد ذكرناه { الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك } يعني : خيراً مما يقول الكفار في الآخرة { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } في الجنة ، ويقال في الدنيا إن شاء أعطاك . وروى سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : عن خيثمة قال : قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتحها ما لم نعط من قبلك أحداً ، ولا نعطي من بعدك أحداً ، ولا ينقص ذلك مما عند الله شيئاً وإن شئت جمعناها لك في الآخرة . قال صلى الله عليه وسلم : « بَلْ اجْمَعُوها لِي في الآخِرَة » فنزل { تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك } الآية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ( وَيَجْعَلُ ) بضم اللام على معنى خبر الابتداء والباقون بالجزم لأنه جواب الشرط ثم قال عز وجل { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } معناه ولكن كذبوا بالساعة يعني : بالقيامة { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } يعني : هيأنا لمن كذب بالقيامة وقوداً ، وهُوَ نار جهنم { إِذَا رَأَتْهُمْ } جهنم { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } يعني : من مسيرة خمسمائة عام . ويقال : من مسيرة خمسمائة سنة { سَمِعُواْ لَهَا } يعني : منها { تَغَيُّظاً } على الكفار { وَزَفِيراً } يعني : صوتاً كصوت الحمار . وقال قوم : معناه يسمعون منها تغيظ المعذبين وزفيرهم ، كما قال : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] وقال عامة المفسرين : التغيظ زفير يسمع من النار ، ألا ترى أنه قال : { سَمِعُواْ لَهَا } ، ولم يقل : سمعوا منها ، ولا فيها . وقال في آية أخرى : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [ الملك : 8 ] وروي في الخبر « أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا خرَّ على وجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم الخليل عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي » ثم قال عز وجل : { وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا } يعني : فيها { مَكَاناً ضَيّقاً } يعني : يضيق عليهم المكان كتضييق الزُّجِّ من الرُّمح { مُقْرِنِينَ } أي : مسلسلين في القيود ، موثقين في الحديد قرنوا مع الشياطين { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } فعند ذلك دعوا بالويل ، يعني : يقولون : واهلاكاه ، فتقول لهم الخزنة { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } يعني : ادعوا ويلاً كثيراً دائماً .
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد لكفار مكة { أذلك خَيْرٌ } يعني : هذا الذي وصف من العذاب خير { أَمْ جَنَّةُ الخلد } فإن قيل كيف يقال خير وليس في النار خير؟ قيل له : قد يقال على وجه المجاز ، وإن لم يكن فيه خير ، والعاقبة تقول العاقبة خير من البلاء ، وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم { التى وُعِدَ المتقون } يعني : الذين يتقون الشرك والكبائر .

{ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً } يعني : جزاء بأعمالهم الحسنة ومرجعاً إليها .
ثم قال عز وجل : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ } أي : يحبون { خالدين } أي : دائمين في الجنة { كَانَ على رَبّكَ وَعْداً } منه في الدنيا { مَسْؤُولاً } يسأله المتقون . ويقال { مَسْؤُولاً } يسأل لهم الملائكة عليهم السلام ، وهو قوله عز وجل : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ غافر : 8 ] ويقال : وعداً على لسان رسولهم ، وقد سألوا الله عز وجل ذلك ، وهو قوله : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } ويقال : وعداً لا خلف فيه لمن سأله .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } يعني : نجمعهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } يعني : ونحشر ما يعبدون { مِن دُونِ الله } يعني : الأصنام . ويقال المسيح وعزير . ويقال : الملائكة عليهم السلام { فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } يعني : أأنتم أمرتم { عِبَادِى هَؤُلاَء } أن يعبدوكم { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } يعني : أم هم أخطؤوا الطريق ، فتبرأت الملائكة والأصنام .
قوله تعالى : { قَالُواْ سبحانك } أي : تنزيهاً لك { مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا } أي : ما يجوز لنا { أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } وقرأ الحسن وأبو جعفر المدني أن { نَّتَّخِذَ } بضم النون ونصب الخاء ، ومعناه : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك إلها فيعبد . وقراءة العامة بنصب النون وكسر الخاء ، يعني : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فيعبدوننا . ويقال : معناه ما كان فينا روح نأمرهم بطاعتنا . ويقال : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فنعبدهم ، فكيف نأمر غيرنا بعبادتنا ، كقوله تعالى : { قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } بالياء . { فَيَقُولُ } بالياء وقرأ ابن عامر كليهما بالنون . وقرأ الباقون الأول بالنون والثاني بالياء .
ثم قال : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ } يعني : أن هذا كان بكرمك وفضلك ، حيث لما عصوك لم تمنع عنهم الدنيا حتى اغتروا بذلك ، وظنوا أنهم على الحق ، حيث لم يصبهم بلاء ولم تمنع منهم النعمة ، فذلك قوله تعالى : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ } يعني : تركتهم في الدنيا يتمتعون ، وأجلتهم وآباءهم في المتاع والسعة . { حتى نَسُواْ الذكر } يعني : تركوا التوحيد والإيمان بالقرآن . { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى فاسدين . وأصله الكساد يقال : بارت السوق إذا كسدت . وقال الكلبي : بوراً يعني : هالكين ، فاسدة قلوبهم ، غير متقين ، ولا محسنين . يقول الله تعالى لعبدة الأوثان { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } يعني : الأصنام ، ويقال الملائكة { فَمَا * يَسْتَطِيعُونَ ***** صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } يعني : لا يستطيع الكفار انصرافاً إلى غير حجتهم التي تكلموا بها . ويقال : لا يستطيعون صرفاً ، أي : انصرافاً عن حجتهم ولا نصراً ، يعني : ولا ينتصرون من آلهتهم حين كذبتهم . ويقال : لا يقدرون ، يعني : الأصنام ، ولا الملائكة صرف العذاب عنهم { وَلاَ نَصْراً } يعني : لا يمنعونهم منه . ويقال : الصرف الحيلة . ويقال : لا يقبل منهم فدية أن يصرفوا عن أنفسهم بالفدية .
قرأ عاصم في رواية حفص { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة ، يعني : يقال لهم : لا تستطيعون صرف ذلك . وقرأ الباقون بالياء ، ومعناه أن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : فما يستطيعون صرف ذلك عنهم .
ثم قال تعالى : { وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ } يعني : يشرك بالله في الدنيا . ويقال : يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } في الآخرة ، وهو عذاب النار .

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

قوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } جواباً لقولهم : { مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق } يعني : كانت الرسل من الآدميين ، ولم يكونوا من الملائكة عليهم السلام . ثم قال : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } يقول : ابتلينا بعضكم ببعض ، الفقير بالغني ، والضعيف بالقوي ، وذلك أن الشريف إذا رأى الوضيع قد أسلم ، أنف عن الإسلام . وقال : أأسلم ، فأكون مثل هذا ، فثبت على دينه حمية . يقول الله تعالى للشريف : { أَتَصْبِرُونَ } أن تكونوا شرعاً ، سواء في الدين { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي عالماً بمن يؤمن ، ومن لا يؤمن ، ويقال : { جَعَلْنَا *** بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } يعني بلية الغني للفقير ، والقوي للضعيف ، لأن ضعفاء المسلمين وفقراءهم ، إذا رأوا الكفار في السعة والغنى ، يتأذون منهم ، وكان في ذلك بلية لهم ، فقال تعالى : { أَتَصْبِرُونَ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر ، يعني : اصبروا كقوله : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] يعني : توبوا إلى الله . ويقال : أهل النعم بلية لأهل الشدة ، لأن أهل الشدة إذا رأوا أهل النعمة تنغص عيشهم ، فأمرهم الله تعالى بالصبر .
وذكر عن بعض المتقدمين أنه كان إذا رأى غنياً من الأغنياء . يقول : نصبر يا رب نصبر يا رب ، أراد جواباً لقوله تعالى : { أَتَصْبِرُونَ } { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } يعني : عالماً بمن يصلح له الغنى والفقر ويقال : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } يعني : عالماً بثواب الصابرين .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } يعني : لا يخافون البعث بعد الموت . ويقال : لا يرجون الجنة والمغفرة ، وهم كفار أهل مكة { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة } يعني : هلا أنزل علينا الملائكة ، فيخبروننا بأنك رسول الله إلينا { أَوْ نرى رَبَّنَا } فيخبرنا بأنك مرسل . قال الله تعالى : { لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ } يعني : تعظموا في أنفسهم ، وأعرضوا عن الإيمان . ويقال : لقد استكبروا في أنفسهم ، يعني : وضعوا لأنفسهم قدراً ومنزلة ، حيث أرادوا لأنفسهم الرسل من الملائكة عليهم السلام ورؤية الرب عز وجل : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } يعني : أبوا إباءً كثيراً .
ويقال اجترؤوا على الله اجتراء كثيراً .
وقال أهل اللغة : العاتي الذي لا ينفعه الوعظ والنصيحة ، ثم أخبر متى يرون الملائكة فقال عز وجل : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملئكة } يعني : يوم القيامة { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ } يعني : للمشركين ، وتكون البشارة للمؤمنين . ثم قال : { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } يعني : تقول لهم الملائكة : حراماً محرماً ، أي تكون لهم البشرى يومئذ بما يبشر به المتقون ، وإنما قيل للحرام حجر ، لأنه حجر عليه .
وقال مجاهد : تقول الملائكة حراماً محرماً أن يدخلوا الجنة . وقال الحسن وقتادة ، وهي كلمة كانت العرب تقولها . كان الرجل إذا نزلت به الشدة قال : حجراً محجوراً ، أي : حراماً محرماً . ويقال : إن قريشاً كانوا إذا استقبلهم أحد كانوا يقولون له : حاجورا حاجورا ، حتى يعرف أنهم من الحرم ، فلا يضرونهم ، وأخبر أنهم كانوا يقولون ذلك ، ولا ينفعهم .
ويقال : إن المشركين في الشهر الحرام إذا استقبلهم أحد يقولون : حجراً محجوراً ، ويريدون أن يذكروه أنه في الشهر الحرام ، وذلك القول لا ينفعهم يوم القيامة .
وقرأ الحسن حجراً بضم الحاء ، وقراءة العامة بكسر الحاء { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } قال الكلبي : يعني عمدنا إلى ما عملوا من عمل لغير الله تعالى . ويقال : قصدنا إلى ما عملوا من عمل ، ومعناه نظرنا في أعمالهم ، ولم نجد فيها خيراً ، فأبطلناها ، ولم نجعل لها ثواباً ، فذلك قوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } قال الضحاك : هو الغبار ما لا يستطاع جمعه ، ولا أخذه بيد .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الهباء المنثور الذي تراه في شعاع الشمس في الكوة ، وهذا قول عكرمة والكلبي . وقال قتادة : هو ما ذرت الريح من حطام الشجر . ويقال : الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب . ثم قال عز وجل : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } يعني : أفضل منزلاً { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } يعني : مرجعاً ومجلساً .
وروي عن الأعمش عن إبراهيم في قوله : خير مستقراً ، وأحسن مقيلاً يعني ، قال : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس إلى مقدار نصف النهار فيقيل هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار .

وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لا ينتصف النهار من ذلك اليوم ، حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، عنيا بذلك يوم القيامة ، ولأن مقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة ، وإنما أراد بتلك القيلولة القرار لا النوم ، لأنه لا يكون في الجنة نوم ، ولا في النار نوم قوله عز وجل : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء } .
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تشقَّق بتشديد الشين ، لأن أصله يتشقق ، فأدغم إحدى التاءين في الشين .
وقرأ الباقون بالتخفيف ، وهذا مثل الاختلاق في قوله تسألون فقال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام } يعني : الغمام والغمام هو شيء مثل السحاب الأبيض فوق سبع سموات . كما روي في الخبر أن دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام ، يعني : تشقق السماء ، وتظهر بالغمام { وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } .
قرأ ابن كثير وننزل الملائكة بنونين ونصب الهاء ، ومعناه : أن الله تعالى يقول : { نُنَزّلُ الملائكة } وقرأ الباقون ونزل على ما فعل ما لم يسم فاعله ، معناه : أن الله تعالى ينزل ملائكة السموات .
وروي في الخبر أنه تشقق سماء الدنيا فينزل ملائكة سماء الدنيا ، بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس . ويقول لهم : الخلائق أفيكم ربنا؟ يعني : هل جاء أمر ربنا بالحساب؟ فيقول : لا ، وسوف يأتي ، ثم تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي من في الأرض من الملائكة ، والإنس والجن ، ثم تنزل ملائكة كل سماء على هذا التضعيف حتى تنزل ملائكة سبع سموات ، فيظهر بالغمام ، وهو كالسحاب الأبيض فوق سبع سموات ، ثم ينزل بالأمر بالحساب ، فذلك قوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } ويقال : الغمام الذي قال في سورة البقرة : { فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة } ثم قال عز وجل : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } وفي الآية تقديم ، ومعناه : الملك يومئذ الحق للرحمن الحق صفة الملك ، والمعنى : الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن ، لأنه لا يدعي الملك يومئذ أحد . ويقال : الحق يومئذ الملك الخالص . ويقال : يعني : الملك الصدق .
ثم قال تعالى : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } يعني : شديداً . وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين يسيراً ، وهذا كما قال في آية أخرى : { عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 ] .

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } يعني : عقبة بن أبي معيط ، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ، وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أحب وأراد ، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفره ، وصنع طعاماً ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم الطعام إليه ، فأبى أن يأكل ، وقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك ، حتى تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وكان عندهم من العار أن يخرج أحدهم ، قبل أن يأكل من الطعام شيئاً ، فألح عليه أن يأكل ، فلم يأكل ، فشهد بذلك عقبة ، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه ، وكان أبيُّ بن خلف الجمحي غائباً ، وكان خليله ، فلما قدم أخبر ذلك ، فأتاه فقال : صبوت يا عقبة . فقال : لا والله ما صبوت ، ولكن دخل علي رجل ، فأبى أن يأكل من طعامي ، إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم ، فشهدت فطعم . فقال له : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً حتى تأتيه ، فتبزق في وجهه ، وتشتمه وتكذبه ، ففعل ذلك . فنزلت هذه الآية : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم } يعني : عقبة على يديه يعني : على أنامله .
وروي عن أنس بن مالك أنه قال : يعض عقبة بن أبي معيط على يديه يوم القيامة ، يأكل لحم يديه حتى يبلغ العضد من الندامة ، وهو { يَقُولُ ياليتنى * لَيْتَنِى **اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } يعني : اتخذت طريق الهدى ، وكنت معه على الإسلام قوله عز وجل : { سَبِيلاً ياويلتا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يعني : أبيَّ بن خلف .
وقال إنما قال فلاناً ، ولم يذكر اسمه لحقارته { لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر } أي عن الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَاءنِى } أي حين جاءني ويقال : إنه لم يذكر اسمه ، لأنه دخل في جميع الظالمين ، لأن مَنْ صَنَع مِثْلَ هَذَا الصَّنِيع يكون جزاؤه هذا ، وقتل عقبة يوم بدر صبراً ، وقتل أبيُّ بن خلف يوم أحد ويقال { لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } ، يعني : الشيطان بدليل قوله عز وجل : { وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً } يعني : يتبرأ منه يوم القيامة ، ونزل فيه : { الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ثم قال عز وجل : { وَقَالَ الرسول يارب * رَبّ إِنَّ قَوْمِى ****اتخذوا هذا القرءان مَهْجُوراً } يعني : متروكاً لا يؤمنون به ، ولا يعملون بما فيه . وقال القتبي : يعني : جعلوه كالهذيان . ويقال : فلان يهجر في منامه ، أي يهذي . وقال مجاهد : يهجرون منه بالقول ، يعني : يقولون فيه بالقبيح ، فبين الشكاية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرب عز وجل ، ثم إن الله عز وجل عزاه ، وأخبره أن الرسل من قبله كانوا يتأذون بقومهم ، فذلك قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين } يعني : من المشركين ، فيهجرون الكتاب .

ثم قال : { وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } يعني : هادياً إلى دينه من كان أهلاً لذلك . ويقال : وكفى بربك حافظاً على الدين ونصيراً ، أي مانعاً . ويقال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً ، يعني : فرعوناً كما جعلنا أبا جهل فرعونك ، ويقال : سلطنا على كل نبي متكبراً ليتكبر عليه ، ويكذبه ويؤذيه .
وروي في الخبر لو أن مؤمناً ارتقى على ذروة جبل ، فقيض الله تعالى إليه منافقاً يؤذيه ، فيؤجر عليه { وكفى بِرَبّكَ هَادِياً } يعني : اكتف بربك واصبر على أذاهم ، صار هادياً ونصيراً ، نصباً على الحال ، أي : وكفى بربك في حال الهداية ، والنصرة نصيراً ويقال : الباء زائدة للصلة . ومعناه : كفى بربك هادياً إلى دينه ونصيراً .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قوله { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ } يعني : هلا { نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة } كما أنزلت التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى عليهما السلام ويقول الله تعالى : { كذلك } يعني : هكذا أنزلناه متفرقاً { لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } يعني : ليحفظ ويقوى به قلبك ، ونفرحك دخل قلبه الغم نزلت عليه آية وآيتان ، فيفرح بها . ويقال : لنثبت به فؤادك يعني : ليكون قبوله على المسلمين أسهل ، لأنه لو أنزلت الأحكام والشرائع كلها جملة واحدة ، شق على المسلمين قبولها ، كما شق على بني إسرائيل . ويقال : أنزلناه هكذا لنرسخ القرآن في قلبك ، لكي تحفظ الآية والآيتين . ويقال : كذلك أنزلناه لتحكم عند كل حادثة ، وعند كل واقعة لتقوي به قلبك في ذلك { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } يعني : بيناه تبييناً .
ويقال : شيء رتل ورتيل إذا كان مبيناً . وقال مجاهد : ورتلناه ترتيلاً ، أي : بعضه على أثر بعض .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم أنزل بعد ذلك جبريل عليه السلام به في عشرين سنة ، وهو قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جئناك بالحق } يعني : لا يخاصمونك بمثل مثل قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] ثم قال : { إِلاَّ جئناك بالحق } يعني : أنزلنا عليك جبريل بالقرآن ، فتخاصمهم به { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } يعني : وأحسن بياناً لترد به خصومهم . ويقال : معناه ولا يأتونك بحجة ، إلا بينا لك في القرآن ما فيه نقص لحجتهم ، وأحسن تفسيراً ، أي جواباً لهم ويقال : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بما هو أحسن من مثلهم . ويقال : كل نبي ، إذا قال له قومه قولاً ، كان هو الذي يرد عليهم وأما النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قالوا له شيئاً ، فالله تعالى هو الذي يرد عليهم ، ثم أخبرهم بمستقرهم في الآخرة فقال عز وجل : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ } يعني : يسحبون على وجوههم { إلى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } يعني : منزلاً في النار وضيقاً في الدنيا { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } يعني : أخطأ طريقاً ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ما كان محمد وأصحابه أولى بهذا الأمر منا ، والله إنهم لشر خلق الله ، فأنزل الله عز وجل : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ } .
وروي في الخبر أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أصناف فصنف على النجائب ، وصنف على أرجلهم ، وصنف على وجوههم ، فقيل : يا رسول الله كيف يحشرون على وجوههم؟ فقال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم ، فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم ، فذلك قوله : { أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : أعطينا موسى التوراة { وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وَزِيراً } أي معيناً { فَقُلْنَا اذهبا إِلَى القوم } يعني : به موسى ، كقوله عز وجل في سورة طه : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بأاياتى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى } [ طه : 42 ] خاطب موسى خاصة إلى القوم { الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : فرعون وقومه كذبوا بآياتنا ، أي بتوحيدنا وديننا . وقال الكلبي : يعني كذبوا بآياتنا التسع . وقال بعضهم : هذا التفسير خطأ ، لأن الآيات التسع أعطاها الله تعالى موسى بعد ذهابه إليه ، وقد قيل : معناه اذهبا إلى القوم ، وهذا الخطاب لموسى عليه السلام . ثم قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : بالعلامات التي خلق الله تعالى في الدنيا . ويقال : بآياتنا ، يعني : بالرسل ، وبكتب الأنبياء عليهم السلام الذين قبل موسى ، ثم قال : { فدمرناهم تَدْمِيراً } يعني : كذبوهما فأهلكناهم إهلاكاً . ويقال : في الآية تقديم قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : كتاباً قبل التوراة .
قوله عز وجل { وَقَوْمَ نُوحٍ } يعني : واذكر قوم نوح عليه السلام { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } يعني : نوحاً وحده كما قال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] ولم يكن إلا واحد وقت هذا الخطاب ، فيجوز أن يذكر الجماعة ، ويراد به الواحد كما يذكر الواحد ، ويراد به الجماعة كقوله : { والعصر } [ العصر : 1 ] وإنما أراد به الناس ، ألا ترى أنه استثنى منه جماعة . ويقال : إن نوحاً كان يدعو قومه إلى الإيمان به ، وبالأنبياء الذين بعده ، فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل ، فلهذا قال : { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ } يعني : عبرة لمن بعدهم { وَأَعْتَدْنَا للظالمين عَذَاباً أَلِيماً } أي : وجيعاً ، ثم قال عز وجل : { وَعَاداً وَثَمُودَ *** وأصحاب الرس } يعني : واذكر عاداً وثمود وأصحاب الرس ، وهم قوم قد نزلوا عند بئر ، كانت تسمى : الرس ، فكذبوا رسلهم ، فأهلكهم الله تعالى ، ويقال : إنما سُمُّوا أصحاب الرس ، لأنهم قتلوا نبيهم ورسولهم في بئر لهم ، وقال مقاتل : يعني : البئر التي كان فيها أصحاب ياسين بأنطاكية التي بالشام { وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً } يعني : أهلكنا أمماً بين قوم نوح وعاد ، وبين عاد وثمود إلى أصحاب الرس كثيراً { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الامثال } يعني : بينا لهم العذاب أنه نازل بهم في الدنيا { وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } أي : دمرناهم بالعذاب تدميراً ، يقال : تبره إذا أهلكه .

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)

ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية } يعني : أهل مكة مروا على القرية { التى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء } يعني : قريات لوط أمطرنا عليهم الحجارة قوله : { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } يعني : أفلم يبصرونها ، فيعتبروا بها { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } يعني : بل كانوا لا يخافون البعث . ويقال : لا يرجون ثواب الآخرة ، وإنما جاز أن يعبر به عنهما ، لأن في الرجاء طرفاً من الخوف ، لأن كل من يرجو شيئاً ، فإنه يخاف ، وربما يدرك ، وربما لا يدرك ، قوله عز وجل : { وَإِذَا رَأَوْكَ } يعني : أهل مكة { إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } يعني : ما يقولون لك إلا سخرية فيما بينهم ويقولون : { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } يعني : إلينا ، وهو قول أبي جهل ، حين قال لأبي سفيان بن حرب : أهذا نبي بني عبد مناف { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } يعني : أراد أن يصرفنا { عَنْ ءالِهَتِنَا } يعني : عن عبادة آلهتنا { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } يعني : ثبتنا على عبادتها لأدخلنا في دينه حكى قولهم ثم بين مصيرهم فقال : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب } يعني : يوم القيامة { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } يعني : أخطأ طريقاً يعني : تبين لهم أن الذي قلت لهم كان حقاً ، قوله عز وجل : { أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } يعني : اتخذ هوى نفسه إلهاً ، يعني : يعمل بكل ما يدعوه إليه هواه . ويقال : إنهم كانوا يعبدون حجراً ، فإذا رأوا جحراً أحسن منه تركوا الأول ، وعبدوا الثاني { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } يعني : أتريد أن تكون بيدك المشيئة في الهدى والضلالة ، ويقال : معناه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، يعني : أتريد أن تكون رباً لهم ، فتجزيهم بأعمالهم ، يعني : لست كذلك ، فأنذرهم ، فإنما أنت منذر ثم قال عز وجل : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ } يعني : أتظن أنهم يريدون الهدى أو { يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } الهدى { إِنْ هُمْ } يعني : ما هم { إِلاَّ كالانعام } في الأكل والشرب ، ولا يتفكرون في أمر الآخرة ، { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } يعني : أخطأ طريقاً من البهائم ، لأن البهائم ليسوا بمأمورين ، ولا بمنهيين .
وقال مقاتل : البهائم تعرف ربها ، وتذكره وكفار مكة لا يعرفون ربهم ، فيوحدونه .
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } قال بعضهم : فيه تقديم ، ومعناه : ألم تر إلى الظل كيف مده ربك . وقال بعضهم : فيه مضمر . ومعناه : ألم تر إلى صنع ربك كيف مد الظل؟ يعني : بسط الظل بعد انفجار الصبح إلى طلوع الشمس { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } يعني : دائماً كما هو لا شمس معه ، كما يكون في الجنة ظل ممدود ، ويقال : تلك الساعة تشبه ساعات الجنة إلا أن الجنة أنور { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } حيث ما تكون الشمس يظهر الظل .

وقال القتبي : إنما يكون دليلاً ، لأنه لو لم تكن الشمس لم يعرف الظل ، لأن الأشياء تعرف بأضدادها { ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } يعني : الظل بعد غروب الشمس ، وذلك أن الشمس إذا غابت عاد الظل ، وذلك وقت قبضه ، لأن ظل الشمس بعد غروب الشمس لا يذهب كله جملة ، وإنما يقبض الله ذلك الظلّ قبضاً خفياً شيئاً فشيئاً ، دلَّ الله تعالى بهذا الوصف على قدرته ، ولطفه في معاقبته بين الظل والشمس لمنافع الناس ، ولمصالح عباده ، وبلاده . ويقال : ثم قبضناه ، أي : قبضناه سهلاً . ويقال : يسيراً عند طلوع الشمس ، ثم قبضناه يسيراً . يعني : هيناً سهلاً . ويقال : يسيراً يعني : خفياً ، فلا يدري أحد أين يصير ، وكيف يصير؟ ويقال : ثم قبضناه ، يعني . ورفعناه رفعاً خفيفاً .
ويقال قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي : على الأوقات في النهار ليعرف زوال الشمس وأوقات الصلاة .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } يعني : سكناً لتسكنوا فيه . ويقال : لباساً ستراً يستر جميع الأشياء { والنوم سُبَاتاً } يعني : راحة للخلق ليستريحوا فيه بالنوم { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } أي : للنشور ينتشرون فيه لابتغاء الرزق . ثم قال عز وجل : { وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح *** بَشَرًا } يعني : تنشر السحاب ، والاختلاف في القراءات كما ذكرنا في سورة الأعراف { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } يعني : قدام المطر { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً } يعني : مطهراً يطهر به الأشياء ، ولا يطهر بشيء { لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } يعني : أرضاً لا نبات فيها ، فينبت بالمطر { وَنُسْقِيَهِ } يعني : نسقي بالمطر { مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً } وهو جماعة الإنس يعني : نسقي به الناس والدواب لفظ البلدة مؤنث ، إلا أن معنى البلدة والبلد واحد ، فانصرف إلى المعنى ، ولو قال : ميتة ، لجاز إلا أنه لم يقرأ .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ } يعني : قسمناه بين الخلق . ويقال : نصرفه من بلد إلى بلد مرة بهذا البلد ، ومرة ببلد آخر .
كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله تعالى يصرفه في الأرض ثم قرأ هذه الآية .
كما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « مَا مِنْ سَنَةٍ بَأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى ، ولكن إذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالمَعَاصِي حَوَّلَ الله ذلك إلَى غَيْرِهِمْ فَإذَا عَصَوْا جَمِيعاً ، صَرَفَ الله ذلك إلَى الفَيَافِي وَالبِحَارِ » . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما من عام بأكثر من عام ، ولكنه يصرفه حيث يشاء ، فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ } { لّيَذْكُرُواْ } يعني : ليتعظوا في صنعه ، فيعتبروا في توحيد الله تعالى ، فيوحدوه .
وقرأ حمزة والكسائي { لّيَذْكُرُواْ } بالتخفيف ، وضم الكاف . وقرأ الباقون بالتشديد والنصب . ثم قال : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } يعني : كفراناً في النعمة ، وهو قولهم : مطرنا بنوء كذا ، ويقال : إلا جحوداً وثباتاً على الكفر قوله عز وجل : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } قال مقاتل : ولو شئنا لبعثنا في زمانك في كل قرية رسولاً ، ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولاً اختصصناك بها { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } وذلك حين دعوه إلى ملة آبائه { وجاهدهم بِهِ } أي بالقرآن { جِهَاداً كَبيراً } يعني : شديداً .

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين } يعني : أرسل . ويقال : حلى البحرين . ويقال : فلق البحرين . ويقال : خلق البحرين العذب والمالح { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } يعني : حلواً { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } يعني : مرّ مالح { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي حاجزاً { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي حرم على العذب أن يملح ، وحرم على المالح أن يعذب ، وحرم على كل واحد منهما أن يختلط بصاحبه ، وأن يغير كل واحد منهما طعم صاحبه . قوله عز وجل : { وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً } أي من النطفة إنساناً { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } فالنسب ما لا يحل لك نكاحُه من القرابة ، والصهر ما يحل لك نكاحه من القرابة ، وغير القرابة وهذا قول الكلبي .
وقال الضحاك : النسب القرابة ، والصهر الرضاع ، ويحرم من الصهر ما يحرم من النسب . ويقال : النسب الذي يحرم بالقرابة ، والصهر الذي يحرم بالنسب ، وهو ما ذكر في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] فهذه السبع تحرم بالقرابة والسبع التي تحرم بالنسب ، فهو ما ذكر بعده وهو قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] إِلى آخر الآية . وامرأة الأب ثم قال تعالى : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } فيما أحل النكاح ، وفيما حرم يقال : قديراً على ما أراد . قوله عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني : الأصنام { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوهم { وَلاَ يَضُرُّهُمْ } إن لم يعبدوهم { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً } أي : عوناً للشياطين على ربه . قال بعضهم : نزلت في شأن أبي جهل بن هشام . ويقال : في شأن جميع الكفار .
ثم قال : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } يعني : ما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة ، لمن أطاع الله ، ونذيراً بالنار لمن عصاه ، { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } يعني : قل لكفار مكة : ما أسألكم ، يعني : على القرآن والإيمان { مِنْ أَجْرٍ } يعني : من جُعل { إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } يعني : إلا من شاء أن يوحده ، ويتخذ إلى ربه بذلك التوحيد سبيلاً ، يعني : مرجعاً . ويقال : يعمل ، فيتخذ عند ربه مرجعاً صالحاً ، فيدخل به الجنة . يعني : لا أريد الأجر ، ولكن أريد لكم هذا الذي ذكر ، وقصدي هذا لا أَنْ آخُذ منكم شيئاً .

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

قوله عز وجل : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ } وذلك حين دعي إلى ملة آبائه ، فأمره الله تعالى بأن يتوكل على ربه قال الكريم : { وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ } قال مقاتل : واذكر بأمره وقال الكلبي : صلِّ بأمره { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } يعني : عالماً معناه ، وكفى بالله عالماً بذنوب عباده وبمجازاتهم ، فلا أحد أعلم بذنوب عباده ومجازاتهم منه .
ثم قال عز وجل : { الذى خَلَقَ * السموات والارض *** وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } وقد ذكرناه وتمّ الكلام ثم قال : { الرحمن } يعني : استوى الرحمن على العرش . قال : ويجوز أن يكون على معنى الابتداء ثم قال : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } يعني : فاسأل عنه عالماً . ويقال : معناه ما أخبرتك به من شيء ، فهو كما أخبرتك ، فاسأل بذلك عالماً حتى يبين لك ذلك كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } [ يونس : 94 ] الآية . خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأراد به أمته . قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن } يعني : صلوا للرحمن . ويقال : اخضعوا له ووحدوه { قَالُواْ وَمَا الرحمن } يعني : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب قالوا : { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } لذلك الكذاب . قرأ حمزة والكسائي بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون على المخاطبة { وَزَادَهُمْ نُفُوراً } يعني : زادهم ذكر الرحمن تباعداً عن الإيمان ، فمن قرأ بالياء ، فمعناه لما يأمرنا الرحمن بالسجود . ويقال : لما يأمرنا محمد ، يعني : لا نسجد لما يأمرنا كقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] يعني : من طاب لكم ، ومن قرأ بالتاء ، أراد به النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو عبيد : هذا هو الوجه ، لأن المشركين خاطبوه بذلك ، وكانوا غير مقرين بالرحمن .

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

قوله عز وجل : { تبارك } وقد ذكرناه { الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } يعني : خلق في السماء بروجاً ، يعني : نجوماً وكواكب . ويقال : قصوراً . وذكر أنه جعل في القصور حراساً ، كما قال في آية أخرى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } [ الجن : 8 ] الآية .
ويقال : البروج الكواكب العظام ، وكل ظاهر مرتفع ، فهو برج ، وإنما قيل لها بروج لظهورها وارتفاعها ، ثم قال تعالى : { وَجَعَلَ } يعني : خلق فيها { سِرَاجاً } يعني : شمساً { وَقَمَراً مُّنِيراً } يعني : منوراً مضيئاً . قرأ حمزة والكسائي { ***سُرُجاً } بلفظ الجمع ، يعني : الكواكب . وقرأ الباقون { الشمس سِرَاجاً } ، وبه قال أبو عبيدة : بهذا نقرأ . كقوله : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } ولأنه قد ذكر الكواكب بقوله : { بُرُوجاً } ثم قال عز وجل : { وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار } أي : خلق الليل والنهار { خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي خلفة يخلف كل واحد منهما صاحبه يذهب الليل ، ويجيء النهار ، ويذهب النهار ، ويجيء الليل ، ويقال : خلفة يعني : مخالفاً بعضه لبعض ، أحدهما أبيض ، والآخر أسود ، فهما مختلفان كقوله عز وجل : { إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } الآية .
وعن الحسن أنه قال : النهار خلف من الليل ، لمن أراد أن يعمل بالليل ، فيفوته ، فيقضي ، فإذا فاته بالنهار يقضي بالليل لمن أراد أن يذكر . قرأ حمزة { يُذْكَرِ } بتسكين الذال ، وضم الكاف . يعني : يذكر ما نسي ، إذا رأى اختلاف الليل والنهار . وقرأ الباقون بالتشديد { يُذْكَرِ } وأصله يتذكر يعني : يتعظ في اختلافهما ، ويستدل بهما { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } يعني : العمل الصالح ويترك ما هو عليه من المعصية . ويقال : { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } ، أو أراد توحيداً وإقراراً ، فيمكنه ذلك قوله عز وجل : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ } يعني : وإن من عباد الرحمن عباداً يمشون { على الارض هَوْناً } يعني : يمضون متواضعين ، وهذا جواب لقولهم { وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ } ؟ فقال : الرحمن الذي جعل في السماء بروجاً ، وهو الذي له عباد مثل هؤلاء . يعني : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان مثل حالهم ، وهذا كقوله : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] وكقوله : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى فَبَشِّرْ عِبَادِ } [ الزمر : 17 ] الآية .
وقال مجاهد : يمشون على الأرض هوناً في طاعة الله متواضعين . ويقال : هوناً ، أي : هيناً لا جور فيه على أحد ، ولا أذى . ويقال : هوناً يعني : سكينة ووقاراً . وحلماً . { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون } يعني : كلمهم الجاهلون بالجهل { قَالُواْ سَلاَماً } يعني : سداداً من القول . ويقال : ردوا إليهم بالجميل . وقال الحسن : أي حلماً لا يجهلون ، وإن جهل عليهم حلموا . وقال الكلبي : نسخت بآية القتال .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18