كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

وقال بعضهم : هذا خطأ ، لأن هذا ليس بأمر ، ولكنه خير من حالهم ، والنسخ يجري في الأمر والنهي ثم وصف حال لياليهم فقال عز وجل : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً } يعني : يقومون بالليل في الصلاة سجداً { وقياما } يعني : يكونون في ليلتهم مرة ساجدين ، ومرة قائمين .
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : من صلى ركعتين أو أربعاً بعد العشاء ، فقد بات لله ساجداً وقائماً ، ثم وصف خوفهم فقال : إنهم مع جهدهم خائفون من عذاب الله عز وجل ، ويتعوذون منه فقال عز وجل : { والذين يَقُولُونَ } يعني : عباد الرحمن { رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } يعني : لازماً لا يفارق صاحبه . وقال بعض أهل اللغة : الغرام في اللغة أشد العذاب . وقال محمد بن كعب القرظي : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } . قال : سألهم عن النعم ، فلم يأتوا بثمنها ، فأغرمهم ثمن النعم ، وأدخلهم النار ثم قال : { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } يعني : بئس المستقر ، وبئس الخلود ، والمقام الخلود كقوله : { الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 35 ] يعني : دار الخلود . ويقال : نصب المستقر للتمييز ، ومعناه لأنها ساءت في المستقر . ثم قال عز وجل : { والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } وقرأ نافع وابن عامر { يَقْتُرُواْ } بضم الياء وكسر التاء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { لَمْ * يَقْتُرُواْ } بنصب الياء وكسر التاء . وقرأ أهل الكوفة بنصب الياء ، وضم التاء ، ومعنى ذلك كله واحد . يعني : لم يسرفوا ، فينفقوا في معصية الله ، ولم يقتروا فيمسكوا عن الطاعة { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } يعني : بين ذلك عدلاً ووسطاً . وقال الحسن : ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ، ولا إقتار ، فهو في سبيل الله تعالى . وقال مجاهد لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهباً ، فأنفقه في طاعة الله ، لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً في معصية الله تعالى كان مسرفاً .

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)

ثم قال عز وجل : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } يعني : لا يشركون بالله . ويقال : الشرك ثلاثة : أولها أن يعبد غير الله تعالى ، والثاني أن يطيع مخلوقاً بما يأمره من المعصية ، والثالث أن يعمل لغير وجه الله تعالى ، فالأول كفر والآخران معصية ثم قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } أي إلا بإحدى خصال ثلاث وقد ذكرناه . { وَلاَ يَزْنُونَ } يعني : لا يستحلون الزنى ، ولا يقتلون النفس { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يعني : الشرك والقتل والزنى { يَلْقَ أَثَاماً } قال الكلبي يعني : عقاباً في النار ، وذكر عن سيبويه والخليل أنهما قالا : معناه جزاء الآثام . ويقال : الآثام العقوبة وقال الشاعر :
جَزَى الله ابْنَ عُرْوَةَ حِينَ أَمْسَى ... عَقُوقاً فَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أي عقوبة ثم قال عز وجل : { يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } يعني : في العذاب صاغراً يهان فيه . قرأ عاصم { يضاعف لَهُ } بالألف ، وضم الفاء . وقرأ ابن عامر وابن كثير { يضاعف } بغير ألف ، والتشديد ، وجزم الفاء . وقرأ الباقون { ***يضاعفون } بالألف ، وجزم الفاء . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر ، { القيامة وَيَخْلُدْ } بضم الدال .
وروى حفص عن عاصم وابن كثير ، { وَيَخْلُدْ } بالإشباع ، والباقون بجزم الدال . ثم قال عز وجل : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ } يعني : تاب من الشرك والزنى والقتل ، وصدَّق بتوحيد الله تعالى : { وَعَمِلَ صالحا فَأُوْلَئِكَ * يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } يعني : مكان الشرك الإيمان ، ومكان القتل الكف ، ومكان الزنى العفاف ، ومكان المعصية العصمة والطاعة . ويقال : إنه يبدل في الآخرة مكان عمل السيئات والحسنات .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : إن يوم القيامة إذا أعطي الإنسان كتابه لينظر في كتابه فيرى أوله معاصي ، وفي الآخر حسنات ، فلما رجع إلى أول الكتاب ، رآه كله حسنات .
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَصَاغِرُ ذُنُوبِهِ ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الكَبَائِرِ أَنْ تَجِيءَ ذُنُوبُهُ العِظَامُ ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ خَيْراً قِيلَ : أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً . فَيَقُولُ : يَا ربّ إِنَّ لِي ذُنُوباً مَا أرَاها هنا " . قال : ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ، ثم تلا : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } . وذكر عن أبي هريرة أنه قال : خرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألتني امرأة في الطريق فقالت زنيت ، ثم قتلت الولد ، فهل لي من توبة؟ فقلت : لا توبة لك أبداً . ثم قلت : أفتيتها ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، فرجعت إليه ، فأخبرته بذلك فقال : «هَلِكْتَ وَأهْلَكْتَ ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ هذه الآية . { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } إلى قوله : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } فخرجت وقلت : من يدلني على امرأة سألتني مسألة ، والصبيان يقولون : جن أبو هريرة حتى أدركتها ، وأخبرتها بذلك فسرت . وقالت : إن لي حديقة جعلتها لله ولرسوله . وقال بعضهم : هذه الآية مدنية نزلت في شأن وحشي وقال بعضهم الآية قد كانت نزلت بمكة فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى وحشي ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يعني : غفوراً لما فعلوا قبل التوبة لمن تاب رحيم بالمؤمنين بعد التوبة .

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

{ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صالحا } يعني : تاب من الشرك والمعاصي ، وعمل صالحاً بعد التوبة { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } يعني : مناصحاً لا يرجع . ويقال : متاباً له في الجنة . ويقال : { مَتاباً } . يعني : توبة . يعني : يتوب توبة مخلصة ثم قال : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } يعني : لا يحضرون مجالس الكذب والفحش والكفر { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } يعني : مجالس اللهو والباطل { مَرُّواْ كِراماً } يعني : حُلماء عُلماء معرضين عنها . وقال القتبي : مروا كراماً لم يخوضوا فيه ، وأكرموا أنفسهم .
ثم قال عز وجل : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ } يعني : وعظوا بالقرآن { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا } يعني : لم يقعوا عليها { صُمّاً وَعُمْيَاناً } يعني : لا يسمعون ولا يبصرون ، ولكنهم سمعوا وانتفعوا به . وهذا قول مقاتل . وقال القتبي : لم يخروا عليها ، أي لم يتغافلوا عنها ، فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها .
ثم قال عز وجل : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني : اجعل أزواجنا وذريتنا من الصالحين ، تقر أعيننا بذلك . ويقال : وفقهم للطاعة ، واعصمهم من المعصية ، ليكونوا معنا في الجنة ، فتقر بهم أعيننا . قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ، { وذرياتنا } بلفظ الوحدان . وقرأ الباقون { وذرياتنا } بلفظ الجماعة ، ثم قال : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } يعني : اجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون ، كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكواة وَكَانُواْ لَنَا عابدين } [ الأنبياء : 73 ] أي : قادة في الخير .
وروي عن عروة ، أنه كان يدعو بأن يجعله الله ممن يحمل عنه العلم ، فاستجيب دعاؤه . وروي عن مجاهد معناه : واجعلنا ممن نقتدي بمن قبلنا ، حتى يقتدي بنا من بعدنا . ويقال : معناه اجعلنا ممن يقتدي بالمتقين ، ويقتدي بنا المتقون ، فهذا كله من خصال عباد الرحمن ، من قوله : { وَعِبَادُ الرحمن } إلى هاهنا . فوصف أعمالهم ، ثم بيّن ثوابهم فقال عز وجل : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة } يعني : غرف الجنة كقوله : { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } [ الزمر : 20 ] { بِمَا صَبَرُواْ } يعني : صبروا على أمر الله تعالى في الدنيا ، وعلى طاعته { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } يعني : في الجنة { تَحِيَّةً } يعني : التسليم { وسلاما } يعني : سلام الله تعالى لهم . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر . وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } بنصب الياء ، وجزم اللام ، والتخفيف . وقرأ الباقون { وَيُلَقَّوْنَ } بضم الياء ونصب اللام ، وتشديد القاف ، فمن قرأ بالتخفيف ، يعني : يلقي بعضهم بعضاً بالسلام ، ومن قرأ بالتشديد يعني : يجيء إليهم سلام الله ، يعني : يلقى إليهم السلام من الله تعالى .

ثم قال عز وجل : { خالدين فِيهَا } يعني : دائمين في الجنة { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } يعني : موضع القرار ، وموضع الخلود قوله عز وجل : { قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } يقول : ما يفعل بكم ربي لولا عبادتكم . ويقال : ما يفعل بعذابكم لولا عبادتكم غير الله تعالى . ويقال : ما ينتظر بهلاككم ، لولا عبادة من يعبدوني ، لأنزلت عليكم عذابي . ويقال : لولا دعاؤكم يعني : يقول لولا إيمانكم ثم قال عز وجل سبحانه : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } يعني : عذاباً يلزمهم ، فقتلوا ببدر ، وعجلت أرواحهم إلى النار ، فتلك عقوبتهم فيها . ويقال : { لِزَاماً } يعني : موتاً . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه خمس قد مضين من ذلك اللزام ، واللزم والقمر والدخان والبطشة . ويقال : ما يحتاج بعذابكم لولا عبادتكم الأصنام . ويقال : ما يفعل الله بعذابكم لولا عبادتكم غير الله . ويقال : ما ينتظر بهلاككم لولا عبادة من يعبدني ، لأنزلت عذابي إلى غير ذلك ، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)

قول الله سبحانه وتعالى : { طسم } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ، بإمالة الطاء . وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتفخيم ، وهما لغتان معروفتان عند العرب ، ويجوز كلاهما ، وقرأ نافع بين ذلك ، وقرأ حمزة بإظهار النون ، والباقون بالإدغام لتقارب مخرجهما ، ومن لم يدغم أراد التبيين ، وكلاهما جائز . وأما التفسير ، فروى معمر عن قتادة أنه قال : اسم من أسماء القرآن . ويقال : والطاء طوْله ، والسين سَنَاؤُهُ ، والميم ملكه ، ومجده ، ويقال : الطاء شجرة طوبى ، والسين سدرة المنتهى ، والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : عجزت العلماء عن تفسيرها . وقال بعضهم : هو قسم قسم الله تعالى به { تِلْكَ ءايات الكتاب } يعني : هذه آيات الكتاب . ويقال : تلك آيات الكتاب التي كنت وعدت في التوراة أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم { المبين } يعني : القرآن بيّن لكم الحق من الباطل { لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } يعني : مهلك نفسك . ويقال : قاتل نفسك بالحزن { أَن لا *** يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } يعني : إذا لم يصدقوا بالقرآن ، وذلك حين كذبه أهل مكة شقّ ذلك عليه ، وحزن بذلك فقال له : ليس عليك سوى التبليغ ، ولا تقتل نفسك إن لم يؤمنوا .
ثم قال عز وجل : { إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً } يعني : علامة { فَظَلَّتْ } يعني : فصارت { أعناقهم لَهَا خاضعين } يعني : وننزل عليهم آية تضطرهم إلى أن يؤمنوا ، ولكنه لم يفعل ، لأنه لو فعل ذلك لذهبت المحنة ، فلم يستوجبوا الثواب إذا آمنوا بعد معاينة العذاب ، كمن آمن يوم القيامة لا ينفعه إيمانه ، لأنه قد ظهر له بالمعاينة . ويقال : فظلت أعناقهم يعني : ساداتهم وكبراؤهم ، والأعناق الكبراء ، فإن قيل : جمع الأعناق مؤنث . قال : خاضعين ، ولم يقل : خاضعات . قيل له : لأن الكلام انصرف إلى المعنى ، فكأنه قال هم لها خاضعون قوله : { وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ *** رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } وقد ذكرناه { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } يعني : مكذبين معرضين عن الإيمان به { فَقَدْ كَذَّبُواْ } يعني : كذبوا بالقرآن ، كما قال في آية أُخرى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 5 ] يعني : { فَقَدْ كَذَّبُواْ } يعني : أخبار { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يعني : يوم القيامة . ويقال : قد جاءهم بعض ذلك في الدنيا ، وهو القتل والقهر والغلبة .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

قوله عز وجل : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الارض } يعني : أو لم ينظروا في عجائب الأرض ، ويتفكروا فيها { كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ كَرِيمٌ } يعني : من كل نوع من النبات . ويقال : من كل لون حسن . وقال القتبي : الكريم يقع على الأنواع ، والكريم الشريف الفاضل . قال الله تعالى : { ياأيها الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وحملناهم فِى البر والبحر ورزقناهم مِّنَ الطيبات وفضلناهم على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] { قَالَتْ ياأيها الملأ إنى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] أي شريف فاضل ، والكريم الصفوح ، وذلك من الشرف كما قال : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّى ليبلونى أَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] أي الصفوح ، والكريم الكثير كما قال : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ درجات عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] أي : كثير ، والكريم الحسن كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الارض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] أي : حسن { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } [ الإسراء : 23 ] أي : حسناً .
وروي عن الشعبي أنه قال : كم أنبتنا فيها . يعني : بني آدم ، فمن دخل الجنة ، فهو كريم ، ومن دخل النار ، فهو لئيم . ثم قال عز وجل : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : في اختلاف النبات وألوانه { لآيَةً } يعني لعبرة لأهل مكة أنه إله واحد ثم قال : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين بالتوحيد ولو كان أكثرهم مؤمنين يعني : وما كانوا مؤمنين بل كلهم كافرين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } يعني : المنيع بالنقمة لمن لم يجب الرسل { الرحيم } حيث لم يعجل بعقوبتهم . ويقال : رحيم بالمؤمنين . قوله عز وجل : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } يعني : اتل عليهم إذ نادى ربك موسى كما قال : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } وقال مقاتل : إذ نادى ربك موسى ، يعني : أمر ربك يا محمد لموسى { أَنِ ائت القوم الظالمين } يعني : اذهب إلى القوم المشركين { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } قال مقاتل : يعني قل لهم ألا تتقون عبادة غيره وتوحدونه .

ويقال { أَلا يَتَّقُونَ } يعني : ألا تعبدون الله تعالى { قَالَ } موسى { رَبّ } أي : قال يا رب { إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } بما أقول { وَيَضِيقُ صَدْرِى } إذا كذبوني في رسالتك { وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى } لمهابته . قرأ يعقوب الحضرمي ، { وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ } كلاهما بنصب القاف ، وجعله نصباً بأن . ومعناه : أخاف أن يكذبون ، وأن يضيق صدري ، وأن لا ينطلق لساني . وقراءة العامة بالضم على معنى الاستئناف .
ثم قال : { فَأَرْسِلْ إلى هارون } يعني : أرسله معي لكي يكون عوناً لي في أداء الرسالة . ثم قال : { وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ } يعني : قصاص بقتل القبطي { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } به قال القتبي : على معنى عندي ، أي لهم عندي ذنب { قَالَ } الله تعالى { كَلاَّ } أي لا تخف . وقال الزجاج : كلا رَدْعٌ وتنبيه ، أي : لا يقدرون على ذلك { فاذهبا بئاياتنا } خاطب به موسى خاصة بأن يذهب مع أخيه إلى فرعون بآياتنا التسع { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } يعني : سامعين ، وقد بيّن ذلك في موضع آخر وهو قوله : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] والاستماع سبب للسمع فيعبر به عنه .

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

قوله عز وجل : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } يعني : موسى وحده ، ويضاف الشيء إلى اثنين ، ويراد به الواحد . وقال القتبي : الرسول يكون بمعنى الجمع ، كما يكون الضيف بمعنى الجمع . { قَالَ إِنَّ هؤلاءآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ } [ الحجر : 68 ] . وقال أبو عبيدة : رسول بمعنى رسالة . ويقال رسول : يعني : به رسولين كقوله : { فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بنى إسراءيل وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جئناك بِأايَةٍ مِّن رَّبِّكَ والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] فقال : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل } يعني : قل لفرعون ذلك ، ولم يذكر إتيانه إلى فرعون ، لأن في الكلام دليلاً عليه . وقد بيّن في موضع آخر حيث قال : { فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بأاياتنا بينات قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا فى ءَابَآئِنَا الاولين } [ القصص : 36 ] وقال مقاتل : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } وانقطع الكلام ، ثم انطلق موسى ، وكان هارون بمصر ، فانطلقا إلى فرعون قال مقاتل : فلم يأذن لهما سنة ثم أخبر البواب فرعون أن هاهنا إنساناً يذكر أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه . وقال السدي : لما أتى باب فرعون ضرب موسى عليه السلام عصاه على الباب ، ففزع فرعون من ذلك ، فأذن له في الدخول من ساعته ، فلما دخل عليه عرفه ، فأدى الرسالة فقال له فرعون : { قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : أول ما بدأ فرعون بكلام السفلة ، ومنَّ على نبي الله صلى الله عليه وسلم أنما أطعمه . فقال : { أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً } . يعني : ألم تكن صغيراً قد ربيناك { وَلَبِثْتَ فِينَا } يعني : مكثت عندنا { مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } يعني : ثلاثين سنة { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ } يعني : قتلت النفس التي قتلتها .
وقرأ في الشاذ : { فَعْلَتَكَ } بكسر الكاف هي قراءة الشعبي ، وقراءة العامة بالنصب ، والنصب يقع على فعل واحد ، والكسر على المرات . يعني : قتلت مرة ، وهممت بالقتل ثانياً ثم قال : { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } بنعمتي . ويقال : كفرت بي ، حيث قتلت النفس . ويقال : وأنت من الجاحدين للقتل . يعني : لم تقر بالقتل ، فأخبره موسى أنه غير جاحد للقتل { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً } يعني : قتلت النفس { وَأَنَاْ مِنَ الضالين } عن النبوة كقوله { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] ويقال : من الجاهلين ولم أتعمد القتل . قال القتبي : أصل الضلالة العدُول عن الحق ، ثم يكون لمعاني منها النسيان ، لأن الناسي عادل عنه ، فكما قال هاهنا { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي : من الناسين وكما قال : { ياأيها الذين ءامنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

[ البقرة : 282 ] ثم قال عز وجل : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ } يعني : هربت منكم إلى مدين { لَمَّا خِفْتُكُمْ } على نفسي أن تقتلوني { فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً } قال الكلبي : يعني النبوة . وقال مقاتل : يعني العلم والفهم ، { وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين } إليكم .
ثم قال عز وجل : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسراءيل } يعني : أو كان هذا نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ، فكأنه أنكر عليه . فقال : كيف تكون نعمتك التي تمن علي؟ فإنك قد عبدت بني إسرائيل ، أي استعبدتهم ، وتمن علي . ويقال : قد اعترف له بالنعمة . فقال : وتلك نعمة تمن علي حيث عبدت بني إسرائيل ، ولم تعبدني . ويقال : معناه تلك نعمة ، إنما صارت نعمة بتعبيدك بني إسرائيل ، ولم تعبدني ، لأنك لو لم تعبدهم لم تجعلني أمي في التابوت حتى صرت في بيتك ، ولكن إنما صارت نعمة لأجلك ، حيث عبدت بني إسرائيل . وقال مقاتل : وتلك نعمة تمنها علي يا فرعون بإحسانك إلي خاصة ، وبترك أبنائك أن عبدت بني إسرائيل . وقال الكلبي يقول : تستعبد بني إسرائيل ، وتمن علي لذلك { قَالَ فِرْعَوْنُ } لموسى { وَمَا رَبُّ العالمين } منكراً له ، وهذا جواب لقوله : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } فجاء بجواب قطع حجته { قَالَ رَبّ * السموات والارض ***** وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } بتوحيد الله تعالى ، فعجز فرعون عن الجواب { فَقَالَ * لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } إلى قول موسى عليه السلام قالوا له فيما تقول يا موسى؟ فجاء بحجة أُخرى ليؤكد عليهم { قَالَ رَبُّكُمْ } يعني : أدعوكم إلى ربكم { وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين } يعني : إلى توحيد خالقكم وخالق آبائكم الأولين { قَالَ } فرعون لجلسائه { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ } موسى عليه السلام ليس بمجنون مثلي أدعوكم إلى { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : إن كان لكم ذهن الإنسانية ، فلما عجز عن الجواب ، مال إلى العقوبة كما يفعل السلاطين { فَقَالَ * لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى } يعني : لئن عبدت رباً غيري .

{ لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } يعني : لأحبسنك في السجن . قال ابن عباس : وكان سجنه أشد من القتل { قَالَ } موسى { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } يعني : ولو جئتك بحجة بينة يستبين لكم أمري { قَالَ } فرعون { فَأْتِ بِهِ } يعني : فَأَرِنَاهُ { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } بأنك رسول { فألقى عَصَاهُ } من يده { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } يعني : حية صفراء من أعظم الحيات { وَنَزَعَ يَدَهُ } يعني : أخرج يده فقال : ما هذه؟ فقالوا : يدك ، فأدخلها في جيبه وأخرجها { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } يعني : لها شعاع كشعاع الشمس ، وانتشر الضوء حوالي مصر للناظرين لمن نظر إليها من غير برص ، فعجبوا من ذلك .

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قوله عز وجل : ف { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } يعني : قال فرعون لمن حوله يعني : الرؤساء والأشراف ، وأصله في اللغة من ملأ . قال بعضهم : الملأ إنما بما يراد بهم مائتان وخمسون ، وقال بعضهم : ثلاثمائة وخمسون ، وهم جماعة الملأ . ويقال : ملأ العين هيبة يعني : إذا نظر إليها الناظر ، ثم قال : { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } يعني : من أرض مصر { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } يعني : تشيرون { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } يعني : احسبهما وأخرجهما ولا تقتلهما ، ولا تؤمن بهما وأصله من التأخير يعني : أخر أمرهما حتى تنظر { وابعث فِى المدائن حاشرين } يحشرون عليك السحرة { يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } يعني : حاذقاً { فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } وهو يوم عيد لهم ، وهو يوم الزينة . قال مقاتل : وكانوا اثنين وسبعين ساحراً . ويقال : سبعون ألفاً . وقال الزجاج : ذكر أن السحرة كانوا اثني عشر ألفاً { وَقِيلَ لِلنَّاسِ } يعني : أهل مصر { هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } للسحرة للميعاد { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } على أمرهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاء السحرة } يعني : إلى الميقات { قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ * إِنَّ لَنَا لاجْرًا } يعني : لجعلاً { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } يعني : أتجازينا إن غلبناه { قَالَ نَعَمْ } نجازيكم { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } يعني : لكم مع الجائزة الكرامة والمنزلة عندي { قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } يعني : اطرحوا { فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } يعني : نغلب موسى { فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } يعني : تلتقم وتبتلعُ ما يطرحون من الحبال والعصي قوله عز وجل : { فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } أي خروا سجداً لله تعالى { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } فقال فرعون : إياي تعنون قالوا : { رَبّ موسى وهارون } يعني : خالق موسى وهارون { قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ماذا أصنع بكم؟ { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } على شاطىء نهر مصر { قَالُواْ } يعني : السحرة { لاَ ضَيْرَ } أي لا يضرنا ما فعلت بنا { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } يعني : إلى خالقنا راجعون { إِنَّا نَطْمَعُ } يعني : نرجو { أَن يَغْفِرَ لَنَا خطايانا } يعني : شركنا وسحرنا { أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين } يعني : أول المصدقين من قوم فرعون وذكر عن الفراء أنه قال : كانوا أول مؤمني أهل دهرهم . وقال الزجاج : لا أحسبه عرف الرواية ، لأن الذين كانوا مع موسى روي في التفسير أنهم ستمائة ألف وسبعين ألفاً ، ولكن معناه أول من آمن في هذه الساعة .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)

قوله عز وجل : { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } يعني : ببني إسرائيل { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } يعني : يتبعكم فرعون وقومه ويقال أسرى يسري إسراء إذا سار ليلاً ، يعني اذهبْ بهم بالليل { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين } يحشرون الناس لقتال موسى عليه السلام وخرج في طلبه . وقال : { إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } يعني : طائفة وعصبة وجماعة قليلون . وقال الزجاج الشرذمة في كلام العرب القليل .
ويروى أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } يعني : لمبغضين ويقال : إنا لغائظون بخلافهم لنا ، وذهابهم بحيلتنا . ثم قال عز وجل : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون } أي : مودون شاكون في السلاح . قرأ ابن كثير ونافع { حاذرون } بغير ألف ، والباقون بالألف ، { حاذرون } ، والحاذر المستعد ، والحذر المستيقظ . ويقال : الحاذر الذي يحذر في الفور ، والحذر الذي لا تلقاه إلا حذراً .
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : { حاذرون } بالألف ، وكان يقول : يعني ذا أداة من السلاح . ومعناه : إنا قد أخذنا حذرنا من عدونا بسلاحنا قال الله تعالى : { فأخرجناهم } يعني : فرعون وقومه { مّن جنات } يعني : البساتين { وَعُيُونٍ } يعني : الأنهار الجارية { وَكُنُوزٍ } يعني : من الأموال الكثيرة { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني : المنازل الحسنة . ويقال : المنابر التي يعظم عليها فرعون . قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وعيون بضم العين في جميع القرآن ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان ، وكلاهما جائز . وقال بعضهم : { فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ } كلام فرعون إنا أخرجنا بني إسرائيل من أرض مصر والطريق الأول أشبه كما قال في آية أخرى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ } [ الدخان : 25 ] الآية . ثم قال : { كذلك } يعني : هكذا أفعل بمن عصاني .
ثم استأنف فقال عز وجل : { وأورثناها } ويقال لك : أورثناها يعني : هكذا أنزلنا في مساكن فرعون { بَنِى إسراءيل } بعد ما غرق فرعون ، ثم قال : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } يعني : طلوع الشمس . قوله عز وجل : { فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان } يعني : تقاربا ورأى بعضهم بعضاً ، وذلك أن فرعون أرسل في المدائن حاشرين ليحشروا الناس ، فركب وركب معه ألف ألف ومائتا ألف فارس سوى الرحالة ، أي المشاة ، فلما دنوا من عسكر موسى { قَالَ أصحاب موسى } لموسى عليه السلام { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } يعني : يدركنا فرعون { قَالَ } موسى { كَلاَّ } لا يدرككم { إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } يعني : سينجيني ويهديني إلى طريق النجاة .

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)

قوله عز وجل : { فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } يعني : وفي الآية مضمر ، ومعناه فضربه بالعصا فانفلق البحر { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } يعني : كالجبل العظيم { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاخرين } يعني : قربنا قوم فرعون إلى البحر ، وأدنيناهم إلى الغرق ، ومنه قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } [ الشعراء : 90 ] أي أدنيت وقربت .
وروي عن الحسن قال : وأزلفنا . يعني : أهلكنا . وقال غيره : وأزلفنا ، أي جمعناهم في البحر حتى غرقوا ، ومنه قوله قبل الجمع المزدلفة . { وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } يعني : من البحر { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين } يعني : فرعون وقومه ، وقد ذكرنا القصة في موضع آخر ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : فيما صنع لآية ، يعني : لعبرة لمن بعدهم { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين يعني : لو كان أكثرهم مؤمنين لم يهلكهم الله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } بالنعمة { الرحيم } لمن تاب . قوله عز وجل : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } يعني : أخبر أهل مكة خبر إبراهيم { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } أي : كيف قال لقومه ثم أخبرهم عن ذلك وذلك أن إبراهيم عليه السلام ، لما ولدته أمه في الغار ، فلما كبر وخرج دخل المصر ، فأراد أن يعلم على أي مذهب هم وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم ، فإن وجدهم على الاستقامة ، دخل معهم ، وإن وجدهم على غير الاستقامة ، أنكر عليهم . فقال لهم إبراهيم : ما تعبدون؟ { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين } أي : نقوم عليها عابدين ، فأراد أن يبين عيب فعلهم فقال : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } يعني : هل تجيبكم الآلهة ، سمَّى الإجابة سمعاً ، لأن السمع سبب الإجابة { إِذْ تَدْعُونَ } يعني : هل يجيبوكم إذا دعوتموهم { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } إذا عبدتموهم { أَوْ يَضُرُّونَ } يعني : يضرونكم إن لم تعبدوهم { قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } يعني : وجدنا آباءنا يعبدونهم ، هكذا فنحن نعبدهم . قال لهم إبراهيم عليه السلام { قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإعلام ، يعني : اعلموا أن الذي كنتم تعبدون { أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ } وَأَجْدَادُكُمْ يعني : معبودكم ومعبود آبائكم وأجدادكم { الاقدمون } يعني : الماضين { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } يعني : إنهم أعدائي { إِلاَّ رَبَّ العالمين } يقال معناه : إلا من يعبد رب العالمين . ويقال : كانوا يعبدون مع الله الآلهة . فقال لهم : جميع ما تعبدون من الآلهة ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، فإنه ليس لي . ويقال : معناه أتبرأ من أفعالكم وأقوالكم ، إلا الذي تقولون : رب العالمين وهو قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] ويقال : إلا بمعنى لكن ، ومعناه : فإنهم عدو لي ، لكن رب العالمين ، يعني : لكن أعبد رب العالمين .

ثم وصف لهم رب العالمين فقال : { الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } يعني : يحفظني ويثبتني على الهدى { والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ } يعني : هو الذي يرزقني ويرحمني . ثم قال : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فقد أضاف سائر الأنبياء إلى الله تعالى ، وأضاف المرض إلى نفسه ، لأن المرض كسب يده كقوله عز وجل : { وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] وفيه كفارة وإذا كان أصله من كسب نفسه أضافه إلى نفسه ثم قال : { والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ } يعني : يميتني في الدنيا ، ويحييني في المبعث { والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } يعني : أرجو أن يغفر خطيئتي ، وهو قوله : { فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] ويقال وقوله : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة : هذه أختي . ويقال : يعني : ما كان مني الزلل ويقال : هو قوله : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّى برىء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] ويقال ما كان نبي من الأنبياء إلا وقد همّ بزلة ، ثم قال : { رَبّ هَبْ لِى حُكْماً } يعني : النبوة { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } يعني : بالمرسلين في الجنة { واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين } يعني : الثناء الحسن في الباقين ، وإنما أراد بالثناء الحسن ، لكي يفيدوا به ، فيكون له مثل أجر من اقتدى به { واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } يعني : اجعلني ممن ينزل فيها .

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

ثم قال : { واغفر لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } يعني : اهده إلى الحق من الضلالة والشرك . يعني : إنه كان من المشركين في الحال كقوله عز وجل : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] يعني : من هو في الحال صبي . ويقال : إنه كان من الضالين حين فارقته كقوله : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] وهذا الاستغفار حين كان وعده بالإسلام .
وقال مقاتل : إن إبراهيم عليه السلام قد كذب ثلاث كذبات ، وأخطأ ثلاث خطيئات ، وابتلي بثلاث بليات ، وسقط سقطة ، فأما الكذبات فقال : { فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وقوله : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة حين قال هي أختي . والخطايا قوله للنجم والشمس والقمر : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّى برىء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] وأما البليات : حين قذف في النار ، والختان والأمر بذبح الولد ، وسقط سقطة حين دعا لأبيه ، وهو مشرك . وقال غيره لم يكذب ولم يخطىء ، ولم يسقط ، لأنه قال : { إِنّى سَقِيمٌ } يعني : سأسقم ، لأن كل آدمي سيصيبه السقم . وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } قَد قرنه بالشرط ، وهو قوله : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة : هي أخته ، فكانت أخته في الدين وقوله : { هذا رَبّى } كان على وجه الاسترشاد لا للتحقيق . ويقال : كان ذلك القول على سبيل الإنكار والزجر . يعني : أمثل هذا ربي ، وأما دعاؤه لأبيه ، فعن وعدة وعدها إياه ، وقد بيّن الله تعالى بقوله : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] الآية . يعني : أن أباه وعده أنه سيؤمن ، فما دام حياً يرجو أو يدعو ، وإذا مات ضالاً ترك الاستغفار . ويقال : إن إبراهيم كان وعده أن يستغفر له حيث قال : { قَالَ سلام عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] ، فَاستغفر له ليكون منجزاً لوعده ثم قال : { وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ } يعني : لا تعذبني يوم يبعثون من قبورهم إلى هاهنا كلام إبراهيم ، وقد انقطع كلامه .
ثم إن الله تبارك وتعالى وصف ذلك اليوم { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } يعني : يوم القيامة لا ينفع المال الذي خلفوه في الدنيا ، وأما المال الذي أنفقوا في الخير ، فليس ينفعهم ، { وَلاَ بَنُونَ } يعني : الكفار لأنهم كانوا يقولون : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] ، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في ذلك اليوم المال ولا البنون ، وأما المسلمون ينفعهم المال والبنون ، لأن المسلم إذا مات ابنه قبله يكون له ذخراً وأجراً في الجنة ، وإن تخلف بعده ، فإنه يذكره بصالح دعائه ، فينفعه ذلك ثم قال : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني : من جاء بقلب سليم يوم القيامة ينفعه المال والبنون .

ويقال : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ، فذلك ينفعه ، والقلب السليم هو القلب المخلص . وقال ابن عباس : يعني : بقلب خالص من الشرك .
وروى أبو أسامة بن عوف قال : قلت لابن سيرين ، ما القلب السليم قال : أن تعلم أن الله عز وجل حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، ويقال : سليم من اعتقاد الباطل . ويقال : سليم من النفاق والهوى والبدعة . وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم ، قال له ثلاث علامات ، أولها أن لا يؤذي أحداً ، والثاني أن لا يتأذى من أحد ، والثالث إذا اصطنع مع أحد معروفاً لم يتوقع منه المكافأة ، فإذا هو لم يؤذ أحداً ، فقد جاء بالورع ، وإذا لم يتأذ من أحد ، فقد جاء بالوفاء ، وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع ، فقد جاء بالإخلاص .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)

ثم قال عز وجل : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } يعني : قربت الجنة للمتقين الذين يتقون الشرك والفواحش ، يعني : أن المتقين قربوا من الجنة ثم قال : { وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } يعني : أظهرت الجحيم ، وكشفت غطاءها للكافرين . ويقال : يؤتى بها في سبعين ألف زمام { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ *** مِن دُونِ الله } أي يقال للكفار : أين معبودكم الذين كنتم تعبدون من دون الله { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ } يعني : هل يمنعونكم من العذاب؟ { أَوْ يَنتَصِرُونَ } يعني : هل يمتنعون من العذاب؟ فاعترفوا أنهم لا ينصرونهم ، ولا ينتصرون ، فأمر بهم إلى النار . ويقال : { أَيْنَمَا *** كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ***** مِن دُونِ الله } يعني الشياطين ، لأنهم أطاعوها في المعصية ، فكأنهم عبدوها . قوله عز وجل : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } يعني : جمعوا فيها هم والغاوون . ويقال : فكبكبوا فيها فقدموا من النار هم ، والغاوون يعني : الكفار والآلهة ، والشياطين الذين أغووا بني آدم ، وهذا قول مقاتل ويقال : فكبكبوا فيها يعني : ألقي بعضهم على بعض . وقال القتبي : الأصل كببوا ، أي ألقوا على رؤوسهم فيها ، فأبدل مكان إحدى الباءين كاف . وقال الزجاج : هو تكرير الانكباب ، لأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها . ويقال : جمعوا فيها ومنه حديث جبريل عليه السلام أنه ينزل في كبكبة من الملائكة . يعني : جماعة من الملائكة عليهم السلام . ثم قال عز وجل : { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } يعني : جمعوا فيها جميعاً { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } يعني : الكفار والأصنام . ويقال : الكفار والشياطين ويقال : الرؤساء والأتباع . ومعناه : قالوا وهم يختصمون فيها على ما معنى التقديم { تالله } يعني : والله { إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : في خطأ بين { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين } يعني : نطيعكم كما يطيع المؤمنون أمر الله عز وجل : { وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون } يعني : ما صرفنا عن الإيمان إلا الشياطين . ويقال : رؤساؤنا ويقال : آباؤنا المشركون { فَمَا لَنَا مِن شافعين } يعني : حيث يرون الأنبياء عليهم السلام يشفعون للمؤمنين والملائكة عليهم السلام يشفعون ولا يشفع أحد للكفار . فيقولون : ليس أحد يشفع لنا { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } يعني : قريب يهمه أمرنا . قوله عز وجل : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } يعني : رجعة إلى الدنيا { فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } يعني : من المصدقين على دين الإسلام { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن يعبد غير الله ، ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة ، ولا ينفعه { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : الذين جمعوا في النار ، ولم يكونوا مؤمنين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } بالنقمة لمن عبد غيره { الرحيم } بالمؤمنين قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } يعني : نوحاً عليه السلام وحده .

ويقال : جميع الأنبياء عليهم السلام ، لأن نوحاً عليه السلام ، دعاهم إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام ، فلما كذبوه ، فقد كذبوا جميع الرسل { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } يعني : نبيهم سماه أخوهم ، لأنه كان منهم وابن أبيهم { أَلاَ تَتَّقُونَ } يعني : ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } فيما بينكم وبين ربكم ، وجعلني الله عز وجل أميناً في أداء الرسالة إليكم . ويقال : إنه كان أميناً فيهم قبل أن يبعث { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } أي : خافوا الله واتبعوني فيما أمركم به { وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } يعني : على الإيمان مِنْ أَجْرٍ أي أجر { إِنْ أَجْرِىَ } يعني : ما ثوابي { إِلاَّ على رَبّ العالمين *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } وقد ذكرناه .

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

قوله عز وجل : { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون } يعني : أنصدقك واتبعك سفلتنا ويقال : الضعفاء . قرأ يعقوب الحضرمي وأتباعك الأرذلون ، وهو جمع تابع ومعناه : وأتباعك الأرذلون ، وقراءة العامة { واتبعك الارذلون } بلفظ الماضي . فيقال : من اتبع قال لهم نوح { قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : ما كنت أعلم أن الله تعالى يهديهم من بينكم ويدعكم { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى } يعني : ما حسابهم إلا على ربي . ويقال : ما سرائرهم إلا عند ربي { لَوْ تَشْعُرُونَ } أن الله تعالى علام الغيوب قالوا لنوح : اطردهم حتى نؤمن لك . قال لهم نوح : { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : ما أنا إلا منذر لكم بلغة تعرفونها { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط *** نُوحٌ *** لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } أي من المقتولين ويقال من المرجومين بالحجارة قوله عز وجل : { قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ } بالعذاب والتوحيد { فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } يعني : اقض بيني وبينهم قضاء ويقال للقاضي فتاح ، وهذه لغة أهل اليمن { وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنين } من العذاب ومن أذى الكفار { فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك المشحون } يعني : السفينة المملوءة الموقرة من الناس ، والأنعام ، وغير ذلك { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين } يعني : من بقي ممن لم يركب السفينة ، ولفظ البعد والقبل إذا كان بغير إضافة يكون بالرفع مثل قوله : { فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون } [ الروم : 4 ] وكقوله : { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين } وإذا كانت بالإضافة يكون نصباً في موضع النصب كقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ } [ الأنبياء : 11 ] ثم قال عز وجل : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن استخف بفقراء المسلمين واستكبر عن قول الحق { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } فلم يؤمن من قومه إلاَّ ثمانون من الرجال والنساء { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } بالنقمة لمن تعظم عن الإيمان ، واستخف بضعفاء المسلمين ، واستهزأ بهم { الرحيم } لمن تاب .

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

وقوله عز وجل : { كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } يعني : كذبوا هوداً عليه السلام { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي : نبيهم هود وقد ذكرناه { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } وقد تقدم ذكره { أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً } يعني : بكل طريق علامة ويقال : بكل شرف علماً { تَعْبَثُونَ } يعني : تلعبون ويقال : تضربون ، فتأخذون المال ممن مر بكم .
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ } يعني : تبنون ما لا تسكنون . وقال أهل اللغة : كل لعب لا لذة فيه ، فهو عبث . واللعب ما كان فيه لذة ، فهم إذا بنوا بناء ، ولا منفعة لهم فيه ، فكأنهم يعبثون ثم قال عز وجل : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } يعني : القصور وقال مجاهد : المصانع قصور وحصون . وقال القتبي : المصانع البناء واحدها مصنعة ويقال : الريع الارتفاع من الأرض . ومعناه : أنكم تبنون البناء والقصور ، وتظنون أن ذلك يحصنكم مِنْ أقدار الله تعالى . ويقال : وتتخذون مصانع يعني : الحياض { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } يعني : كأنكم تخلدون في الدنيا . قوله عز وجل : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } يعني : عاقبتم ويقال : يعني : ضربتم بالسوط وقتلتم بالسيف { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } يعني : فعلتم كفعل الجبارين لأن الجبارين ، يضربون ويقتلون بغير حق ، وأصل البطش في اللغة هو الأخذ بالقهر والغلبة { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به { واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } يعني : أعطاكم ما تعلمون من الخير ، ثم بيّن فقال { أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ } يعني : أعطاكم الأموال والبنين { وجنات وَعُيُونٍ } يعني : البساتين والأنهار الجارية ، فاعرفوا رب هذه النعمة ، واشكروه ليديم عليكم النعمة ، فإنكم إن لم تشكروه { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ * عظِيمٌ } يعني : أعلم أنه يصيبكم العذاب في الدنيا والآخرة . قوله عز وجل : { قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ } يعني : أنهيتنا وخوفتنا من العذاب { أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين } يعني : من الناهين .
روي عن ابن عباس أنه قال : هو الوعظ بعينه { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين } قرأ أبو عمرو والكسائي وابن كثير : إن هذا إلا خلق ، بنصب الخاء ، وقرأ الباقون بالضم ، فمن قرأ بالنصب ، فمعناه : ما هذا العذاب الذي تذكره إلا أحاديث الأولين . ويقال : الإحياء بعد الموت لا يكون ، وإنما هذا خلق الأولين أنهم يعيشون ، ثم يموتون { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } قال القتبي : الخلق الكذب كقوله : { مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الاخرة إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } [ ص : 7 ] وكقوله : { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الاولين } [ الشعراء : 137 ] أي : خوضهم للكذب . والعرب تقول للخرافات أحاديث الخلق قال : وأعمل الخلق التقدير ، وهاهنا أراد بهم اختلافهم ، وكذبهم ، وأما من قرأ بضم الخاء ، فمعناه : إن هذا إلا عادة الأولين ، والعادة أيضاً تحتمل المعنيين ، مثل الأول . ثم قال عز وجل : { فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم } يعني : كذبوا هوداً فأهلكناهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن يعمل عمل الجبارين ، ولا يقبل الموعظة ، وهو تخويف لهذه الأمة { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : قوم عاد ولو كان أكثرهم لم يهلكهم الله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } يعني : المنيع بالنقمة لمن يعمل عمل الجبارين ، ولا يقبل الموعظة ، وهو تخويف لهذه الأمة لكيلا يسلكوا مسالكهم { الرحيم } لمن تاب .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين } يعني : صالحاً ومن قبله من المرسلين عليهم السلام { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ } يعني : نبيهم { صالح أَلا تَتَّقُونَ } وقد ذكرناه { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } وقد ذكرناه { أَتُتْرَكُونَ *** فِيمَا ***** هاهنا *** ءامِنِينَ } يعني : في هذا الخير والسعة آمنين من الموت { فِى جنات وَعُيُونٍ } يعني : البساتين والأنهار . ويقال : العيون هاهنا الآثار ، لأن قوم صالح لم يكن لهم أنهار جارية . ويقال : كانت لهم بالشتاء آبار ، وكانوا يسكنون في الجبال ، وفي أيام الصيف كانوا يخرجون إلى القصور والكروم والأنهار . ثم قال عز وجل : { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال مقاتل : يعني : متراكباً بعضه على بعض . وقال القتبي : الهضيم الطلع قبل أن تنشق عنه القشر يريد أنه ينضم متكثر يقال : رجل أهضم الكشحين إذا كان منضماً . ويقال : هضيم أي طري لين ويقال : هضيم متهشهش في الفم { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين } قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع : { فارهين } بغير ألف ، وقرأ الباقون { فارهين } بالألف ، فمن قرأ { فارهين } ، فهو بمعنى أشرين بطرين ، وهو الطغيان في النعمة ، وإنما صار نصباً على الحال ، ومن قرأ { فارهين } ، أي حاذقين { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم .
قوله عز وجل : { وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين } يعني : قول المشركين وهم التسعة رهط { الذين } كانوا { يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يُصْلِحُونَ } يعني : لا يأمرون بالصلاح ، ولا يجيبونه ، ولا يطيعونه فأجابوه قوله : { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } يعني : من المخلوقين . ويقال : ذو سحر ، والسحر هو الدية ، يعني : إنك مثلنا . وروي عن ابن عباس أنه قال : من المسحرين ، أي من المخلوقين . وقال : أما سمعت قول لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
ويقال إنما أنت من المسحرين . يعني : سوقة مثلنا ، والسوق إذا كان دون السلوك . ثم قال عز وجل : { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } يعني : آدمي مثلنا { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ } أنك رسول الله تعالى : { قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } والشرب في اللغة النصيب من الماء والشُرب بضم الشين المصدر ، والشَرب بنصب الشين جماعة الشراب ، فكان للناقة شرب يوم ، ولهم شرب يوم ، فذلك قوله : { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ *** وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } يعني : لا تصيبوها بعقر يعني : لا تقتلوها ، فإنكم إن قتلتموها { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : صيحة جبريل عليه السلام { فَعَقَرُوهَا } يعني : قتلوا الناقة { فَأَصْبَحُواْ نادمين } يعني : فصاروا نادمين على عقرها قوله عز وجل : { فَأَخَذَهُمُ العذاب } يعني : عاقبهم الله تعالى بالعذاب { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن يعظم آيات الله تعالى ، وكانت النَّاقة علامة لنبوة صالح عليه السلام ، فلما أهلكوها ولم يعظموها صاروا نادمين ، والقرآن علامة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن رفضه ، ولم يعمل بما فيه ، ولم يعظمه يصير نادماً غداً ، ويصيبه العذاب { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : قوم صالح عليه السلام { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } يعني : المنيع بالنقمة لمن لم يعظم آيات الله تعالى ، الرحيم لمن تاب ورجع .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين } يعني : لوطاً وغيره { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ } وقد ذكرناه { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } وقد ذكرناه { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين } يعني : أتجامعون الرجال من بين العالمين { وَتَذَرُونَ } يعني : وتتركون { مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم } يعني : من نسائكم { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } يعني : معتدين من الحلال إلى الحرام { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط *** لُوطٍ } من مقالتك { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } من قريتنا { قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين } يعني : من المبغضين ويقال : قلت الرجل إذا بغضته ومنه قوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ]
قوله عز وجل : { رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } من الفواحش { فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين } يعني : الباقين في العذاب . يعني : وامرأته ويقال : إن هذا من أسماء الأضداد . يقال : غبر الشيء إذا مضى ، وغبر الشيء إذا بقي : وقال بعض أهل اللغة : القالي التارك للشيء ، الكاره له غاية الكراهية { ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين } يعني : أهلكنا الباقين { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } يعني : الحجارة { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } يعني : بئس مطر من أنذر ، فلم يؤمن { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن عمل الفواحش ، أي وارتكب الحرام { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } يعني : المنيع بالنقمة لمن ارتكب الفواحش ، وعمل الحرام رحيم لمن تاب ، وقد ذكرناه .

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)

قوله عز وجل : { كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { لْئَيْكَةِ } بكسر الهاء والألف ، والباقون { ***ليكة } بغير ألف ونصب الهاء اسم بلد ، ولا ينصرف . من قرأ الأيكة فلأنها عرفت بالألف واللام ، فيصير خفضاً بالإضافة في الشاذ ليكة بكسر الهاء بغير ألف ، لأن الأصحاب مضاف إلى ليكة ، فصار اسماً واحداً . ويقال : الأيكة هي الشجرة الملتفة يقال : أيك وأيكة ، مثل أجم وأجمة ، ويقال : شجرة الدوم ، وهو شجر المقل . ثم قال عز وجل : { المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ولم يقل أخوهم قال بعضهم : كان شعيب بعث إلى قومين أحدهما مدين ، وكان شعيب منهم ، فسماه أخاهم حيث قال : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إنى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإنى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] ، والآخر أصحاب الأيكة ، ولم يكن شعيب عليه السلام منهم ، فلم يقل أخوهم وقال بعضهم : كان مدين ، والأيكة واحداً ، وهو الغيضة بقرب مدين ، فذكره في موضع أخوهم ، ولم يذكره في الآخر . ثم قال : { أَلاَ تَتَّقُونَ } يعني : ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *** فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ *** وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } وقد ذكرناه .

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

ثم قال عز وجل : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } يعني : من الناقصين في الكيل والوزن ، وفي هذا دليل على أنه أراد بهذا أهل مدين ، لأنه ذكر في تلك الآية { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] كما ذكرها هنا ثم قال : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } يعني : بميزان العدل بلغة الروم . ويقال : هو القبان { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } يعني : لا تنقصوا الناس حقوقهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { بالقسطاس } بكسر القاف ، والباقون بالضم ، وهما لغتان . ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ } يعني : لا تسعوا فيها بالمعاصي . يقال : عثى يعثو وعاث يعيث ، وعثى يعثي إذا ظهر الفساد . ثم قال عز وجل : { واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الاولين } يعني : الخليقة الأولى { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } وقد ذكرنا { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } يعني : ما نظنك إلا من الكاذبين { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء } أي جانباً من السماء ، وقرىء { كِسَفًا } بنصب السين ، أي قطعاً ، وهو جمع كسفة { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * قَالَ } لهم شعيب عليه السلام : { رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من نقصان الكيل { فَكَذَّبُوهُ } في العذاب { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } لأنه أصابهم حر شديد ، فخرجوا إلى غيضة ، فاستظلوا بها ، فأرسل عليهم ناراً ، فأحرقت الغيضة ، فاحترقوا كلهم { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } صار العذاب نصباً ، لأنه خبر كان { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة لمن نقص في الكيل والوزن { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : قوم شعيب { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } بالنقمة لمن نقص الكيل والوزن { الرحيم } لمن تاب ورجع .

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)

قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين } يعني : القرآن ويقال : إنه إشارة إلى ما ذُكر في أول السورة تلك آيات الكتاب المبين ، وأنه يعني : الكتاب لتنزيل رب العالمين { نَزَلَ بِهِ الروح الامين } قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { نَزَّلَ } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ، فمن قرأ بالتشديد ، فمعناه نَزَّلَ الله تعالى بالقرآن الروح الأمين ، يعني : جبريل عليه السلام نصب الروح لوقوع الفعل عليه ، يعني : أنزل الله تعالى جبريل بالقرآن ، ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه نزل جبريل عليه السلام بالقرآن ، فجعل الروح رفعاً ، لأنه فاعل ثم قال : { على قَلْبِكَ } أي نزله عليك ليثبت به قلبك ويقال أي يحفظ به قلبك . ويقال : { على قَلْبِكَ } أي نزل على قدر فهمك وحفظك . ويقال : أي نزله عليك فوعاه قلبك ، وثبت فيه ، فلا تنساه أبداً كما قال : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ويقال : على قلبك يعني : على موافقة قلبك ومرادك { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } يعني : من المخوفين بالقرآن للكفار من النار .
ثم قال عز وجل : { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } يعني : مبين لهم بلغتهم . ويقال : بلغة قريش وهوازن ، وكان لسانهما أفصح . قال مقاتل : وذلك أنهم كانوا يقولون : إنه يُعلمه أبو فكيهة ، وكان أعجمياً رومياً ، فأخبر أن القرآن بلغة قريش { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين } يعني : أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته في كتب الأولين ، كما قال : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمى الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون } [ الأعراف : 157 ] والزبر الكتب ، واحدها زبور ، مثل رسل ورسول ، ويقال : إنه يعني : القرآن لفي زبر الأولين ، يعني : بعضه كان في كتب الأولين ، ويقال : نعت القرآن ، وخبره كان في كتب الأولين ، ثم قال عز وجل : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً } بالتاء وضم الهاء ، وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير { ءايَةً } بالنصب ، فمن قرأ بلفظ التذكير والنصب ، جعل { أَن يَعْلَمَهُ } اسم كان ، وجعل { ءايَةً } خبر كان ، والمعنى أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل على جهة المعنى . ومن قرأ بلفظ التأنيث والضم ، جعل { ءايَةً } هي الاسم ، { وَأَنْ * يَعْلَمْهُ } خبر تكن ، ومعنى القراءتين واحد ، وذلك أن كفار مكة بعثوا رسولاً إلى يهود المدينة ، وسألوهم عن بعثته فقالوا : هذا زمان خروجه ونعته كذا ، فنزل : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً } يعني : لكفار مكة علامة { أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إسراءيل } يعني : إن هذا علامة لهم ليؤمنوا به . ثم قال : { وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الاعجمين } يعني : القرآن لو نزلناه بالعبرانية على رجل ليس بعربي اللسان من العبرانيين { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم } يعني : على كفار مكة { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } يعني : بالقرآن ، فهذا منة من الله تعالى ، حيث خاطبهم بلغتهم ليعرفوه وليفهموه . وقال القتبي : في قوله على بعض الأعجمين . يقال : رجل أعجمي إذا كان في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، ورجل عجمي بغير ألف إذا كان من العجم وإن كان فصيح اللسان .

كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)

ثم قال عز وجل : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } يعني : جعلنا التكذيب بالقرآن { فِى قُلُوبِ المجرمين } يعني : المشركين مجازاة لهم أن طبع على قلوبهم ، وسلك فيها التكذيب . ويقال : جعل حلاوة الكفر في قلوبهم { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : بالقرآن ويقال : بمحمد صلى الله عليه وسلم { حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } في الدنيا والآخرة { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } يعني : يأتيهم العذاب فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } به فيتمنون الرجعة والنظرة { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } فلما وعدهم العذاب قالوا : فأين العذاب؟ تكذيباً به يقول الله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } يعني : أبمثل عذابنا يستهزئون ثم قال { أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ } يعني : سنين الدنيا كلها . ويقال : سنين كثيرة { ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } من العذاب . قوله عز وجل : { مَا أغنى عَنْهُمْ } يعني : ما ينفعهم { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } في الدنيا . ثم خوفهم فقال : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } يعني : من أهل قرية فيما خلا { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } يعني : رسلاً ينذرونهم { ذِكْرِى } يعني : العذاب تذكرة وتفكراً ، قال بعضهم : إن { ذِكْرِى } في موضع النصب . وقال بعضهم : في موضع رفع ، أما من قال : في موضع النصب ، فيقول لها منذرون يذكرونهم ذكرى ، يعني : يعظونهم عظة . ومن قال : إنه في موضع رفع فيقول لها منذرونهم ذكرى { وَمَا كُنَّا ظالمين } يعني : بإهلاكنا إياهم ثم قال عز وجل : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } .
روي عن الحسن أنه قرأ { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ } شبههُ بقوله : كافرون ومسلمون . قال أبو عبيدة : وهذا وهم ، لأن واحدها شيطان ، والنون فيه أصلية أما مسلمون وكافرون ، فالنون فيهما زائدة في الجمع ، لأن واحدهما مسلم وكافر . وقال بعضهم : هذا غلط على الحسن ، لأنه كان فصيحاً لا يخفى عليه ، وإنما الغلط من الراوي ، ومعنى الآية أن المشركين كانوا يقولون : إن الشيطان هو الذي يقرأ عليه . قال الله تعالى رداً لقولهم : { ظالمين وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } { وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ } يعني : وما جاز لهم { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ذلك وقد حيل بينهم وبين السمع .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يستطيعون أن يحملوا القرآن ، ولو فعلوا ذلك لاحترقوا . ثم قال عز وجل : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } يعني : إنهم عن الاستماع لمحجوبون وممنوعون ثم قال { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } وذلك حين دُعي إلى دين آبائه ، فأخبر الله تعالى أنه لو اتخذ إلها آخر عذبه الله تعالى ، وإن كان كريماً عليه كقوله : { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الزمر : 65 ] فكيف بغيره .
وروي في الخبر : أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ، يقال له أرميا ، بأن يخبر قومه بأن يرجعوا عن المعصية ، فإنهم إن لم يرجعوا أهلكتهم ، فقال أرميا : يا رب إنهم أولاد أنبيائك ، وأولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، أفتهلكهم بذنوبهم؟ فقال الله تعالى : وإنما أكرمت أنبيائي ، لأنهم أطاعوني ، ولو أنهم عصوني لعذبتهم ، وإن كان إبراهيم خليلي ويقال : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد به غيره ، لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخذ إلهاً آخر ثم قال { فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } إن عبدت غيري ، فتكون من الهالكين .

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

قوله عز وجل : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } يعني : خوف أقرباءك بالنار لكي يؤمنوا ، أو يثبتوا على الإيمان من كان منهم مؤمناً . وروى هشام عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته فقال لهم : « يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ، وَأَنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً ، لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، وَإِنَّما أَوْلِيائِي مِنْكُمُ المُتَّقُونَ ، فَلا أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالآخِرَةِ ، وَجِئْتُمْ بِالدُّنْيا تَحْمِلُونَها عَلَى رِقَابِكُمْ » وذكر السدي هكذا ثم قال : « أَلا فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » . وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لما نزل { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، فصعد عليه ، ثم نادى بأعلى صوته : « يا صباحاه » فاجتمع الناس فقال صلى الله عليه وسلم : « يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ يَا بَنِي هَاشِمٍ ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هذا الجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي؟ » قالوا : نعم . قال : « فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟ فنزل { تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .
ثم قال عز وجل : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } يعني : لين جانبك لمن اتبعك من المؤمنين يعني : من المصدقين { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ } قال مقاتل : فيها تقديم يعني : الأقربين أي : فإن خالفوك { فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } من الشرك ثم قال : { وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } قرأ نافع وابن عامر بالفاء فتوكل ، لأنه متصل بالكلام الأول ، ودخلت الفاء للجزاء وقرأ الباقون : { وَتَوَكَّلْ } بالواو على وجه العطف ، { وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } يعني : أي ثق بالله ، وفوض جميع أمورك إلى العزيز الرحيم { الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } في الصلاة وحدك { وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين } أي : وحين تصلي في الجماعة . وقال عكرمة : وتقلبك في الساجدين قال في حال القيام والركوع والسجود يعني : يرى قيامك وركوعك وسجودك ، ويراك مع المصلين ويقال : الذي يراك حين تقوم من مقامك للصلاة بالليل ، ويقال : حين تقوم وتدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، ويقال وتقلبك في الساجدين يعني : تقلبك في أصلاب الآباء ، وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح ، وإلى إبراهيم ، وإلى من بعده صلوات الله عليهم . قوله عز وجل : { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } يعني : بآبائهم وبأعمالهم .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

ثم قال { هَلْ أُنَبّئُكُمْ } يعني : هل أخبركم { على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } هذا موصول بقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } { تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } يعني : كذاب صاحب الإثم ، فاجر القلب . الأفاك الكذاب ، والأثيم الفاجر ، يعني به كهنة الكفار { يُلْقُونَ السمع } يعني : يلقون بآذانهم إلى السمع من السماء لكلام الملائكة عليهم السلام { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } يعني : حين يخبرون الكهنة .
وروى معمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الشياطين تسترق السمع ، فتجيء بكلمة حق ، فتقذفها في أذن وليها ، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ، وهذا كان قبل أن يحجبوا من السماء ثم قال عز وجل : { والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } قال قتادة ومجاهد : يتبعهم الشياطين . وقال في رواية الكلبي : الغاوون هم الرواة الذين كانوا يروون هجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيتبعهم . ويقال : الغاوون هم الضالون . ويقال : شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } يعني : في كل وجه وفن يذهبون ويخوضون ، يأخذون مرة يذمون ، ومرة يمدحون ، وذكر عن القتبي أنه قال : في كل واد يهيمون من القول ، وفي كل مذهب يذهبون كما تذهب البهائم على وجهها . وقال غيره : هام الرجل والبعير ، إذا مضى على وجهه ، لا يدري أين يذهب ، فكذلك الشاعر يأخذ كلامه لا يدري أين ينتهي . قرأ نافع وحده يتبعهم بجزم التاء ، والتخفيف ، وقرأ الباقون يتبعهم بنصب التاء والتشديد ، وهما بمعنى واحد يتبعهم ويتبعهم ثم قال : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } يعني : أن الشعراء يقولون : قد فعلنا كذا وكذا . وقلنا : كذا ، فيمدحون بذلك أنفسهم وهم كذبة ، ثم استثنى شعراء المسلمين حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك رضي الله عنهم ، فقال عز وجل : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } يعني : ذكروا الله في أشعارهم . ويقال : وذكروا الله عز وجل في الأحوال كلها { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } يعني : انتصر شعراء المسلمين من شعراء الكافرين ، فكافؤوهم والبادىء أظلم . ويقال : انتصروا من أهل مكة من بعدما أخرجوا ، لأن الحرب تكون بالسيف وباللسان ، فأذن القتال بالشعر ، كما أذن بالسيف ، إذ فيه قهرهم .
ثم أوعد شعراء الكافرين فقال تعالى : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ } يعني : الذين هجوا المسلمين { أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } يعني : أي مرجع يرجعون إليه في الآخرة يعني : إلى الخسران والنار . ويقال : هاتان الآيتان مدنيتان ، يذكر أنه لما نزل { والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } جاء عبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، وهما يبكيان فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { والشعراء } إلى قوله : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فقال : عليه السلام " هذا أنتم { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } » . وروي عن عكرمة قال عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ، وَإِنَّ مِنَ الشُّعَرَاءِ لَحُكَمَاءَ " وفي رواية أخرى : " وَإِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً " والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)

قول الله سبحانه وتعالى : { طس تِلْكَ ءايات القرءان } يعني : هذه الأحكام ويقال : تلك الآيات التي وعدتم بها ، وذلك أنهم وعدوا بالقرآن في كتبهم . ويقال : يعني : العلامات جميع الأحرف للقرآن { وكتاب مُّبِينٌ } كلاهما واحد ، وإنما كرر اللفظ للتأكيد { مُّبِينٌ } يعني : بيّن ما فيه من أمره ونهيه . ويقال : مبين للأحكام الحلال والحرام . ثم قال : { هُدًى } يعني : القرآن هدى وبياناً من الضلالة لمن عمل به . ويقال { هُدًى } يعني : هادياً { وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } يعني : ما فيه من الثواب للمؤمنين ، قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وورش عن نافع { وبشرى } بإمالة الراء ، وقرأ الباقون بالتفخيم ، وكلاهما جائز ، والإمالة أكثر في كلام العرب ، والتفخيم أفصح ، وهي لغة أهل الحجاز { لِلْمُؤْمِنِينَ } ، يعني : للمصدقين بالقرآن أنه من الله تعالى . ثم نعتهم فقال : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } يعني : يقرون بها ويتمونها { وَيُؤْتُونَ الزكواة } يعني : يقرون بها ويعظمونها { وَهُم بالاخرة هُمْ يُوقِنُونَ } يعني : يصدقون بأنها كائنة ثم قال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } أي : لا يصدقون بالبعث بعد الموت { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } يعني : ضلالتهم عقوبة لهم ولما عملوا ، ومجازاة لكفرهم زينا لهم سوء أعمالهم { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } يعني : يترددون فيها ، ويتحيرون في ضلالتهم . قوله عز وجل : { أولئك } يعني : أهل هذه الصفة { الذين لَهُمْ سُوء العذاب } يعني : شدة العذاب { وَهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } يعني : الخاسرون بحرمان النجاة ، والمنع من الحسنات . ويقال : هم أخسر من غيرهم وقال أهل اللغة متى ذكر الأخسر مع الألف واللام ، فيجوز أن يراد به الأخسر من غيرهم . وإن لم يذكر غيرهم ، وإن ذكر بغير ألف ولام ، فلا يجوز أن يقال : هو أخسر إلا أن يبين أنه هو أخسر من فلان أو من غيره . قوله عز وجل : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان } يعني : كقوله { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 35 ] يعني : مما يؤتي بها . ويقال : وما يؤتي ، { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان } يعني : لتلقن القرآن . وقال أهل اللغة تلقى وتلقن بمعنى واحد إذا أخذ وَقُبِلَ من غيره ويقال { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان } ، أي يلقى إليك القرآن وحياً من الله عز وجل . ثم قال : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } يعني : نزل عليك جبريل من عند حكيم عليم في أمره ، عليم بأعمال الخلق قوله عز وجل : { إِذْ قَالَ موسى لاِهْلِهِ } قال بعضهم : معناه إنه عليم بما نزل عليك ، كعلمه بقول موسى عليه السلام ويقال : حكمت لك بالنبوة ، كما حكمت لموسى ، إذ قال لأهله : { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } يعني : رأيت ناراً { إِذْ قَالَ موسى } يعني : خبر الطريق { إِذْ قَالَ موسى لاِهْلِهِ } يعني : بنارٍ ويقال : كل أبيض ذو نور فهو شهاب ، والقبس كل ما يقتبس من النار ، والقبس يعني : المقبوس . كما يقال : ضرب فلان ، يعني : مضروبه .
قرأ عاصم وحمزة والكسائي { شِهَابٌ *** قَبَسٍ } بالتنوين ، وقرأ الباقون بغير تنوين ، فمن قرأ منوناً ، جعل القبس نعت الشهاب ومن قرأ بشهاب غير منون ، أضاف الشهاب إلى القبس ثم قال { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } يعني : تستدفئون من البرد .

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاءهَا } يعني : النار ويقال يعني : الشجرة { نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النار } يعني : بورك مَنْ عند النار ، وهو موسى عليه السلام { وَمَنْ حَوْلَهَا } يعني : الملائكة عليهم السلام وهو على وجه التقديم يعني : فلما جاءها ومن حولها من الملائكة ، نودي أن بورك من في النار ، أي : عند النار . ويقال : من في طلب النار أو قصدها والمعنى : بورك فيك يا موسى . وقال أهل اللغة : باركه وبارك فيه ، وبارك عليه واحد ، وهذا تحية من الله تعالى لموسى عليه السلام ثم قال : { وسبحان الله } يعني : قيل له قل سبحان الله تنزيهاً لله تعالى من السُّوء ويقال : إنه أي الله في النداء قال : فسبحان الله { رَبّ العالمين } وقال بعض المفسرين : كان ذلك نور رب العزة ، وإنما أراد به تعظيم ذلك النور ، كما يقال للمساجد بيوت الله تعظيماً لها .
ثم قال عز وجل : { العالمين ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله } وذكر عن الفراء أنه قال : هذه الهاء عماد ، وإنما يراد به وصل الكلام ، كما يقال : إنما ، وما يكون للوصل كذلك هاهنا ، فكأنه قال : يا موسى إني أنا الله { العزيز الحكيم } ويقال : معناه إن الذي تسمع نداءه هو الله العزيز الحكيم قوله عز وجل : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } يعني : من يدك فألقاها ، فصارت حية ، وقد يجوز أن يضمر الكلام إذا كان في ظاهره دليل { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ } يعني : تتحرك { كَأَنَّهَا جَانٌّ } يعني : حية والجان هي الحية الخفيفة الأهلية ، فإن قيل : إنه قال في آية أخرى ، { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] والثعبان الحية الكبيرة ، فأجاب بعض أصحاب المعاني أنه كان في كبر الثعبان ، وفي خفة الجان قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : والجواب الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون ، والجان عند الطور ثم قال : { ولى مُدْبِراً } يعني : أدبر هارباً من الخوف { وَلَمْ يُعَقّبْ } يعني : لم يرجع ويقال : لم يلتفت يقول الله تعالى لموسى { خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ } من الحية { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } يعني : لا يخاف عندي ، ثم استثنى فقال : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } قال مقاتل : إلا من ظلم نفسه من المرسلين ، مثل آدم وسليمان ، وإخوة يوسف ، وداود وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . ويقال : إلا من ظلم يعني : لكن من ظلم { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء } أي : فعل إحساناً بعد إساءته { فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال الكلبي : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } يعني : أشرك فهذا الذي يخاف { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً } يعني : توحيداً بعد سوء ، يعني : بعد شرك { فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

قال أبو الليث رحمه الله : ويكون إلا على هذا التفسير ، بمعنى لكن لا وعلى وجه الاستثناء ، وذكر عن الفراء أنه قال : الاستثناء وقع في معنى مضمر من الكلام ، كأنه قال : لا يخاف لدي المرسلون ، بل غيرهم الخائف .
وقال القتبي : هذا لا يصح ، لأن الإضمار يصح إذا كان في ظاهره دليل ، ولكن معناه أن الله تعالى لما قال : { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } ، علم أن موسى كان مستشعراً خيفة من قبل القبطي ، فقال : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء } فإنه يخاف ، ولكني أغفر له ، { فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . ويقال { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } يعني ، ولا من ظلم ، ولا يبين ظلمه ، { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء } فإنه لا يخاف أيضاً ، ثم قال عز وجل : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } يعني : جيب المدرعة ، ثم أخرجها { تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } يعني : من غير برص { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى } يعني : هذه الآية من تسع آيات ، كما تقول أعطيت لفلان عشرة أبعرة فيها فحلان ، أي منها وقد بيّن في موضع آخر حيث قال : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيِّنَاتٍ فاسأل بَنِى إسراءيل إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُورًا } [ الإسراء : 101 ] وقد ذكرناها { إلى فِرْعَوْنَ } أي اذهب إلى فرعون { وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } يعني : إنهم كانوا قوماً عاصين قوله : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا } يعني : جاءهم موسى بآياتنا التسع { مُبْصِرَةً } يعني : معاينة . ويقال : مبينة ، أي علامة لنبوته ، ويقال : مبصرة يعني : مضيئة واضحة { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي بيّن { وَجَحَدُواْ بِهَا } يعني : بالآيات بعد المعرفة { واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } أنها من الله تعالى ، وإنما استيقنتها قلوبهم ، لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى ، وسألوا بأن يكشف عنهم ، فكشفنا عنهم ، فظهر لهم بذلك أنه من الله تعالى ، وفي الآية تقديم . ومعناه وجحدوا بها { ظُلْماً } يعني : شركاً { وَعُلُوّاً } يعني : تكبراً وترفعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى { واستيقنتها } أنفسهم يعني : وهم يعلمون أنها من الله .
ثم قال : { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } يعني : الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي ، فكانت عاقبتهم الغرق .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا * دَاوُودُ ***** وسليمان عِلْماً } يعني : علم القضاء ، والعلم بكلام الطير والدوابّ { وَقَالاَ } يعني : داود وسليمان { الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } بالكتاب والنبوة وكلام البهائم والطير والملك ، ويقال : فضلنا على كثير من الأنبياء ، حيث لم يعط أحداً من الأنبياء عليهم السلام ما أعطانا . وقال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً ، وأقضى من داود ، وكان داود أشدَّ تعبداً من سليمان عليهما السلام .
ثم قال عز وجل : { وَوَرِثَ سليمان * دَاوُودُ } يعني : ورث ملكه . وقال الحسن : ورث المال والملك لا النبوة والعلم ، لأن النبوة والعلم من فضل الله ، ولا يكون بالميراث ويقال : ورث العلم والحكم لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون دراهم ولا دنانير .
{ وَقَالَ } سليمان لبني إسرائيل : { وَقَالَ ياأيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير } يعني : أفهمنا وألهمنا منطق الطير ، وذلك أن سليمان كان جالساً في أصحابه إذ مرّ بهم طير يصوت ، فقال لجلسائه : أتدرون ماذا يقول؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : ليت الخلق لم يخلقوا ، فإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا قال : وصاح عنده ديك فقال : هل تدرون ماذا يقول؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول اذكروا الله يا غافلين .
ثم قال تعالى : { وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء } يعني : أعطينا علم كل شيء . ويقال : النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح . { إِنَّ هَذَا } الذي أعطينا { لَهُوَ الفضل المبين } يعني : المبين ويقال : المبين تبين للناس فضلهم .
ثم قال عز وجل : { وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ } يعني : جموعه ، والحشر هو أن يجمع ليساق ، ثم قال : { مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } يعني : يساقون . ويقال : { يُوزَعُونَ } يعني : يكفون ، ويحبس أولاهم على آخرهم ، وأصل الوزع الكف ، يقال : وزعت الرجل إذا كففته . وعن الحسن أنه قال : لا بد للناس من وزعة ، أي : من سلطان يكفهم . وقال مقاتل : إنه استعمل جنياً عليهم يرد أولهم على آخرهم . ويقال : هكذا إعادة القوافل والعساكر . ويقال : { وَحُشِرَ } ، أي : جمع لسليمان جنوده مسيرة له من الجن والإنس والطير { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يجلس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا .
قوله عز وجل : { حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل } وذلك أن سليمان كان له بساط فرسخ في فرسخ ، ويقال : أربع فراسخ في أربع فراسخ ، وكان يضع عليه كرسيه وجميع عساكره ، ثم يأمر الريح فترفعه ، وتذهب به مسيرة شهر في ساعة واحدة ، فركب ذات يوم في جموعه ، فمر بواد النمل في أرض الشام . { قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا * أَيُّهَا ****النمل ادخلوا مساكنكم } يعني : بيوتكم ، ويقال : حجركم { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } أي لا يهلكنكم ، ويقال : لا يكسرنكم { سليمان وَجُنُودُهُ } وإنما خاطبهم بقوله { أَدْخِلُواْ } بخطاب العقلاء لأنه حكى عنهم ما يحكى عن العقلاء ، ثم قال : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : قوم سليمان لا يشعرون بكم ولو كانوا يشعرون بكم لا يحطمونكم لأنهم علموا أن سليمان عليه السلام ملك عادل لا بغي فيه ولا جور ، ولئن علم بها لم توطأ ويقال : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : جنوده خاصة لأنه علم أن سليمان يعلم بمكانه ويتعاهده .

ويقال : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : النمل لا يشعرون بجنود سليمان حتى أخبرتهم النملة المنذرة ، فرفع الريح صوتها إلى سليمان . { فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا } كما يكون ضحك الأنبياء عليهم السلام وإنما ضحك من ثنائها على سليمان بعدله في ملكه ، يعني : أنه لو شعر بكم لم يحطمكم . ويقال : { فَتَبَسَّمَ ضاحكا } أي متعجباً . ويقال : فرحاً بما أنعم الله تعالى عليه ، صار ضاحكاً ، نصباً على الحال . { وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } يعني : ألهمني ، ويقال : أوزعني من الكف أيضاً ، كأنه قال : احفظ جوارحي لكيلا تشتغل بشيءٍ سوى شكر نعمتك عليَّ . { وعلى وَالِدَىَّ } يعني : النبوة والملك . { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } يعني : تقبله مني . وذكر أنه مر بزارع ، فقال؟ الزارع : إنه ما أعطي مثل هذا الملك لأحد؟ فقال له سليمان : ألا أنبئك بما هو أفضل من هذا؟ القصد في الغنى والفقر ، وتقوى الله تعالى في السر والعلانية ، والقضاء بالعدل في الرضا والغضب .
ثم قال تعالى : { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } يعني : أدخلني بنعمتك مع عبادك الصالحين ، يعني : المرسلين في جنتك . فوقف سليمان عليه السلام بموضعه ليدخل النمل مساكنهم ، ثم مضى .
قرأ يعقوب الحضرمي وأبو عمرو في إحدى الروايتين { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } بسكون النون وقراءة العامة بنصب النون وتشديدها ، وهذه النون تدخل للتأكيد فيجوز التخفيف والتثقيل ، ولفظه لفظ النهي ، ومعناه جواب الأمر ، يعني : إن لم تدخلوا مساكنكم حطمكم .

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

ثم قال عز وجل : { وَتَفَقَّدَ الطير } يعني : طلب الطير ، وذلك أنه أراد أن ينزل منزلاً ، فطلب الهدهد { فَقَالَ مَالِيَ * لِىَ لاَ ****أَرَى الهدهد } وكان رئيس الهداهد ، وكان سليمان قد جعل على كل صنف منهم رئيساً ، ثم جعل الكركي رئيساً على جميع الطيور . قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة { مَا لِى } بسكون الياء . وقرأ الباقون بنصب الياء ، وهما لغتان : يجوز كلاهما ، ثم قال : { أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين } يعني : أم صار غائباً لم يحضر بعد . ويقال : الميم للصلة ، ومعناه أكان من الغائبين يعني : أصار من الغائبين . وذكر أن الهدهد كان مهندساً يعرف المسافة التي بينهم وبين الماء . ويقال : كان يعرف الماء من تحت الأرض ، ويراه كما يرى من القارورة .
وروى عكرمة أنه قال : قلت لابن عباس : كيف يرى الماء من تحت الأرض . وأن صبياننا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة من تحت التراب . فقال ابن عباس : ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان ، أما علمت أنه إذا نزل القضاء ذهب البصر . فدعا سليمان أمير الطير ، فسأله عن الهدهد ، فقال : أصلح الله الملك ما أدري أين هو؟ وما أرسلته مكاناً ، فغضب سليمان عند ذلك وقال : { لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } يعني : لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولاً ولأشمسنه في الحر حتى يأكله الذر { أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ } يعني : لأقتلنه حتى لا يكون له نسل { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان } يعني : بحجة بينة واضحة أعذره بها { مُّبِينٌ } بيّن ، فإن قيل كيف يجوز أن يعاقب من لا يجري عليه القلم؟ قيل له : تجوز العقوبة على وجه التأديب إذا كان منه ذنب ، كما يجوز للأب أن يؤدب ولده الصغير ، وأما الذبح ، فيجوز ، وإن لم يكن منه ذنب .
قرأ ابن كثير { ***ليأتينني } بنونين . وقرأ الباقون بنون واحدة ، فمن قرأ بنونين فهو للتأكيد ، لأن النون الأولى مشددة ، وتسمى تلك نون القسم ، وهي في الحقيقة نونين ، والنون الثانية للإضافة . ومن قرأ بنون واحدة ، فقد استقل الجمع بين النونات ، واقتصر على نونين ، فأدغم إحداهما في الأخرى .

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

قوله عز وجل : { مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } قرأ عاصم بنصب الكاف . وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان : ومعناهما واحد . يعني : لم يلبث إلا قليلاً . ويقال : لم يظل الوقت حتى جاء الهدهد { فَقَالَ أَحَطتُ } وفي الآية مضمر ، ومعناه فمكث غير بعيد أن جاءه الهدهد . فقال له سليمان : أين كنت؟ فخرّ له ساجداً وقال : أحطت { بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } يعني : علمت ما لم تعلم ، وجئتك بخبر لم تكن تعلمه ، ولم يخبرك عنه أحد ثم أخبره فقال : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } فإن قيل : كيف يجوز أن يقال إن سليمان لم يعلم به ، وكانت أرض سبأ قريبة منه ، وهناك ملك لم يعلم به سليمان؟ قيل له : علم به سليمان ، ولكنه لم يعلم أنهم يسجدون للشمس . ويقال : إنه علم بها ، ولكنه لم يعلم أن ملكها قد بلغ هذا المبلغ ، وعلم أنهم أهل الضلالة ، والإحاطة هي العلم بالأشياء بما فيها وجهتها كما قال { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ } ، يعني : من أرض سبأ ، وهي مدينة باليمن بنبأ يقيني يعني : بخبر صدق لا شك فيه . ويقال : بخبر عجيب .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو { سَبَإٍ } بالنصب بغير تنوين . وقرأ الباقون بالكسر والتنوين ، فمن قرأ بالنصب جعله اسم مدينة ، وهي مؤنثة لا تنصرف ، ومن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم الرجل . ويقال : جعله اسم مكان . فقال له سليمان : وما ذلك الخبر؟ فقال : { إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } يعني : تملك أرض سبأ { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } يعني : أعطيت علم ما في بلادها . ويقال : من كل صنف من الأموال والجنود ، وأنواع الخير مما يعطى الملوك { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني : سريراً كبيراً أعظم من سريرك . ويقال : كان طول سريرها ثمانون ذراعاً في ثمانين مرصعاً بالذهب والدر والياقوت ، وقوائمه من اللؤلؤ والياقوت ، واسمها بلقيس . قال مقاتل : كانت أمها من الجن . ويقال : ولها عرش عظيم ، أي شديد . قوله عز وجل : { وَجَدتُّهَا } يعني : رأيتها { وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ } يعني : يعبدون الشمس { مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } الخبيثة { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } يعني : طريق الهدى ، ومعناه صدهم الشيطان عن الإسلام ، فهم لا يهتدون . يعني : لا يعرفون الدين قوله عز وجل : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } قرأ الكسائي { إِلا } بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه أن الهدهد قال عند ذلك : أنْ لاَ تسجدوا لله؟ وقال مقاتل : هذا قول سليمان قال لقومه : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } ويقال هذا كلام الله { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } وهذا من الاختصار ، فكأنه قال : ألا يا هؤلاء اسجدوا لله . ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصدهم عن السبيل أن لا يسجدوا لله .

يعني : لأن لا يسجدوا . ويقال : معناه وزين لهم الشيطان أعمالهم ، لأن لا يسجدوا وإذا قرىء بالتخفيف ، فهو موضع السجدة ، وإذا قرىء بالتشديد ، فليس بموضع سجدة في الوجهين جميعاً . وهذا القول أحوط { الذى يُخْرِجُ الخبء } يعني : المخبئات { فِي السموات *** والارض } مثل الثلج والمطر ، وفي الأرض مثل النبات والأشجار والكنوز والموتى . ويقال : الذي يظهر سر أهل السموات والأرض ، ويعلنها فذلك قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } ثم قال عز وجل : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } أي الذين يعلم ذلك . قرأ عاصم والكسائي في رواية حفص { مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة لهم . وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر لهم .

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

{ قَالَ } سليمان { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } في قولك { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } يعني : أم أنت فيها من الكاذبين ، فكتب كتاباً وقال له : { اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } يعني : على ماذا يتفقون . { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } . يعني : ارجع عنهم ويقال ليس فيها تقديم . ومعناه : { اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } يعني : استأخر في ناحية غير بعيد ، { فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } ؟ أي ماذا يريدون من الجواب؟ قرأ ابن عامر وابن كثير ، { ***فألقهي } إليهم بالياء بعد الهاء . وقرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين وقرأ حمزة وعاصم بالجزم . وقرأ نافع { هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } بكسر الهاء ، ولا يبلغ الياء ، وكل ذلك جائز في اللغة . والقراءة بالياء أوسع اللغتين وأكثر استعمالاً . قال مقاتل : فجعل الهدهد الكتاب في منقاره ، ثم طار حتى وقف على رأس المرأة ، فرفرف ساعة ، والناس ينظرون إليه ، فرفعت المرأة رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها .
وروي في بعض الروايات أنها كانت نائمة في البيت ، وقد أغلقت بابها ، فدخل من الكوة ، ووضع الكتاب على صدرها . ويقال : عند رأسها . وأكثر الروايات أنه ألقاه في حجرها ، فقرأت الكتاب . قرأت فيه الخاتم ، فارتعدت وخضعت ، وخضع من معها من الجنود ، لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، فقرأت الكتاب ، وأخبرتهم بما فيه قال مقاتل : ولم يكن في الكتاب إلا قوله : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } لأن كلام الأنبياء عليهم السلام على الإجمال ، ولا يكون على التطويل . وقال في رواية الكلبي : نكتب فيه إن كنتم من الإنس ، فعليكم بالطاعة ، وإن كنتم من الجن ، فقد عبدتم إلى قوله عز وجل : { قَالَتْ } أي المرأة { قَالَتْ ياأيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } يعني : حسن . ويقال : كتاب مختوم .
وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كرامة الكتاب ختمه » . ويقال : كل كتاب لا يكون مختوماً ، فهو مغلوب . ويقال : كان سليمان عليه السلام إذا كتب إلى الشياطين ختمه بالحديد ، وإذا كتب إلى الجن ختمه بالصفر ، وإذا كتب إلى الإنس ختمه بالطين ، وإذا كتب إلى الملوك ختمه بالفضة ، فجعل ختم كتابها من ذهب . ويقال : إن المرأة إنما قالت : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } ، لأنها ظنت أنه نزل من السماء ، فلما نظرت إليه قرأت عنوان : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } يعني : عنوانه من سليمان وإنه يعني : في داخله ، وأول سطره بسم الله الرحمن الرحيم { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ } أي : لا تتعظموا علي ، ولا تتطاولوا علي .

ويقال : لا تترفعوا علي ، وإن كنتم ملوكاً . قوله عز وجل : { وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } يعني : مستسلمين خاضعين . ويقال : يعني : مخلصين منقادين طائعين . قال محمد بن موسى : إنما بدأ سليمان بنفسه لعلمه بأن ذكره على سائر الملوك أعظم من ذكره معبوده ، فهول عليها بذكر نفسه ثم ذكر معبوده ، فذهب بنفسها ، وانقادت في مملكتها ، وإنما خافت من هول سليمان حين آمنت بالله فقالت عند ذلك : رب ظلمت نفسي بعبادة الشمس ، وما خفت منك ، فالآن عرفتك ، وتبت إليك وأنت رب العالمين { قَالَتْ } المرأة { قَالَتْ ياأيها الملا } يعني : الأشراف والقادة { أَفْتُونِى فِى أَمْرِى } وكان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً تحت يد كل قائد ألف رجل ، وقد قيل أكثر من هذا : { أَفْتُونِى فِى أَمْرِى } . يعني : أجيبوني في أمري . ويقال : بينوا لي أمري وأخبروني . ويقال : أشيروا علي { مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً } أي قاضية أمراً . ويقال : فاصلة أمراً { حتى تَشْهَدُونِ } يعني : تحضرون أي : لا أقطع أمراً دونكم { قَالُواْ } مجيبين لها { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني : عدة وكثرة وسلاحاً وقتال شديد { والامر إِلَيْكِ } يعني : أخبرناك بما عندنا أيتها الملكة ، ومع ذلك لا نجاوز ما تقولين . يعني : إن أمرتينا بقتال قاتلنا ، وإن أمرتنا بغير ذلك أطعناك { فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ } يعني : ماذا تشيرين إلينا .

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)

قوله عز وجل : { قَالَتْ } يعني : المرأة { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } على وجه القوة والغلبة { أَفْسَدُوهَا } يعني : أهلكوها وخربوها { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } يعني : أهانوا أشرافها وكبراءها ليستقيم لهم الأَمر { وكذلك يَفْعَلُونَ } قال ابن عباس : هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قال : { وكذلك يَفْعَلُونَ } تصديقاً لقول المرأة قال الحسن : هذا قول بلقيس : إن سليمان وجنوده كذلك يفعلون ، وأكثر المفسرين على خلاف ذلك . ثم قالت المرأة : { وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } يعني : أصانعهم بالمال ، فإن كان من أهل الدنيا ، فإنه يقبل ويرضى بذلك ويقال : أختبره أملك هو أم نبي ، فإن كان ملكاً قبلها ، وإن كان نبياً لم يقبلها { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } يعني : أنظر بماذا يرجع المرسلون من الجواب من عنده؟ وذكر في الخبر أنها بعثت إليه لبنتين من ذهب والمسك والعنبر ، وبعثت بعشرة غلمان ، وعشرة جواري . وكان في الجواري بعض الغلظة ، وكان في الغلمان بعض اللين ، وأمرت بأن تخضب أيديهم جميعاً ، وجعلتهم على هيئة الجواري ، وبعثت إليه جوهرة في ثقبها اعوجاج ، وطلبت أن يدخل الخيط فيها ، وكتبت إلى سليمان إن كنت نبياً ، فميز بين الجواري والغلمان ، فأمر سليمان الشياطين بأن يلقوا في طريق الرسل لبناً كثيراً من الذهب ، فلما جاءت رسل بلقيس استحقروا هديتهم ، فلما قدموا على سليمان أمر بماء ، فوضع وأمر الغلمان والجواري بأن يتوضؤا ، فجعل الغلام يحدر الماء على يده حدراً ، وأما الجواري ، فكن يصببن صباً . وفي رواية أُخرى كانت الجارية تأخذ الماء بكفها ، وتدلك ذراعها ، وأما الجوهرة ، فأخذ بوردة حمراء عقد فيها خيطاً ، ثم أدخلها في الحجر حتى خرجت من الجانب الآخر ، فرد الهدية . وقال للوافد : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } يعني : أتغرونني بالمال . قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } قال بعضهم : يعني : جاء الرسول . وقال بعضهم : يعني : جاء بريدها والأول أشبه ، لأنه خاطب الرسول . { قَالَ *** أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } قرأ حمزة { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } بنون واحدة والتشديد ، وقرأ الباقون بنونين وأصله نونان ، إلا أن حمزة أدغم إحداهما في الأخرى ، وشددها . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { ***أتمدونني } بالياء في الوصل ، لأنه في الأصل الياء ، وهو ياء الإضافة . وقرأ الباقون بغير ياء ، لأن الكسر يدل عليه . ثم قال : { بِمَالٍ فَمَا ءاتانى الله } يعني : ما أعطاني الله عز وجل من النبوة والحكمة والدين والإسلام والملك { خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم } يعني : خير مما أعطاكم من الدنيا والمال { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } يعني : إذا أهدى بعضكم إلى بعض يقال : معناه بل أنتم تفرحون بهديتكم إذا ردت إليكم ، لأنكم قليلوا المال . ويقال : لأنكم مكاثرون بالدنيا .

قوله عز وجل : { ارجع إِلَيْهِمْ } يعني : قال سليمان للأمير الوافد : ارجع إليهم بالهدية ، فإن لم يحضروني { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } يعني : لا طاقة لهم بها . قال بعض المتقدمين : ومتى يكون لهم طاقة بجنود سليمان ، وكان جنود سليمان من الجن والإنس والشياطين { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا } يعني : من أرض سبأٍ { أَذِلَّةٍ } يعني : مغلولة أيديهم إلى أعناقهم { وَهُمْ صاغرون } أي ذليلون ، فلما بلغ الخبر إلى المرأة ورسالة سليمان لم تجد بداً من الخروج إليه ، فخرجت نحوه ، فلما علم سليمان بمسيرها إليه { قَالَ } لجلسائه { قَالَ يأَيُّهَا الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا } يعني : بسرير بلقيس { قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } أي موحدين : لأنه قد كان أوحي إلى سليمان بأنها تسلم . وقال بعضهم : إنما أراد سليمان بإحضار سريرها قبل أن تسلم ليكون السرير له ، لأنها لو أسلمت حرم عليه ما كان لها وقال بعضهم : إنما أراد أن يبين دلالة نبوته عندها ، فتعلم المرأة أنه نبي فتسلم .

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)

قوله عز وجل : { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن } يعني : ما أراد من الجن والعفريت هو الشديد القوي ويقال : العفريت من كل شيء المبالغ والحاذق في أمره { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ } يعني : في مجلس القضاء ، وكان قضاؤه إلى إنصاف النهار . ويقال : إلى وقت الضحى { وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ } قوله { عَلَيْهِ } أي على إتيان السرير لقوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ وغير ذلك . فقال سليمان : أنا أريد أسرع من هذا { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } يعني : آصف بن برخيا ، وكان وزيره ومؤدبه في حال صغره ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، ويقرأ كتاب الله . فقال : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت . ويقال : هو قوله يا حي يا قيوم . ويقال يا ذا الجلال والإكرام ويقال إن الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل عليه السلام ، وهو قول المعتزلة .
قال الشيخ الإمام : لأنهم لا يرون كرامة الأولياء وأكثر المفسرين على أنه آصف بن برخيا رضي الله عنه قال : { قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ } يعني : قبل أن ينتهي إليك الذي وقع عليه منتهى بصرك ، وهو جاءٍ إليك . ويقال : قبل أن تطرف . قال له سليمان : لقد أسرعت إن فعلت ذلك ، فدعا بالاسم الأعظم ، فإذا بالسرير قد ظهر بين يدي سليمان { فَلَمَّا رَءاهُ } أي : رأى سليمان السرير { مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أي : موجوداً عنده { قَالَ } سليمان { هذا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى } يعني : ليختبرني { شَكَرَ } هذه النعمة { أَمْ أَكْفُرُ } نعم الله تعالى إذا رأيت من دوني هو أعلم مني . قال مقاتل : فلما رفع رأسه قال : الحمد لله الذي جعل في أهلي من يدعوه ، فيستجيب له { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } يعني : يفعل لنفسه ، لأنه يعود إليه حيث يستجيب المزيد من الله تعالى { وَمَن كَفَرَ } النعم يعني : ترك الشكر { فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ } عن شكر العباد { كَرِيمٌ } في الإفضال على من شكره بالنعمة . ويقال : كريم لمن شكر من عباده . ويقال : لما رأى آصف السرير مستقراً عنده خرج من فضل نفسه ، ورجع إلى فضل الله ، ورأى الحول والقوة لله تعالى ، فقال : هذا من فضل ربي لا من فضل نفسي ، ولو لم يقل من فضل ربي لسقط عن المنزلة أسرع من إتيان السرير حيث قال : { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن } حيث شهر نفسه بالفضيلة . ويقال : { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن } . يعني : بالله آتيك لا بالمدة والحيلة؛ فأسقط الحول والقوة عن نفسه ، وسلم الأمر إلى الله . فقال : { هذا مِن فَضْلِ رَبّى } ، فلما رأى سليمان السرير عنده علم أن هذا ليس من قوة جلسائه ، إنما هو من صنع ربه .

قوله عز وجل : { قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } يعني : قال سليمان عليه السلام : غيّروا لها عرشها عن صورته ، والتنكير هو التغيير يقال : نكرته فنكر ، أي غيرته ، فتغير .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : التنكير أن يزاد فيه أو ينقص منه يعني : زيدوا في سريرها ، وانقصوا منه ، حتى نرى أنها تعرف سريرها أم لا ، وذلك قوله : { نَنظُرْ أَتَهْتَدِى } يعني : أتعلم أنه عرشها { أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } يعني : لا يعلمون يقال : إنه جعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه . ويقال : إنه أمر بذلك ، لأن الجن قالوا لسليمان عليه السلام في عقلها شيء من النقصان ، فأراد سليمان أن يمتحن عقلها ، فأمر بأن يغير السرير ، ويسألها عن ذلك .

فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله : { فَلَمَّا جَاءتْ } يعني : بلقيس وجلست على السرير { قِيلَ } لها { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } يعني : أهكذا سريرك { قَالَتْ } بلقيس { كَأَنَّهُ هُوَ } شبهته به قال مقاتل : شبهوا عليها ، فشبهت عليهم ، ولو قيل لها أهذا عرشك؟ لقالت : نعم . ويقال : إنها شكت في ذلك ، لأنها تركت سريرها في سبعة أبيات مقفلة أبوابها ، ومفاتيح الأقفال بيدها . فقال سليمان : { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } يعني : حمد الله على ما أعطاه من إِتيان السرير وحضورها ، وعلى ما أعطاه قبل إتيانها من النبوة والإسلام ، فقال : { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } . يعني : أعطينا العلم من قبل مجيئها . ويقال : أعطينا علم ملكها وعرشها من قبل مجيئها { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } يعني : مخلصين لله تعالى . ويقال : مسلمين منقادين له . قوله عز وجل : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } يعني : عبادتها التي كانت تعبد الشمس منعها عن الإسلام . ويقال : معناه صدها إبليس عن الإيمان ، فتكون { مَا } ها هنا بمعنى الفاعل . ويقال : ما هنا بمعنى المفعول ، فكأنه يقول صدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله ، كرجل يقول : منعت فلاناً الماء ، يعني : عن الماء .
ويقال معناه : أن الله تعالى صدّها عما كانت تعبد من دون الله ، ووفقها للإسلام . ويقال : صدها عن الإسلام العبادة التي كانت تعبدها ، لأنها نشأت على ذلك وربيت ، ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشمس ثم قال : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } أي : من قوم جاحدين لله تعالى . قوله عز وجل : { قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح } يعني : القصر ، وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن : لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب ، فلو اجتمع سليمان وهذه ، وما عندها من العلم لهلكنا ، وخشوا أن يتزوجها ، ويكون بينهما ولد ، فيرث الملك فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد فأرادوا إن يبغضوها إلى سليمان فقالوا إن رجليها شعراوان وقال مقاتل كانت أمها جنية وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت أمها جنية وكانت شعراء . وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الجن ليسوا من جنس الآدميين فلا يكون بينهما شهوة ونسل وقد قال الله تعالى { ياأيها الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] . يعني : آدم وحواء عليهما السلام فلا يجوز أن يكون النسل من غيرهما ويقال إنهم قالوا لسليمان إن رجلها تشبه حافر الدواب فأراد سليمان أن ينظر إلى رجليها فأمر بأن يوضع سريرها في الصرح المبني من القوارير يعني : من الزجاج وجعل تحت الصرح الماء فيه السمك فجلس سليمان على سريره في الصرح ومقدميه ثم أمر بلقيس بأن تدخل الصرح { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي فلما جاءت إلى الصرح رأت ما فيه من السمك حسبته لجة أي ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان فأرادت أن تخوض في الماء فشمرت ثيابها { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } فنظر سليمان إلى ساقيها وكانت شعراً فاستشار سليمان الإنس في ذلك فأشاروا عليه بالموسى فقال سليمان الموسى تخدش ساقيها فاستشار الجن فأشاروا عليه بالنورة فأصل النورة من ذلك الوقت وروي أن سليمان ما نظر إلى ساق أحسن من ساقيها ولا خلاف بين الروايتين لأنه يكون أحسن الساقين شعراوين وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا أحسن ساقين أم بلقيس فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)

قوله عز وجل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا أَنِ اعبدوا الله } يعني : أمرهم بأن يعبدوا الله ويطيعوه ويوحدوه { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } يعني : مؤمنون وكافرون فإذا قوم صالح مؤمن وكافر يختصمون يقول كل فريق الحق معي وقد ذكرنا خصومتهم في سورة الأعراف وهي قوله : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 75 ] الآية فطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح العذاب ، { قَالَ } لهم صالح عليه السلام { قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة } ، أي : بالعذاب { قَبْلَ الحسنة } ، يعني : العافية . ويقال : التوبة وهو قولهم : يا صالح إن كان ما أتيت به حقاً ، فأتنا بما تعدنا من العذاب . ثم قال : { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله } يعني : لكي تُرحموا ، فلا تعذبوا .
قوله عز وجل : { قَالُواْ اطيرنا بِكَ } وأصله تطيرنا بك يعني : تشاءمنا بك . { وَبِمَن مَّعَكَ } ، وذلك أنه قد أصابهم القحط بتكذيبهم إياه . فقالوا : هذا الذي أصابنا بشؤمك وشؤم أصحابك { قَالَ } : لهم صالح { طَائِرُكُمْ عِندَ الله } ، يعني : ما أصابكم ، فمن الله ويقال : هذا الذي يصيبكم هو مكتوب عند الله ، ويقال : خيركم وشركم ورخاؤكم وشدتكم من عند الله عليكم بفعلكم . ويقال : عقوبتكم عند الله { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } ، أي : تبتلون بذنوبكم ويقال : تختبرون بالخير والشر ، وأصل الفتنة هي الاختبار ويقال : فتنت الذهب بالنار ، لينظر إلى جودته قوله عز وجل : { وَكَانَ فِى المدينة } ، يعني : في قرية صالح ، وهي الحجر { تِسْعَةُ رَهْطٍ } ، كانوا أغنياء قوم صالح { يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يُصْلِحُونَ } ، يعني : يعملون بالمعاصي في أرض قريتهم ، ولا يصلحون ، أي لا يطيعون الله تعالى فيها ، ولا يتوبون من المعصية ، ولا يأمرون بها ، فسأل قوم صالح منه ناقة ، فصارت الناقة بلية لهم ، فكانت تأتي مراعيهم ، فتأكل جميع ما فيها ، فتنفر منها دوابهم ، وتشرب ماء ، بئرهم العذب الذي يشربون منه ، فجعلوا نيابة لشرب الماء ، اللبن ، فتشرب ذلك اليوم الماء كله ، وتسقيهم اللبن ، حتى يرووا ، فجاء هؤلاء التسعة ، وفيهم قدار بن سالف عاقر الناقة . وكان ابن زانية أحمر أزرق ، ومصدع بن دهر وكانا قد قعدوا لها ، فلما مرت بهما ، رماها مصدع بسهم ثم قال : يا قدار اضرب ، فضرب عرقوبها فعقروها ، ثم سلخوها ، واقتسموا لحمها ، فأوعدهم الله الهلاك ، وبيّن لهم العلامة ، بتغيير ألوانهم ، فاجتمعوا التسعة { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله } ، يعني : تحالفوا بالله { لَنُبَيّتَنَّهُ } ، قرأ حمزة والكسائي بالتاء وضم التاء الثاني { وَأَهْلَهُ ثُمَّ } ، بالتاء وضم اللام والباقون بالنون ، ونصب التاء ، { وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ } بالنون ونصب اللام ، فمن قرأ : بالنون جعل تقاسموا خبراً ، فكأنهم قالوا : متقاسمين فيما بينهم ، { لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي : لنقتلنه وعياله . ويقال : { وَأَهْلَهُ } يعني : ومن آمن معه ، ومن قرأ بالتاء ، فمعناه : جعل تقاسموا أمراً فكان أمر بعضهم بعضاً وقال بعضهم لبعض : تحالفوا { لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ } { لِوَلِيّهِ } ، يعني : لولي صالح إن سألونا فنقول { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } يعني : إهلاك أهله وقومه . ويقال : ما حضرنا عند إهلاك أهله ، { وِإِنَّا لصادقون } ، يعني : إنا لصادقون بما نقول لهم . ويقال : معناه إنا لصادقون عندهم ، فيصدقونا إذا أخرجنا من بيوتنا .

وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

قوله عز وجل : { وَمَكَرُواْ مَكْراً } يعني : أرادوا قتل صالح { وَمَكَرْنَا مَكْراً } ، يعني : جثم عليهم الجبل ، فماتوا كلهم ويقال : رجمتهم الملائكة عليهم السلام بالحجارة ، فماتوا فذلك قوله تعالى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً } أي : أرادوا قتل صالح ، { وَمَكَرْنَا مَكْراً } يعني : أراد الله عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ، بأن الملائكة يحرسون صالحاً في داره . قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { مُهْلِكَ } بنصب الميم واللام ، وفي رواية حفص { مُهْلِكَ } بنصب الميم وكسر اللام .
وقرأ الباقون : بضم الميم ، ونصب اللام .
ثم قال : { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ } يعني : جزاء مكرهم { أَنَّا دمرناهم } قرأ عاصم وحمزة والكسائي أنا بالنصب ، وقرأ الباقون بكسر الألف ، فمن قرأ بالنصب ، فمعناه فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ، لأنا دمرناهم ويجوز أن يكون خبر كان ومن قرأ : بالكسر لأنه لما قال ، { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ } . يعني : إيش كان عاقبة مكرهم ، ثم فسر فقال : إنا دمرناهم على وجه الاستئناف ، { وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } ، يعني : أهلكناهم بصيحة جبريل عليه السلام . ويقال : خرجت النار من تحت أرجلهم وأحرقتهم . ويقال : إنهم خرجوا ليلاً لإهلاك صالح ، فدمغتهم الملائكة بأحجار من حيث لا يرونهم ، فقتلوهم ، وقومهم أجمعين .
قوله عز وجل : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } يعني : خالية من الناس . ويقال : بيوتهم خاوية . يعني : مساكنهم خربة ساقطة ، { بِمَا ظَلَمُواْ } أي : أشركوا . ويقال : بكفرهم بالله تعالى صارت خاوية نصباً على الحال . يعني : فانظر إلى بيوتهم خاوية ، وقرىء في الشاذ خاوية بالضم ، على معنى النعت ، للبيوت ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : في إهلاكهم ، وفيما أصابهم لغيره لمن بعدهم { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، يعني : يعقلون ويصدقون ، { وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ } ، يعني : صدقوا صالحاً برسالته ، { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الشرك والفواحش .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

قوله عز وجل : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يعني : وأرسلنا لوطاً عطفاً على قوله ، { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ } ويقال معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه يعني : حين قال لقومه . قوله عز وجل { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال * شَهْوَةً } يعني : تجامعون الرجال شهوة منكم { مّن دُونِ النساء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي جاهلون { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } وإنما نصب الجواب ، لأنه خبر كان واسمه { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن } يعني : يتنزهون ويقذروننا بهذا الفعل ، وإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن أعمالنا . قال الله تعالى : { فأنجيناه وَأَهْلَهُ } يعني : ابنتيه ريثا وزعورا { إِلاَّ امرأته } لم ننجها من العذاب { قدرناها } أي : تركناها { مِنَ الغابرين } أي : من الباقين في العذاب . ويقال : قضينا عليها أنها من الباقين في العذاب قوله عز وجل : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } يعني : الحجارة { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } يعني : بئس مطر من أنذرتهم الرسل ، فلم يؤمنوا . ثم قال عز وجل : { قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ } قال بعضهم : معناه قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم { قُلِ الحمد لِلَّهِ } وقال بعضهم : معناه الحمد لله على هلاك كفار الأمم الماضية . يعني : ما ذكر في هذه السورة من هلاك فرعون وقومه ، وثمود وقوم لوط . ويقال : قال : الحمد لله الذي علمك ، وبيّن لك هذا الأمر . ويقال : إن هذا كان للوط حين أنجاه ، أمره بأن يحمد الله تعالى . ثم قال : { وسلام على عِبَادِهِ } يعني : المرسلين { الذين اصطفى } يعني : اختارهم الله تعالى للرسالة والنبوة .
وروي عن مجاهد أنه قال : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال مقاتل . وقال سفيان الثوري : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال : { الله خَيْرٌ *** أَمَّا يُشْرِكُونَ } يعني : الله تعالى أفضل أم الآلهة التي تعبدونها ، اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التقرير يعني : الله تعالى خير لهم مما يشركون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال : « بل الله خير وأبقى ، وأجل وأكرم » ويقال : معناه أعبادة الله خير أم عبادة ما يشركون به من الأوثان . وقال القتبي : { الله خَيْرًا * أَمَّا يُشْرِكُونَ } . يعني : أم من يشركون؟ فتكون ما مكان من كما قال : { والسمآء وَمَا بناها } [ الشمس : 5 ] يعني : ومن بناها { وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى } [ الليل : 3 ] يعني : ومن خلق .

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

ثم قال عز وجل : { أَمَّنْ خَلَقَ السموات والارض **وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء } يعني : المطر { فَأَنبَتْنَا بِهِ } يعني : بالمطر { حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } يعني : البساتين واحدها حديقة ، وإنما سميت حديقة لأنها محاطة بالحيطان . وقال بعضهم : إذا كانت ذا شجر يقال لها : حديقة سواء كان لها حائط ، أو لا { ذَاتَ بَهْجَةٍ } ، يعني : ذات حسن { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } يعني : ما كان لمعبودكم قوة . ويقال : ما كان ينبغي لكم أن تنبتوا شجرها . ويقال : ما قدرتم عليه ، وقرأ أبو عمرو وعاصم : أما يشركون بالياء على معنى الخبر . وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { قدرناها } بتخفيف الدال ، والباقون بالتشديد . ثم قال : { مَّعَ الله بَلْ } يعينه على صنعه اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإنكار والزجر { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } يعني : يشركون الأصنام ثم قال عز وجل : { أَمَّن جَعَلَ الارض قَرَاراً } يعني : مستقراً لا تميد بأهلها . ويقال : قراراً أي سكناً لأهلها { وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً } أي : فجر بسواد الأرض أنهاراً . ويقال : شقّ بينهما أنهاراً { وَجَعَلَ لَهَا } أي خلق لها { رَوَاسِىَ } أي : خلق للأرض الجبال الثوابت { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً } يعني : العذب والمالح حاجزاً يعني : ستراً مانعاً بقدرته لا يختلطان بعضهما في بعض { مَّعَ الله بَلْ } يعينه على صنعه { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : ولكن أكثرهم لا يعلمون بتوحيد الله عز وجل { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } يعني : أمن يستجيب في البلاء للمضْطَّر إذا دعاه { وَيَكْشِفُ السوء } يعني : ومن يكشف الضر { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الارض } يعني : سكان الأرض بعد هلاك أهلها { مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن } قرأ أبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين بالياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون { تَذَكَّرُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال . وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية قالون : { مَّعَ الله بَلْ } بالهمز والمد . وقرأ الباقون : بغير مد بهمزتين .
ثم قال عز وجل : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر } يعني من يرشدكم في أهوال البر والبحر . { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } يعني : قدام المطر { مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن } أي : تعظم الله عما يشركون { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ } يعني : خلقهم ، ولم يكونوا شيئاً ، ثم يعيدهم في الآخرة { وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء } يعني : المطر { والارض } يعني : النبات { مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن } يعني : حجتكم وعلتكم ، بأنه صنع شيئاً من هذا غير الله { إِن كُنتُمْ صادقين } بأن مع الله آلهة أخرى { قُلْ } يا محمد لكفار مكة { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والارض } من الملائكة والناس { الغيب إِلاَّ الله } يعني : متى تقوم الساعة إلا الله رفع على معنى البدل ، فكأنه يقول : لا يعلم أحد الغيب إلا الله ، أي لا يعلم ذلك إلا الله { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } يعني : متى يبعثون ومتى يبعثون قوله عز وجل : { بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ادرك } .

قرأ الباقون { أَدْرَاكَ } بالألف ، فمن قرأ أدرك ، فمعناه أدرك علمهم علم الآخرة .
وروي عن السدي قال : اجتمع علمهم يوم القيامة ، فلم يشكوا ، ولم يختلفوا ويقال : معناه علموا في الآخرة أن الذين كانوا يوعدون حق ، ولا ينفعهم ذلك . ومن قرأ { أَدْرَاكَ } فأصله تدارك فأدغم التاء في الدال ، وشددت وأدخلت ألف الوصل ، ليسلم السكون للدال ، ومعناه تتابع علمهم ، أي حكمهم على الآخرة ، واستعمالهم الظنون في علم الآخرة ، فهم يقولون تارة : إنها تكون ، وتارة لا تكون الساعة .
ويقال : معناه تدارك ، أي تكامل علمهم يوم القيامة بأنهم يبعثون ، ويشاهدون ما وعدوا { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا } أي : من قيام الساعة في الدنيا { بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } يعني : يتعامون عن قيامها . ويقال : بل هم منها عمون ، أي من علمها جاهلون .
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ، { بَلِ *** أَدْرَاكَ } وهذه القراءة أشد إيضاحاً ، للمعنى الذي ذكرناه .
ثم حكى قول الكفار فقال عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ } يعني : أحياء من القبور { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا } يعني : هذا الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم : { نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا } الذي يقول { إِلاَّ أساطير الاولين } يعني : أحاديث الأولين وكذبهم ، مثل حديث رستم واسفنديار . ويقال : إن هذا إلاَّ مثل رسل الأولين مما كذبوا .

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

قوله عز وجل : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ } يعني : فاعتبروا { كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } يعني : آخر أمر المشركين { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } إن لم يؤمنوا ، بل ويقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على تكذيبهم وإعراضهم عنك { وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ } يعني : لا يضيق صدرك { مّمَّا يَمْكُرُونَ } يعني : بما يقولون من التكذيب . ويقال : ولا يضيق قلبك بمكرهم { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي : وعد العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } أن العذاب نازل بالمكذب . ويقال : ولا تكن في ضيق مما يمكرون . بقولهم : فهذا دأبنا ودأبك أيام الموسم ، وهم الخراصون ، فكانوا يأمرون أهل الموسم ، بأن لا يسمعوا كلامه ، ثم قال عز وجل : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } يعني : قرب وحضر لكم . قال القتبي : أي تبعكم واللام زائدة ، فكأنه قال : ردفكم قال وقيل في التفسير دنا منكم { بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } من العذاب ، وهو عذاب القبر . ويقال : يعني : القحط . ويقال : يوم بدر { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حين لم يأخذهم بالعذاب عند معصيتهم { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } بتأخير العذاب عنهم حتى يتوبوا { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } يعني : ما تسر قلوبهم من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم { وَمَا يُعْلِنُونَ } بألسنتهم من الكفر والشرك .
قوله عز وجل { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ } يعني : من أمر العذاب . ويقال : ما من شيء غائب عن العباد { فِي السموات *** والارض إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } يعني : مكتوب في اللوح المحفوظ . ويقال : أي جملة غائبة عن الخلق إلا في كتاب مبين { إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل } قال مقاتل : يعني : أن هذا القرآن يبين للناس أهل الكتاب { أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } يعني : اختلافهم وقال ابن عباس : إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم ، فصاروا أهواءً وأحزاباً يطعن بعضهم على بعض ، ويبرأ بعضهم من بعض ، فنزل القرآن بتبيان ما اختلفوا فيه . ثم قال عز وجل : { وَأَنَّهُ } يعني : القرآن { لَهَدَى } يعني : لبياناً من الضلالة { وَرَحْمَةً } من العذاب { لِلْمُؤْمِنِينَ *** إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم } يعني : بين المختلفين في الدين { بِحُكْمِهِ } أي : بقضائه يوم القيامة { وَهُوَ العزيز } يعني : المنيع بالنقمة . ويقال : العزيز يعني : القوي فلا يرد له أمر { العليم } بأحوال خلقه سبحانه { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } يعني : ثق بالله . ويقال : فوّض أمرك إلى الله { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } يعني : الدين المبين ، وهو الإسلام .
ثم قال عز وجل : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } فهذا مثل ضربه للكفار ، أي فكما أنك لا تسمع الموتى ، فكذلك لا تتفقه كفار مكة { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } قرأ ابن كثير { وَلاَ يَسْمَعُ } بالياء والنصب ، و { الصم } بالرفع ، والباقون بالتاء وضم التاء وكسر الميم ، والصَّم بالنصب ، فمن قرأ بالياء فلا يسمع ، فالفعل للصم ، ومن قرأ بالتاء ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لا تسمع الصم الدعاء { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } يعني : أعرضوا عن الحق مكذبين قوله عز وجل : { وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم } قرأ حمزة { تَهْدِى العمى } بغير ألف وقرأ الباقون بالألف ، فمن قرأ تهدي ، فمعناه ما أنت يا محمد بالذي تهدي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا ، ولكن عليك الدعاء ، ويهدي الله من يشاء ، ومن قرأ { بِهَادِى } فإن الباء دخلت لتأكيد النفي ، كقولك ما أنت بعالم ، فالياء لتأكيد النفي ، وخفض العمي للإضافة ثم قال : { وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم } يعني : لا تسمع الهدى إلا من صدق بالقرآن أنه من الله تعالى .

ويقال : بآياتنا يعني : أدلتنا { فَهُم مُّسْلِمُونَ } يعني : مخلصون مقرون بها . ويقال : مسلمون في علم الله تعالى .

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

قوله عز وجل : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } يعني : إذا وجب عليهم العذاب والسخط وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانه ، ولم يبق إلا من يموت كافراً في علم الله تعالى { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الارض تُكَلّمُهُمْ } بما يسوءهم يعني : الدابة التي تكلم الناس ، وخروجها من أول أشراط الساعة . { إِنَّ الناس } قرأ عاصم وحمزة والكسائي { ءانٍ } بالنصب . وقرأ الباقون بالكسر ، فمن قرأ بالنصب يكون حكاية قول الدابة . ومعناه : تكلمهم بأن الناس { كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ } أي : لا يؤمنون بآيات ربهم وهو خروج الدابة ، ومن قرأ بالكسر يكون بمعنى الابتداء ، ويتم الكلام عند قوله تكلمهم . ثم يقول الله تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ } يعني : لا يؤمنون . قال أبو عبيد حدّثنا هشام عن المغيرة أن أبا زرعة بن عمر وابن عباس ، قرأها { تُكَلّمُهُمْ } بنصب التاء ، وكسر اللام ، وبسكون الكاف ، والتخفيف يعني : تسمهم ، فيتبين الكافر من المؤمن قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : وحدثني الثقة عن أبي بكر الواسطي ، عن إبراهيم بن يوسف ، عن محمد بن الفضل الضبي ، عن أبيه عن سعيد بن مسروق ، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال ألا أريكم المكان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم تخرج الدابة منه فضرب بعصاه قبل الشق الذي في الصفا وقال : إنها ذات زغب وريش ، وإنها لتخرج تلبها أول ما تخرج ، كحضر الفرس الجواد ثلاثة أيام ولياليهن ، وإنها لتدخل عليهم؛ وإنهم ليفرون منها إلى المساجد ، فتقول : أترون أن المساجد تنجيكم مني .
وروى مقاتل قال : تخرج الدابة من الصفا ، ولا يخرج إلا رأسها وعنقها ، فتبلغ رأسها السحاب ، فيراه أهل المشرق والمغرب ، ثم تقاد إلى مكانها ، ثم تزلزل الأرض في ذلك اليوم في ست ساعات ، فيمسون خائفين ، فإذا أصبحوا جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج .
وروي عن أبي هريرة أنه قال : تخرج الدابة ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بعصا موسى ، وتختم وجه الكافر بخاتم سليمان ثم تقول لهم : يا فلان أنت من أهل الجنة ، ويا فلان أنت من أهل النار ، فترى أهل البيت مجتمعين على خوانهم يقول لهذا يا مؤمن ، ولهذا يا كافر .
وروى ابن جريج عن أبي الزبير قال : رأسها رأس ثور ، وعيناها عينا خنزير ، وأذناها أذنا فيل ، وقرناها أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرة ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين منها اثني عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام تخرج ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فتنكت على وجه المؤمن حتى يبيض ، وتختم على وجه الكافر بخاتم سليمان حتى يسود ، فيعرف المؤمن من الكافر .
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء ، فتفشو في وجهه حتى يبيض وجهه ، ويتابعون في الأسواق ، فيعرفون المؤمن من الكافر .

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً } يعني : نوجب عليهم العذاب في يوم نحصر من كل أمة فوجاً . يعني : من أهل كل دين جماعة . ويقال : { يَوْمَ نَحْشُرُ } يعني : نجمع من كل أمة فوجاً يعني : جماعة { مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا فَهُمْ يُوزَعُونَ } يعني : يحبس أولهم لآخرهم يجتمعوا { حتى إِذَا } يعني : اجتمعوا للحشر { جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بئاياتى } يعني : قال الله تعالى لهم أكذبتم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؟ اللفظ لفظ الاستفهام . والمراد به التقرير . يعني : قد كذبتم بآياتنا { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } اللفظ لفظ النفي ، والمراد به المناقشة في الحساب . يعني : كذبتم كأنكم لم تعلموا . ويقال : لم تعرفوها حق معرفتها ثم قال : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } اللفظ لفظ السؤال ، والمراد به التوبيخ ، ومعناه : ماذا كنتم تعملون أن تؤمنوا بالكتاب والرسل؟ يعني : أي عمل منعكم من ذلك { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } يعني : نزل عليهم العذاب ، ووجب عليهم { بِمَا ظَلَمُواْ } يعني : بما أشركوا { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } يعني : لا يمكنهم أن يتكلموا من الهيبة لما ظهر لهم من المعاينة ، ولما تحيروا في ذلك .
ثم وعظ كفار مكة فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ } يعني : ألم يعتبروا { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } يعني : مضيئاً ، وأضاف الفعل إلى النهار ، لأن الكلام يخرج مخرج الفاعل ، إذا كان هو سبباً للفعل . كما قال : { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الاغلال فى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 33 ] { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : فيما ذكر من الليل والنهار ، لعبرات لقوم يصدقون بتوحيد الله تعالى .

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

وقال عز وجل { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } أي : واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور { فَفَزِعَ مَن فِى *** السموات **وَمَن فِى الارض } أي : من شدة الصوت والفزع . ويقال : ماتوا . وقال بعضهم : النفخ ثلاثة : أحدها الفزع وهو قوله : { فَفَزِعَ مَن فِى *** السموات } ونفخة أخرى للموت . وهو قوله : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ونفخة للبعث وهي قوله { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] وقال بعضهم : إنما هما نفختان والفزع والصعق كناية عن الهلاك ، ثم نفخة للبعث { إِلاَّ مَن شَاء الله } يعني : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، ثم يموتوا بعد ذلك { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } .
روى سفيان بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ } بغير مد ونصب التاء ، وهي قراءة حمزة وعاصم في رواية حفص . والباقون بالمد والضم . ومن قرأ بالمد وضم التاء ، فمعناه كل حاضروه { داخرين } أي : صاغرين . ويقال : متواضعين . ومن قرأ بغير مد يعني : يأتوا الله { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي : تحسبها واقفة مكانها ويقال : مستقرة { وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } حتى تقع على الأرض فتستوي ، أي في أعين الناظرين كأنها واقفة . قال القتبي : وكذلك كل عسكر غض به الفضاء ، فينظر الناظر ، فيرى أنها واقفة وهي تسير { صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } يعني : أحكم خلق كل شيء . ويقال : الشيء المتقن أن يكون وثيقاً ثابتاً ، فما كان من صنع غيره يكون واهياً ، ولا يكون متقناً { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : عليم بما فعلتم { مَن جَاء بالحسنة } أي : بالإيمان والتوحيد ، وكلمة الإخلاص ، وشهادة أن لا إله إلا الله { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } على وجه التقديم ، وله منها خير أي : حين ينال بها الثواب والجنة . ويقال : فله خير منها . أي : خير من الحسنة . يعني : أكثر منها للواحد عشرة . ويقال : فله خير منها من الحسنة ، وهي الجنة ، لأن الجنة هي عطاؤه وفضله ، والعمل هو اكتساب العبد ، فما كان من فضله وعطائه ، فهو أفضل ، وهذا تفسير المعتزلة ، والأول قول المفسرين . { وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ } أي : من فزع يوم القيامة . قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع في رواية ورش { مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } بغير تنوين ، { وَيَوْمَئِذٍ } بكسر الميم ، والباقون بالتنوين ، ونصب الميم . قال أبو عبيد : وبالإضافة نقرأ ، لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع ، فزع ذلك اليوم ، وإذا قال : فزع بالتنوين ، صار كأنه قال : فزع دون فزع .

وقال غيره : إنما أراد به الأكبر ، لأن بعض الأفزاع تصيب الجميع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا *** يَفْعَلُونَ } بالياء على معنى الإخبار عنهم ، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة { وَمَن جَاء بالسيئة } أي بالشرك { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار } ويقال : يكبون على وجوههم ، ويجرون إلى النار ، وتقول لهم خزنة النار : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الشرك ويقال : فكبت أي : ألقيت وطرحت { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة } أي : قل يا محمد لأهل مكة : أمرني الله تعالى أن أستقيم على عبادة رب هذه البلدة . يعني : مكة الذي حرمها بدعاء إبراهيم عليه السلام وحرم فيها القتل والصيد . قال بعضهم : كان حراماً أبداً . قال بعضهم : وهو أصح إن إبراهيم لما دعا ، فجعلها الله حراماً بدعوته .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَأَنَا حَرَّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْهَا » . ثم روي أنه قد رخص في المدينة ثم قال تعالى : { وَلَهُ كُلُّ شَىء } أي وخلق كل شيء ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } ، أي : من المخلصين { وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان } يعني : أمرت أن أقرأ عليكم القرآن يا أهل مكة { فَمَنُ اهتدى } أي : آمن بالقرآن { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } أي : يؤمن لنفسه ويثاب عليها { وَمَن ضَلَّ } ولم يوحد ، ولم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين } أي : من المخوفين ومن المرسلين ، فليس عليَّ إلا تبليغ الرسالة { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } يعني : الشكر لله على ما هداني { سَيُرِيكُمْ } أيها المشركون آياته . يعني : العذاب في الدنيا { فَتَعْرِفُونَهَا } أنها حق ، وذلك أنه أخبرهم بالعذاب ، فكذبوه فأخبرهم أنهم يعرفونها أنها حق ، وذلك إذا نزل بهم ، وهو القحط والقتل . ويقال : هو فتح مكة { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } فهذا وعيد للظالم ، وتعزية للمظلوم . وقال الزجاج في قوله : { سَيُرِيكُمْ ءاياته } أي : سيريكم الله آياته في جميع ما خلق ، وفي أنفسكم . قرأ نافع وعاصم في رواية حفص ، وابن عامر في إحدى الروايتين { تَعْمَلُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنه ، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

قوله تعالى : { طسم تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } أي : القرآن وهو مبين للأحكام ، وقد ذكرناه قال أبو سعيد الفاريابي في قوله تعالى طا قال : هو طاهر عما يعلوه ، والسين سامع لما وصفوه ، والميم ماجد حين سألوه ، والماجد كثير العطاء . ويقال : أمجدني فلان إذا أكثر إعطاؤه . ويقال : طا أي أقسم الله بطالوت ، وسين أقسم الله بسليمان ، وميم أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم . { نَتْلُواْ عَلَيْكَ } يعني : ننزل عليك جبريل عليه السلام ، يقرأ عليك { مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق } أي : من خبر موسى وفرعون بالصدق { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، وإنما أنزل القرآن لجميع الناس ولكن المؤمنين هم الذين يصدقون ، فكأنه لهم ، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذونهم المشركون ، فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه السورة في شأنهم ، لكي يعرفوا ما نزل في بني إسرائيل من فرعون وقومه ، ليصبروا كصبرهم ، وينجيهم ربهم كما أنجا بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وهذا كقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] الآية .
ثم أخبر عن فرعون فقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض } يعني : اسْتَكْبَرَ وتعظم عن الإيمان ، وخالف أمر موسى في أرض مصر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } يعني : أهل مصر فرقاً { يَسْتَضْعِفُ } يعني : يستقهر { طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } يعني : من أهل مصر ، وهم بنو إسرائيل ، فجعل بعضهم ينقل الحجارة من الجبل ، وبعضهم يعملون له عمل النجارة ، وبعضهم أعمال الطين ، ومن كان لا يصلح لشيء من أعماله يأخذ منه كل يوم ضريبة درهماً ، فإذا غابت الشمس ، ولم يأت بالضريبة غلت يده اليمنى إلى عنقه ، ويأمره بأن يعمل بشماله ، هكذا شهراً . ثم قال : { يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ } أي يعني : أبناء بني إسرائيل صغاراً . { إِنَّ فِرْعَوْنَ } يعني : يستخدم نساءهم ، وأصله من الاستحياء . يعني : يتركهن أحياء .
وروى أسباط عن السدي قال : بلغنا أن فرعون رأى فيما يرى النائم ، كأن ناراً أقبلت من أرض الشام ، فاشتملت على بيوت مصر ، وكانت الشام أرض بني إسرائيل أول ما كانوا ، فأحرقتها كلها إلا بيوت بني إسرائيل ، فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا : يولد في بني إسرائيل مولود ، يكون على يديه هلاك أهل مصر ، فأمر فرعون بأن لا يولد في بني إسرائيل ذكر إلا ذبح ، وعمد إلى ما كان من بني إسرائيل خارج مصر ، فأدخلهم المدينة ، واستعبدهم ، ورفع العمل عن رقاب أهل مصر ، ووضعه على بني إسرائيل ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } يعني : فرعون كان يعمل بالمعاصي .

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

قوله عز وجل : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض } يعني : أردنا أن نمن بالنجاة على الذين استضعفوا في الأرض ، وهم بنو إسرائيل { نَّمُنَّ } يعني : ننعم عليهم { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } يعني : قادة في الخير { وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } يعني : أرض مصر ، وملك فرعون ، وقومه بعد هلاك فرعون . { وَنُمَكّنَ لَهُمْ } يعني : نملكهم ويقال : ننزلهم في الأرض { فِى الارض } يعني : في أرض مصر { وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان } قرأ حمزة والكسائي { وَيَرَى } بالياء والنصب ، و { فِرْعَوْنَ وهامان } { وَجُنُودَهُمَا } بالرفع ، كل ذلك قرأ . والباقون { وَنُرِىَ } بالنون والضم و { فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا } كلها بالنصب ونصب نرى ، لأنه معطوف على قوله : { أَن نَّمُنَّ } ، فكأنه قال أن نمن وأن نري ، ونصب فرعون لوقوع الفعل عليه . ومن قرأ بالياء رفعه ، لأن الفعل منه ثم قال : وهامان وجنودها { مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } يعني : يرون ما كانوا يخافون من ذهاب الملك . وقوله عز وجل : { وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } يعني : أَلْهمنا أم موسى { أَنْ أَرْضِعِيهِ } وذلك : أن أم موسى حبلت ، فلم يظهر بها أثر الحبل حتى ولدت موسى وأرضعته ثلاثة أشهر أو أكثر ، فألهمها الله تعالى بقوله : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يعني : إلى صباحه { فَأَلْقِيهِ فِى اليم } يعني : في البحر قال مقاتل وهو النيل فعلمها جبريل . ويقال : رأت في المنام بأنها تؤمر أن تلقيه في البحر . ويقال : كان هذا إلهاماً . ويقال : كانت دلالة حيث علمت بالرؤيا أو شيء خيل لها أن تفعل ما فعلت ، كما أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ذبح إسحاق وإسماعيل عليهما السلام وذكر أنها كانت تخبز يوماً ، وكان موسى عليه السلام على رأس التنور ، إذ دخل قوم فرعون يطلبون الولد ، فوضعته في التنور ، فدخلوا فلم يجدوا موسى عليه السلام فجاءت إلى التنور ، فوجدته يلعب بأصابعه في الأرض ، فاستيقنت أن الله تعالى يحفظه ، فجعلته في التابوت ، وألقته في النيل ، ثم قال : { وَلاَ تَخَافِى } الغرق { وَلاَ تَحْزَنِى } أن لا يرد إليك { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين } يعني : رسولاً إلى فرعون وقومه ، فلما ألقته في النيل جاء به الماء ، وكان ممر الماء في دار فرعون ، فوجدته جواري فرعون بين الماء والشجر ، فمن ثم سمي موسى بلفظ القبط موسى ، فذلك قوله تعالى : { فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } يعني : إن أخذهم إياه كان سبباً لحزنهم ، فكأنهم أخذوه لذلك ، وإنما كان أخذهم لم يكن لذلك . قرأ حمزة والكسائي { وَحَزَناً } بضم الحاء ، وسكون الزاي . وقرأ الباقون بنصب الحاء والزاي ، وهما لغتان : ومعناهما واحد . { إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } يعني : مشركين ويقال : عاصين آثمين .

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)

قوله عز وجل : { وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ } واسمها آسية لفرعون هذا الغلام { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } فإنه آتانا به الماء من مصر آخر ، ومن أرض أخرى ، وليس من بني إسرائيل ويقال : إنها قالت إن هذا كبير ، ومولود قبل هذه المدة التي أخبر لك { عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } فإنه لم يكن له ولد ذكر . قال فرعون : فهو قرة عين لك ، فأما أنا فلا .
وروي عن ابن عباس أنه قال : لو قال فرعون أيضاً : هو قرة عين لي لنفعه الله تعالى به ، ولكنه أبى . ويقال : { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى } ، وقد تمّ الكلام . ثم قالت : { وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } .
قال : وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقف على { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } ثم قال لا تقتلوه ، أي { لاَ تَقْتُلُوهُ } ، فلا الثاني إضمار في الكلام ، والتفسير الأول أصح ثم قال : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم على يديه . ثم قال عز وجل : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } يعني : خالياً من كل ذكر وشغل إلا ذكر موسى عليه السلام . ويقال : صار قلبها فارغاً حين بعثت أخته لتنظر ، فأخبرتها بأنه قد أخذ في دار فرعون ، فسكنت حيث لم يغرق . ويقال : صار قلبها فارغاً ، لأنها علمت أنه لا يقتل .
وروي عن فضالة بن عبيد أنه قرأ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى } يعني : خائفاً . وقراءة العامة { موسى فَارِغاً } ، وتفسيره ما ذكرناه وقد قيل أيضاً : فارغاً من شغل نفقته { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ } يعني : وقد كادت لتظهر به . قال مقاتل : وذلك أنها لما ألقت التابوت في النيل ، فرأت التابوت يدفعه مرة ، ويضعه أخرى ، فخشيت عليه الغرق ، فعند ذلك فزعت عليه ، وكادت أن تصيح ويقال : إنه لما كبر كان الناس يقولون : هو ابن فرعون ، فكأن ذلك شق عليها ، وكادت أن تظهر أن هذا ولدي ، وليس بولد فرعون . ويقال : لما دخل الليل ، دخل الغم في قلبها ، حيث لم تدر أين صار ولدها ، فأرادت أن تظهر ذلك { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } أي : ثبتنا قلبها . ويقال : قوينا قلبها ، وألهمناها الصبر { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } يعني : من المصدقين بوعد الله تعالى حيث وعد لها بإنا رادوه إليك ، فلم تجزع ، ولم تظهر . قوله عز وجل : { وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ } يعني : قالت أم موسى ، لأخت موسى وكان اسم أخته مريم { قُصّيهِ } يعني : اتبعي أثره . ويقال : يعني : امشي بجنبه في الحد ، وهو في الماء حتى تعرف من يأخذه { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } يعني : بصرته عن بعد كما قال { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إحسانا وَبِذِى القربى واليتامى والمساكين والجار ذِى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء : 36 ] يعني : البعيد منهم من قوم آخرين . ويقال : عن جنب يعني : في جنب { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها أخت موسى . ويقال : وهم لا يشعرون يعني : وهم لا يعرفون أنها ترقبه .

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)

قوله عز وجل : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ } أي : من قبل مجيء أمه . ويقال في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن أم موسى عليها السلام . قالت لأخته قصيه : أي اطلبي أثره بعد ما أخذه آل فرعون ، ولم يقبل رضع أحد ، وحرمنا عليه المراضع من قبل مجيء أخته . ويقال : حرمنا عليه المراضع . يعني : منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضع من قبل أن نرده على أمه { فَقَالَتْ } أخته حين تعذر عليهم إرضاعه { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } يعني : يضمنون لكم رضاعه . ويقال : يضمنونه { وَهُمْ لَهُ ناصحون } يعني : مشفقون للولد . ويقال مخلصون شفقة . فقال هامان : خذوها حتى تخبرنا بقصة هذا الغلام ، فأخذت فألهمها الله تعالى أن قالت عند ذلك : إنما ذكرت النصيحة لفرعون أعني : وهم له ناصحون لفرعون لا لغيره . فقال هامان : دعوها ، فقد صدقت ، فأرسل إليها ، فلما جاءت أمه وضعت الثدي في فمه ، فأخذ ثديها ، وسكن فذلك قوله تعالى : { فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : كائن صدق وهو قوله { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بأن وعد الله حق . يعني : أهل مصر .
قوله عز وجل : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } .
ثم قال : قال مجاهد يعني : بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة . { واستوى } يعني : بلغ أربعين سنة . قال : وفي رواية الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة . ويقال : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } يعني : منتهى قوته ، وهو ما فوق الثلاثين ، { واستوى } يعني : بلغ أربعين سنة { اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } يعني : علماً وعقلاً . ويقال : النبوة وعلم التوراة . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : الأشد ثلاثاً وثلاثين سنة ، وأما الاستواء فأربعون سنة ، والعمر الذي أعذر الله تعالى ابن آدم فيه إلى ستين سنة . يعني قوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] ثم قال : { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } يعني : المؤمنين . قوله عز وجل : { وَدَخَلَ المدينة } قال مقاتل : يعني : قرية على رأس فرسخين . وقال غيره : يعني : المصر { على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } يعني : نصف النهار وقت القيلولة . ويقال : ما بين المغرب والعشاء { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ } يعني : من بني إسرائيل { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } يعني : من القبط .
وقال القتبي : { هذا مِن شِيعَتِهِ } أي : من أصحابه ، { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } أي : من أعدائه ، والعدو يدل على الواحد ، والجمع ، وذكر أن خباز فرعون أخذ رجلاً من بني إسرائيل سخرة ، فأمره بأن يحمل الحطب إلى دار فرعون { فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ } يعني : هذا الذي من شيعة موسى استغاث بموسى { عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى } يعني : ضربه بكفه ضربة في صدره .

وقال القتبي : { فَوَكَزَهُ } يعني : لكزه ويقال : لكزته ووكزته إذا دفعته { فقضى عَلَيْهِ } يعني : مات الخباز بضربته ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته ، وقضيت عليه . فمعنى قوله : { فقضى عَلَيْهِ } ، أي : قتله ، ولم يتعمد قتله ، وكان موسى شديد البطش ، ثم ندم على قتله فقال : إني لم أؤمر بالقتل ، وإن كان كافراً { قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } يعني : هو الذي حملني على هذا الفعل { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } يعني : يضل الخلق { مُّبِينٌ } يعني : ظاهر العداوة ، ثم استغفر إلى الله تعالى { فَقَالَ } موسى { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى فَغَفَرَ لَهُ } يعني : غفر الله ذنبه عز وجل { إِنَّهُ هُوَ الغفور } للذنوب لمن تاب { الرحيم } بخلقه

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)

قَالَ موسى { رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } يعني : بالمغفرة كقوله { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] يعني : أما إذا أغويتني ثم قال : { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } يعني : أعوذ بالله أن أكون معيناً للكافرين ، لأن الإسرائيلي كان كافراً ، ولم يستثن على كلامه ، فابتلاه الله عز وجل في اليوم الثاني ، بمثل ذلك ، وكانوا لا يعرفون من قتل خباز الملك ، وكانوا يطلبون قاتله { فَأَصْبَحَ } موسى { فِى المدينة خَائِفاً } أن يؤخذ فيقتل { يَتَرَقَّبُ } يعني : ينطتظر الطلب . ويقال : ينتظر الأخبار { فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ } يعني : رأى الإسرائيلي كان يقاتل مع رجل آخر من القبط يستصرخه يعني : يستغيثه كقوله : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تَلُومُونِى ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] يعني : بمغيثكم { قَالَ لَهُ موسى } يعني : للإسرائيلي { إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } يعني : ضال بيّن ويقال جاهل بين ويقال : ظاهر الغواية ، وقد قتلت لك الأمس رجلاً ، وتدعوني إلى آخر ، ثم أقبل إليه ، فظن الذي من شيعته أنه يريده ، فذلك قوله تعالى : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } يعني : يريد أن يضرب القبطي ، فظن الإسرائيلي أنه يريده بعد ما عاتبه . قرأ أبو جعفر المدني { يَبْطِشَ } بضم الطاء ، وقراءة العامة بالكسر ، ومعناهما واحد ، فظن الإسرائيلي أن موسى يريد ضربه ف { قَالَ يَاءادَمُ *** موسى *** أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس } وقال بعضهم : كان ذلك إبليس تشبه بالرجل الإسرائيلي ، ليظهر أمر موسى . وقال بعضهم : كان ذلك الرجل بعينه . فقال ذلك الرجل من الخوف { إِن تُرِيدُ } يعني : ما تريد { إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض } يعني : قتالاً .
قال الكلبي : من قتل رجلين ، فهو جبار . ويقال : إن من سيرة الجبابرة القتل بغير حق { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } يعني : المطيعين لله تعالى . فلما قال الإسرائيلي ، هذا ، علم القبطي أن موسى هو قاتل القبطي ، فرجع القبطي ، فأخبرهم أن موسى هو القاتل ، فائتمروا بينهم بقتل موسى . قال : فأذن فرعون بقتله فجأه خزيلي ، وهو مؤمن من آل فرعون ، وأخبر موسى بذلك ، فذلك قوله : { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } يعني : من وسط المدينة يمشي على رجليه ، ويقال : يسرع ويشتد في مشيته ف { قَالَ يَاءادَمُ *** موسى أَنِ *** الملا } يعني : الأشراف من أهل مصر { يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } قال أبو عبيد : يعني : يتشاورون في أمرك .

وقال القتبي : يعني : يهمون بك ليقتلوك { فاخرج } من هذه المدينة { إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين } قوله عز وجل : { فَخَرَجَ مِنْهَا } أي من مصر { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } يعني : ينتظر الطلب { قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } يعني : المشركين { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } أي : بوجهه نحو مدين ، وذلك أن موسى عليه السلام حين خرج وتوجه نحو مدين ، وكان بينه وبين مدين ثمانية أيام ، كما بين الكوفة والبصرة . ويقال : تلقاء مدين ، يعني : سلك الطريق الذي تلقاء مدين ويقال : لما قال { رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } استجاب الله تعالى دعاءه ، فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بأن يسير تلقاء مدين ، فسار إلى مدين في عشرة أيام وهو قوله : { قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل } يعني : يرشدني قصد الطريق إلى مدين .

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

قوله عز وجل : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } ومدين بن إبراهيم عليهما السلام وكانت البير تنسب إليه الماء ، وصار مدين اسم قبيلة { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أي : جماعة { مّنَ الناس يَسْقُونَ } أي وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أنعامهم وأغنامهم . ويقال : هم أربعون رجلاً ويقال : عشرة رجال { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } يعني : من دون الناس { امرأتين تَذُودَانِ } أي : تطردان وقال سعيد بن جبير : يعني : حابستان ويقال تحسبان غنمهما . وقال القتبي : تذودان ، أي تكفان غنمهما ، وحذف الغنم اختصاراً . ويقال كانتا تحبسان الغنم لكيلا تختلط بغيرها . ويقال : تحسبان الغنم لتصدر مواشي الناس ، وتسقيان بفضل الماء ، ومما فضل من أغنام الناس ، وهما ابنتا شعيب النبي عليه السلام { قَالَ } لهما موسى { مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما شأنكما ترعيان الغنم مع الرجال ، وما بالكما لا تسقيان { قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء } قرأ أبو عمرو وابن عامر { يُصْدِرَ } بنصب الياء ، وضم الدال . وقرأ الباقون { يُصْدِرَ } بضم الياء ، وكسر الدال ، فمن قرأ بالنصب ، فهو من مصدر صدر إذا رجع من الماء ، ومعناه لا نسقي حتى يرجع الرعاء ، ونسقي بفضلهم ، لأنا لا نقدر أن نسقي ، وأن نزاحم الرجال ، إذا صدروا سقينا بفضل مواشيهم ، ومن قرأ { يُصْدِرَ } بالضم ، فهو من أصدر يصدر ، والمعنى حتى يصدر الرعاة أغنامهم { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لم يقدر على الخروج ، وليس له عوناً يعينه غيرنا فرجع الرعاة ووضعوا صخرة على البئر ، فانتهى موسى إلى البئر ، وقد أطبقت عليها الصخرة ، فاقتلعها ثم سقى لهما حتى روتا أغنامهما .
وقال في رواية الكلبي : كان للبئر دلو يجتمع عليه أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر ، فجاء موسى أهل الماشية ، فسألهم أن يهيئوا له دلواً من الماء . فقالوا : إن شئت أعطيناك الدلو على أن تسقي أنت . قال : نعم ، فأخذ موسى عليه السلام الدلو ، فسقى بها وحده ، فصب في الحوض ، ثم قربتا غنمهما فشربت ، فذلك قوله عز وجل : { فسقى لَهُمَا } يعني : أغنامهما { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } يعني : تحول إلى ظل الشجرة { فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : لما أنزلت إلي من الطعام ، فأنا محتاج إلى ذلك أنه كان جائعاً ، فسأل ربه ، ولم يسأل الناس ، ففطنت الجاريتان ، فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة . فقال أبوهما : هذا رجل جائع . وقال لإحداهما : اذهبي فادعيه ، فلما أتته عظمته ، وغطت وجهها فذلك قوله : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } قوله : { عَلَى استحياء } . يعني : على حياء ، لأنها كانت مقنعة ، ولم تك متبرجة .

ويقال : على استحياء . يعني : على حياء ، لأنها كانت واضعة يدها على وجهها . ويقال { عَلَى استحياء } ، أي مستترة بكم درعها . قال : فالوقف على تمشي إذا كان قولها على الحياء ، فأما إذا كان مشيها على الحياء ، فالوقف على استحياء . والقول بالحياء أشبه من المشي بالحياء ، فكيف ما يقف يجوز بالمعنى . فقالت : { إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال . ويقال : أقل من ذلك ، فتبعها فلم يجد بداً من أن يتبعها ، لأنه كان بين الجبال خائفاً مستوحشاً ، فلما تبعها هبت الريح ، فجعلت تصفق ثيابها ، وتظهر عجيزتها . وجعل موسى عليه السلام يعرض مرة ، ويغض أخرى ، فلما عيل صبره ناداها : يا أمة الله كوني خلفي ، وأريني السمت بقولك . يعني : دليني الطريق ، فلما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال له شعيب : اجلس يا شاب ، فتعش . فقال موسى : أعوذ بالله . فقال له شعيب : لم لا تأكل أما أنت جائع؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت ، لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً . فقال : لا يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي إنا نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى فأكل ، وأخبره بقصة القتل والهرب ، فذلك قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } يعني : خرجت من ولاية فرعون ، ولا سلطان له في أرضنا . وقال في رواية الكلبي : كان هذا الرجل اسمه نيرون ابن أخي شعيب ، وشعيب كان توفي قبل ذلك . وقال عامة المفسرين : إن هذا كان شعيباً .

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

قوله عز وجل : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت ياأبت استجره } أي : قالت إحدى الابنتين التي جاءت به .
وقال في رواية مقاتل : هي الكبرى . وقال في رواية الكلبي : هي الصغرى { ***يا أبت } استأْجر موسى ليرعى لك الغنم { ياأبت استجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين } يعني : خير الأجراء من يكون قوياً في العمل ، أميناً على المال والعورة .
ثم قال : إيش تعلمين أنه قوي أمين بماذا؟ فأخبرته بالقصة . قال أبو الليث : حدّثنا محمد بن الفضل ، قال حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا إبرهيم بن يوسف ، قال حدّثنا أبو معاوية عن الحجاج . عن الحكم قال : كان سريع لا يفسر شيئاً من القرآن إلا ثلاث آيات { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 237 ] قال الزوج { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وءاتيناه الحكمة } [ ص : 20 ] قال : الحكمة الفقه والعلم ، وفصل الخطاب البينة والإيمان ، وقوله : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين } قال : كانت قوته أن يحمل صخرة لا يقوى على حملها إلا عشرة رجال ، وكانت أمانته أن ابنة شعيب مشت أمامه ، فوصفتها الريح فقال لها : تأخري وصفي لي الطريق { قَالَ } شعيب لموسى عليهما السلام : { إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ } يعني : أزوجك إحدى ابنتي على أن ترعى غنمي ثمان سنين ، وهذا الحكم في هذه الأمة جائز أيضاً ، لو تزوج الرجل المرأة على أن يرعى غنمها كذا وكذا سنة ، أو يرعى غنم أبيها ، يجوز النكاح ، ويكون ذلك مهراً لها { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً } يعني : عشر سنين { فَمِنْ عِندِكَ } يعني : فإن أتممت عشر سنين فبفضلك ، وليس ذلك بواجب عليك { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } في السنتين يعني : أنت بالخيار في ذلك . ويقال : بأن أشرط عليك العشر { سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين } أي من الوافين بالعهد . وقال مقاتل : يعني : من المرافقين بك كقوله : { وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لاًّخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] يعني : ارفق بهم { قَالَ } موسى : { ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاجلين قَضَيْتُ } يعني : ذلك الشرط بيني وبينك أيما الأجلين أتممت لك ، إما الثماني وإما العشر { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ } أي : لا سبيل لك علي . ويقال : لا ظلم علي بأن أطالب أكثر منه ، فإن قيل : كيف تجوز الإجارة بهذا الشرط على أحد الأجلين بغير وقت معلوم؟ قيل له : العقد قد وقع على الثماني ، وهو قوله : { أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ } خير في الزيادة والإجازة بهذا الشرط في الشريعة جائزة أيضاً ، ثم قال : { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } يعني : شهيد فيما بيننا .

ويقال : شاهد على ما نقول ، وعلى عقدنا .
وذكر مقاتل أن رجلاً من الأزد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما الأجلين قضى موسى؟ قال : « الله أَعْلَمُ » حتى سأل جبريل ، فأتاه جبريل ، فسأله . فقال : الله أعلم ، حتى سأل إسرافيل عليه السلام فقال : الله أعلم ، حتى اسأل رب العزة ، فأوحى الله تعالى إلى إسرافيل عليه السلام أن قد قضى موسى أبرهما وأوفاهما .
وروي عن ابن عباس أنه قال : قضى موسى أتمَّ الأجلين ، وقد كان شرطه له أن ما ولدت في ذلك العام ولداً أبلق ، فهو له ، فولدت في ذلك العام كلها بلقاً ، فأخذ البلق مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب ، إلا أن الوعد من الأنبياء عليهم السلام واجب ، فوفاه بوعده ، فلما أراد أن يخرج قال لشعيب عليه السلام : يا شيخ أعطني عصا أسوق بها غنمي . فقال لابنته : التمسي له عصا ، فجاءت بعصا شعيب . فقال شعيب عليه السلام : ردي هذه ، وكانت تلك العصا أودعها إياه ملك في صورة إنسان ، وكانت من عود آس الجنة ، فردتها والتمست غيرها ، فلم يقع في يدها غيرها ، فأعطته ، فخرج مع أهله فضل الطريق ، وكانت ليلة باردة مظلمة ، فذلك قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى *** الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ } يعني : بِامرأتِهِ { إِنسٌ } يعني : أبصر { مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لاِهْلِهِ امكثوا } يعني : قفوا مكانكم { فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ } أي : خبر الطريق { أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النار } قرأ عاصم { جَذْوَةٍ } بنصب الجيم ، وقرأ حمزة بضم الجيم ، وقرأ الباقون بالكسر ، فهذه لغات معناها واحد ، وهو قطعة من النار . ويقال : شعلة ، وهو عود قد احترق { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : لكي تصطلوا من البرد ، فترك امرأته في البرية وذهب .

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

{ فَلَمَّا أتاها } يعني : النار { نُودِىَ مِن شَاطِىء الوادى * الايمان } يعني : من جانب الواد الأيمن عن يمين موسى عليه السلام { فِى البقعة المباركة } يعني : من الموضع المبارك الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام { مِنَ الشجرة أَن ياموسى *** موسى إِنّى **أَنَا الله رَبُّ العالمين } يعني : الذي يناديك رب العالمين . قوله عز وجل : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ } وقد ذكرناه . قال الله تعالى : { يُعَقّبْ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين } يعني : من الحية يعني : قد آمنت أن ينالك منها مكروه { اسلك يَدَكَ } أي : أدخل يدك { فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } أي : يدك .
قال بعضهم : هذا ينصرف إلى قوله ولم يعقب من الرهب ، أي : لم يلتفت من الخوف . ويقال : كان خائفاً ، فأمره بأن يضم يده إلى صدره ، ففعل حتى سكن عن قلبه الرعب .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { مِنَ الرهب } بنصب الراء والهاء ، وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الراء ، وجزم الهاء ، والباقون { الرهب } بضم الراء ، وجزم الهاء . ومعنى ذلك كله واحد ، وهو الخوف . وقال بعضهم : هو الكريم . ثم قال : { فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبّكَ } يعني : اليد والعصا آيتان وعلامتان من ربك وحجتان لنبوتك . قرأ ابن كثير وأبو عمرو . { فَذَانِكَ } بتشديد النون . وقرأ الباقون بالتخفيف ، وهما لغتان ، وهو الإشارة إلى شيئين . يقال للواحد : ذلك وذاك ، والاثنين ذانك وذاناك . { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } ومعناه : أرسلناك إلى فرعون بهاتين الآيتين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } يعني : عاصين { قَالَ } موسى { رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } به { وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً } يعني : أبين مني لساناً وكانت في لسان موسى عقدة من النار التي أدخلها فاه { فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً } أي عوناً { يُصَدّقُنِى } يعني : لكي يصدقني ، ويعبر عن كلامي . قرأ نافع { ***رداً } بغير همز ، والباقون بالهمز ، فمن قرأ بالهمز ، فهو الأصل ، ومن قرأ بغير همز ، فإنما ألقى فتحة الهمزة على الدال ، وليّن الهمزة . وقرأ عاصم وحمزة { رِدْءاً يُصَدّقُنِى } بضم القاف ، والباقون بالجزم ، فمن قرأ بالجزم جعله جواب الأمر ، ومن قرأ بالضم جعله صفة ردءاً أي ردءاً مصدقاً ثم قال : { إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } أي فرعون وقومه { قَالَ } الله تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : نقويك بأخيك { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا } يعني : حجة ثانية ، وهي اليد والعصا { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا } يعني : لا يقدرون على قتلكما { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } يعني : من آمن بكما الغالبون في الحجة .

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاءهُم موسى بئاياتنا بينات } يعني : جاء إلى فرعون وقومه بعلاماتنا ، وذكر في رواية مقاتل أن فرعون لم يأذن لهما إلى سنة . وقال في رواية السدي وغيره : أنه لما جاء إلى الباب ، لم يأذن له البواب ، فضرب عصاه على باب فرعون ضربة ، ففزع من ذلك فرعون وجلساؤه ، فدعا البواب وسأله ، فأخبره أن بالباب رجلاً يقول : أنا رسول رب العالمين ، فأذن له . فدخل فأدى الرسالة وأراهم العلامة . فقالوا هذا سحر ، فذلك قوله عز وجل : { قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } يعني : ما هذا الذي جئت به إلا كذب مختلق يعني : الذي جئت به ما هو إلا سحر قد اختلقته من ذات نفسك { وَمَا سَمِعْنَا بهذا فِى ءابَائِنَا الاولين *** وَقَالَ مُوسَى } قرأ ابن كثير بغير واو . وقرأ الباقون بالواو ، فمن قرأ بالواو ، فهو عطف جملة على جملة ، ومن قرأ بغير واو ، فهو استئناف قال موسى : { رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ } يعني : أنا جئت بالهدى من عند الله { وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } يعني : هو أعلم بمن تكون له الجنة والنار . ويقال : بمن يكون له عاقبة الأمر والدولة . قرأ حمزة والكسائي ، { وَمِنْ *** يَكُونَ } بلفظ التذكير وقرأ الباقون { تَكُونُ } بلفظ التأنيث .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } يعني : لا يأمن الكافرون من عذابه { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } لأهل مصر { فِرْعَوْنُ ياأيها الملا مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } فلا تطيعوا موسى وهذه إحدى كلمتيه التي أخذه الله بهما . والأخرى . { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى } [ النازعات : 24 ] . ثم قال : { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين } أي : أوقد النار على اللبن حتى يصير آجراً . قال مقاتل : وكان فرعون أول من طبخ الآجر وبنى به { فاجعل لّى صَرْحاً } أي : قطراً طويلاً منه ، وهو المنارة { لَّعَلّى أَطَّلِعُ } السماء { إلى إله موسى } يعني : وأقف عليه ، فبنى الصرح ، وكان بلاطه خبث القوارير ، وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الرياح ، وكان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع ، فلما فزع من بنائه جاء جبريل عليه السلام فضرب جناحه على الصرح ، فهدمه ثم قال تعالى : { وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } أي : أحسب موسى بما يقول أن في السماء إلهاً من الكاذبين .

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

قوله عز وجل : { واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض } يعني : استكبر فرعون عن الإيمان هو وقومه { بِغَيْرِ الحق } يعني : بغير حجة { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ } يعني : وحسبوا أنهم { إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } بعد الموت . قرأ نافع وحمزة والكسائي { لاَ يَرْجِعُونَ } بنصب الياء ، وكسر الجيم . وقرأ الباقون بضم الياء ، أي : لا يردون بمعنى التعدي قول الله تعالى : { فأخذناه وَجُنُودَهُ } يعني : عاقبناه وجنوده { فنبذناهم فِى اليم } يعني : أغرقناهم في البحر وقال مقاتل في النيل { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } يعني : المشركين { وجعلناهم أَئِمَّةً } يعني : خذلناهم حتى صاروا قادة ورؤساء للضلال والجهال { يَدْعُونَ إِلَى النار } يعني : إلى عمل أهل النار . ويقال : إلى الضلالة التي عاقبتها النار { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } يعني : لا يمنعون من عذابي { وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } أي : عقوبة وهو الغرق { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين } أي : من المهلكين . والعرب تقول : قبحه الله أهلكه الله . ويقال : { وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } وذلك أنهم لما أهلكوا لعنوا ، فهم يعرضون على النار غدوة وعشية إلى يوم القيامة ، ويوم القيامة هم من المقبوحين الممقوتين المهلكين . ويقال : { مّنَ المقبوحين } ، أي : من المعذبين ويقال : إنه قبح صورتهم . ويقال : { مّنَ المقبوحين } ، أي من : المشوهين .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : أعطيناه التوراة { مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى } بالعذاب أي : من بعد قوم نوح وعاد وثمود { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } يعني : هلاكهم بصيرة للناس وغيرهم . ويقال : بصائر . يعني : الكتاب بياناً لبني إسرائيل ، ومعناه : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب *** بَصَائِرَ } أي مبيناً للناس { وهدى } من الضلالة لمن عمل به { وَرَحْمَةً } لمن آمن به من العذاب { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لكي يتعظوا ، فيؤمنوا بتوحيد الله { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى } أي : ما كنت يا محمد بناحية الجبل من قبل المغرب { إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر } يعني : إذ عهدنا إليه بالرسالة . ويقال : أحكمنا معه ، وعمدنا إليه بأمرنا ونبينا { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } يعني : حاضرين لذلك الأمر { وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } أي الأجل فنسوا عهد الله ونسوا أمره { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } أي مقيماً في أهل مدين { تَتْلُو عَلَيْهِمْ *** ءاياتنا } يعني : تتلو على أهل مكة القرآن يعني : أن الله تعالى أعلمك أخبار الأمم الماضية من حديث موسى وشعيب عليهما السلام ليكون علامة لنبوتكم حيث يخبرك بخبر موسى ، ولم تكن حاضراً هناك ، ولم تكن تقرأ القرآن { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } إليك لتخبرها بخبر أهل مدين ، وبخبر موسى . ويقال : { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } يعني : أرسلناك رسولاً ، وأنزلنا هذه الأخبار ، لتخبرهم لولا ذلك لما علمتها .

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

قوله عز وجل : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } يعني : بناحية الجبل الذي كلّم الله به موسى . يعني : عن يمين موسى ، ولولا ذلك { إِذْ نَادَيْنَا } يعني : كلمنا موسى . ويقال : إذ نادينا أمتك ، وذلك أن الله تعالى لما وصف نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأحب موسى أن يراهم قال الله تعالى لموسى : إنك لن تراهم وإن أحببت أسمعتك كلامهم ، فأسمعه الله تعالى كلامهم ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه معنى قوله : { إِذْ نَادَيْنَا } يعني : نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني .
وروى أن عمر عن ابن مدرك عن أبي زرعة قال : نرفع الحديث في قوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } . قال : نودي يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني . وعن عمرو بن شعيب قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } ما كانَ النِّدَاءُ ، وَمَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ قَالَ : « كِتَابٌ كَتَبَهُ الله تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ بألْفَيْ عَامٍ ، وَسِتِّمائَةِ عَامٍ عَلَى وَرَقَةِ أمْنٍ ، ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ ، ثُمَّ نَادَى يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي ، أعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي ، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسْتَغْفِرُونِي ، فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ ، يَشْهَدُ أنْ لاَ إله إلاَّ الله ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ أَدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ » . ثم قال : { ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ } يعني : القرآن نعمة من ربك حيث اختصصت به نصب رحمة ، لأن معناه فعلنا ذلك للرحمة ، كقوله : فعلت ذلك ابتغاء الخير ، يعني : لابتغاء الخير ثم قال : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم } يعني : لم يأتهم { مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } يعني : لم يأتهم رسول من قبلك ، وهم أهل مكة { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يعني : لكي يتعظوا . قوله عز وجل : { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } يعني : عقوبة ونقمة ، وفي الآية تقديم ومعناها لولا أن يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً ، فنتبع آياتك ، ونكون من المؤمنين لعذبوا في الدنيا ، ولأصابتهم مصيبة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } وهذا هو قول مقاتل . ويقال : معناه لولا أن يصيبهم عذاب { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ ءاياتك وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } لعذبوا في الدنيا ، فيكون جوابه مضمراً . ويقال : معناه لو إني أهلكتهم قبل إرسالي ، لقالوا يوم القيامة : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك } أي : يقولوا : ولولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل ، فأرسلناك لكي لا يكون لهم حجة علي ، ثم قال عز وجل : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } يعني : الكتاب والرسل { قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى } من قبل يعني هلا أعطي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن جملة واحدة ، كما أعطي موسى التوراة جملة يقول الله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ } يعني : بالتوراة ، فقد كفروا بآيات موسى ، كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ سِحْرَانِ تظاهرا } يعني : تعاونا ، وذلك أن أهل مكة سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنهم يجدون في كتبهم نعته وصفته فأمروهم بأن يسألوه عن أشياء فلما أجابهم .

قالوا : ساحران تظاهرا { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كافرون } يعني : جاحدين قرأ حمزة والكسائي وعاصم { سِحْرَانِ } بغير ألف ، عنوا محمداً وموسى عليهما السلام ويقال : التوراة والفرقان . ويقال : التوراة والإنجيل . وقال سعيد بن جبير : يعني موسى وهارون عليهما السلام ويقال : موسى وعيسى عليهما السلام واحتج من يقرأ بغير ألف بما في سياق الآية . { قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } واحتج من قرأ بالألف بقوله تعالى : { تَظَاهَرَا } تعاونا ، والتظاهر يكون بالناس يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، يعني : من التوراة ، والقرآن أتبعه ، أي أعمل به { إِن كُنتُمْ صادقين } بأنهما ساحران { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } يعني : إن لم يجيبوك إلى الإثبات بالكتاب { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } بعبادة الأوثان . ويقال : يؤثرون أهواءهم على الدين { وَمَنْ أَضَلُّ } يعني : ومن أضر بنفسه { مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله } يعني : بغير بيان من الله { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يريد كفار مكة يعني : لا يرشدهم إلى دينه .

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : ينالهم في القرآن خبر الأمم الماضية ، كيف عذبوا لعلهم يتذكرون ، أي لكي يخافوا فيؤمنوا بما في القرآن ويقال : ولقد وصلنا لهم القول ، أي : وصلنا لهم الكتب بعضها ببعض ، يعني بعضها على إثر بعض . ويقال : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا } أي : أوصلنا لهم القول . يعني : أنزلنا لهم القرآن آية بعد آية أنه هداية ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يعني : لكي يتعظوا . ثم وصف مؤمني أهل الكتاب فقال : { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ } يعني : من قبل القرآن { هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } يعني : مؤمني أهل الكتاب ، وهم أربعون رجلاً من أهل الإنجيل ، كانوا مسلمين قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم اثنان وثلاثون من أهل أرض الحبشة ، قدموا مع جعفر الطيار ، وثمانية من أهل الشام . ويقال : إنهم ثمانية عشر رجلاً { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } يعني : القرآن { قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } أي صدقنا { إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا } يعني : القرآن ، وذلك أنهم عرفوا بما ذكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وكتابه فقالوا : { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } يعني : من قبل هذا القرآن ، ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم كنا مخلصين { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } يعني : يعطون ثوابهم ضعفين مرة بكتابهم ، ومرة بإيمانهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { بِمَا صَبَرُواْ } يعني : بصبرهم على ما أوتوا . ويقال : بما صبروا ، أي بصبرهم على دينهم الأول ، وبما صبروا على أذى المشركين ، فصدقوا وثبتوا على إيمانهم . حيث قال لهم أبو جهل وأصحابه : ما رأينا أحداً أجهل منكم ، تركتم دينكم ، وأخذتم دينه . فقالوا : ما لنا لا نؤمن بالله ، فذلك قوله عز وجل : { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } أي : يدفعون قول المشركين بالمعروف . ويقال : يدفعون الشرك بالإيمان . ويقال : يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح . ويقال : يدفعون ما تقدم لهم من السيئات بما يعملون من الحسنات { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يعني : يتصدقون . قوله عز وجل : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } يعني : إذا سمعوا الشتم والأذى والكلام القبيح لم يردوا عليهم ، ولم يكافئوهم به ولم يلتفتوا إليه ، يعني : إذا شتمهم الكفار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشتم { وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا } يعني : ديننا { وَلَكُمْ أعمالكم } يعني : دينكم { سلام عَلَيْكُمُ } يعني : وردوا معروفاً عليهم ليس هذا تسليم التحية ، وإنما هو تسليم المتاركة والمسالمة ، أي : بيننا وبينكم المتاركة والمسالمة ، وهذا إن يؤمر المسلمون بالقتال . ويقال : السلام عليكم . يعني : أكرمكم الله تعالى بالإسلام { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } أي : لا نطلب دين الخاسرين ، ولا نصحبهم . ويقال : هذه الآية مدنية نزلت في شأن عبد الله بن سلام .

وروى أسباط عن السدي قال : لما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال يا رسول الله : ابعث إلى قومي فاسألهم عني فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فستر بينهم وبينه ستراً . وقال : « أَخْبِرُونِي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلامِ كَيْفَ هُوَ فِيكُمْ؟ » قالوا : ذاك سيدنا وأعلمنا . قال : « أَرَأَيْتُمْ إنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي أَتُؤْمِنُونَ بِي وَتُصَدِّقُونِي؟ » قالوا : هو أفقه من أن يدع دينه ويتبعك . قال : « أَرَأَيْتُمْ إنْ فَعَلَ؟ » قالوا : لا يفعل . قال : « أَرَأَيْتُمْ إِنْ فَعَلَ؟ » قالوا : إنه لا يفعل ، ولو فعل إذاً نفعل . فقال عليه السلام : « أخْرُجْ يا عَبْدَ الله » . فخرج . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فوقعوا فيه ، وشتموه وقالوا : ما فينا أحد أقل علماً ، ولا أجهل منك . قال : « أَلَمْ تُثْنُوا عَلَيْهِ آنِفاً؟ » قالوا : إنا استحينا أن نقول اغتبتم صاحبكم ، فجعلوا يشتمونه وهو يقول : { سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } فقال : ابن يامني ، وكان من رؤساء بني إسرائيل أشهد أن عبد الله بن سلام صادق ، فابسط يدك يا محمد ، فبسط يده ، فبايع ابن يامني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل : { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ } إلى قوله : { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } وإلى قوله : { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } .

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)

قوله عز وجل : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } يعني : لا ترشد من أحببته إلى الهدى . ويقال : من أحببت هدايته إلى دينك ، وذلك أن أبا طالب لما حضرته الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا عَمَّاهُ قُلْ لا إله إِلا الله كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى » . فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزالا يكلمانه ويكلمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات على الكفر فنزل { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } بهدايته { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } يعني : يرشد من يشاء إلى دينه { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } يعني : بمن قدر له الهدى .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ } يعني : مشركي مكة { إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ } يعني : الإيمان بك { نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } يعني : نسبى ونخرج من مكة لإجماع العرب على خلافنا ، وهذا قول الحارث بن عامر النوفلي حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما كذبت كذبة قط ، فنتهمك اليوم ، ولكن متى ما نؤمن بك فتحسنا العرب من أرضنا يقول الله تعالى : { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ } يعني : أولم ننزلهم مكة حرماً أميناً يعني : كان الحرم أمناً لهم في الجاهلية من القتل والسبي ، وهم يعبدون غيري ، فكيف يخافون إن أسلموا أن لا يكون الحرم أمناً لهم؟ فذلك قوله : { أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ } يعني أولم ننزلهم مكة حرماً آمناً من الغارة والسبي { يجبى إِلَيْهِ } بالياء يعني : يحمل إليه { ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } أي : من ألوان الثمرات قرأ نافع { ***تجبى } بالتاء لأن الثمرات مؤنثة . وقرأ الباقون بالياء لتقديم الفعل ثم قال : { شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } أي : من عندنا { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يأكلون رزقي ، ويعبدون غيري ، وهم آمنون في الحرم ويقال لا يعلمون أن ذلك من فضل الله عليهم .
ثم خوفهم فقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } فيما مضى { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } كفرت برزق ربها ذكر القرية ، وأراد به أهل القرية يعني : أنهم كانوا ينقلبون في رزق الله تعالى : فلم يشكروه في نعمته . ويقال : بطرت معيشتها يعني : طغوا في نعمة الله ، فأهلكهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا . ويقال : عاشوا في البطر وكفران النعم { فَتِلْكَ مساكنهم } يعني : انظروا واعتبروا في بيوتهم وديارهم بقيت خالية { لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } وهم المسافرون ينزلون بها يوماً أو ساعة { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } أي : نرث الأرض ومن عليها { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى } يعني : لم يعذب أهل القرى { حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً } يعني : معظمها ويقال : في أكبر قراها .

ويقال : أم القرى مكة . قرأ حمزة والكسائي { فِى أُمّهَا } بكسر الألف . والباقون بالضم ، ومعناهما واحد يبعث في أمها رسولاً { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } يعني : القرآن { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } يعني : لم نهلكها إلا بظلم أهلها .
ثم قال عز وجل : { وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء } يعني ما أعطيتم من مال . ويقال : ما أعطيتم من الدنيا ، فهو { فمتاع الحياة الدنيا } يعني : فهو متاع الحياة الدنيا ، ينتفعوا بها أيام حياتهم { وَزِينَتَهَا } يعني : وزهراتها ولا تبقى دائماً { وَمَا عِندَ الله } من الثواب والجنة { خَيْرٌ وأبقى } يعني : أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الباقي خير من الفاني . قرأ عمرو { يَعْقِلُونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة .

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

قوله عز وجل : { أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً } يعني : الجنة { فَهُوَ لاَقِيهِ } يعني : مدركه ومصيبه { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا } بالمال { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } في النار هل يستوي حالهما؟ قال في رواية الكلبي : نزل في عمار بن ياسر ، وأبي جهل بن هشام وقال غيره : هذا في جميع المؤمنين ، وجميع الكافرين ويقال نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي جهل ، يعني : من كان له في هذه الدنيا عدة مع دين الله ، خير ممن كان له سعة وفرج مع الشرك ، ثم هو يوم القيامة من المحضرين . يعني : من المعذبين في النار . وقال عز وجل : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } يعني : واذكر يوم يدعوهم يعني : المشركين { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين } يعني : المشركين : { كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } لهم شركاتي في الدنيا { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } وجبت عليهم الحجة فوجب عليهم العذاب ويقال وجب عليهم القول وهو قوله { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] { رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم } يعني : القادة يقولون ربنا هؤلاء الذين أضللنا يعني : السفلة أغويناهم { كَمَا غَوَيْنَا } أي : أضللناهم كما كنا ضالين . ويقال : يقول الكافرون { رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا } يعني : الشياطين . فقالت الشياطين : أغويناهم . يعني : أضللناهم كما غوينا ، أي أضللنا { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } من عبادتهم { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } يعني : ما كانوا يأمرونا بعبادة الآلهة { وَقِيلَ } للكفار { ادعوا * شُرَكَائِكُمْ } يعني آلهتكم التي تعبدون من دون الله { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } يقول الله عز وجل : { وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } يعني : يودون لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا . ويقال : يودون أن لم يكونوا اتبعوهم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، أي : لم يجيبوهم بحجة تنفعهم فيودون أنهم لم يعبدوهم لما رأوا العذاب . ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } يعني : يسألهم يوم القيامة { فَيَقُولُ مَاذَا * لَمِنَ المرسلين } في التوحيد { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء } يعني : ألبست عليهم الحجج { يَوْمَئِذٍ } من الهول { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } يعني : لا يسأل بعضهم بعضاً عما يحتجون به ، رجاء أن يكون عنده من الحجة ما لم يكن عند غيره ، لأن الله تعالى أدحض حجتهم ، وفي الدنيا إذا اشتبهت عليه الحجة ، ربما يسأل عن غيره ، فيلقنه الحجة ، وفي الآخرة آيس من ذلك .

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

ثم قال الله عز وجل : { فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ } يعني : من الشرك { وَعَمِلَ صالحا } فيما بينه وبين الله تعالى { فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } أي : من الناجين الفائزين بالخير . قوله عز وجل : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ } وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني به نفسه وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف فقال تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ } للرسالة من يشاء { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } يعني : ليس [ الخيار إليهم . ويقال : هو ربك يخلق ما يشاء ، ويختار لهم ما يشاء ، { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } ، أي ما كان لهم طلب الخيار ، والأفضل . ويقال : ما كان لبعضهم على بعض فضل ، والله تعالى هو الذي يختار . وقال الزجاج : الوقف على قوله ، { وَيَخْتَارُ } . والمعنى وربك يخلق ما يشاء ، ويختار . ثم قال : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } ، أي لم يكن لهم أبداً يختاروا على الله ، ويكون ما للنفي . قال : ووجه آخر أن تكون بمعنى الذي يعني ، وربك يخلق ما يشاء ، ويختار الذين لهم الخيرة أن يدعوهم إليه من عبادته ، ما لهم فيه الخيرة . ويقال : ما كان لهم الخيرة . يعني : ليس لهم أن يختاروا على الله عز وجل ، وليس إليهم الاختيار ، والمعنى لا نرسل الرسل إليهم على اختيارهم .
ثم قال : { سبحان الله } أي تنزيهاً لله { وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } يعني : ما تضمر وتسر قلوبهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } من القول { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ } يعني : لا خالق ولا رازق غيره { لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة } أي : في الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل : يعني يحمده أولياؤه في الدنيا ، ويحمدونه في الجنة ويقال : له الألوهية في الدنيا والآخرة ، وله الحكم ، يعني نفاذ الحكم ، والقضاء يحكم في الدنيا والآخرة بما يشاء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم . قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله } يعني : ألا تنظرون إلى نعمة الله تعالى في خلق الليل والنهار لمصلحة الخلق ، فلو جعل { عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً } أي دائماً { إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } المواعظ ، وتعتبرون بها . قوله عز وجل : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة } يعني : دائماً { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } يعني : تقرّون تريحون فيه { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } من يفعل ذلك بكم ، لأن العيش لا يصلح إلا بالليل والنهار ، فأخبر عن صنعه لمصلحة الخلق ، ليشكروه ويوحدوه ويعبدوه فقال : { وَمِن رَّحْمَتِهِ } أي ومن نعمته وفضله { جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } يعني : في الليل وجعل لكم النهار { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتطلبوا من رزقه في النهار { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : تشكرون رب هذه النعمة .

ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } يعني : { أَنذَرَهُمْ } بذلك اليوم ويقال : معناه اذكر ذلك اليوم الذي يناديهم أي : يدعوهم { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها لي شريك { وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي : أخرجنا من كل أمة نبيها ورسولها { شَهِيداً } بالرسالة والبلاغ { فَقُلْنَا } للمشركين { هَاتُواْ برهانكم } أي : حجتكم بأن معي شريكاً ، فلم يكن لهم حجة { فَعَلِمُواْ أَنَّ الحق لِلَّهِ } يعني : أن عبادة الله هي الحق . ويقال : علموا أن التوحيد لله . ويقال : إن الحق ما دعا إليه الله ، وأتاهم به الرسول { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : اشتغل عنهم بأنفسهم ما كانوا يفتدون ، يعني : يكذبون في الدنيا يعني : الأصنام . ويقال : يعني الشياطين . ويقال : وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، يعني : تشفعوا بما عبدوه من دون الله .

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قوله عز وجل : { إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى } يعني : من بني إسرائيل . ويقال : كان ابن عم موسى { فبغى عَلَيْهِمْ } يعني : تطاول وتكبر على بني إسرائيل ، وكان فرعون قد ملكه على بني إسرائيل حين كانوا بمصر ، فلما قطع موسى البحر ببني إسرائيل ، ومعه قارون فأغرق الله تعالى فرعون وجنوده ورجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى أرض مصر ، وسكنوا ديارهم كما قال في رواية أُخرى { كَذَلِكَ وأورثناها بنى إسراءيل } [ الشعراء : 59 ] وجعلت جنوده لهارون ، وهو الرأس ، والذي بقرب القربان فقال قارون لموسى : لك النبوة ، ولهارون الحبورة ، والمذبح ، وأنا لست في ذلك من شيء . فقال له موسى : أنا لم أفعل ذلك ، ولكن الله تعالى فعل ذلك . فقال له قارون : لا أصدقك على ذلك ، واعتزل قارون ومن تبعه من بني إسرائيل ، وكان كثير المال والتبع .
وروي عن الحسن أنه قال : أول من شرف الشرف قارون ، لما بنى داره وفرغ منها ، وشرفها صنع للناس طعاماً سبعة أيام ، يجمعهم كل يوم ويطعمهم .
وروي عن ابن عباس أنه قال : لما أمر الله تعالى موسى بالزكاة قال لقارون : إن الله أمرني أن آخذ من مالك الزكاة ، فأعط من كل مائتي درهم خمسة دراهم ، فلم يرض بذلك فقال له : اعط من كل ألف درهم درهماً ، فلم يرض بذلك . وقال لبني إسرائيل : إن موسى لم يرض حتى تناول أموالكم ، فما ترون؟ قالوا : رأينا لرأيك تبع . قال : فإني أرى أن ترموه فتهلكوه ، فبعثوا إلى امرأة زانية ، فأعطوه حكمها على أن ترميه بنفسها ، ثم أتوه في جماعة بني إسرائيل . فقالوا : يا موسى ما على من يسرق من الحد . قال : تقطع يده . قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا . قالوا : وما على الزاني إذا زنى؟ قال : يرجم . قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا . قالوا : فأنت قد ازنيت . قال : أنا وجزع من ذلك ، فأرسلوا إلى المرأة ، فلما جاءت وعظها ، وعظم عليها موسى الحلف بالله ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت . قالت : أما إذا حلفتني ، فإني أشهد أنك بريء ، وإنك رسول الله . وقالت : أرسلوا إليَّ فأعطوني حكمي على أن أرميك بنفسي . قال : فخرّ موسى عليه السلام لله ساجداً يبكي ، فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك قد أمرت الأرض أن تطيعك ، فأمرها بما شئت . فقال موسى : خذيهم ، فأخذتهم .
وقال في رواية الحسن : خرج موسى عليه السلام مغضباً . فدعى الله عز وجل . وقال : عبدك قارون الذي عبد غيرك دونك وجحدك ، فأوحى الله تعالى إلى موسى إني قد أمرت الأرض ، بأن تطيعك ، فجاء موسى حتى دخل إلى قارون حين اجتمع الناس في داره .

فقال : يا عدو الله كذبتني بكلام له غيظ ، حتى غضب قارون ، وأقبل عليه بكلام شديد ، وهّم به . فلما رأى موسى ذلك قال : يا أرض خذيهم . قالوا : وكان قارون على فرش على سرير مرتفع في السماء ، فأخذت الأرض أقدامهم ، وغاب سريره ومجلسه ، وقد دخل من الدار في الأرض مثل ما أخذت منهم على قدرها ، فأقبل موسى يوبخهم ، ويغلظ لهم المقالة ، فلما رأى القوم ما نزل بهم ، عرفوا أن هذا الأمر ليس لهم به قوة ، فنادوا : يا موسى كف عنا ، وارحمنا ، وجعلوا يتضرعون إليه ، ويطلبون رضاه ، وهو لا يزداد إلا غضباً وتوبيخاً لهم ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، فجعلوا يتضرعون إليه ، ويسألونه ، وهو يوبخهم ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أوساطهم ، وكانت الأرض تأخذ من الدار كل مرة مثل ما تأخذ منهم ، وهم يتضرعون في ذلك إلى موسى ، ويسألونه . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى آباطهم ، فمدوا أيديهم إلى وجه الأرض رجاء أن يمتنعوا بها . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ، فلم يبق على وجه الأرض منهم شيء إلا رؤوسهم ، ولم يبق من الدار إلا شرفها . وقال قارون : يا موسى أنشدك بالله وبالرحم . فقال : يا أرض خذيهم ، فاستوت الأرض عليهم ، وعلى الدار ، فانطلق موسى ، وهو فرح بذلك ، فأوحى الله تعالى إلى موسى ، يا موسى يتضرع إليك عبادي ، ودعوك وسألوك ، فلم ترحمهم ، أما وعزتي وجلالي لو أنهم سألوني ، واستغاثوا بي لرحمتهم ، ولكن تركوا أن يجعلوا رغبتهم ورجاءهم إلي ، وجعلوها إليك ، فتركتهم فذلك قوله تعالى : { إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ } يعني : تطاول على بني إسرائيل ، وعلى موسى { إِنَّ قارون كَانَ } يعني : من المال { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } يعني : خزائنه { إِنَّ قارون } قال مقاتل : العصبة من العشرة إلى أربعين ، فإذا كانوا أربعين ، فهم أولو قوة يقول : لتعجز العصبة أولو القوة عن حمل مفاتيح الخزائن .
وقال أهل اللغة : ناء به الحمل إذا أثقله . وقال القتبي : تنوء بالعصبة ، أي تميل بها العصبة ، أي تميل بهم العصبة إذا حملتها من ثقلها ، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : العصبة في هذا الموضوع أربعون رجلاً ، وخزائنه كانت أربعمائة ألف ما يحمل كل رجل منهم عشرة آلاف إلا أن ويقال { مَّفَاتِحهُ } يعني : مفاتيح خزائنه يحملها أربعون رجلاً . ويقال : أربعون بغلاً .
وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال : كان مفاتيح كنوز من جلد كل مفتاح مثل الإصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حمل المفاتيح على ستين بغلاً كل بغل أغر محجل { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } يعني : بني إسرائيل { لاَ تَفْرَحْ } يعني : لا تفخر بما أديت من الأموال .

ويقال : لا تفرح بكثرة المال { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } يعني : المرحين المفاخرين . ويقال : البطرين ويقال : لا تفرح أي : لا تأشر والأشر أشد الفرح الذي يخالطه حرص شديد حتى يبطر ، يعني : يطغى وقالوا له : { وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله } يعني : اطلب مما أعطاك الله من الأموال والخير { الدار الاخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } يعني : لا تترك حظك من الدنيا أن تعمل لآخرتك { وَأَحْسَنُ } العطية من الصدقة والخير { كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } يعني : أعط الناس كما أعطاك الله . ويقال : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض } يعني : أنفقه في طاعة الله ، ولا تنفقه في معصية الله { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } أي : المنفقين في المعصية . وقوله : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك في الدنيا ، أي : لا تضيع عمرك ، فإنه نصيبك من الدنيا { قَالَ } قارون { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } قال مقاتل : أي على خير علمه الله عندي . وقال في رواية الكلبي : يعني : علم التوراة ، وكان قارون أقرأ رجل في بني إسرائيل في التوراة ، فأعطيت ذلك لفضل علمي ، وكنت بذلك العلم ومستحقاً بفضل المال . ويقال : على علم عندي . يعني : علم الكيمياء ، وكان يعمل كيمياء الذهب . وقال الزجاج : الطريق الأول أشبه ، لأن الكيمياء لا حقيقة لها ، يقول الله تعالى : { أَوَ لَمْ *** يَعْلَمْ أَنَّ الله } تعالى { قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } من الأموال منهم : نمرود وغيره { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } يعني : لا يسأل الكافرون عن ذنوبهم ، لأن كل كافر يعرف بسيماه ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية وقيل : لا يسأل الكافرون يوم القيامة عن ذنوبهم سؤال النجاة ، بل يسألون سؤال العذاب والمناقشة .
قوله عز وجل : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } يعني : خرج قارون على بني إسرائيل . قال مقاتل : وهو على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليها أرجوان ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء ، عليهن من الحلل والثياب الحمر على البغال الشهب . وقال قتادة : خرج معه أربعة آلاف دابة عليها ثياب حمر ، منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف أرجوان . وقال في رواية الكلبي خرج على ثلاثمائة دابة بيضاء عليها نوع من الكساء وعليها ثلثمائة قطيفة حمراء عليها جواري وغلمان { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا } وكانوا من أهل التوحيد { الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } يعني : مثل ما أعطي من الأموال قارون { إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } يقول : ذو نصيب وافر في الدنيا .

قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم } يعني : أكرموا بالعلم بما وعد الله في الآخرة للذين تمنوا ذلك { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ } يعني : ويحكم ثواب الله في الآخرة خير يعني : أفضل { لِمَنْ ءامَنَ } يعني : صدق بتوجيه الله تعالى { وَعَمِلَ صالحا } فيما بينه وبين الله تعالى مما أعطى قارون في الدنيا { وَلاَ يُلَقَّاهَا } يعني : ولا يلقن ولا يوقف ويرزق في الجنة { إِلاَّ الصابرون } في الدنيا على أمر الله تعالى . ويقال : { وَلاَ يُلَقَّاهَا } ، أي لا يعطى الأعمال الصالحة إلاَّ الصابرون على الطاعات وعن زينة الدنيا . ويقال : ولا يلقاها ، يعني : ولا يلقن بهذه الكلمة إلاَّ الصابرون عن زينة الدنيا يقول الله تعالى { فَخَسَفْنَا بِهِ } يعني : قارون { وَبِدَارِهِ الارض } يعني : بقارون وبداره وأمواله ، فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } يعني : لم يكن له جنة وأعوان يمنعونه من عذاب الله عز وجل { وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } يعني : وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من عذاب الله . قوله عز وجل : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالامس } حين رأوه في زينته وقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله } قال القتبي : قد اختلف في هذه اللفظة . فقال الكسائي : معناها ألم تر أن الله يبسط ، ويكأنه يعني : ألم تر أنه لا يفلح الكافرون .
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال : { وَيْكَأَنَّ الله } ، يعني : أو لا يعلم أن الله { يَبْسُطُ } وهذا شاهد لقول الكسائي . وذكر الخليل بن أحمد أنها مفصولة وي ثم يبتدىء فيقول : كأن الله . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان الله يبسط { الرزق لِمَن يَشَاء } كأنه لا يفلح الكافرون . وقال وي صلة في الكلام ، وهذا شاهد لقول الخليل . وقال الزجاج : الذي قاله الخليل أجود ، وهو أن قوله وي مفصولة من كان ، لأن من يدم على شيء يقول : وي يعاتب الرجل على ما سلف يقول : وي كأنك قصدت مكروهاً . وقال مقاتل : معناه ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء { مِنْ عِبَادِهِ } يعني : يوسعه على من يشاء من عباده { وَيَقْدِرُ } يعني : يقتر ويقال : ويضيق على من يشاء يعني : لولا أن الله منَّ علينا لكنا مثل قارون في العذاب { لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } معهم . ويقال : لولا منَّ الله علينا بالإيمان ، لكنا مثل قارون في العذاب . ويقال لولا أن منَّ الله علينا ، يعني : عصمنا مثل ما كان عليه من البطر والبغي ، لخسف بنا كما خسف به . قال قرأ عاصم في رواية حفص بنصب الخاء ، وكسر السين { لَخَسَفَ *** الله *** بِنَا } وقرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله { وَيْكَأَنَّهُ } يعني : ولكنه { لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي الجاحدون للنعم .

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله عز وجل : { تِلْكَ الدار الاخرة } يعني : الجنة { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض } يعني : نعطيها للذين لا يريدون تعظيماً وتكبراً ، وتجبراً فيها عن الإيمان { وَلاَ فَسَاداً } في الأرض يعني : لا يريدون المعاصي في الدنيا .
وروى وكيع عن سفيان عن مسلم البطين { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض } . يعني : التكبر بغير حق ، { وَلاَ فَسَاداً } قال : أخذ المال بغير حق . ويقال : العلو الخطرات في القلب ، والفساد فعل الأعضاء { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } يعني : الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي . ويقال : عاقبة الأمر ، وما يستقر عليه للمتقين الموحدين . ويقال في العاقبة المحمودة للمتقين . قوله عز وجل : { مَن جَاء بالحسنة } يعني : بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا الله { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } وقد ذكرناه { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى } يعني : لا يثاب { الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : يصيبهم بأعمالهم . قوله عز وجل : { إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } يعني : أنزل عليك القرآن . ويقال : أمرك بالعمل بما في القرآن { لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ } .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الموت . وقال السدي : إلى معاد يعني : الجنة . وهكذا روي عن مجاهد .
وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال : يعني : إلى مكة . وقال القتبي : معاد الرجل بلده ، لأنه يتصرف في البلاد ، وينصرف في الأرض ثم يعود إلى بلده . والعرب تقول : ردّ فلان إلى معاده ، يعني : إلى بلده ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة إلى المدينة اغتم لمفارقته مكة ، لأنها مولده وموطنه ، ومنشأه وبها عشيرته ، واستوحش فأخبر الله تعالى في طريقه أنه سيرده إلى مكة ، وبشره بالظهور والغلبة . ثم قال تعالى : { قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } أي يعني : بالرسالة والقرآن ، وذلك حين قالوا : إنك في ضلال مبين { وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } وذلك حين قالوا : فنزل { قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } يعني : فأنا الذي جئت بالهدى ، وهو يعلم بمن هو في ضلال مبين نحن أو أنتم .
ثم قال عز وجل : { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } يعني : أن يلقى وينزل عليك القرآن { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ويقال في الآية تقديم . ومعناه : أن الذي فرض عليك القرآن يعني : جعلك نبياً ينزل عليك القرآن ، وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبياً بوحي إليك ، لرادك إلى معاد إلى مكة ظاهراً قاهراً . ويقال { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } يعني : لكن دين ربك رحمة ، واختارك لنبوته ، وأنزل عليك الوحي ، ثم قال : { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } يعني : عوناً للكافرين حين دعوه إلى دين آبائه { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله } يعني : لا يصرفنك عن آيات الله القرآن والتوحيد { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي : بعد ما أنزل إليك جبريل عليه السلام بالقرآن { وادع إلى رَبّكَ } يعني : ادع الخلق إلى توحيد ربك { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } يعني : لا تكونن مع المشركين على دينهم { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } أي : لا تعبد غير الله .

ثم وحد نفسه فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : لا خالق ولا رازق غيره { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } يعني : تهلك جميع الأشياء إلا الله ، فإنه لم يزل ولا يزال ، ويقال : كل شيء هالك إلا وجهه ، أي كل عمل هالك لا ثواب له إلا ما يراد به وجه الله عز وجل . ويقال : كل شيء متغير إلا ملكه ، فإن ملكه لا يتغير ، ولا يزال إلى غيره أبداً { لَهُ الحكم } أي : له القضاء ، وله نفاذ الأمر والحكم على ما يريد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني : إليه المرجع في الآخرة ليجازيكم بأعمالكم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ القَصَصِ كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ مُوسَى وَكَذَّبَ ، وَلَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السموات وَالأرْضِ ، إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، أنَّهُ كَانَ صَادِقاً فِي قَوْلِهِ { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وَالحَمْدُ لله وَحْدَهُ ، وَصَلَّى الله عَلَى مَنْ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ ، وَحَسْبُنَا الله ، وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، ولاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بالله العَلِيِّ العَظِيمِ ، صَدَقَ الله جَلَّ رَبُّنا ، وَهُوَ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ ، وَصَدَقَ رُسُلُهُ قَوْلُهُ صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ » .

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

قوله سبحانه وتعالى : { الم * أَحَسِبَ الناس } يعني : أيظن الناس { أَن يُتْرَكُواْ } يعني : أن يمهلوا { أَحَسِبَ الناس أَن } أي صدقنا { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } يعني : لا يبتلون قال في رواية الكلبي لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [ الأنعام : 65 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أمَّتِي عَلَى هذا » فقال له جبريل عليه السلام : فادع الله لأمتك ، فقام فتوضأ ، ثم صلى ركعتين ، ثم سأل ربه عز وجل أن لا يبعث عليهم العذاب . قال : فنزل جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد إن الله عز وجل قد أجار أمتك من خصلتين ، وألزمهم خصلتين ، قال : فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم صلى ، فأحسن الصلاة ، ثم سأل ربه عز وجل لأمته أن لا يلبسهم شيعاً ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فنزل جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد قد سمع الله عز وجل مقالتك ، فإنه يقول ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك ، فصدقهم مصدقون ، وكذبهم مكذبون ، ثم لم يمنعنا أن نبتليهم بعد قبض أنبيائهم ببلاء يعرف فيه الصادق من الكاذب ، ثم نزل قوله عز وجل { الم * أَحَسِبَ الناس } الآية .
قال مقاتل في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أول قتيل قتل من المسلمين يوم بدر ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة ، فجزع أبواه وامرأته ، وقد كان الله بيّن للمسلمين أنه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله عز وجل فنزل { الم * أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ } .
وقال بعضهم : لما أصيب المسلمون يوم أحد ، وكانت الكرة عليهم ، فعيرهم اليهود والنصارى والمشركون ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت في عباس بن أبي ربيعة ، وفي نفر معه أخذهم المشركون وعذبوهم على الإسلام ، فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت في جمع المسلمين . ومعناه : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ، ثم لا يفرض عليهم الفرائض . وقال الزجاج : هذا اللفظ لفظ الاستخبار ، والمعنى تقرير وتوبيخ ، معنى أحسب الناس أن يقنع منهم؛ بأن يقولوا : آمنا فقط ، ولا يختبروا ويقال : أن لا يعذبوا في الدنيا . ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : اختبرنا الذين كانوا من قبل هذه الأمة وابتليناهم ببلايا { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } يعني : إنما يبتليهم ليبين الذين صدقوا من المؤمنين في إيمانهم { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } منهم فشكوا عند البلاء . ويقال : معناه ليبين صدق الصادق ، وكذب الكاذب بوقوع صدقه ، ووقوع كذبه . وقال القتبي : يعني : ليميزن الله الذين صدقوا ، ويميز الكاذبين .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

ثم قال : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات } يعني : الشرك والمعاصي { أَن يَسْبِقُونَا } يعني : أن يفوتونا . ويقال : يعجزونا . ويقال : يهربوا منا فلا نجازيهم { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } يعني : بئس ما يقضوا لأنفسهم . قال الكلبي : نزلت في عتبة وشيبة والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر ، فبارزهم من المسلمين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث ، فنزل في شأن مبارزي المسلمين { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ } يعني : الآخرة لكائن { وَهُوَ السميع العليم } السميع لمقالتهم العليم بهم ، وبأعمالهم . وقوله عز وجل : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ } يعني : علي بن أبي طالب وصاحباه رضي الله عنهم { إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين } يعني : عن نصرة العالمين يوم بدر . ويقال : نزلت في جميع المسلمين من كان يرجو لقاء الله ، أي : يخاف الآخرة ويقال : يخاف الموت ، فيستعد للآخرة والموت بالعمل الصالح { فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ } ويعني : كائن { وَهُوَ السميع } لدعائهم ، { العليم } بأمر الخلق ، ومن جاهد يعني : عمل الخيرات ، فإنما يجاهد لنفسه يعني : ثوابه لنفسه إن الله لغني عن العالمين . يعني : عن أعمالهم ، فإنما ثوابهم لأنفسهم . ثم قال عز وجل : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ } أي : لنمحون عنهم { سَيّئَاتِهِمْ } يعني : ذنوبهم ويقال : { ***لنجزينهم } . يعني : ثواباً أفضل من أعمالهم ، لكل حسنة عشرة وأكثر . ويقال : { ***لنجزينهم } . يعني : لنثيبنهم أحسن الذي كانوا يعملون ، أي أفضل من أعمالهم ، يعني : يجازيهم بأحسن أعمالهم الذي كانوا يعملون في الدنيا ، فذلك قوله عز وجل : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } يعني : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن ، يعني : براً بهما .
وقال الكلبي : نزلت الآية في سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه : يا سعد بلغني أنك صبوت إلى دين محمد ، فوالله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد ، وترجع إلى دينك الذي كنت عليه فأبى عليها ذلك ، فثبتت على حالها لا تطعم ولا تشرب ، ولا تسكن بيتاً ، فلما خلص إليها الجوع لم تجد بداً من أن تأكل وتشرب ، فحثّ الله سعد بالبر إلى أمه ، ونهاه أن يطيعها على الشرك فقال : { وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما ليس لك به حجة يعني : الشرك { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في الشرك ، ثم حذّره ليثبت على الإسلام فقال : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } يعني : مصيركم في الآخرة { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : أخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر ، وأثيبكم على ذلك .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

ثم قال عز وجل : { والذين ءامَنُواْ } يعني : أقروا وصدقوا بوحدانية الله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين } أي : مع الأنبياء والرسل عليهم السلام في الجنة . ويقال : لندخلنهم في جملة الصالحين ، ونحشرهم مع الصالحين قوله عز وجل : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } نزلت في عياش بن أبي ربيعة هاجر إلى المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، فجزعت أمه من ذلك جزعاً شديداً . فقالت لأخويه : أبي جهل بن هشام والحارث بن هشام ، وهما أخواه لأمه ، وأبناء عمه ، فخرجوا في طلبه ، فظفروا به . وقالوا له : إن برّ الوالدة واجب ، فعليك أن ترجع فتبرها ، فإنها حلفت أن لا تأكل ولا تشرب ، وأنت أحب الأولاد إليها ، فلم يزالوا به حتى تتابعهم ، فجاؤوا به إلى أمه ، فعمدت أمه فقيدته ، وقالت : والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد ، وضربوه حتى رجع إلى دينهم فنزل { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } { فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله } يعني : عذب في دين الله عز وجل : { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } يعني : عذاب إخوته في الدنيا { كَعَذَابِ الله } في الآخرة ويقال نزلت في قوم من المسلمين أخذوهم إلى مكة ، وعذبوهم حتى ارتدوا فنزل { مِنَ الناس *** مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } يعني : جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله فينبغي للمسلم أن يصبر على إيذائه في الله ، وصارت الآية لجميع المسلمين ليصبروا على ما أصابهم في الله عز وجل .
ثم قال : { وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } يعني : لو يجيء نصر من الله عز وجل بظهور الإسلام والغلبة على العدو بمكة وغيرها { لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي : على دينكم { أَوَلَيْسَ *** الله بِأَعْلَمَ } يعني : أوليس الله عليم { بِمَا فِى صُدُورِ العالمين } من التصديق والتكذيب أعلم بمعنى عليم يعني : هو عليم بما في قلوب الخلق ويقال : معناه هو أعلم بما في صدورهم منهم . أي : بما في صدور أنفسهم { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ } يعني : ليميزن الله الذين ثبتوا على دين الإسلام { وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } يعني : ليميزن المنافقين الذين لم يكن إيمانهم حقيقة قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي : جحدوا وأنكروا { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } وذلك : أن أبا سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن شيبة ، قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : أو خباب بن الأرت ، وأناس آخرين من المسلمين : { اتبعوا سَبِيلَنَا } يعني : ديننا الذي نحن عليه ، واكفروا بمحمد ودينه { وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } يعني : نحن الكفلاء لكم بكل تبعة من الله عز وجل تصيبكم ، وأهل مكة شهداء علينا يقول الله عز وجل : { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء } يعني : لا يقدرون أن يحملوا خطاياهم .

يعني : وبال خطاياهم عنهم ، ولا يدفعون عنهم ، لأنهم لو استطاعوا أن يدفعوا لدفعوا عن أنفسهم { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في مقالتهم ثم قال عز وجل : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } يعني : يحملون من أوزار الذين يضلونهم من غير أن ينقص من أوزار العاملين شيء ، وهذا كقوله عز وجل : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] وهذا كما روي في الخبر من سن سنة سيئة ، كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ } يعني : عما يقولون من الكذب .
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } يدعوهم إلى الإسلام ، ويحذرهم وينذرهم ، فأبوا أن يجيبوه فكذبوه { فَأَخَذَهُمُ الطوفان } يعني : الغرق { وَهُمْ ظالمون } وقال القتبي : الطوفان المطر الشديد ، وكذلك الموت إذا كثر . وقال مقاتل : الطوفان ما طغى فوق كل شيء . وقال بعض أهل اللغة : هذا الاشتقاق غير صحيح ، لأنه لو كان هذا . لقال : طغوان لأنه يقال : طغى يطغو . وقال بعضهم : هذا على وجه القلب ، كما يقال : جذب وجبذ . ويقال : أصله من الطوف ، أي : سار وطاف في الأرض . وقال الزجاج : الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً كالقتل الذريع الكثير ، يسمى طوفان . ثم قال عز وجل : { فأنجيناه } يعني : نوحاً عليه السلام { وأصحاب السفينة } من الغرق { وجعلناها ءايَةً للعالمين } يعني : جعلنا السفينة عبرة لمن بعدهم ، وقد بقيت السفينة على الجودي إلى وقت قريب من وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ، ومن لم يرها ، لأن الخبر قد بلغه . ويقال : رسم السفينة التي بقيت بين الخلق وقت نوح ، وتجري في البحر علامة للعالمين .

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

قوله عز وجل : { وإبراهيم } يعني : أرسلنا إبراهيم عطفاً على قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا } ويقال : معناه واذكر إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه } يعني : وحدوا الله عز وجل ، { واتقوه } يعني : اخشوه ولا تعصوه { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني : التوحيد وعبادة الله عز وجل خير من عبادة الأوثان { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . قوله عز وجل : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا } يعني : أصناماً { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } يعني : تعملونها بأيديكم ، ثم يقولون إنها آلهة ويقال تتخذونها آلهة كذباً ثم قال : { إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } وهي الأصنام { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } يعني : لا يقدرون أن يعطوكم مالاً ، ولا يقدرون أن يرزقوكم { فابتغوا عِندَ الله الرزق } يعني : الله عز وجل ، هو الذي يملك رزقكم ، فاطلبوا الرزق من الله عز وجل : { واعبدوه واشكروا لَهُ } أي : وحدّوه واشكروا له في النعم ، فإن مصيركم إليه { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بعد الممات . قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لأهل مكة { وَإِن تُكَذّبُواْ } بما أخبرتكم من قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } يعني : كذبوا رسلهم { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } يعني : إلا أن يبلغ الرسالة ، ويبين أمر العذاب . ويقال : إلا أن يبلغ الرسالة ، ويبين مراد الرسالة .
ثم قال الله عز وجل : { أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { أَوَ لَمْ *** تَرَوْاْ } بالتاء على معنى المخاطبة . يعني : قل لهم يا محمد أو لم تروا . وقرأ الباقون بالياء . ومعناه : يا محمد أو لم يروا هؤلاء الكفار { كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } يعني : يخلقهم في الابتداء ، ولم يكونوا نسياً ، ثم يعيدهم كما خلقهم { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني : إن الذي خلق الخلق ، يقدر أن يعيدهم ، وهو عليه هين قوله عز وجل : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } يعني : سافروا في الأرض . يعني : فتعتبروا في أمر البعث . ويقال : سيروا في الأرض . يعني : اقرؤوا القرآن { فانظروا } أي فاعتبروا { كَيْفَ بَدَأَ الخلق } يعني : كيف خلق الخلق { ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الاخرة } يعني : يحييهم بعد الموت للمبعث { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من أمر البعث وغيره . ثم قال عز وجل : { يُعَذّبُ مَن يَشَاء } يعني : يخذل من يشاء ولا يهدي من لم يكن أهلاً لذلك . { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } أي يهديه إن كان أهلاً كذلك { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } يعني : ترجعون إليه في الآخرة قوله عز وجل : { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الارض } يعني : لا تهربون منه ولا تفوتونه { وَلاَ فِى السماء } يعني : إن كنتم في الأرض ، ولا في السماء لا يَقدرون أن يهربوا منه { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله } يعني : من عذاب الله { مِن وَلِىّ } يعني : من قريب ينفعكم { وَلاَ نَصِيرٍ } يعني : ولا مانع يمنعكم من عذاب الله عز وجل .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

ثم قال عز وجل : { والذين كَفَرُواْ بئايات *** والله } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَلِقَائِهِ } يعني : كفروا بالبعث بعد الموت { أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } يعني : من جنتي { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة ، ثم رجع إلى قصة إبراهيم . حيث قال لقومه : { اعبدوا الله واتقوه } قوله عز وجل : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } وفي الآية مضمر ومعناه : فقذفوه في النار ، فأنجاه الله من النار فلم تحرقه ، وجعلها برداً وسلاماً { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما أنجاه الله من النار بعدما قذفوه فيها { لاَيَاتٍ } يعني : لعبرات { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون بتوحيد الله تعالى فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا } يعني : إنما عبدتم من دون الله أوثاناً يعني : أصناماً { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } على عبادة أصنامكم . قرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، { مَّوَدَّةَ } بنصب الهاء مع التنوين { بَيْنِكُمْ } بنصب النون . يعني : اتخذتم أوثاناً آلهة مودة بينكم على عبادتها صار نصباً لوقوع الفعل عليه . وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص مودة بنصب الهاء بغير التنوين بينكم بكسر النون على معنى الإضافة ، وقرأ الباقون مودة بالضم بينكم بالكسر .
وروي عن الفرّاء أنه قال : إنما صار المودة رفعاً بالصفة بقوله عز وجل : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } وينقطع الكلام عند قوله : { إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا } ثم يبين ضرر مودتهم في الحياة الدنيا فقال تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } يعني : ليس مودتكم تلك الأصنام بشيء ، لأن مودة ما بينكم في الحياة الدنيا تنقطع ، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ، يعني : الأصنام من العابد ، والشياطين ممن عبدها . ويقال يعني : الأتباع والقادة تتبرأ القادة من الأتباع { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } يعني : الأتباع يلعنون القادة ، والعابد يلعن المعبود { وَمَأْوَاكُمُ النار } يعني : مصيركم إلى النار { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } يعني : مانعين من عذاب الله عز وجل .

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

قوله عز وجل : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } يعني : صدق لوط إبراهيم عليهما السلام على الهجرة . ويقال : صدقه بالنبوة حين لم تحرقه النار { وَقَالَ } إبراهيم { إِنّى مُهَاجِرٌ إلى رَبّى } يعني : إلى رضاء ربي وطاعة ربي . ويقال : إلى أرض مصر في أرض ربي ، فهجر قومه الكافرون وخرج إلى الأرض المقدسة ، ومعه سارة ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره . ويقال : حكيم حكم أن من لم يقدر في بلدة على طاعة الله عز وجل فليخرج إلى بلدة أخرى . قوله عز وجل : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } يعني : المهاجر إلى طاعة الله عز وجل أكرمه الله في الدنيا وأعطاه ذرية طيبة ، وهو ولده إسحاق ، وولد ولده يعقوب عليهم السلام ووهب له أربعة أولاد : إسحاق من سارة ، وإسماعيل من هاجر ، ومدين ومداين من غيرهما { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة } يعني : من ذرية إبراهيم النبوة والكتاب يعني أكرم الله عز وجل ذريته بالنبوة ، وأعطاهم الصحف . ويقال : أخرج من ذريته ألف نبي { والكتاب } يعني : الزبور والتوراة والإنجيل والفرقان { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } يعني : أعطيناه في الدنيا الثناء الحسن { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } يعني : مع النبيين في الجنة .
قوله عز وجل : { وَلُوطاً } يعني : وأرسلنا لوطاً { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص ، { إِنَّكُمْ } على معنى الخبر . وقرأ أبو عمرو { أَئِنَّكُمْ } بالمد على معنى الاستفهام ، { لَتَأْتُونَ الفاحشة } يعني : المعصية { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين *** أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } واتفقوا في هذا الحرف على لفظ الاستفهام ، واختلفوا في الأول ، فقرأ الذين سميناهم على وجه الإخبار عنهم إنكم تفعلون ، وتكون على وجه التعيير . وقرأ الباقون الأول على وجه الاستفهام ، فيكون اللفظ لفظ الاستفهام ، والمعنى منه التوبيخ والتقريع ثم قال : { وَتَقْطَعُونَ السبيل } يعني : تعترضون الطريق لمن مرّ بكم بعملكم الخبيث . ويقال : { وَتَقْطَعُونَ السبيل } . يعني : تأخذون أموالكم ، كانوا يفعلون ذلك ، لكيلا يدخلوا في بلدهم ، ويتناولوا من ثمارهم ، ويقال : تقطعون السبيل النسل { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر } يعني : تعملون في مجالسكم المنكر . وقال بعضهم : يعني به اللواطة كانوا يفعلون ذلك في المجالس بالعلانية . ويقال : أراد به المعاصي ، وهي الرمي بالبندق الصغير والحذف ، ومضغ العلك ، وحل إزار القباء ، واللعب بالحمام ، وشرب الخمر ، وضرب العود والمزامير ، وغير ذلك من المعاصي . وروت أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر } قال : « كَانُوا يَحْذِفُونَ أهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } بالعذاب ، وإن العذاب نازل بنا { قَالَ رَبّ انصرنى } أي أعني { عَلَى القوم المفسدين } يعني : المشركين .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

قوله عز وجل : { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى } يعني : بالبشارة بالولد { قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية } يعني : قريات لوط { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين } يعني : كافرين { قَالَ } إبراهيم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } يعني : أتهلكهم وفيهم لوط { قَالُواْ } يعني : قال جبريل عليه السلام : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } يعني : من الباقين في الهلاك { وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ } يعني : ساء مجيئهم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } يعني : اغتم بقدومكم ، فلا يدري أيأمرهم بالخروج أم بالنزول . ويقال : ضاق بهم القلب { وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ } علينا { وَلاَ تَحْزَنْ } من العذاب { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } قرأ حمزة والكسائي { لَنُنَجّيَنَّهُ } ، و { إِنَّا مُنَجُّوكَ } كلاهما بالتخفيف . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم كلاهما بالتشديد . وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم الأول بالتشديد ، والثاني بالتخفيف ، ومعناهما واحد . ويقال : أنجيته ونجيته بمعنى واحد { إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين } .
ثم قال عز وجل : { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية } قرأ ابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين { مُنزِلُونَ } بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد { رِجْزًا مّنَ السماء } يعني : أنزلنا عذابنا من السماء { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } يعني : يعصون الله عز وجل . قوله عز وجل : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا } يعني : من قرية لوط { بَيّنَةً لّقَوْمٍ } يعني : علامة ظاهرة واضحة يعني : هلاكهم علامة ظاهرة ويقال : قرياتهم علامة ظاهرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يعني : لمن كان له ذهن الإنسانية { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءايَةً } . يعني : الحجارة التي أنزلها الله تعالى من السماء على كل واحد منها اسم صاحبها { وإلى مَدْيَنَ } يعني : وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شُعَيْباً } يعني : نبيهم شعيباً { فَقَالَ ياقوم *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله } يعني : وحدوا الله وأطيعوه { وارجوا اليوم الاخر } يعني : خافوا يوم القيامة ، لأنه آخر الأيام . ويقال : يوم الموت ، وهو آخر أيامهم { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ } يعني : لا تعملوا في الأرض بالمعاصي في نقصان الكيل والوزن { فَكَذَّبُوهُ } يعني : أوعدهم بالعذاب على نقصان الكيل والوزن . فكذبوه { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يعني : العذاب . ويقال : الزلزلة ، وأصله الحركة { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } يعني : صاروا في دارهم يعني : في محلتهم { جاثمين } يعني : ميتين ، أو يقال : خامدين فصاروا كالرماد . ويقال : جثم بعضهم على بعض بالموت . وقال أبو سهل : جاثمين ، أي ساقطين على وجوههم وركبهم . وقال مقاتل : شبه أرواحهم في أجسادهم ، وهم أحياء بالنار إذا اتقدت ، ثم طفئت ، فبينما هم أحياء إذ صاح بهم جبريل ، فصعقوا أمواتاً أجمعين .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

ثم قال عز وجل : { وَعَاداً وَثَمُودَ } وقال بعضهم : انصرف إلى قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] وقال بعضهم : انصرف إلى قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } [ الأعراف : 78 ] يعني : أخذهم العذاب وأخذ عاداً وثموداً . ويقال : معناه اذكر عاداً وثموداً ، أو يقال : صار نصباً لنزع الخافض ومعناه : وأرسلنا الرسل إلى عاد وثمود . { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم } يعني : ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم آية في إهلاكهم . { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } يعني : ضلالتهم { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } يعني : صرفهم عن الدين ، ويقال : منعهم عن التوحيد . ويقال : صدّ يصدّ صدّاً إذا منعه وصدّ يصدّ صدوداً إذا امتنع بنفسه وأعرض .
قوله { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } في دينهم وهم يرون أنهم على الحق ، وهم على الباطل . ويقال : كانوا مستبصرين ، أي : ذوي بصيرة ، ومع ذلك جحدوا .
ثم قال عز وجل { وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان } يعني : أهلكنا قارون وفرعون وهامان { وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات } يعني : بالعلامات والآيات { فاستكبروا فِى الارض } يعني : طغوا فيها ، وتعظموا عن الإيمان { وَمَا كَانُواْ سابقين } يعني : بفائتين من عذابنا .
قوله عز وجل : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } يعني : كلهم أهلكناهم بذنوبهم . ويقال : معناه أهلكنا كلّ واحد منهم بذنبه لا بذنب غيره . { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } يعني : الحجارة ، وهم قوم لوط . { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض } يعني : قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } وهم فرعون وقومه . وقال العتبي الأخذ أصله باليد ، ثم يستعار في مواضع ، فيكون بمعنى القبول ، كقوله عز وجل { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ] أي قبلتم عهدي ، والأخذ التعذيب ، كقوله { وكذلك أَخْذُ رَبّكَ } وكقوله { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } يعني : عذبنا ، وكقوله { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ غافر : 5 ] يعني : ليعذبوه { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } يعني : لم يعذبهم من غير جرم منهم . { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بجرمهم يستوجبون العقوبة .

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

قوله عز وجل : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } يعني : مثل عبادتهم الأصنام في الضعف ، وقلة نفعهم إياهم . { كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت } يعني : أضعف البيوت { لَبَيْتُ العنكبوت } لأنه لا يغني من حر ولا من برد ولا من مطر وكذلك آلهتهم لا يدفعون عنهم ضرّاً ، ولا يقدرون لهم نفعاً .
ثم قال : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني : لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأصنام كذلك ، لأنهم قد علموا أن بيت العنكبوت أوهن البيوت ، ولكن قوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } انصرف إلى قوله : { اتخذوا } ، يعني : لا يعلمون أن هذا مثله .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } وهذه كلمة تهديد ، يعني : يعلم بعقوبتهم . ويقال : إن الله يعلم أن الآلهة لا شفاعة لهم ولا قدرة . { وَهُوَ العزيز } بالنعمة لمن عصاه { الحكيم } حكم بالعقوبة على من عبد غيره ، ويقال : حكم أن لا يعبد غيره . { وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } يعني : أمثال آلهتهم نبينها للناس . { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } يعني : لا يفهمها ويعلمها إلا الموحدون ، ويقال : يعني : العاقلين .
قرأ أبو عمرو وعاصم { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ } بالياء على لفظ المغايبة . وقرأ الباقون بالتاء على لفظ المخاطبة ، يعني : قل لهم يا محمد إن الله يعلم ما تدعون من دونه .
ثم قال عز وجل : { خَلَقَ الله السموات والارض بالحق } يعني : بالعدل ، ويقال : لبيان الحق ، ولم يخلقها باطلاً . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : خلق السموات والأرض { لآيَةً } يعني : لعبرات { لِلْمُؤْمِنِينَ } يعني : المصدقين وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بها .

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

قوله عز وجل : { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } يعني : اقرأ عليهم ما أنزل إليك { مّنَ الكتاب } يعني : من القرآن . ويقال : هو أمر بتلاوة القرآن ، يعني : اقرؤوا القرآن ، واعملوا بما فيه . { اتل مَا } يعني : وأتمَّ الصلاة { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } يعني : ما دام العبد يصلي لله عز وجل انتهى عن الفحشاء والمنكر والمعاصي . ويقال : { اتل مَا } يعني : وأدِّ الصلاة الفريضة في مواقيتها بركوعها وسجودها والتضرع بعدها { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ } يعني : إذا صلى العبد لله صلاة خاشع يمنعه من المعاصي ، لأنه يرق قلبه ، فلا يميل إلى المعاصي .
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ تَزِدْهُ صَلاتُهُ عِنْدَ الله إلاَّ مَقْتاً » وروي عن الحسن البصري رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتَهُ عَن فَحْشَاءَ وَلاَ مُنْكَرٍ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ الله إلاَّ بُعْداً » وقال الحسن : إذا لم تنته بصلاتك عن الفحشاء فلست بمُصَلٍ . ثم قال { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يعني : أفضل من سائر العبادات . وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة ، ثم قرأ هذه الآية { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى } قال مقاتل : ولذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه بالصلاة ، وقال الكلبي : يقول : ذكره إياكم بالخير أكبر من ذكركم إياه ، والله يذكر من ذكره بالخير .
قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الماسرجسي قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال سألني ابن عباس عن قوله : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } فقلت : هو التسبيح والتهليل والتقديس ، فقال : لقد قلت شيئاً عجيباً ، وإنما هو ذكر الله العباد أكثر من ذكر العباد إياه . وقال قتادة : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي : ليس شيء أفضل من ذكر الله . وسئل سلمان الفارسي أي العمل أفضل؟ قال : ذكر الله . ويقال : ذكر الله أفضل من الاشتغال بغيره . ويقال : ذكر الله حين كتبكم في اللوح المحفوظ من المسلمين أفضل . ويقال : ذكر الله عز وجل لك بالمغفرة أفضل من ذكرك إياه . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ ذَكَرَ الله فِي نَفْسِهِ ذَكَرَهُ الله في نَفْسِهِ وَمَنْ ذَكَرَهُ في مَلإٍ ذَكَرَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ في مَلإٍ أَكْبَرَ مِنَ المَلإِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِمْ وَأَطْيَبَ ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنَ الله شِبْراً تَقَرَّبَ الله مِنْهُ ذِرَاعاً يعني : بإجابته وتوفيقه ورحمته وَمَنْ تَقَرَّبَ إلى الله تَعَالَى ذِرَاعاً تَقَرَّبَ الله مِنْهُ باعاً ، وَمَنْ أتَى الله مَاشِياً أتاهُ هَرْوَلةً »

يعني : بإجابته وتوفيقه .
ثم قال تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والشر فيجازيكم به .
قوله عز وجل : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب } قال مقاتل : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب } البتة ، يعني : مؤمنيهم ، ثم استثنى كفارهم ، فقال : { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } فيها تقديم ثم نسخته آية قتال أهل الكتاب . وقال الكلبي : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب } إن الله عز وجل أمر المسلمين إذ كانوا بمكة قبل أن يأمرهم بالقتال ، فقال : { وَلاَ تجادلوا } من أتاكم من أهل الكتاب { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالقرآن تعظونهم به ، وتدعونهم إلى الإسلام ، وهي التي أحسن { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } في الملاعنة ، وهم أهل نجران . ويقال : { لا *** تجادلوا أَهْلَ الكتاب } يعني : لا تخاصموهم { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } يعني : إلا بالكلمة التي هي أحسن ، وهي كلمة التوحيد { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } يعني : ولا الذين ظلموا منهم . ويقال : إلا الذين ظلموا منهم ، فلا بأس بأن تجادلوهم بما هو أشد ، ثم بيّن الكلمة التي هي أحسن ، فقال : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } يعني : القرآن والتوراة . { وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ } يعني : ربنا وربكم واحد . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يعني : مخلصون بالتوحيد .
ثم قال عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } يعني : القرآن ، كما أنزلنا إلى موسى وعيسى عليهما السلام { فالذين ءاتيناهم الكتاب } وهم مؤمنو أهل الكتاب { يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : يصدقون بالقرآن { وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } يعني : قريشاً { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { إِلاَّ الكافرون } من اليهود ومشركي العرب .
ثم قال عز وجل : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كتاب } يعني : من قبل القرآن { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي : لم تكن تكتب شيئاً بيدك . { إِذاً لارتاب المبطلون } يعني : فلو كنت قرأت الكتب أو كنت تكتب بيدك لشكَّ أهل مكة في أمرك ، ويقولون إنه قرأ الكتب ، وأخذ منها ، ويقال : معناه لارتاب المبطلون يعني : لشك أهل الكتاب في أمرك لأنهم وجدوا في كتبهم نعته وصفته أنه أمي لا يقرأ الكتب ، كيلا يشكوا في صفته . { بَلْ هُوَ ءايات بينات فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم } يعني : بل هو يقين أنه نبي عند أهل العلم ، ويقال : يعني : القرآن آيات بينات ، يعني : واضحات ، ويقال : بل إنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات ، لأنه أخبر عن أقاصيص الأولين في صدور الذين أوتوا العلم ، يعني : مؤمني أهل الكتاب { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إِلاَّ الظالمون } يعني : الكافرون .

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مّن رَّبّهِ } أي علامة من ربه { قُلْ إِنَّمَا الايات } يعني : العلامات { عَندَ الله } يعني : من عند الله عز وجل وليس بيدي شيء . { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : مخوفاً مفقهاً لكم أنبئكم بلغة تعرفونها . قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص { ءايات } بلفظ الجماعة ، يعني : آيات القرآن . والباقون { ءايَةً } يعني : آية واحدة ، يعني : أنه كان لا يكتب ، وكان له في ذلك آية بينة لنبوته ، ويجوز أن يكونا معناه الآيات للجنس .

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

ثم قال عز وجل : { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } يعني : القرآن فيه خبر ما مضى ، وخبر ما يكون أو لم يكفهم هذا علامة ، ويقال : أو لم يكفهم أنهم فصحاء فجاءهم بالقرآن الذي أعجزهم عن ذلك . وقال الزجاج : كان قوم من المسلمين كتبوا شيئاً عن اليهود فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « كَفَى هَذا حَمَاقَةَ قَوْمٍ أوْ ضَلاَلَةَ قَوْمٍ أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا أتاهُمْ بهِ نَبِيُّهُمْ إلى ما أَتَى بِهِ غَيْرُ نَبِيِّهِمْ » فقال عز وجل : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } { يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذلك لَرَحْمَةً } يعني : في هذا القرآن لنعمة لمن آمن به { وذكرى } أي موعظة ويقال : تفكر { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون بالقرآن ، فقال له كعب بن الأشرف : فقد كان قدم مكة من يشهد لك أنك رسول الله إن لم يشهد لك ، فنزل { قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } بأني رسول الله { يَعْلَمُ مَا فِى السموات والارض *** والذين ءامَنُواْ بالباطل } يعني : بالصنم ويقال بالشيطان ، ويقال : بالطاغوت ، وهو كعب بن الأشرف . { وَكَفَرُواْ بالله } يعني : جحدوا وحدانية الله { أولئك هُمُ الخاسرون } يعني : المغبونين في العقوبة . ويقال : خسروا حيث استوجبوا لأنفسهم العقوبة .
ثم قال عز وجل : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } وذلك أنهم قالوا : ائتنا بعذاب الله .
يقول الله عز وجل : { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } أي لولا الوقت الذي وقّتَ لهم { لَّجَاءهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } يعني : فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بنزول العذاب .
{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } يعني : جعلت لهم النار تحيط بهم . قوله عز وجل { يَوْمَ يغشاهم العذاب } يعني : يعلوهم { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ } بالنون ، يعني : نقول لهم نحن ذوقوا ، وهي حكاية عن الله سبحانه وتعالى بلفظ الجماعة ، وهو لفظ الملوك . وقرأ الباقون بالياء يعني : يقول الله عز وجل . ويقال : وتقول لهم الخزنة { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : جربوا عقوبة ما كنتم تعملون في الدنيا .
ثم قال عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بسكون الياء ، وقرأ الباقون بنصب الياء ، وقرأ ابن عامر وحده { إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } بنصب الياء ، وقرأ الباقون بسكونها في مثل هذه المواضع ، لغتان يجوز كلاهما ، ومعناه : إن أرضي واسعة ، إذا أُمِرْتُم بالمعصية والبدعة فاهربوا ، ولا تطيعوا في المعصية ، نزلت في ضعفاء المسلمين { إِن كُنتُمْ } يعني : إذا كنتم في ضيق من إظهار الإسلام بمكة فَإِنَّ أَرْضِيَ وَاسِعَةٌ يعني : المدينة واسعة بإظهار الإسلام .

وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال : « مَنْ فَرَّ بِدِينهِ مِنْ أَرْضٍ إلى أرضٍ وإنْ كَانَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ اسْتَوْجَبَ الجَنَّةَ وَكَانَ رَفِيقَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلام » وإنما خصَّ إبراهيم لأنه قال { فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إلى ربى إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم } [ العنكبوت : 26 ] ففرَّ بدينه إلى الأرض المقدسة ، وإنما خصّ محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هاجر من مكة إلى المدينة . ويقال : إن القوم كانوا في ضيق من العيش فقال : إن كنتم تخافون شدة العيش فإن أرضي واسعة . { فَإِيَّاىَ فاعبدون } أي موحدون بالمدينة علانية .
ثم خوفهم بالموت ليهاجروا فقال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } لأنهم كانوا يخافون على أنفسهم بالخروج ، فقال لهم : لا تخافوا فإنَّ { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَرْجِعُونَ } بالياء بلفظ المغايبة على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون بالتاء على معنى الخطاب لهم .
ثم قال عز وجل : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بالله ورسوله { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات وهاجروا فسمى الهجرة من الأعمال الصالحة لأنها كانت فريضة في ذلك الوقت { لَنُبَوّئَنَّهُمْ } يعني : لننزلنهم ولنسكننهم . { مّنَ الجنة غُرَفَاً } يعني : غرفاً من الجنة . قرأ حمزة والكسائي : { ***لنثوينهم } بالثاء ، وقرأ الباقون { ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ } بالياء ، فمن قرأ بالثاء فهو من ثويت بالمكان ، يعني : أقمت به ، كقوله { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 45 ] ومن قرأ بالباء يعني : لننزلنهم ، وذكر عن الفراء أنه قال : كلاهما واحد ، بوأته منزلاً أي أنزلته ، وأثويته منزلاً يعني : أنزلته سواء ، كقوله { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } .
ثم قال { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين } أي ثواب الموحدين { الذين صَبَرُواْ } على الهجرة . ويقال : صبروا على أمر الله تعالى . { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يثقون به ولا يهتمون للرزق لأنهم كانوا يقولون : كيف نهاجر وليس لنا مال ولا معيشة ، فوعظهم الله ليعبتروا فقال :

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

{ وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ } يعني : وكم من دابة في الأرض أو من طائر في السماء { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } معها ولا يجمع الغذاء إلا النملة والفأرة . ويقال : لا تخبىء رزقها { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } يعني : يرزق الدواب حيث ما توجهت ، وإياكم إذا هاجرتم إلى المدينة . { وَهُوَ السميع } لمقالتكم { العليم } بكم { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } يعني : كفار مكة { مِنْ خلاق *** السموات والارض *** وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } يعني : من أين يكذبون بتوحيد الله عز وجل .
ثم رجع إلى أهل الهجرة ورغبهم فيها فقال { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء } يعني : يوسع على من يشاء { مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } ويقتر لمن يشاء { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } من البسط والتقتير { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض *** بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني : من بعد يبسها وقحطها { لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ } على إقرارهم بذلك { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } توحيد ربهم ، وهم مقرون بالله عز وجل خالق هذه الأشياء .

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله عز وجل : { وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ } يعني : باطل { وَلَعِبٌ } كلعب الصبيان ، ولهو كلهو الشبان . ويقال : فرح لا يبقى للخلق ولا يبقى فيها إلا العمل الصالح . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه أو عالماً أو متعلماً» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مَرَّ بسخلة منتنة فقال : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ للدُّنْيَا على الله أهْوَنُ مِنْ هذه السَّخْلَةِ عَلَى أَهْلِهَا» { وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان } يعني : هي دار الحياة لا موت فيها { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني : لو كانوا يصدقون بثواب الله عز وجل . { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك } يعني : في السفن { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } يعني : مجدين وتركوا دعاء أصنامهم ، ويعلمون أنه لا يجيبهم أحد إلا الله تعالى . { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } يعني : إلى القرار { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } به .
قوله عز وجل : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } يعني : ما أعطيناهم من النعمة { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر ونافع في رواية ورش : { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } بكسر اللام ، وقرأ الباقون بالجزم . فمن قرأ بالكسر ، فمعناه : لكي يتمتعوا ، لأن الكلام عطف على ما قبله يعني : يشركون لكي يكفروا ، ولكي يتمتعوا في الدنيا . ومن قرأ بالجزم فهو على معنى التهديد والتوبيخ بلفظ الأمر ، وتشهد له قراءة أبيَّ كان يقرأ تمتعوا . { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ومعناه وليتمتعوا ، يعني : وليعيشوا فسوف يعلمون إذا نزل بهم العذاب { أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ } يعني : أو لم يعلموا ويعتبروا { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس } يعني : يختلس الناس فيقتلون ويسبون وهم آمنون يأكلون رزقي ويعبدون غيري ، فكيف أسلط عليهم إذا أسلموا . { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } يعني : أفبالشيطان يصدقون أن لي شريكاً . ويقال : أفبالأصنام يؤمنون { وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ } يعني : وبخالق هذه النعمة ورسوله يجحدون .
ثم قال عز وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } بأن معه شريكاً { أَوْ كَذَّبَ بالحق } يعني : بالقرآن { لَمَّا جَاءهُ } أي حين جاءه { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } مثوى ، أي مقاماً للكافرين بالتوحيد كما قال { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ثم قال عز وجل : { والذين جاهدوا فِينَا } يعني : رغبوا في طاعتنا { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } يعني : لنعرفنهم طريقنا ، ويقال : معناه لنرشدنهم طريق الجنة { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } يعني : في العون لهم ويقال : والذين عملوا بما علموا لنوفقنهم لما لم يعلموا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)

قول الله سبحانه وتعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم } يعني قهرت الروم { فِى أَدْنَى الارض } مما يلي فارس يعني أرض الأردن وفلسطين { وَهُمْ } يعني أهل الروم { مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أهلَ فارس ، وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر ، ملك الروم ، يدعوه إلى الإسلام ، فقرأ كتابه ، وقبّله ووضعه على عينيه ، وختمه بخاتمه ، ثم أوثقه على صدره ، ثم كتب جواب كتابه : إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله لعيسى ، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : « قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأَرْضِ مِنْهَا بِفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ »
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزَّق كتابه ، ورجع الرسول بعدما أراد قتله ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : « قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً . إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ » فلمّا ظهرت فارس على الروم اغتمَّ المسلمون لذلك ، فنزل قوله تعالى : { الم الم غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الارض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } .
وقال في رواية الكلبي : إن مشركي قريش شتموا حين غلب المشركون أهل الكتاب ، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه لمَ تشتمون؟ فوالله ليظهرنَّ الروم عليهم . فقال أبيُّ بن خلف : والله لا يكون ذلك أبداً فتبايعا أبو بكر وأبيّ بن خلف لتظهرن الروم على أهل فارس إلى ثلاث سنين على تسع ذود . فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بالأمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « انْطلِقْ فَزِدْهُ فِي الخَطَرِ ، وَمُدَّهُ فِي الأجَلِ » فرجعَ أبو بكر إلى أبيّ بن خلف ، فقال : أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة ذَود ، فبايعه فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجراً أتاه فلزمه ، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر . فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحدُ أتاه محمد بن أبي بكر ، فلزمه ، فأعطاه كفيلاً ، ثم خرج إلى أحدُ فظهرت الرُّوم على فارس عام الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين ، فذلك قوله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } .
وروى أسباط ، عن السدي ، عن أصحابه ، قال : اقتتلت فارس والروم ، فغلبتهم فارس ، ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين ، وقال : الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب ، فشقَّ ذلك على المسلمين ، فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان ، فقامره على ثلاثة أبكار على أنَّ الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين ، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال له :

« انْطَلِقْ فَزِدْ فِي الجَعْلِ ، وَزِدْ في السِّنِينَ » فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار . فالتقى الروم وفارس ، فغلبتهم الروم ، وظهر عليهم هرقل ، فجاءه جبريل عليه السلام بهزيمة فارس ، وظهور الرّوم عليهم ، ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين ، ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك .
ويقال إن أهل الروم كانوا أهل كتاب ، وكان المسلمون يرجون إسلامهم ، وأهل فارس كانوا مجوساً ، فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم ، وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم فنزل { الم غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الارض } أي أقرب الأرض إلى أرض فارس { وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } روي عن الفراء أنه قال : يعني من بعد غلبتهم ، ولكن عند الإضافة سقطت الهاء ، كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكواة وَكَانُواْ لَنَا عابدين } [ الأنبياء : 73 ] ولم يقل : وإقامة الصلاة .
وقال الزجاج : هذا غلط ، وإنا يجوز ذلك في المعتلّ خاصة . والغلب والغلبة كلاهما مصدر . و { سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ } يعني إلى خمس سنين ، ويقال : إلى سبع سنين .
روي عن أبي عبيدة أنه قال : البضع من واحد إلى أربعة . وقال القتبي : البضع ما فوق الثلاثة إلى دون العشرة . وقال مجاهد : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، ويقال { مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } وهذا اللفظ يكون للغالبين وللمغلوبين كقولهم من بعد قتلهم .
ثم قال عز وجل : { لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } يعني لله الأمر حين غلبت الروم فارس { وَمِن بَعْدِ } يعني حين غلبت الروم فارس .
ولفظ القبل والبعد إذا كان في آخر الكلام يكون رفعاً على معنى الإضافة للغاية ، ولو كان إضافة إلى شيء يكون خفضاً ، كقولك : من بعدهم ومن قبلهم .
ثم قال : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون } لما يرجون من إسلامهم ، ويقال : يفرح أبو بكر رضي الله عنه خاصة ، ويقال : يفرح المؤمنون بتصديق وعد الله تعالى . وروي عن الشعبي أنه قال : كان ذلك عام الحديبية ، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فبايعوه مبايعة الرضوان ، ووعد لهم غنائم خيبر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان تصديقاً لهذه الآية { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون } وإنَّما جازت مخاطرة أبي بكر رضي الله عنه لأن المخاطرة كانت مباحة في ذلك الوقت ، ثم حرمت بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] الآية ، ثم قال { بِنَصْرِ الله } يعني بفتح الله { يَنصُرُ مَن يَشَاء } يعني نصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وَهُوَ العزيز الرحيم } بالمؤمنين حين نصرهم .
قوله عز وجل : { وَعَدَ الله } نصب الوعد لأنه مصدر ، ومعناه وعد الله وعداً يعني انتصروا وعد الله .
ثم قال : { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } حيث وعد لهم غلبة الروم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يعني الكفار لا يعلمون أن الله عزَّ وجلَّ لا يخلف وعده ، ويقال : لا يعلمون الآخرة .

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)

قوله عزَّ وجلَّ : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } يعني يعلمون حرفتهم ، وأمر معايشهم ، ومتى يدرك زرعهم . ويقال في أمر التجارة كانوا أكيس الناس . وقال الحسن : كان الرجل منهم يأخذ درهماً ويقول وزنه كذا ولا يخطىء . { وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون } أي لا يؤمنون بها . ويقال : عن أمر الآخرة ، وما وعدوا فيها من الهول والعذاب هم غافلون .
ثم وعظهم فقال عز وجل : { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } فيعتبروا في خلق السموات والأرض . وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .
ثم قال : { مَّا خَلَقَ الله السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } يعني للحق { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يعني السموات والأرض لهن أجل ووقت معلوم { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون } يعني جاحدون للبعث .
ثم خوفهم ، فقال عز وجل : { أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني الأمم الخالية كانت عاقبتهم الهلاك ، ثم أخبر عنهم فقال : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الارض } قال مقاتل : يعني ملكوا الأرض . وقال الكلبي : يعني حرثوها . ويقال : أثاروا الأرض إذا قلبوها للزراعة . { وَعَمَرُوهَا } يعني عمروا الأرض { أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } يعني أهل مكة . ويقال : عاشوا فيها أكثر مما عاش أهل مكة { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني بالحجج الواضحات فكذبوهم ، فأهلكهم الله عزَّ وجلَّ { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أي ليعذبهم بغير ذنب { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالمعاصي .
قوله عز وجل : { ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءواْ } يعني آخر أمر الذين أشركوا { السوأى } يعني العذاب ، فيجوز أن تكون ثم على معنى التأخير ، ويجوز أن يكون معناه : ثم مع هذا كان عاقبة الذين . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { وَلِلَّهِ عاقبة } بالضّمّ ، وقرأ الباقون بالنصب ، فمن قرأ بالضم جعله اسم كان ، وجعل { السوء } خبر كان ، ومن قرأ بالنصب جعل العاقبة خبر كان والسوء اسم كان ، ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد ، يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله عزَّ وجلَّ . والسوء هاهنا جهنم ، كما أن الحسنى الجنة .
ثم قال : { ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين } يعني : عاقبة جهنم ، لأنهم كذبوا بآيات الله ما جاءت بها الرسل { وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } يعني : بآيات الله { الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } يعني يحييهم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة . قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : { يَرْجِعُونَ } بالياء على معنى الإخبار عنهم ، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18