كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
{ إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } [ ص : 22 ] يعني : عدلاً . وقال ابن عباس : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، فقال : « خَلَقَ الأَرْوَاحَ ، قَبْلَ الأَجْسَادَ بأَرْبَعِ آلافِ سَنَة » ، وهكذا خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربع آلاف سنة { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء } . قرأ الحسن : { سَوَآء } بكسر الألف . وقرأ أبو جعفر المدني : { سَوَآء } بالضم . وقراءة العامة : بالنصب . فمن قرأ : بالكسر ، جعل سواء صفة للأيام ، والمعنى في أربعة أيام ، مستويات ، تامات للسائلين . ومن قرأ : بالضم ، فمعناه في أربعة أيام وقد تم الكلام .
ثم استأنف فقال : { سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } ومن قرأ : بالنصب . يعني : قدرها سواء صار نصباً على المصدر . ومعناه : استوت استواءً . { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } أي : صعد أمره إلى السماء ، وهو قوله : { كُنَّ } ويقال : عمد إلى خلق السماء { وَهِىَ دُخَانٌ } يعني : بخار الماء كهيئة الدخان . وذلك أنه لما خلق العرش ، لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال . وكان عرشه على الماء ، ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار ، فارتفع بخاره كهيئة الدخان ، فارتفع البخار ، وألقى الريح الزبد على الماء ، فزيد الماء ، فخلق الأرض من الزبد ، وخلق السماء من الدخان وهو البخار .
ثم قال تعالى : { وَهِىَ دُخَانٌ } ، { فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ } يعني : للسماء ، والأرض ، { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } يعني : اعطيا الطاعة ، طوعاً أو كرهاً . يعني : ائتيا بالمعرفة لربكما ، والذكر له طوعاً ، أو كرهاً ، { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } فأعطيا الطاعة بالطوع . ويقال : كانت السماء رتقاً عن المطر ، والأرض عن النبات ، فقال لهما { ائتيا } يعني : أعطيا ، وأخرجا ما فيكما من المطر ، والنبات منفعة للخلق إن شئتما طائعين ، وإن شئتما كارهين . { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } يعني : أخرجنا ما فينا طائعين غير كارهين . وروي عن مجاهد أنه قال : معناه يا سماء أبرزي شمسك ، وقمرك ، ونجومك ، ويا أرض أخرجي نباتك طوعاً ، أو كرهاً . ويقال : هذا على وجه المثل ، يعني : أمرهما بإخراج ما فيهما ، فأخرجتا طائعتين .
قوله عز وجل { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } يعني : أمر أهل كل سماء بأمرها . قال السدي : خلق في كل سماء ، خلقاً من الملائكة ، { وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } يعني : بالنجوم { وَحِفْظاً } يعني : من الشياطين أن يسترقوا السمع { ذلك } أي : الذي ذكر من صنعه { تَقْدِيرُ العزيز } في ملكه { العليم } بخلقه .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } أي : خوفتكم ، { صاعقة } أي : عذاباً ، { مّثْلَ صاعقة } أي : مثل عذاب { عَادٍ وَثَمُودَ } . وقال مقاتل : كان عاد وثمود ابني عم ، وموسى وقارون ابني عم ، وإلياس واليسع ، ابني عم ، وعيسى ويحيى ابني خالة . ومعنى : الآية إن لم يعتبروا فيما وصف لهم من قدرتي ، وعظمتي ، في خلق السموات والأرض ، وأعرضوا عن الإيمان . فقال : أنذرتكم عذاباً مثل عذاب عاد وثمود ، أنه يصيبهم مثل ما أصابهم . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : أخبرني الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا علي بن المنذر . قال : حدّثنا ابن فضيل ، عن الأجلح ، عن ابن حرملة ، عن جابر بن عبد الله : أن أبا جهل ، والملأ من قريش ، بعثوا عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه ، فقال : له أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك لواء ، وكنت رأساً ما بقيت . وإن كنت تريد الباءة ، زوجناك عشرة نسوة تختارهن ، من أي حي ، من بنات قريش شئت . وإن كنت تريد المال ، جمعنا لك من أموالنا ، ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك . فلما فرغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم حمتَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرحيم } » إلى قوله : « { مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } " . فأمسك عتبة على فيه ، وناشده بالرحم أن يكف . ثم رجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم . فقال : أبو جهل : والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا وقد صبأ ، فأتوه . فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبوت إلى دين محمد ، وأعجبك أمره ، فغضب عتبة ، وأقسم ألا يكلم محمداً أبداً . وقال : إني أتيته ، وقصصت عليه القصة ، فأجابني بقوله : " والله ليس فيه سحر ولا شعر ، ولا كهانة " فأمسكت على فيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً ، لم يكذب . فخفت أن ينزل بكم العذاب .
ثم قال تعالى : { إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } يعني : من قبل عاد وثمود ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } يعني : من بعد عاد وثمود ، { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } يعني : ألا تطيعوا في التوحيد غير الله . وهذا قول الرسل لقومهم ، فأجابهم قومهم : { قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة } ولم يرسل إلينا آدمياً ، { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } أي : جاحدون .
وقد قيل في قوله : { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } يعني : خوفوهم من بين أيديهم من أمر الآخرة ، وحذروهم النار ، ورغبوهم في الجنة .
{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } يعني : زهّدوهم في الدنيا ، فلم يقبلوا ، وقد قيل : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } يعني : ما خلق قبلهم ، كيف أهلكهم الله ، ومما خلفهم من أمر الآخرة . { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الارض } يعني : تعظموا عن الإيمان عن قول لا إله إلا الله ، { بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } .
يقول الله تعالى : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ } وقواهم ، { هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } يعني : بطشاً ، ولم يعتبروا بذلك . { وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } يعني : جاحدين بما آتاهم هود عليه السلام ، أنه لا ينزل بهم .
قوله عز وجل : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } يعني : ريحاً بارداً ، ذا صوت ودوي تحرق ، كما تحرق النار . ويقال : { رِيحاً صَرْصَراً } أي : شديدة الصوت ، { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } . قال مقاتل : يعني : شدائد . وقال الكلبي : يعني : أيام مشؤومات . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } بجزم الحاء ، والباقون : بكسر الحاء ، ومعناهما واحد . ويقال : يوم نحس ، ويوم نحس ، وأيام نحسه ، ونحسه ، والنحسات جمع الجمع .
{ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى } يعني : العذاب الشديد في الدنيا ، قبل عذاب الآخرة . وهذا كقوله : { ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم : 41 ] يعني : ليصيبهم بعض العقوبة في الدنيا . كقوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى دُونَ العذاب الاكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يعني : يتوبون .
ثم قال عز وجل : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ } يعني : أشد مما كان في الدنيا . { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } يعني : لا يمنعهم أحد من عذاب الله ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . { وَأَمَّا ثَمُودُ } قرأ الأعمش : { ثَمُودُ } بالتنوين . وقراءة العامة بغير تنوين . { فهديناهم } يعني : بيّنا لهم الحق من الباطل ، والكفر من الإيمان . وقال مجاهد : { فهديناهم } أي : دعوناهم . وقال قتادة ومقاتل : بيّنا لهم . وقال القتبي : دعوناهم ، ودللناهم ، { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } يعني : اختاروا الكفر على الإيمان . ويقال : اختاروا طريق الضلالة ، على طريق الهدى ، { فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون } والصاعقة هي العذاب الْهُونِ . يعني : يهانون فيه . ويقال : الهون الشديد . { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : يعملون من الشرك ، والمعاصي .
قوله عز وجل : { وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } يعني : آمنوا بصالح النبي عليه السلام ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ عقر الناقة ، ويتقون الشرك ، والفواحش .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله } يعني : يساق أعداء الله ، وهم الكفار والمنافقون ، { إِلَى النار } . قرأ نافع : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ } بالنون ، أعداء : بالنصب ، على معنى الإضافة إلى نفسه . وقرأ الباقون : بالياء والضم . { يُحْشَرُ أَعْدَاء الله } على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، ويوم صار نصباً لإضمار فيه . يعني : واذكر يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إلَى النَّارِ ، { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يعني : يحبس أولهم : ليلحق بهم آخرهم . وأصله من وزعته أي : كففته .
{ حتى إِذَا مَا } يعني : إذا جاؤوها ، ما صلة في الكلام . يعني : جاؤوا النار ، وعاينوها . قيل لهم : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] فقالوا عند ذلك وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيختم على أفواههم ، وتستنطق جوارحهم ، فتنطق بما كتمت الألسن ، فذلك قوله : { جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ } يعني : آذانهم بما سمعت ، { وأبصارهم } يعني : أعينهم بما نظرت ، ورأت ، { وَجُلُودُهُم } يعني : فروجهم ، { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : بجميع أعمالهم .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ } يعني : لجوارحهم . وقال القتبي : الجلود كناية عن الفروج ، { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء } يعني : أنطق الدواب ، وغيرهم ، { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : أنطقكم في الدنيا ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة .
يقول الله تعالى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } يعني : ما كنتم تمتنعون . ويقال : ما كنتم تحسبون ، وتستيقنون ، { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ } من الخير ، والشر ، { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ } يعني : ذلك الظن الذي أهلككم . ويقال : { أَرْدَاكُمْ } يعني : أغواكم . ويقال : أهلككم سوء الظن . وروى الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَقُولُ الله تَعَالَى : «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي " . وقال الحسن : إن المؤمن أحسن الظن بربه ، فأحسن العمل . وإن المنافق أساء الظن بربه ، فأساء العمل . { فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين } يعني : صرتم من المغبونين .
{ فَإِن يَصْبِرُواْ } على النار ، { فالنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي : مأوى لهم . ويقال : هذا جواب ، لقولهم : { اصبروا على ءالِهَتِكُمْ } .
يقول الله تعالى : { فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ } ، { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } أي : يسترجعوا من الآخرة ، إلى الدنيا ، { فَمَا هُم مّنَ المعتبين } أي : من المرجوعين إلى الدنيا . ويقال : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } يعني : وإن يطلبوا العذر ، { فَمَا هُم مّنَ المعتبين } أي : لا يسمع ، ولا يقبل منهم عذر .
قوله عز وجل : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } قال القتبي : يعني : ألزمناهم قرناء من الشياطين .
وقال أهل اللغة : قيض يعني : سلط . ويقال : قيض بمعنى قدر . { فَزَيَّنُواْ لَهُم } يعني : زينوا لهم التكذيب بالحساب ، وقال الحسن : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } أي : خلينا بينهم ، وبين الشياطين بما استحقوا من الخذلان ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ، { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } قال الضحاك . يعني : شككوهم في أمر الآخرة ، وَمَا خَلْفَهُمْ يعني : رغبوهم في الدنيا . ويقال : زينوا لهم ما بين أيديهم . يعني : ما كان عليه آباؤهم من أمر الجاهلية ، وما خلفهم . يعني : تكذيبهم بالبعث ، { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } يعني : وجب عليهم العذاب { فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ } يعني : مع أمم قد خلت من قبل أهل مكة ، { مّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } بالعقوبة . ويقال : إنَّهُمْ كَانوا خاسِرِين مثلهم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان } نزلت الآية في أبي جهل ، وأصحابه ، فإنه قال : إذا تلى محمد القرآن ، فارفعوا أصواتكم ، بالأشعار ، والكلام في وجوههم ، حتى تلبسوا عليهم ، فذلك قوله : { والغوا فِيهِ } يعني : الغطوا ، واللغط هو الشغب ، والجلب ، { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أي : تغلبوهم فيسكتون . قال الزجاج : قوله : { والغوا فِيهِ } أي : عارضوه بكلام لا يفهم ، يكون ذلك الكلام لغواً .
يقول الله تعالى : { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } يعني : في الدنيا بالقتل ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة { أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : أقبح ما كانوا يعملون ، ويقال : هذا كله من عذاب الآخرة . يعني : فلنذيقن الذين كفروا في الآخرة عذاباً شديداً ، ولنجزينهم من العذاب أَسْوَأَ ما كانوا يعملون . يعني : بأسوإ أعمالهم ، وهو الشرك . { ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء الله النار } يعني : ذلك العذاب الشديد هو جزاء أعداء الله النَّارُ . يعني : ذلك العذاب هو النار ويقال : صار رفعاً بالبدل عن الجزاء .
ثم قال : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يعني : في النار موضع المقام أبداً ، { جَزَاء أَعْدَاء الله النار لَهُمْ } يعني : بالكتاب ، والرسل .
قوله تعالى : { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اللذين } يعني : الصنفين اللذين { أضلانا } يعني : استنا ضلالتنا ، { مّنَ الجن والإنس } ويقال : جهلانا حتى نسينا الآخرة .
ثم قال : { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاسفلين } في النار . ويقال : من الجن . ويقال : يعني : إبليس هو الذي أضلنا ، ومن الإنس يعني : ابن آدم الذي قتل أخاه . ويقال : يعني : رؤساؤهم في الضلالة . كقوله : { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] الآية . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر : { أَرِنَا } بجزم الراء . والباقون : بالكسر ومعناهما واحد .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } يعني : قالوا ربنا الله ، فعرفوه ، واستقاموا على المعرفة . وقال القتبي : يعني : آمنوا ، ثم استقاموا على طاعة الله . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : { ثُمَّ استقاموا } على ما افترض الله عليهم . وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ، ثم قال : أتدرون ما استقاموا عليه؟ فقالوا : ما هو يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : « اسْتَقَامُوا ، وَلَمْ يُشْرِكُوا » . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { ثُمَّ استقاموا } ولم يروغوا روغان الثعلب على طاعة الله . فقال ابن عباس في رواية القتبي : { ثُمَّ استقاموا } . وعن أبي العالية أنه قال : { ثُمَّ استقاموا } أي : أخلصوا له الدين ، والعمل . ويقال : وحّدوا الله تعالى ، واستقاموا على طاعته ، ولزموا سنة نبيه . وقال بعض المتأخرين : معناه : ثم استقاموا أفعالاً ، كما استقاموا أقوالاً . وقد قيل أيضاً : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } يعني : يقولون الله مانعنا ، ومعطينا ، وضارنا ، ونافعنا ، { ثُمَّ استقاموا } على ذلك القول ، ولا يرون النفع ، ولا يرجون من أحد دون الله تعالى ، ولا يخافون أحداً دون الله ، فذكر أعمالهم ، ثم ذكر ثوابهم .
فقال : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة } قال الكلبي يعني : تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم ، ويبشرونهم ، ويقولون : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } يعني : لا تخافوا ما أمامكم من العذاب . ولا تحزنوا على ما خلفكم من الدنيا . وقال مقاتل : تتنزل عليهم الملائكة يعني : تتنزل عليهم الحفظة من السماء ، يوم القيامة ، فتقول له : أتعرفني؟ فيقول : لا . فيقول : أنا الذي كنت أكتب عملك ، وبشره بالجنة ، فذلك قوله : { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا . وقال زيد بن أسلم البشرى : في ثلاث مواطن ، عند الموت ، وفي القبر ، وفي البعث . وقال بعض المتأخرين : هذه البشرى للخائف الحزين ، لا للآمن المستبشر . يعني : الذي كان خائفاً في الدنيا .
ثم قال عز وجل : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة } يعني : تقول لهم الحفظة ، نحن كنا أولياءكم في الحياة الدنيا ، ونحن أولياؤكم ، { وَفِى الاخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } يعني : لكم في الجنة ما تحب ، وتتمنى قلوبكم ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } يعني : تسألون .
ثم قال : { نُزُلاً } أي : رزقاً { مّنْ غَفُورٍ } للذنوب العظام ، { رَّحِيمٌ } بالمؤمنين . حكى الزجاج عن الأخفش : { نُزُلاً } منصوباً من وجهين ، أحدهما على المصدر ، فمعناه : أنزلناه نزلاً . ويجوز أن يكون على الحال .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صالحا } قال بعضهم : الآية نزلت في شأن المؤذنين ، يدعون الناس إلى الصلاة .
{ وَعَمِلَ صالحا } يعني : صلى بين الأذان ، والإقامة . ويقال : الأنبياء يدعون الخلق إلى توحيد الله تعالى { عَمِلَ صالحا } يعني : الطاعات . ويقال : العلماء يعلمون الناس أمور دينهم ، ويدعونهم إلى طريق الآخرة { وَعَمِلَ صالحا } يعني : عملوا بالعلم . ويقال : نزلت الآية في الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر . يعني : يأمرون بالمعروف ، ويعملون به ، ويصبرون على ما أصابهم .
قوله : { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين } يعني : أكون على دين الإسلام ، لأنه لا تقبل طاعة بغير دين الإسلام .
فقال عز وجل : { وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة } قال الزجاج : لا زائدة ، مؤكدة ، والمعنى : { لا تَسْتَوِى الحسنة } يعني : لا تستوي الطاعة ، والمعصية . ولا يستوي الكفر ، والإيمان . ويقال : لا يستوي البصير ، والأعمى . ويقال : لا يستوي الصبر ، والجزع ، واحتمال الأذى ، والإساءة . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذيه أبو جهل لعنة الله عليه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره رؤيته بُغْضاً له ، فأمره الله تعالى بالعفو ، والصفح ، فقال : { لقادرون ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } يعني : ادفع بالكلمة الحسنة ، الكلمة القبيحة ، { فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } يعني : إذا فعلت ذلك ، يصير الذي بينك وبينه عداوة ، بمنزلة القرابة في النسب .
قوله تعالى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } يعني : الكلمة الحسنة ، ودفع السيئة ، ما يعطاها إلا الذين صبروا على طاعة الله ، وأداء الفرائض ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } يعني : ذو نصيب وافر في الآخرة .
ويقال : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } يعني : بقول لا إله إلا الله السيئة . يعني : الشرك . { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } على كظم الغيظ .
ثم قال : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ } يعني : يصيبك { مِنَ الشيطان نَزْغٌ } يعني : وسوسة على الاحتمال ، { فاستعذ بالله } من شره ، وامض على احتمالك . وقال مقاتل : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ } يعني : يفتتنك مِنَ الشَّيْطَانِ . { نَّزغَ } أي : فتنة . وقال الكلبي : الذنب عند دفع السيئة . ويقال : { يَنَزَغَنَّكَ } يعني : يغوينك { فاستعذ بالله } يعني : تعوذ بالله ، { إِنَّهُ هُوَ السميع } للاستعاذة ، { العليم } بقول الكفار وعقوبتهم .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ وَمِنْ ءاياته } يعني : من علامات وحدانيته ، { وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ } يعني : خلق الشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، دلالة لوحدانيته ، لتعرفوا وحدانيته فتعبدوه ، ولا تعبدوا هذه الأشياء ، { واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ } يعني : اعبدوا خالق هذه الأشياء ، واسجدوا له ، وأطيعوه ، { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني : إن أردتم بعبادة الشمس ، والقمر ، رضا الله تعالى . فإن رضاه أن تعبدوه ، ولا تعبدوا غيره .
ويقال : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني : إن أردتم بعبادتهما عبادة الله تعالى ، فاعبدوا الله ، وأطيعوه ، ولا تسجدوا لغيره ، { فَإِنِ استكبروا } يعني : تكبروا عن السجود لله تعالى ، وعن توحيده .
{ فالذين عِندَ رَبّكَ } يعني : الملائكة ، { يُسَبّحُونَ لَهُ } يعني : يصلون لله تعالى { الذين يُنفِقُونَ } يقال : هو التسبيح بعينه . يعني : يسبحونه ، ويذكرونه ، { وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } يعني : لا يملون من الذكر ، والعبادة ، والتسبيح .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته } أي : من علامات وحدانيته ، { أَنَّكَ تَرَى الارض خاشعة } أي : غبراء ، يابسة ، لا نبت فيها ، { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء } يعني : المطر { اهتزت } يعني : تحركت بالنبات ، { وَرَبَتْ } أي : علت يعني : انتفخت الأرض إذا أرادت أن تنبت { إِنَّ الذى أحياها } بعد موتها { فانظر إلى } للبعث في الآخرة ، { إِنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي : من البعث وغيره .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا } قال مقاتل : يعني : يميلون عن الإيمان بالقرآن . وقال الكلبي : يعني : يميلون في آياتنا بالتكذيب . وقال قتادة : الإلحاد التكذيب . وقال الزجاج : أي يجعلون الكلام على غير وجهه . ومن هذا سمي اللحد لحداً ، لأنه في جانب القبر . قرأ حمزة : { يُلْحِدُونَ } بنصب الحاء ، والياء . والباقون : بضم الياء ، وكسر الحاء ، ومعناهما واحد ، لحد وألحد بمعنى واحد .
قوله : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } أي : لا يقدرون على أن يهربوا من عذابنا ، ولا يستترون منا ، { أَفَمَن يلقى فِى النار } يعني : أبا جهل وأصحابه ، { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : نزلت في شأن جميع الكفار ، وجميع المؤمنين . يعني : من كان مرجعه إلى النار ، حاله يكون خيراً أم حال من يدخل الجنة .
ثم قال لكفار مكة : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } لفظه لفظ التخيير والإباحة ، والمراد به التوبيخ ، والتهديد ، لأنه بيّن مصير كل عامل .
ثم قال تعالى : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } من الخير ، والشر .
قوله تعالى : بصير أي : عالم { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءهُمْ } يعني : جحدوا بالقرآن لما جاءهم ، { وَأَنَّهُ } يعني : القرآن ، { لكتاب عَزِيزٌ } يعني : كريم عند المؤمنين . ويقال : كريم على الله ، أنزله آخر الكتب . وقال مقاتل : كتاب عزيز يعني : منيع عن الباطل . ويقال : عزيز لا يوجد مثله في النظم ، وكثرة فوائده .
{ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } قال الكلبي ومقاتل : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } أي : لا يأتيه التكذيب من الكتاب الذي قبله ، كل يصدق هذا ، ولا يجيء من بعده كتاب يكذبه . وقال قتادة : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } يعني : لا يستطيع الشيطان أن يبطل منه حقاً ، ولا يؤيد فيه باطلاً . قال أبو الليث : حدثنا الخليل بن أحمد . قال : حدثنا الباغندي . قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البحتري ، عن الحارث الأعور ، عن علي بن أبي طالب قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمتك ستفترق من بعدك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَلَى » . فقالوا : ما المخرج منها . فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . من ابتغى العلم في غيره ، أضله الله ، ومن حكم بغيره ، قصمه الله ، وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم ، فيه خبر من كان قبلكم ، وبيان من بعدكم ، والحكم فيما بينكم هو الفصل المبين ، وهو الفصل ، وليس بالهزل ، وهو الذي سمعته الجن ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً لا يخلق على طول الدهر ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه ، ثم قال للحارث خذها إليك يا أعور .
ثم قال : { تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } يعني : القرآن تنزيل من الله تعالى ، الحكيم في أمره ، المحمود في فعاله . وقال بعضهم : قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءهُمْ } ، لم يذكر جوابه ، وجوابه مضمر . وقال بعضهم : جوابه في قوله : { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } ويقال : جوابه في قوله { وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
قوله تعالى : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } يعني : اصبر على مقالة الكفار ، فإنهم لا يقولون من التكذيب لك ، إلا ما قد قيل للرسل من قبلك من التكذيب . ويقال : معناه { مَّا يُقَالُ لَكَ } يعني : لا يؤمر لك . يعني : في الرسالة إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، بأن يعبدوا الله . فيقال لك : أن تعبد الله أيضاً . ويقال : { مَّا يُقَالُ لَكَ } إلا بأن تبلغ الرسالة ، { إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } بأن يبلغوا الرسالة ، { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ } قال مقاتل : أي ذو تجاوز في تأخير العذاب عنهم إلى أجلهم . وقال الكلبي : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ } لمن تاب من الشرك ، { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } لمن لم يتب ، ومات على الكفر .
قوله عز وجل : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } يعني : لو أنزلناه بلسان العبرانية ، { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } يعني : هلا بيّن بالعربية . { ءاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } ويقولون : القرآن أعجمي ، والرسول عربي ، فكان ذلك أشد لتكذيبهم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : بهمزتين بغير مد . والباقون بهمزة واحدة مع المد ، ومعناهما واحد ويكون على معنى الاستفهام . وقرأ الحسن { أَعْجَمِىٌّ } بهمزة واحدة بغير مد . ويكون على غير وجه الاستفهام . وقرأ بعضهم { أَعْجَمِىٌّ } بنصب العين ، والجيم . يقال : رجل عجمي إذا كان من العجم ، وإن كان فصيحاً . ورجل أعجمي إذا كان لا يفصح ، وإن كان من العرب .
ثم قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى } يعني : القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة ، { وَشِفَاء } أي : شفاء لما في الصدور من العمى ، { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } بالآخرة ، { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً } يعني : ثقل ، وصم ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } عَمي بالكسر على معنى النعت ، وقراءة العامة بالنصب . يعني : القرآن عليهم حجة ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : يعني : عموا عنه فلا ينظرونه ، ولا يفهمونه . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } بالكسر على معنى النعت ، وقراءة العامة بالنصب ، على معنى المصدر . كما أنه قال : { هُدًى وَشِفَاء } على معنى المصدر .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وهذا على سبيل المثل . يقال للرجل إذا قل فهمه : إنك تنادي من مكان بعيد يعني : إنك لا تفهم شيئاً ويقال ينادون من مكان بعيد . يعني : من السماء . وقال مجاهد : يعني : بعيداً من قلوبهم . وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة من مكان بعيد ، فينادى الرجل بأشنع أسمائه . يعني : يقال له يا فاسق ، يا منافق يا ، كذا يا كذا .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : أعطينا موسى التوراة ، ويقال : الألواح .
قوله : { فاختلف فِيهِ } يعني : صدق بعضهم ، وكذب بعضهم ، { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } يعني : وجبت بتأخير العذاب ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يعني : لفرغ من أمرهم ، ولهلك المكذب . { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } يعني : من العذاب بعد البعث { مُرِيبٍ } لا يعرفون شكهم . ويقال : { مُرِيبٍ } أي : ظاهر الشك . ويقال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة ، لأتاهم العذاب ، إذ كذبوه كما فعل بغيرهم .
قوله تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ } يعني : ثوابه لنفسه ، { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } يعني : العذاب على نفسه ، { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } يعني : لا يعذب أحداً بغير ذنب .
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
قوله تعالى : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } يعني : لا يعلم قيام الساعة أحد إلا الله . يعني : يرد الخلق كلهم علم قيام الساعة إلى ربهم . { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا } يعني : من أجوافها . يعني : حين تطلع ، وغلاف كل شيء كمه أي : تخرج من موضعها الذي كانت فيه . قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، في إحدى رواية حفص : { مِن ثمرات } بلفظ الجمع . والباقون : { مِن ثَمَرَةٍ } بلفظ الواحد .
ثم قال : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } يعني : إلا وهو يعلمه ، ولا يعلم أحد قبل الولادة ، قبل صفته ، ولا يعلم أحد بعد وضعه ، كم أجله . { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } يعني : يدعوهم ، { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } يعني : الذين كنتم تدعون من دون الله ، { قَالُواْ ءاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } يعني : أعلمناك ، وقلنا لك : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } يعني : يشهد بأن لك شريك تبرؤوا من أن يكون مع الله شريك . وقالوا : ما منا من أحد يشهد لك أنه عبد أحد دونك . وقال القتبي : هذا قول الآلهة التي كانوا يعبدون في الدنيا . ما منا من شهيد لهم كما قالوا . وادعوه في الدنيا فينا . { وَضَلَّ عَنْهُم } يعني : بطل عنهم ، { مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } في الدنيا ، { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } يعني : علموا ، واستيقنوا ما لهم من ملجأ ، ولا مفر من النار .
قوله تعالى : { وَ لاَّ يَسْئَمُ } يعني : لا يمل الكافر . قال الضحاك : نزلت في شأن النضر بن الحارث . { مِن دُعَاء الخير } يعني : من سؤال الخير . يعني : العافية في الجسد ، والسعة في الرزق .
{ وَإِن مَّسَّهُ الشر } يعني : أصابته الشدة ، والبلاء ، والفقر ، { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } يعني : آيساً من الخير ، قانطاً من رحمة الله تعالى . ويقال : لا يمل من دعاء الخير ، وإذا نزلت به شدة . يقول : اللهم عافني ، وإذا مسه الشر { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } يعني : آيساً من معبوده .
{ وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا } يعني : أصبناه عافية منا ، وَغِنًى ، { مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } يعني : من بعد شدة أصابته ، { لَيَقُولَنَّ هذا لِى } يعني : أنا أهل لهذا ، ومستحق له . ويقال : أنا أحق بهذا . ويقال : هذا بعملي ، وأنا محقوق به .
{ وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } يعني : ما أحسب القيامة كائنة ، { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى } يعني : يوم القيامة ، { إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } يعني : الجنة ولئن كان يوم القيامة ، كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلي الجنة .
يقول الله تعالى : { فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : لنخبرنهم ، { بِمَا عَمِلُواْ } من أعمالهم الخبيثة ، { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ } يعني : لنجزينهم ، { مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } يعني : عذاب شديد لا يفتر عنهم .
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } يعني : أعرض الكافر ، فلا يدعو ربه . وقال الكلبي : أعرض عن الإيمان . { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } يعني : تباعد بجانبه عن الدعاء ، وعن الإيمان . { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } يعني : أصابته الشدة { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } قال مقاتل والكلبي : يعني : كثيراً . ويقال : يعني : طويلاً . فإن قيل : قد قال في موضع . { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } وقال في موضع آخر : { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } مرة ذكر أنه يَؤُوس ، ومرة أُخرى ذكر أنه يدعو ، فكيف هذا؟ قيل له : هذا في شأن رجل ، وهذا في شأن رجل آخر ، ويجوز أن يكون في شأن إنسان واحد . { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } عن كل معبود دون الله ، فيدعو الله دائماً .
فقال عز وجل : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } يعني : إن كان هذا الكتاب من عند الله ، { ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } يعني : جحدتم أنه ليس من عند الله ، ماذا تقولون؟ وماذا تجيبون؟ وماذا تحتالون . إذا نزل بكم العذاب يوم القيامة؟
{ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : في خلاف طويل ، بعيد عن الحق .
قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } يعني : عذابنا في البلاد ، مثل هلاك عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وهم يرون إذا سافروا ، آثارهم ، وديارهم . { وَفِى أَنفُسِهِمْ } يبتلون بأنفسهم من البلايا . ويقال : من قتل أصحابهم الكفار في الحرب ، { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } يعني : إن الذي قلت هو الحق ، فيصدقونك . وقال مجاهد : { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } يعني : ما يفتح الله عليهم من القرى ، { وَفِى أَنفُسِهِمْ } قال : فتح مكة . وقال الضحاك : معناه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بعلامة ، فانشق القمر نصفين . فقال : أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كان القمر قد انشق ، فهي آية . ثم قال : يا معشر قريش ، إن محمداً قد سحر القمر ، فوجهوا رسلكم إلى الآفاق . هل عاينوا القمر؟ إنْ كان كذلك ، فهي آية وإلا فذلك سحر ، فوجهوا . فإذا أهل الآفاق ، يتحدثون بانشقاقه . فقال أبو جهل عليه اللعنة : هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِر . يعني : ذاهباً في الدنيا . فنزل { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } وقال بعض المتأخرين . { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } ما وضع في العالم من الدلائل ، وفي أنفسهم ما وضع فيها من الدلائل ، التي تدل على وحدانية الله تعالى ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق ينطق بالوحي فيما يقول . وهذا كما قال : { وَفِى الارض ءايات لِلْمُؤْمِنِين وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } .
قوله تعالى : { أَوَ لَم يَكْفِ بِرَبّكَ } شاهداً أن القرآن من الله تعالى ، { أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } أي : عالم بأعمالهم ، بالبعث وغيره .
وقال الكلبي : { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ } يعني : أنه قد أخبرهم بذلك ، وإن لم يسافروا . ويقال : { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ } ومعنى الكفاية هاهنا ، أنه قد بيّن لهم ما فيه كفاية ، بالدلالة على توحيده ، وتثبيت رسله .
ثم قال : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ } ألا : كلمة تنبيه . يعني : اعلم أنهم في شك من البعث ، { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطُ } يعني : ألا إن الله تعالى عالم بأعمالهم ، وعقوبتهم ، والإحاطة إدراك الشيء بكماله . يعني : أحاط علمه سبحانه وتعالى بكل شيء من البعث ، وغيره ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على من لا نبي بعده وآله وسلم .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
قوله تبارك وتعالى : { حم عسق } روي عن ابن عباس أنه قال : الحاء حكم الله ، والميم ملك الله ، والعين علو الله ، والسين سناء الله ، والقاف قدرة الله . فكأنه يقول : فبحكمي ، وملكي ، وعلوي ، وسنائي ، وقدرتي ، لا أعذب عبداً قال : لا إله إلا الله ، مخلصاً ، فلقيني بها . ومعنى قول ابن عباس : لا يعذب عبداً يعني : لا يعذبه عذاباً دائماً ، خالداً . وروى المسيب عن رجل ، عن أبي عبيدة ، قال : العين عذاب الله ، والسين سنون ، والقاف فيها القحط العجب . قال : وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « افْتَحُوا صِبْيَانُكُمْ قَوْلَ لا إله إلاَّ الله ، وَلَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله » الحِكْمَةُ فِي ذلك ، لأن حال الصبيان حال حسن ، لا غل ، ولا غش في قلوبهم ، وحال الموتى حال الاضطرار . فإذا قلتم ذلك في أول ما يجري عليكم القلم ، وآخر يجف القلم فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك . قال المسيب : وحدثنا محدث قال : قاف قذف؛ وقال الضحاك : في قوله : { حم عسق } قال : قضى عذاب سيكون واقعاً ، وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر ، والسنون . وقال شهر بن حوشب : { حم عسق } حرب يذل فيه العزيز ، ويعز فيه الذليل من قريش ، ثم يفضي إلى العرب ، ثم إلى العجم ، ثم هي متصلة إلى خروج الدجال . وقال عطاء : الحاء حرب ، وهو موت ذريع في الناس ، وفي الحيوان ، حتى يبيدهم ، ويفنيهم ، والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم ، والعين عدو لقريش يركبهم ، ثم ترجع الدولة إليهم بحرمة البيت ، والسين هو استئصال بالسنين كسني يوسف ، والقاف قدر من الله نافذ في ملكوت الأرض ، لا يخرجون من قدره ، وهو نافذ فيهم . وقال السدي : الحاء حلمه ، والميم ملكه ، والعين عظمته ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته . وقال قتادة : هو اسم من أسماء الله تعالى . ويقال اسم من أسماء القرآن .
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } يعني : أوحى الله إليك ب { حم عسق } كما أوحى الله بها إلى الذين كانوا من قبلك . وقال ابن عباس : ليس من نبي وإلا وقد أوحى الله تعالى إليه ب { حم عسق } كما أوحى الله بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ ابن كثير : { يوحى إِلَيْكَ } بالألف ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون : { يُوحِى } بالكسر . يعني : هكذا يوحي الله إليك . وقرىء في الشاذ ( نوحي ) بالنون .
ثم قال : { الله العزيز } بالنقمة على من لم يجب الرسل ، { الحكيم } حكم بإنزال الوحي عليك . وقال مقاتل : { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } يعني : في أمر العذاب .
قوله عز وجل : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } يعني : من خلق ، { وَهُوَ العلى } يعني : لرفعي { العظيم } فلا شيء أعظم منه . يعني : عظيم قدرته .
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
قوله تعالى : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ } يعني : يتشققن ، { مِن فَوْقِهِنَّ } يعني : تكاد أن يتشققن من قدرة الله ، وهيبته . يعني : من هيبة الرحمن ، وجلاله ، وعظمته . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، في رواية حفص : { تَكَادُ السموات } بالتاء ، بلفظ التأنيث ، { يَتَفَطَّرْنَ } بالتاء بلفظ التأنيث . وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { تَكَادُ } بالتاء بلفظ التأنيث ، { يَتْفَطِرْنَ } بالنون . وقرأ الباقون : بالياء بلفظ التذكير { السماوات يَتَفَطَّرْنَ } بالياء .
ثم قال : { والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } يعني : يسبحونه ، ويذكرونه ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض } يعني : للمؤمنين . وروى داود بن قيس قال : دخلت على وهب بن منبه ، فَسُئِلَ عن قوله : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } [ غافر : 7 ] قال : للمؤمنين منهم . وفي رواية أنه قال : نسختها الآية التي في سورة المؤمن حيث قال : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } [ غافر : 7 ] . وروى معمر عن قتادة قال : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض } قال : للمؤمنين منهم . قال أبو الليث رحمه الله : هذا الذي روي عن قتادة أصح ، لأن النسخ في الأخبار لا يجوز ، وإنما في الأمر ، والنهي .
ثم قال : { أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور } لذنوبهم ، { الرحيم } بهم في الرزق . ويقال : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض } يعني : يسألون لهم الرزق .
قوله عز وجل : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني : عبدوا من دون الله { أَوْلِيَاء } يعني : أصناماً . { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } يعني : يحفظ أعمالهم ، ويقال : شهيد عليهم ، { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني : بمسلط ، لتجبرهم على الإيمان . وهذا قبل أن يؤمر بالقتال .
قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } يعني : هكذا أنزلنا عليك جبريل بالقرآن ، ليقرأ عليك القرآن بلغتهم ، ليفهموه . { لّتُنذِرَ أُمَّ القرى } يعني : لتخوف بالقرآن أهل مكة ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } من البلدان ، { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } يعني : لتنذرهم بيوم القيامة . والباء محذوفة منه كما قال : { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } يعني : ببأس شديد . وإنما سمي يوم الجمع ، لأنه يجتمع فيه أهل السماء ، وأهل الأرض كلهم ، من الأولين والآخرين . { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يعني : يوم القيامة لا شك فيه أنه كائن . { فَرِيقٌ فِى الجنة } وهم المؤمنون ، { وَفَرِيقٌ فِى السعير } وهم الكافرون .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } يعني : على ملة واحدة ، وهو الإسلام . { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } يعني : يكرم بدينه من يشاء ، من كان أهلاً لذلك ، ويدخله في الآخرة في رحمته .
أي : في جنته { والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } يعني : الكافرين ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب ، ولا ناصر ينصرهم .
قوله تعالى : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني : عبدوا من دون الله أرباباً ، { فالله هُوَ الولى } يعني : هو أولى أن يعبدوه . ويقال : الله هو الولي . يعني : هو الرب ، وهو إله السموات ، وإله الأرض . ويقال : هو الولي لمصالحهم ، ينزل المطر بعد المطر ، { وَهُوَ يُحْىِ الموتى } يعني : يحيهم بعد الموت . ويقال : يحيي قلوبهم بالمعرفة ، { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : قادر على ما يشاء .
قوله تعالى : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْء } يعني : إذا اختلفتم في أمر الدين ، { فَحُكْمُهُ إِلَى الله } يعني : علمه عند الله ، { ذَلِكُمُ الله رَبّى } يعني : الذي ذكر هو الله ربي ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } يعني : فوضت أمري إليه سبحانه ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } يعني : أقبل إلى الله تعالى بالطاعة .
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{ فَاطِرَ السموات والارض } يعني : هو خالق السموات والأرض ، { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } يعني : أصنافاً ذكراً ، وأنثى ، { وَمِنَ الانعام أزواجا } يعني : أصنافاً ، ذكراً ، وأنثى . وقال القتبي : { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } يعني : من جنسكم إناثاً ، { وَمِنَ الانعام أزواجا } يعني : إناثاً ، { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } يعني : يخلقكم فيه . أي : من الرحم . وقال الكلبي : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } يعني : يكثرهم في التزويج . وقال مقاتل : يعيشكم فيما جعل لكم من الذكور والإناث من الأنعام .
ثم قال : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } في القدرة . وقال أهل اللغة : هذا الكاف مؤكدة . أي : ليس مثله شيء . ويقال : المثل صلة في الكلام . يعني : ليس هو كشيء ، { وَهُوَ السميع البصير } يعني : هو السميع لمقالتهم ، البصير بهم وبأعمالهم . ومعنى الآية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } لأنه الخالق ، العالم بكل شيء ، والقادر على ما يشاء ، { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والارض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلى العظيم } [ البقرة : 255 ] وهذه المعاني بعيدة من غيره .
ثم قال عز وجل : { لَّهُ مَقَالِيد السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض وهو المطر ، وخزائن الأرض وهو النبات ، { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } يعني : يوسع الرزق على من كان صلاحه في ذلك ، { وَيَقْدِرُ } يعني : يقتر على من كان صلاحه في ذلك ، { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } من البسط ، والتقتير .
قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين } قال مقاتل : أي بيّن لكم الدين ، وهو الإسلام . و { مِنْ } هاهنا صلةِ وقال الكلبي : اختار لكم من الدين . ومعناه : اختار لكم ديناً من الأديان ، وأكرمكم به .
ثم قال : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } يعني : الدين الذي أمر به نوحاً أن يدعو الخلق إليه ، وأن يستقيم عليه ، { والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يعني : الذي أوحينا إليك بأن تدعو الناس إليه : { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ } يعني : والدين الذي أمرنا به { إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى } ثم بيّن ما أمرهم به ، فقال : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } يعني : أقيموا التوحيد ، { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } يعني : لا تختلفوا في التوحيد ، { كَبُرَ عَلَى المشركين } يعني : على مشركي مكة { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } وهو التوحيد . وقال أبو العالية : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } قال : الإخلاص لله في عبادته ، لا شريك له ، ولا تتفرقوا فيه . قال : لا تتعالوا فيه ، وكونوا عباد الله إخواناً { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } يعني : الإخلاص لله تعالى .
ويقال : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } يعني : ارفقوا في الدين . اتفقوا ولا تتفرقوا فيه . يعني : لا تختلفوا فيه ، كما اختلف أهل الكتاب .
ثم قال : { الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء } أي : يختار لدينه من يشاء ، من كان أهلاً لذلك ، { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } يعني : يرشد إلى دينه ، من يقبل إليه . ويقال : يهدي من كان في علمه السابق أنه يتوب ويرجع . ويقال : { مَن يُنِيبُ } يعني : من يجتهد بقلبه . كما قال : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقُواْ } يعني : مشركي مكة ما تفرقوا في الدين ، { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } في كتابهم . يعني : جاءهم محمد بالبينات . ويقال : { وَمَا تَفَرَّقُواْ } يعني : أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم في كتابهم . يعني : من نعت محمد صلى الله عليه وسلم { بَغْياً بَيْنَهُمْ } يعني : حسداً فيما بينهم ، لأنه كان من العرب . وروى معمر عن قتادة أنه تلى : { وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } قال : إياكم والفرقة فإنها مهلكة . وروي في الخبر : « إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَة وآفَةُ الدِّينِ الهَوَى » . ثم قال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : بتأخير العذاب إلى وقت معلوم . { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يعني : لفرغ منهم بالهلاك . { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب } يعني : أعطوا التوراة ، والإنجيل ، { مّن بَعْدِهِمْ } يعني : من بعد نوح ، وإبراهيم . وقال مقاتل : يعني : من بعد الأنبياء { لَفِى شَكّ مّنْهُ } يعني : من القرآن { مُرِيبٍ } أي : ظاهر الشك .
وقوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فادع } يعني : فإلى ذلك ادعهم يعني : إلى القرآن ، ويقال : إلى التوحيد { واستقم كَمَا أُمِرْتَ } يعني : استقم عليه كما أمر { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } يعني : لا تعمل بهواهم ، وذلك حين دعوه إلى ملة آبائه { وَقُلْ ءامَنتُ } يعني : صدقت { بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب } يعني : بجميع ما أنزل الله من الكتب عليَّ وعلى من كان قبلي { وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } وهو الدعوة إلى التوحيد ، وإلى قول : لا إله إلا الله { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } يعني : خالقنا وخالقكم { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } يعني : لنا ديننا ، ولكم دينكم { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } يعني : لا خصومة بيننا وبينكم ، يوم القيامة { وَإِلَيْهِ المصير } يعني : إليه المرجع في الآخرة .
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قوله تعالى : { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله } يعني : يخاصمون في توحيد الله ودين الله { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } يعني : من بعد ما أجابوا إياه ، أي : بعد ما أجاب المؤمنون بتوحيد الله لنبيه . وقال مجاهد : طمع رجال بأن يعودوا إلى الجاهلية فنزل { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله } إلى قوله : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } وروى معمر عن قتادة قال : والذين يحاجون في الله ، يعني : في دينه قال : هم اليهود ، والنصارى . قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم . فنزل { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله } أي : في دين الله { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } يعني : من بعد ما دخل الناس في الإسلام { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } يعني : خصومتهم باطلة . ويقال : احتجاجهم زائل ، ساقط . يقال دحض أي : زال ، ومعناه : ليس لهم حجة . وسمى قولهم حجة على وجه المجاز ، يعني : حجتهم كما قال : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } يعني : الآلهة بزعمهم ، ولم يكونوا آلِهَة في الحقيقة { عِندَ رَبّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } يعني : كما يكابرون عقولهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } بما كانوا يفعلون .
قوله عز وجل : { الله الذى أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } أي : لبيان الحق ، وأنزل الميزان وهو العدل ويقال : وأنزل الميزان في زمان نوح . ويقال : هي الحدود والأحكام والأمر والنهي . قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } يعني : قيام الساعة قريب . وهذا كقوله : { اقتربت الساعة } وقال تعالى : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } ولم يقل قريبة ، لأن تأنيثها ليس بحقيقي ، ولأنه انصرف إلى المعنى ، يعني : للبعث . قوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } يعني : إنَّ المشركين كانوا يقولون : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } ويقولون : { رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } { والذين ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } يعني : خائفين من قيام الساعة ، لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون ، محاسبون { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } يعني : يعلمون أن الساعة كائنة . { أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة } يعني : يشكون ويخاصمون فيها . { لَفِى ضلال بَعِيدٍ } أي : في خطأ طويل ، بعيد عن الحق .
قوله عز وجل : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } يعني : عالم بعباده . ويقال : رحيم بعباده ، ويقال اللطيف الذي يرزقهم في الدنيا ، ولا يعاقبهم في الآخرة . ويقال : اللطيف بعباده ، بالبر ، والفاجر لا يهلكهم جوعاً { يَرْزُقُ مَن يَشَاء } بغير حساب . ويقال يزرق من يشاء ، مقدار ما يشاء ، في الوقت الذي يشاء { وَهُوَ القوى } على هلاكهم . { العزيز } يعني : المنيع لا يغلبه أحد .
قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة } يعني : ثواب الآخرة بعمله . { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } يعني : ينال كليهما { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا } يعني : ثواب الدنيا بعمله .
{ نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني : نعطه منها . { وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِن نَّصِيبٍ } لأنه عمل لغير الله تعالى . قال أبو الليث رحمه الله : حدّثنا الفقيه أبو جعفر ، قال : حدّثنا محمد بن عقيل قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل الصايغ قال : حدّثنا الحجاج قال : حدّثنا شعبة ، عن عمر بن سليمان ، عن عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه ، عن زيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ كانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ جَمَعَ الله شَمْلَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا ، فَرَّقَ الله عَلَيْهِ أمْرَهُ ، وَجَعلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا كَتَبَ الله لَهُ » . وقال القتبي : الحرث في اللغة العمل . يعني : من كان يريد بحرثه ، أي : بعمله { الاخرة } نضاعف له الحسنات . ومن أراد بعمله الدنيا أعطيناه ولا نصيب له في الآخرة .
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
قوله عز وجل : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } يعني : ألهم آلهة دوني . { شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدين } أي : بينوا لهم من الدين { مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } يعني : ما لم يأمر به . ويقال : معناه ألهم آلهة ابتدعوا لهم من الدين . أي : من الشريعة والطريقة . ويقال : سنوا لهم ما لم يأذن به الله ، يعني : ما لم ينزل به الله من الكتاب والدين { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } يعني : القضاء الذي سبق ، ألا يعذب هذه الأمة ، ويؤخر عذابهم إلى الآخرة . { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يعني : أنزل بهم العذاب في الدنيا { وَإِنَّ الظالمين } يعني : المشركين . { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .
قوله تعالى : { تَرَى الظالمين } يعني : ترى الكافرين يوم القيامة . { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } يعني : خائفين مما عملوا في الدنيا { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } يعني : نازل بهم ما كانوا يحذرون . { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الذين صدقوا بالتوحيد ، وأدّوا الفرائض ، والسنن { فِى روضات الجنات } يعني : في بساتين الجنة . { لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ عِندَ رَبّهِمْ } من الكرامة . { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعني : المن العظيم .
قوله تعالى : { ذَلِكَ الذى يُبَشّرُ الله } يعني : ذلك الثواب الذي يبشر الله { عِبَادِهِ } في الدنيا قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وأبو عمرو { يُبَشّرُ } بنصب الياء ، وجزم الباء ، وضم الشين مع التخفيف . والباقون بالتشديد وقد ذكرناه { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : يبشرهم بتلك الجنة ، وبذلك الثواب ثم قال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } يعني : قل يا محمد لأهل مكة ، لا أسألكم عليه أجراً ، أي على ما جئتكم به أجراً { إِلاَّ المودة فِى القربى } قال مقاتل : يعني : إلا أن تصلوا قرابتي ، وتكفوا عني الأذى .
ثم نسخ بقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْر لَكُمْ } ويقال : { إِلاَّ المودة فِى القربى } يعني : إلاَّ ، ألاَّ تؤذونني بقرابتي منكم . قال ابن عباس : ليس حي من أحياء العرب إلا وللنبي عليه السلام فيه قرابة . وقال الحسن : إلا المودة في القربى ، يعني : إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى ، بما يقربكم منه ، وهكذا قال مجاهد ، وقال سعيد بن جبير : إلا المودة في القربى ، يعني : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم .
ثم قال : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } يعني : يكتسب حسنة ، { نَزِدْ فِيهَا حُسْناً } يعني : للواحد عشرة . ويقال : نزد له التوفيق في الدنيا ، ونضاعف له الثواب في الآخرة . { إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } يعني : غفور لمن تاب ، شكور يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } يعني : تقوله من ذات نفسه ، ولم يأمره الله تعالى . قال الله تعالى : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } يعني : يحفظ قلبك ، حتى لا تدخل في قلبك المشقة والأذى من قولهم : { وَيَمْحُ الله الباطل } يعني : يهلك الله تعالى الشرك { وَيُحِقُّ الحق } يعني : يظهر دينه الإسلام { بكلماته } يعني : بتحقيقه ، وبنصرته ، وبالقرآن { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : يعلم ما في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن ، ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة . وروى عبد العزيز بن إسماعيل ، عن محمد بن مطرف قال : « يقول الله تعالى : وَيْحَ ابْنَ آدَمَ ، يُذْنِب الذَّنْبَ ثُمَّ يَسْتَغْفِر ، فَأغْفِرَ لَهُ ، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ، فأغْفِر لَهُ ، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ، فَأغْفِرَ لَهُ لاَ هُوَ يَتْرك ذُنُوبَهُ ، وَلاَ هُوَ يَيْأس مِن رَّحْمَتِي . أشْهَدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ » { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من خير أو شر .
قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص { تَفْعَلُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة ، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم { وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : يجيب دعاءهم ، ويعطيهم أكثر ما سألوا من المغفرة { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } يعني : يزيدهم على أعمالهم من الثواب . ويقال : يعطيهم الثواب في الجنة ، أكثر مما سألوا { والكافرين لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } يعني : دائماً لا يقتر عنهم .
قوله تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ } يعني : لو وسع الله تعالى عليهم المال { لَبَغَوْاْ } أي : لطغوا { فِى الارض } وعصوا { ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } يعني : يوسع على كل إنسان ، بمقدار صلاحه في ذلك ، قال أبو الليث رحمه الله : حدّثنا أبو القاسم ، حمزة بن محمد قال : حدّثنا أبو القاسم ، أحمد بن حمزة ، قال : حدّثنا نصر بن يحيى ، قال : سمعت شقيق بن إبراهيم الزاهد يقول : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض } قال : لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب ، لتفرغوا وتفاسدوا في الأرض ، ولكن شغلهم بالكسب ، حتى لا يتفرغوا للفساد .
ثم قال : { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } يعني : بالبر ، والفاجر ، والمؤمن ، والكافر . ويقال : يعني : عالم بصلاح كل واحد منهم . قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث } يعني : المطر { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } أي : حبس عنهم { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } يعني : المطر { وَهُوَ الولى الحميد } يعني : الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة { الحميد } يعني : أهل أن يحمد على صنعه .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته } يعني : من علامات وحدانيته { خُلِقَ السموات والارض } يعني : خلقين عظيمين ، لا يقدر عليهما بنو آدم ، ولا غيرهم { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } يعني : ما خلق في السموات والأرض من خلق أو بشر فيهما { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ } يعني : على إحيائهم للبعث { إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } يعني : قادر على ذلك . ويقال : { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } يعني : في الأرض خاصة كما قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] يعني : من أحدهما ثم قال { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ } يعني : ما تصابون من مصيبة في أنفسكم ، وأموالكم { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } يعني : يصيبكم بأعمالكم ، ومعاصيكم { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } يعني : ما عفى الله عنه ، فهو أكثر .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : « ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله ، أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا بلى . فقرأ عليهم : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال : فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي ، وما عفى الله تعالى عنه في الدنيا ، ولم يعاقب ، فهو أجود وأمجد ، وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة .
وعن الضحاك قال : ما تعلم رجل القرآن ، ثم نسيه ، إلا بذنب . ثم قرأ : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن . قرأ نافع وابن عامر «بما كسبت أيديكم» بحذف الفاء . ويكون ما بمعنى الذي ، ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم . وقرأ الباقون : { فَبِمَا كَسَبَتْ } بالفاء ، وتكون الفاء جواب الشرط ، ومعناه : ما يصيبكم من مصيبة ، فبما كسبت أيديكم ، ثم قال :
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الارض } يعني : بفائتين من عذاب الله ، حتى يجزيكم به { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله } يعني : من عذاب الله { مِن وَلِىّ } يعني : من حافظ { وَلاَ نَصِيرٍ } يعني : مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى .
قوله تعالى : { وَمِنْ ءاياته الجوار } قرأ ابن كثير ( الجَوَارِي ) بالياء في الوقف ، والوصل . وقرأ نافع ، وأبو عمر بالياء في الوصل ، وبغير الياء في الوقف ، والباقون بغير ياء في الوقف ، والوصل . فمن قرأ بالياء فهو الأصل في اللغة ، وهي جماعة السفن تجرين في الماء ، واحدتها جارية . كقوله : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حملناكم فِى الجارية } [ الحاقة : 11 ] يعني : السفينة . ومن قرأ بغير ياء ، فلأن الكسر يدل عليه { فِى البحر كالاعلام } يعني : تسير في البحر كالجبال { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ } يعني : يبقين سواكن على ظهر الماء { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : لعلامات لوحدانيتي { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعني : الذي يصبر على طاعة الله ( شَكُورٍ ) لنعم الله .
قوله تعالى : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } يعني : إن يشأ يهلك السفن ، بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } ولا يجازيهم { وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى ءاياتنا } قرأ ابن عامر ونافع بضم الميم ، والباقون بالنصب . فمن قرأ بالضم ، فلأنه عطف على قوله : ( ويعف ) وموضعه الرفع وأصله : ( ويعفو ) فاكتفى بضم الفاء ، والذين كان معطوفاً عليه ، رفع أيضاً . ومن قرأ بالنصب ، صار نصباً للصرف ، يعني : صرف الكلام عن الإعراب الأول ، ومعناه : ولكي { يَعْلَمُ الذين يجادلون فِى ءاياتنا } يعني : في القرآن بالتكذيب { مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } يعني : من مفر من الله .
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء } يعني : ما أعطيتم من الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا } أي : منفعة الحياة الدنيا { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى } أي : ما عند الله في الآخرة من الثواب والكرامة ، خير وأبقى . يعني : أدوم . ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يثقون به تعالى ، ويفوضون الأمر إليه .
قوله تعالى : { والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } وهذا نعت المؤمنين أيضاً ، الذين يجتنبون كبائر الإثم ، والفواحش . قرأ حمزة والكسائي ( كَبِير الإثْمِ ) بغير ألف ، بلفظ الواحد ، لأن الواحد يدل على الجمع ، والباقون ( كبائر ) وهو جمع كبيرة ، والكبيرة : ما أوجب الله تعالى الحد عليها في الدنيا ، أو العذاب في الآخرة . ثم قال : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } يعني : إذا غضبوا على أحد يتجاوزون ، ويكظمون الغيظ .
ثم قال : { والذين استجابوا لِرَبّهِمْ } يعني : أجابوا وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه ، ويأمرهم به . { والذين يُمَسّكُونَ } يعني : أتموا الصلوات الخمس ، في مواقيتها { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } يعني : إذا أرادوا حاجة ، تشاوروا فيما بينهم . وروي عن الحسن أنه قال : هم الذين إذا حزبهم أمر ، استشاروا أولي الرأي منهم { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يعني : يتصدقون في طاعة الله . ثم قال : { والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى } يعني : الظلم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي : ينتقمون ويقتصون .
روى سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال : كانوا يكرهون أن يستذلوا ، ويحبون العفو إذا قدروا . قوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ مِثْلِهَا } يعني : يعاقب مثل عقوبته لغيره { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } يعني : عفا عن مظلمته ، وأصلح بالعفو { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } يعني : ثوابه على الله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } يعني : لمن يبدأ بالظلم . روي عن زيد بن أسلم ، أنه قال : كانوا ثلاث فرق ، فرقة بالمدينة ، وفرقتان بمكة ، إحداهم تصبر على الأذى ، والثانية تنتصر ، والثالثة تكظم ، فنزلت الآية : { والذين استجابوا لِرَبّهِمْ } نزلت في الذين بالمدينة { والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ } نزلت في الذين ينتصرون وقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } نزلت في الذين يصبرون . فأثنى الله تعالى عليهم جميعاً .
قوله عز وجل : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } ثم نزل في الظالمين { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه ، كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه ، وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يبتسم ، فأجابه أبو بكر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وذهب ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً ، فلما أجبته قمت فقال صلى الله عليه وسلم : إن الملك كان يجيبه عنك ، فلما أجبته ذهب الملك ، وجاء الشيطان وأنا لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان .
فنزل { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } .
وروى محمد بن المنكدر قال : ينادي المنادي يوم القيامة ، من كان له عند الله حق ، فليقم . قال : فيقوم من عفا وأصلح . قوله عز وجل : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } يعني : انتصف بعد ظلمه ، واقتص منه { فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } يعني : من مأثم . وقال قتادة : هذا ، فيما يكون بين الناس من القصاص ، فأما لو ظلمك ، لا يحل لك أن تظلمه ، يعني : فيما لا يحتمل القصاص . وقال الحسن : يعني : إذا قال : لعنك الله ، أن تقول له : يلعنك الله ، وإذا سبك ، فلك أن تسبه ما لم يكن فيه حد ، أو كلمة لا تصلح . ثم قال تعالى : { إِنَّمَا السبيل } يعني : الإثم والحرج { عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } يعني : يبدؤون بالظلم { وَيَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق } يعني : ويظلمون في الأرض ، ويعملون المعاصي { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : وجيع .
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله عز وجل : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } يعني : صبر عن مظلمته ، فلم يقتص من صاحبه وغفر يعني : تجاوز عنه { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } يعني : الصبر والتجاوز من أفضل الأمور ، وأصوب الأمور . قال بعضهم : هذه الآيات مدنيات . وقال بعضهم : مكيات . قوله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله } يعني : يخذله الله عن الهدى ويقال من يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس { فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ } يعني : ليس له قريب يهديه ، ويرشده إلى دينه من بعده ، يعني : من بعد خذلان الله تعالى إياه .
قوله : { وَتَرَى الظالمين } يعني : المشركين والعاصين { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } في الآخرة { يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } يعني : هل من رجعة إلى الدنيا من حيلة ، فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا . قوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } يعني : يساقون إلى النار { خاشعين مِنَ الذل } أي : خاضعين من الحزن ، ويقال ساكتين ذليلين ، مقهورين من الحياء { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ } قال الكلبي : يعني : ينظرون بقلوبهم ، ولا يرونها بأعينهم ، لأنهم يسحبون على وجوههم . وقال مقاتل : يعني : يستخفون بالنظر إليها ، يعني : إلى النار قال القتبي : يعني : غضوا أبصارهم من الذل ، وقال بعضهم : مرة ينظرون إلى العرش بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم ، ومرة ينظرون إلى النار .
{ وَقَالَ الذين ءامَنُواْ } يعني : المؤمنين المظلومين { إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } يعني : يظلمون غيرهم ، حتى تصير حسناتهم للمظلومين ، فخسروا أنفسهم { وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } قال بعضهم : هذه حكاية كلام المؤمنين في الآخرة ، بأنهم يقولون ذلك ، حين رأوا الظالمين ، الذين خسروا أنفسهم . وقال بعضهم : هذه حكاية قولهم في الدنيا ، فحكى الله تعالى قولهم ، وصدقهم على مقالتهم فقال : { أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } يعني : دائم وقال بعضهم هذا اللفظ ، لفظ الخبر عنهم ، والمراد به التعليم ، أنه ينبغي لهم يقولوا هكذا يعني : يصبروا على ظلمهم .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء } يعني : لا يكون للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله { يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ الله } يعني : يمنعونهم من عذاب الله { وَمَن يُضْلِلِ الله } يعني : يضله الله عن الهدى { فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } إلى الهدى من حجة . ويقال : ما له من حيلة .
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله عز وجل : { استجيبوا لِرَبّكُمْ } يعني : أجيبوا ربكم في الإيمان ، وفيما أمركم به { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } يعني : لا رجعة له ، إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه { مِنَ الله } ويقال : فيه تقديم . يعني : من قبل أن يأتي من عذاب الله ، يوم لا مرد له . يعني : لا مدفع له { مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } يعني : ما لكم من مفر ، ولا حرز يحرزكم من عذابه { وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ } يعني : من مغير ، يغير العذاب عنكم .
قوله عز وجل : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن الإيمان ، وعن الإجابة ، بعد ما دعوتهم { فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تحفظهم على الإيمان ، وتجبرهم على ذلك { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } يعني : ليس عليك ، إلا تبليغ الرسالة ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، ثم قال : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } يعني : أصبنا الإنسان منا رحمة { فَرِحَ بِهَا } أي بطر بالنعمة . قال بعضهم : يعني : أبا جهل . وقال بعضهم : جميع الناس ، والإنسان هو لفظ الجنس ، وأراد به جميع الكافرين ، بدليل أنه قال : { وَإِن تُصِبْهُمْ } ذكر بلفظ الجماعة يعني : إن تصبهم { سَيّئَةٌ } يعني : القحط والشدة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يعني : بما عملوا من المعاصي { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } لنعم الله . يعني : يشكو ربه عند المصيبة ، ولا يشكره عند النعمة .
قوله تعالى : { للَّهِ مُلْك السموات والارض } يعني : القدرة على أهل السموات والأرض { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } على أي صورة شاء { يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا } يعني : من يشاء الأولاد الإناث ، فلا يجعل معهن ذكوراً { وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور } يعني : يعطي من يشاء الأولاد الذكور ، ولا يكون معهم إناث { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } يعني : من يشاء الأولاد الذكور ، والإناث { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } فلا يعطيه شيئاً من الولد ويقال : { يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا } كما وهب للوط النبي { وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور } كما وهب لإبراهيم عليه السلام { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكما وهب ليعقوب عليه السلام { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } كما جعل ليحيى ، وعيسى عليهما السلام { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } يعني : عالم بما يصلح لكل واحد منهم . قادر على ذلك .
قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني : لأحد من خلق الله { أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } يعني : يرسل إليه جبريل ، ليقرأ عليه . ويقال : { إِلاَّ وَحْياً } يعني : إلهاماً ويقال : يسمع الصوت فيفهمه وذلك ، أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله ، أو ينظر إليك ، إن كنت نبياً كما كلم موسى فنزل { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله } يعني : ما جاز لأحد من الآدميين ، أن يكلمه الله ، إلا وحياً يعني : يسمع الصوت ، أو يرى في المنام ، ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عياناً في الدنيا .
{ أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } فيكلمه ، كما كلم موسى { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } كما أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم { فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } يعني : فيرسل بأمره . ويقال : { بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } من أمره . قرأ نافع وابن عامر { أَوْ يُرْسِلَ } بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب ، فمن قرأ بالضم ، فمعناه أو هو يرسل رسولاً ، ومن قرأ بالنصب ، فعلى الإضمار أيضاً ، ومعناه أو يرسل رسولاً { فَيُوحِىَ } قرأ نافع وابن عامر فيوحي بسكون الياء ، ومعناه أو هو يرسل رسولاً فيوحي وقرأ الباقون بالنصب { فَيُوحِىَ } لإضمار أن { إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ } يعني : أعلى من أن يكلم أحداً في الدنيا مواجهة ، ولا يراه فيها أحد عياناً { حَكِيمٌ } حكم ألا يكلم أحداً في المواجهة ، ولا يراه أحد .
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } يعني : جبريل بأمرنا . ويقال : أوحينا إليك روحاً ، يعني : القرآن . وقال القتبي : الروح روح الأجسام ، ويسمى كلام الله تعالى ، روحاً لأن فيه حياة من الجهل ، وموت الكفر كما قال : { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ] ثم قال : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } . { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } يعني : ما كنت تدري قبل الوحي ، أن تقرأ القرآن ، ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان .
{ ولكن جعلناه نُوراً } يعني : أنزلنا جبريل بالقرآن . ضياءً من العمى ، وبياناً من الضلالة . فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال : { ولكن جعلناه نُوراً } ولم يقل جعلناهما؟ قيل له : لأن المعنى هو الكتاب ، وهو دليل على الإيمان . ويقال لأن شأنهما واحد كقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وءاويناهمآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل آيتين ويقال : { ولكن جعلناه نُوراً } يعني : الإيمان كناية عنه ، ولأنه أقرب .
{ نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } يعني : نوفق من نشاء للهدى ، من كان أهلاً لذلك { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : لتدعو الخلق إلى دين الإسلام . قوله عز وجل : { صراط الله } يعني : دين الله { الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من خلق { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور } أي : ترجع إليه عواقب الأمور ، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قوله تبارك وتعالى : { حم والكتاب المبين } يعني : أقسم بحم ، وبالكتاب الذي أبان طريق الهدى ، من طريق الضلالة ، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة ، ويقال : مُبين أي : بين بلغة تعرفونها . يعني : بين فيه الحلال والحرام { إِنَّا جعلناه } فهذا جواب القسم . يعني : إنا جعلناه ، ووصفناه أقسم بالكتاب المبين { إِنَّا جعلناه } يعني : إنا قلناه ووصفناه وبيناه . ويقال : أنزلنا به جبريل { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } يعني : بلغة العرب { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : لكي تعقلوا وتفهموا . ما فيه ، ولو نزل بغير لغة العرب ، لم تفهموا ما فيه .
ثم قال : { وَإِنَّهُ فِى أُمّ الكتاب لَدَيْنَا } يعني : إن كذبتم بالقرآن ، فإن نسخته في أصل الكتاب . يعني : اللوح المحفوظ لدينا . يعني : عندنا { لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } يعني : شريف مرتفع ، محكم من الباطل . ويقال : حكيم أحكم ، حلاله وحرامه . ويقال : حَكِيمٌ أي حاكم على الكتب كلها . ويقال : حكيم أي ذو حكمة كما قال تعالى : { حِكْمَةٌ بالغة } قرأ حمزة والكسائي «في أم الكتاب» بكسر الألف في جميع القرآن ، لأن الياء أخت الكسرة ، فاتبع الكسرة الكسرة والباقون «أم» بضم الألف ، وهو الأصل في اللغة .
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قوله عز وجل : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } يعني : أفندع ونترك ، أن نرسل إليكم الوحي مبهماً ، لا آمركم ولا أنهاكم . وقال القتبي : معناه أن أمسك عنكم ، فلا أذكركم إعراضاً . يقال : صفحت عن فلان ، إذا أعرضت عنه . وقال مجاهد : معناه تكذبون بالقرآن ، ولا تعاقبون فيه . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } بنصب الألف . وقرأ الباقون بالكسر . فمن قرأ بالنصب ، فمعناه : أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم ، يعني : أشركتم وعصيتم . ويقال أفنضرب عنكم ذكر العذاب ، لأن أسرفتم وكفرتم ومن قرأ بالكسر ، فمعناه إن كنتم قوماً مسرفين . ويقال : هو على معنى الاستقبال ، ومعناه إن تكونوا مسرفين ، نضرب عنكم الذكر .
ثم قال عز وجل : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاولين } يعني : كم بعثنا من نبي في أمر الأمم الأولين ، كما أرسلنا إلى قومك { وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يعني : يسخرون منه قوله تعالى : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } يعني : من كان أشد منهم قوة { ومضى مَثَلُ الاولين } يعني : سنة الأولين بالهلاك .
قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } يعني : المشركين { مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } يعني : يقولون خلقهن الله تعالى ، الذي هو العزيز في ملكه ، العليم بخلقه ، فزادهم الله تعالى في جوابهم . فقال : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً } قرأ حمزة ، والكسائي وعاصم مَهْداً ، والباقون مَهاداً بالألف ، يعني : قراراً للخلق { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } يعني : طرقاً { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } يعني : لكي تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد ، ويقال : لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ يعني : لكي تعرفوا هذه النعم ، وتأخذوا طريق الهدى ، ثم ذكرهم النعم فقال عز وجل : { والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ } يعني : بمقدار ووزن { فَأَنشَرْنَا بِهِ } يعني : أحيينا بالمطر { بَلْدَةً مَّيْتاً } يعني : أرضاً ميتة ، لا نبات فيها { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أنتم من قبوركم .
قوله تعالى : { والذى خَلَقَ الازواج كُلَّهَا } يعني : الأصناف كلها من النبات ، والحيوان وغير ذلك { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والانعام مَا تَرْكَبُونَ } يعني : جعل لبني آدم من السفن ، والإبل ، والدواب ، ما يركبون عليها ثم قال : { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } يعني : لتركبوا ظهور الأنعام ، ولم يقل ظهورها؟ لأنه انصرف إلى المعنى ، وهو جنس الأنعام { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } يعني : إذا ركبتم فتحمدوا الله تعالى { وَتَقُولُواْ } عند ذلك { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } يعني : ذلل لنا هذا { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } يعني : مطيعين . وقال أهل اللغة : أنا مقر لك أي : مطيق لك . ويقال : مقرنين أي : مالكين . ويقال : ضابطين .
ثم قال : { وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ } يعني : راجعين إليه ، في الآخرة .
وقد روى عثمان بن الأسود ، عن مجاهد أنه قال : إذا ركب الرجل دابته ، ولم يذكر اسم الله تعالى ، ركب الشيطان من ورائه ، ثم صك في قفاه ، فإن كان يحسن الغناء ، قال له : تغن ، وإن كان لا يحسن الغناء ، قال له تمن يعني : تكلم بالباطل .
وعن علي بن ربيعة أنه قال : كنت رديفاً لعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فلما وضع رجله في الركاب ، قال : بسم الله ، فلمَّا استوى قال : الحمد لله ، ثم قال : سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا ، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قال الله تعالى : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا } يعني : وصفوا لله من خلقه ، شريكاً وولداً { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } يعني : كَفُورٌ لنعمه { مُّبِينٌ } أي : بين الكفر . ثم قال تعالى : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } وهو رد على بني مليح ، حيث قالوا : الملائكة بنات الله . معناه : اختار لكم البنين ، ولنفسه البنات ، ثم وصف كراهيتهم البنات فقال : { وأصفاكم بالبنين } .
قوله عز وجل : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } يعني : بما وصفوا لله تعالى من البنات ، وكرهوا لأنفسهم ذلك { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ } يعني : تغير لونه ، وهو حزين مكروب . يعني : أترضون لله ، ما لا ترضون لأنفسكم . قوله عز وجل : { أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية } يعني : يغذى في الذهب والفضة . ويقال : أفمن زين في الحلي والحلل { وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } يعني : في الكلام غير فصيح . ويقال : هن في الخصومة ، غير مبينات في الحجة ويقال : أفمن زين في الحلي ، وهو في الخصومة غير مبين ، لأن المرأة لا تبلغ بخصومتها ، وكلامها ما يبلغ الرجل .
قرأ حمزة والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، أو من يُنَشَّأُ بضم الياء ، ونصب النون وتشديد الشين ومعناه : أومن يربى في الحلية ، لفظه لفظ الاستفهام ، والمراد به التوبيخ . وقرأ الباقون ، أوَمَنْ يَنْشَأ ، بنصب الياء وجزم النون مع التخفيف ، يعني : يشب وينبت في الحلي . قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } يعني : وصفوا الملائكة بالأنوثة . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ونافع الَّذِينَ هُمْ عَنْدُ الرَّحْمَنِ { إناثا } يعني : وصفوا الملائكة بالأنوثة . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ونافع عبيد يعني : الملائكة الذين هم في السماء ، والباقون عِبَادُ يعني : جمع عبد .
ثم قال : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } يعني : أحضروا خلق الملائكة حين خلقهم الله تعالى ، فعلموا أنهم ذكوراً أو إناثاً؟ هذا استفهام فيه نفي ، يعني : لم يشهدوا خلقهم على وجه التوبيخ ، والتقريع . ثم قال : { سَتُكْتَبُ شهادتهم } يعني : ستكتب مقالتهم { وَيُسْئَلُونَ } عنه يوم القيامة . وروي عن الحسن : أنه قرأ سَتُكْتَبُ شَهَادَاتُهُم بالألف يعني : أقوالهم . وقرأ عبد الرحمن الأعرج سَنَكْتُبُ بالنون .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم } يعني : ما عبدنا الملائكة ويقال : الأصنام { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي : ما لهم بذلك القول من حجة { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يعني : يكذبون بغير حجة . وقال مقاتل : في الآية تقديم يعني : عباد الرحمن إناثاً ، ما لهم بذلك من علم . قوله عز وجل : { أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ } يعني : أنزلنا عليهم كتاباً ، من قبل هذا القرآن { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } يعني : آخذون به عاملون ، اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به النفي .
قوله عز وجل : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ } يعني : لكنهم قالوا : إنا وجدنا آباءنا على دين وملة . وقال القتبي : أصل الأمة الجماعة ، والصنف . كقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ثم يستعار في أشياء منها : الدين . كقوله : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا } أي : على دين ، لأن القوم كانوا يجتمعون على دين واحد ، فتقام الأمة مكان الدين ، ولهذا قيل للمسلمين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم على ملة واحدة ، وهي الإسلام . وروى مجاهد ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهما قرآ { أُمَّةٍ } بكسر الألف ، أي : على نعمة . ويقال : على هيئة ، وقراءة العامة بالضمة ، يعني : على دين وروى أبو عبيدة ، عن بعض أهل اللغة ، أن الأُمة والأمة لغتان .
ثم قال : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا } يعني : مستيقنين { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } يعني : جبابرتها { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ } يعني : بسنتهم مقتدون . أي : بأعمالهم . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قَالَ أَوَلَوْ *** جِئْتُكُمْ بأهدى } يعني : أليس هذا الذي جئتكم به ، هو أهدى { مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ } يعني : بأصوب وأبين من ذلك . قرأ ابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { قَالَ أَوَلَوْ } على معنى الخبر والباقون ( قُلْ ) بلفظ الأمر . وقرأ أبو جعفر المدني ( جِئْنَاكُم ) بلفظ الجماعة . { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } يعني : إن الجبابرة قالوا لرسلهم : إنا بما أرسلتم به جاحدون .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
قوله عز وجل : { فانتقمنا مِنْهُمْ } بالعذاب { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } يعني : آخر أمرهم . قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } يعني : بريء من معبودكم . ذكر عن الفراء أنه قال : براء مصدر صرف أسماء ، وكل مصدر صرف إلى اسم ، فالواحد ، والجماعة ، والذكر ، والأنثى فيه سواء .
قوله عز وجل : { إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } يعني : إلا الذي خلقني ، فإني لا أتبرأ منه . { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } ويقال : إلا بمعنى لكن . يعني : لكن الذي خلقني ، فهو سيهدين ، يعني : يثبتني على دين الإسلام { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ } يعني : جعل تلك الكلمة ثابتة في نسله { وَذُرّيَّتَهُ } وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن كفرهم إلى الإيمان . وقال قتادة : هو التوحيد والإخلاص ، لا يزال في ذريته . من يوحدوا الله تعالى ، ويعبدوه وقال مجاهد : يعني : كلمة لا إله إلا الله في عقبه وولده . ويقال : { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } يعني : ذو البراءة كما يقال : رجل عدل ورجال عدل ، أي : ذو عدل .
قوله تعالى : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء } يعني : أجلت هؤلاء ، وأمهلتهم . يعني : قومك { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ } يعني : القرآن . ويقال : الدعوة إلى التوحيد { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } يعني : بين أمره بالدلائل . والحجج . ويقال : مبين ، يعني : بين لهم الحق من الباطل . قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق } يعني : القرآن { قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون } يعني : جاحدون .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
{ وَقَالُواْ } يعني : أهل مكة { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } يعني : على رجل عظيم من رجلي القريتين ، وهو الوليد بن المغيرة ، من أهل مكة ، وأبو مسعود الثقفي بالطائف يعني : لو كان حقاً ، لأنزل على أحد هذين الرجلين . وروى وكيع ، عن محمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي ، قال : عن خالد بن عبد الله بن يزيد ، قال : كنت جالساً عند عبد الله بن عباس بالطائف ، فسأله رجل عن هذه الآية وهي قوله : { مّنَ القريتين } فقال : القرية التي أنت فيها . يعني : الطائف والقرية التي جئت منها ، يعني : مكة . وسئل عن الرجلين فقال : جبار من جبابرة قريش ، وهو الوليد بن المغيرة بمكة ، وعروة بن مسعود ، جد المختار . يعني : أبا مسعود يقال اسمه عمرو بن عمير .
قوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } يعني : أبأيديهم مفاتيح الرسالة والنبوة ، فيضعوها حيث شاؤوا ، ولكننا نختار للرسالة ، من نشاء من عبادنا { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا } يعني : نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم ، وهو أدنى من الرسالة ، فلم نترك اختيارها إليهم ، فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه ، وأعظم ، وهي الرسالة إليهم .
ثم قال : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } يعني : فضلنا بعضهم على بعض ، بالمال في الدنيا . { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } يعني : الاستهزاء ويقال : فضل بعضهم على بعض في العز ، والرياسة ، ليستخدم بعضهم بعضاً ، ويستعبد الأحرار العبيد ، ثم أخبر : أن الآخرة أفضل مما أعطوا في الدنيا . فقال : { وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني : خير مما يجمع الكفار من المال في الدنيا .
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة } يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر ، إذا رأوا الكفار في سعة المال . وقال الحسن : لولا أن يتتابعوا في الكفر . { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } وهي : سماء البيت { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } يعني : الدرج عليها يرتقون ويرتفعون . وقال الزجاج : يصلح أن يكون لبيوتهم بدلاً من قوله : { لِمَن يَكْفُرُ } ويكون المعنى لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن ، ويصلح أن يكون معناه : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِبُيُوتِهِم سَقْفاً» بنصب السين ، وجزم القاف ، ويكون عبارة عن الواحد ، فدل على الجمع . والمعنى : لجعلنا لبيت كل واحد منهم ، سقفاً من فضة . وقرأ الباقون سُقُفاً ، بالضم على معنى الجمع . ويقال : سقف ومسقف مثل رهن ورهن .
قوله تعالى : { وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } يعني : يجلسون وينامون { وَزُخْرُفاً } وهو الذهب يعني : لجعلنا هذا كله من ذهب وفضة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَوْلاَ أنْ يَجْزَعَ عَبْدِي المُؤْمن ، لَعَصَّبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابةٍ مِن حَدِيدٍ ، وَلَصَبَبْتُ عَلَيه الدُّنْيَا صَبّاً " وإنما أراد بعصابة الحديد ، كناية عن صحة البدن ، يعني : لا يصدع رأسه ، ثم أخبر أن ذلك كله مما يفنى . فقال : { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا والاخرة عِندَ رَبّكَ } وما ها هنا زيادة ومعناه : وإن كل ذلك لمتاع . ويقال : وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا ، يفنى ولا يبقى { والاخرة } يعني : الجنة للذين يتقون الشرك ، والمعاصي والفواحش . قرأ عاصم ، وابن عامر في رواية هشام : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا } بتشديد الميم ، وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن قرأ بالتخفيف ، فما للصلة والتأكيد . ومن قرأ بالتشديد فمعناه : وما كل ذلك إلا متاع . وقال مجاهد كنت لا أعلم ما الزخرف ، حتى سمعت في قراءة عبد الله بيتاً من ذهب .
قوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } قال الكلبي : يعني : يعرض عن الإيمان والقرآن ، يعني : لا يؤمن . ويقال : من يعمى بصره عن ذكر الرحمن . وقال أبو عبيدة : من يظلم بصره عن ذكر الرحمن . { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً } يعني : نسيب له شيطاناً ، مجازاة لإعراضه عن ذكر الله . ويقال : نسلط عليه ويقال نقدر له ، ويقال : نجعل له شيطاناً { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } يعني : يكون له صاحباً في الدنيا ، فيزين له الضلالة . ويقال : فهو له قرين . يعني : قرينه في سلسلة واحدة ، لا يفارقه . يعني : في النار . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس مثل من أمثال العرب ، إلا وأصله في كتاب الله تعالى . قيل له : من أين قول الناس ، أعطى أخاك تمرة ، فإن أبى فجمرة .
فقال قوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً } الآية { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل } يعني : الشياطين يصرفونهم عن الدين { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } يعني : الكفار يظنون أنهم على الحق .
{ حتى إِذَا جَاءنَا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، روعاصم في رواية أبي بكر ( جَانَا ) بالمد ، بلفظ التثنية ، يعني : الكافر وشيطانه الذي هو قرينه . وقرأ الباقون { جَاءنَا } بغير مد ، يعني : الكافر يقول لقرينه : { قَالَ يَاءادَمُ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } يعني : ما بين المشرق والمغرب . ويقال : بين مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف { فَبِئْسَ القرين } يعني : بئس الصاحب معه في النار . ويقال : هذا قول الله تعالى : { فَبِئْسَ القرين } يعني : بئس الصاحب معه في النار . ويقال هذا قول الكافر يعني : بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا ، وبئس الصاحب اليوم . فيقول الله تعالى : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم } الاعتذار { إِذ ظَّلَمْتُمْ } يعني : كفرتم ، وأشركتم في الدنيا { أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } يعني : أنكم جميعاً في النار ، التابع والمتبوع في العذاب ، سواء قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم :
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى } إلى الهدى { وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : من كان في علم الله في الضلالة . ومعنى الآية : إنك لا تقدر أن تُفهم من كان أصم القلب ، ويعمى عن الحق ، ومن كان في ضلال مبين ، يعني : ظاهر الضلالة ، قوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } يعني : نميتك قبل أن نرينك الذي وعدناهم ، يعني : قبل أن نريك النقمة { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } يعني : ننتقم منهم . بعد موتك . قال قتادة : ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ، وبقيت النقمة . قال : وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ، « أُرَى مَا يُصِيب أُمَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، فما رُئِيَ ضَاحِكاً مُسْتَبْشِراً ، حَتَّى قُبِضَ » . ثم قال : { أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم } يعني : في حياتك { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } يعني : إنا لقادرون على ذلك قوله تعالى : { فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ } يعني : اعمل بالذي أوحي إليك من القرآن { إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : على دين الإسلام { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } يعني : القرآن شرف لك ولمن آمن به ويقال : { وَلِقَوْمِكَ } يعني : العرب ، لأن القرآن نزل بلغتهم { وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ } عن هذه النعم ، وعن شكر هذا الشرف . يعني : القرآن إذا أديتم شكره ، أو لم تؤدوه .
قوله تعالى : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } قال مقاتل ، والكلبي : يعني : سل مؤمني أهل الكتاب { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن } يعني : هل جاءهم رسول ، يدعوهم إلى عبادة غير الله . ويقال : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } يعني : سل المرسلين ، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء ليلة المعراج ، وصلى بهم ببيت المقدس . فقيل له : فسلهم فلم يشك ، ولم يسألهم . ويقال : إنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأراد أمته يعني : سلوا أهل الكتاب كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } [ يونس : 94 ] الآية .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَيْهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ العالمين } وقد ذكرناه { فَلَمَّا جَاءهُم بئاياتنا } يعني : باليد والعصا { إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ } يعني : يعجبون ويسخرون . { وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } يعني : أعظم من التي كانت قبلها ، وهي السنين والنقص ، من الثمرات والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم فلم يؤمنوا بشيء . { وأخذناهم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يعني : عاقبناهم بهذه العقوبات لكي يرجعوا ، ويعرفوا ضعف معبودهم { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الساحر } وكان الساحر فيهم ، عظيم الشأن يعني : قالوا لموسى : يا أيها العالم { ادع لَنَا رَبَّكَ } أي : سل لنا ربك { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } يعني : بحق ما أمرك به ربك ، أن تدعو إليه { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } يعني : نؤمن بك ، ونوحد الله تعالى .
قوله تعالى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } يعني : ينقضون عهودهم { ونادى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ } يعني : خطب فرعون لقومه { قَالَ يَا قَوْمٌ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ } وهي أربعون فرسخاً ، في أربعين فرسخاً { وهذه الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِى } يعني : من تحت يدي . ويقال : من حولي ، وحول قصوري وجناني { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } فضلي على موسى { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } يعني : خير ، وأم للصلة من هذا الذي هو مهين ، يعني : ضعيف ذليل .
{ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } يعني : لا يكاد يعبر حجة . ويقال : معناه : ألا تنظرون إلى فصاحتي ، وإلى عيِّ كلام موسى { فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ } يعني : هلا أعطي أسورة من ذهب . يعني : لو كان حقاً وكان رسولاً كما يقول ، لأعطي له المال ، فيكون حاله خيراً من هذا ، وكان آل فرعون يلبسون الأساور . قرأ عاصم في رواية حفص ( أسْوَرَةٌ ) بغير ألف والباقون ( أسَاوِرَةٌ ) فمن قرأ أسورة فهو جمع السوار ، ومن قرأ أساورة ، فهو جمع الجمع . ويقال : أساور جمع سوار .
ثم قال : { أَوْ جَاء مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ } يعني : لو كان حقاً ، لأتته الملائكة متتابعين ، فيصدقون على مقالته ويقال { مُقْتَرِنِينَ } أي : متعاونين { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } يعني : فاستذل قومه فأطاعوه . يعني : حملهم على الخفة ، فانقادوا له { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } يعني : كافرين عاصين ، وذلك أن فرعون قال لهم : مَا أُريكُم إلاَّ مَا أرَى ، فأطاعوه على تكذيب موسى عليه السلام { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } يعني : ناقضي العهد .
قوله تعالى : { فَلَمَّا ءاسَفُونَا } يعني : أغضبونا قال أهل اللغة : الأسف : الغضب . وروى معمر عن سماك بن الفضل . قال : كنا عند عروة بن محمد ، وعنده وهب بن منبه ، فجاء قوم فشكوا عاملهم ، وأثبتوا على ذلك ، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة ، فضرب بها رأس العامل حتى أدماه ، فاستعابها عروة ، وكان حليماً وقال : يعيب علينا أبو عبد الله الغضب وهو يغضب ، فقال وهب : وما لي لا أغضب ، وقد غضب الذي خلق الأحلام ، إن الله تعالى يقول { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } يعني : أغضبونا .
ويقال : فلما آسفونا ، يعني : وجب عليهم عذابنا { انتقمنا مِنْهُمْ } يعني : أهلكناهم { فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } يعني : لم نبق منهم أحداً .
قوله تعالى : { فجعلناهم سَلَفاً } قال مجاهد : يعني : كفار قوم فرعون ، سلفاً لكفار مكة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : جعلناهم سلفاً إلى النار . قرأ حمزة والكسائي ( سُلْفاً ) بالضم ، وقرأ الباقون ( سَلفاً ) بنصب السين واللام ، فمن قرأ بالنصب فمعناه : جعلناهم سلفاً متقدمين ، ليتعظ بهم الآخرون . ومن قرأ بالضم ، فهو جمع سليف ، أي : جمع قد مضى . ويقال : سلفاً واحدها سلفة من الناس ، أي : قطعة . قوله : { وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ } يعني : عبرة لمن بعدهم .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } يعني : وصف ابن مريم شبهاً { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } يعني : يعرضون عن ذكره . ويقال : لما قالت النصارى إن عيسى ابن الله إذا قومك منه يصدون . قرأ ابن عامر ، والكسائي ونافع ( يَصُدُّونَ ) بضم الصاد . وقرأ الباقون ( يَصِدُّونَ ) بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه يعرضون ، ومن قرأ بالكسر فمعناه يضجون ، ويرفعون أصواتهم تعجباً ، وذلك أنهم قالوا : لما جاز أن يكون عيسى ابن الله ، جاز أن تكون الملائكة بناته ، فعارضوه بذلك ، يعني : أهل مكة ، ورفعوا أصواتهم بذلك . ويقال : إن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما ذكرنا في سورة الأنبياء ، ففرح المشركون بذلك ، ورفعوا أصواتهم تعجباً من قوله آلهتنا خير .
ثم قال تعالى : { وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعني : أم عيسى فإذا جاز أن يكون هو ولداً ، جاز أن تكون الأصنام والملائكة كذلك . ويقال : فإذا جاز أن يكون هو في النار ، جاز أن تكون معه الأصنام في النار . قوله : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } يعني : ما عارضوك بهذه المعارضة ، إلا جدلاً { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } يعني : يجادلونك شديد المجادلة بالباطل .
قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي : ما كان عيسى إلاَّ عبداً لله ، أنعم الله تعالى عليه بالنبوة ، وأكرمه بها { وجعلناه مَثَلاً لّبَنِى إسراءيل } يعني : عبرة لبني إسرائيل ، ليعتبروا به ، حين ولد ابن من غير أب .
ثم قال : { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الارض يَخْلُفُونَ } يعني : لو شاء الله ، لجعل مكانكم في الأرض ملائكة يخلفون ، فكانوا خلفاً منكم . ثم رجع إلى صفة عيسى عليه السلام فقال : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } يعني : نزول عيسى ، علامة لقيام الساعة . ويقال : نزول عيسى آية للناس . وروى وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن أبي يحيى ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } قال : خروج عيسى ابن مريم . وروى معمر ، عن قتادة قال : نزول عيسى وروى عبادة ، عن حميد ، عن أبي هريرة قال : « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، حَتَّى يُرى عيسى عليه السلام في الأرْض إمَاماً مُقْسِطاً ، وَكُنْتُ أرْجُو ألاَّ أمُوتَ حَتَّى آكُل مع عيسى عليه السلام ، عَلَى مَائِدَةٍ ، فَمَنْ لَقِيهُ مِنْكُمْ ، فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَم » قرأ بعضهم { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } بكسر العين أي : بنزول المسيح يعلم أنه قد قربت الساعة . ومن قرأ : ( وَإنَّهُ لَعَلَمٌ ) بالنصب ، فإنه بمعنى الدليل ، والعلامة .
قوله تعالى : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } يعني : لا تشكن في القيامة والبعث { وَاتَّبِعُونِي } يعني : أطيعونني { فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } عني هذا التوحيد صراط مستقيم { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان } يعني : لا يصرفنكم الشيطان عن طريق الهدى { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة .
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
{ وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات } يعني : بالآيات والعلامات ، وهو إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص . ويقال : بالبينات ، يعني : بالإنجيل { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } يعني : بالنبوة { وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } قال : بعضهم ، يعني : كل الذي تختلفون فيه . وقال بعضهم معناه : لأبين تحليل بعض الذي تختلفون فيه . كقوله : { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ آل عمران : 50 ] وكانوا في ذلك التحريم مختلفين ، فمصدق ومكذب { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به من التوحيد .
قوله تعالى : { إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ } يعني : خالقي وخالقكم { فاعبدوه } يعني : وحدوه وأطيعوه { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يعني : دين الإسلام { فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ } أي : تفرقوا في أمر عيسى ، وهم النسطورية ، والماريعقوبية ، والملكانية . وقد ذكرناه من قبل . ويقال : الأحزاب تحزبوا وتفرقوا في أمر عيسى ، وهم اليهود . فقالوا فيه قولاً عظيماً ، وفي أمه . فقالوا : إنه ساحر . ويقال : اختلفوا في قتله { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يعني : أشركوا { مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } يعني : عذاب يوم شديد .
قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } يعني : ما ينظرون إذا لم يؤمنوا إلا الساعة { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } يعني : فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بقيامها قوله تعالى : { الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } قال مجاهد : الأخلاء في معصية الله تعالى في الدنيا ، يومئذٍ متعادين في الآخرة { إِلاَّ المتقين } الموحدين . قال مقاتل : نزلت في أبي بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط . وقال الكلبي : كل خليل في غير طاعة الله ، فهو عدوٌّ لخليله .
وروى عبيد بن عمير . قال : كان لرجل ثلاثة أخلاء ، بعضهم أخص به من بعض ، فنزلت به نازلة ، فلقي أخص الثلاثة . فقال : يا فلان : إني قد نزل بي كذا وكذا ، وإني أحب أن تعينني . فقال له : ما أنا بالذي أعينك ، ولا أنفعك ، فانطلق إلى الذي يليه . فقال له : أنا معك حتى أبلغ المكان الذي تريده ، ثم رجعت وتركتك . فانطلق إلى الثالث فقال له : أنا معك حيثما دخلت . قال : فالأول ماله ، والثاني أهله وعشيرته ، والثالث عمله . وروى أبو إسحاق عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه سئل عن قوله : { الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } فقال : خليلان مؤمنان ، وخليلان كافران ، فتوفي أحد المؤمنين فيثني على صاحبه خيراً ، ثم يموت الآخر ، فيجمع بين أرواحهما فيقول : كل واحد منهما لصاحبه ، نعم الأخ ونعم الصاحب ، ويموت أحد الكافرين ، فيثني على صاحبه شراً ، ثم يموت الآخر ، فيجمع بين أرواحهما فيقول : كل واحد منهما لصاحبه ، بئس الأخ وبئس الصاحب .
قوله تعالى : { المتقين ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } يعني : يوم القيامة ثم وصفهم فقال : { الذين ءامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } يعني : مخلصين بالتوحيد . قوله تعالى : { ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم تُحْبَرُونَ } يعني : تكرمون وتنعمون . ويقال : ترون والحبرة : السرور . قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مّن ذَهَبٍ } قال كعب : يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب ، في كل صحفة لون وطعام ، ليس في الأخرى ، والصحفة هي القصعة . { وَأَكْوابٍ } وهي : الأباريق التي لا خراطيم لها ، يعني : مدورة الرأس . ويقال : التي لا عُرى لها ، واحدها كوب .
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفس } يعني : تتمنى كل نفس { وَتَلَذُّ الاعين } من النظر إليها { وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون وَتِلْكَ الجنة } يعني : هذه الجنة { التى أُورِثْتُمُوهَا } يعني : أنزلتموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : دخلتموها برحمة الله تعالى ، بإيمانكم واقتسمتموها بأعمالكم . { لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ } لا تنقطع . لقوله : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] { مّنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : من الفواكه متى تشاؤوا .
ثم وصف المشركين فقال : { إِنَّ المجرمين } يعني : المشركين { فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون } أي : دائمون ، لا يموتون ولا يخرجون { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } يعني : لا ينقطع عنهم العذاب طرفة عين { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } يعني : آيسين من رحمة الله تعالى . قوله تعالى : { وَمَا ظلمناهم } يعني : لم نعذبهم بغير ذنب { ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } لأنهم كانوا يستكبرون عن الإيمان .
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
قوله تعالى : { وَنَادَوْاْ يامالك } وذلك أنه لما يشتد عليهم العذاب ، يتمنون الموت ، ويقولون لخازن جهنم : يَا مَالِك { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } يعني : ادع ربك لقبض أرواحنا ، فأجابهم بعد أربعين سنة { قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون } وروى عطاء بن السائب ، عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يجيبهم بعد ألف سنة { إِنَّكُمْ ماكثون } ويقال : إنهم ينادون { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } فأوحى الله تعالى إلى مالك ليجيبهم ، فيقول لهم مالك قَالَ : إنَّكُمْ مَاكِثُونَ .
قوله تعالى : { لَقَدْ جئناكم بالحق } يعني : جاءكم جبريل في الدنيا ، بالقرآن والتوحيد { ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارهون } يعني : جاحدون . وهو قوله تعالى : { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً } قال مقاتل : وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ، ودخل إبليس عليهم ، وقد ذكرناه في سورة الأنفال . فنزل { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } يعني : أجمعوا أمرهم بالشر على النبي صلى الله عليه وسلم { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي : مجمعون أمرنا على ما يكرهون . وقال الكلبي : وذلك أن ثلاثة نفر ، اجتمعوا وقالوا : إنه يقول : بأن ربي يعلم السر . أترى أنه يعلم مَا نقول بيننا؟ فنزل { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً } يعني : أقاموا على المعصية { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي : معذبون عليها . قال القتبي : أي : أحكموه ، والمبرم : المفتول على طاقين .
قوله تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ } يعني : بل يظنون . ويقال : أيظنون ، والميم صلة { أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التوبيخ ، ومعناه إن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم . قال ابن عباس : الذين يتناجون خلف الكعبة ، يعني : الذين يقولون : إن الله لا يسمع مقالتنا . قال الله تعالى : { بلى } يعني : نسمع ذلك { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } مقالتهم .
قوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } يعني : الموحدين من أهل مكة . قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، وقرئت عليهم فقال النضر بن الحارث : ألا ترونه صدقني . فقال له الوليد : ما صدقك ، ولكنه يقول : ما كان للرحمن ولد . يعني : إنَّ إن بمعنى ما قال : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } يعني : الموحدين من أهل مكة . وقال الكلبي : أنا أول الآنفين أن لله ولداً . وقال القتبي : إن كان هذا في زعمكم ، فأنا أول الموحدين ، لأنكم تزعمون أن له ولداً ، فأنَّا أوَّلِ الآنفين من ذلك ، فلم توحدوه ومن وحد الله ، فقد عبده ، ومن جعل له ولداً ، فليس من العابدين كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أي : ليوحدون ثم نزه نفسه فقال :
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{ سبحان رَبّ السموات والارض رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } يعني : عما يقولون إن لله ولداً { فَذَرْهُمْ } يعني : كفار مكة ، حين كذبوا بالعذاب { يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } يعني : يخوضوا في أباطيلهم ، ويستهزئوا { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } يعني : حتى يعاينوا يومهم الذي يوعدون ، وهو يوم القيامة .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله } يعني : إله كل شيء ، ويعلم كل شيء . ويقال : هو إله في السماء يعبد ، وفي الأرض إله يعبد . ويقال : يوحد في السماء ويوحد في الأرض { وَهُوَ الحكيم } في أمره { العليم } بخلقه وبمقالتهم ، ثم عظم نفسه فقال تعالى : { وَتَبَارَكَ الذى } يعني : تعالى عما وصفوه الَّذي { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } يعني : خزائن السموات المطر ، وخزائن الأرض النبات { وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } يعني : قيام الساعة { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قرأ أبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ( تُرْجَعُونَ ) بالتاء ، على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء ، على معنى الخبر عنهم .
قوله تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ } يعني : لا يقدر الذين يعبدون { مِن دُونِهِ الشفاعة إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } يعني : بلا إله إلا الله مخلصاً { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه الحق ، حين شهدوا بها من قبل أنفسهم ، وأنهم يشفعون لهؤلاء قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } يعني : كفار قريش { فأنى يُؤْفَكُونَ } يعني : أنى يصرفون بعد التصديق .
ثم قال : { وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يعني : قال النبي صلى الله عليه وسلم { وَقِيلِهِ } يعني : وقوله . قرأ عاصم وحمزة ( قِيلِهِ ) بكسر اللام ، والباقون بالنصب . وقرىء في الشاذ ( وَقِيلُهُ ) بضم اللام ، فمن قرأ بالنصب ، فنصبه من وجهين : أحدهما على العطف على قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله علام الغيوب } [ التوبة : 78 ] ( وقيله ) ومعنى آخر وعنده علم الساعة ، وعلم قيله يا رب . يعني : يعلم الغيب ومن قرأ بالكسر معناه وعنده علم الساعة ، وعلم قيله يا رب . ومن قرأ بالرفع فمعناه : وقيله قول يا رب { إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون { فاصفح عَنْهُمْ } يعني : أعرض عنهم ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال { وَقُلْ سلام } يعني : سداداً من القول { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وهذا وعيد منه . قرأ نافع وابن عامر ( تَعْلَمُونَ ) بالتاء ، على معنى المخاطبة لهم ، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ، والله أعلم .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
قوله تبارك وتعالى : { حم والكتاب المبين إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } يعني : الكتاب أنزلناه في ليلة القدر سميت مباركة لما فيها من البركة ، والمغفرة للمؤمنين ، وذلك أن القرآن ، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر إلى السفرة . ثم أنزله جبريل متفرقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال : كان ينزل من اللوح المحفوظ ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، مقدار ما ينزل به جبريل عليه السلام ، متفرقاً إلى السنة الثانية ثم قال : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } يعني : مخوفين بالقرآن .
قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } يعني : في ليلة القدر ، يقضى كل أمر محكم ، ما يكون في تلك السنة إلى السنة الأخرى ، وهذا قول عكرمة . وروى منصور ، عن مجاهد قال فيها : يقضى أمر السنة إلى السنة ، من المصائب والأرزاق وغير ذلك . وهذا موافق للقول الأول . ويقال : في تلك الليلة ، يفرق يعني : ينسخ من اللوح المحفوظ ، ما يكون إلى العام القابل من الرزق ، والأجل ، والأمراض ، والخصب ، والشدة . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال : إنك لتلقى الرجل في الأسواق ، وقد وقع اسمه في الأموات .
ثم قرأ هذه الآية : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } يعني : في تلك الليلة ، يفرق كل أمر الدنيا إلى مثلها إلى السنة من قابل { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا } يعني : قضاء من عندنا . ويقال : معناه بأمر من عندنا ، فنزع حرف الخافض فصار نصباً { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } يعني : الرسل إلى الخلق . ويقال : يعني : الملائكة في تلك الليلة { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } يعني : إنزال الملائكة ، رحمة من الله تعالى . ويقال : الرسالة رحمة من الله تعالى . ويقال : هذا القرآن رحمة لمن آمن به { إِنَّهُ هُوَ السميع } لقولهم { العليم } بهم وبأعمالهم .
قوله عز وجل : { رَبّ السموات والارض } قرأ أهل الكوفة رب ، بكسر الباء ، والباقون بالضم ، فمن قرأ بالكسر رده إلى قوله : رحمة من ربك رب السموات . ومن قرأ بالضم ، رده إلى قوله : { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } رب السموات . ويقال : على الاستئناف . ومعناه : هو ربكم ، وهو رب السموات والأرض { وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } يعني : مؤمنين بتوحيد الله { لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ } وقد ذكرناه { رَبُّكُمْ } أي : خالقكم ورازقكم { وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين } يعني : هو خالقهم ورازقهم .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
قوله عز وجل : { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ } يعني : يستهزئون . ويقال : هذا جواب قوله : { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } فكأنه قال : لا يوقنون ، بل هم في شك يلعبون يعني : يخوضون في الباطل . قوله تعالى : { فارتقب } يعني : فانتظر يا محمد { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } يعني : الجدب والقحط قال القتبي : سمي الجدب والقحط . دخاناً ، وفيه قولان : أحدهما أن الجائع كأنه يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع ، والثاني : أنه سمي القحط دخاناً ، ليبس الأرض ، وانقطاع النبات ، وارتفاع الغبار ، فشبه بالدخان . وروى الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : «خمس مضين ، الدخان واللزام يعني : العذاب الأكبر ، والروم ، والبطشة ، والقمر .
وروي عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : بينما رجل يحدث في المسجد ، فسئل عن قوله : { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } فقال : إذا كان يوم القيامة ، نزل دخان من السماء ، فأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، وأخذ المؤمنون منه بمنزلة الزكام . قال مسروق : فدخلت على عبد الله فأخبرته ، وكان متكئاً ، فاستوى قاعداً . ثم أنشأ فقال : يا أيها الناس : من كان عنده علم فسئل عنه ، فليقل به ، ومن لم يكن عنده علم ، فليقل الله أعلم . إن قريشاً حين كذبوه يعني : صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كسِنِّي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام " فأصابهم سنة ، وشدة الجوع ، حتى أكلوا الكلاب ، والجيف والعظام ، حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخاناً .
فذلك قوله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } يعني : انتظر بهلاكهم يوم تأتي السماء بدخان مبين { يَغْشَى الناس } يعني : أهل مكة { هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : يقولون : هذا الجوع عذاب أليم ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا : يا رسول الله استسق الله لنا ، فقد أصابنا شدة .
قوله تعالى : { رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب } يعني : الجوع { إِنَّا مْؤْمِنُونَ أنى لَهُمُ الذكرى } يعني : من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة { وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } بلغتهم ومفقه لهم { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } يعني : أعرضوا عما جاء به ، فلم يصدقوه ومع ذلك { وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } يعلمه جبر ويسار أسماء الرجلين غلامي الخضر { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } إلى المعصية ، فعادوا فانتقم منهم يوم بدر ، فذلك قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } يعني : نعاقب العقوبة العظمى { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } منهم بكفرهم ويقال : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } يعني : يوم القيامة . ويقال : آية الدخان لم تمض ، وستكون في آخر الزمان .
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان يأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل . وروى ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس قال : " أخْبِرْتُ أنَّ الكَوْكَب ذَا الذَّنب قد طَلَعَ ، فَخَشِيتُ أنْ يَكونَ الدُّخَانَ قَد طَرق " ويقال : هذا كله يوم القيامة ، إذا خرجوا من قبورهم ، تأتي السماء بدخان مبين ، محيط بالخلائق فيقول الكافرون : { رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب } أي : ردنا إلى الدنيا { إِنَّا مْؤْمِنُونَ } يقول الله تعالى : من أين لهم الرجعة ، وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه .
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } يعني : ابتلينا قبل قومك قوم فرعون . { وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } على ربه ، وهو موسى عليه السلام . ويقال : رسول كريم . أي : شريف { أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله } يعني : أرسلوا معي بني إسرائيل ، واتبعوني على ديني { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } قد جئتكم من عند الله تعالى . ويقال : كريم لأنه كان يتجاوز عنهم ، ويقال أمين فيكم قبل الوحي ، فكيف تتهموني اليوم . ويقال كريم حيث يتجاوز عنهم ، حين دعا موسى ، ورفع عنهم الجراد ، والقمل ، والضفادع والدم { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } فيما بينكم وبين ربكم .
قوله تعالى : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } يعني : لا تخالفوا أمر الله تعالى . ويقال : لا تستكبروا عن الإيمان ، ولا تعلوا بالفساد ، لأن فرعون لعنه الله ، كان عالياً من المسرفين { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى } يعني : آتيكم بحجة بينة اليد والعصى ، وغير ذلك . { وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ } يعني : أعوذ بالله { أَن تَرْجُمُونِ } يعني : أن تقتلون . ومعناه : أسأل الله تعالى ، أن يحفظني لكي لا تقتلوني . قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { عُذْتُ } بإدغام الذال في التاء ، لقرب مخرجيهما ، والباقون بغير إدغام ، لتبيين الحرف .
ثم قال : { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون } يعني : إن لم تصدقوني فاتركوني . قوله تعالى : { فَدَعَا رَبَّهُ } يعني : دعا موسى ربه ، كما ذكر في سورة يونس { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } [ يونس : 88 ] وقوله : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } [ يونس : 86 ] { أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } يعني : مشركون فأبوا أن يطيعوني { فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً } فأوحى الله تعالى إليه ، أن أدلج ببني إسرائيل { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } يعني : إنَّ فرعون يتبع أثركم ، فخرج موسى ببني إسرائيل ، وضرب بعصاه البحر ، فصار طريقاً يابساً .
وهذا كقوله : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ طه : 77 ] فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر ، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر ، ليعود إلى الحالة الأولى ، فأوحى الله تعالى إليه بقوله { واترك البحر رَهْواً } قال قتادة : يعني : طريقاً يابساً واسعاً . وقال الضحاك : رَهْواً يعني : سهلاً . وقال مجاهد : يعني : منفرجاً . وقال القتبي : يعني : طريقاً سالكاً . كما هو . ويقال : رهواً أي : سككاً جدداً ، طريقاً يابساً { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } وذلك ، أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون ، فقالوا لموسى : اجعل البحر كما كان ، فإننا نخشى أن يلحق بنا .
قال الله تعالى : { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } يعني : سيغرقون ، فدخل فرعون وقومه البحر ، فأغرقهم الله تعالى ، وبقيت قصورهم وبساتينهم قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ } يعني : بساتين وأنهاراً جارية { وَزُرُوعٍ } يعني : الحروق { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني : مساكن ومنازل حسن .
كذلك يعني : هكذا أخرجناهم من النعم { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فاكهين } يعني : معجبين . وقال أهل اللغة : النِّعمة بكسر النون هي المنة ، واليد الصالحة ، والنُّعمة بالضم هي الميسرة ، وبالنصب هي السعة في العيش . ثم قال : { كذلك } يعني : هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة { كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً } يعني : جعلناها ميراثاً لبني إسرائيل .
قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والارض } قال بعضهم : هذا على سبيل المثل ، والعرب إذا أرادت تعظيم ملك ، عظيم الشأن ، عظيم العطية تقول : كَسَفَ القَمَرُ لِفَقْدِهِ ، وبَكَت الرِّيحُ والسَّمَاءُ وَالأرْضُ ، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم ، فأخبر الله تعالى ، أن فرعون لم يكن ممن يجزع له جازع ، ولم يقم لفقده فقد ، وقال بعضهم : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والارض } يعني : أهل السماء ، وأهل الأرض . فأقام السماء والأرض مقام أهلها . كما قال : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] وقال بعضهم : يعني : بكت السماء بعينها ، وبكت الأرض . وقال ابن عباس : « لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَابٌ في السَّمَاءِ ، يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ ، وَيَنْزِلُ مِنهُ رِزْقُهُ ، فَإذا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ بَابُه فِي السَّمَاءِ ، وَبَكَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ فِي الأرْضِ » وذكر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه سئل : أتبكي السماء والأرض على أحد؟ قال نعم ، إذا مات المؤمن ، بكت عليه معادنه من الأرض ، التي كان يذكر الله تعالى فيها ويصلي ، وبكى عليه بابه الذي كان يرفع فيه عمله ، فأخبر الله تعالى : أن قوم فرعون ، لم تبك عليهم السماء والأرض { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } يعني : مؤجلين .
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين } يعني : من العذاب الشديد . ويقال : المهين يعني : الهوان . وهو قتل الأبناء ، واستخدام البنات { مِن فِرْعَوْنَ } يعني : من عذاب فرعون { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } يعني : كان عاصياً ، عاتياً ، مستكبراً ، متعظماً وكان من المسرفين . يعني : من المشركين { وَلَقَدِ اخترناهم } يعني : اصطفينا بني إسرائيل { على عِلْمٍ } يعني : على علم من الله تعالى ، أنهم أهل لذلك . ويقال : { على عِلْمٍ } الله فيهم من صبرهم { عَلَى العالمين } يعني : على عالمي زمانهم { وءاتيناهم مِنَ الايات } يعني : أعطيناهم من العلامات { مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ } يعني : ابتلاء بيناً ، مثل انفلاق البحر ، وأشباه ذلك .
ثم ذكر كفار مكة فقال : { إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُون إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى } يعني : ما هي إلا موتتنا الأولى { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } بعدها { فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين } أنا نبعث بعد الموت ، يعني : قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } يعني : قومك خير أم قوم تبع ، وإنما ذكر قوم تبع ، لأنهم كانوا أقرب إلى أهل مكة في الهلاك من غيرهم . قال الكلبي : وكانوا أشراف حمير { والذين مِن قَبْلِهِمْ أهلكناهم } فكيف لا نهلك قومك إذا كذبوك قال : وكان تبع اسم ملك منهم ، مثل فرعون . ويقال : إنما سمي تبع ، لكثرة أتباعه ، فأسلم فخالفوه فأهلكهم الله تعالى ، وكان اسمه سعد بن ملكي كرب .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن تبع كان رجلاً صالحاً . وكان كعب الأحبار يقول : ذم الله قومه ، ولم يذمه . وقال سعيد بن جبير : إن تبعاً كسا البيت ، يعني : الكعبة . وقال القتبي : هم ملوك اليمن ، كل واحد منهم يسعى تبعاً ، لأنه يتبع صاحبه ، وكذلك الظل يسمى : تبعاً لأنه يتبع الشمس ، وموضع التبع في الجاهلية ، موضع الخليفة في الإسلام ، وهم ملوك العرب . ثم قال : { والذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : من قبل تبع { أهلكناهم } يعني : عذبناهم عند التكذيب { إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } يعني : مشركين .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } يعني : عابثين لغير شيء { مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق } يعني : إلا لأمر هو كائن . ويقال : خلقناهما للعبرة ، ومنفعة الخلق ويقال : للأمر والنهي ، والترهيب والترغيب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون ، ولا يفقهون .
قوله تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل } أي : يوم القضاء بين الخلق ، وهو يوم القيامة { ميقاتهم أَجْمَعِينَ } يعني : ميعادهم أجمعين ، الأولين والآخرين . ويقال : يوم الفصل ، يعني : يوم يفصل بين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، والزوج والزوجة ، والخليل والخليلة ، ثم وصف ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } يعني : لا يدفع ولي عن ولي ، ولا قريب عن قريب شيئاً في الشفاعة { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعني : لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب . يعني : الكافرين . ثم وصف المؤمنين ، فإنه يشفع بعضهم لبعض فقال : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ العزيز } في نعمته للكافرين { الرحيم } بالمؤمنين .
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قوله تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الاثيم } يعني : الفاجر وهو الوليد ، وأبو جهل ، ومن كان مثل حالهما { كالمهل يَغْلِى فِى البطون } يعني : كالصفر المذاب . قرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص { كالمهل يَغْلِى } ، بالياء بلفظ التذكير . والباقون بلفظ التأنيث ، فمن قرأ بلفط التذكير ، رده إلى المهل . ومن قرأ بلفظ التأنيث ، رده إلى الشجرة { كَغَلْىِ الحميم } يعني : الماء الحار الذي قد انتهى حره .
ثم قال للزبانية : { خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَاء الجحيم } يعني : فسوقوه وادفعوه إلى وسط الجحيم . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر فَاعْتُلُوه بضم التاء ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان ، معناهما واحد ، يعني : امضوا به بالعنف والشدة . وقال مقاتل : يعني : ادفعوه على وجهه . وقال القتبي : خذوه بالعنف { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } ويقال له : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } وذلك أن أبا جهل قال : أنا في الدنيا أعز أهل هذا الوادي ، وأكرمه فيقال له في الآخرة : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } ، يعني : المتعزز المتكرم ، كما قلت في الدنيا .
قوله عز وجل : { إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } يعني : تشكون في الدنيا . قرأ الكسائي { ذُقْ إِنَّكَ } بنصب الألف ، والباقون بالكسر . فمن قرأ بالنصب فمعناه ذق يا أبا جهل ، لأنك قلت : أنك أعز أهل هذا الوادي فقال الله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ } القائل أنا { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ومن قرأ بالكسر ، فهو على الاستئناف . ثم وصف حال المؤمنين في الآخرة .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
فقال تعالى { إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ أَمِينٍ } يعني : في منازل حسنة ، آمنين من العذاب . قرأ نافع ، وابن عامر فِي مُقَامٍ ، بضم الميم . والباقون بالنصب ، فمن قرأ بالنصب يعني : المكان والموضع ، ومن قرأ بالضم يعني : الإقامة { فِى جنات وَعُيُونٍ } يعني : في بساتين ، وأنهار جارية { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } يعني : ما لطف من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } يعني : ما ثخن منه { متقابلين } يعني : متواجهين كما قال في آية أخرى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } [ الحجر : 47 ] ثُم قال : { كذلك } يعني : هكذا ، كما ذكرت لهم في الجنة .
ثم قال عز وجل : { وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ } يعني : بيض الوجوه حسان الأعين { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءامِنِينَ } يعني : ما يتمنون من الفواكهة ، آمنين من الموت ومن زوال المملكة . ويقال : { ءامِنِينَ } مما يلقى أهل النار { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت } يعني : في الجنة { إِلاَّ الموتة الاولى } يعني : سوى ما قضى عليهم من الموتة الأولى في الدنيا { ووقاهم عَذَابَ الجحيم } يعني : يصرف عنهم عذاب النار قوله تعالى : { فَضْلاً مّن رَّبّكَ } يعني : هذا الثواب ، عطاء من ربك للمؤمنين المخلصين { ذلك هُوَ الفوز العظيم } يعني : النجاة الوافرة { فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ } يعني : هَوَّنَا قراءة القرآن على لسانك ، لكي تقرأه وتخبرهم بذلك { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يعني : يتعظون بالقرآن { فارتقب } يعني : انتظر بهلاكهم { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } يعني : منتظرون بهلاكك . روى يعلى بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن عبد الله بن عيسى قال : أخبرت أنه : من قرأ ليلة الجمعة سورة الدخان إيماناً ، واحتساباً وتصديقاً ، أصبح مغفوراً له ، والله أعلم . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي ، وآله وأزواجه الطيبين الطاهرين ، وسلم تسليماً دائماً .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تبارك وتعالى : { حم تَنزِيلُ الكتاب } يعني : هذا الكتاب تنزيل { مِنَ الله العزيز الحكيم } وقد ذكرناه { إِنَّ فِى السموات والارض ايات لّلْمُؤْمِنِينَ } يعني : لعبرات للمؤمنين في خلقهن . ويقال : معناه أن ما في السموات من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وفي الأرض من الجبال ، والأشجار ، والأنهار وغيرها من العجائب ، لعبرات ودلائل ، واضحات للمؤمنين . يعني : للمقرين المصدقين ويقال { لِلْمُؤْمِنِينَ } يعني : لمن أراد أن يؤمن ، ويتقي الشرك .
قوله عز وجل : { وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ } يعني : وفيما خلق من الدواب { لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ واختلاف } يعني : عبرات ودلائل لمن كان له يقين . قرأ حمزة والكسائي آيَاتٍ بالكسر ، والباقون بالضم . وكذلك الاختلاف في الذي بعده ، فمن قرأ بالكسر ، فإن المعنى : إن في خلقكم آيات لقوم يوقنون ، فهو في موضع النصب إلاَّ أن هذه التاء تصير خفضاً في موضع النصب وإنما أضمر فيه إنَّ لأَنَّ قوله : { إِنَّ فِى السموات والارض لاَيَاتٍ } في موضع النصب ، فكذلك في الثاني معناه : إن في خلقكم آيات . ومن قرأ بالضم ، فهو على الاستئناف على معنى ، وفي خلقكم آيات .
{ واختلاف اليل والنهار } يعني : في اختلاف الليل والنهار ، في سواد الليل ، وبياض النهار يعني : في اختلاف ألوانهما ، وذهاب الليل ومجيء النهار { وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ } وهو المطر { فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني : بعد يبسها وقحطها { وَتَصْرِيفِ الرياح } مرة رحمة ، ومرة عذاباً . ويقال : مرة جنوباً ومرة شمالاً .
ثم قال : { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ * تِلْكَ آيات الله } يعني : هذه دلائل الله ، وعلامة وحدانيته { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } يعني : يقرأ عليك جبريل من القرآن ، بأمر الله { تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } قال مقاتل : إن لم تؤمنوا بهذا القرآن ، فبأي حديث بعد توحيد الله وبعد القرآن تؤمنون . يعني : تصدقون .
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قوله تعالى : { وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } يعني : كذاب فاجر { يَسْمَعُ ءايات الله } يعني : القرآن { تتلى عَلَيْهِ } يعني : يعرض عليه ، ويقرأ عليه { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } يعني : يقيم على الكفر ، متكبراً عن الإيمان { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } يعني : كأن لم يعقلها ، ولم يفهمها { فَبَشّرْهُ } يا محمد { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني : شديد . قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ، وَآيَاتِهِ تُؤْمِنُونَ بالتاء على معنى المخاطبة . والباقون بالياء ، على معنى الخبر عنهم .
قوله عز وجل : { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً } يعني : إذا سمع من آياتنا ، يعني : من القرآن ، اتخذها هزءاً . يعني : سخرية . ويقال : مثل حديث رستم وإسنفديار ، وهو النضر بن الحارث { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يهانون فيه . قوله تعالى : { مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } يعني : أمامهم جهنم . ويقال : من بعدهم في الآخرة جهنم { وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } يعني : لا ينفعهم ما جمعوا من المال . { وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } يعني : لا ينفعهم ما عبدوا دونه من الأصنام { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } في الآخرة .
قوله تعالى : { هذا هُدًى } يعني : هذا القرآن بيان من الضلالة . ويقال : هذا العذاب الذي حق { والذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا { بآيات رَبّهِمْ } يعني : بالقرآن { لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } يعني : وجيع في الآخرة . قرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص { أَلِيمٌ } ، بضم الميم ، والباقون بكسر الميم ، كما ذكرنا في سورة سبأ ، ثم ذكرهم النعم ليعتبروا .
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
فقال تعالى { الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقد ذكرناه . ثم قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض } يعني : ذلل لكم ما في السموات وما في الأرض ، لصلاحكم . ثم قال تعالى : { جَمِيعاً مّنْهُ } يعني : جميع ما سخر الله تعالى ، هو من قدرته ورحمته . ويقال : { جَمِيعاً مّنْهُ } يعني : مِنَّةً منه . قال مقاتل : يعني : جميعاً من أمره . وروى عكرمة ، عن ابن عباس قال : جميعاً منه ، منه النور ، ومنه الشمس ومنه القمر .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : فيما ذكر { لاَيَاتٍ } يعني : دلالات وعبرات { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعتبرون في صنعه وتوحيده . وروى الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، « أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ فِي الخَالِق ، فَقَالَ : تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ » . وروى وكيع ، عن هشام ، عن عروة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أحَدَكُم ، فَيَقُول : مَنْ خَلَقَ السماء؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الأرض؟ فيقول : الله . فيقول : من خلق الله تعالى؟ فإذا افْتُتِنَ أَحَدُكُمُ بِذَلِكَ ، فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِالله وَرَسُولِهِ » . قال الله تعالى : { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } قال مقاتل والكلبي : وذلك ، أن رجلاً من الكفار من قريش ، شتم عمر رضي الله عنه بمكة ، فهم عمر بأن يبطش به ، فأمره الله بأن يتجاوز عنه . فقال : { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، يعني : عمر { يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ } يعني : يتجاوزوا ، ولا يعاقبوا الذين { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } يعني : لا يخافون عقوبته التي أهلك بها عاداً وثموداً ، والقرون التي أهلكت قبلهم . يعني : لا يخشون مثل أيام الأمم الخالية . قال قتادة : ثم نسختها آية القتال { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 36 ] ثم قال : { لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : يجزيهم بأعمالهم في الآخرة . قال مجاهد : { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } ، يعني : لا ينالون نعم الله . قرأ حمزة والكسائي ، وابن عامر لِنَجْزِيَ بالنون على الإضافة إلى نفسه . والباقون لِنَجْزِيَ بالياء ، أي : ليجزي الله .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
قوله عز وجل { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ } يعني : ثوابه لنفسه { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } يعني : عقوبته عليها { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل } يعني : أولاد يعقوب { الكتاب } أي : التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، لأن موسى وداود وعيسى كانوا في بني إسرائيل { والحكم } يعني : الفهم والعلم { والنبوة } يعني : جعلنا فيهم النبوة ، فكان فيهم ألف نبي .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } يعني : الحلال من الرزق ، وهو المن والسلوى . ويقال : { رزقناهم مّنَ الطيبات } يعني : أورثناهم أموال فرعون { وفضلناهم عَلَى العالمين } يعني : فضلناهم بالإسلام على عالمي زمانهم . { وءاتيناهم بينات مّنَ الامر } يعني : الحلال والحرام ، وبيان ما كان قبلهم ، ثم اختلفوا بعده قوله تعالى : { فَمَا اختلفوا } يعني : في الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أي : صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم { بَغْياً بَيْنَهُمْ } يعني : حسداً منهم ، وطلباً للعز والملك . ويقال : اختلفوا في الدين ، فصاروا أحزاباً فيما بينهم ، يلعن بعضهم بعضاً ، ويتبرأ بعضهم من دين بعض .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } يعني : يحكم بينهم { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } في الكتاب والدين . قوله عز وجل : { ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الامر } يعني : أمرناك وألزمناك وأثبتناك على شريعة . ويقال : على سنة من الأمر وذلك حين دعوه إلى ملتهم . ويقال : على شريعة . يعني : على ملة ومذهب . وقال قتادة : الشريعة الفرائض والحدود والأحكام . { فاتبعها } يعني : اثبت عليها .
{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يصدقون بالتوحيد { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً } يعني : إن تركت الإسلام ، إنهم لا يمنعوك من عذاب الله شيئاً { وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } يعني : بعضهم على دين بعض { والله وَلِىُّ المتقين } أي : ناصر الموحدين المخلصين { هذا بصائر لِلنَّاسِ } يعني : يبصرهم ما لهم وما عليهم ، والواحدة بصيرة يعني : يبين لهم الحلال والحرام . ويقال : هذا القرآن دلائل للناس . ويقال : دعوة وكرامة .
ثم قال : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يعني : يصدقون بالرسل والكتاب ، ويوقنون أن الله أنزله نعمة وفضلاً .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } يعني : اكتسبوا السيئات ، وذلك أنهم كانوا يقولون : إنا نعطى في الآخرة من الخير ، ما لم تعطوا . قال الله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } يعني : أيظن الذين عملوا الشرك ، وهو عتبة وشيبة ، والوليد وغيرهم { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن } يعني : علياً وحمزة وعيينة بن الحارث رضي الله عنهم { سَوَاء محياهم ومماتهم } يعني : يكونون سواء في نعم الآخرة ، قرأ حمزة والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، سَوَاءً بالنصب والباقون بالضم ، فمن قرأ بالنصب فمعناه : أحسبوا أن نجعلهم سواء ، أي : مستوياً فيجعل أَن نَّجْعَلَهُمْ متعدياً إلى مفعولين . ومن قرأ بالضم ، جعل تمام الكلام عند قوله : { وَعَمِلُواْ الصالحات } ثم ابتدأ فقال : { سَوَاء محياهم ومماتهم } خبر الابتداء وقال مجاهد : { سَوَاء محياهم ومماتهم } قال : المؤمنون في الدنيا والآخرة ، مؤمن يكون على إيمانه ، يموت على إيمانه ، ويبعث على إيمانه والكافر في الدنيا والآخرة ، كافر يموت على الكفر ، ويبعث على الكفر .
وروى أبو الزبير عن جابر قال : « يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ المُؤمِنُ عَلَى إيمانِه ، والمُنَافِقُ عَلَى نِفَاقِه » ثم قال : { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئس ما يقضون الخير لأنفسهم ، حين يرون أن لهم ما في الآخرة ، ما للمؤمنين . قوله عز وجل : { وَخَلَقَ الله السموات والارض بالحق } وقد ذكرناه { ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يعني : ما عملت { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني : لا ينقصون من ثواب أعمالهم ، ولا يُزادون على سيئاتهم .
قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } قال : يعمل بهواه ، ولا يهوى شيئاً إلا ركبه ، ولا يخاف الله { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } يعني : علم منه ، أنه ليس من أهل الهدى { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } يعني : خذله الله ، فلم يسمع الهدى ، وقلبه يعني : ختم على قلبه ، فلا يرغب في الحق { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } يعني : غطاء . كي لا يعتبر في دلائل الله تعالى . قرأ حمزة والكسائي غشاوة بنصب الغين بغير ألف ، والباقون غِشَاوَةً . كما اختلفوا في سورة البقرة ، ومعناهما واحد { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } يعني : من بعد ما أضله الله { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أن من لا يقبل إلى دين الله ، ولا يرغب في طاعته ، لا يكرمه بالهدى والتوحيد .
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } يعني : آجالنا تنقضي ، نموت ويحيي آخرون . يعني : نموت نحن ويحيا أولادنا ويقال يموت قوم ويحيا آخرون ووجه آخر { نَمُوتُ وَنَحْيَا } يعني : نحيا ونموت ، لأن الواو للجمع لا للتأخير ، ووجه آخر نموت ونحيا ، أي : كنا أمواتاً في أصل الخلقة ، ثم نحيا ، ثم يهلكنا الدهر فذلك قوله : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر } يعني : لا يميتنا إلا مضي الأيام ، وطول العمر .
قال الله تعالى : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } يعني : يقولون قولاً بغير حجة ، ويتكلمون بالجهل { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } يعني : ما هم إلا جاهلون . قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } يعني : تعرض عليهم آيات القرآن واضحات ، بين فيه الحلال والحرام { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } أي : لم تكن حجتهم وجوابهم { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات } يعني : أحيوا لنا آباءنا { إِن كُنتُمْ صادقين } بأنا نبعث { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ } يخلقكم من النطفة { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم .
{ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } يعني : يوم القيامة يجمع أولكم وآخركم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه عند المؤمنين . ويقال : لا ينبغي أن يشك فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : البعث بعد الموت . قوله عز وجل : { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض . ويقال . له : نفاذ الأمر في السموات والأرض { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون } يعني : يخسر المكذبون بالبعث ، وهم أهل الباطل والكذب . ثم قال : { يَسْألُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السماوات والارض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 187 ] .
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
{ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } يعني : مجتمعة للحساب على الركب { كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها } يعني : إلى ما في كتابها من خير أو شر ، وهذا كقوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] يعني : بكتابهم { اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : يقال لهم : اليوم تثابون بما كنتم تعملون في الدنيا ، من خير أو شر . قوله تعالى : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم } يعني : هذا الذي كتب عليكم الحفظة { يَنطِقُ عَلَيْكُم } { بالحق } يعني : يشهد عليكم بالحق { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : نستنسخ عملكم من اللوح المحفوظ ، نسخة أعمالكم ، { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الحسنات والسيئات .
قال أبو الليث رحمه الله : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا الماسرجسي قال : حدّثنا إسحاق قال : حدّثنا بقية بن الوليد قال : حدّثنا أرطأة بن المنذر . قال : عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ ، فَكَتَبَ مَا يَكُون فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ ، براً وفاجَراً وَأحْصَاهُ فِي الذّكْرِ فَاقْرَؤُوا إِن شِئْتُمْ { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهَلَ يَكُونُ النّسْخُ إِلاّ مِنْ شَيءٍ قَدْ فُرِغٍ مِنْهُ » . وروى الضحاك ، عن ابن عباس ، أن الله تعالى وكل ملائكته ، يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده ، كل عام في شهر رمضان ، ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة ، فيعارضون به ، حفظه الله تعالى على عبادة كل عشية خميس ، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ، لا زيادة فيه ولا نقصان .
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ألستم قوماً عرباً ، هل يكُون النَّسخ إِلاَّ من أَصْل كَان قَبْل ذَلِكَ؟ وقال القتبي : إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ . قال إن الحفظة يكبتون جميع ما يكون من العبد ، ثم يقابلونه بما في أم الكتاب ، فما فيه من ثواب أو عقاب أثبت ، وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي فذلك قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] الآية . وقال الكلبي : يرفعان ما كتبا ، فينسخان ما فيها من خير أو شر . ويطرح ما سوى ذلك .
قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين } وقد ذكرناه . قوله عز وجل : { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا بالكتاب والرسل والتوحيد . يقال لهم : { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ } يعني : تقرأ عليكم في الدنيا { فاستكبرتم } يعني : تكبرتم عن الإيمان والقرآن { وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } يعني : مشركين ، كافرين بالرسل والكتب .
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ } يعني : إذا قال لكم الرسل في الدنيا ، إن البعث بعد الموت حق { والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي : لا شك فيها . قرأ حمزة { والساعة } بالنصب ، عطف على قوله : { أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة } قرأ الباقون بالضم ، ومعناه : وَإِذَا قِيلَ : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَقِيلَ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } ، أي : لا شك فيها { قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة } يعني : ما القيامة ، وما البعث { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } يعني : قلتم ما نظن إلا ظناً غير اليقين { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أنها كائنة .
قوله عز وجل : { وَبَدَا لَهُمْ } أي : ظهر لهم { سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } يعني : عقوبات ما عملوا في الدنيا . ويقال : تشهد عليهم جوارحهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يعني : نزل بهم العذاب ، ووجب عليهم العذاب ، باستهزائهم أنه غير نازل بهم { وَقِيلَ } يعني : قالت لهم الخزنة { اليوم نَنسَاكُمْ } يعني : نترككم في النار . { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } يعني : كما تركتم الإيمان والعمل ، لحضور يومكم هذا .
{ وَمَأْوَاكُمُ النار } يعني : مثواكم ومستقركم النار { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } يعني : ليس لكم مانع يمنعكم ، مما نزل بكم من العذاب { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً } يعني : هذا العذاب ، بأنكم لم تؤمنوا { وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا } يعني : ما في الدنيا من زينتها وزهرتها { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } قرأ حمزة والكسائي بنصب الياء ، فيجعلان الفعل لهم . والباقون بالضم على فعل ، ما لم يسم فاعله . { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يعني : لا يرجعون إلى الدنيا . وقال الكلبي : لا يعاتبون بعد هذا القول ، ويتركون في النار . ويقال : لا يراجعون الكلام بعد دخولهم النار { فَلِلَّهِ الحمد } يعني : عند ذلك ، يحمد المؤمنون الله في الجنة . كقوله : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } [ الزمر : 74 ] ويقال : { فَلِلَّهِ الحمد } يعني : له آثار الحمد ، فعلى جميع الخلق أن يحمدوه . ويقال : { فَلِلَّهِ الحمد } يعني : الألوهية والربوبية { رَبّ السموات وَرَبّ الارض } يعني : الحمد لرب الأرض { رَبّ العالمين } يعني : لرب جميع الخلق الحمد والثناء { وَلَهُ الكبرياء } يعني : العظمة ، والقدرة ، والسلطان ، والعزة { فِي السموات والارض وَهُوَ العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره وقضائه ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
قوله تبارك وتعالى : { حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم } وقد ذكرناه { مَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والرياح ، والخلق { إِلاَّ بالحق } يعني : إلا ببيان الحق ، لأمر عظيم هو كائن ، ولم يخلقهن عبثاً { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يعني : خلقهن لأجل أمر عظيم ، ينتهي إليه وهو يوم القيامة ، وهو الأجل المعلوم { والذين كَفَرُواْ } يعني : مشركي مكة { عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } يعني : عما خوفوا به تاركون ، فلا يؤمنون به ، ولا يتفكرون فيه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } يعني : ما تعبدون من الأصنام . قال القتبي : ما هاهنا في موضع الجمع ، يعني : الذين يدعون من الآلهة { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض } يعني : أخبروني ما الذي خلقوا من الأرض ، كالذي خلق الله تعالى ، إن كانوا آلهة { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات } يعني : أم لهم نصيب ودعوة في السموات . يعني : في خلق السموات .
ثم قال { ائتونى بكتاب مّن قَبْلِ هذا } أي : بحجة لعبادتكم الأصنام في كتاب الله . ويقال ائتوني بحجة من الله ومن الأنبياء من قبل هذا يعني : من قبل هذا القرآن ، الذي أتيتكم به ، فيه بيان ما تقولون { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } يعني : رواية تروونها من الأنبياء ، والعلماء { إِن كُنتُمْ صادقين } أن الله تعالى ، أمَركم بعبادة الأوثان . قرأ الحسن ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ . قال القتبي : هو اسم مبني على فعلة من ذلك ، والأول فعالة ، والأثرة التذكرة ، ومنه يقال : فلان يأثر الحديث أي : يرويه . وقال قتادة : أَوْ أَثَارَةٍ ، يعني : خاصة من علم ، ويقال : أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ يؤثر عن الأنبياء والعلماء . فلما قال لهم ذلك سكتوا .
قوله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله } يعني : من أشد كفراً ممن يعبد من دون الله آلهة { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة } يعني لا يجيبه وإن دعاه إلى يوم القيامة { وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون } يعني : عن عبادتهم . ثم بين إجابتهم وحالهم يوم القيامة ، فقال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس } يعني : إلى البعث { كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء } يعني : صارت الآلهة أعداء لمن عبدهم { وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين } يعني : جاحدين ، ويتبرؤون منهم { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } يعني : تقرأ عليهم آياتنا واضحات ، فيها الحلال والحرام . ويقال : بينات فيها دلائل واضحات { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ } يعني : للقرآن { لَمَّا جَاءهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : حين جاءهم هذا سحر بين .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله عز وجل : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } يعني : اختلقه من ذات نفسه { قُلْ إِنِ افتريته } يعني : اختلقته من تلقاء نفسي ، يعذبني الله تعالى عليه . { فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً } يعني : لا تقدرون أن تمنعوا عذاب الله عني { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } يعني : تخوضون فيه من الكذب في القرآن { كفى بِهِ شَهِيداً } يعني : كفى بالله عالماً { بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } ويقال تفيضون أي تقولون ثم قال { وَهُوَ الغفور الرحيم } يعني : الغفور لمن تاب ، الرحيم بهم .
قوله تعالى { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } يعني : ما أنا أول رسول بعث { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } يعني : يرحمني وإياكم ، أو يعذبني وإياكم . وقال الحسن في قوله : وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ، يعني : في الدنيا . وقال الكلبي : وذلك أنه رأى في المنام ، أنه أخرج إلى أرض ، ذات نخل وشجر ، فأخبر أصحابه ، فظنوا أنه وحي أوحي إليه ، فاستبشروا ، فمكثوا بذلك ما شاء ، فلم يروا شيئاً مما قال لهم ، فقالوا يا رسول الله ، ما رأينا الذي قلت لنا . فقال : « إنَّمَا كَانَ رُؤْيَا رَأَيْتُها ، وَلَمْ يَأْتِ وَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ ، وَمَا أَدْرِي أَيَكُونُ ذلك أَوْ لا يَكُونُ » . فنزل قوله { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } يعني : ما كنت أولهم ، وقد بعث قبلي رسل كثير ، { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } ويقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، يرحمني وإياكم ، أو يعذبني وإياكم . فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إذاً لا فرق بيننا وبينك ، كما نحن لا ندري ما يفعل بنا ، ولا تدري ما يفعل بك . وقد عير المشركون المسلمين فقالوا : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } [ الإسراء : 47 ] لا يدري ما يفعل به ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { تَبَارَكَ الذى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } [ الفرقان : 10 ] فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، نزل عليه { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 20 ] وقد نسخت هذه الآية { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } [ الأسراء : 47 ] .
ثم قال تعالى : { وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : مخوف ، مفقه لكم بلغة تعرفونها . قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } يعني : إن كان القرآن من عند الله تعالى { وَكَفَرْتُمْ بِهِ } يعني : جحدتم بالقرآن { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة هو عبد الله بن سلام .
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يُشْهَدُ لأحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ إلاّ لِعَبْدِ الله بْنِ سَلامٍ » وفيه نزلت { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } { على مِثْلِهِ } أي : على مثل شهادة عبد الله بن سلام . يعني : بنيامين على مثله . يعني : على مثل شهادة عبد الله بن سلام ، وكان ابن أخ عبد الله بن سلام ، شهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى وكيع ، عن ابن عون قال : ذكر عند الشعبي { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } أنه عبد الله بن سلام . فقال الشعبي : وكيف يكون عبد الله بن سلام هو الشاهد ، وهذه السورة مكية ، وكان ابن سلام بالمدينة . قال ابن عون : صدق الشعبي إن تلك السورة نزلت بمكة ، ولكن هذه الآية نزلت بالمدينة ، فوضعت في هذه السورة . وروى داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : والله ما هو عبد الله بن سلام ، ولقد أنزلت بمكة ، فخاصم به النبي صلى الله عليه وسلم الذين كفرُوا من أهل مكة ، أن التوراة مثل القرآن ، ومُوسَى مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، وكُل مؤمن بالتوراة فهو شاهد من بني إسرائيل . ثم قال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ } يعني : تكبرتم وتعاظمتم عن الإيمان { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : الكافرين .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني : قال رؤساء المشركين لضعفاء المسلمين { لَوْ كَانَ خَيْراً } يعني : لو كان هذا الدين حقاً { مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وقال قتادة : قال أناس من المشركين : نحن أعز ، ونحن أغنى ، ونحن أكرم ، فلو كان خيراً ، ما سبقنا إليه فلان وفلان . قال الله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } [ البقرة : 105 ] و { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } [ آل عمران : 74 ] يعني : يختار لدينه ، من كان أهلاً لذلك { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } يعني : لم يؤمنوا بهذا . أي : القرآن كما اهتدى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } يعني : القرآن كذب قديم ، أي : تقادم من محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } يعني : قد أنزل قبل هذا القرآن ، الكتاب على موسى ، يعني : التوراة { إِمَاماً } يقتدى به { وَرَحْمَةً } من العذاب ، لمن آمن به { وهذا كتاب مُّصَدّقٌ } يعني : وأنزل إليك هذا الكتاب ، مصدق للكتب التي قبله { لّسَاناً عَرَبِيّاً } بلغتكم ، لتفهموا ما فيه { لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ } يعني : مشركي مكة . قرأ نافع ، وابن عامر لِتُنْذِرَ ، بالتاء على معنى المخاطبة يعني : لتنذر أنت يا محمد . والباقون بالياء ، على معنى الخبر عنه ، يعني : ليخوف محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن { وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } يعني : بشارة بالجنة للموحدين { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة خالدين فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد ذكرناه .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
ثم قال الله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا } يعني : أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه . قال مقاتل والكلبي : نزلت الآية ، في شأن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، ويقال : هذا أمر عام لجميع الناس . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم إحْسَاناً بالألف ، ومعناه : أمرناه بأن يحسن إليهما إحساناً . والباقون حُسْناً بغير ألف ، فجعلوه اسماً ، وأقاموه مقام الإحسان .
ثم ذكر حق الوالدين ، فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } يعني : في مشقة { وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } يعني : في مشقة { وَحَمْلُهُ وفصاله } يعني : حمله في بظن أمه ، وفصاله ورضاعه { ثَلاَثُونَ شَهْراً } وروى وكيع بإسناده ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه قال : إن رجلاً قال له : إني تزوجت جارية سليمة بكراً ، لم أر منها ريبة ، وإنها ولدت لستة أشهر . فقرأ علي { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أولادكم فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 233 ] وقرأ { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } فالحمل ستة أشهر ، والرضاع سنتين ، والولد ولدك . وقال وكيع : هذا أصل ، إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ، لم يلزمه فيفرق بينهما .
ثم قال { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } يعني : بلغ ثلاثاً وثلاثين { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : أبا بكر { قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ } يعني : ألهمني ما أؤدي به شكر نعمتك ، وما أوزعت به نفسي ، أن أكفها عن كفران نعمتك ، وأصله من وزعته . أي : دفعته قال : رب أوزعني أن أشكر . يعني : أن أؤدي شكر نعمتك { التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } بالإسلام { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } يعني : تقبله { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } يعني : أكرمهم بالتوحيد . ويقال : اجعلهم أولاداً صالحين مسلمين ، فأسلموا كلهم { إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ } يعني : أقبلت إليك بالتوبة { وَإِنّى مِنَ المسلمين } يعني : المخلصين ، الموحدين على دينهم .
قوله تعالى { أولئك } يعني : أهل هذه الصفة . يعني : أبا بكر ووالديه ، وذريته ، ومن كان في مثل حالهم { الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يعني : ستجزيهم بإحسانهم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، نَتَقَبَّل بالنون { وَنَتَجَاوَزُ } بالنون . وقرأ الباقون بالياء والضم . فمن قرأ بالنون ، فهو على معنى الإضافة إلى نفسه ، يعني : نتقبل نحن ، ونصب أحسن لوقوع الفعل عليه ، ومن قرأ بالياء والضم ، فهو على معنى فعل ، ما لم يسم فاعله . ولهذا رفع قوله : «أَحْسَنُ» لأنه مفعول ما لم يسم فاعله .
ثم قال { وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم } يعني : ما فعلوا قبل التوبة ، فلا يعاقبون عليها { فِى أصحاب الجنة } يعني : هم مع أصحاب الجنة . وروى أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، إنما ذلك لمن أراد الله هوانه ، وأما من أراد الله كرامته ، فإنه يتجاوز عن سيئاته فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ . ثم قال : { وَعْدَ الصدق } يعني : وعد الصدق في الجنة . قوله تعالى { الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } .
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{ والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } يعني : عبد الرحمن بن أبي بكر قال لوالديه : أف لكما يعني : قدراً لكما ، وهو الرديء من الكلام ، وقد ذكرنا الاختلاف في موضع آخر ، وقد قرىء على سبع قراءات : بالنصب والضم والكسر ، وكل قراءة تكون بالتنوين وبغير تنوين ، فتلك ست قراءات ، والسابع أفْ بالسكون { أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ } يعني : أن أبعث بعد الموت ، وذلك قبل أن يسلم { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } أي : مضت الأمم ، ولم يبعث أحدهم { وَمِمَّا يَسْتَغِيثَانِ الله } يعني : أبويه يدعوان الله تعالى له بالهدى . اللهم اهده ، وارزقه الإيمان ويقولان له : { وَيْلَكَ ءامِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : ويحك أسلم وصدق بالبعث ، فإن البعث كائن { فَيَقُولُ } لهما { مَا هذا إِلاَّ أساطير الاولين } يعني : كذبهم فقال عبدالرحمن : إن كنتما صادقين ، فأخرجا فلاناً وفلاناً من قبورهما فنزل { أولئك } يعني : القرون التي ذكر { الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي : وجب عليهم العذاب .
{ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ } يعني : في أمم قد مضت من قبلهم ، من كفار { مّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } في الآخرة بالعقوبة ، فأسلم عبد الرحمن وحسن إسلامه ، وذكر في الخبر ، أن مروان بن الحكم قال : نزلت هذه الآية في شأن عبد الرحمن ، أخ عائشة ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : بل نزلت في أبيك وأخيك . قوله عز وجل { وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ } يعني : فضائل في الثواب مما عملوا { وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم } أي أجورهم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني : لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً ، ولا يزادون على سيئات أعمالهم .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } يعني : يكشف الغطاء عنها ، فينظرون إليها ، فيقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم } يعني : أكلتم حسناتكم { فِى حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا } يعني : انتفعتم بها في الدنيا . وقرأ ابن عامر أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين ، وقرأ ابن كثير آذْهَبْتُمْ بالمد ، ومعناهما واحد ، ويكون استفهاماً على وجه التوبيخ . والباقون أَذْهَبْتُمْ بهمزة واحدة ، بغير مد ، على معنى الخبر . وروي عن عمر : أنه اشتهى شراباً ، فأتي بقدح فيه عسل ، فأدار القدح في يده قال : أشربها فتذهب حلاوتها ، أو تبقى نقمتها . ثم ناول القدح رجلاً ، فسئل عن ذلك فقال : خشيت أن أكون من أهل هذه الآية { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا } .
وروي عن عمر ، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير ، وقد أثر بجنبه الشريط ، فبكى عمر فقال : ما يبكيك يا عمر؟ فقال : ذكرت كسرى وقيصر ، وما كانا فيه من الدنيا ، وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبك الشريط . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أُوْلَئِكَ قَوْمٌ ، عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِم الدُّنْيا ، وَنَحْنُ قَوْمٌ ، أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي الآخِرَةِ » . قوله : { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } يعني : العذاب الشديد { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق } يعني : تستكبرون عن الإيمان { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } يعني : تعصون الله تعالى .
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قوله تعالى : { واذكر أَخَا عَادٍ } يعني : واذكر لأهل مكة . ويقال : معناه واصبر على ما يقولون ، واذكر هود { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالاحقاف } يعني : خوف قومه بموضع . يقال له : الأحقاف . روى منصور ، عن مجاهد قال : الأحقاف الأرض . ويقال : جبل بالشام ، ويسمى الأحقاف . وقال القتبي : الأحقاف جمع حقف ، وهو من الرمل ما أشرف من كثبانه ، واستطال وانحنى { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } يعني : مضت من قبل هود { وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني : ومن بعده .
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } يعني : خوفهم ألا تعبدوا إلا الله ، ووحدوه { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : أعلم أنكم ، إن لم تؤمنوا ، يصبكم عذاب يوم كبير { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءالِهَتِنَا } يعني : لتصرفنا عن عبادة آلهتنا { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أن العذاب نازل بنا { قَالَ } هود { إِنَّمَا العلم عِندَ الله } يعني : علم العذاب عند الله ، يجيء بأمر الله ، وإنَّما عليَّ تبليغ الرسالة ، وليس بيدي إتيان العذاب . فذلك قوله : { وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } يعني : ما يوحي الله إليَّ لأدعوكم إلى التوحيد { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } لما قيل لكم ، ولما يراد بكم من العذاب .
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } يعني : لما رأوا العذاب مقبلاً ، وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي ، أمطروا . وقال القتبي : العارض : السحاب { قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } يعني : هذه سحابة ، وغيم ممطرنا . أي : تمطر به حروثنا ، لأن المطر كان حبس عنهم . فقال هود : ليس هذا عارض { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } يعني : الريح والعذاب { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : متلف . وروى عطاء ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا رأى رياحاً مختلفة تلون وجهه ، وتغير وخرج ، ودخل وأقبل ، وأدبر فذكرت ذلك له فقال : وما يدريك لعله كما قال الله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإذا أمطرت سري عنه ويقول { وَهُوَ الذى يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سقناه لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 57 ] .
ثم قال تعالى : { تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا } يعني : تهلك الريح كل شيء بأمر ربها ، أي : بإذنه تعالى { فَأَصْبَحُواْ } أي : فصاروا من العذاب بحال { لاَ يرى * مساكنهم } وقد ذكرناه في سورة الأعراف . قرأ حمزة ، وعاصم لا يُرَى بضم الياء ، مَسَاكِنُهُمْ بضم النون على معنى فعل ، ما لم يسم فاعله ، يعني : لا يرى شيء ، وقد هلكوا كلهم .
وقرأ الباقون { لاَّ ترى } بالتاء على معنى المخاطبة . ومعناه لا ترى شيئاً أيها المخاطب ، لو كنت حاضراً ، ما رأيت إلا مساكنهم .
ثم قال { كذلك نَجْزِي القوم المجرمين } يعني : هكذا نعاقب القوم المشركين عند التكذيب { وَلَقَدْ مكناهم } يعني : أعطيناهم الملك والتمكين { فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } يعني : ما لم نمكن لكم ، ولم نعطكم يا أهل مكة . وقال القتبي : إن الخفيفة قد تزاد في الكلام ، كقول الشاعر : ما إن رأيت ولا سمعت به ، يعني : ما رأيت ولا سمعت به ، يعني : ما لم نمكن لكم ومعنى الآية { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } وقال الزجاج : إنْ هاهنا مكان ما ، يعني : فيما مكناكم فيه . ويقال معناه : ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه .
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً } يعني : جعلنا لهم سمعاً ليسمعوا المواعظ ، وأبصاراً لينظروا في الدلائل ، وأفئدة ليتفكروا في خلق الله تعالى . { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } يعني : لم ينفعهم من العذاب { سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء } إذ لم يسمعوا الهدى ، ولم ينظروا في الدلائل ، ولم يتفكروا في خلقه { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم } يعني : بدلائله { وَحَاقَ بِهِم } يعني : نزل بهم من العذاب { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يعني : العذاب الذي كانوا يجحدون به ، ويستهزئون .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ القرى } يعني : أهلكنا قبلكم يا أهل مكة بالعذاب ، ما حولكم من القرى { وَصَرَّفْنَا الايات } أي : بينا لهم الدلائل ، والحجج ، والعلامات { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : يرجعون عن كفرهم ، قبل أن يهلكوا . قوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ } يعني : فهلا نصرهم . يعني : كيف لم يمنعهم من العذاب { الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً } يعني : عبدوا من دون الله ، ما يتقربون بها إلى الله { ءالِهَةً } يعني : أصناماً ، كما قال في آية أخرى { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 ] { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } يعني : الآلهة لم تنفعهم شيئاً . ويقال : اشتغلوا بأنفسهم . ويقال : بطلت عنهم .
{ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } يعني : كذبهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : يختلفون . وذكر أبو عبيدة بإسناده ، عن عبد الله بن عباس ، أنه قرأ أَفَكَهُمْ بنصب الألف والفاء والكاف . يعني : ذلك الفعل أضلهم ، وأهلكهم وصرفهم عن الحق ، وقراءة العامة بضده . وَذَلِكَ إفْكهم يعني : ذلك الفعل ، وهو عبادتهم . وقولهم : وكذبهم ويقال : وَذَلِكَ إفْكُهُمْ اليوم ، كما كان إفك من كان قبلهم .
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن } وذلك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث ، خرت الأصنام على وجوهها في تلك الليلة . فصاح إبليس صيحة ، فاجتمع إليه جنوده ، فقال لهم : قد عرض أمر عظيم ، امضوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها . يعني : امشوا وانظروا ماذا حدث من الأمر . وروى ابن عباس : أنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حيل بين الشياطين وبين السماء ، وأرسل عليهم الشهب ، فجاؤوا إلى إبليس ، فأخبروه بذلك ، قال : هذا الأمر حادث ، اضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فجاء نفر منهم ، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت نخلة في سوق عكاظ ، ومعه ابن مسعود وأصحابه ، وكان يقرأ سورة طه في الصلاة .
وروى وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن رجل ، عن زر بن حبيش ، في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن } قال : كانوا تسعة أحدهم : زوبعة أتوه ببطن نخلة { يَسْتَمِعُونَ القرءان فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ } وروى عكرمة ، عن الزبير قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الأخيرة ، فلما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم ، لبعض أنصتوا للقرآن واستمعوا { فَلَمَّا قُضِىَ } يعني : فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة والصلاة { وَلَّوْاْ } يعني : رجعوا { إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } قال مقاتل : يعني : المؤمنين . وقال الكلبي : يعني : مخوفين . وقال مجاهد : ليس في الجن رسل ، وإنما الرسل في الإنس ، والنذارة في الجن . ثم قرأ { فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } يعني : أنذروا قومهم من الجن { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا سَمِعْنَا } من محمد صلى الله عليه وسلم { كتابا } يعني : قراءة القرآن { أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } يعني أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني موافقاً لما قبله من الكتب { يَهْدِى إِلَى الحق } يعني : يدعو إلى توحيد الله تعالى من الشرك ، كما هو في سائر الكتب { وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } لا عوج فيه ، يعني : دين الله تعالى ، وهو الإسلام { مُّسْتَقِيمٍ ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم { ياقومنا أَجِيبُواْ } يعني : صدقوا به وبكتابه { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } وَمِنْ صلة في الكلام . يعني : يغفر لكم ذنوبكم إن صدقتم . وآمنتم { وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني : يؤمنكم من عذاب النار { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله } يعني : من لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما يدعو إليه من الإيمان { فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض } يعني : لا يستطيع أن يهرب في الأرض ، من عذاب الله تعالى . ويقال : معناه فلن يجد الله عاجزاً عن طلبه { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني : ليس له أنصار يمنعونه ، مما نزل به من العذاب { أُوْلَئِكَ فِى ضلال } يعني : في خطأ { مُّبِينٌ } وذكر في الخبر ، أنهم لما أنذرهم وخوفهم ، جاء جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فلقيهم بالبطحاء فقرأ عليهم القرآن ، فأمرهم ونهاهم ، وكان معه عبد الله بن مسعود ، وَخَطَّ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً ، وقال له :
« لاَ تَخْرُجْ مِنْ هَذَا الخَطِّ ، فَإِنَّكَ إنْ خَرَجْتَ لَنْ تَرَانِي إلَى يَوْمِ القِيَامَة ، فلما رجع إليه قال : يا نبي الله سمعت هَدَّتين أي : صوتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أمَّا إِحْدَاهُمَا : فَإنِّي سَلَّمْتُ عَليْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيَّ السَّلاَم ، وأمّا الثَّانِيَة : فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا الرِّزْقَ فَأَعْطَيْتُهُمْ عَظْماً رِزْقاً لهم ، وَأَعْطَيْتَهُم رَوْثاً رِزْقاً لِدَوَابِّهِمْ » . ثم قال تعالى { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } يعني : أو لم يعتبروا ويتفكروا . ويقال : أو لم يخبروا { أَنَّ الله الذى خَلَق السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } يعني : لم يعجز عن خلق السموات والأرض ، فكيف يعجز عن بعث الموتى . ويقال : { وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ } يعني : لم يعيه خلقهن ، ولم يعي بخلقهن بقادر { على أَن يُحْىِ الموتى بلى } لأنهم كانوا مقرين بأن الله ، هو الذي خلق السموات والأرض ، وكانوا منكرين للبعث بعد مماتهم ، فأخبرهم الله تعالى ، بأن الذي كان قادراً على خلق السموات والأرض ، يكون قادراً على إحيائهم بعد الموت . ثم قال { بلى } يعني : هو قادر على البعث { إِنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } من الإحياء والبعث .
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } يعني : يكشف الغطاء عنها . ويقال : يساق الذين كفروا إلى النار . ويقال لهم : { أَلَيْسَ هذا بالحق } يعني : أليس هذا العذاب الذي ترون حقاً ، وكنتم تكذبون به { قَالُواْ بلى وَرَبّنَا } إنه الحق ، وَرَبّنَا هو الله . ويقال : والله إنه لحق ، فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم . قال : فيقال لهم : { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : تجحدون { فاصبر } يا محمد ، يعني : اصبر على أذى أهل مكة ، وتكذيبهم .
{ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } يعني : أولو الحزم ، وهو أن يصبر في الأمور ، ويثبت عليها ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد أن يدعو عليهم ، فأمره الله تعالى بالصبر ، كما صبر نوح ، وكما صبر إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين . وقال السدي : أولو العزم ، الذين أمروا بالقتال من الرسل . وقال أبو العالية : أولو العزم من الرسل ، كانوا ثلاثة والنبي صلى الله عليه وسلم رابعهم ، إبراهيم وهود ونوح ، فأمره الله تعالى أن يصبر كما صبروا . وقال مقاتل : أولو العزم من الرسل اثني عشر نبياً في بيت المقدس ، فأوحى الله إليهم ثلاث مرات ، أن اخرجوا من بين أقوامكم ، فلم يخرجوا .
فقال الله تعالى : يمضي العذاب عليكم مع قومكم فتشاوروا فاختاروا هلاك أنفسهم بينهم { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } يعني : لا تستعجل لهم بالعذاب { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } يعني : العذاب قد أتاهم من قريب في الآخرة ، فلقربه كأنهم يرونه في الحال . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة في الدنيا يعني : إذا أتاهم ذلك اليوم ، يرون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا القليل .
فذلك قوله : { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } يعني : من نهار الدنيا . ويقال : يعني : في القبور . وقال أبو العالية : معناه كأنهم يرون ، حين يظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . ثم قال { بَلاَغٌ } يعني : ذلك بلاغ وبلغه وأجل ، فإذا بلغوا أجلهم ذلك { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } يعني : هل يهلك في العذاب ، إذا جاء العذاب إلا القوم العاصون . ويقال : معناه لا يهلك مع رحمة الله وفضله ، إلا القوم الفاسقون . ويقال : بلاغ يعني : هذا الذي ذكر بلاغ . أي : تمام العظة . ويقال : هو من الإبلاغ ، أي : هذا إرسال وبيان لهم كقوله { هذا بلاغ لّلنَّاسِ } والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قوله تبارك وتعالى : { الذين كَفَرُواْ } أي : جحدوا بتوحيد الله تعالى ، وبالقرآن { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : صرفوا الناس عن طاعة الله ، وهو الجهاد { أَضَلَّ أعمالهم } يعني : أبْطَلَ الله حسناتهم التي عملوا في الدنيا ، لأنهم عملوا بغير إيمان ، وكل عمل يكون بغير إيمان ، فهو باطل كما قال { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] الآية . قال الكلبي : نزلت في مطعمي بدر ، وهم رؤساء مكة ، الذين كانوا يطعمون الناس في حال خروجهم إلى بدر ، منهم أبو جهل والحارث ابنا هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبي وأمية ابنا خلف ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وغيرهم . ويقال : هذا في عامة الكفار .
وهذا كقوله : { والذين كفروا أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] الآية . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : { الذين كَفَرُواْ } هم أهل مكة { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال هم الأنصار ، الذين آمنوا ، يعني : صدقوا بالله تعالى ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن وعملوا الصالحات ، يعني : أدوا الفرائض والسنن ، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان في مثل حالهم { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ } يعني : صدقوا بما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الحق وليس فيه باطل ، ولا تناقض { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } يعني : محا عنهم ذنوبهم التي عملوا في الشرك ، بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وطاعتهم لله تعالى ، فيما يأمرهم به من الجهاد { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } يعني : حالهم . وهذا قول قتادة . وقال مقاتل : يعني : بين أمورهم في الإسلام ، وعملهم وحالهم ، حتى يدخلوا الجنة . وروى مجاهد { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } يعني : شأنهم وقال القتبي { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } أي : سترها { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : حالهم . ويقال : أصلح بالهم يعني : أظهر الله تعالى أمرهم في الإسلام ، حتى يقتدى بهم .
ثم بين المعنى الذي أحبط أعمال الكافرين ، وأصلح شأن المؤمنين فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : ذلك الإبطال ، بأن الذين كفروا { اتبعوا الباطل } يعني : اختاروا الشكر وثبتوا عليه ، ولم يرغبوا في الإسلام . ويقال : معناه لأنهم اختاروا الباطل على الحق ، واتباع الهوى ، على اتباع رضى الله سبحانه وتعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين } وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ } يعني : اتبعوا القرآن ، وعملوا به . ويقال : معناه اختاروا الإيمان على الكفر ، واتباع القرآن ، واتباع رضى الله تعالى على اتباع الهوى . قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } يعني : هكذا يبين الله صفة أعمالهم . ثم حرض المؤمنين على القتال فقال :
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } يعني : اضربوا الرقاب ، صار نصباً بالأمر ، ومعناه اضربوا الأعناق ضرباً . وروى وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ : « إِنّي لَمْ أُبْعَثُ لأُعَذِّبَ بِعَذَابِ الله ، وَإِنَّمَا بُعثْتُ بِضَرْبِ الرِّقَابِ ، وَشَدِّ الوَثَاقِ » { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } يعني : حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم ، فشدوا الوثاق يعني : فاستوثقوا أيديهم من خلفهم . ويقال الإثخان : أن يعطوا أيديهم ، ويستسلموا وقال الزجاج { حتى أَثْخَنتُمُوهُمْ } يعني : أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل . وقال مقاتل : حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوُهم بالسيف ، فظفرتم عليهم { فَشُدُّواْ الوثاق } يعني : الأسر .
{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ } يعني : عتقاً بعد الأسر ، بغير فداء { وَإِمَّا فِدَاء } يعني : يفادي نفسه بماله . وروي عن إبراهيم النخعي ، أنه قال : الإمام بالخيار في الأسرى ، إن شاء فادى ، وإن شاء قتل وإن شاء استرق . وروي عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أنه قال : لا أفادي ، وإن طلبوا بمدين من ذهب ، وذكر عن أبي بكر ، أنه كتب إليه في أسير ، التمسوا منه الفداء . فقال : اقتلوه ، لأَنْ أقتل رجلاً من المشركين أحب إليَّ من كذا وكذا .
قال أبو الليث : وقد كره بعض الناس قتل الأسير ، واحتج بظاهر هذه الآية { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } وقال أَصْحَابُنَا : لا بأس بقتله ، بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنهم . وروي عن ابن جريج ، وغيره من أهل التفسير ، أن هذه الآية منسوخة بقوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن خطل يوم فتح مكة ، بعدما وقع في منعة المسلمين ، فهو كالأسير ، وأما الفداء : فإن فادوا بأسير من المسلمين ، فلا بأس به .
كما قال إبراهيم النخعي : إن شاء فادى بالأسير ، وإن أراد أن يفتدى بمال ، لا يجوز إلا عند الضرورة ، لأن في رد الأسير إلى دار الحرب ، قوة لهم في الحرب . فكره ذلك ، كما يكره أن يحمل إليهم السلاح . للبيع . ثم قال : { حتى تَضَعَ الحرب } روي عن ابن عباس ، أنه قال : حتى تترك الكفار إشراكها ، ويوحدوا الرب تبارك وتعالى ، حتى لا يبقى إلا مسلم يعني : في ذمة المسلمين ، الذين يعطون الجزية ، وعن سعيد بن جبير قال : { فِدَاء حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } قال خروج عيسى عليه السلام ، يكسر الصليب ، فيلقى الذئب الغنم ، فلا يأخذها ، ولا تكون عداوة بين اثنين ، وهكذا قال مجاهد ، وقال مقاتل { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } يعني : في مكان يقاتل سَمَّاهُم حرباً .
وقال القتبي : حتى تضع الحرب ، يعني : حتى يضع أهل الحرب السلاح .
ثم قال عز وجل : { ذلك } يعني : افعلوا ذلك ، ثم استأنف فقال { وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } بغير قتال ، يعني : يهلكهم { ولكن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } يعني : لم يهلكهم ، لكي يختبرهم بالقتال ، حتى يتبين فضلهم ، ويستوجبوا الثواب . ثم قال : { والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } يعني : جاهدوا عدوهم في طاعة الله تعالى . { فَلَن يُضِلَّ أعمالهم } يعني : لن يبطل ثواب أعمالهم . قرأ أبو عمرو ( قُتِلُوا ) بضم القاف بغير ألف ، وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين ، يعني : الذين قتلوا يوم أحد ، ويوم بدر وفي سائر الحروب . وقرأ الباقون { والذين * قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } بالنصب ، يعني : جاهدوا الكفار وحاربوهم .
ثم قال { سَيَهْدِيهِمْ } يعني : يجنبهم من أهوال الآخرة . ويقال : سيهديهم ، يعني : يثبتهم على الهدى { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } وقد ذكرناه { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة } في الآخرة { عَرَّفَهَا لَهُمْ } يعني : هداهم الله تعالى إلى منازلهم . وروى أبو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا أُذِنَ لأهْلِ الجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا لأَحَدهم أَهْدَى أي : أعرف بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّةِ ، من منزله الَّذِي كَانَ فِي الدُّنَّيَا » وعن ابن مسعود ، أنه قال : ما أشبههم إلاَّ أهل الجمعة ، حين انصرفوا من جمعتهم . يعني : إن كل واحد منهم ، يهتدي إلى منزله . وقال الزجاج في قوله : { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي : يصلح لهم أمر معايشهم في الدنيا ، مع ما يجازيهم في الآخرة . وهذا كما قال تعالى : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً } [ نوح : 10 ، 11 ] الآية . ويقال : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي طيبها لهم . يقال : طعام معرف أي : مطيب . ثم حث المؤمنين على الجهاد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
فقال { لَهُمْ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } يعني : إن تنصروا دين الله بقتال الكفار ، { يَنصُرْكُمُ } بالغلبة على أعدائكم { وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } فلا تزول في الحرب .
ثم قال تعالى : { والذين كَفَرُواْ عَرَّفَهَا لَهُمْ } يعني : بعداً ، ونكساً ، وخيبة لهم . وهو من قولك : تعست أي : عثرت ، وسقطت ، { وَأَضَلَّ أعمالهم } يعني : أبطل ثواب حسناتهم ، فلم يقبلها منهم .
ثم بيّن المعنى الذي أبطل به حسناتهم ، فقال : { ذلك } يعني : ذلك الإبطال { بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله } يعني : أنكروا ، وكرهوا الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم . { فَأَحْبَطَ أعمالهم } يعني : ثواب أعمالهم .
ثم خوّفهم ليعتبروا فقال عز وجل : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض } يعني : أفلم يسافروا في الأرض { فَيَنظُرُواْ } يعني : فيعتبروا { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : كيف كان آخر أمرهم . { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } يعني : أهلكهم الله تعالى بالعذاب { وللكافرين أمثالها } يعني : للكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب ، وهذا وعيد لكفار قريش .
ثم قال : { ذلك } يعني : النصرة التي ذكر في قوله : { ياأيها الذين ءامنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين } يعني : إن الله تبارك وتعالى ناصر أولياءه بالغلبة على أعدائهم ، { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } يعني : لا ناصر ، ولا ولي لهم ، لا تنصرهم آلهتهم ، ولا تمنعهم مما نزل بهم من العذاب .
ثم ذكر مستقر المؤمنين ، ومستقر الكافرين ، فقال : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } وقد ذكرناه ، { والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } يعني : يعيشون بما أعطوا في الدنيا ، { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الانعام } ليس لهم هَمٌّ إِلاَّ الأكل ، والشرب ، والجماع ، { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي : منزلاً ، ومستقراً لهم .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } يعني : وكم من قرية فيما مضى . يعني : أهل قرية { هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً } يعني : أشد منعة ، وأكثر عدداً ، وأكثر أموالاً ، { مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } يعني : أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة ، { أهلكناهم } يعني : عذبناهم عند التكذيب { فَلاَ ناصر لَهُمْ } يعني : لم يكن لهم مانع مما نزل بهم من العذاب ، وهذا تخويف لأهل مكة .
قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } قال مقاتل والكلبي : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم وأبا جهل بن هشام يعني : لا يكون حال من كان على بيان من الله تعالى ، كمن حسن له قبح عمله . { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } بعبادة الأوثان . ويقال : هذا في جميع المسلمين ، وجميع الكافرين . لا يكون حال الكفار ، مثل حال المؤمنين في الثواب .
قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة } يعني : صفة الجنة { التى وُعِدَ المتقون } الذين يتقون الشرك ، والفواحش ، { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } قرأ ابن كثير : { مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } بغير مد . والباقون : بالمد ، ومعناهما واحد . يعني : ماء غير منتن ، ولا متغير الطعم والريح . { وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } إلى الحموضة كما يتغير لبن أهل الدنيا من الحالة الأولى . { وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين } يعني : لذيذة . ويقال : { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [ الواقعة : 19 ] . { وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } ليس فيها العكر ، ولا الكدرة ، ولا الدردي ، كعسل أهل الدنيا . قال مقاتل : هذه الأنهار الأربعة تتفجر من الكوثر ، إلى أهل الجنة . ويقال : من تحت شجرة طوبى إلى أهل الجنة .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } يعني : من ألوان الثمرات { وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } لذنوبهم في الآخرة . ويقال : في الدنيا . { كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار } يعني : هل يكون حال من هو في هذه النعم ، كمن هو في النار أبداً . { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً } أي : حاراً قد انتهى حره { فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } من شدة الحر ، فذابت أمعاؤهم ، كقوله تعالى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود } [ الحج : 20 ] .
ثم قال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعني : من المنافقين من يستمع إليك { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءانِفاً } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، وعاب في خطبته المنافقين ، فلما خرجوا من عنده ، قال بعض المنافقين لعبد الله بن مسعود ، وهو الذي أوتي العلم . ماذا قال آنفاً؟ يعني : الساعة ، على جهة الاستهزاء .
قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } مجازاة لهم { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } يعني : عملوا بهوى أنفسهم .
ثم ذكر المؤمنين ، المصدقين ، فقال : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } يعني : آمنوا بالله تعالى ، وأحسنوا الاستماع إلى ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { زَادَهُمْ هُدًى } يعني : زادهم الله بصيرة في دينهم ، وتصديقاً لنبيهم . ويقال : زادهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى . ويقال : زادهم قول المنافقين واستهزاؤهم . { هُدًى } يعني : تصديقاً ، وثباتاً على الإسلام ، وشكر الله تعالى . { والذين اهتدوا } حين بيّن لهم التقوى . ويقال : ألهمهم قبول الناسخ ، وترك المنسوخ .
قوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي : ما ينتظر قومك إلا قيام الساعة . يعني : فما ينتظر قومك إن لم يؤمنوا إلا الساعة { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } يعني : فجأة { فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } يعني : علاماتها ، وهو انشقاق القمر ، والدخان ، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم . وروى مكحول عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى الساعة؟ فقال : « مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ : تَقَارُبُ الأَسْوَاقِ يعني : كَسَادَهَا وَمَطَرٌ وَلاَ نَبَاتَ يعني : مطر في غَيْرِ حِينِهِ ، وَتَفْشُو الْفِتْنَةُ ، وَتَظْهَرُ أَوْلادُ البَغْيَةِ ، وَيَعْظُمُ رَبُّ المَالِ ، وَتَعْلُو أصْواتُ الفَسَقَةِ فِي الْمَسِاجِدِ ، وَيَظْهَرُ أهْلُ الْمُنْكَرِ عَلَى أهْلِ الْحَقِّ » .
ثم قال : { فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } يعني : من أين لهم التوبة ، إذا جاءتهم الساعة . وقال قتادة : فأنى لهم أن يتذكروا أو يتذاكروا إذا جاءتهم الساعة . وقال مقاتل : فيه تقديم . يعني : أنى لهم التذكرة ، والتوبة عند الساعة إذا جاءتهم ، وقد فرطوا فيها .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
قوله عز وجل : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله } قال الزجاج : هذه الفاء جواب الجزاء . ومعناه قد بينا ما يدل على توحيد الله ، فاعلم أنه لا إله إلا الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الله تعالى واحد . إنما خاطبه والمراد به أمته . وقال : هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . ومعناه . فاثبت على إظهار قول لا إله إلا الله . يعني : ادع الناس إلى ذلك . ويقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لَيْتَنِي أَعْلَمُ أَيُّ الكَلامِ أَفْضَلُ وَأَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ . فَأَعْلَمَهُ الله تَعَالَى ، أنَّ أَفْضَلَ الكَلاَمِ التَّوْحِيدُ ، وَأَفْضَلَ الدُّعَاءِ الاسْتِغْفارُ » .
ثم قال : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله ، وَأَتُوبُ إلَيْهِ ، فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ » . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنِّي أَسْتَغْفِرُ الله تَعَالَى ، وَأَتُوبُ إلَيْهِ ، فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ » . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن جريج قال : قيل لعطاء : استغفر للمؤمنين في المكتوبة؟ قال : نعم . قلت : فمن ابتدىء؟ قال : فبنفسك ، كما قال الله تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } .
{ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } يعني : منتشركم بالنهار ، ومأواكم بالليل . ويقال : ذهابكم ، ومجيئكم .
قوله عز وجل : { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ } وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ ، فاشتاقوا إلى الوحي ، فقالوا : لولا نزلت . هلاّ نزلت سورة .
قال الله تعالى : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } يعني : مبينة الحلال ، والحرام { وَذُكِرَ فِيهَا القتال } يعني : أمروا فيها بالقتال . وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها ذكر القتال فهي محكمة . وقال القتبي في قراءة ابن مسعود : سورة محدثة ، وتسمى المحدثة محكمة ، لأنها إذا نزلت تكون محكمة ما لم ينسخ منها شيء . ويقال : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } فِيها ذكر القتال ، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرح بها المؤمنون ، وكره المنافقون ، فذلك قوله : { رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني : الشك ، والنفاق . { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } كراهية لنزول القرآن . يعني : إنهم يشخصون نحوك بأبصارهم ، وينظرون نظراً شديداً من شدة العداوة ، كما ينظر المريض عند الموت . { فأولى لَهُمْ } فهذا تهديد ، ووعيد . يعني : وليهم المكروه . يعني : قل لهم احذروا العذاب ، وقد تم الكلام .
ثم قال : { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } قال القتبي : هذا مخصوص . يعني : قولهم قبل نزول الفرض ، سمعاً لك وطاعة . فإذا أمروا به كرهوا . ذلك . ويقال : معناه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أمثل لهم .
ويقال : معناه فإذا أنزلت سورة ذات طاعة ، يؤمر فيها بالطاعة ، وقول معروف { فَإِذَا عَزَمَ الامر } أي : جاء الجد ، ووقت القتال ، فلم يذكر في الآية جوابه . والجواب فيه مضمر . معناه : { فَإِذَا عَزَمَ الامر } يعني : وجب الأمر ، وجد الأمر ، كرهوا ذلك .
ثم ابتدأ فقال : { فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } يعني : لو صدقوا الله في النبي ، وما جاء به ، لكان خيراً لهم من الشرك والنفاق .
قوله : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } يعني : لعلكم وَإِن وليتم أمر هذه الأمة { أَن تُفْسِدُواْ فِى الارض } بالمعاصي . يعني : أن تعصوا الله في الأرض { وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } . قال السدي : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الارض } بالمعاصي { وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } فإن المؤمنين إخوة . فإذا قتلوهم ، فقد قطعوا أرحامهم . وروى جبير عن الضحاك قال : نزلت في الأمراء : { إِن تَوَلَّيْتُمْ } أمر الناس { أَن تُفْسِدُواْ فِى الارض } . ويقال : معناه إن أعرضتم عن دين الإسلام ، وعما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء ، ودفن البنات ، وقطع الأرحام ، { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } يعني : هل تريدون إذا أنتم تركتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أمركم به ، إِلاَّ أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر ، والمعاصي ، وقطع الأرحام . قرأ نافع : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } بكسر السين . والباقون : بالنصب . وهما لغتان ، إلا أن النصب أظهر عند أهل اللغة .
قوله عز وجل : { أَوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله } يعني : أهل هذه الصفة خذلهم الله ، وطردهم من رحمته .
قوله : { فَأَصَمَّهُمْ } عن الهدى ، فلا يعقلونه { وأعمى أبصارهم } عن الهدى : فلا يبصرونه عقوبة لهم .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } يعني : أفلا يسمعون القرآن ، ويعتبرون به ، ويتفكرون فيما أنزل الله تعالى فيه ، من وعد ووعيد ، وكثرة عجائبه ، حتى يعلموا أنه من الله تعالى ، وتقدس . { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } يعني : بل على قلوب أقفالها . يعني : أقفل على قلوبهم ومعناه : أن أعمالهم لغير الله ختم على قلوبهم .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم } يعني : رجعوا إلى الشرك { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } يعني : من بعد ما ظهر لهم الإسلام . قال قتادة : { إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم } وهم أهل الكتاب عرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكفروا به . ويقال : نزلت في المرتدين .
ثم قال عز وجل : { الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } يعني : زين لهم ترك الهدى ، وزين لهم الضلالة . { وأملى لَهُمْ ذلك } قرأ أبو عمرو : { وَأُمْلِى } بضم الألف ، وكسر اللام ، وفتح الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله . والباقون { وأملى } بنصب اللام ، والألف . يعني : أمهل الله لهم ، فلم يعاقبهم حين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم . ويقال : زين لهم الشيطان ، وأملى لهم الشيطان . يعني : خيل لهم تطويل المدة ، والبقاء . وقرأ يعقوب الحضرمي : { وَأُمْلِى } بضم الألف ، وكسر اللام ، وسكون الياء . ومعناه : أنا أملي يعني : أطول لهم المدة كما قال : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } ثم قال ذلك : يعني : اللعن ، والصمم ، والعمى ، والتزين ، والإملاء . { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله } وهم المنافقون ، قالوا ليهود بني قريظة والنضير وهم الذين كرهوا ما نزل الله . يعني : تركوا الإيمان بما أنزل الله من القرآن ، { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامر } يعني : سنغنيكم في بعض الأمر ، { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } فيما قالوا فيما بينهم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص : { إِسْرَارَهُمْ } بكسر الألف . والباقون : بالنصب . فمن قرأ : بالنصب . فهو جمع السر . ومن قرأ : بالكسر ، فهو مصدر أسررت إسراراً . ويقال : سر وأسرار .
ثم خوفهم فقال الله تعالى : { فَكَيْفَ } يعني : كيف يصنعون { إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة } يعني : تقبض أرواحهم الملائكة ، ملك الموت ، وأعوانه ، { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم } يعني : عند قبض الأرواح . ويقال : يعني : يوم القيامة في النار . { ذلك } أي : ذلك الضرب الذي نزل بهم عند الموت ، وفي النار . { بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله } يعني : اتبعوا الكفر ، وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم . { وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } يعني : عملوا بما لم يرض الله به ، وتركوا العمل بما يرضي الله تعالى . { فَأَحْبَطَ أعمالهم } يعني : أبطل ثواب أعمالهم .
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني : أيظن أهل النفاق ، والشك ، { أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم } يعني : لم يظهر الله نفاقهم .
ويقال : يعني : الغش الذي في قلوبهم للمؤمنين ، وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم . { وَلَوْ نَشَاء لاريناكهم } يعني : لعرفتك المنافقين ، وأعلمتك ، { فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } يعني : بعلاماتهم الخبيثة . ويقال : { فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } إذا رأيتهم . ويقال : لو نشاء ، لجعلنا على المنافقين علامة ، فلعرفتهم بسيماهم . يعني : حتى عرفتهم . { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } يعني : ستعرفهم يا محمد بعد هذا اليوم { فِى لَحْنِ القول } يعني : في محاورة الكلام . ويقال : { فِى لَحْنِ القول } يعني : كذبهم إذا تكلموا ، فلم يخفَ على النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ، منافق عنده إلا عرفه بكلامه .
ثم قال : { والله يَعْلَمُ أعمالكم } يعني : لم يخف عليه أعمالكم قبل أن تعملوها ، فكيف يخفى عليه إذا عملتموها . { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } يعني : لنختبرنكم عند القتال { حتى نَعْلَمَ } أي : نميز { المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } يعني : صبر الصابرين عند القتال { وَنَبْلُوَ أخباركم } يعني : نختبر أعمالكم . ويقال : أسراركم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وَلَيَبْلُونَّكُم حَتَّى يَعْلَمَ وَيَبْلُوَا } الثلاثة كلها بالياء . يعني : يختبركم الله . والباقون الثلاثة كلها بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه .
قوله عز وجل : { عَنْهُ وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا { وَصُدُّواْ } يعني : صرفوا الناس عن دين الإسلام { عَن سَبِيلِ الله } قال مقاتل : يعني : اليهود . وقال الكلبي : يعني : رؤساء قريش حيث شاقوا أهل التوحيد { وَشَاقُّواْ الرسول } يعني : عادوا الله تعالى ، ورسوله ، وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } يعني : الإسلام ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه الحق { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } يعني : لن ينقصوا الله من ملكه شيئاً بكفرهم ، بل يضروا بأنفسهم { وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } يعني : يبطل ثواب أعمالهم التي عملوا في الدنيا ، فلا يقبلها منهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قوله تعالى : { بَصِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } يعني : أطيعوه في السر ، كما في العلانية . ويقال : { أَطِيعُواْ الله } في الفرائض { وَأَطِيعُواْ الرسول } في السنن ، وفيما يأمركم من الجهاد { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } يعني : حسناتكم بالرياء . وقال أبو العالية : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع قول لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزل { أعمالهم ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فخافوا أن تبطل الذنوب الأعمال . وقال مقاتل : نزلت في الذين يمنون عليك أن أسلموا { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } قال مقاتل : وذلك أن رجلاً سأله عن والده أنه كان محسناً في كفره ، قال : هو في النار . فولى الرجل يبكي ، فدعاه ، فقال له : « والدك ووالدي ووالد إبراهيم في النار » . فنزل : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } { ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } قال الكلبي : نزلت الآية في رؤساء أهل بدر .
قوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ } يعني : لا تضعفوا عن عدوكم { وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } يعني : إلى الصلح . أي : لا تهنوا ، ولا تدعوا إلى الصلح نظير .
قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 42 ] يعني : ولا تكتموا الحق وفي هذه الآية دليل على أن أيدي المسلمين ، إذا كانت عالية على المشركين ، لا ينبغي لهم أن يجيبوهم إلى الصلح ، لأن فيه ترك الجهاد . وإن لم تكن يدهم عالية عليهم ، فلا بأس بالصلح لقوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الأنفال : 61 ] يعني : إن مالوا للصلح فمل إليه . قرأ حمزة في رواية أبي بكر : إلى السلم بكسر السين . والباقون : بالنصب . قال بعضهم : وهما لغتان . وقال بعضهم : أحدهما صلح ، والآخر استسلام .
ثم قال : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } يعني : العالين يكون آخر الأمر لكم { والله مَعَكُمْ } يعني : معينكم ، وناصركم ، { وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم } يعني : لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً . يقال : وترتني حقي يعني : بخستني فيه . وقال مجاهد : لن ينقصكم . وقال قتادة : لن يظلمكم . { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } يعني : باطل ، وفرح . { وَإِن تُؤْمِنُواْ } أي : تستقيموا على التوحيد { وَتَتَّقُواْ } النفاق { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } يعني : يعطكم ثواب أعمالكم { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم } يعني : لا يسألكم جميع أموالكم ، ولكن ما فضل منها { ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا } يعني : جميع الأموال { فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } يعني : إن يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم . ويقال : { فَيُحْفِكُمْ } يعني : يجهدكم كثرة المسألة { تَبْخَلُواْ } بالدفع { وَيُخْرِجْ أضغانكم } يعني : يظهر بغضكم ، وعدواتكم لله تعالى ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
ويقال : ويخرج ما في قلوبكم من حب المال . يقول : هذا للمسلمين . ويقال : هذا للمنافقين . يعني : يظهر نفاقكم . وقال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } قرأ نافع ، وأبو عمرو { وَإِذْ أَنتُمْ } بمدة طويلة ، بغير همز . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي . بالمد ، والهمز ، فَهَا تنبيه ، وأنتم كلمة على حدة ، وإنما مد ليفصل ألف هاء من ألف أنتم . وقرأ ابن كثير : بالهمز بغير مد ومعناه : أَأَنتم . ثم قلبت إحدى الهمزتين هاء . ومعنى هذه القراءات كلها أنتم يا معشر المؤمنين { تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } يعني : لتتصدقوا في سبيل الله ، وتعينوا الضعفاء . { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بالنفقة في سبيل الله { وَمَن يَبْخَلْ } بالنفقة { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } يعني : لا يكون له ثواب النفقة { والله الغنى } عما عندكم من الأموال ، وعن أعمالكم . { وَأَنتُمُ الفقراء } إلى ما عند الله من الثواب ، والرحمة ، والمغفرة . { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } يعني : تعرضوا عما أمركم الله به من الصدقة ، وغير ذلك مما افترض الله عليكم من حق . { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } يعني : يهلككم ، ويأت بخير منكم ، وأطوع لله تعالى منكم { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } يعني : أشباهكم في معصية الله تعالى . قال بعضهم : لم يتولوا ، ولم يستبدل بهم . وقال بعضهم : استبدل بهم أناس من كندا وغيرها . وروى أبو هريرة قال : لما نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين ، إِنْ تولينا استبدلوا بِنَا؟ قال : وَعنده سلمان . فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه ، ثم قال : « هذا وَقَوْمُهُ » ثم قال : « لَوْ كَانَ الإِيمَانُ مُعَلَّقاً بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَاِرس » وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين .
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
قوله تبارك وتعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } يعني : قضينا لك قضاء بيناً . أكرمناك بالإسلام ، والنبوة ، وأمرناك بأن تدعو الخلق إليه . قال مقاتل : وذلك أنه لما نزل بمكة { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } وكان المشركون يقولون : لم تتبعون رجلاً لا يدري ما يفعل به ، ولا بمن تابعه . فلما قدم المدينة ، عيّرهم بذلك المنافقون أيضاً . فعلم الله تعالى ما في قلوب المؤمنين من الحزم ، وما في قلوب الكافرين من الفرح . فنزل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } يعني : : قضينا لك قضاء بيناً { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فقال المؤمنون : هذا لك فما لنا؟ فنزل { لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } [ الفتح : 5 ] الآية . فقال المنافقون فما لنا؟ فنزل { وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] الآية . وقال الزجاج : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } يعني : فتح الحديبية ، والحديبية بئر سمي المكان بها . والفتح هو الظفر بالمكان ، كان بحرب أو بغير حرب . قال : ومعنى الفتح الهداية إلى الإسلام . وكان في فتح الحديبية ، معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنها بئر فاستسقى جميع ما فيها من الماء ، ولم يبق فيها شيء ، فمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها ، فدرّت البئر بالماء . ثم قال : { لّيَغْفِرَ لَكَ } قال بعضهم : هذه لام كي . فكأنه قال : لكي يغفر لك { الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } يعني : ذنب آدم { وَمَا تَأَخَّرَ } يعني : ذنب أمتك . وقال القتبي : هذه لام القسم فكأَنه قال : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ويقال : ما كان قبل نزول الوحي ، وما كان بعده .
قوله تعالى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة ، وبإظهار الدين { وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } يعني : يثبتك على الهدى ، وهو طريق الأنبياء { وَيَنصُرَكَ الله } يعني : لكي ينصرك الله على عدوك { نَصْراً عَزِيزاً } بإظهار الإسلام .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
قوله تعالى : { هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة ، فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل ، ويقال : ألف وأربعمائة ، وساق سبعين بدنة . فبلغ قريشاً خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت؟ فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان قال : « إنَّ قُرَيْشاً جَعَلَتْ لِي عُيُوناً ، فَمَنْ يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الثَّنِيَّةِ » . فقال رجل من المسلمين : أنا يا رسول الله فخرج بهم ، وانتهوا إلى الثنية ، وصعدوا فيها . فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية ، بركت ناقته القصواء ، فلم تنبعث ، فزجرَها ، وزجرها الناس ، وضربوها ، فلم تنبعث . فقال الناس : خلأت القصواء أي : صارت حروناً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما خَلأَتِ القَصْوَاءُ ، وَمَا كَانَ ذلك لَهَا بِخُلُقٍ ، ولكن حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ » ثم قال : « لا يَسْأَلُونَنِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شَيْئاً يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِهِمْ ، إلاَّ قِبْلتُهُ مِنْهُمْ » ثَم زجرها ، فانبعثت .
فلما نزلوا على القليب بالحديبية ، لم يكن في البئر إلا ماء وشيك . يعني : قليل متغير ، فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء . فقال : مَن رجل يهيج لنا الماء؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله . فقال : « ما اسمك » قال : مرة . فقال : « تأخر » فقال رجل آخر أنا يا رسول الله ، فقال : « مَا اسْمُكَ؟ » . قال : ناجيه . فقال : « أنْزِلْ » . فنزل ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقصاً ، فبحت به البئر ، فنبع الماء . وقال في رواية عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : كان ماء الحديبية قد قل . فأتى بدلو من ماء ، فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل منه في فيه ، ثم مجه في الدلو ، ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر ، ففعلوا ، فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس . ففزع المشركون لنزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فجاؤوه ، واستعدوا ليصدوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : « يا عُمَرُ اذْهَبْ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نَعْتَمِرَ ، وَيُخْلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ البَيْتِ ، لا أُرِيدُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ » . فقال عمر : يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني . فأرسل عثمان ، فإن هناك ناساً من بني عمه ، يمنعونه ، فذهب عثمان ، فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص ، فقال له : أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاره ، وحمله على فرسه ورائه ، ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشاً ، فأبوا أن يأذنوا له .
فقال : أبان لعثمان طف أنت إن شئت . فقال : لما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي هناك ثلاثة أيام ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فقال لأصحابه : بايعوني على الموت . فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فبايعه أصحابه على الموت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنِّي أَخَافُ أَلاَّ يُدْرِكَ عُثْمَانَ هَذِهِ البَيْعَةَ ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ يَمِينِي بِشمَالِي » . ثم رجع عثمان ، فأخبر أنهم قد أبوا ذلك ، وبلغت قريشاً البيعة ، فكبرت تلك البيعة عندهم ، وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني : أردده عنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ابْعَثُوا الهَدْيَ فِي وَجْهِهِ يَرَاهَا ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ يُعَظِّمُونَ الهَدْيَ » . فبعثوا الهدي في وجهه ، فلما رأى يزيد بن الحارث الهدي قال : ما أرى أحداً يفلح بردّ هذا الهدي ، ورجع إلى قريش . فقال لهم : لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء . فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس إليه ، فقال : يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة ، فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومىء بيديه إلى لحيته ، وكان المغيرة قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضربه بالسوط على يده ، وقال : اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره . فقال عروة : من هذا يا محمد؟ فقال : ابن أخيك المغيرة بن شعبة . فقال : يا غدر ما غسلت سلحتك عني بعد . أفتضرب يدي؟ قال : اكففها قبل أن لا تصل إليك . فرجع عروة إلى قريش ، فقالوا له : ما ورائك يا أبا يعقوب؟ فقال : خلوا سبيل الرجل يعتمر ، فإني حضرت كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، فما رأيت ملكاً قط أصحابه أطوع من هذا الملك . والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته ، والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه ، وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه . فقالوا : جبنت ، وانتفح سحرك . ثم قالوا لسهيل بن عمرو : اذهب واردده عنا ، وصالحه . فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قَدْ سَهُلَ أمْرُهُمْ » فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال : يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة ، على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل ، فتعتمر أنت ، وأصحابك ، ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكباً ، فتصالحنا على أن لا تقاتلنا ، ولا نقاتلك سنتين . فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . فقال : اكتب بيننا وبينك كتاباً ، فأمر علياً رضي الله عنه أن يكتب ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : لا أعرف الرحمن . قال : فكيف أكتب؟ قال : اكتب باسمك اللهم؛ فكتب باسمك اللهم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ، لاتبعتك . أفترغب عن اسم أبيك؟ فقال علي رضي الله عنه : فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنفك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا مَحَمَّدٌ رَسُولُ الله ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله ، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله » لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبله . فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، ألاّ تقاتلنا ، ولا نقاتلك سنتين ، وندخل في حلفنا من نشاء ، وتدخلوا في حلفكم من شئتم ، وعلى أنكم تأتون من العام المقبل ، وتقيمون ثلاثة أيام ، ثم ترجعون ، وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه ، وتردوه إلينا ، ومن جاء منكم إلينا فهو منا ، فلا نرده إليكم ، فشق ذلك الشرط على المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله ، ومن لحق بهم منا فهو لهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فأمَّا مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنَّا فَأبْعَدَهُ الله وَأَوْلَى بِمَنْ كَفر . وَأمَّا مَنْ أرَادَ أنْ يَلْحَقَ بِنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ الله لَهُ مَخْرِجَاً » . فجاء أبو جندل بن سهيل يوسف في الحديد ، يعني : يمشي مشي الأعرج قد أسلم ، فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وقع في ظهراني المسلمين ، قال : إني مسلم . فجاء أبوه فقال : إنما كتبنا الكتاب الساعة . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله أليس الله حق وأنت نبيه؟ قال : « بَلَى » . قال : ونحن قوم مؤمنون؟ وهم كفار؟ قال : « بَلَى » . قال : فلم نُعْطِي الدنية في ديننا؟ قال : « إنَّمَا كَتَبْنَا الكِتَابَ السَّاعَةَ » . فتحول عمر إلى أبي جندل فقال : يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله ، وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب ، وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه ، ويضرب به أباه . فقال أبو جندل : ما لك لا تقتله أنت؟ فقال عمر : نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ، لا أقتل أبي ، فأخذ سهيل بن عمرو غصناً من أغصان تلك الشجرة ، فضرب به وجه أبي جندل ، والمسلمون يبكون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ ، فَإنْ يَعْلَمِ الله مِنْ أبِي جَنْدَلٍ الصَّدْقَ يُنْجِهِ مِنْهُمّ » . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهيل : « هَبْهُ لِي » فقال سهيل : لا . فقال : مكرز بن حفص : قد أجرته .
يعني : أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة ، فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فخرج إلى شط البحر ، واجتمع إليه قريباً من سبعين رجلاً ، كرهوا أن يقيموا مع المشركين ، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة ، فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام ، أو مدبرة فأخذوها ، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين ، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه ، وقالوا له : أنت في حلَ منهم . فالتحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلم الذين كرهوا الصلح ، أن الخير فيما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن ، ويحلقوا الرؤوس ، فلم يفعل ذلك منهم أحد . فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال : ألا تعجبين؟ أمرت الناس أن ينحروا البدن ، ويحلقوا . فلم يفعل أحد منهم . فقالت أم سلمة : قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك ، واحلق رأسك ، فإنهم سيقتدون بك . فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن ، وحلق رأسه ، ففعل القوم كلهم ، فحلق بعضهم ، وقصر بعضهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ » . فقالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ فقال : « يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ ، وَالمُقَصِّرِينَ » . فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فنزل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } إلى قوله : { هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } يعني : السكون ، والطمأنينة في البيعة ، في قلوب المؤمنين . { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } يعني : تصديقاً مع تصديقهم الذي هم عليه . ويقال : تصديقاً بما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة . ويقال : يعني : إقراراً بالفرائض ، مع إقرارهم بالله تعالى . وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة } قال : يعني : الرحمة { فِى قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا } . قال : إن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، كما قال : { قُلْ هُوَ الله أَحَد الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الاخلاص : 1 ، 4 ] فلما صدقوا بها ، زادهم الصلاة . فلما صدقوا بها زادهم الزكاة . فلما صدقوا بها زادهم الصوم . فلما صدقوا بها زادهم الحج . فلما صدقوا به زادهم الجهاد . يعني : إن في كل ذلك يزيد تصديقاً مع تصديقهم .
{ وَلِلَّهِ جُنُود السموات والارض } فجنود السموات الملائكة ، وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس { وَكَانَ الله عَلِيماً } بخلقه { حَكِيماً } في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر .
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
قوله عز وجل : { لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات } يعني : المصدقين والمصدقات { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } يعني : من تحت غرفها ، وأشجارها { خالدين فِيهَا } يعني : دائمين مقيمين ، لا يموتون ، ولا يخرجون منها { وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } يعني : يمحو ، ويتجاوز عن سيئاتهم . يعني : عن ذنوبهم { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } في الآخرة . أي : نجاة وافرة من العذاب .
ثم قال : { وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات } يعني : ولكن يعذب المنافقين ، والمنافقات ، من أهل المدينة { والمشركين } من أهل مكة { والمشركات } الذين أقاموا على عبادة الأصنام .
قوله : { الظانين بالله ظَنَّ السوء } وظنهم ترك التصديق بالله تعالى ورسوله ، مخافة ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] .
ثم قال : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } يعني : عاقبة العذاب والهزيمة { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } في الدنيا { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ } في الآخرة { وَسَاءتْ مَصِيراً } يعني : بئس المصير الذي صاروا إليه .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض وَكَانَ الله عَزِيزاً } بالنقمة لمن مات على كفره ، ونفاقه . { حَكِيماً } في أمره ، وقضائه ، حكم بالنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } يعني : بعثناك شاهداً بالبلاغ إلى أمتك { وَمُبَشّراً } لمن أجابك بالجنة { وَنَذِيرًا } يعني : مخوفاً للكفار بالنار { لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } يعني : لتصدقوا بالله فيما يأمركم ، وتصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وَتُعَزّرُوهُ } يعني : لكي تعينوه ، وتنصروه على عدوه بالسيف ، { وَتُوَقّرُوهُ } أي : تعظموا النبي صلى الله عليه وسلم { وَتُسَبّحُوهُ } يعني : تصلوا لله تبارك وتعالى { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } يعني : غدوة وعشياً . فكأنه قال : لتؤمنوا بالله وتسبحوه ، وتؤمنوا برسوله ، وتعزروه ، وتوقروه . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { لِيُؤْمِنُواْ * بالله وَرَسُولِهِ } كلها بالياء على معنى الخبر عنهم ، وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { بِكُمُ الدوائر عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } بضم السين . وقرأ الباقون : بالنصب ، كقولك رجل سوء ، وعمل سوء ، وقد روي عن ابن كثير ، وأبي عمرو : بالنصب أيضاً .
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
قوله عز وجل : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } يعني : يوم الحديبية تحت الشجرة ، وهي بيعة الرضوان ، قال الكلبي : بايعوا تحت الشجرة ، وهي شجرة السَّمرة ، وهم يومئذٍ ألف وخمسمائة وأربعون رجلاً . وروى هشام عن محمد بن الحسن قال : كانت الشجرة أم غيلان . { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } يعني : كأنهم يبايعون الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بايعهم بأمر الله تعالى . ويقال : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أي : لأجله ، وطلب رضاه .
ثم قال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يعني : يد الله بالنصرة ، والغلبة ، والمغفرة ، { فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } بالطاعة . وقال الزجاج : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } بالوفاء ، ويحتمل { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } بالثواب ، فهذان وجهان جاءا في التفسير ، ويحتمل أيضاً { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } في المِنَّة عليهم ، وفي الهداية فوق أيديهم في الطاعة .
{ فَمَن نَّكَثَ } يعني : نقض العهد ، والبيعة { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } يعني : عقوبته على نفسه . { وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله } قرأ حفص : برفع الهاء . أي : وفى بما عاهد عليه من البيعة ، فيتم ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني : أوفى بما عاهد الله عليه من البيعة ، والتمام في ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } في الجنة . قرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : { فَسَنُؤْتِيهِ } بالنون . والباقون : بالياء . وكلاهما يرجع إلى معنى واحد . يعني : سيؤتيه الله ثواباً عظيماً .
قوله تعالى : { عَظِيماً سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب } وهم أسلم ، وأشجع ، وغفار ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة عام الحديبية ، فاستتبعهم ، وكانت منازلهم بين مكة والمدينة . فقالوا فيما بينهم : نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه ، فقاتلهم ، فاعتلوا عليه بالشغل ، حتى رجع ، فأخبر الله تعالى رسوله قبل ذلك ، أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر ، وهم كاذبون . فقال : { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب } يعني : الذين تخلفوا عن بيعة الحديبية { شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا } يعني : خفنا عليهم الضيعة ، ولولا ذلك لخرجنا معك . { فاستغفر لَنَا } في التخلف . { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } يعني : من طلب الاستغفار وهم لا يبالون ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم .
{ قُلْ } يا محمد { فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً } يعني : من يقدر أن يمنع عنكم من عذاب الله شيئاً { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } يعني : قتلاً ، أو هزيمة ، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } يعني : النصرة . قرأ حمزة والكسائي { ضَرّا } بضم الضاد ، وهو سوء الحال والمرض ، وما أشبه ذلك . والباقون : بالنصب .
وهو ضد النفع . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التقرير . يعني : لا يقدر أحد على دفع الضر ، ومنع النفع غير الله .
ثم استأنف الكلام فقال : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } يعني : عالماً بتخلفكم ، ومرادكم .
قوله عز وجل : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول } يعني : بل منعكم من السير معه ، لأنكم ظننتم أن لن ينقلب الرسول { والمؤمنون } من الحديبية { إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ } يعني : حُسِّن التخلف في قلوبكم { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء } يعني : حسبتم الظن القبيح { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } يعني : هلكى . وروي عن ابن عباس أنه قال : البور في لغة أزد عمان : الشيء الفاسد . والبور في كلام العرب : لا شيء . يعني : أعمالهم بور أي : مبطلة .
قوله عز وجل : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ } يعني : من لم يصدق بالله في السر ، كما صدقه في العلانية { فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً } يعني : هيأنا لهم عذاب السعير .
قوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ *** السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض . ويقال : ونفاذ الأمر في السموات والأرض . { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } وهو فضل ، منه المغفرة ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير ، وهو عدل منه { وَكَانَ الله غَفُوراً } لذنوبهم { رَّحِيماً } بهم .
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
ثم قال عز وجل : { سَيَقُولُ المخلفون } يعني : الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا } يعني : إلى غنائم خيبر { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } يعني : اتركونا نتّبعكم في ذلك الغزو { يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله } يعني : يغيروا كلام الله . يعني : ما قاله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : لا تأذن لهم في غزاة أخرى . قرأ حمزة والكسائي : وهو جمع كلمة . والباقون { كَلاَمَ الله } والكلام اسم لكل ما يتكلم به . { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } في المسير إلى خيبر إلاَّ متطوعين ، من غير أن يكون لكم شرك في الغنيمة . { كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } يعني : من قبل الحديبية . { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } يعني : يقولون للمؤمنين : إن الله لم ينهكم عن ذلك ، بل تحسدوننا على ما نصيب معكم من الغنائم .
قال الله تعالى : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : لا يعقلون ، ولا يرغبون في ترك النفاق ، لا قليلاً ، ولا كثيراً . ويقال : بل كانوا لا يفقهون النهي من الله تعالى إلا قليلاً منهم .
قوله عز وجل : { قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعراب } يعني : الذين تخلفوا عن الحديبية ، مخافة القتال { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني : قتال شديد . قال بعضهم : يعني : قتال أهل اليمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه . وقال مجاهد : { إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني : أهل الأوثان . وقال أيضاً : هم أهل فارس ، وكذا قال عطاء ، وقال سعيد بن جبير : هوازن ، وثقيف . وقال الحسن : فارس ، والروم .
{ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } قرأ بعضهم ( أَوْ يُسْلِمُوا ) بألف من غير نون ، وقراءة العامة بالنون . فمن قرأ : { أَوْ } يعني : حتى يسلموا ، أو إلى أن يسلموا . ومن قرأ : بالنون . فمعناه : تقاتلونهم أو هم يسلمون { يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ } يعني : تجيبوا ، وتوقعوا القتال ، وتخلصوا لله تعالى . { يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } يعني : ثواباً حسناً في الآخرة . { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ } يعني : تعرضوا عن الإجابة كما أعرضتم يوم الحديبية . { يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني : شديداً دائماً ، فلما نزلت هذه الآية ، قال أهل الزمانة والضعفاء : فكيف بنا إذا دعينا إلى قتالتهم ، ولا نستطيع الخروج ، فيعذبنا الله؟ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : نزل العذر في الذين تخلفوا عن الحديبية . { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } يعني : ليس عليهم إثم في التخلف { وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } يعني : إثم .
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في الغزو ويقال : ومن يطع الله ورسوله في الغزو ، في السر ، والعلانية { يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهر } وقد ذكرناه .
{ وَمَن يَتَوَلَّ } يعني : يعرض عن ذلك . يعني : عن طاعة الله ، ورسوله ، بالتخلف { يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } يعني : شديداً دائماً . قرأ نافع : وابن عامر { نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ } كلاهما بالنون . والباقون : كلاهما بالياء . وكلاهما يرجع إلى معنى واحد .
قوله تعالى : { عَذَاباً أَلِيماً لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } يعني : شجرة السمرة . ويقال : أم غيلان . قال قتادة : بايعوهُ يومئذٍ وهم ألف وأربعمائة رجل . وكان عثمان يومئذٍ بمكة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ الله وَحَاجَةِ رَسُولِهِ ، وَحَاجَةِ المُؤْمِنِينَ . ثُمَّ وضع إحدى يديه على الأخرى ، وقال : هذه بَيْعَةُ عُثْمَان » .
{ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } أي : ما في قلوبهم من الصدق والوفاء . وهذا قول ابن عباس . وقال مقاتل : { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الكراهية للبيعة على أن يقتلوا ، ولا يفروا . { فَأنزَلَ } الله { السكينة عَلَيْهِمْ } يعني : أنزل الله تعالى الطمأنينة ، والرضى عليهم . { وأثابهم } يعني : أعطاهم . { فَتْحاً قَرِيباً } يعني : فتح خيبر . { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } يعني : يغنمونها { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } حكم عليهم بالقتل ، والسبي . ويقال : حكم الغنيمة للمؤمنين ، والهزيمة للكافرين .
ثم قال : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } يعني : تغنمونها ، وهو ما أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة . وقال ابن عباس : هي هذه الفتوح التي تفتح لكم { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني : فتح خيبر ، قرأ بعضهم { وأتاهم } أي : أعطاهم وقراءة العامة { وأثابهم } يعني : كافأهم .
قوله تعالى : { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني : أيدي أهل مكة . ويقال : أسد وغطفان أرادوا أن يعينوا أهل خيبر ، فدفعهم الله عن المؤمنين ، فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا له ، ولا عليه .
ثم قال : { وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } وهو فتح خيبر ، لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف ، وأهل خيبر كانوا سبعين ألفاً .
ثم قال : { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } يعني : يرشدكم ديناً قيماً ، وهو دين الإسلام .
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
ثم قال : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } يعني : وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها . يعني : لم تملكوها بعد ، وهو فتح مكة . ويقال : هو فتح قرى فارس ، والروم . { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } يعني : علم الله أنكم ستفتحونها ، وستغنمونها ، فجمعها ، وأحرزها لكم . { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً } من الفتح وغيره { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ } يعني : كفار مكة يوم الحديبية . ويقال : أسد وغطفان يوم خيبر . { لَوَلَّوُاْ الادبار } منهزمين { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } يعني : قريباً ينفعهم ، ولا مانعاً يمنعهم من الهزيمة .
قوله عز وجل : { سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } يعني : هكذا سنة الله بالغلبة ، والنصرة لأوليائه ، والقهر لأعدائه . { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } يعني : تغييراً ، وتحويلاً .
{ وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } يعني : أيدي أهل مكة ، { وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } يعني : أيديكم عن أهل مكة من بعد أن أظفركم عليهم . وذلك أن جماعة من أهل مكة ، خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين ، فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة . وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : طلع قوم وهم ثمانون رجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلى سبيلهم . فأنزل الله تعالى : { وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } { بِبَطْنِ مَكَّةَ } يعني : بوسط مكة { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } يعني : سلطكم عليهم { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } بحرب بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا بوحدانية الله تعالى { وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } أن تطوفوا به { والهدى مَعْكُوفاً } يعني : محبوساً . يقال : عكفته عن كذا إذا حبسته . ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه . يعني : صيروا الهدي محبوساً عن دخول مكة ، وهي سبعون بدنة . ويقال : مائة بدنة . { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } يعني : منحره ، ومنحرة منى للحاج ، وعند الصفا للمعتمر .
ثم قال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات } بمكة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أنهم مؤمنون . يعني : لم تعرفوا المؤمنين من المشركين { ءانٍ } يعني : تحت أقدامكم . ويقال : فتضربوهم بالسيف { تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } يعني : تلزمكم الدية { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بغير علم منكم لهم ، ولا ذنب لكم . وذلك أن بعض المؤمنين كانوا مختلطين بالمشركين ، غير متميزين ، ولا معروفي الأماكن .
ثم قال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن } لو دخلتموها أن تقتلوهم { عِلْمٍ لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } لو فعلتم فيصيبكم من قتلهم معرة . يعني : يعيركم المشركون بذلك ، ويقولون : قتلوا أهل دينهم كما قتلونا ، فتلزمكم الديات .
ثم قال : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي : تميزوا من المشركين { لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ } يعني : لو تميزوا بالسيف . وقال القتبي : صار قوله : { لَعَذَّبْنَا } جواباً لكلامين أحدهما ، لولا رجال مؤمنون ، والآخر { لَوْ تَزَيَّلُواْ } يعني : لو تفرقوا ، واعتزلوا . يعني : المؤمنين من الكافرين { لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ } { مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني : شديداً وهو القتل .
قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } يعني : أهل مكة { فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } وذلك أنهم قالوا : قتل آباءنا ، وإخواننا . ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا . والله لا يدخل علينا ، فهذه الحمية التي في قلوبهم . { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } يعني : طمأنينته { على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } فأذهب عنهم الحمية ، حتى اطمأنوا ، وسكتوا . { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } يعني : ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوا : { وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا } يعني : كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة { وَأَهْلُهَا } يعني : وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } يعني : عليماً بمن كان أهلاً لذلك وغيره .
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
قوله عز وجل : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } يعني : حقق الله تعالى رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء ، والصدق ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل الخروج إلى الحديبية ، أنهم يدخلون المسجد الحرام . فأخبر الناس بذلك ، فاستبشروا . فلما صدهم المشركون ، قالت المنافقون في ذلك ما قالت . فنزل { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } يعني : يصدق رؤياه بالحق { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } يعني : ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام في العام الثاني . ويقال : نزلت الآية بعد ما دخلوا في العام الثاني { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } يعني : ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } يعني : لتدخلن { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } يعني : بإذن الله ، وأمره . ويقال : هذا اللفظ حكاية الرؤيا . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى في المنام ، رأى كأن ملكاً ينادي وهو يقول : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ، فأنزل الله تعالى { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } وهو قول الملك { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } من العدو { مُحَلّقِينَ * رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } يعني : منهم من يحلق ، ومنهم من يقصر { لاَ تخافون } العدو { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } قال مقاتل : فعلم أن يفتح عليهم خيبر قبل ذلك ، فوعد لهم الفتح ، ثم دخول مكة ، ففتحوا خيبر ، ثم رجعوا ، ثم دخلوا مكة ، وأتوا عمرة القضاء . وقال الكلبي في قوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } يعني : علم الله أنه سيكون في السنة الثانية ، ولم تعلموا أنتم ، فلذلك وقع في أنْفسكم ما وقع { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } يعني : فتح خيبر .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } يعني : بالتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله { وَدِينِ الحق } وهو الإسلام { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } يعني : على الأديان كلها قبل أن تقوم الساعة . فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام { وكفى بالله شَهِيداً } بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يشهد كفار مكة ، وذلك حين أراد أن يكتب محمد رسول الله ، فقال سهيل بن عمرو : إنا لا نعرف بأنك رسول الله ولا نشهد .
قال الله عز وجل : { وكفى بالله شَهِيداً } وإن لم يشهد سهيل ، وأهل مكة . قال عز وجل : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ } من المؤمنين { أَشِدَّاء عَلَى الكفار } بالغلظة { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } يعني : متوادّين فيما بينهم { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } يعني : يكثرون الصلاة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } يعني : يلتمسون من الحلال .
وقال بعضهم : { والذين مَعَهُ } يعني : أبا بكر { أَشِدَّاء عَلَى الكفار } يعني : عمر { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } يعني : عثمان { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } يعني : عليّاً رضوان الله عليهم أجمعين { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } يعني : الزبير ، وعبد الرحمن بن عوف { سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ } يعني : علاماتهم ، وهي الصفرة في وجوههم { مّنْ أَثَرِ السجود } يعني : من السهر بالليل . ويقال : يعرفون غُرّاً محجلين يوم القيامة ، من أثر الوضوء . وقال مجاهد : { سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ } قال : الخشوع ، والوقار . وقال منصور : قلت لمجاهد : أهذا الذي يكون بين عيني الرجل؟ قال : إن ذلك قد يكون للرجل ، وهو أقسى قلباً من فرعون .
ثم قال : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } يعني : هذا الذي ذكره من نعتهم ، وصفتهم في التوراة .
ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل } يعني : مثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : مثلهم في التوراة ، والإنجيل واحد . قال : { مَثَلُهُمْ فِى التوراة وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } قرأ ابن كثير ، وابن عامر : { شَطْأَهُ } بنصب الشين ، والطاء . والباقون : بنصب الشين ، وجزم الطاء . ومعناهما واحد . وهو فراخ الزرع . وقال مجاهد : { شَطْأَهُ } يعني : قوائمه . قرأ ابن عامر : { فَازَرَهُ } بغير مد . والباقون بالمد ومعناهما واحد . يعني : قواه . ومنه قوله عز وجل : { اشدد بِهِ أَزْرِى } [ طه : 31 ] يعني : أقوي به ظهري . ويقال : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } يعني : سنبله { فَازَرَهُ } يعني : أعانه وقواه . { فاستغلظ } يعني : غلظ الزرع ، واستوى . { فاستوى على سُوقِهِ } وهو جماعة الساق { يُعْجِبُ الزراع } يعني : الزارع إذا نظر في زرعه بعدما استغلظ ، واستوى ، يعجبه ذلك . فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، تبعه أبو بكر ، ثم تبعه عمر ، ثم تبعه واحد بعد واحد من أصحابه ، حتى كثروا ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكثرتهم .
{ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } يعني : أهل مكة يكرهون ذلك لما رأوا من كثرة المسلمين ، وقوتهم . وروى خيثمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئهم القرآن في المسجد ، فأتى على هذه الآية : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } فقال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم . ويقال : { كَزَرْعٍ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } يعني : أبا بكر { فَازَرَهُ } يعني : أعانه عمر على كفار مكة { فاستغلظ } يعني : تقوى بنفقة عثمان { فاستوى على سُوقِهِ } يعني : قام على أمره علي بن أبي طالب يعينه ، وينصره على أعدائه . { يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } يعني طلحة ، والزبير . وكان الكفار يكرهون إيمان طلحة والزبير لشدة قوتهما ، وكثرة أموالهما .
{ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } يعني : لهم . ويقال : فيما بينهم ، وبين ربهم . ويقال : مِنْ هاهنا لإبانة الجنس . يعني : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } أي : من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { مَغْفِرَةٍ } لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } يعني : ثواباً وافراً في الجنة . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ قَرَأَ سُوَرَةَ الفَتْحِ فَكَأنَّمَا شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم » . والله سبحانه أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قوله تبارك وتعالى : { عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } يقال : يا نداء ، وها تنبيه ، والَّذِينَ إشارة . وآمَنُوا مدحه . روي عن الضحاك أنه كان يقرأ : { لاَ تُقَدّمُواْ } بنصب التاء والدال . وقراءة العامة { لاَ تُقَدّمُواْ } برفع التاء ، وكسر الدال . فمن قرأ بالنصب ، فهو في الأصل لا تتقدموا ، فحذفت إحدى التاءين لتكون أخف . ومن قرأ بالضم فهو من قدم تقدم . يقال : فلان تقدم بين يدي أبيه ، وبين يدي الإمام . يعني : تعجل بالأمر ، وانتهى بدونه . يعني : : لا تقدموا الكلام بين يدي الله ، ورسوله . ومعناه : لا تقولوا قبل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم . ويقال : معناه إذا أمرتم بأمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أمرتم به . وقال الحسن : إن قوماً ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبحوا آخر ، فنزل { عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } وقال مسروق : كنا عند عائشة يوم الشك فأُتي بلبن ، فناولتني ، فقلت : إني صائم . فقالت عائشة رضي الله عنها : وقد نهي عن هذا . وقرأت هذه الآية وقالت هذه الآية نزلت في الصوم وغيره . وقال مقاتل : نزلت الآية في ثلاثة نفر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، وأمر عليهم المنذر بن عمرو . فخرج بنو عامر بن صعصعة عند بئر معونة ، فرصدوهم على الطريق ، وقتلوهم . فرجع ثلاثة منهم ، فلما دنوا إلى المدينة ، خرج رجلان من بني سليم صلحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أهداهما ، وكساهما ، فقالا : نحن من بني عامر ، لأن بني عامر كانوا أقرب إلى المدينة ، فقتلوهما ، وأخذوا من ثيابهما ، وجاؤوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل { عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } يعني : لا تعجلوا بقتل ، ولا بأمر ، حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي عن الحسن في رواية أخرى أنه قال : لا تعملوا بخلاف الكتاب والسنة .
ثم قال : { واتقوا الله } يعني : اخشوا الله عز وجل فيما يأمركم ، وينهاكم ، ولا تخالفوا أمر الله ورسوله .
وقوله : { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعني : سميع الدعاء ، عليم بخلقه . ويقال : سميع لقول المستأمنين ، عليم بنيات الذين قتلوهما . وفي الآية بيان رأفة الله عز وجل على عباده ، حيث سماهم مؤمنين مع معصيتهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } ولم يقل : يا أيها الذين عصوا وقد ذكرنا من قبل أن النداء على ست مراتب ، وهذا نداء مدح .
قوله عز وجل : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } نزلت في وفد بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم سبعون أو ثمانون ، منهم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعطارد بن الحجاب ، وذلك حين قالوا : ائذن لشاعرنا ، وخطيبنا في الكلام ، فعلت الأصوات ، واللغط ، فنزلت الآية { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } ويقال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، فكان إذا تكلم ، رفع صوته .
ثم قال : { تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } يعني : لا تدعوه باسمه ، كما يدعو الرجل الرجل منكم باسمه ، ولكن عظموه ، ووقروه ، وقولوا : يا نبي الله ، ويا رسول الله .
ثم قال : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أن ذلك يحبطها . يعني : إن فعلتم ذلك ، فتحبط حسناتكم . وقال بعضهم : من عمل كبيرة من الكبائر حبط جميع ما عمل من الحسنات واحتج بهذه الآية : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } ولكن نحن نقول : الكبيرة لا تبطل العمل ما لم يكفر ، وإنما ذكر هاهنا إبطال العمل ، لأن في ذلك استخفافاً بالنبي صلى الله عليه وسلم . ومن قصد الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر . فلما نزلت هذه الآية ، دخل ثابت بن قيس بيته ، وجعل يبكي ، ويقول : أنا من أهل النار . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليه ، وقال : « إنَّكَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ بَلْ غَيْرُكَ مِنْ أهْل النَّار » . فقال : يا رسول الله لا أتكلم بعد ذلك إلا سراً ، أو ما كان يشبه السر فنزل : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } صلى الله عليه وسلم روى ثابت عن أنس قال : لما نزل { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم } وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت . فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي ، وحبط عملي . أنا من أهل النارِ . وجلس في بيته يبكي ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بما قال ، فقال صلى الله عليه وسلم : « بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ » . فقال أنس : لكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة ، فكان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس وقد تحنط ، ولبس كفنه ، فقال : بئس ما تعودون أقرانكم ، فقاتلهم حتى قتل . ثم قال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } { أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } يعني : أخلص الله قلوبهم . ويقال : أصفى الله عز وجل قلوبهم للتقوى من المعصية . يعني : يجعل قلوبهم موضعاً للتقوى { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثواب وافر في الجنة . يعني : يجعل ثوابهم في الدنيا أن يخلص قلوبهم للتقوى ، وفي الآخرة أجر عظيم .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وقوله عز وجل : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } فالحجرات جمع الحجرة . يقال : حجرة وحجرات ، مثل ظلمة وظلمات . وقرىء في الشاذ : الحجَرات بنصب الجيم . وقرأه العامة بالضم . ومعناهما : واحد . نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد ، فانتهى إلى قبيلة ، وكانت تسمى بني العنبر ، فأغار عليهم ، وسبى زراريهم ، فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم ، أو يفدوهم ، فنادوه وكان وقت الظهيرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة . فنادوه من وراء الحجرة ، وكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حجرات . فلما خرج النبي كلموه في أمر الزراري ، فقال لواحد منهم : احكم . فقال : حكمت أن تخلي نصف الأسارى ، وتبيع النصف منا . ففعل النبي صلى الله عليه وسلم . فنزلت الآية { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لأنهم لو لم ينادوه ، لكان يعتقهم كلهم . وروى معمر عن قتادة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فناداه من وراء الحجرات ، فقال : يا محمد إِنَّ مَدْحِي زَيْن ، وإِن شَتْمِي شَيْن . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « وَيْلَكَ ذَلَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ » . فَنَزل { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ } الآية .
ثم قال عز وجل : { والله غَفُورٌ } لمن تاب { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة .
قوله عز وجل : { رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } الآية . نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات ، فخرجوا إليه ليبجلوه ، ويعظموه ، فخشي منهم ، لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية . فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : خرجوا إِليَّ بأسلحتهم ، ومنعوا مني الصدقات وأطرحوني وأرادوا قتلي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لقتالهم ، فجاؤوا إلى المدينة ، وقالوا : يا رسول الله لما بلغنا قدوم رسولك ، خرجنا نبجله ، ونعظمه ، فانصرف عنا ، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل الوليد بن عقبة ، فنزل { رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } يعني : بحديث كذب وبخبر كذب { فَتَبَيَّنُواْ } يعني : وتعرفوا ولا تعجلوا { ءانٍ } يعني : كيلا تصيبوا { تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } وأنتم لا تعلمون بأمرهم { فَتُصْبِحُواْ } يعني : فتصيروا { على مَا فَعَلْتُمْ نادمين } . قرأ حمزة ، والكسائي : فَتَثَبَّتُوا بالثاء . وقرأ الباقون : { فَتَبَيَّنُواْ } مثل ما في سورة النساء .
ثم قال للمؤمنين رضي الله عنهم : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر } يعني : ما أمرتم به ، لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق ، { لَعَنِتُّمْ } يعني : لأثمتم .
وروى أبو نضرة ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ . هذه الآية : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر لَعَنِتُّمْ } يعني : هذا نبيكم ، وخياركم { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر لَعَنِتُّمْ } فكيف بكم اليوم . ويقال : { لَعَنِتُّمْ } أي : لهلكتم . وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله .
ثم ذكر لهم النعم فقال : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان } يعني : جعل حب الإيمان في قلوبكم { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ } يعني : حسنه للثواب الذي وعدكم . ويقال : دلكم عليه بالحجج القاطعة . ويقال : زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } يعني : بغض إليكم المعاصي ، والكفر لما بينه من العقوبة .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } يعني : المهتدون . فذكر أول الآية على وجه المخاطبة ، وآخر الآية بالمغايبة . ثم قال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا ، فقد دخل في هذا المدح . وفي الآية دليل أن من كان مؤمناً ، فإنه لا يحب الفسوق والمعصية ، لأن الله تعالى قال : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية ، فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك ، لا لحبه للمعصية . ثم قال : أي ذلك التحبيب والتبغيض { فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً } يعني : كان الإيمان الذي حببه إليكم ، والكفر الذي بغضه إليكم ، كان { فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً } يعني : رحمة { والله عَلِيمٌ } بخلقه { حَكِيمٌ } في أمره وقضائه .