كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } يعني : واذكر يوم تقوم الساعة { يُبْلِسُ المجرمون } يعني : ييأس المشركون من كل خير . ويقال : أيسوا من إقامة الحجة . ويقال : { يُبْلِسُ المجرمون } يعني : يندمون . قال الزجاج : المبلس الساكت . المنقطع الحجة ، الآيس من أن يهتدي إليها { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } يعني : من الملائكة ، ومن الأصنام { وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين } يعني : تبرأت الملائكة عليهم السلام منهم ، وتبرأت الأصنام عنهم .
ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } يعني : بعد الحساب يتفرقون . فريق في الجنة ، وفريق في النار .
ثم أخبر عن مرجع كل فريق فقال : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الذين صدقوا بالله ورسوله ، وأدّوا الفرائض والسنن { فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال مقاتل : يعني : بستان يكرمون وينعمون . وقال السدي : { يُحْبَرُونَ } أي : يفرحون ويكرمون . وقال مجاهد : { يُحْبَرُونَ } يعني : ينعمون . وقال القتبي : { يُحْبَرُونَ } يعني : يسرون وينعمون . والحبرة : السرور . ومنه يقال مع كل حبرة عبرة . وقال الزجاج : { يُحْبَرُونَ } يعني : يحسنون إليهم . يقال للعالم : حبر ، وللمداد حبر ، لأنه يحسن به الكتابة . ويقال : { يُحْبَرُونَ } أي : يسمعون أصوات المغنيات .
قوله عز وجل : { وَأَمَّا الذين كفروابئاياتنا } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَلِقَاء الاخرة } يعني : البعث بعد الموت { فَأُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ } يعني : مقرنين . ويقال : يجتمعون هم وآلهتهم .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

قوله عز وجل : { فَسُبْحَانَ الله } يعني : صلوا لله { حِينَ تُمْسُونَ } يعني : صلاة المغرب والعشاء { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } يعني : صلاة الفجر وعشياً . يعني : صلاة العصر وحين تظهرون . على معنى التقديم والتأخير أي : صلاة الظهر { وَلَهُ الحمد فِى السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } يعني : يحمده أهل السموات ، وأهل الأرض . ويقال : له الألوهية في السموات والأرض ، كقوله عز وجل : { وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله وَهُوَ الحكيم العليم } [ الزخرف : 84 ] يقال : { وَلَهُ الحمد } يعني : الحمد على أهل السموات وأهل الأرض ، لأنهم في نعمته ، فالحمد واجب علينا .
{ يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } يعني : الدجاجة من البيضة ، والإنسان من النطفة ، والمؤمن من الكافر . { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } يعني : البيضة من الدجاجة ، والكافر من المؤمن . { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } يعني : ينبت النبات من الأرض بعد يبسها ، وقحطها بالمطر . { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } يعني : يحييكم بالمطر الذي يمطر من البحر المسجور كالمني فتحيون به . وقال مقاتل : يرسل الله عز وجل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة من البحر المسجور على الأرض ، بين النفختين ، فينتشر عظام الموتى فذلك قوله : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } : قرأ حمزة والكسائي : { تُخْرَجُونَ } بفتح التاء . والباقون برفع التاء . يعني : تخرجون من قبوركم يوم القيامة .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته } قال مقاتل : يعني ومن علامات الرب ، أنه واحد وإن لم يروه ، وعرفوا توحيده بصنعه ، { أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } يعني : خلق آدم من تراب وأنتم ولده { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ } ذريته من بعده { بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } يعني : تبسطون . كقوله : { وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولى الحميد } [ الشورى : 28 ] يعني : ويبسط . ويقال : { وَمِنْ ءاياته } يعني : من العلامات التي تدل على أن الله عز وجل واحد لا مثل له ، ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون { أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } يعني : آدم عليه السلام { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ } منتشرون على وجه الأرض .
ثم قال عز وجل : { وَمِنْ ءاياته } يعني : من علامات وحدانيته { أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني : من جنسكم { أزواجا } لأنه لو كان من غير جنسه ، لكان لا يستأنس بها . ويقال : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني : خلقها من آدم . ويقال : من بعضكم بعضاً { لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } يعني : لتستقر قلوبكم عندها . لأن الرجل إذا طاف البلدان ، لا يستقر قلبه ، فإذا رجع إلى أهله ، اطمأن واستقر . ويقال : { لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } يعني : لتوافقوها { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } يعني : الحب بين الزوج والمرأة ، ولم يكن بينهما قرابة . ويحب كل واحد منهما صاحبه ، ويقال : وجعل منكم مودة للصغير على الكبير ، ورحمة للكبير على الصغير .

ويقال : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } يعني : الولدان { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : فيما ذكر لعلامات لوحدانيته { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أني خالق .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته خَلْقُ * السموات والارض } وأنتم تعلمون ذلك ، لأنهم مقرون أن الله عز وجل خالقهم ، وهو خالق الأشياء { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أي : عربي ، وعجمي ، ونبطي ، { وألوانكم } أي : أحمر ، وأبيض ، وأسود ، وأسمر .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : لعلامات في خلق السموات والأرض ، واختلاف الألسن ، والألوان لعلامات . { للعالمين } فيعتبرون . قرأ عاصم في روية حفص : { للعالمين } بكسر اللام . يعني : جميع العلماء ، يعني : إن في ذلك علامة للعقلاء . وقرأ الباقون : بنصب اللام يعني : علامة لجميع خلق الإنس والجن .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار } منامكم نومكم ، فهو مصدر . يقال : نام نوماً ، ومناماً بالليل والنهار ، على معنى التقديم يعني : منامكم بالليل { وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ } بالنهار يعني : طلبكم الرزق بالنهار والمعيشة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : لعلامات على وحدانيتي { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } المواعظ ويعتبرون .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً } من الصواعق إذا كنتم بأرض قفر ، { وَطَمَعًا } للمطر . { خَوْفًا وَطَمَعًا } منصوبان على المفعول له المعنى يريكم للخوف والطمع ، خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم .
{ وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاء } يعني : المطر { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ } أي : بالنبات { بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات } أي : لعلامات { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } عن الله عز وجل فيوحدونه .
قوله عز وجل : { وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء } يعني : فوق رؤوسكم بغير عمد لا يناله شيء ، وتقوم الأرض على الماء تحت أقدامكم { والارض بِأَمْرِهِ } أي : بقدرته { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض } يعني : إسرافيل عليه السلام يدعوكم على صخرة بيت المقدس في الصور دعوة من الأرض { إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } وقال بعضهم : في الآية تقديم . ومعناه : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض يعني : من قبوركم فإذا أنتم تخرجون : قرأ حمزة والكسائي : { تُخْرَجُونَ } بنصب التاء وضم الراء . وقرأ الباقون : بضم التاء ونصب الراء .
ثم قال عز وجل : { وَلَهُ مَن فِى السموات والارض } من الخلق { كُلٌّ لَّهُ قانتون } يعني : مقرّين بالعبودية . يعلمون أن الله عز وجل ربهم . ويقال : { قانتون } أي : خاضعون له ، لا يقدرون أن يغيروا أنفسهم عما خلقهم . ويقال : معناه في كل شيء دليل ربوبيّته . وهذا أيضاً من آياته . ولكنه لم يذكر لأنه قد سبق ذكره مرات ، فكأنه يقول ومن آياته أن له من في السموات والأرض كل له قانتون .

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

ثم قال عز وجل : { وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : خلق آدم ، فبدأ خلقهم ولم يكونوا شيئاً { ثُمَّ يُعِيدُهُ } يعني : يبعثهم في الآخرة أحياء { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } يعني : في المثل عندكم ، لأن إبداء الشيء أشدّ من إعادته . ويقال : إن ابتداءه كان نطفة ، ثم جعله علقة ، ثم جعله مضغة ، ثم لحماً ، ثم عظاماً . وفي الآخرة حال واحد وذلك هو أهون عليه من هذا . وقال القتبي عن أبي عبيدة : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } يعني : هيّن عليه كما يقال الله أكبر أي : الكبير . ويقال : الإعادة أهون عليه من البداية ، والبداية عليه هين .
ثم قال : { وَلَهُ المثل الاعلى فِى السموات والارض } يعني : الصفات العلى بأنه واحد لا شريك له { وَهُوَ العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره .
ثم قال عز وجل : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } نزلت في كفار قريش ، كانوا يعبدون الآلهة ، ويقولون في إحرامهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك .
قال الله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } أي : وصف لكم شبهاً { مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم } يعني : من العبد { مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم } من الأموال { فَأَنتُمْ } وعبيدكم { فِيهِ سَوَآء } في الرزق فيما أعطيناكم من الأموال والملك .
ثم قال : { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } قال مقاتل : يعني : أتخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت ، كما تخافون أن يرثكم الأحرار . فقالوا : لا . فقال : أترضون لله الشركة في ملكه وتكرهون لأنفسكم . قال الكلبي : { هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم } من أموالكم ، من عبيدكم وإمائكم ، { فَأَنتُمْ } وهم { فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } يقول : كما يخاف الرجل ابنه وعمه وأقاربه . قالوا : لا . قال : فأنتم لا ترضون هذا لأنفسكم أن يكونوا فيما تملكون يشاركونكم في أموالكم . فكيف ترضون لله ما لا ترضون به لأنفسكم .
وقال السدي : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً } هذا مثل ضربه الله عز وجل في الميراث للآلهة . يقول : هل لكم مماليك شركاء في الميراث الذي ترثونه من آبائكم ، وأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث ، كما تدخلون أنتم فيه . فكما لا يكون للملوك أن يدخل في مواريثكم ، فكذلك لا يكون لهذا الوثن الذي تعبدونه من دون الله عز وجل ، أن يدخل في ملكي . وإنما خلقي وعبيدي .
قال أبو الليث رحمه الله عز وجل : وفي الآية دليل أن العبد لا ملك له ، لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله عز وجل من الأموال .
ثم قال عز وجل : { كذلك نُفَصّلُ الآيات } يعني : نبيّن العلامات { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } الأمثال فيوحدونه .
ثم قال عز وجل : { بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ } يعني : اتبع الذين كفروا أهواءهم بعبادة الأوثان { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بغير حجة { فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله } يعني : فمن يهدي إلى توحيد الله ، من أضله الله وخذله وطرده . ويقال : فمن يرشد إلى الحق من خذله الله عز وجل { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } يعني : مانعين من عذاب الله .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

قوله عز وجل : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً } أي : أخلص دينك الإسلام للدين حنيفاً . يعني : للتوحيد مخلصاً . ويقال : يذكر الوجه ويراد به هو ، فكأنه يقول : فأقم الدين مخلصاً . ويقال : معناه فأقبل بوجهك إلى الدين ، وأقم عليه حنيفاً ، أي : مخلصاً ، مائلاً إليه . ويقال : أخلص دينك وعملك لله تعالى ، وكن مخلصاً .
ثم قال : { فِطْرَةَ الله } يعني : اتبع دين الله . ويقال : اتبع ملة الله . ويقال : الفطرة الخلقة يعني : خلقة الله { التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } أي : خلق البشر عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ » وروي عن أبي هريرة أنه قال : اقرؤوا إن شئتم { فِطْرَةَ الله الذى فَطَرَكُمْ الناس عَلَيْهَا } يعني : خلق الناس عليها . وفي الخبر أنه قال : « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ » لأنه شهد يوم الميثاق .
ثم قال : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } يعني : لا تغيير لدين الله . ويقال : لا تبديل لخلق الله عندما خلق الله الخلق ، لم يكن لأحد أن يغير خلقته .
ثم قال : { ذلك الدين القيم } يعني : التوحيد هو الدين المستقيم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : كفار مكة لا يعلمون بتوحيد الله .
قوله عز وجل : { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } انصرف إلى قوله { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } يعني : فأقبل بوجهك منيباً إليه . ويجوز أن يخاطب الرئيس بلفظ الجماعة ، لأن له أتباعاً . وإنما يراد به هو وأتباعه كما قال : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } [ الطلاق : 10 ] { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } يعني : راجعين إليه من الكفر إلى التوحيد . { واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة } يعني : وأتموا الصلوات الخمس { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } على دينهم { مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } يعني : تركوا دين الإسلام الذي أمروا به . { وَكَانُواْ شِيَعاً } فجعلوه أدياناً يعني : تركوا دينهم وصاروا فرقاً اليهود والنصارى والمجوس ، قرأ حمزة والكسائي : { فارقوا } بالألف . وقرأ الباقون { الذين فَرَّقُواْ } بغير ألف . فمن قرأ : فارقوا يعني : تركوا دينهم . ومن قرأ { فَرَّقُواْ } دينهم يعني : افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة ، والمسلمون ثلاثة وسبعين فرقة { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } يعني : كل أهل دين بما عندهم من الدين راضون .
قوله عز وجل : { وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } يعني : إذا أصاب الكفار شدة { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } يعني : منقلبين إليه بالدعاء عند الشدة والقحط { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً } يعني : إذا أصابهم من الله نعمة ، وهي السعة في الرزق والخصب { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } يعني : تركوا توحيد ربهم في الرخاء ، وقد وحّدوه في الضراء .

قوله عز وجل : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } قال مقاتل : تقول أذاقهم رحمة لئلا يكفروا بالذي أعطاهم من الخير . ويقال : كانت النعمة سبيلاً للكفر فكأنه أعطاهم لذلك ، كما قال { فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } [ القصص : 8 ] وقرىء في الشاذ يشركون ليكفروا ، بجزم اللام فيكون أمراً على وجه الوعيد والتهديد .
ثم قال : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : فتمتعوا قليلاً إلى آجالكم فسوف تعلمون ما يفعل بكم يوم القيامة .
ثم قال عز وجل : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا } يعني : كتاباً من السماء { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } يعني : ينطق { بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } يعني : بما كانوا يقولون من الشرك . اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني : لم ينزل عليهم حجة بذلك . وقال القتبي : فهو يتكلم فهو من المجاز ومعناه : أنزلنا عليهم برهاناً يستدلون به ، فهو يدلهم على الشرك . ويقال : أم أنزلنا عليهم عذراً بذلك .

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

ثم قال عز وجل : { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا } يعني : المطر والسعة { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } يعني : الجوع والشدة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يعني : جزاء لذنوبهم { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } يعني : آيسين من الرزق . قرأ أبو عمرو الكسائي : { يَقْنَطُونَ } بكسر النون . وقرأ الباقون بالنصب . وهما لغتان ومعناهما واحد .
ثم وعظهم ليعتبروا ويطمئنوا بالرزق فقال عز وجل : { أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } يعني : يوسع ، وكان يرى صلاح العبد في ذلك . { وَيَقْدِرُ } يعني : يضيق العيش . ويكون صلاحه في ذلك من البسط والتقتير { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : في البسط والتقتير { لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني يصدقون .
قوله عز وجل : { فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ } يعني : فأعط ذا القربى حقه ، وحق القرابة هو الصلة { والمساكين } يعني : أعط السائل حقه ، وحقه أن يتصدق عليه بشيء { وابن السبيل } يعني : الضيف النازل ، وحقه أن تحسن إليه { ذلك خَيْرٌ } يعني : الذي وصف من صلة القرابة ، والمسكين ، وابن السبيل ، ذلك خير { لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } يعني : أي يريدون بذلك رضاء الله ، خير من الإمساك عندهم . { وأولئك هُمُ المفلحون } يعني : الناجون . ويقال : الباقون في النعمة . ويسمى السحور فلاحاً لأنه يبقي للصائم قوة { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً } يعني : ما أعطيتم من عطية { لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس } يعني : ليزدادوا في أموال . ومعناه : ما أعطيتم من عطية لتلتمسوا بها الزيادة { فَلاَ يَرْبُواْ *** عَندَ الله } أي : فلا تضاعف تلك العطية عند الله عز وجل ، ما أعطيتم عند الله ولا يأثم فيه . وروى معمر عن قتادة عن ابن عباس قال : هي هبة يريد أن يثاب أفضل منها . فذلك الذي لا يربو عند الله ، ولا يؤجر فيه صاحبه ، ولا إثم عليه . { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً } قال : هي الصدقة { تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون } وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله . وقال عكرمة : الربا ربوان : ربا حلال ، وربا حرام . فأما الحلال فهو هبة الرجل يريد أن يثاب ما هو أفضل منها . وأما الحرام فزيادة خالية عن العوض في عقد المعاوضة . وهو نوعان : ربا الفضل ، وربا النساء . عرف ذلك في كتب الفقه . قرأ ابن كثير { وَمَا ءاتَيْتُمْ } بغير مد يعني : ما جئتم . وقرأ الباقون : بالمد يعني : ما أعطيتم . واتفقوا في الثاني أنه بالمد . وقرأ نافع { لتربو } بالتاء والضم ، والباقون بالياء والنصب . فمن قرأ بالنصب . فمعناه : لتستزيدوا أنتم زيادة في المال . يعني : لتكثروا أموالكم بما أعطيتم . ومن قرأ : { ليربو } بالياء معناه : ليربو المعطي فيكثر حتى يرد ما هو أكثر منه .

ثم بيّن ما يربو فيه فقال : { وَمَا مّن كتاب زكواة } يعني : ما أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله يعني : رضا الله . ففيه الإضعاف . فأولئك هم المضعفون للواحد عشرة فصاعداً . ويقال : { المضعفون } أي : الواجدين من الضعف . كما يقال : أكذبته إذا وجدته كاذباً .
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل : { الله الذى خَلَقَكُمْ } ولم تكونوا شيئاً { ثُمَّ رَزَقَكُمْ } يعني : أطعمكم ما عشتم في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث بعد الموت ، لينْبّئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } يعني : يفعل كفعله .
ثم نزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد ذكرناه . ويقال : الله الذي خلقكم وطلب منكم العبادة ، ثم رزقكم وطلب الطمأنينة ، ثم يميتكم وطلب منكم الاستعداد للموت ، ثم يحييكم وطلب منكم الحجة والبرهان .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

{ ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر } يعني : قحط المطر ، ونقص الثمار للناس والدواب . يعني : نقص النبات في البر للدواب والوحوش؛ وفي البحر يعني : القرى والأرضين ينقصان الثمار والزرع . سمى القرى والمدائن بحراً لما يجري فيها من الأنهار . ويقال : البحر نفسه لأنه إذا لم يكن مطر ، فإنه لا يخرج منه اللؤلؤ { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } أي : بما عملوا من المعاصي . ويقال : من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والجن ، والدواب والوحوش ، والطير والذر ، خصماؤه يوم القيامة ، لأنه يمنع المطر بالمعصية ، فيضرّ بأهل البر والبحر .
وروي عن ثقيف الزاهد أنه قال : من أكل الحرام ، فقد خان جميع الناس ، حيث لا يستجاب دعاؤه . ويقال : { ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر } يعني : ظهرت المعاصي في البر والبحر { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } يعني : بكسب الناس . فأول فساد البر كان من قابيل حيث قتل أخاه هابيل ، وأول فساد البحر كان من جلندا حيث كان يأخذ كل سفينة غصباً . وقال عطية العوفي : ظهور الفساد قحوط المطر . قيل له : هذا فساد البر فما فساد البحر؟ قال : إذا قلّ المطر قلّ الغوص . وقال قتادة { ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر } يعني : امتلأت الضلالة والظلم في الأرض .
وروي عن أبي العالية أنه قال البر : الأعضاء والبحر : القلوب يعني : ظهر الفساد في الناس في الأعضاء وفي القلوب .
ثم قال : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ } يعني : يعذبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا ، ويّدخر البعض في الآخرة . والذوق إنما هو كناية عن التعذيب . فكأنه يقول : يعذبهم بالجوع والقحط في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : لكي يرجعوا عن الكفر . قرأ ابن كثير : { لّنُذِيقَهُمْ } بالنون أي : لنذيقهم نحن . وقرأ الباقون : بالياء يعني : ليذيقهم الله عز وجل .
ثم خوّفهم فقال عز وجل : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } أي : سافروا فيها { فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ } يعني : كيف كان آخر أمر من كان قبلهم { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } فيعتبروا بذلك . والنظر على وجهين . يقال : نظر إليه إذا نظر بعينه ، ونظر فيه إذا تفكر بقلبه . وهاهنا قال : { فانظروا } ولم يقل فيه ، ولا إليه . فهو على الأمرين جميعاً .
ثم قال عز وجل : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم } يعني : أخلص دينك الإسلام القيم . يعني : المستقيم . ويقال : أقبل بوجهك إليه . ويقال : اثبت عليه . { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } يعني : يوم القيامة لا يقدر أحد أن يرد ذلك اليوم من الله . ويقال : يعني : ذلك اليوم من الله . ويقال : لا خلف لذلك الوعد من الله { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } يعني : يتصدعون . فأدغم التاء في الصاد وشدد . يعني : يتفرقون فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
ثم قال عز وجل : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } يعني : جزاء كفره وعقوبته { وَمَنْ عَمِلَ صالحا } يعني : وحّده وعمل بالطاعة بعد التوحيد { فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } قال مقاتل : أي يقدمون . وقال مجاهد . يعني : لأنفسهم يفرشون في القبر . ويقال : في الجنة . ويقال : فلأنفسهم يعملون ويستعدون .
قوله عز وجل : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } ينصرف إلى قوله يصدعون . يعني : يتفرقون لكي يجزي الذين آمنوا { وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ } يعني : من رزقه . ويقال : من ثوابه . ويقال : بفضله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } بتوحيد الله عز وجل . ويقال : لا يرضى دين الكافرين .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

ثم قال عز وجل : { وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح } يعني : ومن علامات وحدانيته أن يعرفوا توحيده بصنعه ، أن يرسل الرياح { مبشرات } بالمطر . ويقال : يستبشر بها الناس . ويقال : فإذا كان الاستبشار به ينسب الفعل إليه { وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ } يعني : ليصيبكم من نعمته وهو المطر { وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ } يعني : السفن تجري في البحر بالرياح بأمره { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتطلبوا في البحر من رزقه كل هذا بالرياح { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } رب هذه النعم فتوحدوه .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } يا محمد { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ * موسى بالبينات } بالأمر والنهي ، فكذبوهم كما كذب قومك { فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } بالعذاب يعني : من الذين كفروا { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا } يعني : واجباً علينا { نَصْرُ المؤمنين } بالنجاة مع رسولهم . وإنما هو وجوب الكرم ، لا وجوب اللزوم .
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا ، فقال الله عز وجل : { الله الذى يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } يعني : تدفعه وتهيجه . يقال : ثار الغبار إذا ارتفع { فَيَبْسُطُهُ فِى السماء كَيْفَ يَشَاء } يعني : كيف يشاء الله عز وجل . إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } يعني : قطعاً { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } يعني : المطر يخرج من خلاله ، من وسط السحاب { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } يعني : بالمطر { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعني : يفرحون بنزول المطر عليهم قرأ ابن عامر { كِسَفًا } بالجزم . وقرأ الباقون : بالنصب .
ثم قال عز وجل : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أي : من قبل نزول المطر عليهم . { لَمُبْلِسِينَ } يعني : آيسين من المطر . وقال الأخفش : تكرير قبل للتأكيد . وقال قطرب : الأول للتنزيل ، والثاني للمطر .
ثم قال : { فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله } يعني : ألوان النبات من أثر المطر منه الأخضر ، والأحمر ، والأصفر . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر { فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ } بلفظ الجماعة . قرأ الباقون بلفظ الوحدان ، لأن الوحدان يغني عن الجمع .
ثم قال : { كَيْفَ يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } حين لم يكن فيها نبات { إِنَّ ذلك } يعني : هذا الذي فعل { فانظر إلى } في الآخرة { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ *** وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } يعني : الزرع متغيّراً بعد خضرته { لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } يعني : لصاروا ، وأصله العمل بالنهار . ويستعمل في موضع صار كقوله أصبح وأمسى يوضع موضع صار { مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } أي : من بعد اصفراره يكفرون النعم . يقول : لو فعلت ذلك لفعلوا هكذا . ويقال : قوله : { فَرَأَوْهُ } إشارة إلى النبات ، لأن الريح مؤنثة . وإنما أراد ما ينبت بالمطر . ويقال : معناه أنهم يستبشرون إذا رأوا الغيث ، ويكفرون إذا انقطع عنهم النبات .
ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال :

فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

{ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } فشّبه الكفار بالموتى . فكما لا يسمع الموتى النداء ، فكذلك لا يجيب ، ولا يسمع الكفار الدعاء ، إذا دعوا إلى الإيمان { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } يعني : أن الأصم إذا كان مقبلاً لا يسمع ، فكيف إذا ولى مدبراً؟ فكذلك الكافر لا يسمع إذا كان يتصامم عند القراءة ، والقراءة ذكرناها في سورة النمل .
ثم قال عزّ وجل : { وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى } إلى الإيمان { عَن ضلالتهم } يعني : لا تقدر أن توفقه وهو لا يرغب عن طاعتي في طلب الحق { إِن تُسْمِعُ } يعني : ما تسمع { وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى } يعني : بالقرآن { فَهُم مُّسْلِمُونَ } يعني : مخلصون .
ثم أخبرهم عن خلق أنفسهم ليعتبروا ويتفكروا فيه فقال عز وجل : { الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } يعني : من نطفة . ويقال : صغيراً لا يعقل { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } يعني : شدة بتمام خلقه { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } يعني : بعد الشباب الهرم { وَشَيْبَةً } أي : شمطاً . قرأ عاصم في رواية حفص وحمزة : من ضعف بنصب الضاد . وقرأ الباقون : من ضعف بالضم . وهما لغتان ومعناهما واحد .
{ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي : يحول الخلق كما يشاء من الصورة { وَهُوَ العليم القدير } { العليم } بتحويل الخلق ، { القدير } يعني : القادر على ذلك .
قوله عز وجل : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون } يعني : يحلف المشركون { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } في الدنيا .
يقول الله عز وجل : كذلك كانوا يكذبون بالبعث كما أنهم كذبوا حيث قالوا { مَا لَبِثُواْ } يعني في القبور غير ساعة ويقال : { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } لأنهم يقولون مرة : { يتخافتون بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ومرة يقولون : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ الكهف : 119 ] ومرة يقولون : { مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ } فيقول الله تعالى : هكذا كانوا في الدنيا .
ثم قال عز وجل : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان } يعني : أكرموا بالعلم والإيمان { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله } أي : في علم الله . ويقال : فيما كتب الله عز وجل . وقال مقاتل : في الآية تقديم . يعني : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم } في كتاب الله { والإيمان } وهو ملك الموت { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث } . ويقال : الذين أوتوا العلم بالكتاب وأوتوا { الايمان } وهم العلماء .
ثم قال : { فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : لا تصدقون بهذا اليوم في الدنيا . ثم قال عز وجل : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ } يعني : أشركوا { مَعْذِرَتُهُمْ } قرأ ابن كثير وأبو عمر : { وَلاَ تَنفَعُ } بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن لفظ المعذرة مؤنثة .

وقرأ الباقون : بالياء ، فينصرف إلى المعنى يعني : عذرهم { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يقال : عتب يعتب إذا غضب عليه ، وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه ، واستعتب إذا طلب منه الرجوع . يعني : أنه لا يطلب منهم الرجوع في ذلك اليوم ليرجعوا .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ } يعني : وصفنا وبيّنّا { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان } أي : شبه { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ } كما سألوا { لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : المشركون من أهل مكة { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } يعني : يقولون ما أنت إلا كاذب ، وليس هذا من الله عز وجل ، كما كذبوا بانشقاق القمر . يقال : أبطل الرجل إذا جاء بالباطل . وأكذب إذا جاء بالكذب . فقال : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } يعني : كاذبون .
ثم قال : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } يعني : يختم الله عز وجل { على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { فاصبر } يا محمد { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } فيما وعد لكم من النصر على عدوكم ، وإظهار دين الإسلام حق . ويقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : صدق في العذاب { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } يعني : يستنزلنك عن البعث { الذين لاَ يُوقِنُونَ } أي : لا يصدقون . ويقال : { لا يَسْتَخِفَّنَّكَ } يعني : لا يحملنك تكذيبهم على الخفة . يعني : كن حليماً ، صبوراً ، وقوراً . ويقال : { لا يَسْتَخِفَّنَّكَ } فتدعو عليهم بتعجيل العذاب ، فيهلك الذين لا يوقنون بالعذاب ، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

قول الله تبارك وتعالى : { الم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم } يعني : هذه آيات القرآن المحكم من الباطل . ويقال : أحكم حلاله وحرامه . ويقال : محكم لا يرد عليه التناقض { هُدًى } يعني : بياناً من الضلالة . ويقال : هادياً { وَرَحْمَةً } من العذاب { لّلْمُحْسِنِينَ } الذين يحسنون العمل وهم المؤمنون . لأن كل مؤمن محسن . قرأ حمزة : { هُدًى وَرَحْمَةً } بالضم ، والباقون بالنصب . فمن قرأ : بالضم ، فعلى الإضمار . ومعناه : هو هدى ورحمة على معنى تلك هدى ورحمة . ومن نصب فهو على الحال المعنى تلك آيات في حال الهداية والرحمة .
ثم نعت المحسنين فقال تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } يعني : يقرون بها ويتمونها . قوله { وَيُؤْتُونَ الزكواة } يعني : يقرون بها ويؤدونها { وَهُم بالاخرة } يعني : بالبعث الذي فيه جزاء أعمالهم { هُمْ يُوقِنُونَ } بأنها كائنة { أولئك } يعني : أهل هذه الصفة { على هُدًى مّن رَّبّهِمْ } يعني : بيان من ربهم . بيّن لهم طريقهم ووفّقهم لذلك { وأولئك هُمُ المفلحون } يعني : الفائزون بالخير .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

{ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } يعني : من الناس ناس يشترون أباطيل الحديث ، وهو النضر بن الحارث كان يخرج إلى أرض فارس تاجراً ، ويشتري من هنالك من أحاديثهم ، ويحمله إلى مكة ويقول لهم : إن محمداً يحدثكم بالأحاديث طرفاً منها ، وأنا أحدثكم بالحديث تاماً { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ } يعني : يصرف الناس عن دين { الله } عز وجل . ويقال : يشتري جواري مغنيات . قال أبو الليث رحمه الله : حدثني الثقة بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ وَلا شِرَاؤُهُنَّ وَلا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَأَكْلُ أثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ » . وفيه أنزل الله عز وجل هذه الآية { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } قال : شراء المغنية . ويقال : { لَهْوَ الحديث } هاهنا الشرك . يعني : يختار الشرك على الإيمان ليضل عن سبيل الله عز وجل . يعني : ليصرف الناس بذلك عن سبيل الله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بغير حجة { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } يعني : سبيل الله عز وجل ، لأن السبيل مؤنث كقوله تعالى : { قُلْ هذه سبيلى أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ يوسف : 108 ] ويقال : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } يعني : آيات القرآن التي ذكر في أول السورة استهزاء بها ، حيث جعلها بمنزلة حديث رستم واسفنديار . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : { لِيُضِلَّ } بنصب الياء . وقرأ الباقون : بالضم . فمن قرأ بالنصب فمعناه : ليضل بذلك عن سبيل الله . يعني : بترك دين الإسلام . ومن قرأ بالضم يعني : بصرف الناس عن دين الإسلام ، ويصرف نفسه أيضاً . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : { وَيَتَّخِذَهَا } بنصب الذال . وقرأ الباقون : بالضم . فمن نصبها ردّها على قوله : { لِيُضِلَّ } يعني : لكي يضل ولكي { أُنْذِرُواْ هُزُواً } ومن قرأ : بالضم ردّها على قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } { وَيَتَّخِذَهَا } وقال { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يهانون به .
قوله عز وجل : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } يعني : إذا قرىء عليه القرآن { ولى مُسْتَكْبِراً } يعني : أعرض مستكبراً عن الإيمان والقرآن { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } يعني : كأن لم يسمع ما في القرآن من الدلائل والعجائب { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي : ثقلاً فلا يسمع القرآن يعني : يتصامم { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فلما ذكر عقوبة الكافر ذكر على أثر ذلك ثواب المؤمنين فقال :
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم } في الآخرة { خالدين } يعني : دائمين { فِيهَا وَعْدَ الله حَقّاً } أوجبه الله عز وجل لأهل هذه الصفة { وَهُوَ العزيز الحكيم } حكم بالعذاب للكافرين ، والنعيم للمؤمنين .

ثم بيّن علامة وحدانيته فقال : { خُلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي : خلقها بغير عمد ترونها بأعينكم . ويقال : معناه { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أنتم يعني : لها عمد ولكن لا ترونها . والعمد جماعة العماد .
ثم قال : { وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ } يعني : الجبال الثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } يعني : لكيلا تزول بكم الأرض .
ثم قال : { وَبَثَّ فِيهَا } يعني : وخلق فيها في الأرض . ويقال : وبسط فيها { مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } وقد ذكرناه .
ثم قال : { هذا خَلْقُ الله } يقول : هذا الذي خلقت أنا { فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } يعني : الذين تدعونه إلها من دونه يعني : الأصنام . ويقال : هذا خلق الله . يعني : مخلوق الله . ويقال : هذا صنع الله .
ثم قال : { بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ } أي : الكافرون في خطأ بيّن ، لا يعتبرون ولا يتفكرون فيما خلق الله عز وجل فيعبدونه ويقال في ضلال مبين يعني : في خسران بيّن .

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } وقال مجاهد : يعني : أعطينا لقمان العقل والفقه والإصابة في غير نبوة . ويقال أيضاً : الحكمة والعقل والإصابة في القول . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما زَهِدَ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إلاَّ أَثْبَتَ الله تَعَالَى الحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا وَعُيُوبَ نَفْسِهِ . وَإذَا رَأيْتُمْ أَخَاكُمْ قَدْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَاقْتَرِبُوا إلَيْهِ فَاسْتَمِعُوا مِنْهُ ، فإنه يُلَقَّى الحِكْمَةَ » . وقال السدي : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } يعني : النبوة . وعن عكرمة قال : كان لقمان نبياً . وعن وهب بن منبه قال : كان لقمان رجلاً حكيماً ، ولم يكن نبياً .
وروي عن ابن عباس قال : كان لقمان عبداً حبشياً . ويقال : إن أول ما ظهرت حكمته أن مولاه قال له يوماً : اذبح لنا هذه الشاة فذبحها . ثم قال : أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب . ثم مكث ما شاء الله . ثم قال له : اذبح لنا هذه الشاة فذبحها . فقال : أخرج لنا أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب . فسأله عن ذلك فقال لقمان : إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا .
وذكر عن وهب بن منبه أن لقمان خُيِّرَ بين النبوة والحكمة ، فاختار الحكمة . قال : فبينما كان يعظ الناس يوماً وهم مجتمعون عليه ، إذ مرّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل . فقال : ما هذه الجماعة؟ فقيل له : جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم . فأقبل إليه . فقال له : ألست عبد بني فلان؟ فقال : نعم . فقال : فما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وتركي ما لا يعنيني . فانصرف عنه متعجباً وتركه .
ثم قال تعالى : { أَنِ اشكر للَّهِ } يعني : حكماً من أحكام الله { أَنِ اشكر للَّهِ } ويقال : معناه { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } وقلنا له : اشكر لله بما أعطاك من الحكمة { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } يعني : ثواب الشكر لنفسه { وَمَن كَفَرَ } أي : جحد فلا يوحّد ربه { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ } عن خلقه وعن شكرهم { حَمِيدٌ } في فعاله { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } قال مقاتل : كان اسم ابنه أنعم { وَهُوَ يَعِظُهُ } ويقال : معناه قال لابنه واعظاً { يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } يعني : ذنب عظيم لا يغفر أبداً ، وكان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال بهما حتى أسلما . وقال مقاتل : زعموا أنه كان ابن خالة أيوب . وذكر القاسم بن عباد بإسناده عن عبد الله بن دينار : أن لقمان قدم من سفر ، فلقيه غلامه ، قال : ما فعل أبي؟ قال : مات . فقال : ملكت أمري . قال : وما فعلت أمي؟ قال : قد ماتت .

قال : ذهب همي . قال : فما فعلت أختي؟ قال : ماتت فقال : سترت عورتي . قال : فما فعلت امرأتي؟ قال : قد ماتت . فقال : جدد فراشي . قال : فما فعل أخي؟ قال : مات . قال : انقطع ظهري .
وفي رواية أُخرى قال : ما فعل أخي؟ قال : مات . فقال : انكسر جناحي . ثم قال : فما فعل ابني؟ قال : مات . فقال : انصدع قلبي . وقال وهب بن منبه كان لقمان عبداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام ، فاشتراه ، فأعتقه وكان حبشياً أسود ، غليظ الشفتين والمنخرين ، غليظ العضدين والساقين ، وكان رجلاً صالحاً أبيض القلب ، وليس يصطفي الله عز وجل عباده على الحسن والجمال ، وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم .
قرأ عامر في رواية حفص وابن كثير في إحدى الروايتين : { أَوْ بَنِى } بالنصب . وقرأ الباقون : بالكسر وقد ذكرناه .
ثم قال عز وجل : { وَوَصَّيْنَا الإنسان } فكأنه يقول : آمركم بما أمر به لقمان لابنه بأن لا تشركوا بالله شيئاً ، وآمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين فذلك قوله عز وجل : { وَوَصَّيْنَا الإنسان } يعني : أمرناه بالإحسان { بوالديه } .
ثم ذكر حق الأم وما لقيت من أمر الولد من الشدة فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } يعني : ضعفاً على ضعف ، لأن الحمل في الابتداء أيسر عليها . فكلما ازداد الحمل يزيدها ضعفاً على ضعف { وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ } يعني : فطامه بعد سنتين من وقت الولادة { أَنِ اشكر لِى ولوالديك } يعني : وصّيناه وأمرناه بأن اشكر لي بما هديتك للإسلام ، واشكر لوالديك بما فعله إليك { إِلَىَّ المصير } فأجازيك بعملك .
ثم قال عز وجل : { وَإِن جاهداك } يعني : وإن قاتلاك . يعني : أن حرمة الوالدين وإن كانت عظيمة ، فلا يجوز للولد أن يطيعهما في المعصية . فقال : { وَإِن جاهداك } يعني : وإن قاتلاك . ويقال : وإن أراداك { على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يعني : ما ليس لك به حجة بأن معي شريكاً { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في الشرك { وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً } يعني : عاشرهما في الدنيا معروفاً بالإحسان ، وإنما سمي الإحسان معروفاً لأنه يعرفه كل واحد .
قال وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « حُسْنَ المُصَاحَبَةِ أنْ يُطْعِمَهُمَا إذا جَاعَا ، وَأَنْ يَكْسُوَهُمَا إذا عَرِيَا » . ثم قال : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } يعني : اتبع دين من أقبل إلي بالطاعة .
ثم استأنف فقال : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة . وقال بعضهم : إنما أتمّ الكلام عند قوله : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } يعني : دين من أقبل على الطاعة .
ثم استأنف الكلام فقال : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } تكراراً على وجه التأكيد { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : فأجازيكم بها .
ثم رجع إلى حديث لقمان فقال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا } يعني : الخطيئة { إِن تَكُ } قال مقاتل : وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبتاه إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد ، فكيف يعلمها الله سبحانه وتعالى .

فرد عليه لقمان وقال : { تَعْمَلُونَ يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ } يعني : الخطيئة { إِن تَكُ } { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } يعني : وزن خردلة { فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ } أي : الصخرة التي هي أسفل الأرضين . وقال بعضهم : أراد بها كل صخرة ، لأنه قال بلفظ النكرة . يعني : ما في جوف الصخرة الصماء . وقال مقاتل : هي الصخرة التي في أسفل الأرض ، وهي خضراء مجوفة .
ثم قال : { أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الارض يَأْتِ بِهَا الله } يعني : يجازي بها الله . أي : يعطيه ثوابها . ويقال : { يَأْتِ بِهَا الله } عند الميزان ، فيجازيه بها . ويقال : هذا مثل لأعمال العباد { يَأْتِ بِهَا الله } يعني : يعطيه ثوابها عز وجل كقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] يعني : يرى ثوابه . قرأ نافع { مِثْقَالَ } بضم اللام . وقرأ الباقون : بالنصب . فمن قرأه بالضم جعله اسم يكن . ومن قرأ بالنصب جعله خبراً . والاسم فيه مضمر ومعناه : إن تكن صغيرة قدر مثقال حبة . وإنما قال : إن تكن بلفظ التأنيث لأن المثقال أضيف إلى الحبة . فكان المعنى للحبة . وقيل : أراد به الخطيئة . ومن قرأ : بالضم جعله اسم تكن .
ثم قال : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } يعني : لطيف باستخراج تلك الحبة ، خبير بمكانها . وقال أهل اللغة : اللطيف في اللغة يعبر به عن أشياء . يقال للشيء الرقيق وللشيء الحسن : لطيف . وللشيء الصغير؛ لطيف . ويقال للمشفق : لطيف .
ثم قال عز وجل : { لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصلاة } يعني : أتمّ الصلاة { وَأْمُرْ بالمعروف } يعني : التوحيد . ويقال : أظهر العدل { وانه عَنِ المنكر } وهو كل ما لا يعرف في شريعة ، ولا سنة ، ولا معروف في العقل { واصبر على مَا أَصَابَكَ } يعني : إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر ، فأصابك من ذلك ذلّ أو هوان أو شدة ، فاصبر على ذلك ف { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامور } يعني : من حق الأمور . ويقال : من واجب الأمور . وصارت هذه الآية بياناً لهذه الأمة ، وإذناً لهم ، أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يصبر على ما يصيبه في ذلك ، إذا كان أمره ونهيه لوجه الله تعالى ، لأنه قد أصاب ذلك في ذات الله عز وجل .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : { وَلاَ تُصَعّرْ } بالتشديد بغير ألف . وقرأ الباقون : ولا تصاعر بالألف والتخفيف . وهما لغتان ومعناهما واحد . يقال : صعر خده وصاعره ومعناهما : الإعراض على جهة الكبر . يعني : لا تعرض بوجهك عن الناس متكبراً . وقال مقاتل : لا تعرض وجهك عن فقراء المسلمين ، وهكذا قال الكلبي .

وقال العتبي : أصله الميل . ويقال : رجل أصعر إذا كان به داء ، فيميل رأسه وعنقه من ذلك إلى أحد الجانبين . ويقال : معناه لا تكلم أحداً وأنت معرض عنه ، فإن ذلك من الجفاء والإذاء .
ثم قال : { وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا } يعني : لا تمشي بالخيلاء ، والمرح والبطر والأشر كله واحد ، وهو أن يعظم نفسه في النعم { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } يعني : مختالاً في مشيته ، فخوراً في نعم الله عز وجل .
{ واقصد فِى مَشْيِكَ } يعني : تواضع لله تعالى في المشي ، ولا تختل في مشيتك . ويقال : أسرع في مشيتك ، لأن الإبطاء في المشي يكون من الخيلاء . { واغضض مِن صَوْتِكَ } يعني : اخفض . ومن صلة في الكلام اخفض كلامك ، ولا تكن سفيهاً .
ثم ضرب للصوت الوضيع مثلاً فقال : { إِنَّ أَنكَرَ الاصوات } يعني : أقبح الأصوات { لَصَوْتُ الحمير } لشدة أصواتها . وإنما ذكر صوت الحمير ، لأن صوت الحمار كان هو المعروف عند العرب وسائر الناس بالقبح ، وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان . وإنما ضرب الله المثل بما هو المعروف عند الناس .
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ } يعني : قل يا محمد لأهل مكة : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله } ذلل لكم { مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } كل ذلك من الله تعالى . يعني : ومن قدرة الله ورحمته وحده لا شريك له { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً } فالظاهرة التي يراها الناس ، والباطنة ما غاب عن الناس . ويقال : النعم الظاهرة شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، وأما الباطنة فالمعروفة بالقلب . وقال مقاتل : الظاهرة : تسوية الخلق والرزق . والباطنة : تستر عن العيون .
عن ابن عباس قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً } فقال : « الظَّاهِرَةُ الإسْلامُ ، وَالبَاطِنَةُ مَا سَتَرَ سَوْأَتَكَ » . قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص : { نِعَمَهُ } بنصب العين وميم ، وضم الهاء . وقرأ الباقون : { نِعَمَهُ } بجزم العين ونصب الهاء والميم . فمن قرأ { نِعَمَهُ } بالجزم فهي نعمة واحدة وهي ما أعطاه الله من توحيده . ومن قرأ : { نِعَمَهُ } فهو على معنى جميع ما أنعم الله عز وجل عليهم .
ثم قال : { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } يعني : يخاصم في دين الله عز وجل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بغير حجة وهو النضر بن الحارث { وَلاَ هُدًى } أي : بغير بيان من الله عز وجل { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } أي : مضيئاً فيه حجة .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)

قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني : لكفار مكة { اتبعوا مَا أَنزَلَ الله } على نبيه من القرآن ، فآمنوا به ، وأحلّوا حلاله ، وحرموا حرامه { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يقول الله عز وجل؛ { أَوْ لَّوْ كَانَ الشيطان } يعني : أو ليس الشيطان { يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } يعني : يدعوهم إلى تقليد آبائهم بغير حجة ، فيصيروا إلى عذاب السعير .
قوله عز وجل : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } أي : يخلص دينه . ويقال : يخلص عمله لله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } يعني : موحد . ويقال : ذكر الوجه ، وأراد به هو . يعني : ومن أخلص نفسه لله عز وجل بالتوحيد ، وبأعمال نفسه ، وهو محسن في عمله . قرأ عبد الرحمن السّلمي : { وَمَن يُسْلِمْ } بنصب السين ، وتشديد اللام من سلم يسلم . وقراءة العامة { وَمَن يُسْلِمْ } بجزم السين وتخفيف اللام من سلم يسلم { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } يعني : قد أخذ بالثقة { وإلى الله عاقبة الامور } يعني : إليه مرجع وعواقب الأمور . ويقال : العباد إليه فيجازيهم بأعمالهم .
قوله عز وجل : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } وذلك أنهم لما كذبوا بالقرآن وقالوا : إنه يقول من تلقاء نفسه ، شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزل { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } بالقرآن { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } يعني : إلينا مصيرهم { فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } يعني : يجازيهم بجحودهم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بما في قلبك من الحزن مما قالوا وقال الكلبي : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } من خير أو شر .
ثم قال عز وجل : { نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً } يعني : يسيراً في الدنيا ، فكل ما هو فانٍ فهو قليل { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } يعني : نلجئهم { إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } يعني : شديد لا يفتر عنهم .
قوله عز وجل : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } يعني : الكفار { مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ } على إقراركم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ } يعني : الكفار { لاَّ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون .

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

ثم قال عز وجل : { للَّهِ مَا فِى السموات والارض } من الخلق { إِنَّ الله هُوَ الغنى } عن عبادة خلقه { الحميد } في فعاله . ويقال : حميد أي : محمود . يعني : يحمد ويشكر .
قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } الآية . قال قتادة : ذلك أن المشركين قالوا : هذا كلام يوشك أن ينفد وينقطع . فنزل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّ مَّا فِى الارض } الآية . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن اليهود أعداء الله . سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فنزل { وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] قالوا : كيف تقول هذا وأنت تزعم أن من أُوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً . فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير؟ فنزل { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } يقول : لو أن الشجر تبرى وتجعل أقلاماً { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } تكون كلها مداداً ، يكتب بها علم الله عز وجل ، لانكسرت الأقلام ، ولنفد المداد ، ولم ينفد علم الله تعالى . فما أعطاكم الله من العلم قليل فيما عنده من العلم . قرأ أبو عمرو : { والبحر يَمُدُّهُ } بنصب الراء . وقرأ الباقون : بالضم . فمن قرأ بالنصب نصبه . لأنّ معناه : ولو أن ما في الأرض وأن البحر يمده . ومن قرأ بالضم : فهو على الاستئناف { والبحر يَمُدُّهُ } يعني : أمد إلى كل بحر مثله ما نفدت { مَّا نَفِدَتْ كلمات الله } يعني : علمه وعجائبه . ويقال : معاني كلمات الله . لأن لكل آية ولكل كلمة من المعاني ما لا يدرك ولا يحصى .
ويقال : { مَّا نَفِدَتْ كلمات الله } لأن كلمات الله لا تدرك ما تكلم به في الأزل سبحانه وتعالى .
ثم قال : { أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } عزيز بالنعمة على الكافر ، حكيم حكم أنه ليس لعلمه غاية ، وأن العلم للخلق غاية .
ثم قال عز وجل : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } قال مقاتل : نزلت في أبي بن خلف وابني أسد منبه ونبيه كلاهما ابني أسد قالوا : إن الله عز وجل خلقنا أطواراً ، نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم يقول : إنه بعث في ساعة واحدة ، فقال الله عز وجل : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } أيها الناس جميعاً . يقال : هاهنا مضمر . فكأنه يقول : إلا كخلق نفس واحدة ، وكبعث نفس واحدة . ويقال : معناه قدرته على بعث الخلق أجمعين ، وعلى خلق الخلق أجمعين ، كقدرته على خلق نفس واحدة . ويقال : { كَنَفْسٍ واحدة } أي : إلا كخلق آدم عليه السلام .
ثم قال : { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لمقالتهم { بَصِيرٌ } بهم .

قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار } يعني : انتقاص كل واحد منها بصاحبه . ويقال : يدخل الليل في النهار ، والنهار في الليل { وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني : ذللهما لبني آدم { كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : يجريان في السماء إلى يوم القيامة ، وهو الأجل المسمى . ويقال : يجري كل واحد منهما إلى أجله في الغروب ، حتى ينتهى إلى وقت نهايته { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
روي عن أبي عمرو في إحدى الروايتين أنه قرأ { يَعْمَلُونَ } بالياء بلفظ المغايبة . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة .
ثم قال عز وجل : { ذلك } يعني : هذا الذي ذكر من صنع الله عز وجل بالنهار والليل والشمس والقمر { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } يعني : ليعلموا أن الله هو الحق { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } يعني : من الآلهة لا يقدرون على شيء من ذلك يعني : لا تنفعهم عبادتها . قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص : وإنما { يَدَّعُونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة لهم .
ثم عظّم نفسه فقال تعالى : { وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير } يعني : ليعلموا أن الله هو الرفيع الكبير . يعني : العظيم ، وهو الذي يعظم ويحمد .
ثم بيّن قدرته فقال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك } يعني : السفن { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى } أي : برحمة الله لمنفعة الخلق { لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته } يعني : من علامات وحدانيته . ويقال : من عجائبه . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : إن الذي ترون في البحر { لاَيَاتٍ } يعني : لعبارات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } على أمر الله عز وجل عند البلاء . ويقال : الذي يصبر في الأحوال كلها ، شكوراً لله عز وجل في نعمه . ويقال : { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعني : لكل مؤمن موحد . وإنما وصفه بأفضل خصلتين في المؤمن ، لأن أفضل خصال المؤمن : الصبر والشكر . والصبار هو للمبالغة في الصبر . والشكور على ميزان فعول هو للمبالغة في الشكر .
وروي عن قتادة أنه قال : إن أحب العباد إلى الله من إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر . فأعلم الله عز وجل أن المتفكر المعتبر في خلق السموات والأرض هو الصبار والشكور .
قوله عز وجل : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل } يعني : أتاهم موج ، كما يقال : من غشي سدد السلطان يجلس ويقوم . ويقال : علاهم . ويقال : غطاهم موج كالظلل يعني : كالسحاب . ويقال : كالجبال ، وهو جمع ظلة . يعني : يأتيهم الموج بعضه فوق بعض وله سواد لكثرته .
{ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } يعني : أخلصوا له بالدعوة { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } يعني : إلى القرار { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } يعني : فمنهم من يؤمن ، ومنهم من يكفر ولا يؤمن .
ثم ذكر المشرك الذي ينقض العهد فقال تعالى : { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } يعني : لا يترك العهد { إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } يعني : غدار بالعهد . كفور لله عز وجل في نعمه . وقال القتبي : الختر أقبح الغدر . { كَفُورٌ } على ميزان فعول . وإنما يذكر هذا اللفظ إذا صار عادة له كما يقال : ظلوم . وقد ذكر الكافر بأقبح خصلتين فيه ، كما ذكر المؤمن بأحسن خصلتين فيه وهو قوله : { صَبَّارٍ شَكُورٍ } .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ } يعني : وحّدوه وأطيعوه { واخشوا } يعني : واخشوا عذاب يوم { يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } يعني : هو جاز عن والده شيئاً ، ولا ينفع والد عن ولده . ويقال : لا يقضي والد عن ولده ما عليه { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } يعني : لا يقدر الولد أن ينفع والده شيئاً ، وهذا في الكفار خاصة . وأما المؤمن فإنه ينفع كما قال في آية أُخرى : { والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ ألتناهم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] ثم قال : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : البعث بعد الموت كائن ولا خلف فيه { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } يعني : لا يغرّنكم ما في الدنيا من زينتها وزهوتها ، فتركنوا إليها ، وتطمئنوا بها ، وتتركوا الآخرة والعمل لها { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } يعني : لا يغرنكم الشيطان عن طاعة الله عز وجل . ويقال : كل مضل هو شيطان . وقال أهل اللغة : { الغرور } بنصب الغين هو الشيطان . وبالضم أباطيل الدنيا .
قوله عز وجل : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } قال مقاتل : نزلت في رجل يقال له : الوليد بن عمرو من أهل البادية ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ أرضنا أجدبت ، فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى ، فماذا تلد؟ وقد علمت بأيِّ أرض ولدت ، فبأيِّ أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم ، فماذا أنا عامل غداً؟ ومتى الساعة؟ فنزل { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } يعني : علم القيامة لا يعلمه غيره { وَيُنَزّلُ الغيث } يعني : وهو الذي ينزل الغيث متى شاء { وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام } من ذكر وأنثى { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } في سهل أو جبل . وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ الله فَقَرَأ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } الآية » . وقال ابن مسعود كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الغيب الخمس . { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى آخر السورة . وقالت عائشة رضي الله عنها : من حدثكم بأنه يعلم ما في غد فقد كذب . ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } يعني : بأي مكان تموت ، وبأي قدم تؤخذ ، وبأي نفس ينقضي أجله .
وروى شهر بن حوشب قال : دخل ملك الموت على سليمان بن داود عليه السلام فقال رجل من جلسائه لسليمان : من هذا؟ فقال ملك الموت . فقال : لقد رأيته ينظر إليّ كأنه يريدني . فأريد أن تحملني على الريح حتى تلقيني بالهند . ففعل . ثم أتى ملك الموت إلى سليمان فسأله عن نظره ذلك . فقال : إني كنت أعجب أني كنت أمرت أقبض روحه في أرض الهند في آخر النهار وهو عندك .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } يعني : بهذه الأشياء التي ذكرها .

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

قوله تعالى : { الم تَنزِيلُ الكتاب } يعني : المنزل من الله عز وجل القرآن على معنى التقديم . يعني : أن هذا الكتاب تنزيل من الله عز وجل والكتاب وهو التنزيل . ويقال : معناه نزل به جبريل عليه السلام بهذا التنزيل { الكتاب } يعني : القرآن { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يعني : لا شك فيه أنه { مِن رَّبّ العالمين } .
فلما نزله جبريل جحده قريش ، وقالوا : إنما يقوله من تلقاء نفسه . فنزل { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } يعني : أيقولون اختلقه من ذات نفسه . وقال أهل اللغة : فرى يفري إذا قطعه للإصلاح . وأفرى يفري : إذا قطعه للاستهلاك .
فأكذبهم الله عز وجل قال : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ } يعني : القرآن . ولو لم يكن من الله عز وجل ، لم يكن حقاً وكان باطلاً ، ويقال : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ } يعني : نزل من عند ربك { لِتُنذِرَ قَوْماً } يعني : كفار قريش { مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } يعني : لم يأتهم في عصرك . ولكن أتاهم من قبل ، لأن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ما كانوا إلى جميع الناس . ويقال : معناه : لم يشاهدوا نذيراً قبلك . وإنما الإنذار قد كان سبق لأنه قال : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وقد سبق الرسل . ويقال : { مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } يعني : من قومهم من قريش .
ثم قال : { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } يعني : يهتدون من الضلالة . وأصل الإنذار هو الإسلام . يقال : أنذر العدو إذا أعلمه .
ثم دلّ على نفسه بصفة فقال عز وجل : { الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من السحاب والرياح وغيره { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } ولو شاء خلقها في ساعة واحدة لفعل . ولكنه خلقها في ستة أيام ، ليدل على التأني . ويقال : خلقها في ستة أيام لتكون الأيام أصلاً عند الناس { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } فيها تقديم يعني : خلق العرش قبل السموات . ويقال : علا فوق العرش من غير أن يوصف بالاستقرار على العرش . ويقال : استوى أمره على بريته فوق عرشه ، كما استوى أمره وسلطانه وعظمته دون عرشه وسمائه { مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ } يعني : من قريب ينفعكم في الآخرة { وَلاَ شَفِيعٍ } من الملائكة { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } يعني : أفلا تتعظون فيما ذكره من صفته فتوحّدونه .
ثم قال عز وجل : { يُدَبّرُ الامر } يقول : يقضي القضاء { مِنَ السماء إِلَى الارض } يعني : يبعث الملائكة من السماء إلى الأرض { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } يعني : يصعد إليه . قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا عمرو بن محمد بإسناده عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط .

قال : يدبر أمر الدنيا أربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل . أما جبرائيل فموكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فموكل بالنبات والقطر ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمور عليهم ، فذلك قوله عز وجل : { يُدَبّرُ الامر مِنَ السماء إِلَى الارض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } .
{ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ } يعني : في يوم واحد من أيام الدنيا كان مقدار ذلك اليوم { أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } أنتم . وقال القتبي : معناه يقضي في السماء ، وينزله مع الملائكة إلى الأرض ، فتوقعه الملائكة عليهم السلام في الأرض .
{ ثُمَّ يَعْرُجُ * إِلَى السماء } فيكون نزولها ورجوعها في يوم واحد مقدار المسير ، على قدر سيرنا { أَلْفَ سَنَةٍ } لأنّ بعد ما بين السماء والأرض خمسمائة عام . فيكون نزوله وصعوده ألف عام في يوم واحد . وروى جويبر عن الضحاك { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : يصعد الملك إلى السماء مسيرة خمسمائة عام ، ويهبط مسيرة خمسمائة عام في كل يوم من أيامكم وهو مسيرة ألف سنة .

ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)

ثم قال عز وجل : { ذلك عَالِمُ الغيب } يعني : ذلك الذي يفعل هذا هو عالم الغيب { والشهادة } يعني : ما غاب من العباد ، وما شاهدوه . ويقال : عالم بما كان ، وبما يكون . ويقال : عالم السر والعلانية . ويقال : عالم بأمر الآخرة وأمر الدنيا { العزيز } في ملكه { الرحيم } بخلقه .
قوله عز وجل : { الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : { خَلَقَهُ } بجزم اللام . وقرأ الباقون : بالنصب فمن قرأ بالجزم فمعناه : الذي أحسن كل شيء .
وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الإنسان في خلقه حسن ، والخنزير في خلقه حسن ، وكل شيء في خلقه حسن . ومن قرأ بالنصب فعلى فعل الماضي يعني : خلق كل شيء على إرادته ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم . ويقال : الذي علم خلق كل شيء خلقه . يعني : علم كيف خلق . ويقال : هل تحسن شيئاً . يعني : تعلم . ومعناه : الذي علم خلق كل شيء خلقه . ويقال : الحسن عبارة عن الزينة . يعني : الذي زين كل شيء خلقه وأتقنه كما قال : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [ النمل : 88 ] .
ثم قال : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } يعني : خلق آدم عليه السلام من طين من أديم الأرض { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ } أي : خلق ذريته من سلالة من النطفة التي تنسل من الإنسان . وقال أهل اللغة : كل شيء على ميزان فعالة ، فهو ما فضّل من شيء . يقال : نشارة ونخالة .
ثم رجع إلى آدم عليه السلام فقال عز وجل : { مّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني : سوى خلقه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } .
ثم رجع إلى ذريته فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار } ويقال : هذا كله في صفة الذرية يعني : ثم { جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ } يعني : من نطفة ضعيفة { ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني : جمع خلقه في رحم أمه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } يعني : جعل فيه الروح بأمره ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة } .
ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } يعني : لا تشكرون رب هذه النعم على حسن خلقكم ، فتوحّدوه . فلا تستعملوا سمعكم وأفئدتكم إلا في طاعتي . ويقال : ما هاهنا صلة . فكأنه يقول : تشكرونه قليلاً . ويقال : ما بمعنى : الذي . فكأنه قال : فقليل الذي تشكرون . وقد يكون الكلام بعضه بلفظ المغايبة .
ثم قال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } بلفظ المخاطب ، فكما قال : هاهنا { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } بلفظ المغايبة . ثم قال : { وَجَعَلَ لَكُمُ } بلفظ المخاطبة .

ثم قال عز وجل : { وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض } يعني : هلكنا وصرنا تراباً { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : أنبعث بعد الموت . وأصله ضلّ الماء في اللبن إذا غاب وهلك . وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قرأ { أءذا ضللنا } بالصاد ، وتفسيره النتن . يقال : صل اللحم إذا أنتن . وقراءة العامة بالضاد المعجمة أي : هلكنا . وقرأ ابن عامر : { وَقَالُواْ إءِذَا ضَلَلْنَا } إذ بغير استفهام { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } على وجه الاستفهام . قال : لأنهم كانوا يقرون بالموت ويشاهدونه . وإنما أنكروا البعث . ويكون الاستفهام في البعث دون الموت .
ثم قال عز وجل : { بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون } يعني : بالبعث جاحدون فلا يؤمنون به .
[ بم قوله عز وجل :

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

{ قُلْ يتوفاكم } يعني : يقبض أرواحكم { مَّلَكُ الموت } واسمه عزرائيل . وروي في الخبر أن له وجوهاً أربعة . فوجه من نار يقبض به أرواح الكفار ، ووجه من ظلمة يقبض به أرواح المنافقين ، ووجه من رحمة يقبض به أرواح المؤمنين ، ووجه من نور يقبض به أرواح الأنبياء والصديقين عليهم السلام والدنيا بين يديه كالكف ، وله أعوان من ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب . فإذا قبض روح المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة ، وإذا قبض روح الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب .
وروى جابر بن زيد أن ملك الموت كان يقبض الأرواح بغير وجه ، فأقبل الناس يسبونه ويلعنونه . فشكى إلى ربه عز وجل . فوضع الله عز وجل الأمراض والأوجاع . فقالوا : مات فلان بكذا وكذا .
ثم قال تعالى : { الذى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } بعد الموت أحياءً فيجازيكم بأعمالكم .
ثم قال عز وجل : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون } يعني : المشركون { الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } استحياء من ربهم بأعمالهم يقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا } الهدى { وَسَمِعْنَا } الإيمان . ويقال { أبصارنا } يوم القيامة بالمعاينة ، { وَسَمِعْنَا } يعني : أيقنوا حين لم ينفعهم يقينهم { فارجعنا } إلى الدنيا { نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ } يعني : أيقنّا بالقيامة . ويقال : { إِنَّا مُوقِنُونَ } يعني : قد آمنا ولكن لا ينفعهم . وقد حذف الجواب لأن في الكلام دليلاً ومعناه : ولو ترى يا محمد ذلك ، لرأيت ما تعتبر به غاية الاعتبار .
يقول الله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا } يعني : لأعطينا { كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنْى } يعني : وجب العذاب مني . ويقال : ولكن سبق القول بالعذاب وهو قوله : { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } من كفار الإنس ، ومن كفار الجن أجمعين . فيقول لهم الخزنة : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } يعني : ذوقوا العذاب بما تركتم { لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } يعني : تركتم العمل بحضور يومكم هذا . قال القتبي : النسيان ضد الحفظ ، والنسيان الترك . فقوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } أي : تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم { إِنَّا نسيناكم } يعني : تركناكم في العذاب . ويقال : نجازيكم بنسيانكم كما قال الله عز وجل : { أَمْ لَكُمْ كتاب فِيهِ تَدْرُسُونَ } [ التوبة : 67 ] { وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } الذي لا ينقطع أبداً { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من الكفر .

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

ثم قال الله عز وجل : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا } يعني : يصدق بآياتنا . يعني : بالعذاب { الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا } يعني : وعظوا بها . يعني : بآيات الله عز وجل { خَرُّواْ سُجَّداً } على وجوههم { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } يقول : وذكروا الله عز وجل بأمره { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن السجود كفعل الكفار . ويقال : { الذين إِذَا ذُكّرُواْ } يعني : دعوا إلى الصلوات الخمس . أتوها فصلوها ، ولا يستكبرون عنها .
قوله عز وجل : { تتجافى جُنُوبُهُمْ } قال مقاتل : نزلت في الأنصار . كانت منازلهم بعيدة من المسجد . فإذا صلوا المغرب كرهوا أن ينصرفوا ، مخافة أن تفوتهم صلاة العشاء في الجماعة . فكانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء . ويقال : الذي يصلي العشاء والفجر بجماعة . وقال أنس بن مالك : الذي يصلي ما بين المغرب والعشاء وهو صلاة الليل كما جاء في الخبر . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « رَكْعَةٌ فِي اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ رَكْعَةٍ فِي النَّهَارِ » قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا الخليل بن أحمد . قال : حدثنا السراج . قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم . قال : حدثنا أبو معاوية عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد العبسية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فيسِمعهمُ الدَّاعِي وَيَنْقُدُهُمْ البَصَرُ ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ اليَوْمَ مَنْ أوْلَى بِالكَرَمِ . فَأيْنَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؟ فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابِ . ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : أَيْنَ الَّذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله؟ فَيَقُومُونَ ، وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ . ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : أيْنَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ؟ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخَلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ . ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ فَيُحَاسَبُونَ » . فذلك قوله عز وجل : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } يعني : يصلون بالليل ويقومون عن فرشهم { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } خوفاً من عذابه ، وطمعاً في رحمته { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يعني : يتصدقون من أموالهم . يعني : صدقة التطوع ، لأنه قرنه بصلاة التطوع . ويقال : يعني : الزكاة المفروضة . والأول أراد به العشاء والفجر .
ثم بيَّن ثوابهم فقال عز وجل : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم } يعني : ما أعدّ لهم { مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } يعني : من الثواب في الجنة . ويقال : من طيبة النفس . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ : أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ » . قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .

قال مقاتل : قيل لابن عباس ، ما الذي أخفي لهم؟ قال : في جنة عدن ما لم يكن في جناتهم . قرأ حمزة { مَّا أُخْفِىَ } بسكون الياء . وقرأ الباقون : بنصبها . فمن قرأ بالسكون فهو على معنى الخبر عن نفسه . فكأنه قال : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم } ومن قرأ بالنصب فهو على فعل ما لم يسم فاعله على معنى أفعل . وقرىء في الشاذ { وَمَا أُخْفِىَ } يعني : { وَمَا أُخْفِىَ الله عَزِيزٌ عَرَّفَهَا لَهُمْ } ثم قال : { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : جزاء لأعمالهم .
قوله عز وجل : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } يعني : لا يستوون عند الله عز وجل في الفضل . نزلت الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط . وذلك أنه جرى بينهما كلام . فقال الوليد لعلي : بأي شيء تفاخرني؟ أنا والله أحد منك سناناً ، وأبسط منك لساناً ، وأملأ منك في الكتيبة عيناً . يعني : أكون أملأ مكاناً في العسكر . فقال له علي رضي الله عنه : اسكت فإنك فاسق فنزل { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } . وقال الزجاج : نزلت في عقبة بن أبي معيط . قال : ويجوز في اللغة لا يستويان . ولم يقرأ . والقراءة { لاَّ يَسْتَوُونَ } ومعناهما : لا يستوي المؤمنون والكافرون .
ثم بيّن مصير كلا الفريقين فقال تعالى : { أَمَّا الذين ءامَنُواْ } أي : أقروا بالله ورسوله والقرآن { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : الطاعات { فَلَهُمْ جنات المأوى نُزُلاً } يعني : يأوي إليها المؤمنون . ويقال : يأوي إليها أرواح الشهداء ، وهو أصح في اللغة .
ثم قال : { نُزُلاً } يعني : رزقاً . والنزل في اللغة هو الرزق . ويقال : { نُزُلاً } يعني : منزلاً { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : بأعمالهم .
ثم بيّن مصير الفاسقين فقال : { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ } يعني : عصوا ولم يتوبوا { فَمَأْوَاهُمُ النار } فسقوا يعني : نافقوا وهو الوليد بن عتبة ومن كان مثل حاله { فَمَأْوَاهُمُ النار } يعني : مصيرهم إلى النار ومرجعهم إليها { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } يعني : من النار { أُعِيدُواْ فِيهَا } ويقال : إن جهنم إذا جاشت ، ألقتهم في أعلى الباب . فطمعوا في الخروج منها ، فتلقاهم الخزنة بمقامع فتضربهم ، فتهوي بهم إلى قعرها { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } وقال في آية أُخرى : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ سبأ : 42 ] بلفظ التأنيث . لأنه أراد به النار وهي مؤنثة . وهاهنا قال { الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } بلفظ التذكير لأنه أراد به العذاب وهو مذكر .

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)

ثم قال عز وجل : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى } وهو المصيبات والقتل والجوع { دُونَ العذاب الاكبر } وهو عذاب النار . يعني : إن لم يتوبوا . ويقال : { العذاب الادنى } هو السحر للفاسقين ، والعذاب الأكبر النار إن لم يتوبوا . ويقال : { العذاب الادنى } عذاب القبر . وقال إبراهيم : يعني : سنين جدب أصابتهم . وقال أبو العالية : مصيبات في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يعني : يتوبون .
قوله عز وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ } يعني : وعظ بآيات ربه القرآن { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } يعني : عن الإيمان بها فلم يؤمن بها { إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } بالعذاب يعني : منتصرون .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } يعني : أعطينا موسى التوراة { فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ } قال مقاتل : يعني : فلا تكن في شك من لقاء موسى التوراة . فإن الله عز وجل ألقى عليه الكتاب . وقال في رواية الكلبي : { فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ } من لقاء موسى عليه السلام ، فلقيه ليلة أُسري به في بيت المقدس يعني : لقي النبي صلى الله عليه وسلم موسى هناك . ويقال : لقيه في السماء . وذكر الخبر المعروف أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة . فقال له موسى عليه السلام : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فلم يزل يرجع حتى حطّ الله عز وجل إلى الخمس ويقال : { فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ } يعني : من لقاء الله عز وجل وهو البعث بعد الموت . ويقال : { فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ } يعني : لا تشكن أنك تلقى موسى يوم القيامة .
ثم قال عز وجل : { وجعلناه هُدًى لّبَنِى إسراءيل } يعني : جعلنا التوراة بياناً لهم ، وهدى من الضلالة . ويقال : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى } يعني : جعلنا موسى هادياً لبني إسرائيل يدعوهم { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } يعني : وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } يعني : يدعون الناس إلى أمر الله عز وجل { لَمَّا صَبَرُواْ } أي : حين صبروا ويقال : هو حكاية المجازاة ، يعني لما صبروا جعلنا منهم أئمة ومن قرأ بالتخفيف { لَمَّا صَبَرُواْ } أي بكسر اللام والتخفيف . وقرأ الباقون بالنصب والتشديد . فمن قرأ بالتشديد { لَمَّا صَبَرُواْ } بما صبروا ، وتشهد لها قراءة ابن مسعود ، كان يقرأ { بِمَا صَبَرُواْ } . ويقال : معناه كما صبروا عن الدنيا ، وصبروا على دينهم ، ولم يرجعوا عنه . ويقال : معناه وجعلناهم أئمة بصبرهم { وَكَانُواْ بئاياتنا يُوقِنُونَ } يعني : يصدقون بالعلامات التي أعطي موسى .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

ثم قال عز وجل : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يعني : يقضي بينهم { يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين .
ثم خوّف كفار مكة فقال عز وجل : { أَوَ لَمْ *** يَهْدِ لَهُمْ } يعني : أو لم يبيِّن لهم الله تعالى . وقرىء في الشاذ { أَوَ لَمْ *** عَرَّفَهَا لَهُمْ } بالنون . وقرأ العامة بالياء .
{ كَمْ أَهْلَكْنَا } يعني : أو لم نبين لهم الهلاك { مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون } يعني : قوم لوط وصالح وهود { يَمْشُونَ فِى مساكنهم } يعني : يمرون في منازلهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } يعني : في إهلاكهم لآيات لعبرات { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } أي : أفلا يسمعون المواعظ فيعتبرون بها .
ثم قال عز وجل : { أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز } يعني : اليابسة الملساء التي ليس فيها نبات . يقال : أرض جرز أي : أرض جدب لا نبات فيها . يقال : جرزت الجراد إذا أكلت ، وتركت الأرض جرزاً { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً } يعني : نخرج بالماء النبات { تَأْكُلُ مِنْهُ أنعامهم } أي : من الكلأ والعشب والتبن { وَأَنفُسِهِمْ } من الحبوب والثمار { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } هذه العجائب فيوحّدوا ربهم .
قوله عز وجل : { وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح } قال مقاتل : أي متى هذا القضاء وهو البعث؟ وقال قتادة : { الفتح } القضاء . وقال مجاهد : { الفتح } يوم القيامة { إِن كُنتُمْ صادقين } تكذيباً منهم يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال عز وجل : { قُلْ } يا محمد { يَوْمَ الفتح } يعني : يوم القيامة { لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم } قال في رواية الكلبي : إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتذاكرون فيما بينهم وهم بمكة قبل فتح مكة لهم . وكان ناس من بني خزيمة كانوا إذا سمعوا ذلك منهم ، يستهزئون بهم ويقولون لهم : متى فتحكم هذا الذي كنتم تزعمون؟ ويقولون : فنزل يعني : بني خزيمة . { متى هذا الفتح } يا أصحاب محمد إن كنتم صادقين .
{ قُلْ } يا محمد { يَوْمَ الفتح } أي : فتح مكة { لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم } من القتل { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } حتى يقتلوا . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة ، وقد كانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية . يعني : الحقد . فقالوا : قد أسلمنا . فقال لهم : انزلوا . فنزلوا فوضع فيهم السلاح فقتل منهم ، وأسر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالَدُ بْنُ الوَلِيدِ » ؟ فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدية من غنائم خيبر ، فذلك قوله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم } من القتل { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يعني : يؤجلون .

ثم قال عز وجل : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } يا محمد { وانتظر } لهم فتح مكة ويقال : العذاب . { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } بهلاكك . وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل ، وتبارك الذي بيده الملك . وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ قَرَأ الم السَّجْدَة ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَى لَيْلَةَ القَدْرِ » والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

قوله تبارك وتعالى : { ياأيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين } قال مقاتل : وذلك أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي ، قدموا المدينة بعد أحد ، وبعد الهدنة . فمروا على عبد الله بن أبي المنافق . فقام معهم عبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق . فجاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . فقالوا له : اترك ذكر آلهتنا . وقل : إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها ، وندعك وربك . فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه ائذن لي في قتلهم . فقال : «قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الأَمَانَ» . فلم يأذن له بالقتل وأمره بأن يخرجهم من المدينة . فقال لهم عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه . فنزل { مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله } وقال مقاتل في رواية الكلبي : قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فنزلوا على عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس ، فتكلموا فيما بينهم . فلما اجتمعوا في أمر فيما بينهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونه إلى أمرهم ، وعرضوا عليه أشياءً فكرهها منهم . فهمّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فنزل { مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله } ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدةَ . { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة فيما دعوك إليه . ويقال : إن المسلمين أرادوا أن ينقضوا العهد فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم . فنزل { مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله } في نقض العهد . وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأراده هو وأصحابه . ألا ترى أنه قال في سياق الآية : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بما اجتمعوا عليه { حَكِيماً } حيث نهاك عن نقض العهد وحكم بالوفاء .
قوله عز وجل : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ } يعني : ما في القرآن { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } من وفاء العهد ونقضه { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } يعني : ثق بالله ، وفوض أمرك إلى الله تعالى { وكفى بالله وَكِيلاً } يعني : حافظاً وناصراً . قرأ أبو عمرو : { بِمَا يَعْمَلُونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

قوله عز وجل : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } قال مقاتل : نزلت في جميل بن معمر ، ويكنى أبا معمر . وكان حافظاً بما يسمع ، وأهدى الناس للطريق . يعني : طريق البلدان وكان مبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم . وكان يقول : إن لي قلبين . أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك ، حتى كان يوم بدر فانهزم ، وهو آخذ بإحدى نعليه في أصبعه ، والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب . وكان لا يعلم بذلك ، حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه ، والأخرى في رجله . فعرفوا أنه ليس له قلبان . ويقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى في صلاته ، فقال المنافقون : لو أن له قلبين أحدهما في صلاته ، والآخر مع أصحابه ، فنزل { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } .
وروى معمر عن قتادة قال : كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه . فقال الناس : ما يعي هذا إلا أن له قلبين . وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية . وروى معمر عن الزهري قال : بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة . ضرب الله مثلاً يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك ، كما لا يكون لرجل آخر من قلبين .
وذكر عن الشافعي أنه احتج على محمد بن الحسن قال : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ } يعني : ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام . يعني : لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من أبوين . ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين . فلو أراد به على وجه القياس لا يصح . لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما . وذكر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أن جارية كانت بين رجلين ، جاءت بولد فادعياه . فقالا : إنه ابنهما يرثهما ويرثانه .
ثم قال عز وجل : { وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم } قرأ عاصم { تظاهرون } بضم التاء وكسر الهاء والألف . وقرأ ابن عامر : { تظاهرون } بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : { تُظْهِرُونَ } بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد . وقرأ حمزة والكسائي { تظاهرون } بنصب التاء والتخفيف مع الألف . وهذه كلها لغات . يقال : ظاهر من امرأته ، وتظاهر ، وتظهر بمعنى واحد . وهو أن يقول لها : أنت علي كظهر أمي . فمن قرأ : { تُظْهِرُونَ } بالتشديد ، فالأصل تظهرون ، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وشددت . من قرأ { تظاهرون } فالأصل يتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين . ومن قرأ بالتخفيف حذف إحدى التاءين ، ولم يشدد للتخفيف كقوله : { تُسْأَلُونَ } والأصل تتساءلون ، والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة .

ثم قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبنّاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان ، فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه ، ولا ابن غيره يكون ابنه .
ثم قال : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم } يعني : قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم { والله يَقُولُ الحق } يعني : يبيّن الحق ، ويأمركم به كي لا تنسبوا إليه غير النسبة { وَهُوَ يَهْدِى السبيل } يعني : يدلّ على طريق الحق . يقال : يدلّ على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم . وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال : كان زيد بن حارثة مملوكاً لخديجة بنت خويلد ، فوهبته خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ، وتبناه ، فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله : { ادعوهم لاِبَائِهِمْ } يعني : انسبوهم لآبائهم . فقالوا : زيد بن حارثة { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } يعني : أعدل عند الله عز وجل { ادعوهم لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ } يعني : إن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين } أي : قولوا ابن عبد الله وابن عبد الرحمن { ومواليكم } يعني : قولوا مولى فلان . وكان أبو حذيفة أعتق عبداً يقال له : سالم وتبناه ، فكانوا يسمونه سالم بن أبي حذيفة . فلما نزلت هذه الآية سموه سالماً مولى أبي حذيفة .
ثم قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } يعني : أن تنسبوهم إلى غير آبائهم قبل النهي . ويقال : ما جرى على لسانهم بعد النهي ، لأن ألسنتهم قد تعودت بذلك { ولكن } الجناح فيما { مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } يعني : قصدت قلوبكم بعد النهي .
وروي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمرو عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تَجَاوَزَ الله عَنْ أمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » . وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى ناسياً . فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن ينفث عن يساره ثلاثاً ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
ثم قال : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يعني : غفوراً لمن أخطأ ثم رجع { رَّحِيماً } بهم .

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

قوله عز وجل : { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } يعني : ما يرى لهم رأياً فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم . ويقال : معناه النبي أرحم بالمؤمنين من أنفسهم { وأزواجه أمهاتهم } يعني : كأمهاتهم في الحرمة . وذكر عن أبي أنه كان يقرأ { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وهو أب لهم { وأزواجه أمهاتهم } { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } قال في رواية الكلبي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الناس . فكان يؤاخي بين الرجلين . فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله . فمكثوا في ذلك ما شاء الله حتى نزلت هذه الآية : { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } . { فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين } الذين آخى بينهم فصارت المواريث بالقرابات ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً فَإلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ » . فأمر بصرف الميراث إلى العصبة .
ثم قال تعالى : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } يعني : إلا أن يوصي له بثلث ماله . وقال مقاتل : كان المهاجرون والأنصار يرثون بعضهم من بعض بالقرابة ، ولا يرث من لم يهاجر إلا أن يوصي للذي لم يهاجر . ثم نسخ بما في آخر سورة الأنفال .
ثم قال : { كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا } يعني : هكذا كان مكتوباً في التوراة . ويقال : في اللوح المحفوظ . ويقال : في القرآن .
قوله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } وهو الوحي الذي أوحى إليهم أن يدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل ، وأن يصدق بعضهم بعضاً . ويقال : الميثاق الذي أخذ عليهم من ظهورهم . ويقال : كل نبي أمر بأن يأمر من بعده بأن يخبروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي إليه .
ثم قال : { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } في هذا تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد ذكر جملة الأنبياء عليهم السلام ثم خصّه بالذكر قبلهم ، وكان آخرهم خروجاً . ثم ذكر نوحاً لأنه كان أولهم . ثم ذكر إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صلوات الله عليهم لأن كل واحد منهم كان على أثر بعض .
فقال : { وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } ثم قال : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } يعني : عهداً وثيقاً أن يعبدوا الله تعالى ، ويدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل ، وأن يبشروا كل واحد منهم بمن بعده .
ثم قال عز وجل : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ } يعني : أخذ عليهم الميثاق لكي يسأل الصادقين عن صدقهم . يعني : يسأل المرسلين عن تبليغ الرسالة . ويسأل الوفيّين عن وفائهم .

وروي في الخبر : أنه يسأل القلم يوم القيامة . فيقول له : ما فعلت بأمانتي؟ فيقول : يا رب سلمتها إلى اللوح . ثم جعل القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح . فيسأل اللوح بأن القلم قد أدى الأمانة ، وأنه قد سلم إلى إسرافيل . فيقول لإسرافيل : ما فعلت بأماتني التي سلمها إليك اللوح؟ فيقول : سلمتها إلى جبريل . فيقول لجبريل عليه السلام : ما فعلت بأمانتي . فيقول : سلمتها إلى أنبيائك . فيسأل الأنبياء عليهم السلام فيقولون : قد سلمناها إلى خلقك ، فذلك قوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ } { وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً } يعني : الذين كذبوا الرسل قوله عز وجل :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)

{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : احفظوا منة الله عليكم بالنصرة . { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } يعني : الأحزاب . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكونوا عليه ، ولا معه . فنقضت بنو النضير عهودهم ، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ، وذكر قصتهم في سورة الحشر .
ثم إنّ بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن حيي بن أخطب ركب ، وخرج إلى مكة . فقال لأبي سفيان بن حرب : إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلاً . فحثّه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك . ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك . فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة . وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريباً من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل . ويقال : ثمانية عشر ألف رجل . ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة . فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة . فاستأذن عليه . فقال لجاريته : انظري من هذا؟ فعرفته الجارية فقالت : هذا حيي بن أخطب . فقال : لا تأذني له عليّ . فإنه مسؤوم إنه قد سأم قومه . يريد أن يسأمنا زيادة . فقالت له الجارية : ليس هاهنا فقال حيي بن أخطب بلى هو ثم ولكن عنده قدر جيش لا يحب أن يشركه فيها أحد . فقال كعب : أحفظني أخزاه الله . يعني : أغضبني ائذني له في الدخول . فدخل عليه . فقال له : يجيئُك مليكك ، قد جئتك بعارض برد جئتك بقريش بأجمعها ، وكنانة بأجمعها ، وغطفان بأجمعها . لا يذهب هذا الفوز حتى يقتل محمد . فانقض الحلف بينك وبين محمد . فقال له كعب بن الأشرف : إن العارض ليسبب بنفحاته شيئاً . ثم يرجع وأنا في بحر لجي ، لا أقدر على أن أريم داري ومالي . والله ما رأينا جاراً قط خيراً من محمد ما خفر لنا بذمة ، ولا هتك لنا ستراً ولا آذانا ، وإنما أخشى أن لا يقتل محمد ، وترجع أنت وأقتل أنا . فقال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمداً في هذا الغور ، لأدخلنّ معكم حصنكم ، فيصيبني ما أصابكم . فنقض الحلف ، وشقّ الصحيفة ، فقدم بنعيم بن مسعود المدينة ، وكان تاجراً يقدم من مكة . فقال : يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بذلك » . فقال عمر : إن كنت أمرتهم بذلك ، وإن كنت تأمرهم بذلك ، فقتالهم علينا هيّن . فقال : « مَا أَنا بِكَذَّابٍ ، ولكن الحَرْبَ خُدْعَةٌ » .

ونعيم لم يسلم ذلك اليوم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف ، يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم . وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل . فأبى كعب بن الأشرف ، وجرى بينهم كلام . وسبّ سعد بن معاذ . فقال أسيد بن حضير : أتسب سيدك معاذاً يا عدو الله؟ ما هو لك بكفؤ . فقال سعد بن معاذ : اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم . فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث .
فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان . فقال : يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة . أخبرني بأنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة . فقال سلمان الفارسي : إنا كنا يا رسول الله بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود ، خندقنا على أنفسنا . فهل لك أن تخندق خندقاً؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة ، وخندق وأخذ المعول بيده ، فضرب لكي يقتدي الناس . فضرب ضربةً فأبرق برقة ، حتى ظهر ضوء بضربته .
ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ، ثم ضرب الثالثة فقال سلمان : لقد رأيت أمراً عجيباً . لقد رأيت ذلك . قال : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ رَأَيْتُ بِالأُولَى قُصُورَ الشَّامِ ، وَبِالثَّانِيَةِ قُصُورَ كِسْرَى؛ وَبِالثَّالِثَةِ قُصُورَ اليَمَنِ . فهذه فُتُوحٌ يَفْتَحُ الله عَلَيْكُمْ » . فقال ناس من المنافقين : يعدنا أن تفتح الشام ، وأرض فارس ، واليمن . وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء . ما يعدنا إلا غروراً .
فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة ، فأرسل عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة ، نرجع عنك بغطفان وكنانة ، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا » . فقال : فنصف ذلك التمر . قال : « نعم » . وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس ، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج . فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة ، والحارث بن عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب لنا كتاباً . فدعى بصحيفة ليكتب بينهم . فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة : يا رسول الله أوحي إليك في هذا شيء . فقال : « لا ولكنني رَأَيْتُ العَرَبَ رَمَتْكُمْ مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَقُلْتُ أَرُدُّ هؤلاء وَأُقَاتِلُ هؤلاء » فقالا : ما رجون بهذا منها في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا بشراء وقرًى . فحين زادنا الله بك ، وأمدنا بك ، وأكرمنا بك ، نعطيهم الدنية . لا نعطيهم شيئاً إلا بالسيف . فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة قال :

« اذْهَبُوا فَلا نُعْطِيكُمْ شَيْئاً إلاَّ بِالسَّيْفِ » . فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حييّ بن أخطب أن استعدَّ غداً إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يعدوا . فلما جاء بني قريظة الرسول ، فقالوا : غداً يوم السبت لا نقاتل فيه . فقال أبو سفيان : نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد . هاتوا لنا رهوناً أبناءكم نثلج إليهم أي : نطمئن بذلك .
فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة ، وقد أمسوا ، فقالوا : هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ، ولا يخرج من عندنا أحد . فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه خوان حق ، وأن نقض العهد كان مكراً منهم .
فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال : « مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ القَوْمُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ » . فما تحرك منهم أحد . ثم صلى الثلث الثاني فقال : « من رجل ينظر ما يفعل القوم » فما تحرك منهم أحد ثم صلى ساعة ، ثم هتف مرة أخرى ، فما تحرك منهم إنسان . فقال : « يَا حُذَيْفَةُ » فجاء حذيفة . فقال : « أَمَا سَمِعْتَ كَلامِي مُنْذُ اللَّيْلَة » . قال : بلى . ولكن بي من الجوع والقر يعني : البرد لم أقدر على أن أجيبك . قال : « اذْهَبْ فَانْظُرْ ما فَعَلَ القَوْمُ ، وَلاَ تَرْمِي بِسَهْمٍ ، وَلاَ بِحَجَرٍ ، وَلاَ تَطْعَنْ بِرمْحٍ ، وَلاَ تَضْرِبْ بِسَيْفٍ » . فقال : يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني ، إني لميت . ولكن أخشى أن يمثلوا بي . فقال : « لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ » . فلما قال هذا ، قال حذيفة : آمنت وعرفت أنه لا بأس علي . فلما ولى حذيفة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ » . فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش ، فإذا هم يصطلون يعني : مجتمعين على نار لهم . فجلس حذيفة في حلقة منهم . فقال : أتدرون ما يريد الناس غداً؟ قالوا : ماذا يريدون؟ قال : يقولون : يعني : أهل العساكر أين قريش؟ أين سادات الناس وقادتهم؟ فتجيئون فيطرحونكم في نحور العدو . فتقتلوا أو تفروا . فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر .
ثم دخل عسكر بني كنانة . فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً؟ قالوا : ماذا يريدون؟ قالوا : يقولون أين بنو كنانة؟ أين ذروة العرب؟ أين رماة الخندق؟ فتجيبون . فيطرحونكم في نحور العدو؟ فتقتلوا أو تفروا .
ثم دخل عسكر غطفان ، فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً؟ قولوا ماذا يريدون؟ قال : يقولون أين غطفان؟ أين بنو فزارة بن حلاس الخيول؟ فتجيبون .

فيطرحونكم في نحور العدو . فتقتلوا أو تفروا .
قال : فبعث الله تعالى عليهم ريحاً شديدة ، فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ، ولا إناء إلا أكفأته . وقلعت أوتاد خيولهم ، وجالت الخيول بعضها في بعض . فقالوا فيما بينهم : لقد بدا محمد بالسر . فالنجاة النجاة . فركب أبو سفيان جمله معقولاً ، فما حلّ عقاله إلا بعد أن انبعث . قال حذيفة : ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت . ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فترحلوا كلهم وذهبوا .
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها . فنزل { الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } في الدفع عنكم { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } من المشركين { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } شديدة { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } من الملائكة . وذلك كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح ، وهي ريح الصبا . وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } في أمر الخندق .

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله عز وجل : { إِذْ جاؤوكم مّن فَوْقِكُمْ } يعني : أتاكم المشركون من فوق الوادي . يعني : طلحة بن خويلد الأسدي { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } من قبل المغرب وهو أبو الأعور السلمي . ويقال : { مّن فَوْقِكُمْ } أي : من قبل المشرق ، مالك بن عوف ، وعيينة بن حصن الفزاري ، ويهود بني قريظة . { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أبو سفيان . فلما رأى ذلك قالوا : { وَإِذْ زَاغَتِ الابصار } يعني : شخصت الأبصار فوقاً يعني : أبصار المنافقين ، لأنهم أشد خوفاً كأنهم خشب مسندة { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } خوفاً ، هذا على وجه المثل . ويقال : اضطراب القلب يبلغ الحناجر . ويقال : إذا خاف الإنسان ، تنتفخ الرئة ، وإذا انتفخت الرئة ، يبلغ القلب الحنجرة . ويقال للجبان : منتفخ الرئة .
{ وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } يعني : الإياس من النصرة . يعني : ظننتم أن لن ينصر الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم ، قرأ ابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص : الظنون بالألف عند الوقف ، ويطرحونها عند الوصل . وكذلك في قوله { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : بالألف في حال الوصل والوقف . وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالتين جميعاً . فمن قرأ بالألف في الحالين ، فلاتباع الخط . لأن في مصحف الإمام وفي سائر المصاحف بالألف . ومن قرأ بغير ألف فلأن الألف غير أصلية ، وإنما يستعمل هذه الألف الشعراء في القوافي . وقال أبو عبيدة : أحب إلي في هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليها بالألف ، ليكون متبعاً للمصحف ، واللغة .
ثم قال عز وجل : { هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون } يعني : عند ذلك اختبر المؤمنون . يعني : أمروا بالقتال والحضور . وكان في ذلك اختباراً لهم { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أي : حركوا تحريكاً شديداً واجتهدوا اجتهاداً شديداً .
{ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } وهم لم يقولوا رسول الله ، وإنما قالوا باسمه . ولكن الله عز وجل ذكره بهذا اللفظ .
قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } يعني : جماعة من المنافقين { مّنْهُمْ ياأهل . يَثْرِبَ } يعني : يا أهل المدينة وكان اسم المدينة يثرب ، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرأ عاصم في رواية حفص : بضم الميم . وقرأ الباقون : بالنصب . فمن يقرأ بالضم فمعناه لا إقامة لكم . ومن قرأ بالنصب ، فهو بالمكان أي : لا مكان لكم تقومون فيه ، والجمع المقامات . وكان أبو عبيدة يقرأ بالنصب ، لأنه يحتمل المقام والمكان جميعاً . يعني : أن المنافقين قالوا : خوفاً ورعباً منهم : لا مقام لكم عند القتال .
{ فارجعوا } يعني : فانصرفوا إلى المدينة { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى } وهم بنو حارثة وبنو سلمة ، وذلك أن بيوتهم كانت من ناحية المدينة { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } يعني : ضائعة ، نخشى عليها السراق .

ويقال : معناه أن بيوتنا مما يلي العدو ، وإنا لا نأمن على أهالينا . وقال القتبي : أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ . وكان الرجال ستراً وحفظاً للبيوت . فقالوا : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } يعني : خالية والعرب تقول : اعور منزلك أي : إذا سقط جداره .
يقول الله تعالى : { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } لأن الله عز وجل يحفظها ، يعني : وما هي بخالية { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي : ما يريدون إلا فراراً من القتال .
ثم قال : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا } يعني : لو دخل العسكر من نواحي المدينة { ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة } يعني : دعوهم إلى الشرك { لاَتَوْهَا } قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : { لاَتَوْهَا } بالهمزة بغير مد . وقرأ الباقون : بالهمز والمد . فمن قرأ بالمد { لاَتَوْهَا } يعني : لأعطوها . ومن قرأ بغير مد معناه صاروا إليها وجاؤوها وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني : لو دعوا إلى الشرك لأجابوا سريعاً .
{ وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً } أي : وما تحسبوا بالشرك إلا قليلاً . يعني : يجيبوا سريعاً . ويقال : لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بالمدينة إلا قليلاً .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ } يعني : من قبل قتال الخندق حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، خرج سبعون رجلاً من المدينة إلى مكة . فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة إلى السبعين ، فبايعهم وبايعوه . فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : « أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً وأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ به أَنْفُسَكُمْ وَأَوْلادَكُمْ » . فقالوا : قد فعلنا ذلك . فما لنا؟ قال عليه السلام : « لكم النصرة في الدنيا ، والجنة في الآخرة » . قالوا : قد فعلنا ذلك ، فذلك قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ } { لاَ يُوَلُّونَ الادبار } منهزمين { وَكَانَ عَهْدُ الله * مَسْؤُولاً } يعني : يسأل في الآخرة من ينقض العهد .
قوله عز وجل : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : لا تؤجلون إلا يسيراً ، لأن الدنيا كلها قليلة . ثم قال عز وجل : { قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله } يعني : يمنعكم من قضاء الله وعذابه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً } يعني : القتل { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } أي : عافية . ويقال : { سُوءا } يعني : الهزيمة { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } يعني : خيراً . وهو النصر . يعني : من يقدر على دفع السوء عنكم وجر الخير إليكم { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } يعني : قريباً ومانعاً .

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

قوله عز وجل : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } يعني : يرى المثبطين منكم ، المانعين من القتال منكم وهم المنافقون { والقائلين لإخوانهم } يعني : لأوليائهم وأصدقائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } يعني : ارجعوا إلينا إلى المدينة ، وهذا بلغة أهل المدينة ، يقولون للواحد وللاثنين والجماعة : هلم وسائر العرب تقول للجماعة : هلموا .
ثم قال : { وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً } وذلك أن المنافقين كانوا يقولون : إن لنا شغلاً ، فيرجعون إلى المدينة ، فإذا لقيهم أحد بالمدينة من المؤمنين يقولون : دخلنا لشغل ونريد أن نرجع . وإذا لقوا أحداً من المنافقين يقولون : أي شيء تصنعون هناك؟ ارجعوا إلينا { وَلاَ يَأْتُونَ البأس } يعني : ولا يحضرون القتال إلا قليلاً ، رياءً وسمعةً . ولو كان ذلك لله لكان كثيراً وهذا كقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } .
ثم قال عز وجل : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } يعني : أشفقة عليكم ، حباً لكم حتى يعوقكم يا معشر المسلمين . ويقال : يعني : بخلاء في النفقة عليكمْ ويقال : فيه تقديم . فكأنه يقول : ولا يأتون البأس شفقة عليكم أي : لم يحضروا شفقة عليكم { إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : لا قليلاً ولا كثيراً .
{ فَإِذَا جَاء الخوف } يعني : خوف القتال { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } من الخوف { تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } يعني : تدور أعينهم كدوران الذي هو في غثيان الموت ، ونزعاته جبناً وخوفاً { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف } وجاءت قسمة الغنيمة { سَلَقُوكُم } يعني : رموكم . ويقال : طعنوا فيكم { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } يعني : سلاط باسطة بالشر { أَشِحَّةً عَلَى الخير } يعني : حرصاً على الغنيمة . ويقال : بخلاً على الغنيمة { أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } يعني : لم يصدقوا حقّ التصديق { فَأَحْبَطَ الله أعمالهم } يعني : أبطل الله ثواب أعمالهم . { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } يعني : إبطال أعمالهم . ويقال : عذابهم في الآخرة على الله هيّن .
ثم قال عز وجل : { يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } يعني : يظنون أن الجنود لم يذهبوا من الخوف والرعب { وَإِن يَأْتِ الاحزاب } مرة أخرى . ويقال : حكاية عن الماضي { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب } يعني : تمنوا أنهم خارجون في البادية مع الأعراب { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ } يعني : عن أخباركم وأحاديثكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } يعني : معكم في القتال { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } رياءً وسمعةً من غير حسبة . وقرىء في الشاذ { يُسْئَلُونَ } بتشديد السين وأصله يتساءلون أي : يسأل بعضهم بعضاً . وقراءة العامة { يُسْئَلُونَ } لأنهم يسألون القادمين . ولا يسأل بعضهم بعضاً .
قوله عز وجل : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قرأ عاصم { أُسْوَةٌ } بضم الألف . وقرأ الباقون : بالكسر . وهما لغتان ومعناهما واحد . يعني : لقد كان لكم اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقدوة حسنة ، وسنة صالحة ، لأنه كان أسبقهم في الحرب .

وكسرت رباعيته يوم أحد . وَوَاسَاكُمْ بنفسه في مواطن الحرب .
{ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } يعني : يخاف الله عز وجل { واليوم الاخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً } باللسان { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب } يعني : الجنود يوم الخندق والقتال { قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } في سورة البقرة وهو قوله عز وجل : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد } [ البقرة : 214 ] الآية . ويقال : إنه قد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نازل ذلك الأمر . فلما رأوه { قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً } يعني : لم يزدهم الجهد والبلاء إلا تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وَجُرْأَةً { وَتَسْلِيماً } يعني : تواضعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم نعت المؤمنين .

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

فقال عز وجل : { مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } يعني : وفوا بالعهد الذي عاهدوا ليلة العقبة { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني : أجله فمات . أو قتل على الوفاء . يعني : وفاء بالعهد . وقال القتبي : النحب في اللغة النذر . وذلك أنهم نذروا ، إذا لقوا العدو أن يقاتلوا فقتل في القتال ، فسمي قتله قضاء نحبه ، واستعير النحب مكان الموت . وقال مجاهد : النحب العهد .
وروى عيسى بن طلحة قال : جاء أعرابي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين قضوا نحبهم فأعرض عنه . وطلع طلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ » . ثم قال عزّ وجلّ : { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } يعني : ينتظر أجله { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } يعني : ما غيّروا بالعهد الذي عهدوا تغييراً .
ثم قال عز وجل : { لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ } يعني : الوافين بوفائهم { وَيُعَذّبَ المنافقين } يعني : إذا ماتوا على النفاق { إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يعني : يقبل توبتهم إن تابوا { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لمن تاب منهم رحيماً بهم قوله عز وجل : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } يعني : صدهم وهم الكفار الَّذين جاؤوا يوم الخندق { بِغَيْظِهِمْ } يعني : صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } يعني : لم يصيبوا ما أرادوا من الظفر والغنيمة { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } يعني : دفع الله عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحاً وجنوداً .
{ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل المدينة ، ودخل على فاطمة رضي الله عنها ، وأراد أن يغسل رأسه . فجاءه جبريل عليه السلام : وقال : لا تغسل رأسك ، ولكن اذهب إلى بني قريظة . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقال : إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه : وضعت سلاحك؟ قال : « نعم » قال : ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد ، وقد أمرك الله عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال : « عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لا تُصَلُّوا العَصْرَ إلاّ بِبَنِي قُرَيْظَة » . فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه ، واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح . فقال : « مَنْ أَمَرَكُمْ أنْ تَلْبَسُوا السِّلاحَ » . فقالوا : دحية الكلبي . وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته .

فلما جاء بني قريظة ، وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها ، وأبى بعضهم فقالوا : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي حتى نأتي بني قريظة . فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس ، ولم يصلوا العصر . قال : فلم يؤنب أحداً من الفريقين ، أي : رضي بما فعل الفريقان جميعاً . وفيه دليل لقول بعض الناس : إن لكل مجتهد نصيب .
فجاء علي رضي الله عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن . فسبت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، ورجع إليه علي رضي الله عنه ، فقال : تأخر يا رسول الله ونحن نكفيك فيهم . قال : « سَبُّونِي وَلَوْ كَانُوا دُونِي لَمْ يَسُبُّونِي » . فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ انزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وحُكْمِ رَسُولِهِ » . فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً . ورجع حيي بن أخطب من الروحاء ، وقد ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف ، ودخل معهم في حصنهم ، ونزل بنو سعد بن شعبة أسد وثعلبة ، فأسلموا . وأبى من بقي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر : « اذْهَبْ فَقُلْ لِحُلَفَائِكَ وَمَوَالِيكَ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامَ » . فجاءهم أبو لبابة . فقال : انزلوا على حكم الله ورسوله . فقالوا : يا أبا لبابة نصرناك يوم بعاث ، ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج ، ونحن مواليك وحلفاؤك ، فانصح لنا ماذا ترى؟ فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني : الذبح . فقالوا : لا تفعل يعني : لا ننزل . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « خنت الله ورسوله » . فقال : نعم .
فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب الله عليه ، والتمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده . فقالوا : إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشبة المسجد . فقال : « لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ فأمَّا إذ رَبَطَ نَفْسَهُ فَدَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ الله عَلَيْهِ » . ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فحلّه ، فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة : أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام؟ فقال لنا : جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش ، وأنه يبعث بالذبح والقتل والسب ، فلا يهولنكم ذلك ، وكونوا أولياءه وأنصاره . فقالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، لا نتبع قوماً أميين ما درسوا كتاباً قط ، فلا نفعل .
فقال كعب بن أسد : أطيعوني في إحدى ثلاث : قالوا : وما هي؟ فقال : إنكم لتعرفون أنه رسول الله . فاتبعوه ، وانصروه ، وكونوا أنصاره وأولياءه . فقالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا .

فقال : إما إذا أبيتم ، فإن هذه ليلة السبت ، هم يأمنونكم ، انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم . فقالوا لا نكسر سبتنا . فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم ، فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير . قال : فإن أبيتم هذا . فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم . ثم انزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراماً . فقالوا : لا نفعل . فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عَلَى حُكْمِ مَنْ تَنْزِلُونَ؟ » قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ ، وكان جريحاً قد رمته بني قريظة ، فأصاب أكحله ، فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة . فأتي به على حمار ، فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة ، وكانوا يقولون له : يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بعاث ، ويوم حدائق ، فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة . فقال سعد : قد آن لي أن لا أخاف في الله لومة لائم . فعرفوا أنه سوف يقتلهم . فرجعوا عنه . فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم : لمن حوله : « قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ » . فقام إليه الأنصار ، فأنزلوه . فقال : « احْكُمْ فِيهِمْ يَا أبا عَمْرٍو » . فقال سعد لليهود : أترضون بحكمي؟ قالوا : نعم . فقال : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا : نعم . فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهاب أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : وَعَلَيَّ مِنْ هَاهُنَا مثل ذلك ، وإنه ليغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « نَعَمْ نَعَمْ وَعَلَيْنَا » . فقال لبني قريظة : انزلوا فلما نزلوا . قال : احكم فيهم يا رسول الله أن تقتل مقاتليهم ، وتسبي ذراريهم ، وتقسم أموالهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ مَنْ فَوْقَ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ » . فأتى حيي بن أخطب مأسوراً في حلة . فجاءه رجل من الأنصار ، فنزع رداءه ، فبقي في إزاره ، فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول : لا بأس بأمر الله . فلما جاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألَمْ يُمَكِنِّي الله مِنْكَ يَا عَدُوَّ الله » فقال : بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه ، وقلقلت في كل مقلقل ، فأبى الله إلا أن يمكّنك مني . فأمر بضرب عنقه .
ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال : « أَلَمْ يُمْكِنِّي الله مِنْكَ » فقال : بلى يا أبا القاسم ، فضرب عنقه .

ثم قال لسعد : " عَلَيْكَ بِمَنْ بَقِيَ " . وقال : " لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّيْنِ حَرَّ الهَاجِرَةِ ، وَحَرَّ السَّيْف " . فحسبهم كذلك في دار الحارث ، وفي بعض الروايات ببيت خراب» .
ثم أخرجهم رسلاً فقتلهم على الولاء والترتيب . فقال بعضهم لبعض : ما تراهم يصنعون بنا؟ فقال واحد : ألا تعقلون أنهم يقتلون؟ ألا ترون أن الداعي لا يسكت؟ ومن ذهب لا يرجع؟ فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم .
كان فيهم رجل يقال له : زبير بن باطا . فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره فقال : إن الزبير بن باطا له عندي يد ، وقد أعانني يوم بعاث فهبهُ لي يا رسول الله حتى أعتقه . فقال عليه السلام : " هُوَ لَكَ " . فجاء إليه . فقال : يا أبا عبد الرحمن أتعرفني؟ قال : نعم . وهل ينكر الرجل أخاه ، أنت ثابت بن قيس . قال : أتذكر يداً لك عندي يوم بعاث؟ . قال : نعم . إن الكريم يجزي باليد ، فاجز بها . فقال : قد وهبك النبي صلى الله عليه وسلم لي ، وقد أعتقتك . قال : شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش . فجاء ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلّمه في أهله ، فقال : " لَكَ أهْلُهُ " . فجاء إليه . فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك فهي لك . فقال : شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة ، وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون؟ فقام ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماله . فقال : " لَكَ مَالُهُ " . فجاء إليه . فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لي فهو لك . فقال : فما فعلت بكعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي؟ قال : قتل . قال : فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا؟ قال : قتل . قال : فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل؟ قال : قتل . قال فما فعل بفلان وفلان؟ قال : قتل . قال : فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا أصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة . قال أبو بكر : ويلك يا ابن باطا ، والله ما هو إفراغ دلو ماء ، ولكنه عذاب الله أبداً . يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي ، فاضرب ضربة أجهز بها ، وأرفع يدك عن العصام ، وألصق بالرأس . فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق . فقال ثابت : ما كنت لأقتلك . قال : ما أبالي من قتلني . فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه .
وغنم الله عز وجل رسوله أموال بني قريظة ، وذراريها ، فقسمها بين المسلمين .

فنزل قوله تعالى : { وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم } يعني : عاونوهم { مّنْ أَهْلِ الكتاب } وهم بنو قريظة { مِن صَيَاصِيهِمْ } يعني : من قصورهم ، وحصونهم ، وأصل الصياصي في اللغة : قرون الثور لأنه يتحصن به . فقيل : للحصون صياصي لأنها تمنع .
ثم قال : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } حين انهزم الأحزاب { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } يعني : رجالهم { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } تسبون طائفة وهم النساء والصبيان . قال مقاتل : قتل أربعمائة وخمسون رجلاً ، وسبي من النساء والصبيان ستمائة وخمسون . وقال في رواية الكلبي : كانوا سبعمائة فقسمها بين المهاجرين .
ثم قال عز وجل : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ } يعني : مزارعهم { وديارهم } يعني : منازلهم { وأموالهم } يعني : العروض والحيوان { وَأَرْضاً لَّمْ } يعني : لم تملكوها ولم تقدروا عليها . يعني : ورثكم تلك الأرض أيضاً وهي أرض خيبر . وروي عن الحسن وغيره في قوله { أَرْضًا لَمْ } قال : كل ما فتح على المسلمين إلى يوم القيامة { تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً } يعني : على فتح مكة وغيرها من القرى .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

قوله عز وجل { قَدِيراً ياأيها النبى قُل لازواجك } وذلك أنه رأى منهن الميل إلى الدنيا ، وطلبن منه فضل النفقة { ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ } يعني : وزهرتها { فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ } متعة الطلاق { وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } يعني : أطلقكن طلاق السنة من غير إضرار .
قوله عز وجل : { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ } يعني : تطلبن رضي الله ورضى رسوله { والدار الاخرة } يعني : الجنة { فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } يعني : ثواباً جزيلاً في الجنة . فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً . فلما نزلت هذه الآية ، جمع نساءه . فبدأ بعائشة فقال : « يا عَائِشَةُ إنِّي أُرِيدُ أنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أمْراً أُحِبُّ أَنْ لا تَعْجَلي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ » . قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية . فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة .
ثم خيّر نساءه فاخترنه سائر النساء .
ثم قال عز وجل : { عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ } يعني الزنى { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } يعني : تعاقب مثلي ما يعاقب غيرها . ويقال : الجلد والرجم ، وهذا قول الكلبي . ويقال : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ } يعني : بمعصية ، يضاعف لها العذاب ضعفين . لأن كرامتهن كانت أكثر . فجعل العقوبة عليهن أشد . وهذا كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : يغفر للجاهل سبعون ما لا يغفر للعالم واحد .
ثم قال : { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } يعني : هيّناً . قرأ ابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين { مُّبَيّنَةٍ } بنصب الياء . وقرأ الباقون : بالكسر . وقرأ ابن كثير وابن عامر : { نُضَعِّفْ } بالنون وتشديد العين ، لها العذابَ بنصب الباء ، ومعناه : لها العذاب . وقرأ أبو عمرو : { والله يضاعف } بالياء والتشديد وضم الباء في العذاب على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون : { يضاعف } وهما لغتان . والعرب تقول : تضعف الشيء وضاعفه .
ثم قال : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : تطع منكن الله ورسوله { وَتَعْمَلْ صالحا } يعني : تعمل بالطاعات فيما بينها وبين ربّها { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } يعني : ثوابها ضعفين { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } يعني : ثواباً حسناً في الجنة . قرأ حمزة والكسائي : { وَيَعْمَلْ صالحا } بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . فمن قرأ بالياء فللفظ مَنْ لأن لفظها لفظ واحد مذكر . كما اتفقوا في قوله : { وَمَن يَقْنُتْ } . ومن قرأ بالياء ذهب إلى المعنى ، وصار منكن فاصلاً بين الفعلين . وقرأ حمزة والكسائي { يؤتها } بالياء يعني : يؤتها الله . وقرأ الباقون بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه .
ثم قال عز وجل : { كَرِيماً يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } يعني : لستنّ كسائر النساء .

فقال : لستن كأحد . ولم يقل : كواحد . لأن لفظ الأحد يصلح للواحد والجماعة ، وأما لفظ الواحد لا يصلح إلا للواحد .
ثم قال عز وجل : { إِنِ اتقيتن } يعني : إن اتقيتن المعصية وأطعتن الله ورسوله { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } يعني : لا تلنَّ بالقول . ويقال : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء إِنِ اتقيتن } فأنتن أحق الناس بالتقوى وتم الكلام .
ثم قال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } يعني : لا ترفقن بالقول وهو اللين من الكلام . ومعلوم أن الرجل إذا أتى باب إنسان والرجل غائب ، فلا يجوز للمرأة أن تلين القول معه .
ثم قال : { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } يعني : فجور . وقال عكرمة هو شهوة الزنى . ويقال : الميل إلى المعصية { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يعني : صحيحاً جميلاً . ويقال : قولاً حسناً يعني : ليناً . ويقال : لا يقلن باللين فيفتن ، ولا بالخشن فتؤذين { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } بين ذلك .
قال عز وجل : { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } قرأ نافع وعاصم { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } بالنصب . والباقون : بالكسر . فمن قرأ بالكسر فمعناه : اسكن في بيوتكنَّ بالوقار . وهو من وقر يقر وقاراً . ويقال : هو من التقرير . ويقال : قر يقر وأصلهُ قررن . ولكن المضاعف يراد به التخفيف . فحذف إحدى الراءين للتخفيف . فلما طرحوا إحدى الراءين ، استثقلوا الألف ولم تكن أصلية ، وإنما دخلت للوصل . فحذفت الألف . ومن قرأ { وَقَرْنَ } بنصب القاف لا يكون إلا للتقرير .
ثم قال : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى } يعني : لا تتزين كتزين الجاهلية الأولى . والتبرج إظهار الزينة . ويقال : التبرج : الخروج من المنزل . و { الجاهلية الاولى } قال الكلبي : يعني : الأزمنة التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام . فكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدروع من اللؤلؤ ، ثم تمشي وسط الطريق . وكان ذلك في زمن النمرود الجبار .
وروي عن الحكم بن عيينة قال { الجاهلية الاولى } كانت بين نوح وآدم عليهما السلام . وكانت نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ، ورجالهم حسان . وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها . وروى عكرمة عن ابن عباس أن { الجاهلية الاولى } كانت بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة . وقال مقاتل : الجاهلية الأولى كانت قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم . وإنما سمى جاهلية الأولى لأنه كان قبله .
ثم قال : { وَقَرْنَ فِى } يعني : أتممن الصلوات الخمس { وَقَرْنَ فِى } يعني : إن كان لكن مال { وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } فيما ينهاكن وفيما يأمركن { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } يعني : الإثم . وأصله في اللغة كل خبيث من المأكول وغيره . { أَهْلَ البيت } يعني : يا أهل البيت وإنما كان نصباً للنداء . ويقال : إنما صار نصباً للمدح . ويقال : صار نصباً على جهة التفسير ، فكأنه يقول : أعني أهل البيت . وقال : { عَنْكُمْ } بلفظ التذكير ، ولم يقل : عنكن لأن لفظ أهل البيت يصلح أن يذكر ويؤنث .
قوله { وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } يعني : من الإثم والذنوب .

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

قوله عز وجل : { واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ } يعني : احفظن ما يقرأ عليكن { مِنْ آيات الله } يعني : القرآن { والحكمة } يعني : أمره ونهيه في القرآن . فوعظهن ليتفكرون .
ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً } لطيف علمه ، فيعلم حالهن إن خضعن بالقول . ويقال : لطيفاً أمر نبيه بأن يلطف بهن { خَبِيراً } يعني : عالماً بأعمالهن .
قوله عز وجل : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } وذلك أن أم سلمة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ، فأخشى أن لا يكون فيهن خير ، ولا لله عز وجل فيهن حاجة؟ فنزل { إِنَّ المسلمين والمسلمات } ويقال : إن النساء اجتمعن وبعثن أنيسة رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقالت : إن الله تبارك وتعالى خالق الرجال والنساء ، وقد أرسلك إلى الرجال والنساء ، فما بال النساء ليس لهن ذكر في الكتاب فنزلت هذه الآية . وقال قتادة : لما ذكر الله عز وجل أزواج النبي يعني : دخل نِسَاءٌ مسلماتٌ عليهن ، فقلن : ذكرتن ولم نذكر . ولو كان طفينا خير ذكرنا . فنزلت هذه الآية { إِنَّ المسلمين والمسلمات } يعني : المسلمين من الرجال ، والمسلمات من النساء . { والمؤمنين } يعني : المصدقين الموحدين من الرجال { والمؤمنات } يعني : المصدقات الموحدات من النساء { والقانتين } يعني : المطيعين ، وأصل القنوت القيام . ثم يكون للمعاني ، ويكون للطاقة . كقوله { والقانتين } ويكون للإقرار بالعبودية كقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 109 ] { وَلَهُ مَن فِى السماوات والارض كُلٌّ لَّهُ قانتون } [ البقرة : 116 والروم : 26 ] { والقانتات } أي : المطيعات من النساء { والصادقين } يعني : الصادقين في إيمانهم من الرجال { والصادقات } من النساء { والصابرين والصابرات } على أمر الله تعالى من الرجال والنساء { والخاشعين والخاشعات } يعني : المتواضعين من الرجال والنساء { والمتصدقين والمتصدقات } يعني : المنفقين أموالهم في طاعة الله من الرجال والنساء { والصائمين والصائمات } قال مقاتل : من صام رمضان ، وثلاثة أيام من كل شهر فهو من الصائمين والصائمات .
ثم قال : { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } يعني : من الفواحش من الرجال والنساء { والذكرين الله كَثِيراً والذكرات } يعني : باللسان من الرجال والنساء . فذكر أعمالهم .
ثم ذكر ثوابهم فقال : { أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً } في الدنيا لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } في الآخرة وهو الجنة .
قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } الآية . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب :

« إنِّي أُرِيدُ أنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ » . فقالت : يا رسول الله لا أرضاه لنفسي . وأنا أرفع قريش لأنني من قريش وابنة عمتك . فنزل { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } يعني : ما جاز لمؤمن يعني : زيد بن حارثة ، { وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } يعني : زينب بنت جحش { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً } يعني : حكم حكماً في تزويجهما { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } يعني : اختيار من أمرهم بخلاف ما أمر الله ورسوله . قرأ حمزة والكسائي وعاصم : أن يكون بالياء بالتذكير . وقرأ الباقون : بالتاء بلفظ التأنيث . فمن قرأ بالتاء : فلأن لفظ الخيرة مؤنث . ومن قرأ بالياء : فإنه ينصرف إلى المعنى ، ومعناهما الاختيار لتقديم الفعل { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً } فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت : أطعتك يا رسول الله .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)

ثم قال عز وجل : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } يعني : زيد بن حارثة قد أنعم الله عز وجل عليه بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالعتق { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } قال قتادة : جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن زينب اشتد عليّ لسانها ، وإني أريد أن أطلقها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اتَّقِ الله { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } » . وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها . وخشي مقالة الناس أن أمره بطلاقها فنزلت هذه الآية .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى زيد بن حارثة يطلبه في حاجة له . فإذا زينب بنت جحش قائمة في درع وخمار . فلما رآها أعجبته ووقعت في نفسه . فقال : « سُبْحَانَ الله مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي » . فلما سمعت زينب جلست . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما جاء زيد ذكرت ذلك له . فعرف أنها أعجبته ووقعت في نفسه ، وأعجب بها رسول الله . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله : إنَّ زينب امرأة فيها كبر ، تعصي أمري ، ولا تبرُّ قسمي ، فلا حاجة لي فيها . فقال له : « اتَّقِ الله يَا زَيْدُ فِي أَهْلِكَ وَأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » . وكان يحب أن يطلقها . فطلّقها زيد ونزلت هذه الآية { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } . { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ } يعني : تسر في نفسك ليت أنه طلقها { مَا الله مُبْدِيهِ } يعني : مظهره عليك حتى ينزل به قرآناً { وَتَخْشَى الناس } يعني : تستحي من الناس . ويقال : { وَتَخْشَى } مقالة الناس { والله أَحَقُّ أَن تخشاه } في أمرها . قال الحسن : ما أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد منها ، ولو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها .
ثم قال : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً } يعني : حاجة { زوجناكها } فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم . قال الحسن : فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : أما أنتن فزوّجكن آباؤكن . وأما أنا فزوجني رب العرش تعني : قوله : { زوجناكها } { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } يعني : لكيلا يكون على الرجل حرج بأن يتزوج امرأة ابنه الذي يتبنّاه { فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } يعني : حاجة { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } تزوُّج النبي صلى الله عليه وسلم إياها كائن لا بد واللام للزيادة ، وكي مثله فلو كان أحدهما ، لكان يكفي ولكن يجوز أن يجمع بين حرفين زائدين إذا كانا جنسين .

وإنما لا يجوز إذا كانا من جنس واحد كما قال { فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] ولا يصلح أن يقال : مثل مثل أو كي كي فإذا كانا جنسين جاز . فقالت اليهود والمنافقون : يا محمد تنهى عن تزوج امرأة الابن ثم تتزوجها . فنزل قوله عز وجل : { مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ } يقول : ليس على النبي إثم { فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } يعني : في الذي رخص الله عز وجل من تزوج زينب { سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } يعني : هكذا سنة الله في الذين مضوا يعني : في كثرة تزوج النساء كما فعل الأنبياء عليهم السلام { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } يعني : قضاء كائناً .
قوله عز وجل : { الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله } قال مقاتل : يعني : النبي صلى الله عليه وسلم وحده . ويقال : ينصرف إلى قوله : { سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } { الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله } . { وَيَخْشَوْنَهُ } في كتمان ما أظهر الله عليهم { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } في البلاغ { إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيباً } يعني : شهيداً بأن النبي صلى الله عليه وسلم بلّغ الرسالة عن الله عز وجل ويقال : شهيداً يعني : حفيظاً .

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله عز وجل : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } يعني : بالتبني . وليس بأب لزيد بن حارثة { ولكن رَّسُولَ الله } يعني : ولكنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : لم يكن أب الرجال لأن بنيه ماتوا صغاراً ، ولو كان الرجال بنيه لكانوا أنبياء ، ولا نبي بعده .
فذلك قوله : { وَخَاتَمَ النبيين } قرأ بعضهم ولكن { رَسُولِ الله } بضم اللام ، ومعناه : ولكن هو رسول الله وكان { وَيَقْتُلُونَ النبيين } وقرأ عاصم في إحدى الروايتين { وَخَاتَمَ النبيين } بنصب التاء . وقرأ الباقون : بالكسر . فمن قرأ بالكسر يعني : آخر النبيين . ومن قرأ بالنصب فهو على معنى إضافة الفعل إليه . يعني : أنه ختمهم وهو خاتم . قال أبو عبيد : وبالكسر نقرأ لأنه رويت الآثار عنه أنه قال « أَنَا خَاَتَمُ النَّبِيِّين » فلم يسمع أحد من فقهائنا يروون إلا بكسر التاء .
{ وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } بمن يصلح للنبوة ، وبمن لا يصلح . فإن قيل : كيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يظهر من نفسه ، خلاف ما في قلبه . قيل له : يجوز مثل هذا لأن في قوله { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أمر بالمعروف وفيه ردّ النفس عما تهوى . وهذا عمل الأنبياء والصالحين عليهم السلام . وقال بعضهم : للآية وجه آخر وهو أن الله تعالى قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون زوجته . فلما زوّجها من زيد بن حارثة لم يكن بينهما ألفة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن الطلاق ، ويخفي في نفسه ما أخبره الله تعالى . وقال : بأنها تكون زوجته . فلما طلقها زيد بن حارثة ، كان يمتنع من تزوجها ، خشية مقالة الناس ، يتزوج امرأة ابنه المتبنى به . فأمره الله عز وجل بأن يتزوجها ، ليكون ذلك سبب الإباحة لنكاح امرأة الابن المتبنى لأمته ونزل { وَإِذْ تَقُولُ للذى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] الآية .
ثم قال تعالى : { عَلِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } يعني : اذكروا الله باللسان . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ هِذِه القُلُوبَ لَتَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الحَدِيدُ » . قيل : يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال : « تِلاوَةُ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ ، وَكَثْرَةُ ذِكْرِهِ » . وذكر أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن شرائع الإسلام قد كثرت ، فأنبئني منها بأمر أتشبث به .

فقال : « لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبَاً مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ » . ويقال : ليس شيء من العبادات أفضل من ذكر الله تعالى ، لأنه قدر لكل عبادة مقداراً ، ولم يقدر للذكر ، وأمر بالكثرة فقال : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } يعني : اذكروه في الأحوال كلها . لأن الإنسان لا يخلو من أربعة أحوال . إما أن يكون في الطاعة ، أو في المعصية ، أو في النعمة ، أو في الشدة . فإذا كان في الطاعة ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالإخلاص ، ويسأله القبول والتوفيق . وإذا كان في المعصية ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالامتناع عنها ، ويسأل منه التوبة منها والمغفرة . وإذا كان في النعمة يذكره بالشكر؛ وإذا كان في الشدة يذكره بالصبر .
ثم قال تعالى : { وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } يعني : غدواً وعشياً . يعني : صلوا لله بالغداة والعشي . يعني : الفجر والعصر . ويقال : بالغداة . يعني : صلوا أول النهار وهي صلاة الفجر { وَأَصِيلاً } يعني : صلوا آخر النهار ، وأول النهار . وهي صلاة الظهر والعصر ، والمغرب ، والعشاء .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } يقول : هو الذي يرحمكم ويغفر لكم { وَمَلَئِكَتُهُ } أي : يأمر الملائكة عليهم السلام بالاستغفار لكم { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : أخرجكم من الكفر إلى الإيمان ووفّقكم لذلك . اللفظ لفظ المستأنف ، والمراد به الماضي يعني : أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ونّور قلوبكم بالمعرفة . ويقال : معناه ليثبتكم على الإيمان ويمنعكم عن الكفر . ويقال : { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات } يعني : من المعاصي إلى نور التوبة ، والطهارة من الذنوب . ويقال : من ظلمات القبر إلى نور المحشر . ويقال : من ظلمات الصراط إلى نور الجنة . ويقال : من ظلمات الشبهات إلى نور البرهان والحجة .
ثم قال : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } يعني : بالمصدقين الموحدين { رَّحِيماً } يرحم عليهم .
ثم قال عز وجل : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام } قال مقاتل : يعني : يلقون الرب في الآخرة بسلام . وقال الكلبي : تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام . فإذا دخلوها ، حيَّا بعضهم بالسلام . وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام . ويقال : يعني : يسلم بعضهم على بعض . ويقال : يسلمون على الله تعالى .
{ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني : جزاءً حسناً في الجنة . ويقال : مساكن في الجنة حسنة .
قوله عز وجل : { كَرِيماً ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } يعني : شهيداً على أمتك بالبلاغ { وَمُبَشّراً } بالجنة لمن أطاع الله في الآخرة وفي الدنيا بالنصرة { وَنَذِيرًا } من النار يعني : مخوفاً لمن عصى الله عز وجل { وَدَاعِياً إِلَى الله } يعني : أرسلناك داعياً إلى توحيد الله ومعرفته { بِإِذْنِهِ } يعني : بأمره { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } يعني : أرسلناك بسراج منير ، لأنه يضيء الطريق .

فهذه كلها صارت نصباً لنزع الخافض .
ثم قال عز وجل : { وَبَشّرِ المؤمنين } يعني : بشّر يا محمد المصدقين بالتوحيد { بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } في الجنة . وذلك أنه لما نزل قوله عز وجل : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 20 ] فقال المؤمنون : هذا لك . فما لنا؟ فنزل قوله تعالى : { بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 138 ] في الجنة فلما سمع المنافقون ذلك قالوا فما لنا فنزل وَ { بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 138 ] . ثم رجع إلى ما ذكر في أول السورة فقال تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي : تجاوز عن المنافقين ، ولا تقتلهم . ويقال : ودع أذاهم يعني : اصبر على أذاهم . وإن خوفك شيء منهم فتوكل على الله يعني : فوض أمْرك إلى الله . وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة عن ابن مسعود . وقال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة . فقال رجل من الأنصار : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . فأخبر بذلك ، فاحمر وجهه ، فقال : « رَحِمَ الله أخِي مُوَسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبَر » . ثم قال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } يعني : حافظاً نصيراً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)

وقوله عز وجل : { وَكِيلاً ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } قرأ حمزة والكسائي { تماسوهن } وقرأ الباقون { لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } مثل الاختلاف الذي ذكرنا في سورة البقرة { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } يعني : ليس للأزواج عليهن عدة { تَعْتَدُّونَهَا } وإنما خصّ المؤمنات ، لأن نكاح المؤمنات كان مباحاً في ذلك الوقت . فلما أحلّ الله تعالى نكاح الكتابيات ، صار حكم الكتابية وحكم المؤمنة في هذا سواء إذا طلقها قبل أن يخلو بها لا عدة عليها بالإجماع . وإن طلقها بعد ما خلا بها ، ولم يدخل بها فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : لا عدة عليها . وقال عمر وعلي ومعاذ وزيد بن ثابت وجماعة منهم رضي الله عنهم أن عليها العدة ، وهو أحوط الوجهين ، أنه إذا خلا بها ولم تكن المرأة حائضاً ، ولم يكن أحدهما مريضاً ، ولا محرماً ولا صائماً صوم فرض ، يجب على الزوج المهر كاملاً ، وعليها العدة احتياطاً .
وأما إذا كانت المرأة حائضاً أو مريضة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو الرجل مريض أو صائم عن فرض أو محرم فطلقها بعد الخلوة قبل الدخول ، فعليه نصف المهر ، وعليها العدة احتياطاً .
ثم قال : { فَمَتّعُوهُنَّ } يعني : متعة الطلاق ثلاثة أثواب وهي مستحبة غير واجبة { وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } يعني : خلوا سبيلهن تخلية حسنة وهو أن يعطيها حقها .
قوله عز وجل : { جَمِيلاً ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } يعني : نساءك { ياأيها النبى إِنَّا } يعني : أعطيت مهورهن ، لأن غيره كان له أكثر من أربع نسوة أمره أن يترك ما زاد على الأربع ، وقد أحلّ للنبي صلى الله عليه وسلم إمساك التسع ولم يأمره بالفرقة . { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } يعني : أحللنا لك من الإماء مثل مارية القبطية { مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } من الغنيمة يعني : أعطاك الله كقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الحشر : 7 ] .
ثم قال : { وَبَنَاتِ عَمّكَ } يعني : أحللنا لك نكاح بنات عمك { وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ } يعني : هاجرن معه من مكة إلى المدينة أو قبله أو بعده .
ثم قال : { وامرأة مُّؤْمِنَةً } يعني : أحللنا لك امرأة مؤمنة { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } صلى الله عليه وسلم وقرأ الحسن { إِن وَهَبَتْ } بنصب الألف ومعناه إذا وهبت ويكون ذلك الفعل خاصة لامرأة واحدة .

وقراءة العامة إن بالكسر فيكون معناه لكل امرأة إن فعلت ذلك في المستقبل . قال مقاتل : وذلك أن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر كذا قال الكلبي . وروى معمر عن الزهري في قوله : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } قال : بلغنا أن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنها وروى وكيع عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي وعمرو بن الحكم ، وعبد الله بن عبيدة قال : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر امرأة . ستة من قريش . خديجة بنت خويلد ، وعائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية . وثلاثاً من بني عامر ، وامرأتين من بني هلال ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم . وزينب أم المساكين ، وامرأة من بني بكر وهي التي اختارت الدنيا . وامرأة من بني الحزن من كندة وهي التي استعاذت منه .
وقال يحيى بن أبي كثير تزوج أربعة عشر . خديجة وسودة وعائشة . تزوج هؤلاء الثلاث بمكة . وتزوج بالمدينة زينب بنت خزيمة ، وأم سلمة ، وجويرية من بني المصطلق . وميمونة بنت الحارث ، وصفية بنت حيي بن أخطب ، وزينب بنت جحش وكانت امرأة زيد بن حارثة ، وعالية بنت ظبيان ، وحفصة ، وأم حبيبة ، والكندية ، وامرأة من كلب .
وروى الزهري عن عروة قال : لما دخلت الكندية على النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أعوذ بالله منك . فقال : «لقد عذت بعظيم ، الحقي بأهلك» .
ثم قال عز وجل : { إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا } يعني : أن يتزوجها بغير صداق { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } يعني : خالصاً للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر ، ولا يحل لغيره . وقال الزهري : الهبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، ولا تحل لأحد أن تهب له امرأة نفسها بغير صداق .
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لم تحل الموهوبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . واختلف الناس في جواز النكاح . قال أهل المدينة باطل . وقال أهل العراق : النكاح جائز ، ولها مهر مثلها . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز ذلك . وروى هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت من المهاجرات الأول . وقال القتبي : العرب تخبر عن غائب ، ثم ترجع إلى الشاهد فتخاطبه ، كما قال هاهنا : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } بلفظ الغائب ثم قال : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } .
ثم قال : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } يعني : ما أوجبنا عليهم { فِى أزواجهم } يعني : في أن لا يتزوجوا إلا بالمهر . ويقال : إلا أربعاً { وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } ويقال : يعني إلا ما لا وقت فيهن { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } في الهبة بغير مهر . وفي الآية ومعناه : أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يكون عليك حرج .
ثم قال : { وَكَانَ الله غَفُوراً } يعني : غفوراً فيما تزوج قبل النهي { رَّحِيماً } في تحليل ذلك .

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

قوله عز وجل : { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : { ترجىء } بالهمزة . وقرأ الباقون : بغير الهمز . كلاهما في اللغة واحد ، وأصله من التأخير . يقول : تؤخر من تشاء منهن ولا تتزوجها { مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } يعني : تضم فتتزوجها لخيره في تزويج القرابة . ويقال : تطلق من تشاء منهن ، وتمسك من تشاء .
وقال قتادة : جعله في حل أن يدع من يشاء منهن ، ويضم إليه من يشاء . يعني : إن شاء جعل لهن قسماً ، وإن شاء لم يجعل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم . وقال الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها أو يدعها ، وفي ذلك نزل : { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } .
ثم قال : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ } يعني : أشرت ممن تركت { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } يعني : لا إثم عليك { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي : ذلك أجدى وأجدر إذا علمن أنك تفعل بأمر الله أن تطمئن قلوبهن { وَلاَ يَحْزَنَّ } مخافة الطلاق { وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } من النفقة ، إذا علمن أنه من الله عز وجل . وقرىء في الشاذ : { كُلُّهُنَّ } بالنصب صار نصباً لوقوع الفعل عليه وهو الإعطاء . وتقرأه العامة : { كُلُّهُنَّ والله } بالضم . ومعناه : يرضين كلهن بما أعطيتهن .
ثم قال : { والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } من الحب والبغض { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما في قلوبكم { حَلِيماً } بالتجاوز .
قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ } قال مجاهد : أي لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات { مِن بَعْدِ } ، يعني : من بعد المسلمات ، { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } . يقول : لا تبديل اليهوديات ، ولا النصرانيات على المؤمنات . يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك من اليهوديات والنصرانيات يتسرى بهن . قال الحسن وابن سيرين : خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نساءه بين الدنيا والآخرة ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فشكر الله لهن على ذلك ، فحبسه عليهن . فقال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ } { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } يعني : لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن ، وتتزوج غيرها . قرأ أبو عمرو : { لاَ تُحِلُّواْ } بالتاء بلفظ التأنيث . وقرأ الباقون : بالياء ، بمعنى لا يحل لك من النساء شيء . ويقال : معناه لا تحل لجميع النساء . فمن قرأ : بالتاء بالتأنيث يعني : جماعة النساء .
ثم قال : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } يعني : أسماء بنت عميس أراد أن يتزوجها ، فنهاه الله تعالى عز وجل عن ذلك ، فتركها وتزوجها أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } من السريات { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً } من أمر التزويج { رَقِيباً } يعني : حفيظاً .

وروى عمرو بن دينار ، عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حلّ له النساء بعد قوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء } .
قوله عز وجل : { رَّقِيباً يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى } وذلك أن أناساً من المسلمين كانوا يتحينون غذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدخلون عليه بغير إذن ، ويجلسون وينتظرون الغداء ، وإذا أكلوا جلسوا طويلاً ، ويتحدثون طويلاً ، فأمرهم الله عز وجل بحفظ الأدب فقال : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى } { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } يعني : إلا أن يدعوكم ويأذن لكم في الدخول { غَيْرَ ناظرين إناه } يعني : من غير أن تنتظروا وقته . ويقال : أصله إدراك الطعام يعني : غير ناظرين إدراكه . ويقال : { إناه } يعني : نضج الطعام .
ثم قال : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } يعني : إذا دعاكم إلى الطعام فادخلوا بيته { فَإِذَا طَعِمْتُمْ } الطعام { فانتشروا } يعني : تفرقوا { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : لا تدخلوا مستأنسين للحديث { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النبى فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ } أن يقول لكم تفرقوا { والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } يعني : من بيان الحق أن يأمركم بالخروج بعد الطعام .
قال الفقيه أبو الليث : في الآية حفظ الأدب والتعليم أن الرجل إذا كان ضيفاً لا ينبغي أن يجعل نفسه ثقيلاً ، ولكنه إذا أكل ينبغي أن يخرج .
ثم قال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا } يعني : إذا سألتم من نسائه متاعاً { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ } ولا تدخلوا عليهن ، واسألوا من خلف الستر . ويقال : خارج الباب { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } من الريبة .
ثم قال : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } قال : وذلك أن طلحة بن عبيد الله قال : لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } { وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } يعني : ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبداً { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } في العقوبة .
ويقال : إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة . وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته : إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها . ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده . وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك . وإني أخطبك إلى نفسي في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي ، فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان ، وأبت أن تتزوجه .

وروي في خبر آخر بخلاف هذا أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المرأة منا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة؟ فقال : « إنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمَا خُلُقاً مَعَهَا » .
ثم قال : « يا أمَّ حَبِيبَةَ إنَّ حُسْنَ الخُلُقِ ذَهَبَ بالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ » .
ثم قال عز وجل : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ } يعني : إن تظهروا من أمر التزويج شيئاً أو تسروه وتضمروه { فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } من السر والعلانية . يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم ، يجازيكم به .
ثم خصّ الدخول على نساء ذوات محرم بغير حجاب فرخّص في ذلك وهو قوله عز وجل : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ } يعني : من الدخول عليهن { وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن وَلاَ نِسَائِهِنَّ } يعني : نساء أهل دينهن { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من الخدم { واتقين الله } يعني : اخشين الله ، وأطعن الله ، فلا يراهن غير هؤلاء { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً } يعني : عالماً بأعمالهم .

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)

قوله عز وجل : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } والصلاة من الله الرحمة والمغفرة ، ومن الملائكة عليهم السلام الاستغفار . يعني : أن الله عز وجل يغفر للنبي ، ويأمر ملائكته بالاستغفار والصلاة عليه .
ثم أمر المسلمين بالصلاة عليه فقال : { النبى ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة أنه قال : قلنا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال : « قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ » إلى آخِرِهِ . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صَلَّوا عَلَيَّ ، فإنَّ الصَّلاة عَلَيَّ زَكَاةٌ لَكُمْ وَاسْأَلُوا الله لِيَ الوَسِيلَةَ » . قالوا : وما الوسيلة يا رسول الله؟ قال : « أعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ لا يَنَالُهَا إلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ » . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً ، صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ » . ويقال : ليس شيء من العبادات أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن سائر العبادات أمر الله تعالى بها عباده . وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد صلى عليه أولاً هو بنفسه ، وأمر الملائكة بذلك ، ثم أمر العباد بذلك .
ثم قال : { وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً } يعني : اخضعوا له خضوعاً . ويقال : ائتمروا بما يأمركم الله تعالى . ويقال : لما نزلت هذه الآية ، قال المسلمون : هذا لك فما لنا فنزل : { هُوَ الذى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وملائكته لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } يعني : اليهود والنصارى حيث قالوا : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } [ المائدة : 64 ] ونحو ذلك من الكلمات ، ويقال : أذاهم الله وهو قولهم : لله ولد ونحو ذلك . وإيذاءهم رسوله أنهم زعموا أنه ساحر ومجنون { لَعَنَهُمُ الله فِى الدنيا } يعني : عذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي { والاخرة } بالنار . ويقال : هم الذين يجعلون التصاوير . ويقولون : تخلق كما يخلق الله تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } يهانون فيه .
ثم قال عز وجل : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } يعني : بغير جرم { فَقَدِ احتملوا بهتانا } يعني : قالوا كذباً { وَإِثْماً مُّبِيناً } يعني : ذنباً بيّناً .

قال مقاتل : قال السدي : نزلت هذه الآية في أمر عائشة وصفوان . ويقال : في جميع من يؤذي مسلماً بغير حق . وقال عثمان لأبي بن كعب : إني قرأت هذه الآية : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنات } فوقعت مني كل موقع ، والله إني لأضربهم وأعاقبهم . فقال له أبي : إنك لست منهم ، إنك مؤدب معلم .
قوله عز وجل : { مُّبِيناً يأَيُّهَا النبى قُل لازواجك وبناتك } وذلك أن المهاجرين نزلوا في ديار الأنصار ، فضاقت الدور عليهم . وكن النساء يخرجن بالليل إلى التخلي يقضين حوائجهن . كان الزناة يرصدون في الطريق ، وكانوا يطلبون الولائد ، ولم يعرفوا المرأة الحرة من الأمة بالليل . فأمر الحرائر بأخذ الجلباب . وقال الحسن : كن النساء والإماء بالمدينة . يقال لهن : كذا وكذا يخرجن ، فيتعرض لهن السفهاء فيؤذونهن ، فكانت الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة ويؤذونها ، فأمر الله تعالى المؤمنات { ءانٍ * يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } . وقال القتبي : يلبسن الأردية . ويقال : يعني يرخين الجلابيب على وجوههن . وقال مجاهد : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } يعني : متجلببين ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة .
قوله : { وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ } يعني : أحرى { فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } إذا تابوا ورجعوا ، ثم وعد المنافقين وخوّفهم لينزجروا عن الحرائر أو الإماء .

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

فقال عز وجل : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } عن نفاقهم { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يعني : الميل إلى الزنى إن لم يتوبوا عن ذلك { والمرجفون فِى المدينة } يعني : الذين يخبرون بالأراجيف . وكانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من عدوهم . والأراجيف : هي أول الاختيار . وأصل الرجف هو الحركة . فإذا وقع خبر الكذب فإنه يقع الحركة بالناس فسمي إرجافاً . ويقال : الأراجيف تلقح الفتنة . يعني : إن لم ينتهوا عن النفاق وعن الفجور وعن القول بالأراجيف .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } يعني : لنسلطنك عليهم ، ويقال : لنحملنك على قتلهم . وروى سفيان عن منصور بن زرين قال : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِى المدينة } هذا كله شيء واحد . يعني : أنه نعتهم بأعمالهم الخبيثة .
{ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : لا يساكنوك في المدينة إلا قليلاً حتى أهلكهم . ويقال : إلا جواراً قليلاً . ويقال : إلا قليلاً منهم . وقال قتادة : إن أناساً من المنافقين أرادوا أن يُظْهِرُوا نفاقهم فنزلت هذه الآية .
ثم قال عز وجل : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } يعني : يجعلهم ملعونين أينما وجدوا . فأوجب الله تعالى لهم اللعنة على كل حال أينما وجدوا وأدركوا { أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً } فلما سمعوا بالقتل ، انتهوا عن ذلك .
قوله عز وجل : { سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } يعني : سنة الله في الزناة القتل . ويقال : هذا سنة الله في الذين مضوا من قبل . يعني : الذين أضمروا النفاق بأن يسلط الله عليهم الأنبياء بالقتل { سُنَّةَ الله } { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } يعني : مبدلاً ومغيراً .
قوله عز وجل : { يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة } يعني : عن قيام الساعة وذلك أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله : متى الساعة؟ فقال عليه السلام : « مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ » . فنزل { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } يعني : علم قيام الساعة عند الله { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } يعني : سريعاً . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : من أشراط الساعة أن يفتح القول ، ويحزن الفعل ، وأن ترفع الأشرار ، وتوضع الأخيار . ومعنى يفتح الأقوال : أن يقول أفعل غداً فإذا جاء غداً ، خالف قوله وقت الفعل . وأصل الفتح الابتداء ، وهو أن يعد لأخيه عدة حسنة ثم يخالفه . وقال عطاء بن أبي رباح : من اقتراب الساعة مطر ولا نبات ، وعلو أصوات الفساق في المساجد ، وظهور أولاد الزِّنى ، وموت الفجأة ، وانبعاث الرويبضة يعني : السفلة من الناس . وقوله : { لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } ولم يقل قريبة ، لأنها جعلت ظرفاً وبدلاً ولم تجعل نعتاً وصفة .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين } يعني : خذلهم وطردهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } يعني : جهنم .

ويقال : لعن الكافرين في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة أعد لهم سعيراً { خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يعني : قريباً ينفعهم { وَلاَ نَصِيراً } أي : مانعاً يمنعهم من العذاب ، والسعير في اللغة هو النار الموقدة .
ثم قال عز وجل : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار } يعني : تحول . يقول : هذا العذاب في { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار } يعني : تحول عن الحسن إلى القبح من حال البياض إلى حال السواد وزرقة الأعين . ويقال : { تَقَلُّبُ } يعني : تجدد كقوله : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } [ النساء : 56 ] فيندمون على فعلهم ويوبخون أنفسهم { يَقُولُونَ ياليتنا ياليتنا أَطَعْنَا الله } فيما أمرنا ونهانا في دار الدنيا { وَأَطَعْنَا الرسولا } فيما دعانا إلى الحق { وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا } يعني : قادتنا وأشرافنا وعظماءنا { فَأَضَلُّونَا السبيلا } يعني : صرفونا عن طريق الإسلام . ويقال : أضللت الطريق وأضللته عن الطريق بمعنى واحد . قرأ ابن عامر : ساداتنا . وقرأ الباقون : سادتنا جمع سيد وساداتنا جمع الجمع .
ثم قال عز وجل : { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } يعني : زدهم واحمل عليهم . يعني : عذبهم وارفع عنا بعض العذاب ، واحمل عليهم فإنهم هم الذين أضلونا { والعنهم لَعْناً كَبِيراً } قرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين { كَبِيراً } بالباء من الكبر والعظم يعني : عذبهم عذاباً عظيماً . وقرأ الباقون : { كَثِيراً } من الكثرة ، يعني : عذبهم عذاباً كثيراً دائماً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

قوله عز وجل : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى } عليه السلام يعني : لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى عليه السلام قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : أخبرني الثقة ، بإسناده عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى سَوْأَةِ بَعْضٍ ، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : والله مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلاّ أنَّهُ آدَرُ . فَذَهَبَ مُوسَى مَرَّةً يَغْتَسِلُ . فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ . فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ . فَخَرَجَ مُوسَى بِأَثَرِهِ يَقُولُ : حَجَرْ ثَوْبِي ، حَجَرْ ثَوْبِي حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلَى سَوْأَةِ مُوسَى . فَقَالُوا : وَالله ما بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ . فَقَامَ الحَجَرُ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ ، فَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْباً » . فقال أبو هريرة : ستة أو سبعاً . والله إن بالحجر لندباً سبعة بضرب موسى ، وذلك قوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } ويقال : إن موسى وهارون وابني هارون خرجوا فتوفي هارون في تلك الخرجة ، فلما رجع موسى إلى قومه قالت السفهاء من بني إسرائيل لموسى : أنت قتلت هارون . فخرج موسى مع جماعة من بني إسرائيل . فأحيا الله تعالى هارون عليه السلام فأخبر أنه لم يقتله أحد ، وأنه مات بأجله فذلك قوله تعالى : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } { وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } يعني : مكيناً وكان له جاه عنده منزلة وكرامة .
ثم قال عز وجل : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } يعني : أطيعوا الله واخشوا الله { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } يعني : عدلاً صواباً فيما بينكم وهو قولهم ابن فلان فأمرهم أن ينسبوهم إلى آبائهم . ويقال : { قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } يعني : لا إله إلا الله . ويقال : قولاً مخلصاً { يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم } يعني : يقبل أعمالكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في السر والعلانية { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } يعني : نجى بالخير وأصاب نصيباً وافراً .
قوله عز وجل : { إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات والارض والجبال } قال مجاهد : لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام عرض عليه الأمانة فحملها ، فما كان بين أن حملها ، وبين أن أخرج من الجنة ، إلا كما بين الظهر والعصر . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : { إِنَّا عَرَضْنَا الامانة } يعني : الفرائض على السموات والأرض والجبال . فقال لهن : يأخذن بما فيها . فقلنا : وما فيه يا رب؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن . وإن أسأتن عوقبتن . فقلن : يا رب إن تعرضها علينا فلا نريد ، وإن أمرتنا بها فنحن نجتهد .

وعرضت على الإنسان يعني : آدم عليه السلام فقبلها وحملها . وقال بعضهم : هذا على وجه المثل إن لم تظهر الخيانة في الأمانة إلا من الإنسان . فلم تظهر من السموات والأرض والجبال كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] فكأنه يقول : لو عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال لأبين حملها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } يعني : آدم وذريته { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } بالقبول . وروي عن الحسن أنه قال : عرض على السموات عرض تخيير لا عرض إيجاب . فلذلك لم تعصِ بترك قبولها ويقال : { عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات } يعني : على ملائكة السموات والأرض والجبال . كما قال : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] يعني : أهل القرية . وقال السدي : لما أراد أن يحج ، عرض الأمانة يعني : أمر ولده شِيث وقابيل وهابيل فعرض على قابيل الكخداذبية والائتمار ، والقيام في شغل الدنيا ، والعيش حتى يرجع هو من الحج إلى وطنه . فقبله ثم خانه ، فقتل أخاه . وإنما كان عرض آدم بأمر الله تعالى فلذلك قال : { عَرَضْنَا } . وقال بعضهم : إن الله عز وجل لما استخلف آدم على ذريته ، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والوحوش والطير ، عهد إليه عهداً أمره فيه ، ونهاه فقبله . ولم يزل عاملاً به إلى أن حضرته الوفاة . فسأل ربه أن يعلمه من يستخلف بعده ، ويقلده الأمانة . أن يعرض على السموات والأرض بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ، ومن العقاب إن عصى { فَأبَيْنَ } أن يقبلنها شفقاً من عذاب الله . فأمره أن يعرض على الأرض والجبال فكلاهما أبيا ، ثم أمره أن يعرض على ولده فقبل بالشرط إنه كان ظلوماً جهولاً لعاقبة ما تقلده يعني : المتقبل الذي تقبله منه .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال : { الامانة } ثلاث في الصلاة والصيام والجنابة .
ثم قال عز وجل : { لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات } يعني : عرضنا الأمانة على الإنسان لكي يعذب الله المنافقين والمنافقات { والمشركين والمشركات } بما خانوا الأمانة { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } بما أوفوا الأمانة { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وكان صلة في الكلام يعني والله غفور لذنوب المؤمنين ، رحيم بهم . وروى سفيان عن عاصم ، عن زر بن حبيش قال : قال أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب لتقارب سورة البقرة أو أطول منها ، وكان فيها آية الرجم . قلت : يا أبا المنذر وما آية الرجم؟ فقال : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله العزيز الحكيم ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

قول الله تعالى : { الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق { وَلَهُ الحمد فِى الاخرة } يعني : يحمده أهل الجنة . ويقال : يحمدونه في ستة مواضع . أحدهما حين نودي { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } [ المؤمنون : 28 ] كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله عز وجل من قومه . والثاني حين جازوا الصراط قالوا : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [ فاطر : 34 ] . والثالث لما دنوا إلى باب الجنة ، واغتسلوا بماء الحيوان ، ونظروا إلى الجنة ، وقالوا : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] . والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة عليهم السلام بالتحية فقالوا : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } [ الزمر : 74 ] الآية . والخامس حين استقروا في منازلهم وقالوا : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 34 ، 35 ] . والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا : { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 1 ] . وقال بعضهم : إنها الذي استوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا .
ثم قال : { وَهُوَ الحكيم } حين حكم بالبعث { الخبير } يعني : العليم بهم .
ثم قال عز وجل : { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض } يعني : ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والكنوز { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات والكنوز والأموات { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يعني : يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال بني آدم { وَهُوَ الرحيم } بخلقه { الغفور } بستر الذنوب وتأخير العذاب عنهم .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبّى } قسم أقسم به يعني : بلى والله .
قوله : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب } قرأ ابن عامر ونافع { عالم } بالضم ، جعله رفعاً بالابتداء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : { عالم الغيب } بكسر الميم وهو صفة لله تعالى . وهو قوله : { الحمد للَّهِ } ويقال : ردّه إلى حرف القسم وهو قوله تعالى : { قُلْ بلى وَرَبّى * عالم } . وقرأ حمزة والكسائي { عِلْمَ الغيب } وهو على المبالغة في وصف الله عز وجل بالعلم . ويقال : من قرأ { عالم الغيب } بالضم فهو على المدح ومعناه : هو { عالم الغيب } . ويقال : هو على الابتداء وخبره { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } قرأ الكسائي : { لاَ يَعْزُبُ } بكسر الواو . وقرأ الباقون : بالضم ، ومعناهما واحد أي : لا يغيب عنه { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني : وزن ذرة صغيرة . والذرة النملة الصغيرة الحمراء . ويقال : التي ترى في شعاع الشمس { فِي السموات وَلاَ فِى الارض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } يعني : قد بيّن الله عز وجل في اللوح المحفوظ { لِيَجْزِىَ } يعني : لكي يثيب { الذين كَفَرُواْ } بأعمالهم في الدنيا { وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : ثواب حسن في الجنة .
قوله عز وجل : { والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا } يعني : عملوا في القرآن { معاجزين } يعني : متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وابن كثير { معاجزين } أي : مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن و { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { أَلِيمٌ } بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني : عذاب أليم من رجز على معنى التقديم . يعني : عذاب شديد . وقرأ الباقون : بالكسر فيكون صفة للرجز يعني : عذاب من العذاب الأليم .

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

ثم قال عز وجل : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } يعني : أي يعلم الذين أوتوا العلم . وهذا روي في قراءة ابن مسعود : يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني : إنهم يعلمون أن { الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } يعني : القرآن { هُوَ الحق وَيَهْدِى } يعني : يدعو ويدل { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } يعني : إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل الحميد في فعاله .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } يعني : كفار أهل مكة { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } يعني : قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل { يُنَبّئُكُمْ } يعني : يخبركم { إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } يعني : يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض ، وأكلتكم الأرض كل ممزق ، يعني : وكنتم تراباً { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : بعد هذا كله صرتم خلقاً جديداً .
قوله عز وجل : { افترى عَلَى الله كَذِبًا } يعني : قالوا : إن الذي يقول إنكم لفي خلق جديد اختلق على الله كذباً { أَم بِهِ جِنَّةٌ } يعني : به جنون .
يقول الله : { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } هم كذبوا حين كذبوا بالبعث { فِى العذاب والضلال البعيد } يعني : هم في العذاب في الآخرة . والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق .
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض } لأن الإنسان حيثما نظر ، رأى السماء والأرض . قال قتادة : إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك ، أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارض } يعني : تغور بهم وتبتلعهم الأرض { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء } يعني : جانباً من السماء . قرأ حمزة والكسائي : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ } أو يسقط الثلاثة كلها بالياء . وقرأ الباقون : كلها بالنون . فمن قرأ بالياء : فمعناه إن يشأ الله . ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } يعني : لعبرة { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } يعني : مقبل إلى طاعة الله عز وجل . ويقال : مخلص القلب بالتوحيد . ويقال : مشتاق إلى ربه . ويقال : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني : أفلم يعلموا أن الله خالقهم ، وخالق السموات والأرض ، وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي : لعلامة لوحدانيتي .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدُ مِنَّا فَضْلاً } يعني : أعطيناه النبوة والملك { فَضْلاً ياجبال أَوّبِى مَعَهُ } يعني : سبحي مع داود . وأصله في اللغة من الرجوع . وإنما سمي التسبيح إياباً لأن المسبح مرة بعد مرة وقال القتبي : أصله التأويب من السير ، وهو أن يسير النهار كله ، كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل .
ثم قال : { والطير } وقرىء في الشاذ : { والطير } بالضم . وقراءة العامة بالنصب . فمن قرأ بالضم : فهو على وجهين . أحدهما أن يكون نسقاً على أوبي ، والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير . ويجوز أن يكون مرفوعاً على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير . ومن قرأ بالنصب فلثلاث معانٍ أحدها لنزع الخافض ومعناه : أوبي معه ، ومع الطير . والثاني أنه عطف على قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدُ مِنَّا فَضْلاً } وآتيناه الطير يعني : وسخرنا له الطير . والثالث أن النداء إذا كان على أثره اسم ، فكان الأول بغير الألف واللام ، والثاني بالألف واللام ، فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه ، وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر
ألاَ يَا زَيْدُ والضَّحَّاكَ سِيْرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمرَ الطَّرِيقِ
ورفع زيداً لأنه نداء مفرد ، ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام .
ثم قال عز وجل : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } يعني : جعلنا له الحديد مثل العجين { أَنِ اعمل سابغات } يعني : قلنا له اعمل الدروع الواسعة . وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة .
ثم قال : { وَقَدّرْ فِى السرد } قال السدي : { السرد } المسامير التي في خلق الدرع . وقال مجاهد : { وَقَدّرْ فِى السرد } أي : لا تدق المسامير ، فتقلقل في الحلقة ، ولا تغلظها فتعصمها ، واجعله قدراً بين ذلك . وقال في رواية الكلبي هكذا . وقال بعضهم : هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود عليه السلام وكانت بغير مسامير ، لأنها كانت معجزة له . ولو كان محتاجاً إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق . وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير ، ولكن معنى قوله : { وَقَدّرْ فِى السرد } أي : قدر في نسخها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها . ويقال : { قُدِرَ } في تأليفه والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء . يأتي منسقاً بعضه إلى أثر بعض ، متتابعاً . ويقال : يسرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف . ومنه قيل لصانع الدروع : سراد وزراد ، تبدل من السين الزاي . وروي عن عائشة أنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم أي : لم يتابع في الحديث كتتابعكم .
ثم قال : { واعملوا صالحا } يعني : أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة . ويقال : إنه أراد به داود وقومه { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعني : عالم

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قوله عز وجل : { ولسليمان الريح } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { الريح } بالضم وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب فمعناه : { وَسَخَّرْنَا لسليمان الريح } كما اتفقوا في سورة الأنبياء { ولسليمان الريح } تكون رفعاً على معنى الخبر .
ثم قال : { الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى اصطخر . { وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } يعني : تسير به عند آخر النهار مسيرة شهر من اصطخر إلى بيت المقدس ، واصطخر عند بلاد فارس . { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } يعني : أجرينا له عين الصفر المذاب . يقال : تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب . وروى سفيان عن الأعمش قال : سيلت له كما سيل الماء ويقال جرى له عين النحاس في اليمن . وقال شهر بن حوشب : جرى له عين النحاس من صنعاء { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني : وسخرنا لسليمان { مّن الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } { بِإِذْنِ رَبّهِ } يعني : بأمر ربه { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } يعني : من يعصِ سليمان فيما أمره { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } قال بعضهم : كان معه ملك ، ومعه سوط من عذاب السعير . فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط . وقال مقاتل : يعني به عذاب الوقود في الآخرة .
قوله عز وجل : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } يعني : ما يشاء سليمان { مِن محاريب } يعني : المساجد . ويقال : الغرف . { وتماثيل } يعني : على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره . ويقال : ويجعلون صوراً للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام .
ثم قال : { وَجِفَانٍ كالجواب } يعني : قصاعاً كالحياض الكبيرة . ويجلس على القصعة الواحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر . الجابية في اللغة : الحوض الكبير وجماعته جواب . قرأ ابن كثير : كالجوابي بالياء في الوقف والوصل جميعاً . وقرأ أبو عمرو : وبالياء في الوصل والباقون : بغير ياء . فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء .
قوله : { كالجواب وَقُدُورٍ رسيات } يعني : ثابتات في الأرض لا تزول من مكانها ، وكان يتخذ القدور من الجبال . قال مقاتل : كان ملكه ما بين مصر وبابل . وقال بعضهم : جميع الأرض .
ثم قال : { اعملوا ءالَ دَاوُدُ شاكرا } يعني : يا آل داود لما أعطيتكم من الفضل . ويقال : معناه اعملوا عملاً تؤدوا بذلك شكر نعمتي { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } والشكور هو المبالغة في الشكر . وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها . ومثل هذا في الناس قليل . وهذا معنى قوله : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني : إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق الله عز وجل .

ويشكر لذلك الشكر ، وهذا في الناس قليل .
ثم قال عز وجل : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } يعني : على سليمان عليه الصلاة والسلام فكان سليمان يبني في بيت المقدس ، فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن . فأمرهم بالعمل وقال لأهله : لا تخبروهم بموتي . فكان قائماً في الصلاة ، متكئاً على عصاه ، وكان سليمان عليه الصلاة والسلام يطول الصلاة . فكان الجن إذا حضروا ، رأوه قائماً فرجعوا ويقولون : إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم .
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال : كان سليمان عليه السلام إذا مرّ بشجرة يعني : بشيء من نبات الأرض قال لها : ما شأنك؟ فتخبره الشجرة أنها كذا وكذا ، ولمنفعة كذا وكذا ، فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها . فمر بشجرة فقال لها : ما اسمك يا شجرة؟ فقالت : أنا خرنوبة . فقال : ما شأنك؟ قالت : أنا لخراب المسجد . فتعصى سليمان منها عصا ، فكانت الجن يقولون للإنس : إنا نعلم الغيب . وإن سليمان سأل الله عز وجل أن يخفي موته . فلما قضى الله عز وجل على سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات ، ولم يطلع أحد على موته . والجن تعمل بأشد ما كانوا عليه ، حتى خرّ سليمان عليه السلام فنظروا كيف مات فلم يدروا ، فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني : قد أكل منها ، وفي العصا أرضة . فنظروا إلى أين أكلت الأرضة من العصا . فجعلوه علماً ، ثم ردوا الأرضة فيها فأكلت شهراً ، ثم نظروا كم أكلت في ذلك الشهر ، ثم قاسوها بما أكلت من قبل . فكان لموته اثنا عشر شهراً . فتبيّن للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . فقالت الجن : إن لها علينا حقاً . يعني : الأرضة فهم يبلغونها الماء فلا يزال لها طينة رطبة فذلك قوله : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ } يعني : ما دلّ على موت سليمان { إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ } يعني : الأرضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } يعني : عصاه . قرأ نافع وأبو عمرو { مِنسَأَتَهُ } بلا همز . وقرأ الباقون بالهمز . فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة ، ثم تسمى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدَّابَة . ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز
{ فَلَمَّا خَرَّ } يعني : سقط عليه السلام { تَبَيَّنَتِ الجن } علم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . ويقال : { تَبَيَّنَتِ الجن } يعني : ظهر لهم : أنهم لو علموا الغيب يعني : { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين } فتفرقوا عن ذلك . قرأ حمزة : { مّنْ عِبَادِىَ الشكور } بسكون الياء . وقرأ الباقون : بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز .
.

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

قوله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } قرىء بالنصب والكسر . وقد ذكرناه من قبل . فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضاً والأول أشبه . لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن سبأ . فقال : « هُوَ اسمُ رَجُلٍ » . ويقال : هو سبأ بن يشخب بن يغرب بن قحطان . وروي عن ابن عباس أنه قال : هي من قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبياً عليهم السلام إلى ثلاث عشر قرية باليمن اتبع بعضهم بعضاً ، حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ . وقرية أخرى ، فأتوهم فذكروهم نعم الله عز وجل وخوفوهم عقابه . وروى أسباط عن السدي قال : كانت أرضهم أرضاً خصيبة ، وكانت المرأة تخرج على رأسها مكتلاً فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها ، وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين ، وكانوا قد ردموا ردماً بين جبلين فحبسوا الماء ، وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم . ويقال : كان لهم وادي . وكان للوادي ثلاث درفات . فإذا كثر الماء فتحوا الدرفة العليا ، وإذا انتقص فتحوا الدرفة الوسطى ، وإذا قلّ الماء فتحوا الدرفة السفلى . فأخصبوا ، وكثرت أموالهم ، واتخذوا من الجنان ما شاؤوا . فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم ، بعث الله عز وجل عليهم جرذاً ، فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أب الأنصار والأزد وغسان وخزاعة ويسمون المنسأة العرم ، فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرزة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه . وكان كاهناً فقال : ما تنقل هذه الجرزة أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة . فدعى ابن أخ له فقال : إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني . فقل : أي عم أعطني ميراثي من أبي . فإني سأقول : وهل ترك أبوك شيئاً؟ فأردد علي وكذبني . فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني . فقال : أي عم ما كنت لأفعل هذا بك؟ قال : بلى . فلما رأى لعمه في ذلك هوًى . قال : أفعل ما تأمرني ، ففعل . فقال عمران بن عامر : لله علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي . فلما عرفوا منه الجد قال هذا : أعطيك كذا . فنظر إلى أجودهم صفقة . فقال : عجل إليَّ مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها ، فعجل إليه ماله ، وارتحل من يومه حتى شخص عنهم ، فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم ، وتفرقوا في البلدان . فذلك قوله : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } { فِى مَسْكَنِهِمْ } قرأ الكسائي : { فِى مَسْكَنِهِمْ } بكسر الكاف والنون .

وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص : { مَسْكَنِهِمْ } بنصب الكاف وكسر النون . وقرأ الباقون : { مساكنهم } بالألف . والمسكن بنصب الكاف وكسره واحد وهما لغتان مثل مطلع ومطلع . والمساكين جمع مسكين .
وقد قيل : المسكن جمع المساكين لقد كان في منازلهم وقرياتهم { ءايَةً } أي : علامة ظاهرة لوحدانيتي { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } يعني : بستانان عن يمين الوادي ، وعن شماله . وإنما أراد بالبستان البساتين . ويقال : بساتين عن يمين الطريق ، وبساتين عن شماله . فأرسل الله تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } يعني : من فضل ربكم { واشكروا لَهُ } فيما رزقكم { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ } يعني : هذه بلدة طيبة لينة بلا سبخة { وَرَبٌّ غَفُورٌ } لمن تاب من الشرك { فَأَعْرِضُواْ } عن الإيمان . وقالوا : من ذا الذي يأخذ منا النعم { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } والعرم هو اسم لذلك الوادي . ويقال : اسم للمنشأة . ويقال : هو اسم للفأرة التي قرضت النهر حتى سال عليهم الماء . وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها ، وندت أنعامهم ، وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته ، فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى { وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } يعني : أبدلهم الله تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك { وَأَثْلٍ } يعني : الطرفاء { وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } والسدر كانوا يستظلون في ظله ، ويأكلون من ثمره . قرأ أبو عمرو : { أَكَلَ } بكسر اللام بغير تنوين . وقرأ الباقون : بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد { ذَوَاتَىْ } ثمر يؤكل ثم قال : { خَمْطٍ } بدلاً من أكل . والمعنى : ذواتي خمط وأكله ثمرة . ومن قرأ : بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط . والخمط هو الأراك في اللغة المعروفة . وقال بعضهم : كل نبت أخذ طعماً من مرارة ، حتى لا يمكن أكله فهو خمط .
ثم قال : { ذلك جزيناهم } يعني : ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم { بِمَا كَفَرُواْ } أي : بكفرهم { وَهَلْ * نُجْزِى إِلاَّ الكفور } يعني : وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى . ويقال : { الكفور } الكافر . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : { وَهَلْ } بالنون وكسر الزاي { نُجْزِى إِلاَّ الكفور } بالنصب . وقرأ الباقون { يجازي } بالياء وفتح الزاي { نُجْزِى إِلاَّ الكفور } بالضم . فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه . والكفور ينصب لوقوع الفعل عليه . ومن قرأ { يجازى } بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله . يعني : هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى . ويقال : هل يجازي الله . ومعنى الآية : أن المؤمن من يكفر عنه السيئات بالحسنات ، وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله ، فيجازى بكل سوء يعمله كما قال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أعمالهم } [ محمد : 1 ] أي : أبطل أعمالهم وأحبطها ، فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله : { وَهَلْ * نُجْزِى إِلاَّ الكفور } .

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

ثم قال عز وجل : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } قال في رواية الكلبي : إنهم قالوا للرسل : إنا قد عرفنا نعمة الله علينا ، فوالله لئن يرد الله فيئتنا وجماعتنا ، والذي كنا عليه ، لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط . فدعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه . وأتاهم نعمة وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض ، فذلك قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } { قُرًى ظاهرة } ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق . وقال غيره : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم قرى ظاهرة يعني : متصلة على الطريق من حيث يرى بعضها من بعض { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } للمبيت والمعيل من قرية إلى قرية { سِيرُواْ فِيهَا } يعني : ليسيروا فيها . اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الشرط والجزاء . فلم يشكروا ربهم ، فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وقد كانوا في قراهم آمنين منعّمين فذلك قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ } يعني : أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار ، آمنين من الجوع ، والعطش ، واللصوص ، والسباع . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { بَعْدَ } بغير ألف وتشديد العين . وقرأ الباقون { باعد } بالألف وهما لغتان بَعّدَ باعد . وقرأ يعقوب الخضرمي وكان من أهل البصرة { رَبَّنَا } بضم الباء { باعد } بنصب العين وهو على معنى الخبر .
وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه { رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } فلذلك لا ينصب .
ثم قال : { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالشرك وتكذيب الأنبياء { فجعلناهم أَحَادِيثَ } يعني : أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقناهم في كل وجه ، فألقى الله الأزد بعمان ، والأوس والخزرج بالمدينة ، وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى الأوس ، فسموا باسم أبيهم . وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة ، منهم لخم وجذام بالشام . ويقال كلب وغسان { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ } أي : في هلاكهم وتفريقهم لعبرات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعني : للمؤمنين الذين صبروا على طاعة الله تعالى ، وشكروا نعمته .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } يعني : على أهل سبأ . ويقال : هذا ابتداء . يعني : جميع الكفار وذلك أن إبليس قد قال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين }

[ ص : 82 ، 83 ] فكان ذلك ظناً منه فصدق ظنه { فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً } يعني : طائفة { مِنَ المؤمنين } وهم الذين قال الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] وقال سعيد بن جبير : كان ظنه أنه قال : أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين . وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : { وَلَقَدْ صَدَّقَ } بالتخفيف يعني : صدق في ظنه . وقرأ الباقون : { صَدَقَ } بالتشديد . يعني : صار ظنه صدقاً .
قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان } يعني : لم يكن له عليهم ملك فيقهرهم . ويقال : يعني ما سلطناه عليهم إلا لنختبرهم من الذي يطيعنا . وقال الحسن البصري رحمه الله : والله ما ضربهم بعصا ، ولا أكرههم على شيء ، وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه . وقال قتادة : والله ما كان ظنه إلا ظناً ، فنزل الناس عند ظنه . وقال معمر : قال لي مقاتل : إن إبليس لما أنزل آدم عليه السلام ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه . فصدق عليهم ظنه . فإن قيل في آية أخرى : { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] وهاهنا يقول : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان } قيل له : أراد بالسلطان هناك الحجة يعني : إنما حجته على الذين يتولونه . وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني : لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به . ويقال : معنى الآيتين واحد . لأن هناك قال : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا . وهاهنا قال : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان } يعني : حجة على فريق من المؤمنين إلا بالتزيين والوسوسة منه .
{ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ } يعني : نميز من يصدق بالبعث ممن هو في شك . يعني : من قيام الساعة . وقال القتبي : علم الله نوعان : أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين . وكفر الكافرين من قبل أن يكون . وهذا علم لا يجب به حجة ، ولا عقوبة ، والآخر علم الأمور الظاهرة . فيحق به القول ، ويقع بوقوعها الجزاء . يعني : ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهراً موجوداً ، وكفر الكافرين ظاهراً موجوداً . وكذلك قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] الآية .
ثم قال عز وجل : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } يعني : عالماً بالشك واليقين . ويقال : عالم بقولهم . ويقال : عالم بما يكون منهم قبل كونه . ويقال : حفيظ يحفظ أعمالهم ليجازيهم .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

ثم قال عز وجل : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم } يعني : قل لكفار مكة { أَدْعُو الذين زَعَمْتُمْ } { مِن دُونِ الله } أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع . يعني : الأصنام . ويقال : الملائكة عليهم السلام . { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ } يعني : نملة صغيرة { فِي السموات وَلاَ فِى الارض } يعني : إذا كان حالهم هذا ، فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة .
ثم قال : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } يعني : في خلق السموات والأرض من عون . ويقال : ما لهم فيها من نصيب { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ } يعني : معين من الملائكة الذين يعبدونهم .
ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئاً من الشفاعة فقال عز وجل : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ } يعني : لا تنفع لأحد لا نبياً ولا ملكاً { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أن يشفع لأحد من أهل التوحيد . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين ، { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } بالنصب . يعني : حتى يأذن الله عز وجل له . قرأ الباقون . بالضم على فعل ما لم يسم فاعله . ومعناه : مثل الأول .
ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خرّوا سجداً من مخافة الله عز وجل ، وكيف يعبدون من هذه حاله وكذلك قوله : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } وذلك أن أهل السموات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، فسمعوا صوتاً كوقع الحديد على الصفا فخروا سجداً مخافة القيامة وذلك صوت الوحي . ويقال : صوت نزول جبريل عليه السلام فخروا سجداً مخافة القيامة فهبط جبريل عليه السلام على أهل كل سماء فذلك قوله : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } . وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال : إذا كانت حتى موصولة بإذا تكون بمعنى لما ، تقع موقع الابتداء كقوله عز وجل : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } / [ الحجر : 14 ] كقوله : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير } [ سبأ : 23 ] يعني : لما فزع عن قلوبهم . ومعناه : انجلاء الفزع عن قلوبهم ، فقاموا عن السجود ، وسأل بعضهم بعضاً { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } يعني : ماذا قال جبريل عليه السلام عن ربكم { قَالُواْ الحق } يعني : الوحي .
قال : حدّثنا الفقيه أبو الليث رحمه الله . قال : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا الدبيلي . قال : حدّثنا أبو عبد الله . قال : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« إذَا قَضَى الله فِي السَّمَاءِ أمْراً ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَاناً لِقَوْلِهِ ، وَسُمِعَ لذلك صَوْتٌ كَأنَّهَا سلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } { قَالُواْ الحق } الَّذِي قَالَ : فَسِيحي الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ . فَإِذَا سَمِعَ الأَعْلَى مِنْهُمُ الْكَلِمَةَ ، رَمَى بِهَا إلَى الذي تَحْتَهُ وَرُبَّما أدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أنْ يَنْبِذَهَا وَرُبَّمَا نَبَذَهَا قَبْلَ أنْ تُدْرِكَهُ ، فَيَنْبِذَهَا ، بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الأرْضِ ، فَتُلْقَى عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ ، فَيُصَدِّقُ فَيَقُولُ ، ألَيْسَ قَدْ أخْبَرَ بِكَذَا وَكَذَا ، وَكَانَ حَقّاً وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ » قرأ ابن عامر { حتى إِذَا فُزّعَ } بنصب الفاء والزاي يعني : كشف الله الفزع . وقرأ الباقون : بضم الفاء على معنى ما لم يسم فاعله . وقرأ الحسن { حتى إِذَا فُزّعَ } بالواو والغين يعني : فرغ الفزع عن قلوبهم . وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع . وقال مجاهد : معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال { وَهُوَ العلى الكبير } يعني : هو أعلى وأعظم وأجلّ من أن يوصف له شريك .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قوله عز وجل : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السموات والارض } يعني : المطر والنبات فإن أجابوك وإلا { قُلِ الله } يعني : الله يرزقكم من السموات والأرض { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ } يعني : قل لهم أحدنا { لعلى هُدًى } والأخرى على الضلال . يعني : إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لآخر : أحدنا كاذب وهو يعلم أنه أراد به صاحبه . ويقال : في الآية تقديم يعني : وإنا على الهدى وإياكم { أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } .
ثم قال عز وجل : { قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا } يعني : لا تسألون عن جرم أعمالنا { وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يعني : لا نسأل عن جرم أعمالكم . ويقال : لا تأخذون بجرمنا ، ولا نؤخذ بجرمكم .
قوله عز وجل : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يعني : يوم القيامة نحن وأنتم { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } يعني : بالعدل { وَهُوَ الفتاح العليم } القابض العليم بما يقضي { قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء } أروني آلهتكم الذين تعبدون من دون الله ، وتزعمون أنها له شركاء . أي : ماذا خلقوا في السموات والأرض من الخلق { كَلاَّ } يعني : ما خلقوا شيئاً { بَلْ هُوَ الله } خالق كل شيء { العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره .
قوله عز وجل : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } أي : عامة للناس { بَشِيراً } . وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أُعْطَيْتُ خَمْساً لَمْ يعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي . بُعِثْتُ إلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ فَلْيْسَ أحَدٌ مِنْ أحْمَرَ وَأسْوَدَ يَدْخُلُ فِي أُمَّتِي إلاَّ كَانَ مِنْهُمْ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ . وَجُعِلْتُ فَاتِحاً وَخَاتِماً . وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً ، أيْنَمَا أدْرَكَتْنَا الصَّلاةَ صَلَيْنَا ، وَإنْ لَمْ نَجِدْ مَاءً تَيَمَّمْنَا وَأُطْعِمْنَا غَنَائِمَنَا وَلَمْ يطْعَمْهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَنَا كَانَتْ قُرْبَانُهُمْ تَأْكُلُهُ النَّارُ » . ثم قال : { بَشِيراً وَنَذِيراً } يعني : بشيراً بالجنة لمن أطاعه ، ونذيراً بالنار لمن عصاه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون بالجنة ولا بالنار { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } يعني : البعث { إِن كُنتُمْ صادقين } يعني : إن كنت صادقاً . ويقال : إن كنت رسول الله .
قوله عز وجل : { قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } يعني : ميقاتاً في العذاب . ويقال : ميعاداً في البعث والعذاب { لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ } يعني : عن الميعاد والعذاب { سَاعَةِ } يعني : قدر ساعة { وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } قبل الأجل . ويقال : معناه أنا قادر اليوم على عذابهم ، ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل . يعني : لا نصدق بذلك كله فحكى الله قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون } يعني : لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة { مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } يعني : محبوسين في الآخرة { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } يعني : يرد بعضهم بعضاً الجواب .
ثم أخبر عن قولهم فقال : { يَقُولُ الذين استضعفوا } وهم السفلة والأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } يعني : القادة والرؤساء { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } يعني : لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين .
قوله عز وجل : { قَالَ الذين استكبروا } يعني : القادة { لِلَّذِينَ استضعفوا } وهم الأتباع { أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى } يعني : أنحن منعناكم عن الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } به الرسول { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } يعني : مشركين .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين استضعفوا } يعني : ردت الضعفاء عليهم الجواب . وقالوا : { لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } يعني : قولكم لنا بالليل والنهار ، واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك . { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله } يعني : نجحد بوحدانية الله { وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } يعني : نقول له شركاء { وَأَسَرُّواْ الندامة } يعني : أخفوا الحسرة . ويقال : أظهروا الندامة والحسرة { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الاغلال } يعني : نجعل الأغلال يوم القيامة { فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } من الرؤساء والسفلة { هَلْ يُجْزَوْنَ } يعني : هل يثابون في الآخرة { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا .
قوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ } يعني : من رسول { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } يعني : جبابرتها ورؤساؤها للرسل { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } يعني : جاحدون بالتوحيد . والمترف المتنعم ، وإنما أراد به المتكبرين { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا } في الدنيا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } في الآخرة . ومعناه : أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء ، وآذوا الرسل . كما يفعل بك قومك ، وافتخروا بما أعطاهم الله عز وجل من الأموال كما افتخر قومك . وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال . فإن الله تعالى يعطي المال لمن يشاء .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

وهو قوله عز وجل : { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أي : يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج { وَيَقْدِرُ } يعني : يقتر على من يشاء ، وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن التقتير والبسط من الله عز وجل . ويقال : لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا ثم أخبر الله تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل : { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } يعني : قربة . ومعناه : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم ، لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم .
ثم قال : { وَمَا أموالكم وَلاَ } يعني : إلا من صدق الله ورسوله { وَعَمِلَ صالحا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف بِمَا عَمِلُواْ } يعني : للواحد عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى . وقال القتبي : أراد بالضعف التضعيف أي : لهم جزاء وزيادة . قال : ويحتمل { جَزَاء الضعف } أي : جزاء الأضعاف كقوله : { قَالَ ادخلوا فى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الجن والإنس فِى النار كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاولاهم رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] أي : مضافاً .
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : إن الغني إذا كان تقياً ، يضاعف الله له الأجر مرتين ، ثم قرأ هذه الآية . { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم } إلى قوله : { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف } يعني : أجره مِثْلَيْ ما يكون لغيره . ويقال : هذا لجميع من عمل صالحاً { وَهُمْ فِى الغرفات ءامِنُونَ } قرأ حمزة : { وَهُمْ فِى * الغرفة } . وقرأ الباقون : { وَهُمْ فِى الغرفات } والغرفة في اللغة كل بناء يكون علواً فوق سفل ، وجمعه غرف وغرفات . ومعناه : وهم في الجنة آمنون من الموت ، والهرم ، والأمراض ، والعدو وغير ذلك من الآفات .
ثم قال عز وجل : { والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا * معاجزين } والقراءة قد ذكرناها { أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ } يعني : في النار معذبون { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } وقد ذكرناه { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء } يعني : ما تصدقتم من صدقة { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } يعني : فإن الله يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة { وَهُوَ خَيْرُ الرزقين } يعني : أقوى المعطين .
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ شَمْسٌ إلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَيْهَا مَلَكَان يُنَادِيَانِ : اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُنْفِقٍ مَالَهُ خَلَفاً وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ مَالَهُ تَلَفاً » .

ثم قال عز وجل : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني : الملائكة عليهم السلام ومن عبدهم . قرأ بعضهم من أهل البصرة : { يَحْشُرُهُمْ } بالياء يعني : يحشرهم الله عز وجل . وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه ، { ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } يعني : أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم ، وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمِّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سبحانك مَا يَكُونُ لى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } [ المائدة : 116 ] الآية { قَالُواْ سبحانك } فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا : { سبحانك } يعني : تنزيهاً لك { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } ونحن بَرَآءٌ منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يعني : أطاعوا الشياطين في عبادتهم { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } يعني : مصدقين الشياطين مطيعين لها .
يقول الله تعالى : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً } يعني : شفاعة { وَلاَ ضَرّا } يعني : ولا دفع الضر عنهم { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يعني : كفروا في الدنيا . يقال : لهم في الآخرة { ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } إنها غير كائنة ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)

قوله عز وجل : { وَإِذَا تتلى } يعني : يقرأ وتعرض { عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات } بالأمر والنهي والحلال والحرام { قَالُواْ } ما نعرف هذا { مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ } يعني : يصرفكم { عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ } من عبادة الأصنام { وَقَالُواْ مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } يعني : كذباً مختلقاً { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ } يعني : للقرآن { لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : كذب بيّن .
ثم قال عز وجل : { وَمَا ءاتيناهم } يعني : ما أعطيناهم { مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني : من كتب يقرؤونها وفيها حجة لهم بأن مع الله شريكاً { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } يعني : من رسول في زمانهم { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } يعني : من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك { وَمَا بَلَغُواْ } أي : ما بلغ قومك { مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم } يعني : ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة ، فأهلكتهم بالعذاب حين كذبوا رسلي { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } يعني : كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } يعني : بكلمة واحدة ويقال : بخصلة واحدة { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } بالحق { مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } يعني : أمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل ، وتتفكروا في أنفسكم ، هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السموات والأرض هل رأيتم به جنوناً .
ثم قال : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } يعني : من جنون . وقال القتبي : تأويله أن المشركين لما قالوا : إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا لله في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه . فيقول له : هلمّ فلنتصادق . هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذباً .
ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكر ، وينظر . فإن ذلك يدل على أنه نذير . قال : وكل من تحيّر في أمر قد اشتبه عليه واستبهم ، أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر .
ثم قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ } أي : ما هو إلا مخوف لكم { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي : بين يدي القيامة .
ثم قال عز وجل : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا أقربائه فكفوا عن ذلك فنزل { ذَلِكَ الذى يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ }

[ الشورى : 23 ] فكفوا عن ذلك . ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا : لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء أقربائه . وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } إن شئتم آذوهم ، وإنْ شئتم امتنعتم . { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } فهو الحافظ والناصر { وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ } بأني نذير وما بي جنون .
ثم قال عز وجل : { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق } يعني : يبين الحق من الباطل . ويقال : يأمر بالحق . ويقال : يتكلم بالحق . يعني : بالوحي { علام الغيوب } يعني : هو عالم كل غيب .
قوله عز وجل : { قُلْ جَاء الحق } يعني : ظهر الإسلام { وَمَا يُبْدِىء الباطل } يعني : لا يقدر الشيطان أن يخلق أحداً { وَمَا يُعِيدُ } يعني : لا يقدر أن يحييه بعد الموت ، والله تعالى يفعل ذلك . ويقال : { الباطل } أيضاً الصنم . وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول « { جَاء الحق } وَزَهَقَ البَاطِلُ . قُلْ : { جَاء الحق } وَمَا يُبْدِي البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» .

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قوله عز وجل : { قُلْ } يا محمد { إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } يعني : وزور الضلال على نفسي { وَإِنِ اهتديت } إلى الحق والهدى { فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } يعني : اهتديت بما يوحي إليّ من القرآن { إِنَّهُ سَمِيعٌ } للدعاء { قَرِيبٌ } بالإجابة ممن دعاه . وقيل للنابغة حين أسلم : أصبوت؟ يعني : آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم . قال : بلى . هو غلبني بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل . فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها . فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق ، فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق علام الغيوب } { قُلْ جَاء الحق وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
قوله عز وجل : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } يعني : خافوا من العذاب { فَلاَ فَوْتَ } يعني : فلا نجاة لهم منها { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } . روي عن الكلبي أنه قال : نزلت الآية في قوم يقال لهم : السفيانية يخرجون في آخر الزمان ، عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز . فافترقوا فرقتين . فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له : بيداء ، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة ، فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحداً منهم ينجو . فيحول وجهه إلى خلفه . فيرجع إلى الفرقة الأخرى ، فيخبرهم بما أصابهم يعني : ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل عليه السلام { فَلاَ فَوْتَ } أي : لا يفوت منهم فايت { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } يعني : خسف بهم البيداء بقرب مكة . ويقال : يعني : يوم القيامة . { وَلَوْ تَرَى } { كَانَ مُحَمَّدٌ } { إِذْ فَزِعُواْ } حين نزل بهم العذاب يوم القيامة { فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } كما قال : { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } [ النازعات : 36 ] . وقال الحسن : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك : يعني : يوم بدر .
ثم قال عز وجل : { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } يعني : العذاب حين رأوه ، يقول الله تعالى { وأنى لَهُمُ التناوش } يعني : من أين لهم التوبة . ويقال : من أين لهم الرجفة . قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين التناؤش بالهمز . وقرأ الباقون بغير همز . فمن قرأ بالهمز فهو من { التناوش } وهو الحركة في إبطاء . والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه . ومن قرأ بغير همز فهو من التناول . ويقال : تناول إذا مدّ يده إلى شيء ليصل إليه ، وتناوش يده إذا مدّ يده إلى شيء لا يصل إليه .

ثم قال : { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } يعني : من الآخرة إلى الدنيا . وروي عن ابن عباس أنه قال : { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } قال : سألوا الرد حين لا رد .
ثم قال عز وجل : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } يعني : كفروا بالله من قبل الموت . ويقال به ، يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال : بالقرآن { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } يعني : يتكلمون بالظن في الدنيا { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } أنه لا جنة ولا نار ولا بعث .
ثم قال : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني : من الرجفة إلى الدنيا ويقال : من التسوية . كيف ينالون التسوية في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل { كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ } يعني : الأقدمون أهل دينهم ، الأولون من قبل الأشياع جمع الجمع . يقال : شيعة وشيع وأشياع .
ثم قال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ } يعني : هم في شكّ مما نزل بهم مريب . يعني : إنهم لا يعرفون شكهم . وقال القتبي في قوله : فلا فوت يعني : لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ ص : 3 ] أي : نادوا حين لا مهرب والله أعلم .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

قوله تبارك وتعالى : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والارض } يعني : خالق السموات والأرض . يقال : فطر الشيء إذا بدأه . قال ابن عباس رضي الله عنه : ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر . فقال أحدهما : أنا فطرتها يعني : بدأتها .
ثم قال : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } يعني : مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين عليهم السلام { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } يعني : ذوي أجنحة ، ولفظ أولي يستعمل في الجماعة ، ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو .
ثم قال : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } يعني : من الملائكة من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة . ومنهم كذا . ويقال : { ثلاث } معدول من ثلاثة . يعني : ثلاثة ثلاثة . { وَرُبَاعَ } معدول من أربعة يعني : أربعة أربعة .
ثم قال : { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } يعني : يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء . وروي عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته . فقال له جبريل : إنك لا تطيق ذلك . فقال : « إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ » . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه . ثم أفاق وجبريل عليه السلام يسنده ، واضع إحدى يديه على صدره ، والأخرى بين كتفيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سُبْحَانَ الله مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا » فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل؟ إن له اثني عشر جناحاً ، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وأن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضائل بالأحايين لعظمة الله ، حتى يعود مثل الوضع يعني : عصفوراً . حتى لا يحمل عرشه إلا عظمته . فذلك قوله تعالى : { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } يعني : في خلق الملائكة . ويقال : { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } يعني : الشعر الحسن ، والصوت الحسن ، والخد الحسن . ويقال : { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } يعني : في الجمال والكمال والدمامة .
ثم قال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من الزيادة والنقصان وغيره .
ثم قال عز وجل : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } يعني : ما يرسل الله للناس من رزق كقوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } [ الإسراء : 28 ] ويقال : الغيث . ويقال : { مِن رَّحْمَةِ } يعني : من كل خير { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } يعني : لا يقدر أحد على حبسها { وَمَا يُمْسِكْ } يعني : ما يحبس من رزق { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } يعني : فلا معطي أحد بعد الله عز وجل . قال في أول الكلام : { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } بلفظ التأنيث ، لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة .
ثم قال : { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } بلفظ التذكير ، لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق ، ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة . فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه ، وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير مجاز حذف ما ثم قال : { وَهُوَ العزيز } فيما أمسك { الحكيم } فيما أرسل .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

قوله عز وجل : { يأَيُّهَا الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : احفظوا نعمة الله . ثم ذكر النعمة فقال : { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء والارض } يعني : النبات والمطر . قرأ حمزة والكسائي { غَيْرُ الله } بكسر الراء . وقرأ الباقون بالضم مثل ما في سورة الأعراف . والاستثناء إذا كان بحرف إلا . فإن الإعراب يكون على ما بعده . وإذا كان الاستثناء بحرف غير ، فإن الإعراب يقع على نفس الغير . فمن قرأ بالكسر ، صار كسراً على البدل . ومن قرأ بالرفع فمعناه : هل خالق غير الله ، لأن من موكدة . ولفظ الآية لفظ الاستفهام . والمراد به النفس يعني : أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه ، ولا يرزقكم أحد سواه .
ثم وحّد نفسه فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يفعل بكم ذلك { فأنى تُؤْفَكُونَ } يعني : من أين تكذبون ، وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه .
ثم قال عز وجل : { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } كما كذبك قومك ، وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } يعني : إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث .
ثم قال عز وجل : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } يعني : يا أهل مكة { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : البعث بعد الموت حق كائن { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } يعني : حياتكم في الدنيا ، والدنيا في الأصل هي القربى . سميت بهذا لأن حياتهم هذه أقرب إليهم . ويقال : هي فعلى من الأدون يعني : حياة الأدون { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } يعني : الباطل وهو الشيطان . قال : حدّثنا أبو الليث رحمه الله . قال : حدّثني أبي . قال : حدّثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي . قال : حدّثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زيادة . قال : رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء ، ضعيفة ، عليها من كل زينة فقلت : من أنت . أعوذ بالله منك؟ فقالت : أنا الدُّنيا . فإن يسرك أن يعيذك الله مني ، فأبغض الدراهم يعني : لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } يعني : حين يأمركم بالكفر ، ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة الله { فاتخذوه عَدُوّاً } يعني : فعادوه بطاعة الله . ومعناه : أطيعوا الله عز وجل لأنك إذا أطعت الله فقد عاديت الشيطان { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ } يعني : شيعته إلى الكفر { لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير } يعني : من أهل النار . ثم بيّن مصير من أطاع الشيطان ، ومصير من عصاه فقال { الذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا بوحدانية الله عز وجل : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بوحدانية الله ، وعملوا الطاعات ، واتخذوا الشيطان عدواً { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } في الدنيا لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } يعني : ثواباً حسناً في الجنة .

قوله عز وجل : { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } يعني : قبيح عمله كمن لم يزين له ذلك { أَفَمَن زُيّنَ } يعني : فظنه حقاً . والجواب فيه مضمر فمن زيّن له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك . وقال الزجاج : { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } يعني : أبا جهل وأصحابه ، وأضله الله كمن لم يزين له ذلك وهداه الله تعالى .
ثم قال : { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } عن دينه { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } لدينه { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } قال القتبي : هذا من الإضمار . يعني : ذهبت نفسك حسرة عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات بتركهم الإيمان . وقرىء في الشاذ : { فَلاَ تَذْهَبْ } بضم التاء وكسر الهاء { نَّفْسَكَ } بنصب السين . من أذهب يذهب يعني : لا تقتل نفسك وقراءة العامة { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ } بنصب التاء والهاء وضم السين أي : لا تحزن نفسك { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } من الخير والشر .

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

ثم قال عز وجل : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا } أي : ترفعه وتهيجه { فَسُقْنَاهُ } يعني : نسوقه { إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني : بعد يبسها { كَذَلِكَ النشور } يعني : هكذا تحيون بعد الموت يوم القيامة وروي عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن ابن الزبعرى ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : تقوم الساعة على شرار الناس . ثم يقوم ملك بالصور . فينفخ فيه ، فلا يبقى خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء الله ، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله ، فيرسل الله الوباء من السماء من تحت العرش ، كمني الرجال فتنبت لحومهم من ذلك الماء ، كما تنبت الأرض من الندا . ثم قرأ : { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النشور } ثم ينفخ في الصور .
قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } يعني : من طلب العزة بعبادة الأوثان ، فليتعزز بطاعة الله عز وجل . فإن العزة لله جميعاً . يقول : من يتعزز بإذن الله . ويقال : معناه من كان يريد أن يعلم لمن تكون العزة ، فليعلم بأن العزة لله جميعاً . ويقال : من كان يطلب لنفسه العزة ، فإن العزة لله جميعاً .
ثم قال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } قال مقاتل : يصعد إلى السماء كلمة التوحيد { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } يقول : التوحيد يرفع العمل الصالح إلى الله تعالى في السماء ، فيها تقديم . وقال الحسن البصري : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله عز وجل . فإذا كان الكلام الطيب عملاً غير صالح ، يرد القول إلى العمل لأنه أحق من القول . وقال قتادة { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } قال : الله يرفعه . ويقال : العمل الصالح يرفعه لصاحبه . ويقال : { يَرْفَعُهُ } يعني : يعظمه . ويقال : العمل الصالح يرفعه أي : يقبل الأعمال بالإخلاص . معناه : العمل الخالص الذي يقبله .
ثم قال : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } أي : يعملون بالشرك ، ويقال : يعملون بالرياء لا يقبل منهم { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } يعني : شرك أولئك ، وفسقهم ، وصنيعهم ، يهلك صاحبه في الآخرة . يقال : بارت السلعة إذا كسدت لأنها إذا كسدت فقد تعرضت للهلاك .
ثم قال عز وجل : { والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } يعني : آدم عليه السلام وهو أصل الخلق { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يعني : خلقكم من نطفة { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } يعني : أصنافاً ذكراً وأنثى . ويقال : أصنافاً ، أحمر وأبيض أسود . يعني : فاذكروني ووحدوني { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى } ومن صلة في الكلام { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } يعني : بمشيئته { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } فيطول عمره { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } يعني : إلا وكل ذلك في كتاب الله . أي : قد بيّن في اللوح المحفوظ . وروي عن ابن عمر أنه قرأ { مِنْ عُمُرِهِ } بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني : حفظه على الله هيَّن بغير كتابة .

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

ثم قال عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِى البحران } العذب والمالح { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } يعني : طيّب هيّن شربه . ويقال : سلس في حلقه ، حلو في شرابه { سَائِغٌ } يعني : شهياً . ويقال : يسوغه الشراب { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } يعني : الشديد الذي شيب بضرب إلى المرارة { وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني : السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ } من المالح { حِلْيَةٍ } وهي اللؤلؤ { تَلْبَسُونَهَا } يعني : تستعملونها ، وتلبسون نساءكم . وهذا المثل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار يعني : وما يستوي الذين صدقوا والذين كذبوا . ومن كل يظهر شيء من الصلاح يعني : يلد الكافر المسلم مثل ما أولد الوليد بن المغيرة خالد بن الوليد ، وأبو جهل عكرمة بن أبي جهل .
قوله : { وَتَرَى الفلك } يعني : السفن { مَوَاخِرَ } يعني : تذهب وتجيء { فِيهِ } يعني : في البحر { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : من رزقه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } يعني : لكي تشكروا رب هذه النعمة . يقال في اللغة مخر يمخر إذا شقّ الماء . يعني : أن السفينة تشق الماء في حال جريها . يقال : مخرت السفينة إذا جرت وشقت الماء في جريها .
ثم قال عز وجل : { يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } وقد ذكرناه { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني : ذلّل الشمس والقمر لبني آدم . { كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : إلى أقصى منازلها في الغروب ، لأنها تغرب كل ليلة في موضع . وهو قوله عز وجل : { إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المعارج : 30 ] ويقال : { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : يجريان دائماً إلى يوم القيامة { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يعني : هذا الذي فعل لكم هذا الفعل هو ربكم وخالقكم { لَهُ الملك } فاعرفوا توحيده ، وادعوه ولا تدعوا غيره { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني : من دون الله الأوثان وما يعبدونهم من دون الله { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } يعني : لا يقدرون أن يعطوكم ولا ينفعوكم بمقدار القطمير . والقطمير قشر النواة الأبيض الذي يكون بين النوى والتمر . وقال مجاهد : القطمير لفاف النوى .
ثم قال : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } يعني : ولو كانوا بحال يسمعون أيضاً فلا يجيبونكم ، ولا يكشفون عنكم شيئاً { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } يعني : يتبرؤون من عبادتكم . ويقولون : ما كنتم إيانا تعبدون .
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } يعني : لا يخبرك من عمل الآخرة مثل الرب تبارك وتعالى . ويقال : لا يخبرك أحد مثل الرب بأن هذا الذي ذكر عن الأصنام أنهم يتبرؤون عن عبادتهم .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

ثم قال عز وجل : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله } يعني : أنتم محتاجون إلى ما عنده . ويقال : { أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله } في رزقه ومغفرته { والله هُوَ الغنى الحميد } { الغنى } عن عبادتكم { الحميد } في فعله وسلطانه . وهذا كما قال في آية أخرى : { هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] لأن كل واحد يحتاج إليه . لأن أحداً لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان ، والأمير ما لم يكن له خدم وأعوان ، لا يقدر على الإمارة . وكذلك التاجر يحتاج إلى المكارين ، والله عز وجل غني عن الأعوانِ وغيره .
ثم قال عز وجل : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني : يهلككم ويميتكم { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أفضل منكم وأطوع لله { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } يعني : شديد { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } يعني : لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى . ويقال : لا تحمل بالطوع ولكن يحمل عليها إذا كان له خصماً .
ثم قال : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا } يعني : الذي أثقلته الذنوب والأوزار ، إن لو دعا أحداً ، ليحمل عنه بعض أوزاره ، لا يحمل من وزره شيئاً . وإن كان ذا قرابة لا يحمل من وزره . وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه ، عن عكرمة قال : إن الوالد يتعلق بولده يوم القيامة فيقول : يا بني إني كنت لك والداً فيثني عليه خيراً . فيقول : يا بني قد احتجت إلى مثقال ذرة . وفي رواية أخرى : إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى . فيقول له ولده : ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق . إني أخاف مثل الذي تخوفت . ثم يتعلق بزوجته فيقول لها : إني كنت لك زوجاً في الدنيا فيثني عليها خيراً ويقول : إني طلبت إليك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين . فتقول : ما أيسر ما طلبت ، ولكن لا أطيق . إني أخاف مثل الذي تخوفت فذلك قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } .
ثم قال : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } يعني : إنما تخوف بالقرآن الذين يخافون ربهم بالغيب . يعني : آمنوا بالله وهم في غيب منه { والذين يُمَسّكُونَ } يعني : يقيمون الصلاة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنذر المؤمنين والكافرين . ولكن الذين يخشون ربهم هم الذين يقبلون الإنذار فكأنه أنذرهم خاصة .
ثم قال : { وَمَن تزكى } يعني : توحد . ويقال : تطهر نفسه من الشرك . ويقال : من صلح فإنما صلاحه لنفسه يثاب عليه في الآخرة .

ويقال : من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه . { فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير } فيجازيهم بعملهم .
قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِى الاعمى } يعني : الكافر الأعمى عن الهدى { والبصير } يعني : المؤمن { وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } يعني : الكفر والإيمان { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } يعني : الجنة والنار { وَلاَ الحرور } هو استقرار الحر { وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات } قال القتبي : مثل الأعمى والبصير كالكافر والمسلم ، والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان ، والظل والحرور مثل الجنة والنار ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات مثل العقلاء والجهال .
ثم قال : { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء } يعني : يفقه من يشاء { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور } يعني : لا تقدر أن تفقه الأموات وهم الكفار { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } يعني : ما أنت إلا رسول { إِنَّا أرسلناك بالحق } يعني : بالقرآن . ويقال : لبيان الحق { بَشِيراً وَنَذِيراً } وقد ذكرناه { وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } يعني : وما من أمة فيما مضى إلا فيهم نذير . يعني : إلا جاءهم رسول .
ثم قال : { وَإِن يُكَذّبُوكَ } يا محمد { فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني : بالأمر والنهي { وبالزبر } يعني : بالكتب ، وبأخبار من كان قبلهم { وبالكتاب المنير } يعني : المضيء . الكتاب هو نعت لما سبق ذكره من البينات والزبر { ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ } يعني : الذين كذبوهم فعاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } يعني : كيف كان إنكاري وتغييري عليهم ثم ذكر خلقه ليعتبروا به ويوحدوه :

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

فقال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } يعني : المطر { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } من الثمار الأحمر ، والأصفر ، والحلو ، والحامض { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ } يعني : خلق من الجبال جدداً يعني : جماعة الجدة . والجدة هي الطريق التي في الجبل . والجدد هي الطرائق . فترى الطريق من البعد منها أبيض ، وبعضها حمر . وقال القتبي : الجدد الخطوط والطرق تكون في الجبال ، فبعضها بيض وبعضها حمر ، وبعضها غرابيب سود ، وهو جمع غربيب وهو الشديد السواد . ويقال : أسود غربيب { وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدواب } يعني : خلق من الناس والدواب { والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه كَذَلِكَ } أي : كاختلاف الثمرات .
ثم استأنف فقال : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } وقال بعضهم : إنما يتم الكلام عند قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } .
ثم استأنف فقال : { كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } يعني : هكذا يخشى الله من عباده العلماء . يعني : إن العلماء يعلمون خلق الله تعالى ويتفكرون في خلقه ، ويعملون ثوابه وعقابه فيخشونه ، ويعلمون بالطاعة طمعاً لثوابه ، ويمتنعون عن المعاصي خشية عقابه . وقال مقاتل : أشد الناس خشية أعلمهم بالله تعالى . فيها تقديم . وروى سفيان عن بعض المشيخة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : يا رسول الله أينا أعلم؟ فقال : " أَخْشَاكُمْ لله تَعَالَى إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ " قالوا : يا رسول الله فأيُّ الأصحاب أفضل؟ قال : " الذي إذا ذَكَرْتَ أَعَانَكَ ، وإذا نَسِيتَ ذَكَّرَكَ» . قالوا : فأي الأصحاب شر؟ قال : «الَّذِي إذَا ذَكَرْتَ لَمْ يُعِنْكَ ، وإذا أُنْسِيتَ لَمْ يُذَكِّرْكَ " . قالوا : فأيُّ الناس شر؟ قال : " اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِلعُلَمَاءِ . وَالعَالِمُ إذا فَسَدَ فَسدَ النَّاسُ " . ثم قال تعالى : { أَنَّ الله عَزِيزٌ } في ملكه { غَفُورٌ } لمن تاب .
قوله عز وجل : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله } يعني : يقرؤون القرآن . ويقال : معناه يتبعون كتاب الله تعالى . يقال : تلا يتلو إذا تبعه كقوله تعالى : { والقمر إِذَا تلاها } [ الشمس : 2 ] { والذين يُمَسّكُونَ } يعني : أتموا الصلوات في مواقيتها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } يعني : تصدقوا مما أعطيناهم من الأموال { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ } يعني : لن تهلك ولن تخسر . ومعناه : { يَرْجُونَ تجارة } رابحة وهي الجنة مكان الحياة الدنيا .
ثم قال عز وجل : { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } يعني : يوفر ثواب أعمالهم { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } يعني : من رزقه من الجزاء ، والثواب في الجنة . ويقال : { مِن فَضْلِهِ } يعني : من تفضله { إِنَّهُ غَفُورٌ } لذنوبهم { شَكُورٍ } لأعمالهم اليسيرة . والشكر على ثلاثة أوجه . الشكر ممن يكون دونه الطاعة لأمره وترك مخالفته . والشكر ممن هو شكله يكون الجزاء والمكافأة . والشكر ممن فوقه يكون رضى منه باليسير .

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

ثم قال عز وجل : { والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } يعني : أرسلنا إليك جبريل عليه السلام بالقرآن { هُوَ الحق } لا شك فيه ، { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني : موافقاً لما قبله من الكتب { إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } يعني : عالم بهم وبأعمالهم .
قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } ويقال : أعطينا القرآن { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } يعني : اخترنا من هذه الأمة . و { ثُمَّ } بمعنى العطف . يعني : وأورثنا الكتاب . ويقال { ثُمَّ } بمعنى التأخير . يعني : بعد كتب الأولين { أَوْرَثْنَا الكتاب } { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } يعني : من الناس ظالم لنفسه { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } .
روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال : الظالم الكافر ، والمقتصد المنافق ، والسابق المؤمن . وروي عنه رواية أخرى أنه قال : هؤلاء كلهم من المؤمنين . فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة . والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة ، قبل فتح مكة . والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة . وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « السَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ، وَالظَّالِمُ الذي يُحَاسَبُ فِي طُولِ المَحْشَرِ » . وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناجي ، وظالمنا مغفور له . وطريق آخر ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : سابقنا أهل الجهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، يعني : أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات ، وظالمنا أهل بدونا . وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت عن هذه الآية فقالت : السابق النبي صلى الله عليه وسلم ومن مضى معه ، والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه ، والظالم فمثلي ومثلكم . وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال : الظالم هم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق هم السابقون بالخيرات ، فكأنه استخرجه من قوله : { فأصحاب الميمنة مَآ أصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] { والسابقون السابقون } [ الواقعة : 10 ] وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : الظالم هم المنافقون ، والمقتصد هم التابعون بإحسان ، والسابق هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضاً أنه قال : السابق الذي ترك الدنيا ، والمقتصد الذي أخذ من الحلال ، والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ .
وقيل : طريق عاشر : السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته ، والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته . وقيل : طريق حادي عشر ، السابق الذي سره خَيْرٌ من علانيته ، والمقتصد الذي سِرُّهُ وعلانيته سواء ، والظالم الذي علانيته خير من سره .

وطريق ثاني عشر : السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها ، والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها ، والظالم الذي ينتظر الإقامة . وطريق ثالث عشر : السابق الذي يتوكل على الله يجعل جميع جهده في طاعة الله عز وجل ، والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة ، والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف .
وقيل : طريق رابع عشر : السابق الذي شغله معاده عن معاشه ، والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعاً ، والظالم الذي شغله معاشه عن معاده .
وقيل : طريق خامس عشر : السابق الذي ينجو نفسه وينجو غيره بشفاعته ، والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله ، والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين .
وطريق سادس عشر : السابق الذي يعطى كتابه بيمينه ، والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله ، والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره .
وطريق سابع عشر قيل : السابق الذي ركن إلى المولى ، والمقتصد الذي ركن إلى العقبى ، والظالم الذي ركن إلى الدنيا . وطريق ثامن عشر : ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال : الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة ، والمعصية ، والمقتصد الذي يحارب فيهما ، والسابق الذي يجتهد في الزلات . ثم قال : لأن محاربة الصديقين في الزلات ، ومحاربة الزاهدين في الشهوات ، ومحاربة التائبين في الموبقات .
وطريق تاسع عشر قال : الظالم يطلب الدنيا تمتعاً ، والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذاً ، والسابق الذي ترك الدنيا تزهداً . وطريق العشرين قال : الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه ، وهو الرزق ، والمقتصد الذي يطلب ما أمر به ولم يؤمر بطلبه ، والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته .
وطريق حادي عشرين قيل : الظالم أصحاب الكبائر ، والمقتصد أصحاب الصغائر ، والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر . وطريق ثاني عشرين قيل : السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس ، والمقتصد الخارج إليها مع الناس الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به ، والمقتصد الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به ، والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعليم . وطريق رابع وعشرين ، السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره ، والمقتصد الذي يطلب عيب غيره ، والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه . وطريق خامس وعشرين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } إلى قوله : { الفضل الكبير } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ . أمَّا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيْرَاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَأَمَّا الظَالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً شَدِيداً وَيُحْبَسُ حَبْسَاً طَوِيلاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ . فَإِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ قَالُوا : الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحُزْنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ » .

وقد قيل غير هذا : إلا أنه يطول الكلام فيه . وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به . وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة مؤمنون ، وأول الآية وآخرها دليل على ذلك . فأما أول الآية فقوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } من عبادنا يعني : أعطينا الكتاب . فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة .
وقال في آخر الآية { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين } [ النحل : 31 وغيرها ] فأشار إلى الأصناف الثلاثة بالآية الأولى ، حيث قال : { وَأَوْرَثَنَا *** الكتاب } ، والأخرى حيث قال : { يَدْخُلُونَهَا } ولم يقل : يدخلانها . وفي الآية الأخرى دليل أن الأصناف الثلاثة هم يدخلون الجنة . وقال بعضهم : تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح : أن الظالم كافر يعني : كفر النعمة . ومعناه : فمنهم من كفر بهذه النعمة ، ولم يشكر الله عز وجل عليها . ومنهم مقتصد يعني : يشكر ويكفر . ومنهم سابق يعني : يشكر ولا يكفر .
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له : ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان أبي مكنني جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها . فخرج أبي يوماً لحاجة . فنظرت فيها فوجدت فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ويدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت . وقلت : لعلّي أكون من الصنف الأول ، وإن لم أكن من الصنف الأول لعلّي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث . فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } إلى قوله : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية . فإن قيل : ايش الحكمة في ذكره الظالم ابتداءً وتأخيره ذكر السابق قيل له : الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ، ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل . ثم قال تعالى : { بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعني : الذي أورثهم من الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

ثم قال عز وجل : { جنات عَدْنٍ } يعني : لهم جنات عدن أي دار الإقامة يقال عدن يعدن إذا أقام قرأ أبو عمرو وابن كثير في إحدى الروايتين { يَدْخُلُونَهَا } بضم الياء ، وفتح الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون { يَدْخُلُونَهَا } على معنى أن الفعل لهم { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } يعني : يلبسون الحلي من أساور { مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } قرأ نافع وعاصم { وَلُؤْلُؤاً } بالنصب ومعناه : يحلون أساور ولؤلؤاً . وقرأ الباقون بالكسر يعني : من ذهب ومن لؤلؤ .
ثم قال : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } يعني : لباسهم في الجنة من حرير الجنة لا كحرير الدنيا .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } يعني : حزن الموت وحزن خوف الخاتمة . ويقال : همّ العيش . ويقال : همّ المرور على الصراط { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ } يغفر الذنوب { شَكُورٍ } يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل عز وجل { الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } يعني : الحمد لله الذي أنزلنا دار الخلود والمقامة . والمقام بمعنى واحد يعني : الإقامة والدوام من فضله وكرمه { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } يعني : لا يصيبنا تعب وعناء { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } يعني : لا يصيبنا فيها من أعباء كما يصيبنا في الدنيا .
ثم بيّن حال المشركين في النار :

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)

فقال عز وجل : { والذين كَفَرُواْ } يعني : جحدوا بوحدانية الله عز وجل { لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ } الموت . ويقال : لا يرسل عليهم ولا ينزل الموت { فَيَمُوتُواْ } حتى يستريحوا { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } يعني : من عذاب جهنم { كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ } يعني : هكذا نعاقب كل كافر بالله تعالى . قرأ أبو عمرو { يَجْزِى } بالياء والضم ونصب الزاي { كُلَّ كَفُورٍ } بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون { نُجْزِى } بالنون والنصب { كُلٌّ } بنصب اللام ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد . يعني : كذلك يجزي الله تعالى .
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال عز وجل : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي : يستغيثون . يقال : صرخ يصرخ إذا أغاث واستغاث وهو من الأضداد . ويستعمل للإغاثة والاستغاثة ، لأن كل واحد منهما يصلح وهو افتعال من الصراخ . يعني : يدعون في النار ويقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } يعني : نعمل غير الشرك وغير المعصية . يقول الله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ } يعني : أولم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا { مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } يعني : يتعظ فيه من أراد أن يتعظ .
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ } قال : العمر ستون سنة { وَجَاءكُمُ النذير } يعني : الشيب والهرم . وروي أن إبراهيم الخليل أول من رأى الشيب ، فقال : يا رب ما هذا؟ فقال : هذا وقار في الدنيا ، ونور في الآخرة . فقال : يا رب زدني وقاراً . ويقال : { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ } يعني : أولم نعطكم ، ونطول أعماركم و { مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ } من تذكر أي : مقدار ما يتعظ فيه من يتعظ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَقَدَ أَعْذَرَ الله إلَى عَبْدٍ أحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً أزَالَ عُذْرَهُ » { وَجَاءكُمُ النذير } أي : الرسول { فَذُوقُواْ } العذاب في النار { فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } يعني : ما للمشركين من مانع من عذاب الله عز وجل .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله عالم غَيْبِ * السموات والارض } يعني : غيب ما يكون في السموات والأرض . يعني : أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : عليم بما في قلوبهم . ويقال : عالم بما في قلوب العباد من الخير والشر .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارض } يعني : قل لهم يا محمد الله تعالى جعلكم سكان الأرض من بعد الأمم الخالية { فَمَن كَفَرَ } بتوحيد الله { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } يعني : عاقبة كفره وعقوبة كفره { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } وهو الغضب الشديد الذي يستوجب العقوبة .

يعني : لا يزدادون في طول أعمارهم إلا غضب الله تعالى عليهم . وقال الزجاج : المقت أشد الغضب { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } يعني : غبناً في الآخرة وخسراناً .
ثم قال عز وجل : { قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } يعني : تعبدون من دون الله { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض } يعني : أخبروني أي شيء خلقوا مما في السموات أو مما في الأرض من الخلق . وقال القتبي : من بمعنى في يعني : أروني ماذا خلقوا في الأرض . يعني : أي شيء خلقوا في الأرض كما خلق الله عز وجل { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى * السموات } يعني : عون على خلق السموات والأرض . ويقال : نصيب في السموات . اللفظ لفظ الاستفهام والشك ، والمراد به النفي . يعني : ليس لهم شرك في السموات .
ثم قال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ } يعني : أعطيناهم كتاباً . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به النفي . يعني : كما ليس لهم كتاب فيه حجة على كفرهم { فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ } يعني : ليسوا على بيان مما يقولون . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وعاصم ، في رواية حفص { على بَيّنَةٍ } بغير ألف . وقرأ الباقون : { بينات } بلفظ الجماعة ، ومعناهما واحد ، لأن الواحد ينبىء عن الجماعة .
ثم قال : { بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً } يعني : ما يعد الظالمون بعضهم بعضاً . يعني : الشياطين للكافرين من الشفاعة لمعبودهم { إِلاَّ غُرُوراً } يعني : باطلاً .

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

قوله عز وجل : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات } يعني : يحفظ السموات { والارض أَن تَزُولاَ } يعني : لئلا تزولا عن مكانها { وَلَئِن زَالَتَا } يعني : يوم القيامة { إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ } يعني : لا يقدر أحد أن يمسكهما . ويقال : { وَلَئِن زَالَتَا } يعني : إن زالتا في الحال ، وهما لا يزولان { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } عن قول الكُفَّار ، حيث قالوا : لله ولد ، فكادت السموات والأرض أن تزولا فأمسكهما بحلمه فلم يزولا { غَفُوراً } يعني : متجاوزاً عنهم إن تابوا . ويقال : { غَفُوراً } حيث لم يعجل عليهم بالعقوبة ، وأمسك السموات والأرض أن تزولا .
وقوله عز وجل { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } يعني : كفار مكة كانوا يعيرون اليهود والنصارى بتكذيبهم أنبياءهم ، وقالوا : لو أرسل الله عز وجل إلينا رسولاً ، لكنا أهدى من إحدى الأمم ، وكانوا يحلفون على ذلك فذلك قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } فكل من حلف بالله ، فهو جهد اليمين { لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } يعني : رسول { لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الامم } يعني : أصوب ديناً من اليهود والنصارى { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } يعني : ما زادهم الرسول إلا تباعداً عن الهدى .
قوله عز وجل : { استكبارا فِى الارض } يعني : تكبراً في الأرض ، { استكبارا } مفعول المعنى زادهم الرسول تكبراً هذا كقوله { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] وكأن القرآن سبب لخسرانهم فأضاف إليهم .
ثم قال : { وَمَكْرَ السيىء } يقول : قول الشرك واجتماعهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ حمزة { وَمَكْرَ السيىء } بجزم الياء . وقرأ الباقون بالكسر لتبين الحروف ، وجزم حمزة لكثرة الحركات .
ثم قال : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } يعني : لا يدور وينزل المكر السيىء إلا بأهله . يعني عقوبة المكر ترجع إليهم { فَهَلْ يَنظُرُونَ } يعني : ما ينتظرون { إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ } يعني : عقوبة الأمم الخالية أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } يعني : لصنعة الله تعالى . ويقال : لملة الله . ويقال : لسنة الله في العذاب { تَبْدِيلاً } يعني : لا يقدر أحد أن يبدله { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } يعني : تغييراً . يعني : لا يقدر أحد أن يغير فعل الله تعالى .
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الارض } يعني : أو لم يسافروا في الأرض { فَيَنظُرُواْ } يعني : فيعتبروا { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين } يعني : آخر أمر الذين كانوا { مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } يعني : منعة { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء } يعني : ليسبقه ، ويفوته من شيء .

ويقال : لا يقدر أحد أن يهرب من عذابه { فِي السموات *** وَلاَ فِى الارض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً } بخلقه بأنه لا يفوت منهم أحد { قَدِيراً } يعني : قادراً عليهم بالعقوبة .
قوله عز وجل : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ } يعني : لو عاقبهم { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } يعني : على ظهر الأرض { مِن دَابَّةٍ } يعني : لهلكت الدواب من قحط المطر . قال قتادة : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } من دابة إلا أهلكهم كما أهلك من كان في زمان نوح عليه السلام ويقال : { مِن دَابَّةٍ } يعني : من الجن والإنس فيعاقبهم بذنوبهم ، فيهلكهم . وقال مجاهد : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } يعني من هوام الأرض من العقارب ، ومن الخنافس . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب بني آدم . ثم قرأ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس } الآية . والعرب تكني عن الشيء إذا كان مفهوماً كما كنى ها هنا عن الأرض كقوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } وَإِن لم يسبق ذكر الأرض .
ثم قال : { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } يعني : إلى الميعاد الذي وعدهم الله تعالى . ويقال : إلى الوقت الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } يعني : إلى انقضاء حياتهم . ويقال : هو البعث .
قال تعالى : { فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } يعني : عالماً بهم وبأعمالهم . روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : لما طعن عمر رضي الله عنه ، قال كعب : لو دعى الله عمر لأخر في أجله . فقال الناس : سبحان الله أليس قد قال الله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] فقال كعب : وقد قال : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [ فاطر : 11 ] قال الزهري : فنرى أن ذلك ما لم يحضر الأجل فإذا حضر لم يؤخر ، وليس أحد إلا وعمره مكتوب في اللوح المحفوظ ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18