الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ
فَقَالَ : لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ } قَبِيصَةُ تَفَرَّدَ عَنْهُ سِمَاكٌ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مَجْهُولٌ .
وَقَالَ الْعِجْلِيّ وَغَيْرُهُ ثِقَةٌ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث سِمَاكٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ الْمُضَارَعَةُ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُقَارَبَةُ كَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَتَحَرَّكَنَّ فِي قَلْبِكَ شَكٌّ أَنَّ مَا شَابَهْتَ فِيهِ النَّصَارَى حَرَامٌ أَوْ خَبِيثٌ أَوْ مَكْرُوهٌ وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ فِي بَابِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ اللَّامِ ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ نَظِيفٌ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَسِيَاقُ الْأَحَادِيث لَا يُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرَ .
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ حَتَّى يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْهُمْ الِانْبِسَاطَ إلَيْهِ وَلَا يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ مَاءُ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ { لَا تُبَدِّدُوا يُبَدِّدْ اللَّهُ شَمْلَكُمْ } وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُرْفَعَ الطَّسْتُ حَتَّى يَطِفَّ } يَعْنِي يَمْتَلِئَ كَذَا قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَدَلِيلُهَا ضَعِيفٌ إلَى أَنْ قَالَ : مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يَفْرِشَ الْمَائِدَةَ بِالْخُبْزِ وَيُوضَع فَوْقَهُ الْإِدَامُ .
قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ : يُسْتَدَلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاغْتِسَالِ
بِالْأَقْوَاتِ ؛ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَلْطِهَا بِالْأَدْنَاسِ
وَالْأَنْجَاسِ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ
بِهَا ، وَالْمِلْحُ لَيْسَتْ قُوتًا وَإِنَّمَا يَصْلُحُ بِهَا الْقُوتُ
نَعَمْ يَنْهَى فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ قُوتِ الْآدَمِيِّينَ
وَالْبَهَائِمِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ هَذَا لَا يُسْتَنْجَى
بِالنُّخَالَةِ وَإِنْ غَسَلَ يَدَهُ بِهَا ، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ
الْحَاجَةُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوتِ ، مِثْلَ الدَّبْغِ بِدَقِيقِ
الشَّعِيرِ أَوْ التَّطَبُّبِ لِلْجَرَبِ بِاللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ ،
وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِيهِ كَمَا رُخِّصَ فِي
قَتْلِ دُودِ الْقَزِّ بِالتَّشْمِيسِ ؛ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ إذْ لَا
تَكُونُ حُرْمَةُ الْقُوتِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ ،
وَبِهَذَا قَدْ يُجَابُ عَنْ الْمِلْحِ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِأَجَلِ
الْحَاجَةِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْأَصْلِ
الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إهَانَتِهَا بِوَضْعِ الْإِدَامِ
فَوْقَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَدَلِيلٌ آخَرُ
وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ
بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَأَخْذِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ
وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْهَا } كُلُّ ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ
مَنْ الْقُوتِ ، وَالتَّدَلُّكُ بِهِ إضَاعَةٌ لَهُ لِقِيَامِ غَيْرِهِ
مَقَامَهُ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِ
الشَّيْطَانِ .
وَسُئِلْت عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَهُوَ غَسْلُ الْأَيْدِي
بِالْمِسْكِ فَقُلْتُ : إنَّهُ إسْرَافٌ بِخِلَافِ تَتَبُّعِ الدَّمِ
بِالْقَرْصَةِ الْمُمَسَّكَةِ فَإِنَّهُ يَسِيرٌ لِحَاجَةٍ وَهَذَا
كَثِيرٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي غَيْرِ
التَّطَيُّبِ وَغَيْرِ حَاجَةٍ كَاسْتِعْمَالِ الْقُوتِ فِي غَيْرِ
التَّقَوُّتِ وَغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَحَدِيثُ الْبَقَرَةِ : إنَّا لَمْ
نُخْلَقْ لِلرُّكُوبِ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا .
وَيُسْتَدَلُّ عَلَى مَا فَعَلَهُ أَحْمَدُ مِنْ مَسْحِ الْيَد عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ بِأَنَّ وَضْع الْيَدِ فِي الطَّعَامِ يَخْلِطُ
أَجْزَاءً
مِنْ الرِّيقِ فِي الطَّعَامِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّنَفُّسِ فِي
الْإِنَاء لَكِنْ يُسَوَّغُ فِيهِ ؛ لِمَشَقَّةِ الْمَسْحِ عِنْد كُلِّ
لُقْمَةٍ فَمَنْ يَحْشِمْ الْمَسْحَ ، فَذَلِكَ حَسَنٌ مِنْهُ ، انْتَهَى
كَلَامُهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ
لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِطِيبٍ وَلَوْ كَثُرَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ
وَيَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ الِاغْتِسَالِ بِمَطْعُومٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ
تَعْلِيلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ
الْآمِدِيُّ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ أَنَّ
مِنْ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ ،
وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا قَالَ : وَالْأَكْلُ عَلَى السُّفَر أَوْلَى مِنْ
الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { لَمْ
يَأْكُلْ النَّبِيُّ عَلَى خِوَانٍ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا
حَتَّى مَاتَ } .
وَلَهُ أَيْضًا عَنْهُ { مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ
أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ ،
وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ } قِيلَ لِقَتَادَةَ عَلَى مَا كَانُوا
يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ حَتَّى مَاتَ .
وَمِنْ
تَتِمَّةِ كَلَامِ ابْنِ حَامِدٍ قَالَ : وَيُكْرَهُ أَنْ يُعَيَّبَ
الْأَكْلُ قَالَ : وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَقُدِّمَ إلَيْهِ
لَوْنٌ وَاحِدٌ أَكَلَ مِمَّا يَلِيهِ ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَلَا
بَأْسَ أَنْ تَجُولَ يَدُهُ ، فَإِنْ بَدَأَ بِالطَّعَامِ ثُمَّ أُقِيمَتْ
الصَّلَاةُ ابْتَدَأَ إلَى الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ اللَّحْمِ ، انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَكَرَاهَةُ عَيْبِ الْأَكْلِ أَوْلَى
مِمَّا تَقَدَّمَ مَنْ تَحْرِيمِهِ .
وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ : {
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ
كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ ، فَقَامَ
وَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } .
قَالَ
مُهَنَّا
: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ فَإِنَّهُ
مَنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ وَانْهَشُوهُ نَهْشًا فَإِنَّهُ أَهْنَأُ
وَأَمْرَأُ } قَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ،
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهَذَا النَّصِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ
لَا بَأْسَ بِهِ .
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ خِلَافُ هَذَا
وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ مَنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ
الْأَكْثَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
مَرْفُوعًا وَعَدَّهُ النَّسَائِيُّ مِنْ مَنَاكِيرِ أَبِي مَعْشَرٍ .
وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ إذَا نَهَشَهُ
كَانَ أَطْيَبَ كَالْخَبَرِ الْأَوَّلِ يَعْنِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ { كُنْتُ آكُلُ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّحْمَ مَنْ
الْعَظْمِ فَقَالَ : أَدْنِ الْعَظْمَ مِنْ فِيكَ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ
وَأَمْرَأُ } .
وَهَذَا الْخَبَرُ فِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ وَكَذَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ
بِمَعْنَاهُ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
لَكِنْ قَالَ
الْأَصْحَابُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ : لَعَلَّ
كَلَامَ أَبِي دَاوُد يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ لَا
يُخَالِفُهُ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّهْشَ مِنْهُ لَيْسَ
بِأَوْلَى ، وَقَدْ أَخَذَ الذِّرَاعَ الْمَسْمُومَةَ فَنَهَشَ مِنْهَا
نَهْشَةً .
وَاسْتِعْمَالُهُ السِّكِّينَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ
أَنَّهُ لِقُوَّةِ اللَّحْمِ وَصُعُوبَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ؛ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلَا يَمْنَعُ أَنَّ
غَيْرَهُ أَوْلَى لَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَظْهَرُ ، وَفِي شَرْح
مُسْلِمٍ قَالُوا : وَيُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَذَا قَالَ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ عَنْ
الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ قَالَ { ضِفْتُ النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ
بِجَنْبٍ فَشُوِيَ قَالَ فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَجُزُّ لِي بِهَا
مِنْهُ } .
وَأَمَّا تَقْطِيعُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ فَلَمْ أَجِدْ
فِيهِ كَلَامًا وَيُتَوَجَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِحَاجَةٍ وَإِلَّا
احْتَمَلَ أَنْ يُكْرَهَ ؛ لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَفِعْلِهِ شَرْعًا
بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى فَقَطْ
وَهُوَ نَظِيرُ الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ ، وَالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ
لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِعَدَمِ
النَّهْيِ وَمَا يُرْوَى مِنْ النَّهْي عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ
بِالسِّكِّينِ فَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجُبْنَةٍ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهَا
بِالْعِصِيِّ فَقَالُوا ضَعُوا السِّكِّينَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
وَكُلُوا } .
وَيَفْسُد الْغِذَاءُ بِأَكْلِ الْفَاكِهَةِ بَعْدَهُ
قَبْلَ هَضْمِهِ كَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ
وَمُرَادُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا لَا يَقْبِضُ وَقَدْ قَالَ
الْأَطِبَّاءُ : أَكْلُ الْكُمَّثْرَى عَلَى الطَّعَامِ جَيِّدٌ يَمْنَعُ
الْبُخَارَ أَنْ يَرْتَقِيَ مِنْ الْمَعِدَةِ إلَى الدِّمَاغِ وَمِثْلُهُ
السَّفَرْجَلُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرْجَلِ لِشِدَّةِ قَبْضِهِ
وَكَثْرَةِ أَرْضِيَّتِهِ ، وَفِي الْكُمَّثْرَى لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ
وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ مَنْعُ فَسَادِ الطَّعَامِ فِي الْمَعِدَةِ لَكِنْ
لَا يُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا يُدْمِنُهُ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ
الْقُولَنْجَ ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تُؤْكَلُ الْكُمَّثْرَى
عَلَى طَعَامٍ غَلِيظٍ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالرُّمَّانُ الْحَامِضُ يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ الْغِذَاءِ لِمَنْعِ الْبُخَارِ .
وَيَأْتِي
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَلَ
التَّمْرَ بَعْدَ الطَّعَامِ } ، وَفِي مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ أَبِي
الْهَيْثَمِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَلَ التَّمْرَ أَوَّلًا
لَكِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ إذًا .
قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ
الْفَوَاكِهُ الرَّطْبَةُ تُقَدَّمُ قَبْلَ الطَّعَامِ إلَّا مَا كَانَ
مِنْهَا أَبْطَأَ وُقُوفًا فِي الْمَعِدَةِ وَفِيهِ قَبْضٌ أَوْ حُمُوضَةٌ
كَالسَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ ، وَتَفْسُدُ الْفَاكِهَةُ
بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الطِّبِّ قَالَ بَعْضُ
الْأَطِبَّاءِ : مُصَابَرَةُ الْعَطَشِ بَعْدَ جَمِيعَ الْفَوَاكِهِ
نِعْمَ الدَّوَاءُ لَهَا ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَشْرَبُ الْمَاءَ
بَعْدَ التُّوتِ الْحُلْوِ غَيْرِ الشَّامِيِّ وَبَعْد التِّينِ وَيَقُولُ
: إنَّهُ نَافِعٌ يَهْضِمُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ ،
وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ شُرْبِ
الْمَاءِ بَعْدَ الْفَوَاكِهِ مُطْلَقًا وَيَقُولُونَ : إنَّهُ مُضِرٌّ ،
وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يَشْرَبُ بَعْدَ التُّوتِ وَالتِّينِ
السَّكَنْجَبِينَ وَأَنَّهُ يَدْفَعُ ضَرَرَهُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا
وَلَا يُتَنَاوَلُ الْغِذَاءُ بَعْد التَّمَلُّؤِ مِنْهَا فَإِنَّ
الْقُولَنْجَ يَحْدُثُ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرًا
وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ : إنَّ الْبِطِّيخَ الْأَصْفَرَ يُؤْكَلُ بَيْنَ طَعَامَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَكْرَهُ النَّفْخَ فِي الطَّعَامِ ، وَإِدْمَانَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ الْكِبَارِ .
وَظَاهِرُهُ
لَا يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الْكَبَابِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ
وَالْكَرَاهَةُ تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ مَعَ أَنْ ظَاهِرَ الْخَبَرِ
كَقَوْلِ أَحْمَدَ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ } وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ فِي حِفْظِ
الصِّحَّةِ مِنْ فُصُولِ الطِّبِّ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ
أَنَّ إِسْحَاقَ قَالَ : تَعَشَّيْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ
يَأْكُلُ فَرُبَّمَا مَسَحَ يَدَهُ عِنْدَ كُلِّ لَقْمَةٍ .
وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يُجْلِسَ غُلَامُهُ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ
لَقَمَهُ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْآكِلِ مَعَ الْجَمَاعَة أَنْ لَا يَرْفَعَ
يَدَهُ قَبْلَهُمْ قَالَ الْآمِدِيُّ لَا يَجُوز أَنْ يُتْرَكَ تَحْتَ
الصَّحْفَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْزِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
مُهَنَّا وَقَالَ : السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ وَأَلَّا يَأْكُل
بِمِلْعَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَمَنْ أَكَلَ بِمِلْعَقَةٍ وَغَيْرِهَا
أُحِلَّ بِالْمُسْتَحَبِّ وَجَازَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ أَبَا مَعْمَرٍ قَالَ
إنَّ أَبَا أُسَامَةَ قَدَّمَ إلَيْهِمْ خُبْزًا فَكَسَرَهُ قَالَ : هَذَا
لِئَلَّا يَعْرِفُوا كَمْ يَأْكُلُونَ .
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ
فِي آخِرِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَمَا تَأَخَّرَ " .
وَعَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ
اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ
وَآخِرَهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { مَنْ
نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ فَلْيَقْرَأْ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ زَادَ بَعْضُهُمْ إذَا فَرَغَ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْخَبَر مَوْضُوعٌ فَإِنَّ فِيهِ حَمْزَةَ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ وَلَفْظُ
أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ { فَإِنْ نَسِيَ فِي الْأَوَّلِ فَلْيَقُلْ
فِي الْآخِرِ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ } .
وَأَوَّلُ
الْخَبَرِ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُمْ } .
وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَعَنْ وَحْشِيٍّ { أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ : لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ ؟
قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّه يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ } إسْنَادٌ لَيِّنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا { كُلُوا جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ } رَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا {
: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا
فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا
فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ
لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ
} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَفِي
هَذَا فَضِيلَةُ اللَّبَنِ وَكَثْرَةُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : هُوَ أَنْفَعُ مَشْرُوبٍ لِلْآدَمِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ
لِلْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاعْتِيَادِهِ فِي الصِّغَرِ ،
وَلِاجْتِمَاعِ التَّغْذِيَةِ وَالدَّمَوِيَّةِ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } .
وَقَالَ عَنْ الْجَنَّةِ : { وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } .
وَقَدْ
قَالَ الْأَطِبَّاءُ : اللَّبَنُ مُرَكَّبٌ مِنْ مَائِيَّةٍ وَجُبْنِيَّةٍ
وَدُسُومَةٍ وَهِيَ الزُّبْدِيَّةُ ، وَأَجْوَدُهُ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ
الْمُعْتَدِلُ الْقِوَامِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ ، وَالْمَحْلُوبُ
مِنْ حَيَوَانٍ صَحِيحٍ مُعْتَدِلِ اللَّحْمِ مَحْمُودِ الْمَرْعَى
وَالْمَشْرَبِ ، وَيُسْتَعْمَلُ عَقِبَ مَا يُحْلَبُ ، وَأَصْلَحُ
الْأَلْبَانِ لِلْإِنْسَانِ لَبَنُ النِّسَاءِ وَمَا يُشْرَبُ مِنْ
الضَّرْعِ ، وَأَفْضَلُهُ مَا يَثْبُتُ عَلَى الظُّفْرِ فَلَا يَسِيلُ
وَلَا يَكُونُ فِيهِ طَعْمٌ غَرِيبٌ إلَى حُمُوضَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ أَوْ
حَرَافَةٍ أَوْ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : أَوْ غَرِيبَةٌ
وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ ، وَالْحَلِيبُ أَقَلُّ بَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ
وَقِيلَ مَائِيَّتُهُ حَارَّةٌ مُلَطِّفَةٌ غَسَّالَةٌ بِغَيْرِ لَدْغٍ ،
وَجَزَمَ بَعْض الْأَطِبَّاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ
: اللَّبَنُ عِنْدَ حَلْبِهِ مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ
وَزُبْدِيَّتُهُ إلَى الِاعْتِدَالِ وَإِنْ مَالَتْ إلَى حَرَارَةِ
جُمْلَتِهِ ، مُعْتَدِلٌ يُقَوِّي الْبَدَنَ ، وَهُوَ مَحْمُودٌ يُولَدُ
دَمًا جَيِّدًا وَيَغْذُو غِذَاءٌ جَيِّدًا وَيَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ لَا
سِيَّمَا لَبَنُ النِّسَاءِ ، وَاللَّبَنُ يَنْهَضِمُ قَرِيبًا
لِتَوَلُّدِهِ مِنْ دَمٍ فِي غَايَةِ الِانْهِضَامِ
طَرَأَ عَلَيْهِ
هَضْمٌ آخَرُ وَيَنْبَغِي إذَا شُرِبَ اللَّبَنُ أَنْ يُسْكَنَ عَلَيْهِ
لِئَلَّا يَفْسُدَ وَلَا يُنَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَنَاوَلَ عَلَيْهِ
غِذَاءً آخَرَ إلَى أَنْ يَنْحَدِرَ ، وَيَنْفَعُ مَنْ الْوَسْوَاسِ
وَالْغَمِّ وَالْأَمْرَاضِ السَّوْدَاوِيَّةِ ، وَهُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ
لِأَصْحَابِ الْمِزَاجِ الْحَارِّ الْيَابِسِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي
مِعَدِهِمْ صَفْرَاءُ وَيُزِيلُ الْحَكَّةَ الَّتِي بِالْمَشَايِخِ
وَيُعَانُونَ عَلَى هَضْمِهِ بِالْعَسَلِ أَوْ بِالسُّكَّرِ ، وَأَجْوَدُ
أَوْقَاتِ أَخْذِهِ وَسَطَ الصَّيْفِ لِاعْتِدَالِ الْأَلْبَانِ فِي
الْغِلَظِ وَاللَّطَافَةِ وَلَكِنْ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّيَهُ
الْحَرُّ بَعْد الشُّرْبِ وَلَا يُخَافُ ذَلِكَ فِي الرَّبِيعِ ،
وَيَجْلُو الْآثَارَ الْقَبِيحَةَ فِي الْجِلْد طِلَاءً ، وَشُرْبُهُ
بِالسُّكَّرِ يَحْسُنُ جِدًّا لَا سِيَّمَا لِلنِّسَاءِ وَيُسْمِنُ حَتَّى
أَنَّ مَاءَ الْجُبْنِ يُسْمِنُ أَصْحَابَ الْمِزَاجِ الْحَارّ الْيَابِسِ
إذَا جَلَسُوا فِيهِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ وَيُهَيِّجُ
الْجِمَاعَ وَإِذَا شُرِبَ مَعَ الْعَسَلِ نَقَّى الْقُرُوحَ الْبَاطِنَةَ
فِي الْأَخْلَاطِ الْغَلِيظَةِ وَأَنْضَجَهَا .
وَاللَّبَنُ يَنْفَعُ
مِنْ السَّجْحِ وَشُرْبِ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ وَيَرُدُّ عَقْلَ
مَنْ سُقِيَ الْبَنْجَ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْمَعِدَةِ الصَّفْرَاوِيَّةِ
إلَى الصَّفْرَاءِ وَيُورِثُ السَّدَدَ فِي الْكَبِدِ وَيَضُرُّ أَصْحَابَ
سَيَلَانِ الدَّمِ وَالْحَلِيبُ يَتَدَارَكُ ضَرَرَ الْجِمَاعِ ،
وَيُوَافِقُ الصَّدْرَ وَالرِّئَةَ جَيِّدًا لِأَصْحَابِ السُّلّ رَدِيءٌ
لِلرَّأْسِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ .
وَلَيْسَ شَيْءٌ
أَضَرَّ لِلْبَدَنِ مِنْ لَبَنٍ فَاسِدٍ رَدِيءٍ وَاللَّبَنُ إذَا
أُكْثِرَ مِنْهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقَمْلُ وَالْبَرَصُ إلَّا لَبَنَ
الْإِبِلِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْبَرَصُ .
وَاللَّبَنُ
رَدِيءٌ لِلْمَحْمُومِينَ وَأَصْحَابِ الصُّدَاعِ مُؤْذٍ لِلدِّمَاغِ
وَالرَّأْسِ الضَّعِيفِ ضَارٌّ لِلْأَوْرَامِ الْبَاطِنَةِ وَالْأَعْصَابِ
وَالْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ وَبِاللِّثَةِ وَالْأَسْنَانِ ، قَالُوا
: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ لِأَجْلِ اللِّثَةِ
بِالْعَسَلِ
، وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ وَيَضُرُّ بِالْغِشَاءِ وَالْخَفَقَانِ
وَالْحَصَاةِ وَوَجَعِ الْمَفَاصِلِ وَالْأَحْشَاءِ وَيَنْفُخُ
الْمَعِدَةَ وَيَذْهَبُ بِنَفْخِهِ أَنْ يُغْلَى وَيُؤْكَلَ بَعْدَهُ
الْمِشْمِشُ قَالَ بَعْضُهُمْ : أَوْ عَسَلٌ أَوْ زَنْجَبِيلٌ وَمَنْ
اعْتَادَهُ فَلَيْسَ كَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ .
وَإِنْ جَمَدَ اللَّبَنُ
لِإِنْفَحَةٍ شُرِبَتْ فِيهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عَرَضَ عَنْهُ عِرْقٌ
بَارِدٌ وَغَثًى وَحُمَّى نَافِضٌ وَجُمُودُهُ مَعَ إنْفَحَةٍ أَرْدَأُ
وَأَسْرَعُ إلَى الْحَنَقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَلُوحَاتِ
فَإِنَّهَا تُزِيدُهُ تَجَبُّنًا وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُسْقَى خَلًّا
مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَيُسْقَى مِنْ الْإِنْفَحَةِ إلَى مِثْقَالٍ
فَإِنَّهَا تُرَقِّقُهُ وَتُخْرِجُهُ بِقَيْءٍ أَوْ إسْهَالٍ .
وَاللَّبَنُ
الْمَطْبُوخُ وَالْمُلْقَى فِيهِ الْحَصَا الْمَحْمِيُّ وَالْحَدِيدُ
يَعْقِلُ الْبَطْنَ وَاللَّبَنُ الْحَامِضُ أَجْوَدُهُ الْكَثِيرُ
الزُّبْدِ فَإِنْ أُخِذَ زُبْدُهُ وَحَمُضَ فَهُوَ الْمَخِيضُ ، وَإِنْ
نُزِعَ زُبْدُهُ وَمَائِيَّتُهُ فَهُوَ اللَّدُوغُ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ
وَقِيلَ رَطْبٌ وَهُوَ يُوَافِقُ الْأَمْزِجَةَ الْحَارَّةَ وَلَكِنَّهُ
جَامُّ الْخَلْطِ بَطِيءُ الِاسْتِمْرَاءِ مُضِرٌّ بِاللِّثَةِ
وَالْأَسْنَانِ وَلِلدِّمَاغِ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ الْحَارَّةَ ،
وَالْمَخِيضُ لَا يُجَشِّئُ جُشَاءً دُخَّانِيًّا لِانْتِزَاعِ زُبْدِهِ
وَيَحْبِسُ الْإِسْهَالَ الصَّفْرَاوِيَّ وَالدَّمَوِيَّ وَيُسْكِنُ
الْعَطَشَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَضْمَضَ بِمَاءِ الْعَسَل حَتَّى
لَا يَضُرَّ بِاللِّثَةِ فَإِنْ اسْتَحَالَ اللَّبَنُ الْحَامِضُ إلَى
كَيْفِيَّةٍ عَفِنَةٍ أُخْرَى مَعَ الْحُمُوضَةِ تَوَلَّدَ عَنْهُ دُوَارٌ
وَغَشَيَانٌ وَمَغَصٌ فِي فَمِ الْمَعِدَةِ وَرُبَّمَا عَرَضَتْ عَنْهُ
هَيْضَةٌ قَاتِلَةٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوَى بِالْقَيْءِ وَتَنْظِيفِ
الْمَعِدَةِ مِنْهُ بِمَاءِ الْعَسَلِ فَأَمَّا أَنْوَاعُ اللَّبَنِ
فَلَبَنُ اللِّقَاحِ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْل التَّدَاوِي
بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فُصُول الطِّبِّ وَلَبَنُ الْبَقَرِ أَكْثَرُ
الْأَلْبَانِ دُسُومَةً وَغِلَظًا وَأَكْثَرُ غِذَاءً مِنْ سَائِرِ
الْأَلْبَانِ وَأَبْطَأُ انْحِدَارًا
ذَكَرَهُ ابْنُ جَزْلَةَ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْبَدَنَ وَيُطْلِقُهُ بِاعْتِدَالٍ
وَإِنَّهُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَلْبَانِ وَأَفْضَلِهَا بَيْنَ لَبَنِ
الضَّأْنِ وَلَبَنِ الْمَعْزِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ وَالدَّسَمِ
وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيهِ فِي فَصْلِ حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ
الطِّبِّ .
وَلَبَنُ الْمَعْزِ مُعْتَدِلٌ لِاعْتِدَالِ الْمَائِيَّةِ
وَالْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ فِيهِ يَنْفَعُ مِنْ النَّوَازِلِ
وَيَحْبِسُهَا مِنْ قُرُوحِ الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ عَنْ الْيَبَسِ
وَالْغَمِّ وَالْوَسْوَاسِ وَالسُّعَالِ وَنَفْثِ الدَّمِ وَالسِّلِّ
بِكَسْرِ السِّين وَهُوَ السِّلَالُ يُقَالُ أَسَلَّهُ اللَّه فَهُوَ
مَسْلُولٌ وَهُوَ مِنْ الشَّوَاذِّ .
وَالْغَرْغَرَةُ بِهِ تَنْفَعُ
مِنْ الْخَوَانِيقِ وَأَوْرَامِ اللَّهَاةِ وَقُرُوحِ الْمَثَانَةِ
وَقِيلَ : إنَّهُ مُضِرٌّ بِالْأَحْشَاءِ .
وَلَبَنُ الضَّأْنِ دَسِمٌ
غَلِيظٌ كَثِيرُ الْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
هُوَ أَغْلَظُ الْأَلْبَانِ وَأَرْطَبُهَا يَنْفَعُ مِنْ نَفْثِ الدَّمِ
وَقُرُوحِ الرِّئَةِ وَيَتَدَارَكُ ضَرَرَ الْجِمَاعِ وَيُقَوِّي عَلَى
الْبَاهِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ وَالزَّحِيرِ
وَقُرُوحِ الْأَمْعَاءِ لَيْسَ مَحْمُودًا كَلَبَنِ الْمَعْزِ وَفِيهِ
تَهْيِيجٌ لِلْقُولَنْجِ وَيُوَلِّدُ فُضُولًا بَلْغَمِيَّةً وَيُحْدِثُ
فِي جِلْدِ مَنْ أَدْمَنَهُ بَيَاضًا قَالَ بَعْضهمْ : يَنْبَغِي أَنْ
يُشَابَ بِالْمَاءِ لِيُقِلَّ الْبَدَنُ مَا نَالَهُ وَيَكْثُرُ
تَبْرِيدُهُ وَيُسْرِعُ تَسْكِينُهُ لِلْعَطَشِ .
لَبَنُ الْخَيْل
قَلِيلُ الْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ يَعْدِلُ لَبَنَ اللِّقَاحِ فِي
ذَلِكَ لَبَنَ النِّسَاءِ يُدِرُّ الْبَوْلَ وَهُوَ تِرْيَاقُ الْأَرْنَبِ
الْبَحْرِيّ وَيَنْفَعُ مِنْ الرَّمَدِ إذَا حُلِبَ فِي الْعَيْنِ وَمِنْ
خُشُونَةِ الْعَيْنِ خَاصَّةً مَعَ بَيَاضِ الْبَيْضِ وَيَنْفَعُ مِنْ
السِّلِّ إذَا شُرِبَ حِينَ يَخْرُجُ مَنْ الثَّدْيِ أَوْ يُمَصُّ مِنْ
الثَّدْيِ وَلَكِنْ مِنْ امْرَأَةٍ صَحِيحَةِ الْبَدَنِ مُعْتَدِلَةِ
الْبَدَنِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الْآذَانِ وَقُرُوحِهَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْجُبْنِ فِي ذِكْرِ الْمُفْرَدَاتِ .
فَصْلٌ ( اسْتِحْبَابُ الْمَضْمَضَةِ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَكُلِّ دَسِمٍ ) .
وَتُسَنُّ
الْمَضْمَضَةُ مِنْ شُرْبِهِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِمَاءٍ وَقَالَ
إنَّ لَهُ دَسَمًا وَشِيبَ لَهُ بِمَاءٍ فَشَرِبَ } وَذَلِكَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِ { أَنَّهُ لَمَّا شَرِبَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
يَسَارِهِ وَعُمَرُ وِجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ عُمَرُ
هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُرِيهِ إيَّاهُ فَأَعْطَى
رَسُولُ اللَّهِ الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ
الْأَيْمَنُونَ } قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ ، فَهِيَ سُنَّةٌ ، فَهِيَ
سُنَّةٌ ، وَلِلْبُخَارِيِّ " الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ أَلَا
فَيَمِّنُوا " وَتَخْصِيصُهُ فِي الرِّعَايَةِ الْمَضْمَضَةُ مِنْهُ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِهِ .
وَذَكَرَ
بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاء أَنَّ
الْإِكْثَارَ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ وَلِذَلِكَ
يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَر {
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَضْمَضَ وَقَالَ إنَّ لَهُ دَسَمًا }
كَذَا قَالَ وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ الْأَطِبَّاءِ
أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ بَعْدَهُ بِالْعَسَلِ ؛ لِأَجْلِ اللِّثَةِ
وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تُسْتَحَبَّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ دَسَمٌ
لِتَعْلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ مِمَّا لَا
دَسَمَ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ لَا يُسْتَحَبُّ .
وَعَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { مَضْمِضُوا مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّ لَهُ
دَسَمًا } وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا { إذَا شَرِبْتُمْ اللَّبَنَ
فَمَضْمِضُوا فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا } رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ
أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : تُسْتَحَبُّ
الْمَضْمَضَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ؛
لِئَلَّا يَبْقَى مِنْهُ بَقَايَا يَبْتَلِعُهَا فِي الصَّلَاة
وَلِتَنْقَطِعَ لُزُوجَتُهُ وَدَسَمُهُ وَيَتَطَهَّرُ فَمُهُ كَذَا قَالَ
، وَقَدْ { أَكَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَحْمًا وَغَيْرَهُ ثُمَّ صَلَّى
وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ } .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ
غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ
لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُوثِرُ
بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ } .
وَفِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
، وَقَوْلُهُ فَتَلَّهُ أَيْ وَضَعَهُ ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَنَ فِي
مِثْلِ هَذَا يُقَدَّمُ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا أَوْ صَغِيرًا .
وَاسْتَأْذَنَ
ابْنُ عَبَّاسٍ لِإِدْلَالِهِ عَلَيْهِ يَتَأَلَّفُ الْأَشْيَاخِ وَفِيهِ
بَيَانُ هَذِهِ السُّنَّةِ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ
اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ حَقِّهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِذْنُ
وَهَلْ يَجُوزُ ؟ يَخْرُجُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ
وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ الْأَعْرَابِيَّ لِمَخَافَةِ إيحَاشِهِ فِي صَرْفِهِ
إلَى أَصْحَابِهِ وَلِتَوَهُّمِهِ شَيْئًا يَهْلَكُ بِهِ لِقُرْبِ
عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَفِيهِ التَّذْكِيرُ بِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ
مَخَافَةَ نِسْيَانِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَفِيهِ أَنَّ مَنْ
سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ أَوْ مَجْلِسِ عَالِمٍ أَوْ كَبِيرٍ فَهُوَ أَحَقُّ
مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ ، وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي
الْجُمْلَةِ .
فَأَمَّا إنْ عُرِفَ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَكَانٍ
وَمَنْزِلَةٍ وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً وَعُرْفًا لَهُمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُ
فِيهِ مِنْ الشَّرِّ .
فَصْلٌ ( اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ) .
يُسْتَحَبُّ
غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَعَنْهُ يُكْرَهُ ،
اخْتَارَهُ الْقَاضِي كَذَا ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ
فِي الْمُحَرَّرِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا
يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ
أَوَّلًا قَذَرٌ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ
ذَلِكَ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ أَقْوَالًا ثُمَّ ذَكَرَ الْأَظْهَرَ
تَفْصِيلًا وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ مَالِكٍ .
وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ
الرَّبِيعِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ عَنْ أَبِي
هَاشِمِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ } .
قَالَ مُهَنَّا ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ
فَقَالَ مَا حَدَّثَ بِهِ إلَّا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهُوَ مُنْكَرُ
الْحَدِيثِ قُلْتُ بَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ
سُفْيَانُ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ عِنْدَ الطَّعَامِ ، لِمَ يَكْرَهُ
سُفْيَانُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْعُجْمِ قَالَ
مُهَنَّا : وَذَكَرْتُهُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فَقَالَ لِي يَحْيَى :
مَا أَحْسَنَ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ .
وَعَنْ
أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْثُرَ خَيْرُ بَيْتِهِ
فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ } إسْنَادُهُ
ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ مَنْ كَرِهَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ
التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ
بَعْضُهُمْ قَالَ كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ
الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَر فِيهِ بِشَيْءٍ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ
شَعْرَهُ مُوَافَقَةً لَهُمْ ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ صَامَ
عَاشُورَاءَ
لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ
مَوْتِهِ { لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلَ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } يَعْنِي
مَعَ الْعَاشِرِ ؛ لِأَجْلِ مُخَالِفَةِ الْيَهُودِ .
وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ إلَيْهِ الطَّعَامُ
فَقَالُوا : أَلَا نَأْتِيَكَ بِوَضُوءٍ قَالَ إنَّمَا أُمِرْتُ
بِالْوُضُوءِ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ } رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَذَكَرَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ
عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبِلَالٍ {
مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي }
الْحَدِيثَ قَالَ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ .
وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ الْحَدِيثُ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ
حَسَنٌ وَلَمْ يَثْبُت فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ حَدِيثٌ
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لَا الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ
وَقَالَ الشَّيْخُ : تَقِيُّ الدِّينِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ
الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ جُنُبًا انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَقَالَ سَعِيدٌ ثَنَا فُضَيْلُ بْن عِيَاضٍ عَنْ
مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا
وُضُوءَ الصَّلَاةِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالطَّعَامِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ
: وَيُسَنُّ غَسْلُ يَدِهِ وَفَمِهِ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَرَائِحَةٍ
كَرِيهَةٍ غَيْرِهِمَا .
فَصْلٌ قَالَ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ) قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ وَأَظُنُّهُ نَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي أُكِلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ : وَلَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ الْعَامَّةُ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ مَسْنُونٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِذَا قُدِّمَ مَا يُغْسَلُ فِيهِ الْيَدُ فَلَا يُرْفَعُ حَتَّى يَغْسِلَ الْجَمَاعَةُ أَيْدِيَهُمْ ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ .
فَصْلٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهَا كَانَتْ إذَا ثَرَدَتْ
شَيْئًا غَطَّتْهُ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ : سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّهُ
أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ .
وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
الزُّهْرِيِّ وَقُرَّةُ فِيهِ ضَعْفٌ وَقَدْ وُثِّقَ وَهُوَ أَعْلَمُ
النَّاسِ بِالزُّهْرِيِّ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا بِطَعَامٍ سُخْنٍ فَقَالَ مَا دَخَلَ بَطْنِي طَعَامٌ
سُخْنٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ } رَوَى الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا
يُؤْكَلُ طَعَامٌ حَتَّى يَذْهَبَ بُخَارُهُ .
فَصْلٌ ( فِي انْتِظَارِ الْآكِلِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ ) .
عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يُقَامَ عَنْ الطَّعَامِ حَتَّى يُرْفَعَ
} .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { إذَا
وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُمْ أَحَدُكُمْ حَتَّى تُرْفَعَ
الْمَائِدَةُ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدًا وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ
الْقَوْمُ ، وَلْيُعْذِرْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ
فَيَقْبِضُ يَدَهُ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ حَاجَةٌ }
وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ مِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا
اشْتَهَيْت } رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ وَفِيهِنَّ ضَعْفٌ .
فَصْلٌ ( فِي آدَابِ أَكْلِ التَّمْرِ وَمِنْهَا تَفْتِيشُهُ لِتَنْقِيَتِهِ ) .
عَنْ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ عَتِيقٍ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ
مِنْهُ } إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ
وَقَالَ : وَرُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النَّهْيِ عَنْ شَقِّ التَّمْرِ عَمَّا فِي جَوْفِهَا } فَإِنْ صَحَّ
فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا كَانَ التَّمْرُ جَدِيدًا
وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي الْعَتِيقِ .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ وَلَا
بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَتَنْقِيَتِهِ وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَدُلُّ
عَلَى مَا فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَتِيقُ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى مَا
تَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ شَرْعًا وَعُرْفًا .
وَمِثْلُهُ
فِي الْحُكْمِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فَاكِهَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ
دَلَّ الْخَبَرَانِ الْمَذْكُورَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَحَرَّى ،
وَيُقْصَدُ غَالِبًا بَلْ إنْ ظَهَرَ شَيْءٌ أَوْ ظَنَّهُ أَزَالَهُ ،
وَإِلَّا بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ وَالسَّلَامَةِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى
مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ : وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّوَى
وَالتَّمْرِ فِي طَبَقٍ وَلَا يَجْمَعُهُ فِي كَفِّهِ بَلْ يَضَعُهُ مِنْ
فِيهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ ثُمَّ يُلْقِيهِ وَكَذَا كُلُّ مَا لَهُ
عَجَمٌ وَثُفْلٌ ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَالْعَجَمُ
بِالتَّحْرِيكِ النَّوَى وَكُلُّ مَا كَانَ فِي جَوْفِ مَأْكُولٍ
كَالزَّبِيبِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَالْوَاحِدَةُ عَجَمَةٌ مِثْلُ قَصَبَةٍ
وَقَصَبٍ ، يُقَالُ لَيْسَ لِهَذَا الرُّمَّانِ عَجَمٌ قَالَ يَعْقُوبُ
وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ عَجْمُ بِالتَّسْكِينِ وَالثُّفْلُ بِضَمِّ
الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَا يَثْقُلُ مَنْ كُلِّ
شَيْءٍ ، وَقَوْلُهُمْ : تَرَكْتُ بَنِي فُلَانٍ مُثَافِلِينَ أَيْ
يَأْكُلُونَ الثُّفْلَ يَعْنُونَ الْحَبَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لَبَنٌ
وَكَانَ طَعَامُهُمْ الْحَبَّ وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ حَالُ
الْبَدْوِيِّ .
وَهَذَا
الْأَدَبُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسَبَبِ
مُبَاشَرَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
بِخِلَافِ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ لَا لِعُرْفٍ حَادِثٍ .
وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ
وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ لَا أَعْلَمُ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ
إذَا كَانَ فِيهِ الدُّودُ بَأْسًا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ
رَأَيْتُ أَحْمَدَ يَأْكُلُ التَّمْرَ وَيَأْخُذُ النَّوَى عَلَى ظَهْرِ
إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَرَأَيْتُهُ يَكْرَهُ أَنْ
يَجْعَلَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، ذَكَرَهُ
الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ { نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً
فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي
النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى ثُمَّ
أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ
قَالَ فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتَهُ : اُدْعُ اللَّهَ
لَنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقَتْهُمْ وَاغْفِرْ
لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الْوَطْبَةُ بِفَتْحِ
الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مَفْتُوحَةٌ
وَهِيَ الْحَيْسُ ، يَجْمَعُ التَّمْرَ الْبَرْنِيَّ وَالْأَقِطَ
الْمَدْقُوقَ وَالسَّمْنَ ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ وَطِئَةٌ بِفَتْحِ
الْوَاو وَكَسْرِ الطَّاء وَبَعْدهَا هَمْزَةٌ قِيلَ كَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ أَيْ : يَجْعَلُهُ
بَيْنَهُمَا لِقِلَّتِهِ وَقِيلَ كَانَ يَجْمَعُهُ عَلَى ظَهْرِ
إصْبَعَيْهِ ثُمَّ يُرْمَى بِهِ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَعِنْدَهُ
فَكَانَ يَأْكُلُ التَّمْرَ وَيُلْقِي النَّوَى ، وَصَفَ يَعْنِي شُعْبَةً
بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ بِظَهْرِهِمَا مِنْ فِيهِ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعِنْدَهُ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى
ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى .
وَفِيهِ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ
الضَّيْفِ وَإِجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ .
وَيُبَاحُ أَكْلُ فَاكِهَةٍ مُسَوَّسَةٍ وَمُدَوِّدَةً بِدُودِهَا أَوْ بَاقِلَّا بِذُبَابِهِ وَخِيَارٍ وَقِثَّاءٍ وَحُبُوبٍ وَخَلٍّ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّلْخِيصِ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلِ الْإِبَاحَةِ وَعَدَمِهَا ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ .
فَصْلٌ ( فِي اسْتِحْبَابِ دُعَاءِ الْمَرْءِ لِمَنْ يَأْكُلُ طَعَامَهُ ) .
عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ
فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ ،
وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ } .
وَكَلَامُهُ فِي التَّرْغِيبِ
يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ دُعَاءً وَاسْتُحِبَّ
الدُّعَاءُ بِهِ لِكُلِّ مَنْ أُكِلَ طَعَامُهُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ
عَبْدِ الْقَادِرِ إنَّمَا يُقَالُ هَذَا إذَا أَفْطَرَ عِنْدَهُ
فَيَكُونُ خَبَرًا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ
انْتَهَى كَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِ وَاحِدٍ يُوَافِقُ مَا فِي
التَّرْغِيبِ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { : صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ
بْنُ التَّيْهَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ
أَثِيبُوا أَخَاكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا إثَابَتُهُ
قَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَأَكْلَ طَعَامَهُ وَشَرِبَ
شَرَابَهُ فَدَعَوْا لَهُ فَذَلِكَ إثَابَتُهُ } .
رَوَاهُمَا أَبُو
دَاوُد : الْأَوَّلُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالثَّانِي مِنْ حَدِيثِ
سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ الدَّالَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ
الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ : يُسْتَحَبُّ إذَا أَكَلَ عِنْدَ الرَّجُلِ
طَعَامًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ
{ مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَادْعُوا لَهُ } .
فَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ فَلَمْ
أَجِدْ الْأَصْحَابَ ذَكَرُوهُ ، وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ .
وَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ
إجَابَةِ الْعَاطِسِ أَنَّ الْمُتَجَشِّئُ لَا يُجَابُ بِشَيْءٍ فَإِنْ
حَمِدَ اللَّهَ دَعَا لَهُ ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِ
سُنَّةٌ بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَهَذَا أَيْضًا يُوَافِقُ مَا
سَبَقَ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ، لَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ
الْحَامِدَ يُدْعَى لَهُ مَعَ
قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ لَا نَعْرِفُ ،
فِيهِ سُنَّةً بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ
يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ لَكِنْ إذَا
حَمِدَ اللَّهَ ، وَمُقْتَضَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَادَةِ أَنَّهُ
يُقَالُ لِلشَّارِبِ مُطْلَقًا ، وَعَكْسُهُ الْآكِلُ وَيُتَوَجَّهُ فِيهِ
مِثْلُ الشَّارِبِ ؛ لِعَدَمِ الْفَرْقِ فَظَهَرَ أَنَّهُ هَلْ يُدْعَى
لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَمْ لَا إنْ حَمِدَ اللَّهَ أَمْ لِلشَّارِبِ ؟
فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَوَجَّهَةٌ كَمَا يُتَوَجَّهُ فِي الْمُتَجَشِّئُ
مِثْلُهُمَا .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَحَرِّيَ طَرِيقَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ الصَّوَابُ .
وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ
مُطْلَقًا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَسْأَلَةِ
الْقِيَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ كَانَ فِي أَوَّلِ
الْأَمْرِ ثُمَّ لَمَّا صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ
بِالشَّخْصِ اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْقِيَامُ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا ، فَأَمَّا إنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى عَدَاوَةٍ
وَغِشٍّ وَحِقْدٍ أَوْ وَحْشَةٍ وَشَنَآنٍ فَيُتَوَجَّهُ حِينَئِذٍ
الِائْتِلَافُ وَعَمَلُ مَا يَقْتَضِيهِ بِحَسَبِ الْحَالِ .
وَقَدْ
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
قَوْلِهِ لِغَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك ،
فَعَنْهُ لَا بَأْسَ وَهِيَ أَشْهَرُ كَالْجَوَابِ : وَاحْتَجَّ بِأَبِي
أُمَامَةَ قِيلَ لَهُ وَوَائِلَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ .
وَقَالَ : لَا
أَبْتَدِي بِهِ ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ وَعَنْهُ الْكُلُّ حَسَنٌ ، وَعَنْهُ
مَا أَحْسَنَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الشُّهْرَةَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا
الْخِلَافُ مَعَ الْأَثَرِ فِيهِ لَكِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ فِي
الصَّحَابَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَسْأَلَتِنَا عِنْدَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ الدُّعَاءُ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ بِمَا
يُنَاسِبُ الْحَالَ .
وَرَدُّ الْجَوَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ
عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ وَإِنَّهُ أَسْهَلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ لَلدَّاعِي يَوْمَ الْعِيدِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا
الْخِلَافُ يُتَوَجَّهُ فِي التَّهْنِئَةِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ
، وَفِي كِتَابِ الْهَدْيِ لِبَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَجُوزُ ،
فَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِنِعَمٍ دِينِيَّةٍ تَجَدَّدَتْ فَتُسْتَحَبُّ
لِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا
أُنْزِلَ { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } قَالَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنِيئًا مَرِيئًا ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي إطْعَامِ الْمَرْءِ غَيْرَهُ
مِنْ طَعَامِ مُضِيفِهِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ وَهَلْ تُقَاسُ الدَّرَاهِمُ
عَلَى الطَّعَامِ ) .
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ : وَمَنْ قَدَّمَ
طَعَامَهُ لِزَيْدٍ فَلَهُ أَخْذُ مَا عَلِمَ رِضَاءَ صَاحِبِهِ بِهِ
قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَإِطْعَامُ الْحَاضِرِينَ مَعَهُ وَإِلَّا فَلَا ،
وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : فَلَهُ أَخْذُ مَا ظَنَّ رِضَاءَ رَبِّهِ
بِهِ وَيَكْتَفِي بِالظَّنِّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ : وَهَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الطَّعَامَ
وَأَشْبَاهَهُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَشْبَاهِهِمَا .
قَالَ
أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ وَفِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ
مَنْ يَقْطَعُ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرٌ ، وَلَعَلَّ
هَذَا يَكُونُ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي
لَا شَكَّ فِي رِضَاهُ بِهَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا
تَشَكَّكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ مُطْلَقًا فِيمَا تَشَكَّكَ فِي
رِضَاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبْدِ
الْبَرِّ الْإِذْنُ فِي الطَّعَامِ وَشَبَهِهِ لَا يَكُون إذْنًا فِيمَا
هُوَ أَعْلَى مِنْ الدَّنَانِيرِ وَشَبَهِهَا وَيَكُونُ إذْنًا فِيمَا
هُوَ أَدْنَى مِنْهُ ؛ لِحُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إلَى إذْنِهِ
فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ .
فَصْلٌ ( فِي اسْتِحْبَابِ إكْرَامِ الْخُبْزِ دُونَ تَقْبِيلِهِ وَشُكْرِ النِّعَمِ ) .
هَلْ
يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ
كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْبِيلِ
الْمُصْحَفِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقْبِيلِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ
تَقْبِيلُ الْجَمَادَاتِ ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ ، وَقَدْ
ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ وَضْعُ
الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُصَافَحَةِ الْحَيِّ
صَحَّحَهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَوْ لَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّ مَا
طَرِيقُهُ الْقُرْبَةُ يَقِفُ عَلَى التَّوْقِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ
فِي الْحَجَر الْأَسْوَدِ { لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ } ، وَلَيْسَ فِي
هَذَا تَوْقِيفٌ ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ كَلَامُ وَالِدِهِ فِي تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ بِهَذَا
الْمَعْنَى وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ لَهُ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً
فَقَالَ { يَا عَائِشَةُ أَحْسَنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ
فَإِنَّهَا قَلَّ إنْ نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَكَادَتْ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ
} وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ فَدَخَلَ عَلَيَّ ، فَرَأَى
كِسْرَةً مُلْقَاةً فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا وَقَالَ {
يَا عَائِشَةُ أَكْرَمِي كَرِيمَكَ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ
فَعَادَتْ إلَيْهِمْ } فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
التَّقْبِيلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحَلُّهُ كَمَا يُفْعَلُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الِاعْتِرَافَ
بِالنِّعَمِ وَمَنْ أَنْعَمَ بِهَا وَشُكْرَهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهَا
وَزِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : قَيِّدُوا النِّعَمَ
بِالشُّكْرِ فَإِنَّهَا كَالنَّعَمِ لَهَا أَوَابِدُ ، أَيْ تَشْرُدُ
وَتَنْفِرُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ { أَنَّ
لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ
أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ } ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } .
وَقَدْ
قَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ رَحِمَهُ
اللَّهُ : كُلُّ نِعْمَةٍ لَمْ يُشْكَرْ اللَّهُ عَلَيْهَا فَهِيَ
بَلِيَّةٌ وَقَالَ أَيْضًا : إذَا رَأَيْت اللَّهَ يُتَابِعُ نِعَمَهُ
عَلَيْكِ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج فَاحْذَرْهُ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } .
وَقَدْ
سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا قَرِيبًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا } .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْمَعْنَى
وَقُلْنَا : اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا عَلَى مَا آتَاكُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ بَعْضُهُمْ الطَّاعَاتُ كُلُّهَا
شُكْرٌ وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً
فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ لَهُ شُكْرَهَا وَمَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى
ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ فَيَحْمَدُ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُ
رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ } وَمَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ
اُشْكُرْ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْك وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ
فَإِنَّهُ لَا زَوَالَ لِلنِّعَمِ إذَا شُكِرَتْ ، وَلَا مُقَامَ لَهَا
إذَا كُفِرَتْ وَالشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ وَأَمَانٌ مِنْ
الْغِيَر قَالَ أَبُو بُجَيْلَةَ : شَكَرْتُك إنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنْ
التُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوَلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي وَأَحْيَيْت
مِنْ ذِكْرِي وَمَا كُنْت خَامِلًا وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ
مِنْ بَعْضِ وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ
الْيَمَانِ مَا عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ إلَّا زَادَ حَقُّ اللَّهِ عِظَمًا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ سُوءَ مَا يُبْلَى ، لَمْ يَعْرِفْ خَيْرَ مَا يُولَى وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ وَشَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَيَبْرَحُ حَتَّى يَزْدَادَ .
فَصْلٌ ( فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الطَّعَامِ ) .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } أَيْ
فَاخْرُجُوا { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ } أَيْ طَالِبِينَ الْأُنْسَ
لِحَدِيثٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ كَانُوا
يَجْلِسُونَ بَعْدَ الْأَكْلِ فَيَتَحَدَّثُونَ طَوِيلًا وَكَانَ ذَلِكَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَحْيِ أَنْ
يَقُولَ لَهُمْ : قُومُوا فَعَلَّمَهُمْ اللَّهُ الْأَدَبَ { وَاَللَّهُ
لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ } .
أَيْ لَا يَتْرُكُ أَنْ يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا هُوَ الْحَقُّ فَأَمَّا إنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الْإِذْنِ
فِي الْجُلُوسِ جَازَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَيْلِ صَاحِبِ
الطَّعَامِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا .
قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الثُّقَلَاءِ وَقَالَ
السُّدِّيُّ ذَكَرَ اللَّهُ الثُّقَلَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ {
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } .
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَسْتَثْقِلَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَذًى لَهُ
وَلِغَيْرِهِ وَالْمُؤْمِنُ سَهْلٌ لَيِّنٌ هَيِّنٌ كَمَا سَبَقَ فِي
حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ سُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ عَنْ الْمُؤْمِنِ يَكُونُ بَغِيضًا قَالَ لَا يَكُونُ بَغِيضًا
وَلَكِنْ يَكُونُ ثَقِيلًا .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قُلْت
لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ مَا لَكَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ طَاوُوسَ قَالَ
أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ بَيْنَ ثَقِيلَيْنِ وَسَمَّاهُمَا كَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ إذَا اسْتَثْقَلَ رَجُلًا قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا
وَلَهُ وَأَرِحْنَا مِنْهُ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا رَأَى
مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ قَالَ { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إنَّا
مُؤْمِنُونَ } .
وَعَنْ حَمَّادِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّوْمِ
فِي الْبُسْتَانِ مِنْ الثِّقَلِ كَذَا قَالَ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى
ظَاهِرِهِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَالِ كَانَ يُقَالُ : مُجَالَسَةُ
الثَّقِيلِ حُمَّى الرُّوحِ قِيلَ لِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ
لِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الثَّقِيلُ أَثْقَلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ
الْحِمْلِ الثَّقِيلِ فَقَالَ : لِأَنَّ
الثَّقِيلَ يَعْقِدُ عَلَى
الْقَلْبِ ، وَالْقَلْبُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُ الرَّأْسُ
وَالْبَدَنُ مِنْ الثِّقَلِ كَانَ فَلَاسِفَةُ الْهِنْدِ يَقُولُونَ :
النَّظَرُ إلَى الثَّقِيلِ يُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ قَالَ ثَقِيلٌ
لِمَرِيضٍ مَا تَشْتَهِي قَالَ أَشْتَهِي أَنْ لَا أَرَاك .
وَقَالَ
مَعْمَرٌ مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إلَّا ثَلَاثٌ مُحَادَثَةُ
الْإِخْوَانِ وَحَكُّ الْجَرَبِ وَالْوَقِيعَةُ فِي الثُّقَلَاءِ وَهِيَ
أَفْضَلُ الثَّلَاثِ وَقَالَ آخَرُ : إذَا جَلَسَ الثَّقِيلُ إلَيْك
يَوْمًا أَتَتْكَ عُقُوبَةٌ مِنْ كُلِّ بَابِ فَهَلْ لَك يَا ثَقِيلُ إلَى
خِصَالٍ تَنَالُ بِبَعْضِهَا كَرْمَ الْمَآبِ إلَى مَالِي فَتَأْخُذَهُ
جَمِيعًا أَحَلُّ لَدَيْكَ مِنْ مَاءِ السَّحَابِ وَتَنْتِفُ لِحْيَتِي
وَتَدُقُّ أَنْفِي وَمَا فِي فِي مِنْ ضِرْسٍ وَنَابِ عَلَى أَنْ لَا
أَرَاك وَلَا تَرَانِي مُقَاطَعَةً إلَى يَوْمِ الْحِسَابِ وَكَانَ
يُقَالُ مُجَالَسَةُ الثَّقِيلِ ، عَذَابٌ وَبِيلٌ ، وَأَنْشَدَ
بَعْضُهُمْ : لَيْتَنِي كُنْتُ سَاعَةً مَلَكَ الْمَوْتِ فَأُفْنِيَ
الثِّقَالَ حَتَّى يَبِيدُوا سَلَّمَ ثَقِيلٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَارِيّ صَاحِبِ هَارُونَ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا :
قَدْ وَاَللَّهِ بَلَغْتُ مِنْكَ غَايَةَ الْأَذَى أَسْلِفْنِي سَلَامَ
شَهْرٍ وَأَرِحْنِي مِنْك .
قَالَ الشَّاعِرُ : أَنْتَ يَا هَذَا
ثَقِيلٌ وَثَقِيلٌ وَثَقِيلُ أَنْتَ فِي الْمَنْظَرِ إنْسَانٌ وَفِي
الْمِيزَانِ فِيلُ قَالَ أَبُو حَازِمٍ عَوِّدْ نَفْسَك الصَّبْرَ عَلَى
السُّوءِ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخْطِئُك .
فَصْلٌ ( فِي تَمَسُّكِ النَّاسِ بِالْخُرَافَاتِ وَتَهَاوُنِهِمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ ) .
قَالَ
أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَوْ تَمَسَّكَ النَّاسُ
بِالشَّرْعِيَّاتِ تَمَسُّكَهُمْ بِالْخُرَافَاتِ لَاسْتَقَامَتْ
أُمُورُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَدِّمُونَ إدْخَالَ مُسَافِرٍ عَلَى
مَرِيضٍ ، وَلَا يُنَقَّبُ الرَّغِيفَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ حَرْفِهِ ،
وَلَا يُكَبُّ الرَّغِيفَ عَلَى وَجْهِهِ ، وَلَا يُتَزَوَّجُ فِي صَفَرٍ
، وَلَا يَتْرُكُ يَدَيْهِ مُشَبَّكَةً فِي رُكْنَيْ الْبَابِ وَلَا
يَخِيطُ قَمِيصَهُ عَلَيْهِ إلَّا وَيَضَعُ فِيهِ لِيطَةً ، وَلَعَلَّ
الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ عُوتِبَ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَوْ
الْجَمَاعَاتِ أَوْ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَأَهْوَنُ بِالْعُتْبَةِ .
فَهَذَا
قَدْرُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ
وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ طَرْحُ الرَّغِيفِ عَلَى
وَجْهِهِ ثِقَةً بِمَا يَسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ الْبُلْهِ وَالسَّفْسَافِ
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمِنْ هَذَا تَرْكُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ يَوْمَ
السَّبْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَمِنْهُ
تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ بِشَيْءٍ كَتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالِاسْتِرَاحَةِ ، وَبَعْضِهِمْ
لَهُ بِالدُّعَاءِ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ .
وَقَدْ قَالَ فِي
الْفُنُونِ : كُنْت أَرَى النَّاسَ يُكْثِرُونَ الدُّعَاءَ وَزِيَارَةَ
الْقُبُورِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يَرْجِعُونَ إلَى
شَيْءٍ فَوَجَدْتُ فِي سَمَاعِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَنْ
الْغِطْرِيفِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَعَرَفْنَا
السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ } قَالَ جَابِرٌ فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ مُهِمٌّ
عَارِضٌ إلَّا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
فَدَعَوْتُ فَعَرَفْتُ الْإِجَابَةَ .
فَصْلٌ قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ ( بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ تُطْعَمَ الْبَهَائِمُ الْخُبْزَ ) ثَنَا حَرْبٌ قُلْتُ لِإِسْحَاقَ نُطْعِمُ الْبَهِيمَةَ الْخُبْزَ قَالَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا أَمَرْت بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ ، فَأَمَّا أَنْ يُتَّخَذَ طَعَامَ الْبَهِيمَةِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَعَدَمُ اعْتِيَادِهِ وَفِعْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا فَيَأْتِيهَا بَنُو
عَمِّهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَتَعْمِدُ
إلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا قَالَ فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ
بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ عَصَرْتِهَا ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ لَوْ
تَرَكْتِهَا مَا زَالَ قَائِمًا } .
وَعَنْهُ أَيْضًا { أَنَّ رَجُلًا
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ
فَأَطْعَمَهُ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ
وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ
مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ
عَائِشَةَ حِينَ كَالَتْ الشَّعِيرَ فَفَنِيَ .
قَالَ فِي شَرْحِ
مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا
وَكَيْلَهُ مُضَادٌّ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِيرَ وَالْأَخْذَ بِالْحَوْلِ
وَالْقُوَّةِ وَتَكَلُّفِ الْإِحَاطَةِ بِأَسْرَارِ حِكَمِ اللَّهِ
وَفَضْلِهِ فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ .
فَصْلٌ ( فِي الْخُرُوجِ مَعَ الضَّيْفِ إلَى بَابِ الدَّارِ وَالْأَخَذِ بِرِكَابِهِ ) .
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ
الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا دَعَوْتَ أَحَدًا
إلَى مَنْزِلِكَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ " ذَكَرَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ :
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ زُرْتَ أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي
وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
أَلَيْسَ يُقَالُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ
بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ قَالَ نَعَمْ يَقْعُدُ ، وَيُقْعِدُ مَنْ
يُرِيدُ قَالَ قُلْتُ فِي نَفْسِي خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ إلَيْكَ
فَائِدَةً .
ثُمَّ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ كُنْتُ آتِيكَ
عَلَى حَقِّ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُكَ كُلَّ يَوْمٍ ، فَقَالَ لَا
تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ
إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ
يَوْمٍ قُلْتُ هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ فَلَمَّا أَرَدْت
الْقِيَامَ قَامَ مَعِي قُلْتُ : لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ : فَقَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ
أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ قَالَ
قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَنْ الشَّعْبِيِّ ؟ قَالَ ابْنُ
زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا
عُبَيْدٍ هَذِهِ ثَالِثَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا
{ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِرِكَابِ رَجُلٍ لَا يَرْجُوهُ وَلَا يَخَافُهُ
غُفِرَ لَهُ } وَمَسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَتَمْسِكُ لِي وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ إنَّا
هَكَذَا
نَصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي مَجْلِسِهِ إذَا حَضَرَ ، وَأَنْ لَا
يَتَصَدَّرَ ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مَكَانًا لَمْ
يَتَعَدَّهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ
الْمَجَالِسِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ طَرَحَ لِحُلَيْسٍ لَهُ
وِسَادَةً فَرَدَّهَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ الْحَدِيثَ { لَا تَرُدَّنَّ
عَلَى أَخِيك كَرَامَتَهُ .
}
فَصْلٌ ( فِي اسْتِحْبَابِ الِانْبِسَاطِ وَالْمُدَاعَبَةِ وَالْمُزَاحِ مَعَ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ ) .
قَالَ
فِي الْفُنُونِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَعْنِي نَفْسَهُ مَا
أَدْرِي مَا أَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَشَدِّقِينَ فِي شَرِيعَةٍ بِمَا
لَا يَقْتَضِيه شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ يُقَبِّحُونَ أَكْثَرَ الْمُبَاحَاتِ
وَيُبَجِّلُونَ تَارِكَهَا حَتَّى تَارِكَ التَّأَهُّلِ وَالنِّكَاحِ ،
وَالْعِبْرَةُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ إعْطَاءُ الْعَقْلِ حَقَّهُ مِنْ
التَّدَبُّرِ ، وَالتَّفَكُّرِ ، وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَالنَّظَرِ ،
وَالْوَقَارِ ، وَالتَّمَسُّكِ ، وَبِالْإِعْدَادِ لِلْعَوَاقِبِ :
وَالِاحْتِيَاطِ بِطَرِيقَةٍ هِيَ الْعُلْيَا يَخُصُّ بِهَا الْأَعْلَى
الْأَعَزَّ الْأَكْرَمَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ كَانَ لَهُ
صَبِيٌّ فَلْيَتَصَابَ لَهُ } .
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرْقِصُ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيُدَاعِبُهُمَا وَسَابَقَ عَائِشَةَ ،
وَيُدَارِي زَوْجَاتِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَالْعَاقِلُ إذَا خَلَا
بِزَوْجَاتِهِ وَإِمَائِهِ تَرَكَ الْعَقْلَ فِي زَاوِيَةٍ كَالشَّيْخِ
الْمُوَقَّرِ وَدَاعَبَ وَمَازَحَ وَهَازَلَ لِيُعْطِيَ الزَّوْجَةَ
وَالنَّفْسَ حَقَّهُمَا ، وَإِنْ خَلَا بِأَطْفَالِهِ خَرَجَ فِي صُورَةِ
طِفْلٍ ، وَيُهْجِرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْخَبَرُ
الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُ
فِي بَيْتِهِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ
تَوَاضُعِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ الْعَالِيَةِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّوَامِيسِ وَالْحَمْقَى وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَعَ
اشْتِمَالِ بَعْضِهِمْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ قَصْدٍ وَجَهْلٍ مُفْرِطٍ
، فَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ خَالَفَ طَرِيقَتَهُ ، وَيَصِيرُ عِنْدَهُ
الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ
الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَالْمُسْلِمِينَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلَا الضَّالِّينَ .
فَصْلٌ ( فِي تَحَسُّرِ النَّاسِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الدُّنْيَا دُونَ مَا حَلَّ بِالدِّينِ ) .
قَالَ
فِي الْفُنُونِ مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ
كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ ، وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ
وَالْأَسْلَافِ ، وَالتَّحَسُّر عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ
وَأَهْلِهِ وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ
انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ ، وَشَعَثِ الْأَدْيَانِ ، وَمَوْتِ السُّنَنِ ،
وَظُهُورِ الْبِدَعِ ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَقَضٍّ فِي الْفَارِغِ
الَّذِي لَا يُجْدِي ، وَالْقَبِيحِ الَّذِي يُوبِقُ وَيُؤْذِي ، فَلَا
أَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ ، وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ
عُمْرِهِ ، وَلَا آسَى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ وَمَا أَرَى لِذَلِكَ
سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا
فِي عُيُونِهِمْ ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ
يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ .
فَصْلٌ ( فِيمَا يُسَنُّ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالِاسْتِيقَاظِ ) .
وَيَقُولُ
عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالنَّوْمِ وَالِانْتِبَاهِ مَا وَرَدَ
فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ
الْأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ ،
وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ ،
وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ ، لَا
مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ
الَّذِي أَنْزَلْتَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ } رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ
وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ
وَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ } مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ
مِنْ النَّوْمِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ
بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ
يَرْقُدَ وَضْعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ :
اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ } .
حَدِيثٌ
حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَالْبَرَاءِ
مَعْنَاهُ وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُود .
وَرَوَى حَدِيثَ حَفْصَةَ وَعِنْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَيَضَعُ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ .
وَقَالَ
فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ : كَانَ يَتَوَسَّدُ يَمِينَهُ وَعَنْ أَبِي
سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ
وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ
كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلٍ عَالِجٍ
، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ .
وَعَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنْ
الْفَزَعِ بِاسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ
غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
وَأَنْ يَحْضُرُونَ } وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا
مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ ، وَمَنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ
يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا عَلَيْهِ فِي عُنُقِهِ .
رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَعِنْدَهُ " إذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ مِنْ النَّوْمِ فَلْيَقُلْ " وَذَكَرَهُ .
وَقَالَ
حَسَنٌ غَرِيبٌ وَأَبُو دَاوُد لَمْ يَذْكُرْ " النَّوْمَ " وَعِنْدَهُ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ
مِنْ الْفَزَعِ وَذَكَرَهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ
عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي
أَجِدُ وَحْشَةً فَقَالَ : " إذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ أَعُوذُ "
وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي آخِرِهِ " فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك "
وَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَقْرَبَكَ ، الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ
الْمَخْزُومِيُّ ، إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
الْوَلِيدِ .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ قَالَ
{ إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ
وَمَا أَظَلَّتْ ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ ، وَرَبَّ
الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ
جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ عَلَيَّ ،
عَزَّ جَارُكَ
وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ وَلَا إلَهَ
إلَّا أَنْتَ } فِيهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ وَلَيْسَ بِثِقَةٍ
عِنْدَهُمْ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ تَرَكُوهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ : لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ وَيُرْوَى مُرْسَلًا ،
الْأَرَقُ السَّهَرُ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ
مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى أُنْزِلَتْ
الْمُعَوِّذَتَانِ ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا
سِوَاهُمَا } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ
؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }
يُرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ .
وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : {
كُنْتُ أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَاقَتَهُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لِي يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ
خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا ؟ فَعَلَّمَنِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قَالَ فَلَمْ يَرَنِي
سُرِرْتُ بِهِمَا جِدًّا ، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى
بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ الْتَفَتَ إلَيَّ
فَقَالَ يَا عُقْبَةُ رَأَيْتَ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { اقْرَأْ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ وَمَا أَقْرَأُ بِأَبِي
وَأُمِّي قَالَ : اقْرَأْ : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَقُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأْتُهُمَا فَقَالَ اقْرَأْ بِهِمَا
فَإِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ بِمِثْلِهِمَا } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَعَنْ عُقْبَةَ قَالَ { قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ
أَقْرَأُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ قَالَ يَا عُقْبَةُ
اقْرَأْ بِ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِسُورَةٍ
أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْهَا ، وَأَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْهَا فَإِنْ
اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَفُوتَكَ فَافْعَلْ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ :
صَحِيحٌ وَأَظُنُّ فِي النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ .
وَعَنْ
عُقْبَةَ مَرْفُوعًا { مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا وَلَا اسْتَعَاذَ
مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ
اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ
عُقْبَةَ ، إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَابْنُ عَجْلَانَ حَدِيثُهُ حَسَنٌ .
وَقَالَ
عُقْبَةُ { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ أَقْرَأَ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ } حَدِيثٌ حَسَنٌ
لَهُ طُرُقٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ
وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ ، وَفِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ .
وَعَنْ
عُقْبَةَ قَالَ { بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إذْ
غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس وَيَقُولُ : يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا
فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا
بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ
إِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إذَا هَاجَتْ رِيحٌ مُظْلِمَةٌ
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ يُجْلِي الْعَجَاجَ الْأَسْوَدَ }
رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةٍ
عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ ، وَعَنْ مُعَاذِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { خَرَجْنَا فِي
لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ فَطَلَبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ :
قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا
فَقَالَ قُلْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ
قَالَ : قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدُ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ كَانَ أَبُو
صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ
عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ { اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ
وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ
شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ
أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ
قَبْلَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ
الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ
دُونَكَ شَيْءٌ ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ }
وَكَانَ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إذَا أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا أَنْ نَقُولَ
بِمِثْلِهِ وَقَالَ مِنْ شَرِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }
وَعَنْهُ قَالَ { أَتَتْ فَاطِمَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ : قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ
السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ } بِمِثْلِ حَدِيثِ سَهْلٍ .
وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ
دَاخِلَةَ إزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ
تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ
الْأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي
وَبِكَ أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا ، وَإِنْ
أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ
وَفِي
رِوَايَةٍ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي فَإِنْ أَحْيَيْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا } .
وَعَنْ
أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا
وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا
مُؤْوِيَ } رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ أَبِي
هُرَيْرَةَ الْأَخِيرَ وَعِنْدَهُ " فَلْيُنْفِضْهُ بِضِفَّةِ ثَوْبِهِ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي " وَلَمْ
يَقُلْ " سُبْحَانَكَ " وَلَا قَالَ " وَلْيُسَمِّ اللَّهَ " .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ { الْآيَتَانِ
مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ } قِيلَ
: مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ : مِنْ الطَّوَارِقِ وَقِيلَ :
مِنْهُمَا .
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَا
مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ
بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاء وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ
صَحِيحٌ .
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ
قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَبِيًّا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ
كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَلَفْظُهُ : " مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي
رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا " وَذَكَرَهُ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيث
أَبِي سَعِيدٍ مَنْ قَالَ رَضِيتُ " وَذَكَرَهُ وَفِيهِ " وَجَبَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ وَقَالَ " رَسُولًا " بَدَلَ " نَبِيًّا " .
وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ
يُصْبِحُ
اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ
لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ ، وَلَكَ الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ
وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ
لَيْلَتِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُيَيْنَةَ قِيلَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ
بْنُ سَعِيدِ الطَّائِفِيُّ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ وَلَيْسَ بِذَاكَ
الْمَشْهُورِ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى حَدِيثَهُ هَذَا النَّسَائِيُّ فِي
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرَهُمَا ، وَذَكَرُوا
أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعْضُهُمْ وَأَخْطَأَ ، رَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَاخْتَلَفَ
عَلَيْهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ نَافِعٍ الْمِصْرِيِّ .
وَقَالَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ عَنْ ابْن أَبِي مَرْيَمَ .
وَقَالَ ابْنُ
غَنَّامٍ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ
وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَقَالَ
عَنْ ابْنِ غَنَّامٍ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ .
وَقَالَ
عَنْ ابْن عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَيْضًا فِي
الْمُخْتَارَةِ وَلَفْظُهُ " اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ
أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، لَك
الْحَمْدُ ، وَلَك الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ "
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
وَهْبٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ أَوْ يُمْسِي :
اللَّهُمَّ إنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ
وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ
خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا
إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مَرَّةً
أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنْ النَّارِ ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ
أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنْ النَّارِ ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا
أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنْ النَّارِ ، وَمَنْ قَالَهَا
أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْهُ
أَيْضًا مَرْفُوعًا { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ أَصْبَحْنَا
نُشْهِدُكَ وَنُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ
خَلْقِكَ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا
شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، إلَّا غُفِرَ
لَهُ مَا أَصَابَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ ذَنْبٍ } رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ
غَرِيبٌ .
{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ
هَذِهِ ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي
الْأَدَبِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ ، وَفِي اسْمِ
هَذَا الصَّحَابِيِّ وَاسْمِ أَبِيهِ وَحَدِيثِهِ اخْتِلَافٌ وَاضْطِرَابٌ
، وَلَعَلَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ فِي الْأَطْرَافِ فِي حَرْفِ الطَّاءِ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَرَوَى
ابْن مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ وَهْمٌ ،
وَمِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَفِيهِ ضَعْفٌ .
وَعَنْ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ قَالَ { رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ عَلَى يَسَارِهِ } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ وَاحِدٍ
عَنْ يَسَارِهِ وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ بَعْضِ آلِ أَمْ سَلَمَةَ قَالَ : {
كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا
مِمَّا يُوضَعُ لِلْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِنْدَ
رَأْسِهِ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
{ مَنْ قَعَدَ
مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهَ
تِرَةٌ ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ
كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ .
التِّرَةُ بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَهِيَ النَّقْصُ وَقِيلَ التَّبَعَةُ .
وَيُزِيلُ
غَمَرَ يَدَيْهِ وَيَغْسِلُهُمَا مِنْ دُهْنٍ وَدَسَمٍ وَلَزَجٍ قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ
يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ }
إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ :
الْغَمَرُ بِالتَّحْرِيكِ الدَّسَمُ وَالزُّهُومَةُ مِنْ اللَّحْمِ
كَالْوَضَرِ مِنْ السَّمْنِ .
وَيَكْتَحِلُ قَبْلَ النَّوْمِ
بِإِثْمِدٍ مُرَوِّحٍ وَيُوكِي السِّقَاءَ وَيُغَطِّي الْإِنَاءَ أَوْ
يَعْرِضُ عَلَيْهِ عُودًا أَوْ نَحْوَهُ وَيُغْلِقَ الْبَابَ وَيُطْفِئَ
السِّرَاجَ وَالْخَمِيرَ لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَطُّوا الْإِنَاءَ
وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا
وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ وَلَا سِقَاءٍ لَمْ يُوكَ
إلَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ } .
وَفِي لَفْظٍ {
أَغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ وَخَمِّرُوا آنِيَتِكُمْ ، وَأَطْفِئُوا
سُرُجَكُمْ ، وَأَوْكِئُوا أَسْقِيَتَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا
يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَلَا يَكْشِفُ غِطَاءً ، وَلَا يَحِلُّ
وِعَاءً ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ عَلَى
إنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ
الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ } .
وَفِي لَفْظٍ {
لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ
الْعِشَاءِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ
حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
وَلِأَحْمَدَ { أَقِلُّوا الْخُرُوجَ إذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبُثُّ
فِي
لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا شَاءَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا
أُجِيفَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {
فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقْ
بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَطْفِ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ
اللَّهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ .
وَخَمِّرْ إنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا } .
وَفِي
رِوَايَةٍ { وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا
جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ } وَلِأَبِي دَاوُد
مَعْنَاهُ وَلَهُ أَيْضًا { وَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ
وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ الْمَسَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا
وَخَطْفَةً } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ " عِنْدَ الْمَسَاءِ "
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ هِيَ
إقْبَالُ اللَّيْلِ وَأَوَّل سَوَادِهِ يُقَالُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْفَحْمَةُ شَبَّهَ سَوَادَهُ
بِالْفَحْمَةِ وَالْفَوَاشِي جَمْعٌ لِلْفَاشِيَةِ وَهِيَ مَا يُرْسَلُ
مِنْ الدَّوَابِّ فِي الرَّعْي فَتَنْتَشِرُ وَتَفْشُو .
وَلِأَبِي
دَاوُد عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا ، وَمِنْ غَيْرِ حَدِيثِ جَابِر مُرْسَلًا
{ أَقِلُّوا الْخُرُوجَ بَعْدَ هَدْءِ الرِّجْلِ فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابّ
يَبُثُّهُنَّ فِي الْأَرْضِ } وَفِي لَفْظٍ { فَإِنَّ لِلَّهِ خَلْقًا
يَبُثُّهُنَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
أَبِي مُوسَى قَالَ : احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ
مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا حَدَّثَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ هَذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا
نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ } وَجَاءَتْ فَأْرَةٌ تَجُرُّ فَتِيلَةً
فَأَلْقَتْهَا عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِثْلَ مَوْضِعِ
الدِّرْهَمِ فَقَالَ { إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتَحْرِقُكُمْ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَنَا عَمْرٍو
بْنُ طَلْحَةَ ثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَسْبَاطُ هُوَ ابْنُ نَصْرٍ رَوَى لَهُ وَلِسِمَاكٍ مُسْلِمٌ
وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا .
فَإِنْ خَالَفَ وَلَمْ يُطْفِئْ النَّارَ
فَهَلْ يَضْمَنُ ؟ لَمْ أَجِدْ تَصْرِيحًا بِهَا ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ
يَضْمَنَ لِتَعَدِّيهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ
يُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ " لَا يُضْمَنُ " ؛ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ
وَعَادَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بَقَاؤُهَا
وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ ، لِهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ
فِي إنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ مَعَ احْتِمَالِ التَّضَرُّرِ بِالْوَاقِعِ فِيهِ
لِنُدْرَةِ ذَلِكَ وَقِلَّتِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ سُلُوكُ بَرٍّ أَوْ
بَحْرٍ مَعَ احْتِمَالِ التَّضَرُّرِ وَلَا يُعَدُّ مُفْرِطًا .
وَفِي
مُسْلِمِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَسْقَى فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَلَا نَسْقِيكَ نَبِيذًا فَقَالَ بَلَى فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى
فَجَاءَ بِقَدَحِ نَبِيذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا
قَالَ فَشَرِبَ } وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ، وَذَكَرَ
ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ .
ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ نُزُولِ الْوَبَاءِ فِيهِ قَالَ : فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ الْوَبَاءُ وَلَا نَعْلَمُ هَلْ يَخْتَصُّ
الشُّرْبُ
أَوْ يَعُمُّ الِاسْتِعْمَالُ وَالشُّرْبُ فَكَانَ تَجَنُّبُهُ أَوْلَى
فَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِهِ أَوْ
تَحْرِيمِهِ .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا يَصْطَلِي
أَوْ يَطْبُخُ أَوْ تَرَكَ سِرَاجًا وَنَامَ فَوَقَعَ حَرِيقٌ أَتْلَفَ
نَاسًا وَأَمْوَالًا لَمْ يَضْمَنْ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { النَّارُ جُبَارٌ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَزَادَ { الْبِئْرُ جُبَارٌ } .
قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ فَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَا تَلِفَ بِالنَّارِ هَذِهِ إلَّا نَارٌ
اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَضْمِينِ طَارِحِهَا ، فَإِنْ تَعَمَّدَ
طَرْحَهَا لِلْإِتْلَافِ فَتَعَمُّدٌ ، وَإِلَّا فَلَا فَقَاتِلٌ خَطَأً ،
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إذَا اقْتَنَى طَيْرًا فَأَرْسَلَهُ
نَهَارًا فَلَقَطَ حَبًّا لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّ الْعَادَةَ إرْسَالُهُ
وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ كَرَاسِينَ فِي اقْتِنَاءِ الْحَيَوَانِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الضَّمَانُ هُنَا
فَقَالَ مَنْ أَطْلَقَ كَلْبًا عَقُورًا أَوْ دَابَّةً رَفُوسًا أَوْ
عَضُوضًا فَأَتْلَفَ شَيْئًا ضَمِنَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ
طَائِرٌ جَارِحٌ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي فَأَفْسَدَ طُيُورَ النَّاسِ
وَحَيَوَانَاتِهِمْ ضَمِنَ .
وَيُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَرِيقِ دُعَاءُ
الْكَرْبِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُهُ إذَا
جَذَبَهُ أَمْرٌ { يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ }
وَدَعْوَةُ ذِي النُّونِ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي
كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ
وَالتَّكْبِيرُ يُطْفِئُ الْحَرِيقَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى
وَجَمَاعَةٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ،
وَطَبْعُهَا طَيْشٌ وَفَسَادٌ وَكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ لَا يَقُومُ لَهَا
شَيْءٌ ، فَالتَّكْبِيرُ يَهْرُبُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَيَقْمَعُهُ
وَفِعْلَهُ فَكَذَا النَّارُ وَهَذَا مُجَرِّبٌ شَاهِدٌ وَمَا سَبَقَ مِنْ
قَوْلِهِ { خَمِّرْ إنَاءَكَ ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ شَيْئًا }
ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ
وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْد عَدَمِ مَا يُخَمِّرهُ بِهِ لِرِوَايَةِ
مُسْلِم السَّابِقَةِ { فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا أَنْ
يَعْرُضَ عَلَى إنَائِهِ عُودًا } .
وَحِكْمَةُ وَضْعِ الْعُودِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِيَعْتَادَ تَخْمِيرَهُ وَلَا يَنْسَاهُ وَرُبَّمَا
كَانَ سَبَبًا لِمَنْعِ دَبِيبٍ بِحِيَالِهِ أَوْ بِمُرُورِهِ عَلَيْهِ
وَسِيَاقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ
ذَلِكَ يَخُصُّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالْمُرَادُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا
بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُرَادُ أَيْضًا إنْ خِيفَ مِنْ بَقَائِهَا ،
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى إنَّ النَّارَ
يُسْتَحَبُّ إطْفَاؤُهَا عِنْدَ النَّوْمِ ؛ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ غَيْرُ
مَزْمُومٍ بِزِمَامٍ لَا يُؤْمَنُ لَهَبُهَا فِي حَالَةِ نَوْمِ
الْإِنْسَانِ ، قَالَ فَأَمَّا إنْ جَعَلَ الْمِصْبَاحَ فِي شَيْءٍ
مُعَلَّقٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَا يُمَكِّنُ الْفَوَاسِقَ وَالْهَوَامَّ
التَّسَلُّقَ إلَيْهِ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ
لَيْسَ مُخَمَّرًا فَقَالَ { أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ
عَلَيْهِ عُودًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ قَالَ أَبُو
حُمَيْدٍ إنَّمَا أُمِرْنَا بِالْأَسْقِيَةِ أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا
وَبِالْأَبْوَابِ
.
أَنْ تُغْلَقَ لَيْلًا ، وَالصَّحَابِيُّ
أَعْلَمُ بِمَا رَوَى ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو زَكَرِيَّا
النَّوَوِيُّ وَادَّعَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حُمَيْدٍ خِلَافُ الظَّاهِرِ
فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، كَذَا قَالَ لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ جَابِرٍ " فَإِنَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا " وَاللَّفْظُ
السَّابِقُ " فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً " فَيُعْمَلُ بِهِمَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ لَا بِالْبَاءِ عِنْدَ
الْأَكْثَرِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِوَادِي الْعَقِيقِ الَّذِي حَمَاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ
الْأَصْحَابُ : وَيُرْخِي السِّتْرَ وَيَنْظُرُ فِي وَصِيَّتِهِ
وَيَنْفُضُ فِرَاشَهُ وَيَنَامُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَيُمْنَاهُ
تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، كَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلُ وَجْهَهُ نَحْو الْقِبْلَةِ
وَيَقُولُ مَا وَرَدَ وَقَدْ سَبَقَ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي
الْمَسَائِلِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَحْمَدُ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ
الْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا وَتَنَامُ تَكْرَهُ ذَلِكَ ؟
قَالَ إي وَاَللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ مُهَنَّا فَإِذَا مَاتَتْ فَكَيْفَ
تَصْنَعُونَ فِي غُسْلِهَا قَالَ إنَّمَا كُرِهَ أَنْ تَنَامَ عَلَى
قَفَاهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَوْتِ قَالَ جَعْفَرُ
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا
يَنَامَ حَتَّى يَقْرَأَ { الم تَنْزِيلُ } السَّجْدَةَ وَ { تَبَارَكَ }
قَالَ يُسْتَحَبُّ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْخَلَّالُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ
حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثٍ .
وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْن
الشِّخِّيرِ عَنْ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ رَجُلٍ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ
فَيَقْرَأُ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ
مَلَكًا يَحْفَظُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهِبَّ مَتَى
هَبَّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ وَقَالَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ وَقَدْ
اُشْتُهِرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَيَقُومُ أَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَيَدْعُو ، فَيَسْتَرِيحُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ النَّوْمِ وَالرِّيَاضَةِ وَالصَّلَاةِ مَعَ حُصُولِ الْأَجْرِ الْوَافِرِ ، فَالنَّوْمُ الْمُعْتَدِلُ مُمْكِنٌ لِتَقْوَى الطَّبِيعَةُ مِنْ أَفْعَالِهَا ، مُرِيحٌ لِلْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا ، وَيَنَامُ عَلَى صِفَةِ مَا سَبَقَ ، وَلَا يُبَاشِرُ بِجَنْبِهِ الْأَرْضَ وَلَا يَتَّخِذُ الْفُرُشَ الْمُرْتَفِعَةَ .
قَالَ بَعْضُهُمْ النَّوْمُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ
يَتْبَعُهَا غَوْرُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالْقُوَى إلَى بَاطِنِ
الْبَدَنِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ ، وَالنَّوْمُ الطَّبِيعِيُّ إمْسَاكُ
الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا وَهِيَ قُوَى الْحِسِّ
وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ ، وَمَتَى أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْقُوَى عَنْ
تَحْرِيكِ الْبَدَنِ اسْتَرْخَى وَاجْتَمَعَتْ الرُّطُوبَاتُ
وَالْأَبْخِرَةُ الَّتِي كَانَتْ تَتَحَلَّلُ وَتَتَفَرَّقُ بِالْحَرَكَةِ
وَالْيَقَظَةِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْقُوَى
فَيَنْحَدِرُ وَيَسْتَرْخِي .
وَالنَّوْمُ غَيْرُ الطَّبِيعِيِّ
يَكُونُ لِعَرَضٍ أَوْ مَرَضٍ بِأَنْ تَسْتَوْلِيَ الرُّطُوبَاتُ عَلَى
الدِّمَاغِ اسْتِيلَاءً لَا تَقْدِرُ الْيَقَظَةُ عَلَى تَفْرِيقِهَا أَوْ
تَصْمُدُ أَبْخِرَةٌ كَثِيرَةٌ رَطْبَةٌ كَمَا يَكُونُ عَقِبَ
الِامْتِلَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، فَتُثْقِلُ الدِّمَاغَ
وَتُرْخِيهِ فَيَنْحَدِرُ وَيَقَعُ إمْسَاكُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ
عَنْ أَفْعَالِهَا فَيَكُونُ النَّوْمُ ، وَمِنْ فَائِدَتِهِ أَيْضًا
هَضْمُ الْغِذَاءِ وَنَضْجُ الْأَخْلَاطِ لِغَوْرِ الْحَرَارَةِ
الْغَرِيزِيَّةِ إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ
وَيَحْتَاجُ إلَى غِطَاءٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يَنَامُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَ
فِي النَّوْمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيُعَلَّقُ
حِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَغْرِقُ ، وَإِذَا نَامَ عَلَى الْيَسَارِ
اسْتَرَاحَ وَاسْتَغْرَقَ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ
يُحِيطُ بِالْمَعِدَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ الْكَبِدُ وَمِنْ
الْأَيْسَرِ الطِّحَالُ ، وَأَنَّ الْمَعِدَةَ أَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ
الْأَيْسَرِ قَلِيلًا ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ يَعْتَمِدُ فِي
قَضَاءِ حَاجَتِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ
لِخُرُوجِ الْخَارِجِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْفَعُ النَّوْمِ عَلَى
الشِّقِّ الْأَيْمَنِ لِيَسْتَقِرَّ الطَّعَامُ فِي الْمَعِدَةِ لِمَيْلِ
الْمَعِدَةِ إلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَى الشِّقِّ
الْأَيْسَرِ قَلِيلًا يُسْرِعُ الْهَضْمُ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِ الْكَبِدِ
عَلَى
الْمَعِدَةِ ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ نَوْمُهُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ
لِيَكُونَ الْغِذَاءُ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ .
وَكَثْرَةُ
النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ مُضِرٌّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ
مَيْلِ الْأَعْضَاءِ إلَيْهِ فَتُصَبُّ إلَيْهِ الْمَوَادُّ ، وَالنَّوْمُ
عَلَى الْقَفَا رَدِيءٌ يَضُرُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ بِالْبَصَرِ
وَبِالْمَنِيِّ وَإِنْ اسْتَلْقَى لِلرَّاحَةِ بِلَا نَوْمٍ لَمْ يَضُرَّ .
وَأَرْدَأُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ .
وَسِيقَتْ
الْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا كَثْرَةٌ
فَيَحْرُمُ ذَلِكَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : يُكْرَهُ لِلْكَلَامِ
فِيهَا .
قَالَ أَبُقْرَاطُ : نَوْمُ الْمَرِيضِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ
غَيْرِ عَادَةٍ فِي صِحَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَاطِ عَقْلٍ أَوْ عَلَى
أَلَمٍ فِي نَوَاحِي الْبَطْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ
الْعَادَةَ إلَى هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ بِلَا سَبَبٍ ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ
نَوْمِ النَّهَارِ قَبْلَ آدَابِ الْأَكْلِ بَعْدَ فُصُولِ الطِّبِّ .
وَقَالَ
مُهَنَّا قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ
يَنَامُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمُحَجَّرٍ قَالَ مَكْرُوهٌ ، وَيُجْزِئُهُ
الذِّرَاعُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ
حَدِيثِ وَعْلَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَثَّابٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا { مَنْ
بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ بِهِ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ
الذِّمَّةُ } وَعْلَةُ تَفَرَّدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ جَابِرِ الْحَنَفِيِّ
وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَالَ فِي
النِّهَايَةِ الْحِجَارُ جَمْعُ حُجْرٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحَائِطُ
أَوْ مِنْ الْحُجْرَةِ وَهِيَ حَظِيرَةُ الْإِبِلِ وَحُجْرَةُ الدَّارِ
أَيْ : أَنَّهُ يَحْجُرُ الْإِنْسَانَ النَّائِمَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ
الْوُقُوعِ ، وَيُرْوَى حِجَابٌ بِالْبَاءِ وَهُوَ كُلُّ مَانِعٍ مِنْ
السُّقُوطِ وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ حِجَا
وَقَالَ وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا
مَعْنَى السِّتْرِ فَمَنْ قَالَ بِالْكَسْرِ شَبَّهَ السِّتْرَ عَلَى
السَّطْحِ الْمَانِعِ مِنْ السُّقُوطِ بِالْعَقْلِ الْمَانِعِ مِنْ
التَّعَرُّضِ فِي الْهَلَاكِ .
وَمَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى النَّاحِيَةِ وَالطَّرَفِ وَأَحْجَاءُ الشَّيْءِ نَوَاحِيهِ وَاحِدُهَا حَجَا .
قَالَ
فِي النِّهَايَةِ إنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ اللَّهِ عَهْدًا بِالْحِفْظِ
وَالْكَلَاءَةِ فَإِذَا أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ فَعَلَ
مَا حَرُمَ عَلَيْهِ أَوْ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ خَذَلَتْهُ ذِمَّةُ
اللَّهِ .
وَسَبَقَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ
النَّوْمَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمُحَجَّرٍ وَلِلْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ خِلَافٌ فِي كَرَاهَتِهِ الْمُطْلَقَةِ هَلْ هِيَ لِلتَّحْرِيمِ
أَوْ لِلتَّنْزِيهِ ، وَقَدْ يُقَالُ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ ؛
لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا السَّلَامَةُ وَمَا غَلَبَتْ السَّلَامَةُ
فِيهِ لَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَكَوْنُ النَّهْي عَنْهُ لِلْأَدَبِ
وَاحْتِمَالِ الْأَذَى ، وَيَتَوَجَّهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ
ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَعَادَاتِهِمْ ،
وَصِغَرِ
الْأَسْطِحَةِ ، وَوُسْعِهَا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى وَعَمَلًا بِهِ ،
وَقَدْ يُحْتَجُّ لِلتَّحْرِيمِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ بِإِسْنَادِ ثِقَاتٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَزَوْنَا نَحْوَ فَارِسٍ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاتَ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ إجَّارٌ
فَوَقَعَ فَمَاتَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَمَنْ رَكِبَ
الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ } .
وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْخَبَرَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ فِي
تَرْجَمَةِ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ
رَكُوبَ الْبَحْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ قَرَنَ
الشَّارِعُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ
فَاعِلِهِمَا ، وَفِي رَكُوبِ الْبَحْرِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ كَلَامٌ فِي
الْفِقْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ فَلْيُطْلَبْ هُنَاكَ وَقَدْ
سَبَقَ كَلَامُ ابْنِ هُبَيْرَةَ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ .
فَصْلٌ ( فِي آدَابِ الْمَشْيِ مَعَ النَّاسِ وَآدَابِ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ) .
قَالَ
ابْنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ مَشَى مَعَ إنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ
أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ
الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَا سَوَاءً اُسْتُحِبَّ أَنْ
يُخَلِّي لَهُ عَنْ يَسَارِهِ حَتَّى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ جِهَةَ
الْبُصَاقِ وَالِامْتِخَاطِ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِحْبَابُ مَشْيِ
الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ مَشَوْا عَنْ جَانِبَيْهِ فَلَا
بَأْسَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ .
وَفِي مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِ
كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ
وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشَيَا عَنْ جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَشْيِ الْجَمَاعَةِ
مَعَ فَاضِلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ .
وَقَالَ
الْقَاضِي إذَا مَشَيْتَ مَعَ مَنْ تُعَظِّمُهُ أَيْنَ تَمْشِي مِنْهُ
قَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ عَنْ يَمِينِهِ تُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ
فِي الصَّلَاةِ وَتُخَلِّي لَهُ الْجَانِبَ الْأَيْسَرَ إذَا أَرَادَ أَنْ
يَسْتَنْثِرَ أَوْ يُزِيلَ أَذًى جَعَلَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي
الْمَنْزِلَةِ يَجْعَلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَمْشِي عَنْ يَسَارِهِ ،
وَقَدْ قِيلَ الْمُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ عَنْ الْيَمِينِ فِي الْجُمْلَةِ
لِيُخَلِّيَ الْيَسَارَ لِلْبُصَاقِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَحَكَى
عَنْ الْخَلَّالِ أَنَّهُ حَكَى فِي الْأَدَبِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّابِعَ يَمْشِي عَنْ يَمِينِ
الْمَتْبُوعِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ ( بَابٌ فِي
الْأَدَبِ ) قَالَ رَأَيْتُ أَحْمَدَ جَاءَهُ ابْنٌ لِمُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ فَأَرَادَ أَحْمَدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَالَ
لِابْنِ مُصْعَبٍ تَقَدَّمْ ، فَأَبَى وَحَلَفَ ابْنُ مُصْعَبٍ
فَتَقَدَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَشْيِ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكَبِيرَ إذَا رَاعَى الصَّغِيرَ ، وَتَأَدَّبَ مَعَهُ
يَحْسُنُ
ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَنَّ الصَّغِيرَ إنْ شَاءَ قَبِلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ
امْتِثَالٌ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ الْأَدَبِ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ أَرْسَلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا
عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ ، فَقَالَ عُمَرُ ، أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ
فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لَيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ
إلَيْهِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ
؟ وَفِي لَفْظٍ { مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ
الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ فَلَوْ أَمَرْت غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ
قَالَ : وَاَللَّه مَا بِي إلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ
بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا
فَقَالَ : لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ
يُوسُفَ } .
وَفِي لَفْظٍ { فَلَوْ أَمَرْت عُمَرَ فَقَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ .
فَقَالَتْ لَهُ .
فَقَالَ
: إنَّكُنَّ لِأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ فَجَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَشَارَ إلَيْهِ
أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى
اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ : مَا
مَنَعَك أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ
لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَفِي
ذَلِكَ فَوَائِدٌ جَلِيلَةٌ مِنْهَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ
الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ، فِيهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ
الْفَاضِلُ مَرْتَبَةً لَا يَقْبَلُهَا بَلْ يَدْعُهَا لِلْفَاضِلِ إذَا
لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ .
وَقَالَ عَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي فِيهِ أَنَّ
التَّابِعَ إذَا أَمَرَهُ الْمَتْبُوعُ بِشَيْءِ وَفَهِمَ مِنْهُ
إكْرَامَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا يَتَحَتَّمُ الْفِعْلُ وَلَهُ أَنْ
يَتْرُكَهُ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ
أَدَبًا وَتَوَاضُعًا وَتَحَذُّقًا فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ .
وَفِيهِ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ مَعَ الْكِبَارِ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ فِي تَقْدِمَةِ الصَّغِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْكَبِيرِ فِي
الْمَشْي : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ :
رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ عَمِّهِ فَرُبَّمَا
تَقَدَّمَ فَيَكُونُ أَمَامَهُ .
أَخْبَرنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ
أَبِي : مَا كَانَ أَعْقَلَ بِشْرَ بْنِ الْمُفَضَّلِ ؟ كَانَ بِشْرٌ
أَسَنَّ مِنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ بِشْرُ لَا يَخْرُجُ مِنْ
الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مُعَاذٌ ، إكْرَامًا مِنْهُ لِمُعَاذٍ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَمَعَهُ مَنْ
هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ قَدَّمَ الْأَكْبَرَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَمَرَنِي .
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ أُكْبِرَ } وَقَالَ : { قَدِّمُوا الْكَبِيرَ } .
وَقَالَ
مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ : كُنْت أَمْشِي مَعَ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ
فَصِرْنَا إلَى مَضِيقٍ فَتَقَدَّمَنِي ثُمَّ قَالَ : لَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ أَنَّكَ أَكْبَرُ مِنِّي بِيَوْمٍ مَا تَقَدَّمْتُكَ وَرَأَى
إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الشَّبَابَ قَدْ تَقَدَّمُوا عَلَى الْمَشَايِخِ
فَقَالَ مَا أَسْوَأ أَدَبَكُمْ لَا أُحَدِّثُكُمْ سَنَةً .
فَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ أَعْلَمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى .
ثُمَّ
رُوِيَ بِإِسْنَادٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ : كُنْت مَعَ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يَوْمًا نَعُودُ
مَرِيضًا فَلَمَّا
حَاذَيْنَا الْبَابَ تَأَخَّرَ إِسْحَاقُ وَقَالَ
لِيَحْيَى تَقَدَّمْ أَنْتَ قَالَ يَا أَبَا زَكَرِيَّا أَنْتَ أَكْبَرُ
مِنِّي قَالَ نَعَمْ أَنَا أَكْبَرُ مِنْك ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ
فَتَقَدَّمَ إِسْحَاقُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ .
وَهُوَ
يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَهُ التَّقْدِيمُ يَتَقَدَّمُ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ
وَإِنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ مِنْهُ ، وَإِنَّ الْأَعْلَمَ يُقَدَّمُ
مُطْلَقًا وَلَا اعْتِبَارَ مَعَهُ إلَى سِنٍّ وَلَا صَلَاحٍ وَلَا شَيْءٍ
، وَإِنَّ الْأَسَنَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَدْيَنِ وَالْأَوْرَعِ كَمَا
هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ فِي الْوَلِيَّيْنِ فِي
النِّكَاحِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ ، وَقَطَعَ فِي
الرِّعَايَةِ فِي النِّكَاحِ بِتَقْدِيمِ الْأَدْيَنِ وَالْأَوْرَعِ عَلَى
الْأَسَنِّ ، وَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْعِلْمِ
وَالسِّنِّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ بِدِينٍ
أَوْ وَرَعٍ أَوْ نَسَبٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيمِ الْأَدْيَنِ ثُمَّ الْأَعْلَمِ الطَّرِيقَةُ
الْحَسَنَةُ وَالسِّيرَةُ الْجَمِيلَةُ ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ
يُقَدَّمُ بَعْدَ الْأَعْلَمِ مَنْ يُقَدَّمُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ
عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ
عَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَنْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا
وَلَا تُعَالِمُوهَا أَوْ تُعَلِّمُوهَا } شَكُّ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ
مُرْسَلٌ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِهِ الْخِلَافَةُ
وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { وَالنَّاسُ
تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ
لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } وَذَكَرَ
الْبَيْهَقِيّ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ شَوَاهِدَ مِنْ طُرُقٍ .
وَذَكَرَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ
مِنْ
أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ
لِعَالِمِنَا } وَسَبَقَ هَذَا الْخَبَرُ فِي فَصْلِ الْقِيَامِ .
وَرَوَى
ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ { كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَمْشُونَ أَمَامَهُ إذَا خَرَجَ وَيَدَعُونَ ظَهْرَهُ
لِلْمَلَائِكَةِ } إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَرُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ .
وَرَوَى
أَحْمَدُ خَبَرَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ أَظُنُّهُ عَنْ وَكِيعٍ وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : { مَا رُئِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا
يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ { مَرَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ
الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ
خَلْفَهُ فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ جَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ
أَمَامَهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي
الْجَوَابِ عَمَّا ادَّعَاهُ الرَّافِضِيُّ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَدَّبَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ : وَلِيُّ اللَّهِ قَدْ
يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ
فَيُكَفُّ بِالتَّعْزِيرِ وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ
بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالدِّرَّةِ لَمَّا رَأَى النَّاسَ
يَمْشُونَ خَلْفَهُ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟
فَقَالَ هَذَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ .
وَهَذَا
الْأَثَرُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
قَالَ : رَأَى عُمَرُ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ جَمَاعَةً فَعَلَاهُ
بِالدِّرَّةِ فَقَالَ : إنِّي أَعْلَمُ مَا تَصْنَعُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ
فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهَا فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ مَذَلَّةٌ
لِلتَّابِعِ وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ ثَنَا قَبِيصَةُ ثَنَا
حَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ ثَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إذَا
تَعَلَّمْتُمْ الْعِلْمَ فَاكْظِمُوا عَلَيْهِ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِضَحِكٍ
وَلَا بَاطِلٍ فَتَمُجُّهُ الْقُلُوبُ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَادَ قَالَ عَلِيٌّ أَخِّرُوا
عَنِّي خَفْقَ نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مَفْسَدَةٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ .
وَقِيلَ
لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي الْخِلَافِ فِي الْمَشْي أَمَامَ
الْجِنَازَةِ كَالشَّفِيعِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ هَذَا بِالشَّفِيعِ ؛
لِأَنَّ تَقَدُّمَ الشَّفِيعِ وَتَأَخُّرَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَيْسَ
بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَلَا كَذَلِكَ الْمَشْي ، أَمَامَ
الْجِنَازَةِ وَخَلْفَهَا لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ أَحَدَهُمَا
أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ : لَا نُسَلِّمُ هَذَا بَلْ التَّقْدِيمُ
بِالْخِطَابِ فِي الشُّفَعَاءِ ، وَإِظْهَارُ نَفْسِهِ وَالْمُبَالَغَةُ
فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ فِيهَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
قَالَ : وَالْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ مَعْنَاهُ مَقْصُودَةٌ فَإِنَّ
النَّاسَ يَمْشُونَ لِأَجْلِهَا وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَقْصُودًا
ثُمَّ يَتَأَخَّرُ عَنْ تَابِعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ إذَا
شَفَعُوا لِلرَّجُلِ تَقَدَّمُوا عَلَيْهِ ؟ وَكَذَلِكَ جُنْدُ
السُّلْطَانِ يَتَقَدَّمُونَهُ ، وَهُمْ تَبَعٌ ، وَسَبَقَ كَلَامُ
صَاحِبِ النَّظْمِ فِي فُصُولِ الْقِيَامِ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ قَالَ { : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عَرِيٍّ
فَعَقَلَهُ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ وَنَحْنُ
نَتَّبِعُهُ نَسْعَى خَلْفَهُ } .
وَيُقَالُ أَبُو الدَّحْدَاحِ أَيْضًا يَتَوَقَّصُ بِهِ يَتَوَثَّبُ بِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ .
وَنَحْنُ
نَمْشِي حَوْلَهُ فِيهِ جَوَازُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَبِيرِهِمْ
الرَّاكِبِ ، وَإِنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي حَقِّهِمْ وَلَا فِي
حَقِّهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَة ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ
إذَا حَصَلَ فِيهِ انْتِهَاكٌ لِلتَّابِعِينَ أَوْ خِيفَ إعْجَابٌ
وَنَحْوُهُ فِي حَقِّ الْمَتْبُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ .
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ
وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ دَاوُد الظَّاهِرِيَّ وَأَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ شُرَيْحٍ وَالْمُبَرِّدَ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد وَقَالَ : الْعِلْمُ قَدَّمَنِي ، وَتَأَخَّرَ ابْنُ شُرَيْحٍ وَقَالَ : الْأَدَبُ أَخَّرَنِي ، فَنَسَبَهُمَا الْمُبَرِّدُ إلَى الْخَطَإِ وَقَالَ : إذَا صَحَّتْ الْمَوَدَّةُ سَقَطَ التَّكَلُّفُ .
فَصْلٌ ( فِي
التِّجَارَةِ إلَى بِلَادِ الْأَعْدَاءِ وَمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ )
تُكْرَهُ التِّجَارَةُ وَالسَّفَرُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَبِلَادِ
الْكُفْرِ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَالْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ
وَالرَّوَافِضِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ عَجَزَ
عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِيهَا حَرُمَ سَفَرُهُ إلَيْهَا .
وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ :
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ حَمْلِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ
رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فَقَدْ يُقَالُ : إنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِينَ
لَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عِيدِهِمْ مِنْ
الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ ، وَنِحْوِ ذَلِكَ كَحَمْلِهَا إلَى أَرْضِ
الْحَرْبِ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى دِينِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِذَا
مَنَعْنَا مِنْهَا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُنَا أَوْلَى .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ وَأَنَّ الْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَذَكَرَ
عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ
مُهَادَاتُهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ ، أَمَّا
بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَجُوزُ ، وَالْمَسْأَلَةُ
مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابُ حَمْلِ
السِّلَاحِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ) ثَنَا مُسَدِّدٌ ثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ أَخْبَرَنِي أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ذِي الْجَوْشَنِ رَجُلٌ مِنْ
الضِّبَابِ قَالَ : { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ بِابْنِ فَرَسٍ لِي
يُقَالُ لَهُ الْقَرْحَا فَقُلْت يَا مُحَمَّدُ إنِّي جِئْتُكَ بِابْنِ
الْقَرْحَا ، لِتَتَّخِذَهُ قَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ ، وَإِنْ
شِئْتَ أَنْ أَقْضِيَكَ بِهِ الْمُخْتَارَةَ مِنْ دُرُوعِ بَدْرٍ فَعَلْتُ
.
قُلْت : مَا كُنْتُ أَقْبِضُهُ الْيَوْمَ بِغُرَّةٍ قَالَ : فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ } يُونُسُ قَوَّاهُ جَمَاعَةٌ .
وَرَوَى
لَهُ مُسْلِمٌ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
وَقَالَ : مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ وَفِيهِ أَنَّهُ سَمَّى الْفَرَسَ
غُرَّةً وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ ذِكْرُ الْغُرَّةِ .
( فَصْلٌ ) : قَالَ
إِسْحَاقُ
بْنُ إبْرَاهِيمَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَصَارَى وَقَفُوا
ضَيْعَةً لِلْبِيعَةِ أَيَسْتَأْجِرُهَا الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ قَالَ : لَا
يَأْخُذُهَا بِشَيْءٍ ، وَلَا يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ .
وَقَالَ
أَيْضًا : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ بَنَّاءٌ
أَبْنِي لِلْمَجُوسِ نَاوُوسًا قَالَ لَا تَبْنِ لَهُمْ ، وَلَا
تُعِنْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ مُحَمَّدٌ بْنُ
الْحَكَمِ وَسَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يَحْفِرُ لِأَهْلِ
الذِّمَّةِ قَبْرًا بِكِرَاءٍ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّاوُوسَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ
كَالْكَنِيسَةِ بِخِلَافِ الْقَبْرِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي
نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ وَلَا مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ قَالَهُ فِي
اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيم .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ
أَطْلَقَ الْمَنْعَ قَالَ : وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ
وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ
لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْمَنْعُ هُنَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ
نَفْسَ هَذَا الْمَالِ الَّذِي يَبْذُلُهُ يُصْرَفُ فِي الْمَعْصِيَةِ
فَهُوَ كَبَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا ، وَذَكَرَ
كَلَامًا كَثِيرًا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ
وَأَكْرَهَ لِلْمُسْلِمِ بِنَاءً أَوْ تِجَارَةً أَوْ غَيْرَهُ فِي
كَنَائِسِهِمْ الَّتِي لِصَلَاتِهِمْ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ
بَيْعِ الدَّارِ وَإِجَارَتِهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِلْكُفْرِ أَوْ
الْفِسْقِ ) قَالَ الْخَلَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَابُ الرَّجُلِ
يُؤَاجِرُ دَارِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ يَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ
الْمَرْوَزِيِّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ
بَاعَ دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ فَقَالَ نَصْرَانِيٌّ ؟ وَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ
وَقَالَ : لَا تُبَاعُ لِيُضْرَبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ وَيُنْصَبَ فِيهَا
الصُّلْبَانُ وَقَالَ : لَا تُبَاعُ مِنْ الْكُفَّارِ وَشَدَّدَ فِي
ذَلِكَ .
وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ
عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ دَارِهِ وَقَدْ جَاءَهُ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ
وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ تُرَى لَهُ أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْهُ
وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ ؟ قَالَ : لَا أَرَى
لَهُ ذَلِكَ يَبِيعُ دَارِهِ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا ،
يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إلَيَّ : وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُل يُكْرِي مَنْزِلَهُ
مِنْ الذِّمِّيِّ يَنْزِلُ فِيهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ
فِيهِ الْخَمْرَ وَيُشْرِكُ فِيهِ .
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ كَانَ لَا
يُكْرِي إلَّا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَقُولُ : نُرَغِّبُهُمْ قِيلَ لَهُ
كَأَنَّهُ أَرَادَ إدْلَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِهَذَا ؟ قَالَ لَا ،
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ ،
يَقُولُ : إذَا جِئْتُ أَطْلُبُ الْكِرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِ أَرَغْبَتُهُ
فَإِذَا كَانَ ذِمِّيًّا كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ ابْنِ عَوْنٍ فِيمَا رَأَيْتُ وَهَكَذَا نَقَلَ
الْأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَعَنْ
مُهَنَّا قَالَ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُكْرِي الْمَجُوسِيَّ
دَارِهِ أَوْ دُكَّانَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَزْنُونَ فَقَالَ :
كَانَ ابْنُ عَوْنٍ لَا يَرَى أَنْ يُكْرِيَ الْمُسْلِم يَقُولُ :
أُرَغِّبُهُمْ فِي أَخْذِ الْغَلَّةِ وَكَانَ يَرَى أَنْ يُكْرِيَ غَيْرَ
الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ الْخَلَّالُ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يُكْرِي دَارِهِ مِنْ
ذِمِّيٍّ
فَإِنَّمَا أَجَابَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عَوْنٍ
وَلَمْ يَنْفُذْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلٌ .
وَقَدْ حَكَى
عَنْهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّهُ رَآهُ مُعْجَبًا بِقَوْلِ ابْنِ عَوْنٍ
وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْلِمِ يَبِيعُ
دَارِهِ مِنْ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً
فَلَوْ نَفَذَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ فِي السُّكْنَى كَانَ
السُّكْنَى وَالْبَيْعُ عِنْدِي وَاحِدًا .
وَالْأَمْرُ فِي ظَاهِرِ
قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ
يَكْفُرُ فِيهَا بِنَصْبِ الصُّلْبَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ
عِنْدِي أَنْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ وَلَا يُكْرَى ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى
وَاحِدٌ قَالَ الْخَلَّالُ : قَدْ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ حَسَّانَ قَالَ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ حُصَيْنٍ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ رَوَى عَنْهُ حَفْصٌ لَا أَعْرِفُهُ قَالَ
لَهُ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا مِنْ النُّسَّاكِ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ
الْأَشَجُّ سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْمَرَ يَقُولُ حَفْصٌ هَذَا
بَاعَ دَارَ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَابِدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ
مِنْ عَوْنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ حَفْصٌ قَالَ نَعَمْ ،
فَعَجِبَ أَحْمَدُ يَعْنِي مِنْ حَفْصٍ بْنِ غِيَاثٍ .
قَالَ
الْخَلَّالُ وَهَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا
كَانَ يُكْرَهُ بَيْعُهَا مِنْ فَاسِقٍ فَكَذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ وَإِنَّ
الذِّمِّيَّ يُقِرُّ وَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُقِرُّ لَكِنْ مَا
يَفْعَلُهُ الذِّمِّيُّ فِيهَا أَعْظَمُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ عَوْنٌ
هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالْعَمَلِ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْقَاضِي لَا
فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ عِنْدَهُ فَإِذَا أَجَازَ
الْبَيْعَ أَجَازَ الْإِجَارَةَ وَإِذَا مَنَعَ الْإِجَارَةَ وَوَافَقَهُ
الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
مَنْصُورٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ يَعْنِي
الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِنِظَارَةِ كَرْمِ
النَّصْرَانِيِّ فَكَرِهَ ذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ
مَا أَحْسَنَ مَا
قَالَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ
يَعْلَمَ أَنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ قَالَ
الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى كَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَبِيعَ
دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ يَكْفُرُ فِيهَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
وَيَسْتَبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ
مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا ، وَأَمَّا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ .
وَالْقَاضِي
فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ
الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ
دَارِهِ أَوْ بَيْتَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةً
أَوْ يَبِيعُ فِيهِ لِلْخَمْرِ سَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ
الْخَمْرَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ
الْخَمْرَ ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْ
كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ
إلَيَّ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي نَصَارَى وَقَفُوا ضَيْعَةً لَهُمْ
لِلْبِيعَةِ : لَا يَسْتَأْجِرُهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ
يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ قَالَ : وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
فَقَدْ حَرَّمَ الْقَاضِي إجَارَتَهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ
فِيهَا الْخَمْرَ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِكَافِرٍ وَلَا يَسْتَكْرِي وَقْفَ الْكَنِيسَةِ
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ عِنْدَهُ فِي هَاتَيْنِ
الصُّورَتَيْنِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ قَالَ : قَالَ الْقَاضِي فِي أَثْنَاءِ
الْمَسْأَلَةِ : فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ أَجَازَ أَحْمَدُ إجَارَتَهَا
مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
فِيهَا قِيلَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَكَى قَوْلَ ابْنِ
عَوْنٍ وَعَجِبَ مِنْهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِي لَا يُجَوِّزُ
إجَارَتَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ
وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ جَوَازُ ذَلِكَ فَإِنَّ إعْجَابَهُ
بِالْفِعْلِ دَلِيلُ جَوَازِهِ عِنْدَهُ وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْجَوَابِ
بِفِعْلِ رَجُلٍ
يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالْفَرْقُ
بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ مَا فِي الْإِجَارَةِ مِنْ
مَفْسَدَةِ الْأَمَانَةِ فَقَدْ عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى وَهُوَ
مَصْرِفُ إرْغَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْ الْمُسْلِمِ
وَأَنْزَلَ ذَلِكَ بِالْكُفَّارِ ، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ
إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا لِكَافِرٍ
لَكِنْ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَازَ ، وَلِذَلِكَ جَازَتْ
مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ .
فَأَمَّا الْبَيْعُ
فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ فَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ ،
وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ مَلَكُوا
دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا وَهَدْمُهَا وَهُوَ
يَقْتَضِي عَدَمَ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَإِبْطَالِهِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا
هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْقِدْ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ
الْمُحَرَّمَةِ ، فَأَمَّا إنْ آجَرَهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ
يَجُزْ ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا لَا
يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَمَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ لِلْفُجُورِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( الِاتِّسَاعُ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ
وَالْمَبَانِي مَشْرُوعٌ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّرَفُّهِ وَالْجَاهِ ) (
وَالْكَسْبُ وَاجِبٌ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ ) .
يُسَنُّ
التَّكَسُّبُ وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ حَتَّى مَعَ الْكِفَايَةِ نَصَّ
عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ أَيْضًا فِيهَا يُبَاحُ كَسْبُ
الْحَلَالِ لِزِيَادَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ
وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ
وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ .
وَقَالَ ابْنُ
حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاتِّسَاعَ فِي الْمَكَاسِبِ
وَالْمَبَانِي مِنْ حِلٍّ إذَا أَدَّى جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ قِبَلَهُ
مُبَاحٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْ كَارِهٍ وَغَيْرِ كَارِهٍ وَقَالَ
مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ مَنْ اشْتَرَى وَبَاعَ ، وَلَوْ بِرَأْسِ الْمَالِ
بُورِكَ فِيهِ كَمَا يُبَارَكُ فِي الزَّرْعِ بِمَاءِ الْمَطَرِ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ لَا قُوتَ لَهُ ، وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ وَيُقَدِّمُ الْكَسْبَ لِعِيَالِهِ عَلَى كُلِّ نَفْلٍ وَقَدْ
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ } كَذَا فِي
الرِّعَايَةِ وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي مُسْلِمٍ
مَعْنَاهُ وَلَهُ التَّكَسُّبُ لِحَاجَةٍ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَوْ لَهُمْ .
وَتُسَنُّ
الصَّدَقَةُ بِمَا فَضَلَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ ،
وَيُكْرَهُ تَرْكُ التَّكَسُّبِ مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى النَّاسِ نَصَّ
عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَيَجِبُ التَّكَسُّبُ وَلَوْ بِإِيجَارِ نَفْسِهِ
لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ وَنَذْرٍ وَطَاعَةٍ وَكَفَّارَةٍ
وَمُؤْنَةٍ تَلْزَمُهُ ذَكَرَهُ كُلَّهُ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ
بِمَعْنَاهُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : إذَا الْمَرْءُ
لَمْ يَطْلُبْ مَعَاشًا لِنَفْسِهِ شَكَا الْفَقْرَ أَوْ لَامَ الصَّدِيقَ
فَأَكْثَرَا وَصَارَ عَلَى الْأَدْنَيْنِ كَلًّا وَأَوْشَكَتْ صِلَاتُ
ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ أَنْ تَنَكَّرَا وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ
كَلَامِهِ مَا مَعْنَاهُ أَقْسِمُ بِاَللَّهِ لَوْ عَبَسَ الزَّمَانُ فِي
وَجْهِكَ مَرَّةً لَعَبَسَ فِي
وَجْهِكَ أَهْلُكَ وَجِيرَانُكَ ، ثُمَّ حَثَّ عَلَى الْإِمْسَاكِ .
وَسَبَقَ
فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَطَلَبِ
الْعِلْمِ كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ
مَا يُوَافِقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ شِعْرٍ
لِعَمَّارٍ الْكَلْبِيِّ : وَالْفَقْرُ يُزْرِي بِأَقْوَامٍ ذَوِي حَسَبٍ
وَرُبَّمَا سَادَ نَذْلُ الْقَوْمِ بِالْمَالِ أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي
لَا أُدَنِّسُهُ لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ
وَقَالَ آخَر : إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ قَلَّ صَفَاؤُهُ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِ أَرْضُهُ وَسَمَاؤُهُ وَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ
حَازِمًا أَقُدَّامُهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ إذَا قَلَّ مَالُ
الْمَرْءِ لَمْ يَرْضَ عَقْلَهُ بَنُوهُ وَلَمْ يَغْضَبْ لَهُ
أَوْلِيَاؤُهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُفْقَدْ وَلَمْ يَحْزَنُوا لَهُ وَإِنْ
عَاشَ لَمْ يَسْرُرْ صَدِيقًا بَقَاؤُهُ وَقَالَ آخَر : الْفَقْرُ يُزْرِي
بِأَقْوَامٍ ذَوِي حَسَبٍ وَقَدْ يُسَوِّدُ غَيْرَ السَّيِّدِ الْمَالُ
وَقَالَ آخَر : أَرَى دَهْرَنَا فِيهِ عَجَائِبُ جَمَّةٌ إذَا
اُسْتُعْرِضَتْ بِالْعَقْلِ ضَلَّ بِهَا الْعَقْلُ أَرَى كُلَّ ذِي مَالٍ
يَسُودُ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ لَا أَصْلٌ هُنَاكَ وَلَا فَضْلُ
فَشَرِّفْ ذَوِي الْأَمْوَالِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ فَقَوْلُهُمْ قَوْلٌ
وَفِعْلُهُمْ فِعْلُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَالنَّاسُ حَيْثُ
يَكُونُ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { أَنَّ
النَّبِيَّ قَالَ لَهُ يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ
الرَّجُلِ الصَّالِحِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِهَذَا وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَذَمِّهَا قَبْلَ فَصْلِ آدَابِ
الْمُصَافَحَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ
لِبَنِيهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَا بَنِيَّ عَلَيْكُمْ بِالْمَالِ
وَاصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ الْكَرِيمَ ، وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ
اللَّئِيمِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَالْكَسْبُ قَدْ يُفْتَرَضُ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ إذَا لَمْ
تُوجَدْ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّوَكُّل ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ
حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَهُوَ أَنْ لَا
تَسْتَشْرِفَ نَفْسُهُ إلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَيْهِ الْكَسْبُ لِنَفْسِهِ .
وَيَأْتِي
فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ قَالَ وَالْكَسْبُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ
التَّكَاثُرُ ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى طَاعَةِ
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ أَوْ يَسْتَعِفُّ عَنْ وُجُوهِ
النَّاسِ فَهُوَ أَفْضَلُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ
وَمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ التَّفَرُّغِ إلَى طَلَبِ
الْعِبَادَةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَتَعَلُّمِ
الْعِلْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ ، وَخَيْرُ النَّاسِ
أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلَنَا خِلَافٌ هَلْ مَا
تَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ أَفْضَلُ لَهُ أَمْ
الصَّلَاةُ وَنَحْوهَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَخْرُجُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ ،
وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ } إسْنَادُهُ
ضَعِيفٌ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا .
وَرَوَى
الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الرَّقِّيُّ ثَنَا قَبِيصَةُ
أَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنْ
الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ جَاءَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ هـ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ،
وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَطْلَقَ أَصْحَابُنَا إبَاحَةَ التِّجَارَةِ
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مُكَاثِرٍ وَأَنَّهُ يُكْرَهُ ، وَحَرَّمَ
أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا الْمُكَاثَرَةَ بِذَلِكَ
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَيَأْتِي كَلَام ابْنِ حَزْمٍ فِي
آدَابِ الْمَسَاجِدِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي الْفِقْهِ فِي الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ وَسَبَقَ كَلَامُ
ابْنِ حَزْمٍ أَيْضًا أَوَّلَ الْفَصْلِ وَيَجِبُ النُّصْحُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَكَذَا فِي غَيْرِهَا وَتَرْكُ الْغِشِّ قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَا أَكْتَسِبُ حَتَّى تَصِحَّ لِي النِّيَّةُ وَلَهُ عِيَالٌ قَالَ إذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِفَّهُمْ فَمِنْ النِّيَّةِ صِيَانَتُهُمْ .
فَصْلٌ ( فِي فَضْلِ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ عَلَى تَرْكِهِ تَوَكُّلًا وَتَعَبُّدًا ) .
سَأَلَ
رَجُلٌ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : أَرْبَعَةُ
دَرَاهِمَ دِرْهَمٌ مِنْ تِجَارَةٍ وَدِرْهَمٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ
وَدِرْهَمٌ مِنْ أَجْرِ التَّعْلِيمِ وَدِرْهَمٌ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ ؟
فَقَالَ : أَحَبُّهُ إلَيَّ مِنْ تِجَارَةِ بَزِّهِ ، وَأَكْرَهُهَا
عِنْدِي الَّذِي مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ ، وَأَمَّا أَجْرُ التَّعْلِيمِ
فَإِنْ احْتَاجَ فَلْيَأْخُذْهُ ، وَأَمَّا غَلَّةُ بَغْدَادَ فَأَنْتَ
تَعْرِفُهَا فَأَيُّ شَيْءٍ تَسْأَلُنِي عَنْهَا وَقَالَ رَجُلٌ
لِأَحْمَدَ التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيْك أَمْ الْمَسْأَلَةُ قَالَ
التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ : سَمِعْت
رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ
الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ
الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ
أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ : إذَا وَثِقَ
بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء
أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } .
وَلَا
بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ
وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ .
وَتَرَكَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي
لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي ، لَا خَيْرَ
فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ
وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ
حُبِّكَ الدُّنْيَا أَنْ تَطْلُبَ فِيهَا مَا يُصْلِحُكَ وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ فُضُولُ الْكَلَامِ
وَفُضُولُ الْمَالِ .
وَقِيلَ
لِأَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ أَطْعَمَ عِيَالَهُ حَرَامًا يَكُون
ضَيْعَةً لَهُمْ قَالَ شَدِيدًا قَالَ الْمَرْوَزِيُّ وَقَدْ أَنْكَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمُتَوَكِّلِينَ فِي ذَلِكَ إنْكَارًا
شَدِيدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ
كُلِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنْ
يُعَوِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْكَسْبِ فَمَنْ قَالَ بِخِلَافِ هَذَا
الْقَوْلِ فَهَذَا قَوْلُ إنْسَانٍ أَحْمَقَ قَالَ وَسَمِعْت أَبِي
يَقُولُ : الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَمَلِ أَعْجَبُ
إلَيْنَا مِنْ الْجُلُوسِ وَانْتِظَارِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ .
وَقَالَ
صَالِحٌ سُئِلَ وَأَنَا شَاهِدٌ عَنْ قَوْمٍ لَا يَعْمَلُونَ ،
وَيَقُولُونَ نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ
كَانَ يَقُولُ : هُمْ مُبْتَدِعَةٌ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
هَؤُلَاءِ قَوْمُ سَوْءٍ يُرِيدُونَ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا .
وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا جَلَسَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَحْتَرِفْ
دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِذَا
شَغَلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ تَرَكَ الطَّمَعَ .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ صَدَقَ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ أَنْ يَتَوَكَّلَ
عَلَى اللَّهِ وَلَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ أَحَدٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ
يَطْمَعُ أَنْ يَجِيئَهُ بِشَيْءٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّهُ
يَرْزُقُهُ وَكَانَ مُتَوَكِّلًا .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْتُ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ التَّوَكُّلَ فَأَجَازَهُ لِمَنْ اسْتَعْمَلَ
فِيهِ الصِّدْقَ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ
عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ بْنِ نَشِيطٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ
لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ } رَوَاهُ
ابْن
مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى
أَيْضًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا {
لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ
لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ
بِطَانًا } .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا { مَنْ كَانَتْ
الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ
، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ
وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ }
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ مَرْفُوعًا { إنَّ لِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ بِكُلِّ وَادٍ شُعْبَةً
فَمَنْ أَتْبَعَ قَلْبَهُ الشُّعَبَ كُلَّهَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي
أَيِّ وَادٍ أَهْلَكَهُ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ الشُّعَبَ
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ الْعَطَّارِ
تَفَرَّدَ عَنْهُ الْكَوْسَجُ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ هَذَا
الْمَعْنَى بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَقَدْ
سَبَقَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي
كِتَابِ بَهْجَةِ الْمُجَالِسِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَا تُكْثِرْ
هَمَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَمَا يُقَدَّرُ يَكُونُ وَمَا تُرْزَقُ
يَأْتِيكَ } وَقَالَ غَيْرُهُ قَالَ الْأَطِبَّاءُ فِي تَدْبِيرِ
الْمَشَايِخِ وَلْيَحْذَرُوا الْهَمَّ فَإِنَّهُ يُصَيِّرُ الشَّبَابَ
شُيُوخًا فَمَا ظَنُّك بِالْمَشَايِخِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَيُرْوَى لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهَا
نَظَرٌ لَوْ أَنَّ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةٍ صَمًّا
مُلَمْلَمَةً مَلْسٌ نَوَاحِيهَا رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهُ اللَّهُ
لَانْفَلَقَتْ حَتَّى تُؤَدِّي إلَيْهِ كُلَّ مَا فِيهَا أَوْ كَانَ
تَحْتَ طِبَاقِ الْأَرْضِ مَطْلَبُهَا لَسَهَّلَ اللَّهُ فِي الْمَرْقَى
مَرَاقِيهَا حَتَّى تُؤَدِّي الَّذِي
فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهُ إنْ
هِيَ أَتَتْهُ وَإِلَّا سَوْفَ يَأْتِيهَا قَالَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ الرِّزْقُ بِالطَّلَبِ وَلَا الْعَطَايَا عَلَى
عَقْلٍ وَلَا أَدَبِ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ شَيْئًا أَنْتَ طَالِبُهُ
يَوْمًا وَجَدْتَ إلَيْهِ أَقْرَبَ السَّبَبِ وَإِنْ أَبَى اللَّهُ مَا
تَهْوَى فَلَا طَلَبٌ يُجْدِي عَلَيْك وَلَوْ حَاوَلْت مِنْ كَثَبِ وَقَدْ
أَقُولُ لِنَفْسِي وَهْيَ ضَيِّقَةٌ وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الدَّهْرُ
بِالْعَجَبِ صَبْرًا عَلَى ضِيقَةِ الْأَيَّامِ إنَّ لَهَا فَتْحًا وَمَا
الصَّبْرُ إلَّا عِنْدَ ذِي الْأَدَبِ سَيَفْتَحُ اللَّهُ أَبْوَابَ
الْعَطَاءِ بِمَا فِيهِ لِنَفْسِكَ رَاحَاتٌ مِنْ التَّعَبِ وَلَوْ
يَكُونُ كَلَامِي حِينَ أُنْشِدُهُ مِنْ اللُّجَيْنِ لَكَانَ الصَّمْتُ
مِنْ ذَهَبِ .
وَلِآخَرَ : إنِّي لَأَعْلَمُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ
أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي أَسْعَى إلَيْهِ
فَيُعْنِينِي تَطَلُّبُهُ وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لَا يُعَنِّينِي
وَقَالَ آخَرُ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ وَهُزِّي
إلَيْكِ الْجِذْعَ يَسْقُطْ لَكِ الرُّطَبُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ
مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ وَقَالَ
بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ : لِلنَّاسِ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ
فَسَدَتْ فَصَفْوُهَا لَك مَمْزُوجٌ بِتَكْدِيرِ فَمَنْ يُكِبُّ عَلَيْهَا
لَا تُسَاعِدُهُ وَعَاجِزٌ نَالَ دُنْيَاهُ بِتَقْصِيرِ لَمْ يُدْرِكُوهَا
بِعَقْلٍ عِنْدَمَا قُسِمَتْ وَإِنَّمَا أَدْرَكُوهَا بِالْمَقَادِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُدْرَةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ الْبُزَاةُ
بِأَرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ وَلِشُرَيْحِ بْنِ يُونُسِ الْمُحَدِّثُ يَا
طَالِبَ الرِّزْقِ يَسْعَى وَهْوَ مُجْتَهِدُ أَتْعَبْتَ نَفْسَك حَتَّى
شَفَّك التَّعَبُ تَسْعَى لِرِزْقٍ كَفَاك اللَّهُ مُؤْنَتَهُ أَقْصِرْ
فَرِزْقُك لَا يَأْتِي بِهِ الطَّلَبُ كَمْ مِنْ سَخِيفٍ ضَعِيفِ
الْعَقْلِ تَعْرِفُهُ لَهُ الْوِلَايَةُ وَالْأَرْزَاقُ وَالذَّهَبُ
وَمِنْ حَصِيفٍ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بَادِي الْخَصَاصَةِ لَمْ
يُعْرَفْ لَهُ نَسَبُ فَاسْتَرْزِقْ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ
فَاَللَّهُ يَرْزُقُ لَا عَقْلٌ وَلَا حَسَبُ وَقَالَ آخَر : كَمْ
مِنْ
قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَقَلُّبِهِ مُهَذَّبِ الرَّأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ
مُنْحَرِفُ وَمِنْ ضَعِيفٍ ضَعِيفِ الرَّأْيِ تُبْصِرُهُ كَأَنَّهُ مِنْ
خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ وَقَالَ آخَرُ يَا رَاكِبَ الْهَوْلِ
وَالْآفَاتِ وَالْهَلَكَهْ لَا تَعْجَلَنَّ فَلَيْسَ الرِّزْقُ
بِالْحَرَكَهْ مَنْ غَيْرُ رَبِّكَ فِي السَّبْعِ الْعُلَى مَلَكَ وَمَنْ
أَدَارَ عَلَى أَرْجَائِهَا فَلَكَهْ أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادَ
تَضْرِبُهُ أَمْوَاجُهُ وَنُجُومُ اللَّيْلِ مُشْتَبِكَهْ يَجُرُّ
أَذْيَالَهُ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ وَعَقْلُهُ بَيِّنٌ فِي كَلْكَلِ
الشَّبَكَهْ حَتَّى إذَا رَاحَ مَسْرُورًا بِهَا فَرِحًا وَالْحُوتُ قَدْ
شَكَّ مَنْقُودُ الرَّدَى حَنَكَهْ أَتَى إلَيْك بِرِزْقٍ مَا بِهِ تَعَبٌ
فَصِرْت تَمْلِكُ مِنْهُ مِثْلَ مَا مَلَكَهْ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ
يُعْطَى ذَا بِحِيلَتِهِ هَذَا يَصِيدُ وَهَذَا يَأْكُلُ السَّمَكَهْ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْحَلَالُ يَقْطُرُ قَطْرًا ،
وَالْحَرَامُ يَسِيلُ سَيْلًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا
مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ جَدُّك لَا كَدُّك .
وَقَالَ
أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : الْمَرْءُ يُحْمَدُ سَعْيُهُ مِنْ
جَدِّهِ حَتَّى يُزَيَّنَ بِاَلَّذِي لَمْ يَعْمَلْ وَتَرَى الشَّقِيَّ
إذَا تَكَامَلَ عَيْبُهُ يُرْمَى وَيُقْذَفُ بِاَلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ
وَقَالَ حَسَّانُ أَوْ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : وَإِنَّ امْرَأً
يُمْسِي وَيُصْبِحُ سَالِمًا مِنْ النَّاسِ إلَّا مَا جَنَى لَسَعِيدُ
وَإِنَّ الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّارِ بَعْدَمَا تَزَوَّدَ مِنْ
أَعْمَالِهَا لَسَعِيدُ وَلِصَالِحِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَلَيْسَ
رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ لَكِنْ جُدُودٌ بِأَرْزَاقٍ
وَأَقْسَامِ كَالصَّيْدِ يُحْرَمُهُ الرَّامِي الْمَجِيدُ وَقَدْ يَرْمِي
فَيُرْزَقُهُ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي طَلَبَ أَبُو الْأَسْوَد
الدُّؤَلِيُّ مَالًا مِنْ جَارٍ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ وَكَانَ حَسَنُ
الظَّنِّ بِهِ فَاعْتَلَّ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ
: فَلَا تَطْمَعَنَّ فِي مَالِ
جَارٍ لِقُرْبِهِ فَكُلُّ قَرِيبٍ
لَا يُنَالُ بَعِيدُ وَفَوِّضْ إلَى اللَّهِ الْأُمُورَ فَإِنَّمَا
تَرُوحُ بِأَرْزَاقٍ عَلَيْك جُدُودُ وَلَا تُشْعِرَنَّ النَّفْسَ يَأْسًا
فَإِنَّمَا يَعِيش بِجِدٍّ عَاجِزٌ وَبَلِيدُ .
وَأَنْشَدَ مُحَمَّدُ
بْنُ نَصْرٍ الْكَاتِبُ لِنَفْسِهِ : لَا تَشْرَهَنَّ إلَى دُنْيَا
تَمَلَّكَهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ بِلَا عَقْلٍ وَلَا أَدَبِ وَلَا تَقُلْ
إنَّنِي أَبْصَرْت مَا جَهِلُوا مِنْ الْإِدَارَةِ فِي مَرْأًى
وَمُنْقَلَبِ بِالْجَدِّ وَالْجِدِّ قَدْ نَالُوا الَّذِي مَلَكُوا لَا
بِالْعُقُولِ وَلَا بِالْعِلْمِ وَالْحَسَبِ وَأَيْسَرُ الْجَدِّ يُجْرِي
كُلَّ مُمْتَنِعٍ عَلَى التَّمَكُّنِ عِنْدَ الْبَغْيِ وَالطَّلَبِ وَإِنْ
تَأَمَّلْت أَحْوَالَ الَّذِينَ مَضَوْا رَأَيْت مِنْ ذَا وَهَذَا
أَعْجَبَ الْعَجَبِ وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَإِذَا
قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ }
وَقَدْ سَبَقَ بَعْدَ آدَابِ السَّفَرِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَافِرُوا
تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ
سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ أَوْ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ تَكُونَ
زَوْجَتُهُ صَالِحَةً ، وَأَوْلَادُهُ أَبْرَارًا وَإِخْوَانُهُ
صَالِحِينَ وَرِزْقُهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ وَفِي
التَّوْرَاةِ ابْنَ آدَمَ أُحْدِثْ سَفَرًا أُحْدِثْ لَك رِزْقًا .
وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَامَّةِ : الْبَرَكَاتُ مَعَ الْحَرَكَاتِ وَقَالُوا : رُبَّمَا أَسْفَرَ السَّفَرُ عَنْ الظَّفَرِ .
قَالَ
بَعْضُهُمْ : وَإِذَا الزَّمَانُ كَسَاك حُلَّةَ مُعْدَمٍ فَالْبَسْ لَهُ
حُلَلَ النَّوَى وَتَغَرَّبْ وَقَالَ آخَر : وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسِبْ
عَدُوًّا صَدِيقَهُ وَمَنْ لَا يُكْرِمُ نَفْسَهُ لَا يُكْرَمُ وَقَالَ
آخَر : إنَّ الْغَرِيبَ بِأَرْضٍ لَا عَشِيرَ لَهُ كَبَائِعِ الرِّيحِ لَا
يُعْطَى بِهِ ثَمَنَا وَقَالَ آخَر : تَغَرَّبْتُ عَنْ أَهْلِي أُؤَمِّلُ
ثَرْوَةً فَلَمْ أُعْطَ آمَالِي وَطَالَ التَّغَرُّبُ فَمَا لِلْفَتَى
الْمُحْتَالِ
فِي الرِّزْقِ حِيلَةٌ وَلَا لِحُدُودٍ حَدَّهَا اللَّهُ مَذْهَبُ وَقَالَ
آخَر : لَقُرْبُ الدَّارِ فِي الْإِقْتَارِ خَيْرٌ مِنْ الْعَيْشِ
الْمُوَسَّعِ فِي اغْتِرَابِ وَقَالَ آخَرُ : إنَّ الْغَرِيبَ وَإِنْ
أَقَامَ بِبَلْدَةٍ يُهْدَى إلَيْهِ خَرَاجُهَا لَغَرِيبُ وَقَالَ آخَرُ :
غَرِيبٌ يُقَاسِي الْهَمَّ فِي أَرْضِ غُرْبَةٍ فَيَا رَبِّ قَرِّبْ دَارَ
كُلِّ غَرِيبِ وَقَالَ آخَرُ : إنَّ الْغَرِيبَ وَإِنْ أَلَمَّ بِبَلْدَةٍ
كَتَبَتْ أَنَامِلُهُ عَلَى الْحِيطَانِ فَتَرَاهُ يَكْتُبُ وَالْغَرَامُ
يَسُوقُهُ وَالشَّوْقُ قَائِدُهُ إلَى الْأَوْطَانِ وَقَالَ آخَرُ : سَلْ
اللَّهَ الْأَمَانَ مِنْ الْمَغِيبِ فَكَمْ قَدْ رُدَّ مِثْلُك مِنْ
غَرِيبِ وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْك بِحُسْنِ الظَّنِّ وَلَا تَيْأَسْ مِنْ
الْفَرَجِ الْقَرِيبِ قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِلرُّشْدِ :
حَتَّى مَتَى أَنَا فِي حَطٍّ وَتَرْحَالِ وَطُولِ سَعْيٍ وَإِدْبَارٍ
وَإِقْبَالِ وَنَازِحُ الدَّارِ لَا يَنْفَكُّ مُغْتَرِبًا عَنْ
الْأَحِبَّةِ لَا يَدْرُونَ مَا حَالِي فِي مَشْرِقِ الْأَرْضِ طُرًّا
ثُمَّ مَغْرِبِهَا لَا يَخْطِرُ الْمَوْتُ مِنْ حِرْصٍ عَلَى بَالِي
وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي الرِّزْقُ فِي دَعَةٍ إنَّ الْقُنُوعَ الْغِنَى
لَا كَثْرَةُ الْمَالِ خَرَجَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَضَمَّهُ اللَّيْلُ إلَى مَسْجِدٍ فَبَاتَ فِيهِ
وَإِذَا فِي الْمَسْجِدِ أَقْوَامٌ عَوَامُّ يَتَحَدَّثُونَ بِضُرُوبِ
مِنْ الْخَنَا وَهَجْرِ الْمَنْطِقِ فَتَمَثَّلَ فَقَالَ : وَأَنْزَلَنِي
طُولُ النَّوَى دَارَ غُرْبَةٍ إذَا شِئْت لَاقَيْتُ امْرَأً لَا
أُشَاكِلُهُ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يُقَال أَنْجَى
النَّاسِ مِنْ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى
بَلَدٍ .
وَقَالَ يَعْقُوبُ سَمِعْت أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَنْ
التَّوَكُّلِ فَقَالَ هُوَ قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ بِالْإِيَاسِ مِنْ
الْخَلْقِ ، فَقِيلَ لَهُ مَا الْحُجَّةُ قَالَ إبْرَاهِيمُ لَمَّا وُضِعَ
فِي الْمَنْجَنِيقِ ثُمَّ طُرِحَ إلَى النَّارِ فَاعْتَرَضَهُ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ لَك حَاجَةٌ قَالَ أَمَّا
إلَيْك فَلَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْ مَنْ لَك إلَيْهِ حَاجَة ، فَقَالَ
أَحَبُّ
الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ قَدَحَ فِي التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ فَلَا
يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ الْوَاجِبِ وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ
عَبْدِ اللَّهِ السَّابِقَةِ : الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ النَّاسِ بِطَلَبِ
الْعَمَلِ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْ الْجُلُوسِ وَانْتِظَارِ مَا فِي
أَيْدِي النَّاسِ ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَصْحَابُ كَرَاهَةَ الْحَجِّ
لِمَنْ حَجَّ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ .
وَذَكَرُوا
قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا
زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ فَقَالَ لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ هَذَا يَتَوَكَّلُ
عَلَى أَزْوَادِ النَّاسِ .
وَظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ مَنْ
تَوَكَّلَ تَوَكُّلًا صَادِقًا فَلَمْ تَسْتَشْرِفْ نَفْسُهُ إلَى
مَخْلُوقٍ وَتَرَكَ السَّبَبَ وَاثِقًا بِوَعْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خِلَافُ
السُّنَّةِ وَهَلْ يَأْثَمُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَبَقَ
فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
قِيلَ لِأَحْمَدَ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ
مَسْجِدِهِ وَقَالَ : لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي ؟
فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ جَعَلَ
رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي } وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ { تَغْدُو
خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا } وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ ، وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الْعِبَادَةُ
عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ
ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ .
وَرُوِيَ أَنَّ
لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ
اسْتَعِنْ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ
إلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ : رِقَّةٌ فِي دِينِهِ وَضَعْفٌ فِي
عَقْلِهِ وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافُ
النَّاسِ
بِهِ ، وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا يُلَيِّنُ
الْقَلْبَ ؟ فَقَالَ أَكْلُ الْحَلَالِ ، فَسَأَلَ السَّائِلُ بِشْرَ بْنَ
الْحَارِثِ وَعَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
فَقَالَا يَذْكُرُ اللَّهَ ، فَذَكَرَ لَهُمَا أَحْمَد فَقَالَا جَاءَ
بِالْأَصْلِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْبَرْبَهَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ
السُّنَّةِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ وَلَا تَقُلْ أَتْرُك الْمَكَاسِبَ
وَآخُذُ مَا أَعْطَوْنِي لَمْ يَقُلْ هَذَا الصَّحَابَةُ وَلَا
الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى زَمَانِنَا هَذَا وَقَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنِيَّةِ خَيْرٌ
مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ قَالَ لَا تَبْحَثْ عَمَّا لَا تَعْلَمُ فَهُوَ خَيْرٌ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ أَمَّا بَيْعٌ فِي السُّوقِ
فَهُوَ مُوَسِّعٌ لَك إلَّا أَنْ تَعْلَمَ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ ،
وَلَا أَرَى التَّفْتِيشَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ } قَالَ ابْنُ
الْمَدِينِيِّ الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَكَذَا قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ رَوَى عَنْهُ حَدِيثَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَمْ
يَسْمَعْ مِنْهُ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ
الْمُحْتَرِفَ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ إصْلَاحِ
الْمَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { طَلَبُ الْحَلَالِ جِهَادٌ
وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ } .
وَبِإِسْنَادِهِ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ { ذُكِرَ شَابٌّ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزُهْدٍ وَوَرَعٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَتْ لَهُ حِرْفَةٌ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ
الْحَسَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ { أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى
اللَّهِ قَالَ
كَسْبُ الْحَلَالِ وَأَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ
مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَرْفُوعًا { تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ
} .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً
أَمُوتُهَا بَعْدَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلٍ أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ أَبْتَغِي
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ يَا مَعْشَرَ
الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ وَضَحَ الطَّرِيقُ
وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ وَلَا تَكُونُوا عِيَالًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ
كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَّجِرُونَ فِي بَحْرِ الرُّومِ .
وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الزُّهْدِ
فِي الدُّنْيَا وَذَمِّهَا قَبْلَ فَصْلِ آدَابِ الْمُصَافَحَةِ قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ
تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ وَإِنَّمَا يُذْهِبُ الدِّينَ الشَّرَهُ
وَقِلَّةُ الْقَنَاعَةِ } .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَأَنْ أَخْلُفَ
عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ
أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاعِرُ فَنَظَمَهُ : لَأَنْ أَمْضِي
وَأَتْرُكَ بَعْضَ مَالِي يُحَاسِبُنِي بِهِ رَبُّ الْبَرِيَّهْ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ وَقْعِ احْتِيَاجِي إلَى نَذْلٍ شَحِيحٍ بِالْعَطِيَّهْ
وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
لِأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لَا تَكُونَنَّ إنْ اسْتَطَعْت أَوَّلَ
مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنَّهَا
مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
فَضْلِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ عَكْسُ مَا رَأَيْتُهُ فِي التَّارِيخِ عَنْ
بَعْضِ النَّاسِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ
سَلْمَانَ مَرْفُوعًا وَرَوَى أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ مَرْفُوعًا .
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : يَخْرُجُ
مِنْهَا فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ .
وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ ثَنَا هَنَّادٌ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَسْتَقْبِلُوا السُّوقَ وَلَا تُحَفِّلُوا وَلَا
يُنَفِّقْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَالْمُحَفَّلَةُ الْمُصَرَّاةُ .
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : لَا
يُنْفِقُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يُنْفِقَ سِلْعَتَهُ
عَلَى جِهَةِ النَّجْشِ فَإِنَّهُ بِزِيَادَتِهِ فِيهَا يَرِيبُ
السَّامِعَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ سَبَبًا لِابْتِيَاعِهَا وَمَنْفَقًا لَهَا
.
وَالسُّوقُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِيَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى سُوقِهِمْ .
فَصْلٌ ( فِي تَحْرِيمِ السُّؤَالِ حَتَّى عَلَى مَنْ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَذَمِّهِ وَتَقْبِيحِهِ ) .
مَنْ
أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ مِنْ زَكَاةٍ
وَصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَهُ
طَلَبُهُ وَعَنْهُ يَحْرُمُ الطَّلَبُ دُونَ الْأَخْذِ عَلَى مَنْ لَهُ
غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَنْصُورٍ ، وَعَنْهُ
بَلَى عَلَى مَنْ لَهُ غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ ، نَقَلَهُ عَنْهُ صَالِحٌ
وَجَعْفَرٌ ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ الطَّلَبُ عَلَى مَنْ لَهُ خَمْسُونَ
دِرْهَمًا وَإِنْ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ نَقَلَهُ مُهَنَّا ، وَعَنْهُ
تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَنْ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَفِي ذَمِّ السُّؤَالِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَأَنَّ
الْمَسْأَلَةَ تَجِيءُ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشٌ
وَأَنَّهُ يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ وَنَحْو ذَلِكَ أَخْبَارٌ
كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ .
وَقَالَ مُؤْنِسٌ : إنَّ الْوُقُوفَ عَلَى
الْأَبْوَابِ حِرْمَانٌ وَالْعَجْزُ أَنْ يَرْجُوَ الْإِنْسَانَ إنْسَانُ
مَتَى تُؤَمِّلُ مَخْلُوقًا وَتَقْصِدُهُ إنْ كَانَ عِنْدَكَ
بِالرَّحْمَنِ إيمَانُ ثِقْ بِاَلَّذِي هُوَ يُعْطِي ذَا وَيَمْنَعُ ذَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ شَانُ وَقَالَ آخَرُ مَنْ يَسْأَلْ
النَّاسَ يَحْرِمُوهُ وَسَائِلُ اللَّهِ لَا يَخِيبُ قَالَ آخَرُ :
وَمَتَى تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَارْجُ الْغِنَى وَإِلَى الَّذِي يَهَبُ
الرَّغَائِبَ فَارْغَبْ وَقَالَ آخَرُ : لَا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ
الْبِلَى فَإِنَّمَا الْمَوْتُ سُؤَالُ الرِّجَالِ كِلَاهُمَا مَوْتٌ
وَلَكِنَّ ذَا أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِذُلِّ السُّؤَالِ وَذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَنَّ سَعْدَ اللَّهِ بْنَ نَصْرِ الدَّجَاجِيَّ
الْحَنْبَلِيَّ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ أَرْبَع
وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ تَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَوَعَظَ قَالَ كُنْت
خَائِفًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لِحَادِثٍ نَزَلَ فَاخْتَفَيْت فَرَأَيْت فِي
الْمَنَامِ كَأَنِّي فِي غُرْفَةٍ أَكْتُبُ شَيْئًا ، فَجَاءَ رَجُلٌ
فَوَقَفَ بِإِزَائِي وَقَالَ اُكْتُبْ مَا أُمْلِي عَلَيْك : ادْفَعْ
بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا
تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا وَرَمَاك رَيْبُ صُرُوفِهَا
بِسِهَامِ فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فُرْجَةٌ تَخْفَى عَلَى
الْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ
الْقَنَا وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الضِّرْغَامِ وَقَالَ مَحْمُودُ
الْوَرَّاقُ : وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الذُّلِّ بُدٌّ فَالْقَ
بِالذُّلِّ إنْ لَقِيت الْكِبَارَا لَيْسَ إجْلَالُك الْكَبِير بِذُلٍّ
إنَّمَا الذُّلُّ أَنْ تُجِلَّ الصِّغَارَا وَقَالَ أَيْضًا : بَخِلْت
وَلَيْسَ الْبُخْلُ مِنِّي سَجِيَّةً وَلَكِنْ رَأَيْت الْفَقْرَ شَرُّ
سَبِيلِ لَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ مِنْ الْبُخْلِ لِلْفَتَى وَلَلْبُخْلُ
خَيْرٌ مِنْ سُؤَالِ بَخِيلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { انْتِظَارُ الْفَرَجِ
عِبَادَةٌ } .
وَيُرْوَى لِأَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ : عَسَى فَرَجٌ
يَأْتِي مِنْ اللَّهِ إنَّهُ لَهُ كُلُّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَأَنْ تَرَى لَهُ فَرَجًا مِمَّا
أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ إذَا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإِنَّهُ
قَضَى اللَّهُ إنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ وَقَالَ آخَرُ :
لَعَمْرُكَ مَا كُلُّ التَّعَطُّلِ ضَائِرٌ وَلَا كُلُّ شُغْلٍ فِيهِ
لِلْمَرْءِ مَنْفَعَهْ إذَا كَانَتْ الْأَرْزَاقُ فِي الْقُرْبِ
وَالنَّوَى عَلَيْك سَوَاءٌ فَاغْتَنِمْ لَذَّةَ الدَّعَهْ وَإِنْ ضِقْت
يَوْمًا يُفْرِجُ اللَّهُ مَا تَرَى أَلَا رُبَّ ضِيقٍ فِي عَوَاقِبِهِ
سَعَهْ وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرْ عَلَى الدَّهْرِ إنْ أَصْبَحْت
مُنْغَمِسًا بِالضِّيقِ فِي لُجَجٍ تَهْوِي إلَى لُجَجِ فَمَا تَجَرَّعَ
كَأْسَ الصَّبْرِ مُعْتَصِمٌ بِاَللَّهِ إلَّا آتَاهُ اللَّهُ بِالْفَرَجِ
وَقَالَ آخَرُ : هَوِّنْ عَلَيْك فَكُلُّ الْأَمْرِ مُنْقَطِعٌ وَخَلِّ
عَنْك عَنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
فَرَجٌ وَكُلُّ أَمْرٍ إذَا مَا ضَاقَ يَتَّسِعُ إنَّ الْبَلَاءَ وَإِنْ
طَالَ الزَّمَانُ بِهِ فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ خَرَجْت حَاجًّا فَضَاقَ صَدْرِي فَجَعَلْت أَقُولُ
: أَرَى الْمَوْتَ لِمَنْ أَمْسَى عَلَى الذُّلِّ لَهُ أَصْلَحُ فَإِذَا
بِهَاتِفٍ مِنْ وَرَائِي يَقُولُ :
أَلَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الَّذِي الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ إذَا ضَاقَ بِك الصَّدْرُ تَفَكَّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ .
فَصْلٌ ( فِي حُكْمِ مَا يَأْتِي الْمَرْءَ الصِّلَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ أَخْذٍ وَرَدٍّ ) .
وَمَا
جَاءَهُ مِنْ مَالٍ بِلَا إشْرَافِ نَفْسٍ وَلَا مَسْأَلَةٍ وَجَبَ
أَخْذُهُ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْأَثْرَمُ وَالْمَرُّوذِيُّ قَالَ
فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَم { إذَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا
إشْرَافٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ } ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَيِّق عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ
لَهُ أَشْرَاف أَنْ يَرُدَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
الْكَحَّالُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ الرَّجُل يَأْتِيه الشَّيْءُ مِنْ
غَيْرِ مَسْأَلَة وَلَا اسْتِشْرَاف أَيُّمَا أَفْضَلُ يَأْخُذُهُ أَوْ
يَرُدُّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتِشْرَافٌ أَخَافُ أَنْ يَضِيقَ
عَلَيْهِ رَدُّهُ وَكَذَا نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ
وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مُشَيْشٍ أَخَافُ إذَا
جَاءَهُ فَجْأَة فَرَدَّهُ أَنْ يُحْرَجَ .
وَقَطَعَ بِهِ فِي
الْمُسْتَوْعِبِ ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
وَرَأَيْت بِخَطِّ الْقَاضِي تَقِي الدِّينِ الزرباني الْبَغْدَادِيِّ
الْحَنْبَلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ نَصَّ
عَلَيْهِ فِي رِوَايَة إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، وَاَلَّذِي وَجَدْت
إِسْحَاقَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ إذَا كَانَ مِنْ
غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَأْخُذَ هُوَ بِالْخِيَارِ ،
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ بِإِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ
الْخَلَّالُ أَنَّ الْقَبُولَ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ .
وَأَمَرَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى بِالْأَخْذِ وَقَالَ
لِلسَّائِلِ أَرْجُو أَنْ يَطْلُبَ لَك وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ إلَّا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ وَإِذَا سَلِمَ مِنْ
الشُّبْهَةِ وَالْآفَاتِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ آخِذُهُ ، وَنَقَلَ
الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَثْوَابٌ مِنْ
خُرَاسَانَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ لِلْمَرُّوذِيِّ اذْهَبْ
رُدَّهُ قَالَ فَقُلْت لَهُ أَيُّ شَيْءٍ تَكُونُ الْحُجَّةُ فِي رَدِّهِ
؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ
أَنْ يُرَدَّ مِثْل هَذَا قَالَ لَيْسَ
أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا إلَّا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَعَوَّدَ لَمْ
يَصْبِرْ عَنْهُ ، وَاتَّجَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّرَخْسِيُّ
بِدَرَاهِمَ جَعَلَ رِبْحَهَا لِأَحْمَدَ فَرَبِحَتْ عَشْرَةَ آلَافٍ
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَحْمَدَ .
فَقَالَ : جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا
لَكِنَّا فِي كِفَايَةٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ دَعْنَا نَكُونُ
أَعِزَّةً وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو
الْحُسَيْنِ فِي كَرَاهَةِ الرَّدِّ رِوَايَتَيْنِ وَعَلَّلَ رِوَايَةَ
عَدَمِ الْكَرَاهَةِ بِكَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ :
أَعَلِمْتُمْ أَنِّي كُنْت قَدْ أُوتِيتُ فَهْمَ الْقُرْآنِ فَلَمَّا
قَبِلْت مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ يَعْنِي مِنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ
الْبَرْمَكِيِّ سُلِبْتُهُ وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّهُ
كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ ، فَرُئِيَ
الْبَرْمَكِيُّ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ مَا نَفَعَنِي
شَيْءٌ مَا نَفَعَتْنِي دَعْوَةُ سُفْيَانَ أَوْ نَحْو ذَلِكَ .
فَإِنْ
اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ فَنَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ لَا
بَأْسَ أَنْ يَرُدَّهَا وَكَذَا نَقَلَ الْكَحَّالُ عَنْهُ إنْ شَاءَ
رَدَّهُ وَكَذَا نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ،
وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ فَإِنْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ رَدَّهَا .
وَقَالَ
لَهُ الْأَثْرَمُ : فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا يَرُدّ
الْمَسْأَلَةَ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرُدَّهَا قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ
الرَّدَّ وَنَقَلَ عَنْهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لَا يَأْخُذُهُ .
وَذَكَرَ
الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ
لَا يَحْرُمُ ؛ لِعَدَمِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ كُرِهَ
لَهُ أَخْذُهُ وَلَمْ يَحْرُمْ ، وَقِيلَ : لَهُ أَخْذُهُ وَرَدُّهُ
أَوْلَى .
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ نُصُوصِ أَحْمَدَ أَنَّهُ هَلْ يَحْرُمُ
أَوْ يُخَيَّرُ أَوْ الرَّدُّ أَوْلَى أَوْ يُكْرَهُ الْأَخْذُ فِيهِ
رِوَايَاتٌ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ فِيهَا النَّهْي عَنْ
الْأَخْذِ
وَظَاهِرُ النَّهْي التَّحْرِيمُ وَاسْتِشْرَافُ النَّفْسِ أَنْ تَقُولَ
سَيَبْعَثُ لِي فُلَانٌ أَوْ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ لِي وَإِنْ لَمْ
يَتَعَرَّضْ أَوْ يَعْرِضْ بِقَلْبِك عَسَى أَنْ يَفْعَلَ نَصَّ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ
أَحْمَدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ { إذَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا
الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَخُذْهُ
وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعُهُ نَفْسَك } فَقَالَ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ
مَالٍ طَيِّبٍ .
فَصْلٌ ( فِي سُؤَالِ الشَّيْءِ التَّافِهِ كَشِسْعِ النَّعْلِ رِوَايَات ) .
نَقَلَ
أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ
الْحَذَّاءَ أَوْ الْإِسْكَافَ الشِّسْعَ قَالَ لَقَدْ شَدَّدْتَ وَقَالَ
عَبْدُ اللَّه كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مَسْأَلَةً ، وَنَقَلَ حَرْبٌ
وَيَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالرَّجُلِ فَيَسْأَلُهُ
الشِّسْعَ لِنَعْلِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَالَ
يَعْقُوبُ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
وَقَالَ
الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ كَانَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ لَا يُرَخِّصُ فِي مَسْأَلَةِ الشِّسْعِ ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا
أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالشِّسْعِ وَشِبْهِهِ هَلْ
يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ ؟ فِيهِ رِوَايَاتٌ .
وَلَا
بَأْسَ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ {
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقِرْبَةٍ
مُعَلَّقَةٍ فَاسْتَسْقَى فَشَرِبَ } .
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ
وَسُئِلَ الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ عَطْشَانَا فَلَا يَسْتَسْقِي
وَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الْوَرَعِ مَا يَكُونُ قَالَ أَحْمَقُ ، نَقَلَ
جَعْفَرٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَعِيرُ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ
مَسْأَلَةً .
فَصْلٌ ( فِي سُؤَالِ الْأَخِ وَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخْذِ مِمَّنْ أَعْطَى حَيَاءً ) .
قَالَ
حَرْبٌ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْأَخُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَيَرَى عِنْدَهُ الشَّيْءَ يُعْجِبُهُ ، الدَّابَّةَ وَنَحْوه ذَلِكَ
فَيَقُولُ هَبْ هَذَا لِي وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا
وَلَعَلَّ الْمَسْئُولَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ أَخُوهُ ذَلِكَ قَالَ
أَكْرَهُ الْمَسْأَلَةَ كُلَّهَا وَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ
بَيْنَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ أَيْسَرُ ، وَذَلِكَ أَنَّ فَاطِمَةَ قَدْ
أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَتْهُ
وَنَقَلَ عَنْهُ يَعْقُوبُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ وَالْفَضْلُ
نَحْوَ ذَلِكَ .
وَمِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهِيَ
وَاقِعَةٌ كَثِيرًا سُؤَال رَبِّ الدَّيْنِ وَضْعَ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ
نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ
لَا تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثٍ } قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَإِنْ أَخَذَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ
حَيَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ وَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ
وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا صَرَّحَ بِهَذَا غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ ؛
لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ عِنْدَنَا فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ .
وَعُمُومُ كَلَامِ غَيْرِهِ يُخَالِفُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
أَحْمَدُ ثَنَا إسْمَاعِيلُ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي الدَّهْمَاءِ
وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ قَالَا : أَتَيْنَا
عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ أَخَذَ
بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ
يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَالَ { إنَّك لَنْ تَدَعَ
شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَعَطَاك اللَّهُ خَيْرًا
مِنْهُ } .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
هِلَالٍ قَالَ ثَنَا أَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو الدَّهْمَاءِ وَذَكَرَهُ ،
إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { اُنْظُرُوا
إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ فَوْقَكُمْ
فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَهُ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا
فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا } الْحَدِيثُ وَفِيهِ
الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
فَصْلٌ ( فِي سُؤَالِ الْمَرْءِ لِمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ وَعَدَمِ اسْتِحْسَانِ أَحْمَدَ لَهُ ) .
وَأَمَّا
مَسْأَلَةُ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ
مِنْ النَّاسِ فَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ كَلِّمْ لِي فُلَانًا فِي
صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ
يَتَكَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ لِغَيْرِهِ ؟ ثُمَّ قَالَ التَّعْرِيضُ
أَعْجَبُ إلَيَّ .
وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
رَجُلٍ رُبَّمَا يُكَلِّفُهُ قَوْمٌ أَنْ يَجْمَعَ أَمْوَالًا فَيَشْتَرِي
أُسَارَى أَوْ يَصْرِفُهُ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ قَالَ نَفْسُهُ أَوْلَى
بِهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ : وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَ زَوْجُهَا بِالثَّغْرِ وَلَيْسَ
لَهَا ثَمَّ أَحَدٌ فَتَرَى أَنْ أُكَلِّمَ قَوْمًا يُعِينُونِي حَتَّى
أُجْهِزَ عَلَيْهَا وَأَجِيءَ بِهَا قَالَ لَيْسَ هَذَا عَلَيْكَ وَلَمْ
يُرَخِّصْ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ .
وَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ
يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَسْأَلْ الرَّجُلَ فَيَجْمَعُ لَهُ دَرَاهِمَ
فَرَخَّصَ فِيهِ ، وَنَقَلَ أَنَّ شُعْبَةَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ،
وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ إبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ .
وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ لِلرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ قَالَ لَا وَلَكِنْ يُعَرِّضُ .
ثُمَّ
ذَكَرَ حَدِيثَ { الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَّ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يَسْأَلْ }
وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَنْصُورٍ وَمُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي حَرْبٍ .
وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ رُبَّمَا سَأَلَ رَجُلًا
فَمَنَعَهُ فَيَكُونُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَازُ التَّعْرِيضِ وَفِي جَوَازِ السُّؤَالِ
رِوَايَتَانِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرُهُ شَيْئًا لِيُفَرِّقَهُ ، فَهَلْ
الْأَوْلَى أَخْذُهُ أَوْ عَدَمُهُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَقَدَّمَتَا
حَسَّنَ عَدَمَ الْأَخْذِ فِي رِوَايَةٍ وَأَخَذَ هُوَ وَفَرَّقَ فِي
رِوَايَةٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي أَفْضَلِ الْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ وَأَحْسَنِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ ) .
أَفْضَلُ
الْمَعَاشِ التِّجَارَةُ وَأَفْضَلُهَا فِي الْبَزِّ وَالْعِطْرِ
وَالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْمَاشِيَةِ وَأَنْقَصُهَا فِي الصَّرْفِ
ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقَالَ فِيهَا فِي
مَوْضُوعٍ آخَرُ : أَفْضَلُ الصَّنَائِعِ الْخِيَاطَةُ وَأَدْنَاهَا
الْحِيَاكَةُ وَالْحِجَامَةُ وَنَحْوُهُمَا وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةُ
الصَّبْغِ وَالصِّيَاغَةِ وَالْحِدَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الصَّنَائِعِ الدَّنِيَّةِ وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا وَيُكْرَهُ كَسْبُ
الْحَجَّامِ وَالْفَاصِدِ وَنَحْوُهُ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَالْمَاشِطَةُ
وَنَحْوُهُ النَّائِحَةُ وَالْبَلَّانُ وَالْمُزَيِّنُ وَالْجَرَائِحِيُّ
وَالصَّائِغُ وَالصَّبَّاغُ وَالْحَدَّادُ وَقِيلَ وَالْبَيْطَارُ
وَنَحْوُهُ ذَلِكَ وَرَوَى الْخَلَّالُ أَنَّ امْرَأَةً مَاشِطَةً
جَمَعَتْ مَالًا مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَتْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
وَقَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا
تَحُجِّي بِهِ ، لَيْسَ هَهُنَا أَحَلّ مِنْ الْغَزْلِ .
وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْمَاشِطَةِ أَتَحُجُّ
مِنْهُ قَالَ لَا غَيْرُهُ أَطْيَبُ مِنْهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ
سَمِعْت امْرَأَةً تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَشِّطُونَ فَقَالَتْ إنِّي أَصِلُ رَأْسَ
الْمَرْأَةِ بِقَرَامِلَ وَأُمَشِّطُهَا أَتَرَى أَنْ أَحُجَّ مِمَّا
أَكْتَسِبُ ؟ فَقَالَ لَا وَكَرِهَ كَسْبَهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَكُونُ مِنْ مَالٍ أَطْيَبَ مِنْهُ ،
وَكَلَامُهُ فِي الْمُغْنِي يَقْتَضِي أَنَّ الْفَصْدَ وَنَحْوَهُ لَا
كَرَاهِيَةَ فِيهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِالْحِجَامَةِ .
وَقَدْ
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الصَّيْدِ اتَّفَقُوا أَنَّ مَكَاسِبَ الصُّنَّاعِ
مِنْ الصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ حَلَالٌ وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْبِ
الْحَجَّامِ وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ
كَسْبُ الْحَمَّامِيُّ قَالَ وَحَمَّامِيَّةُ النِّسَاءِ أَشَدُّ
كَرَاهَةً وَذَكَرَ الْأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ
الْحَمَّامِيَّ لَا
يُكْرَهُ كَسْبُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ
أَنَّ أَشْرَفَ الْكَسْبِ الْغَنَائِمُ وَمَا أُوجِفَ عَلَيْهِ
بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْغُلُولِ وَقَدْ سَمَّى
اللَّهُ الْجِهَادَ تِجَارَةً مُنْجِيَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ
الْكَسْبِ عَمَلُ الْيَدِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ } وَعَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَفْضَلُ الْكَسْبِ كَسْبُ
الصَّانِعِ بِيَدِهِ إذَا صَحَّ } .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ { مَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْرَابِيٍّ وَهُوَ
يَبِيعُ شَيْئًا فَقَالَ عَلَيْك بِأَوَّلِ سَوْمَةٍ أَوْ قَالَ أَوَّلَ
السَّوْمِ فَإِنَّ الرِّبْحَ مَعَ السَّمَاحِ } وَقِيلَ لِلزُّبَيْرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَ بَلَغْتَ هَذَا الْمَالَ قَالَ إنِّي لَمْ
أَرُدُّ رِبْحًا وَلَمْ أَسْتُرْ عَيْبًا .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لِقَوْمٍ مَا تِجَارَتُكُمْ ؟ قَالُوا بَيْعُ الرَّقِيقِ
قَالَ بِئْسَ التِّجَارَةُ ، ضَمَانُ نَفْسٍ ، وَمُؤْنَةُ ضِرْسٍ .
وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْسَن مَا يَكُونُ فِي
عَيْنِك وَقَالَ أَيْضًا إذَا اشْتَرَيْت بَعِيرًا فَاشْتَرِهِ ضَخْمًا
فَإِنْ لَمْ تُوَافِقْ كَرَمًا وَافَقْت لَحْمًا ، وَأَنْشَدَ ابْنُ
شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَلَا كُلُّ مَنْ يُهْدَى لَهُ
الْبَيْعُ يُرْزَقُ وَقَدْ يُصْلِحُ الْمَالَ الْقَلِيلَ التَّرَفُّقُ
وَلِمَنْصُورٍ الْفَقِيهِ : بُنَيَّةُ لَا تَجْزَعِي وَاصْبِرِي عَسَاك
بِصَبْرِك أَنْ تَظْفَرِي فَلَوْ نَالَ يَوْمًا أَبُوكِ الْغِنَى كَسَاكِ
الدِّبَيْقَى وَالتُّسْتَرِيّ وَلَكِنْ أَبُوك اُبْتُلِيَ بِالْعُلُومِ
فَمَا أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِي وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
عَنْ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { قَدْ أَعْطَيْت خَالَتِي غُلَامًا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ
يُبَارِكَ اللَّهُ لَهَا فِيهِ ، وَقَدْ نَهَيْتهَا أَنْ تَجْعَلَهُ
حَجَّامًا أَوْ قَصَّابًا أَوْ صَائِغًا } .
قَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا
هَمَّامٌ
عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَكْذَبُ النَّاسِ
الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ } فِيهِ ضَعْفٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
الضُّعَفَاءِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ
أَحَدَهُمْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ قَالَ وَقِيلَ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ مِنْ
الْأَصْبَاغِ مَا لَا يُمْكِنُهُ صَبْغُهُ فَإِذَا تَحَرَّى الْوَاحِدُ
مِنْهُمْ الصِّدْقَ وَالثِّقَةَ فَلَا طَعْنَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ
عَقِيلٍ وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ الصَّنَائِعِ الرَّدِيئَةِ مَعَ إمْكَانِ
مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيُكْرَهُ أَنْ
يَكُونَ جَزَّارًا ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ أَوْ
حَجَّامًا أَوْ كَنَّاسًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ ،
وَفِي مَعْنَاهُ الدَّبَّاغُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ
الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ
فَكَرِهَهُ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ مَا أَعْطَيْنَاهُ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ بَلَدٍ طَبِيبٌ وَكَحَّالٌ
وَجَرَائِحِيٌّ وَطَحَّانٌ وَخَبَّازٌ وَلَحَّامٌ وَطَبَّاخٌ وَشَوَّاءٌ
وَبَيْطَارٌ وَإِسْكَافٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ
إلَيْهَا غَالِبًا كَتِجَارَةٍ وَقَصَّارَةٍ وَمُكَارَاةٍ وَوَارِقَةٍ .
قَالَ
الْقَاضِي يُسْتَحَبُّ إذَا وَجَدَ الْخَيْرَ فِي نَوْعٍ مِنْ
التِّجَارَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ وَإِنْ قَصَدَ إلَى جِهَةٍ مِنْ
التِّجَارَةِ فَلَمْ يُقْسَمْ لَهُ فِيهِ رِزْقٌ عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ
لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا
{ إذَا رُزِقَ أَحَدُكُمْ فِي الْوَجْهِ مِنْ التِّجَارَةِ فَلْيَلْزَمْهُ
} .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مَنْ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْهُ
إلَى غَيْرِهِ فَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ يُقَالُ إذَا
لَمْ يُرْزَقْ الْإِنْسَانُ بِبَلْدَةٍ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى أُخْرَى
قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : بَلَغَنِي
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِي شَيْءٍ
فَلْيَلْزَمْهُ قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ سَمِعْت أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ
مَا مِنْ أَهْل بَيْتٍ فِيهِمْ مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ إلَّا رُزِقُوا
وَرُزِقَ خَيْرًا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْمُسْتَحَبُّ
مِنْهَا الْبَزُّ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَشَارَهُ رَجُلٌ فِي الْبُيُوعِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْبَزِّ
وَقَالَ إنَّك إذَا عَالَجْت الْبَزَّ أَحْبَبْت الْخِصْبَ
لِلْمُسْلِمِينَ وَكَذَا وَكَذَا } وَعَدَّ أَشْيَاء وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ
أَهْلَ الْجَنَّةِ لَوْ تَبَايَعُوا وَلَا يَتَبَايَعُونَ مَا تَبَايَعُوا
إلَّا الْبَزَّ } قَالَ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ لَوْ كُنْت تَاجِرًا مَا اخْتَرْت غَيْرَ الْعِطْرِ إنْ
فَأْتِنِي رِبْحُهُ لَمْ يَفُتْنِي رِيحُهُ .
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا { أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ
كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الْمَدَنِيِّ
وَهُوَ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلِابْنِ
مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا
فِي الطَّلَبِ } .
وَرَوَى ابْن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِد بْنِ يَزِيدَ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ
يُونُسَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُكُمْ
مِنْ الْجَنَّةِ إلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، وَلَا عَمَلٍ يُقَرِّبُ
مِنْ النَّارِ إلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ، وَلَا يَسْتَبْطِئَنَّ
أَحَدٌ مِنْكُمْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى فِي رَوْعِي أَنَّ أَحَدًا
مِنْكُمْ
لَنْ يَخْرُجَ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ ، فَاتَّقُوا
اللَّهَ أَيُّهَا النَّاس وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنْ اسْتَبْطَأَ
أَحَدُكُمْ رِزْقَهُ فَلَا يَطْلُبُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَتِهِ } .
وَرَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو
عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَأَظُنُّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ
بُورِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ } أَوْ هَذَا الْمَعْنَى .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا } .
إسْنَادُهُ
حَسَنٌ ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ قَالَ فِي
النِّهَايَةِ الضَّيْعَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنْ الضَّيَاعِ
وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ فِي هَذَا مَا يَكُونُ مِنْهُ مَعَاشُهُ
كَالصَّنْعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ { أَفْشَى اللَّهُ ضَيْعَتَهُ } أَيْ أَكْثَرَ عَلَيْهِ
مَعَاشَهُ .
وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ { لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا } .
وَقَالَ
الشَّيْخُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَزَجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ النِّهَايَةِ لَهُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَطْيَبِ
الِاكْتِسَابِ فَقَالَ قَوْمٌ الزِّرَاعَةُ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ
وَهُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ لِقَضَاءِ
اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ بَرَكَةِ الْأَرْضِ
فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الشُّبْهَةِ وَقَالَ قَوْمٌ التِّجَارَةُ أَطْيَبُ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ ،
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ
التَّكَسُّبَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ غَالِبًا وَقَالَ قَوْمٌ الْكَسْبُ
بِالصِّنَاعَةِ أَطْيَبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَحَلُّ مَا
أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ } وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُبَاشِرُ
الْعَمَلَ فِيهَا بِكَدِّ يَدِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ
عَبَّاسُ
الدَّوْرِيُّ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ
وَسُئِلَ عَنْ الدَّقَّاقِينَ فَقَالَ : إنَّ أَمْوَالًا جُمِعَتْ مِنْ
عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا لَأَمْوَالُ سَوْءٍ ، وَالظَّاهِر أَنَّ
الْمُرَادَ بِالدَّقَّاقِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ
فِي الدَّقِيقِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِكَارِ الْأَقْوَاتِ
وَإِرَادَةِ غَلَائِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ فِي إضْرَارِ
الْمَعْصُومِينَ وَهُوَ ضَرَرٌ عَامٌّ فَالْأَمْوَالُ الْمَجْمُوعَةُ مِنْ
التِّجَارَةِ فِي ذَلِكَ أَمْوَالُ سَوْءٍ وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي
عَلَى كَرَاهَةِ التِّجَارَةِ فِي الْقُوتِ وَالطَّعَامِ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِي الدِّين يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُحِبَّ غُلُوَّ
أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ وَيُكْرَهُ الرُّخْصُ وَيُكْرَهُ الْمَالُ
الْمَكْسُوبُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ
مَالًا جُمِعَ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ لَمَالُ سَوْءٍ .
وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا { مَنْ سَمَّعَ
سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يُشْقِقْ
اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا أَوْصِنَا قَالَ إنَّ
أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ
لَا يَأْكُل إلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا
يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ دَمٍ
أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ } .
فَصْلٌ ( إشَارَاتٌ نَبَوِيَّةٌ إلَى مَا يَقَعُ مِنْ شَرْقِ الْمَدِينَةِ وَيَمَنِهَا وَنَجْدِهَا ) .
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { رَأْسُ الْكَفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ
وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ
وَالْفَدَّادِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ
الْغَنَمِ } .
وَفِي رِوَايَةِ { الْإِيمَانُ يَمَانِي }
وَلِلْبُخَارِيِّ { وَالْفِتْنَةُ مِنْ هَهُنَا حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ } وَلِمُسْلِمٍ { وَالْفَخْرُ وَالرِّيَاءُ فِي
الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْوَبَرِ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ
مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ { هَا إنَّ
الْفِتْنَةَ هُنَا ثَلَاثًا } وَلِلْبُخَارِيِّ { اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَنَا فِي شَامِنَا ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا
وَفِي نَجْدِنَا قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ،
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا
فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ
وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ } رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمُ .
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا ، وَفِي صَاعِنَا ، وَفِي مُدِّنَا
وَيَمَنِنَا وِشَامِنَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَقَالَ
مِنْ هَهُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَقَالَ وَمِنْ هَهُنَا
الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ } .
الْفَدَّادُونَ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِينَ
تَعْلُوا أَصْوَاتُهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَاحِدُهُمْ
فَدَّادٌ يُقَالُ فَدَّ الرَّجُلُ يَفِدُّ فَدِيدًا إذَا اشْتَدَّ
صَوْتُهُ .
وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ وَهِيَ الْبَقَرُ الَّتِي تَحْرُثُ
وَاحِدُهَا فَدَّانٌ بِالتَّشْدِيدِ وَإِنَّمَا أَضَافَ الْيَمَان إلَى
الْيَمِينِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ تُسَمَّى الْكَعْبَةَ
الْيَمَانِيَّةَ .
فَصْلٌ حَدِيثُ الْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِ
الْمَرْأَةِ الْكِتَابَةَ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْهُ مَوْضُوعٌ ) ظَاهِرُ
كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ
كَالرَّجُلِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَهُوَ ظَاهِرُ
الْمَنْقُولِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي
مُسْنَدِهِ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ
عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ
فَقَالَ أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا
عَلَّمْتهَا الْكِتَابَةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا الْإِسْنَادِ .
وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ ، وَرَوَاهُ
أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حَفْصَةَ مِنْ
مُسْنَدِهَا وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ قَالَ
إبْرَاهِيمُ بِهَذَا حَدَّثَ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
فَقَالَ : هَذَا رُخْصَةٌ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ ذَكَرَهُ
الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي
الْمُنْتَقَى وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ
الْكِتَابَةَ ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ
مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّامِيِّ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ
عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُسْكِنُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا
تُعَلِّمُونَهُنَّ الْكِتَابَةَ وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ
النُّورِ } وَهُوَ خَبَرٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ
كَذَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَضَع الْحَدِيثَ .
وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { لَا تُعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ الْكِتَابَةَ
وَلَا تُسْكِنُوهُنَّ الْعَلَالِيَّ } وَقَالَ { خَيْرُ لَهْوِ
الْمُؤْمِنِ النِّسَاجَةُ ، وَخَيْرُ لَهْوِ
الْمَرْأَةِ الْغَزْلُ } فِي سَنَدِهِ جَعْفَرُ بْنُ نَصْرٍ وَهُوَ مُتَّهَمٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، وَذَكَرَ خَبَرَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ وَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِنَّ بِالْعُرَى وَقَالَ أَيْضًا ، اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شِرَارِ النِّسَاءِ وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ .
( فَصْلٌ ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَد رَحِمَهُمَا اللَّهُ سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ شُبْهَةٍ : صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُهُ تَحُطُّ عَنْهُ مِنْ مَأْثَمِ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ إنْ صَلَّى وَسَبَّحَ يُرِيدُهُ بِذَلِكَ ، فَأَرْجُو ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } .
( فِي فِتَنِ الْمَالِ وَالثَّرَاءِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَدَاوَةِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُضِلِّينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ ) .
قَدْ
صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لِكُلِّ
أُمَّةٍ فِتْنَةٌ ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ } وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الدِّينَارَ
وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّهُمَا
مُهْلِكَاكُمْ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِكُلِّ أُمَّةٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَصَنَمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا { وَاَللَّهِ مَا
أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي ، وَلَكِنْ أَخَافُ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ } .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا {
إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا قَالُوا وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا
قَالَ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ
بِالشَّرِّ قَالَ أَوَخَيْرٌ هُوَ ؟ ثَلَاثًا إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي
إلَّا بِالْخَيْرِ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا
أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ فَإِنَّهَا أَكَلَتْ حَتَّى إذَا
امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ
وَبَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ ، وَإِنَّ هَذَا
الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى
مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ يَأْخُذُهُ
بِغَيْرِ حَقِّهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَوْلُهُ اجْتَرَّتْ أَيْ
مَضَغَتْ جِرَّتَهَا بِكَسْرِ الْجِيمِ مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ
بَطْنِهِ فَيَمْضُغُهُ ثُمَّ يَبْلَعُهُ .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ { فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ
أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي
الْمُسْنَدِ
مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَقِيلٍ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ } :
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
إنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَصَحَّ أَيْضًا عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا تَرَكْت فِتْنَةً
أَضُرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ .
وَعَنْ
عُمَرَ مَرْفُوعًا { لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إلَّا اللَّبَنَ فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ بَيْنَ الرَّغْوَةِ وَالصَّرِيحِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ
الصَّرِيحُ الْخَالِصُ مِنْ اللَّبَنِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُحَبِّبُ إلَيْهِمْ اللَّبَنَ
فَيَخْرُجُونَ إلَى الْبَادِيَةِ وَيَتْرُكُونَ الْجُمُعَةَ
وَالْجَمَاعَةَ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مُحْتَجًّا بِهِ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قُنْبُلٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ مَرْفُوعًا { هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ
فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ قَالَ
يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ وَيَتْرُكُونَ الْجَمَاعَاتِ
وَالْجُمَعَ وَيَبْدُونَ } احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ
الْمَدْخَلِ لِكِتَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ
الْعَامَّ عَلَى عُمُومِهِ وَالظَّاهِرَ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يَرِدَ
دَلِيلٌ .
وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { هَلَكَ
الْمُتَنَطِّعُونَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ
أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ قَالُوا وَمَا
الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالَ : الرِّيَاءُ } .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ {
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِك مِنْ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ : الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهَيْعَةَ .
وَرَوَى
أَيْضًا ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : قَالَ مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي
أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ
عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ شَدَّادٍ قَالَ : قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي إلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي
أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إسْنَادٌ
جَيِّدٌ ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِثْلُهُ
مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ .
وَلِأَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ وَأَبِي سَعِيدٍ
عَنْ دَيْلَمِ بْنِ غَزْوَانَ ثَنَا مَيْمُونُ الْكُرْدِيُّ حَدَّثَنِي
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ } حَدِيثٌ رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ مَوْقُوفٌ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَزَادَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ " يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَيَعْمَلُ
بِالْجَوْرِ " .
وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ إنَّمَا يُهْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ .
رَوَاهُ
أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمَّلِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ
عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ :
الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ
صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ } .
وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ
عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا
الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقَالَ لَهُ مَنْ
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ
دَبِيبِ النَّمْلِ قَالَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك أَنْ
نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ }
رَوَاهُ أَحْمَد .
فَصْلٌ ( التَّعَامُل فِيمَا يَخْتَلِفُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مِنْ حَلَالِ الْمَالِ وَحَرَامِهِ كَالنَّجَاسَاتِ ) .
إذَا
اكْتَسَبَ الرَّجُلُ مَالًا بِوَجْهٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مِثْلِ بَعْضِ
الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ
اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَنْ يُعَامِلَهُ بِذَلِكَ الْمَالِ ؟ الْأَشْبَهُ
أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ إذْ هَذِهِ
الْعُقُودُ لَيْسَتْ بِدُونِ بَيْعِ الْكُفَّارِ لِلْخَمْرِ وَقَدْ جَازَ
لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ بِأَثْمَانِهَا لِلْإِقْرَارِ عَلَيْهَا ،
فَإِقْرَارُ الْمُسْلِمِ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِهِ أَجْوَزُ ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ الْجَوَازَ وَاشْتَرَى فَالْمَالُ فِي
حَقِّهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْتَقَلَ هَذَا الْمَالُ
إلَى غَيْرِهِ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَعَلَى
هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
لَك مَهْنَؤُهُ وَعَلَيْهِ مَأْثَمُهُ ، وَبِذَلِكَ أَفْتَيْتُ فِي
الْمَالِ الْمَوْرُوثِ ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْعَطَاءِ الْمَوْرُوثِ إذَا
كَانَ الْمَيِّتُ يُعَامِلُ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ،
وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْعَطَاءِ مِنْ السُّلْطَانِ الْمُتَأَوِّلِ فِي
بَعْضِ مَجْنَاهُ وَآخِذُهُ الْمُكْتَسِبُ إذَا قَبَضَ يَبِيعُ تِجَارَةً
بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ التَّحْرِيمُ فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ .
وَعَلَى
إعَادَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَوْ
صَلَّى فِي أَعْطَانِهَا وَرَجَّحْت فِي هَذَا كُلِّهِ وُجُوبَ
الْإِعَادَةِ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ فَقَدْ يُقَالُ إقْرَارُ مَا
اكْتَسَبَهُ لَهُ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ إقْرَارَ
الْحَاكِمِ لِحُكْمِ نَفْسِهِ كَإِقْرَارِهِ لِحُكْمِ غَيْرِهِ وَنَقْضِهِ
كَنَقْضِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُ مِنْ فِعْلِ
نَفْسِهِ وَفِعْلِ غَيْرِهِ فَيُخَرَّجُ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ
وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ إذَا ائْتَمَّ الْمَأْمُومُ بِإِمَامٍ
أَخَلَّ بِرُكْنٍ أَوْ فَعَلَ مُبْطِلًا فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ دُونَ
الْإِمَامِ وَأَصْحَابُنَا
مِنْهُمْ مِنْ يَحْكِي رِوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا لَمْ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ .
وَالصَّوَابُ
الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّ بِنَاءَ
صَلَاةِ الْمَأْمُومِ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ كَبِنَاءِ مِلْكِ
الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ مَا
اسْتَحَلَّهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ خَبِيثًا مِنْ
النَّجَاسَاتِ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مَائِعٍ مِثْلُ أَنْ يَغْمِسَ
الْمَالِكِيُّ يَدَهُ فِي مَائِعٍ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ ، ثُمَّ يَضَعهَا
فِي مَائِعِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ يَضَعَ يَدَهُ الرَّطْبَةَ عَلَى
فَرْوَةٍ مَدْبُوغَةٍ ، ثُمَّ يَضَعَهَا فِي مَائِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
بِحَيْثُ تَكُونُ يَدُ الْإِنْسَانِ ، أَوْ ثَوْبُهُ وَإِنَاؤُهُ طَاهِرًا
فِي اعْتِقَادِهِ فَيُلَاقِي مَائِعًا لِغَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي الْكَذِبِ فِي الْمَالِ وَالسِّنِّ وَافْتِخَارِ الضَّرَّةِ وَنَحْوِهِ ) .
وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ إذَا سُئِلَ عَنْ مِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ
يُخْبِرُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ كَذِبٌ
، وَقَدْ ( قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ الْمُتَشَبِّعِ ،
بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنْ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ ) ثُمَّ
رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ
مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ
ثَوْبَيْ زُورٍ } وَلِمَا فِيهِ مِنْ جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْهِ إنْ كَانَ إخْبَارُهُ بِأَنْقَصَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ
إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْإِخْبَارِ وَعَدَمِهِ
وَالْإِخْبَارِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالتَّوْرِيَةِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ
.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ الْإِمَامُ
يَقُولُ مَا مِنْ عِلْمٍ إلَّا وَقَدْ نَظَرْت فِيهِ وَحَصَّلْت مِنْهُ
الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ وَمَا أَعْرِفُ أَنِّي ضَيَّعْت سَاعَةً مِنْ
عُمْرَى فِي لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ ، وَانْفَرَدَ بِعِلْمِ الْحِسَابِ
وَالْفَرَائِضِ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَتُوُفِّيَ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائَةِ وَقَدْ تَمَّ لَهُ ثَلَاثٌ
وَتِسْعُونَ سَنَةً وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ حَوَاسِّهِ شَيْءٌ وَيَقْرَأُ
الْخَطَّ الدَّقِيقَ مِنْ بُعْدٍ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ عُمْرِهِ فَأَنْشَدَ
: احْفَظْ لِسَانَك لَا تَبُحْ بِثَلَاثَةٍ سِنٍّ وَمَالٍ مَا عَلِمْت
وَمَذْهَبِ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلَاثَةٍ بِمُكَفِّرٍ
وَبِحَاسِدٍ وَمُكَذِّبِ وَمِنْ كَلَامِهِ قَالَ يَجِبُ عَلَى
الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ لَا
يَأْنَفَ وَقَالَ مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ ، خَدَمَتْهُ الْمَنَابِرُ .
فَصْلٌ ( فِي حَدِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالسَّخَاءِ ) .
ذَكَرَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الْبُخْلِ أَقْوَالًا وَذَكَرَ الْقَاضِي
أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ فِي حَدِّ الْبُخْلِ أَقْوَالًا : (
أَحَدُهَا ) مَنْعُ الزَّكَاةِ فَمَنْ أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ جَوَازِ
إطْلَاقِ الْبُخْلِ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلِ
قَالَهُ رَدًّا عَلَى الْحَجَّاجِ حِينَ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ .
(
وَالثَّانِي ) مَنْعُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَالنَّفَقَةِ
فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنْ
الْوَاجِبَات عُدَّ بَخِيلًا .
( وَالثَّالِثُ ) فِعْلُ الْوَاجِبَات ،
وَالْمَكْرُمَاتِ فَلَوْ أَخَلَّ بِالثَّانِي وَحْدَهُ كَانَ بَخِيلًا
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا حَكَاهُ عَنْهُ
الْقَاضِي وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَرِئَ مِنْ الشُّحِّ مَنْ أَدَّى
الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ } فَلَمْ يَنْفِ
عَنْهُ وَصْفَ الشُّحِّ إلَّا عِنْدَ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ .
وَقَدْ
رَوَى هَذَا الْخَبَرَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ ،
وَالْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِهِمَا مِنْ
حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُمَيْرٍ أَيْ : الْأَنْصَارِيِّ
مَرْفُوعًا .
قَالَ الْقَاضِي وَلِأَنَّ هَذَا حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ
قَالَ وَقِيلَ هُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَهُوَ خَشْيَةُ الْفَقْرِ ،
وَالْحَاجَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ الْبُخْلُ
يُورِثُ التَّمَسُّكَ بِالْمَوْجُودِ ، وَالْمَنْعَ مِنْ إخْرَاجِهِ
لِأَلَمٍ يَجِدُهُ عِنْدَ تَصَوُّرِ قِلَّةِ مَا حَصَلَ وَعَدَمِ
الظَّفَرِ بِخَلَفِهِ ، وَالشُّحُّ يُفَوِّتُ النَّفْسَ كُلَّ لَذَّةٍ ،
وَيُجَرِّعُهَا كُلَّ غُصَّةٍ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَظَاهِرُ
كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ ، وَالْقَاضِي أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الشُّحَّ يَحْمِلُ عَلَى الْبُخْلِ فَرَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَطَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
إيَّاكُمْ ، وَالشُّحَّ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ
، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ
فَقَطَعُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا } رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ الشُّحُّ مِنْ الْبُخْلِ ، وَكَأَنَّ الشُّحَّ جِنْسٌ ،
وَالْبُخْلَ نَوْعٌ ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ
الْأُمُورِ ، وَالشُّحُّ عَامٌ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ وَمَا هُوَ مِنْ
قِبَلِ الطَّبْعِ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ
قَالَ جَمَاعَةٌ الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَأَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ
مِنْ الْبُخْلِ ، وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ :
الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ ، وَالشُّحُّ عَامٌّ ، وَقِيلَ
الْبُخْلُ بِالْمَالِ خَاصَّةً ، وَالشُّحُّ بِالْمَالِ ، وَالْمَعْرُوفِ
، وَقِيلَ : الشُّحُّ الْحِرْصُ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَالْبُخْلُ
بِمَا عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ قِيلَ : لِلْأَحْنَفِ مَا الْجُودُ قَالَ : بَذْلُ النَّدَى
وَكَفُّ الْأَذَى قِيلَ : فَمَا الْبُخْلُ قَالَ : طَلَبُ الْيَسِيرِ
وَمَنْعُ الْحَقِيرِ .
وَقِيلَ : إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَكْثَمَ
بْنِ صَيْفِيٍّ وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ لَيْسَ السَّخِيُّ مَنْ
أَخَذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَبَذَرَهُ وَإِنَّمَا السَّخِيُّ
مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ فَتَرَكَهُ ، أَوْ جُمِعَ مِنْ
حَقٍّ وَوُضِعَ فِي حَقٍّ .
سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْبُخْلِ فَقَالَ : هُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ
مَا يُنْفِقُهُ تَلَفًا وَمَا يُمْسِكُهُ شَرَفًا وَقَالَ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ : وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَرْتَجِ النَّاسُ نَفْعَهُ وَلَمْ
يَأْمَنُوا مِنْهُ الْأَذَى لَلَئِيمُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَجْعَلْ
الْبِرَّ كَنْزَهُ وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَهُ لَعَدِيمُ .
فَصْلٌ ( أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْحِرْصِ وَمَدْحِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ
الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ
أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا } وَعَنْهُ أَيْضًا يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } وَعَنْهُ أَيْضًا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا
يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ }
رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قِصَّةِ الْبَحْرَيْنِ حَدِيثُ جَابِرٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَهُ
لَيُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ
فَذَكَرَ لِأَبِي بَكْرٍ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ إمَّا
أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي ، فَقَالَ : قُلْتَ
تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ قَالَهَا
ثَلَاثًا مَا مَنَعْتُك مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أُعْطِيَك } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ عُمَرُ { قَسَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقُلْت : يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ
خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبْخِلُونِي
وَلَسْت بِبَاخِلٍ } .
وَقَالَ أَنَسٌ { مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ } وَقَالَ جَابِرٌ { مَا
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ
فَقَالَ لَا } ، رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
وَرَوَى الثَّالِثَ
الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { السَّخِيُّ قَرِيبٌ
مِنْ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ
بَعِيدٌ
مِنْ النَّارِ ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَالِمٍ
بَخِيلٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ .
وَرَوَى أَيْضًا
وَقَالَ : غَرِيبٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { خَصْلَتَانِ لَا
يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ } وَرَوَى
أَيْضًا وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا { لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } وَأَسَانِيدُ
الثَّلَاثَةِ ضَعِيفَةٌ .
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ { انْتَهَيْت إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ
الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ قَالَ : فَجِئْت حَتَّى جَلَسْت فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْت
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ قَالَ :
الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُمْ .
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا { مَا ذِئْبَانِ
جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ
الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { يَهْرَمُ
ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ فِيهِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ ،
وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمْرِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {
قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي حُبِّ اثْنَيْنِ } وَذَكَرَ مَعْنَاهُ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَجَازٌ
وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ لِلْمَالِ
مُحْتَكِمٌ فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ
هَذَا صَوَابُهُ قَالَ وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا
يُرْتَضَى .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْجَرَّاحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ
بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ سَمِعْت
أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : { شَرُّ
مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ
وَجُبْنٌ خَالِعٌ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَصْلُ الْهَلَعِ الْجَزَعُ ،
وَالْهَالِعُ هُنَا ذُو الْهَلَعِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اُسْتُخْرِجَ
مِنْهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَلِعَ وَجَزِعَ مِنْهُ ، ،
وَالْجُبْنُ الْخَالِعُ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَخْلَعُ فُؤَادَهُ مِنْ
شِدَّتِهِ .
وَرَوَى : ثَنَا يُونُسُ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ
الْإِيمَانُ ، وَالشُّحُّ } حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ ، وَثَلَاثٌ
مُهْلِكَاتٌ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ فَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا ،
وَالْغَضَبِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ ، وَالْعَلَانِيَةِ ،
وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى ، وَالْفَقْرِ وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ
مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كَانَ يُقَالُ شِدَّةُ الْحِرْصِ مِنْ سُبُلِ
الْمَتَالِفِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ : آفَةُ الْحِرْصِ الْحِرْمَانُ
وَلَا يَنَالُ الْحَرِيصُ إلَّا حَظَّهُ ، كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
يَقُولُ : مَا بَعُدَ أَمَلٌ إلَّا سَاءَ عَمَلٌ .
وَمِنْ كَلَامِ
الْحُكَمَاءِ : الرِّزْقُ مَقْسُومٌ ، وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ ،
وَالْحَسُودُ مَغْمُومٌ ، وَالْبَخِيلُ مَذْمُومٌ وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ
أَحْمَدُ : الْحِرْصُ مِنْ شَرِّ أَدَاةِ الْفَتَى لَا خَيْرَ فِي
الْحِرْصِ عَلَى حَالِ مَنْ بَاتَ مُحْتَاجًا إلَى أَهْلِهِ هَانَ عَلَى
ابْنِ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَقَالَ آخَرُ : لَا تَحْسُدَنَّ أَخَا حِرْصٍ
عَلَى سَعَةٍ وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَاقِتِ الْقَالِي إنَّ
الْحَرِيصَ لَمَشْغُولٌ بِشِقْوَتِهِ عَلَى السُّرُورِ بِمَا يَحْوِي مِنْ
الْمَالِ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يُخَاطِبُ سَلْمَ بْنَ عَمْرٍو :
نَعَى نَفْسِي إلَيَّ مِنْ اللَّيَالِي تَصَرُّفُهُنَّ حَالًا بَعْدَ
حَالِ فَمَا لِي لَسْت مَشْغُولًا بِنَفْسِي وَمَا لِي لَا أَخَافُ
الْمَوْتَ مَا لِي لَقَدْ أَيْقَنْت أَنِّي غَيْرُ بَاقٍ وَلَكِنِّي
أَرَانِي لَا أُبَالِي
تَعَالَى اللَّهُ يَا سَلْمُ بْنَ عَمْرٍو
أَذَلَّ الْحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ هَبْ الدُّنْيَا تُسَاقُ إلَيْك
عَفْوًا أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إلَى زَوَالِ فَمَا تَرْجُو بِشَيْءٍ
لَيْسَ يَبْقَى وَشِيكًا مَا تُغَيِّرُهُ اللَّيَالِي فَلَمَّا أُبْلِغَ
سَلْمُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَلْمٍ الْخَاسِرِ كَتَبَ
إلَيْهِ : مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ يُزَهِّدُ النَّاسَ
وَلَا يَزْهَدُ لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا أَضْحَى وَأَمْسَى
بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ إنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ يَكْتَنِزُ
الْمَالَ وَيَسْتَرْفِدُ يَخَافُ أَنْ تَنْفَدَ أَرْزَاقُهُ وَالرِّزْقُ
عِنْدَ اللَّهِ لَا يَنْفَدُ الرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى
يَسْعَى لَهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ اثْنَانِ يَتَعَجَّلَانِ النَّصَبَ وَلَا يَظْفَرَانِ
بِالْبُغْيَةِ ، الْحَرِيصُ فِي حِرْصِهِ ، وَمُعَلِّمُ الْبَلِيدِ مَا
يَنْبُو عَنْهُ فَهْمُهُ .
وَأَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : أَرَاك
يَزِيدُك الْإِثْرَاءُ حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا كَأَنَّك لَا تَمُوتُ
فَهَلْ لَك غَايَةٌ إنْ صِرْت يَوْمًا إلَيْهَا قُلْت حَسْبِي قَدْ
رَضِيتُ وَقَالَ آخَرُ : الْحِرْصُ دَاءٌ قَدْ أَضَرَّ بِمَنْ تَرَى إلَّا
قَلِيلَا كَمْ مِنْ عَزِيزٍ قَدْ رَأَيْتَ الْحِرْصَ صَيَّرَهُ ذَلِيلَا
فَتَجَنَّبْ الشَّهَوَاتِ وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ لَهُ قَتِيلَا فَلَرُبَّ
شَهْوَةِ سَاعَةٍ قَدْ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلَا وَقَالَ آخَرُ :
الْحِرْصُ عَوْنٌ لِلزَّمَانِ عَلَى الْفَتَى وَالصَّبْرُ نِعْمَ
الْعَوْنُ لِلْأَزْمَانِ لَا تَخْضَعَنَّ فَإِنَّ دَهْرَك إنْ يَرَى مِنْك
الْخُضُوعَ أَمَدَّهُ بِهَوَانِ وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ :
لَمَّا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ أَصْبَحُوا وَهِمَّةُ الْإِنْسَانِ مَا
يَجْمَعُ قَنَعْت بِالْقُوتِ فَنِلْت الْمُنَى ، وَالْفَاضِلُ الْعَاقِلُ
مَنْ يَقْنَعُ وَلَمْ أُنَافِسْ فِي طِلَابِ الْغِنَى عِلْمًا بِأَنَّ
الْحِرْصَ لَا يَنْفَعُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ
الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ
الْمُؤْمِنِ
الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ
بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ قَدَّرَ اللَّهُ
وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، وَلَا تَقُلْ لَوْ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ
الشَّيْطَانِ } وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ " فَإِنَّ اللَّوَّ
تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ { كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ
بِاَللَّهِ مِنْ طَمَعٍ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَمِنْ طَمَعٍ يَقُودُ إلَى
طَمَعٍ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا شَيْءٌ أَذْهَبُ لِعُقُولِ
الرِّجَالِ مِنْ الطَّمَعِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ
الزُّبَيْرِ قَالَ لِكَعْبٍ مَا يُذْهِبُ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ
الرِّجَالِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوهُ قَالَ : الطَّمَعُ وَطَلَبُ الْحَاجَاتِ
إلَى النَّاسِ .
وَقَالَ كَعْبٌ أَيْضًا الصَّفَا الزُّلْزُلُ الَّذِي
لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ الطَّمَعُ وَقَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ : فِي الْيَأْسِ غِنًى ، وَفِي الطَّمَعِ الْفَقْرُ ،
وَفِي الْعُزْلَةِ رَاحَةٌ مِنْ خُلَطَاءِ السُّوءِ .
وَقَالَ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ : أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي
قَنَعْت لَصِرْت حُرَّا وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَا الذُّلُّ إلَّا
فِي الطَّمَعِ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمَطَامِعَ مَا
عَلِمْت مَذَلَّةٌ لِلطَّامِعِينَ وَأَيْنَ مَنْ لَا يَطْمَعُ وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : قُلُوبُ الْجُهَّالِ تُسْتَعْبَدُ بِالْأَطْمَاعِ
وَتُسْتَرَقُّ بِالْمُنَى وَتُعَلَّلُ بِالْخَدَائِعِ .
وَقَالَ آخَرُ
: لَا تَجْزَعَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مَطْلَبُهُ هَا قَدْ جَزِعْت فَمَاذَا
يَنْفَعُ الْجَزَعُ إنَّ السَّعَادَةَ يَأْسٌ إنْ ظَفِرْت بِهِ بَعْضُ
الْمِرَارِ وَإِنَّ الشِّقْوَةَ الطَّمَعُ وَقَالَ آخَرُ : اللَّهَ
أَحْمَدُ شَاكِرًا فَبَلَاؤُهُ حَسَنٌ جَمِيلُ أَصْبَحْت مَسْرُورًا
مُعَافًى بَيْنَ أَنْعُمِهِ أَجُولُ خَلْوًا مِنْ الْأَحْزَانِ خِفَّ
الظَّهْرِ يُغْنِينِي الْقَلِيلُ وَنَفَيْتُ بِالْيَأْسِ الْمُنَى عَنِّي
فَطَابَ لِي الْمَقِيلُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ
خَلِيلُ قَالُوا لِلْمَسِيحِ يَا رُوحَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ الْمَالِ
فَقَالَ
: الْمَالُ لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ ، إمَّا أَنْ
يَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ
، وَإِمَّا أَنْ يَشْغَلَهُ إصْلَاحُهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ .
قَالَ
الْحُطَيْئَةُ : وَلَسْت أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ وَلَكِنَّ
التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا مَا الْفَتَى لَمْ
يَنْعَ إلَّا لِبَاسَهُ وَمَطْعَمَهُ فَالْخَيْرُ مِنْهُ بَعِيدُ
يُذَكِّرُنِي صَرْفُ الزَّمَانِ وَلَمْ أَكُنْ لِأَهْرُبَ مِمَّا لَيْسَ
مِنْهُ مَحِيدُ فَلَوْ كُنْت ذَا مَالٍ لَقُرِّبَ مَجْلِسِي وَقِيلَ إذَا
أَخْطَأْت أَنْتَ رَشِيدُ وَقَالَ آخَرُ : ذَهَابُ الْمَالِ فِي أَجْرٍ
وَحَمْدٍ ذَهَابٌ لَا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى
عِزِّ الطَّاعَةِ أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ وَآنَسَهُ بِلَا مُؤْنِسٍ ،
وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إنَّمَا الْغِنَى
غِنَى النَّفْسِ } .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى
النَّاسِ ، وَاعْمَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَعْبَدَ
النَّاسِ ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَوْرَعَ
النَّاسِ } ، وَعَنْهُ أَيْضًا { الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ
الْعِذَارِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ } .
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ خَيْرُ الْغِنَى الْقَنَاعَةُ ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ .
وَقَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إنَّمَا الْفَقْرُ ، وَالْغِنَى بَعْدَ
الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : مَا شِقْوَةُ الْمَرْءِ
بِالْإِقْتَارِ مَقْتَرَةً وَلَا سَعَادَتُهُ يَوْمًا بِإِيسَارِ إنَّ
الشَّقِيَّ الَّذِي فِي النَّارِ مَنْزِلُهُ وَالْفَوْزُ فَوْزُ الَّذِي
يَنْجُو مِنْ النَّارِ كَانَ يُقَالُ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى ،
وَالْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ ، وَقَالُوا : حَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي
الْغِنَى ، وَالْفَقْرِ ، فَفِي الْغِنَى الْعَطْفُ ، وَالشُّكْرُ ، وَفِي
الْفَقْرِ الْعَفَافُ ، وَالصَّبْرُ وَكَانَ يُقَالُ : الْغِنَى فِي
النَّفْسِ ، وَالشَّرَفُ
فِي التَّوَاضُعِ ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى .
وَقَالَ
حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ : أَفْضَلُ بَيْتٍ فِي الشِّعْرِ قِيلَ : فِي
الْأَمْثَال : يَقُولُونَ يَسْتَغْنِي وَوَاللَّهِ مَا الْغِنَى مِنْ
الْمَالِ إلَّا مَا يُعِفُّ وَمَا يَكْفِي وَكَانَ يُقَالُ : خَصْلَتَانِ
مَذْمُومَتَانِ الِاسْتِطَالَةُ مَعَ السَّخَاءِ ، وَالْبَطَرُ مَعَ
الْغِنَى .
وَقَالَ آخَرُ : تَقَنَّعْ بِمَا يَكْفِيك وَالْتَمِسْ
الرِّضَا فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصْبِحُ أَمْ تُمْسِي فَلَيْسَ الْغِنَى
عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ إنَّمَا يَكُونُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ قِبَلِ
النَّفْسِ وَقَالَ آخَرُ : وَلَا تَعِدِينِي الْفَقْرَ يَا أُمَّ مَالِكٍ
فَإِنَّ الْغِنَى لِلْمُنْفِقِينَ قَرِيبُ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } وَقَالَ آخَرُ : أَلَمْ
تَرَ أَنَّ الْفَقْرَ يُزْرِي بِأَهْلِهِ وَأَنَّ الْغِنَى فِيهِ الْعُلَى
وَالتَّجَمُّلُ وَقَالَ آخَرُ : اسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ ذِي قُرْبَى وَذِي
رَحِمٍ إنَّ الْغَنِيَّ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ وَقَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ : لَا تَدْعُ عَلَى وَلَدِك الْمَوْتَ
فَإِنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : لَعَمْرُك إنَّ
الْقَبْرَ خَيْرٌ لِمَنْ كَانَ ذَا يُسْرٍ وَعَادَ إلَى عُسْرِ وَذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَوْلَا ثَلَاثٌ صَلُحَ النَّاسُ شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى
مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } وَخَطَبَ الزُّبَيْرُ
بْنُ الْعَوَامّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ { إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا زُبَيْرُ إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك ، وَلَا تُوكِي
فَيُوكَى عَلَيْك ، وَأَوْسِعْ يُوَسِّعْ اللَّهُ عَلَيْك ، وَلَا
تُضَيِّقْ فَيُضَيَّقْ عَلَيْك ، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَلَا يُحِبُّ الْقَتَارَ وَيُحِبُّ السَّمَاحَ
وَلَوْ عَلَى تَمْرَةٍ ، وَيُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ
حَيَّةٍ ، أَوْ عَقْرَبٍ ، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ لِلَّهِ فُضُولُ
أَمْوَالٍ سِوَى الْأَرْزَاقِ
الَّتِي قَسَمَهَا بَيْنَ الْعِبَادِ
مُحْتَبَسَةٌ عِنْدَهُ لَا يُعْطِي أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا إلَّا مَنْ
سَأَلَهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ ،
وَرُبَّمَا دَخَلَ السَّخِيُّ بِسَخَائِهِ الْجَنَّةَ .
وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا جَوَادٌ
كَرِيمٌ ، لَا يُجَاوِرُنِي فِي جَنَّتِي لَئِيمٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ
بْنُ أَبِي عَبْلَةَ : سَمِعْت أُمَّ الْبَنِينَ أُخْتَ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ تَقُولُ أُفٍّ لِلْبُخْلِ ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ
طَرِيقًا مَا سَلَكْته ، وَلَوْ ثَوْبًا مَا لَبِسْته .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ .
أَلَمْ
تَسْمَعْ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ
عَنْ بَعْضٍ } التَّحْرِيمَ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَإِنِّي لَأَرْثِي
لِلْكَرِيمِ إذَا غَدَا عَلَى طَمَعٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ
وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : مَا بِالْبَخِيلِ انْتِفَاعٌ وَالْكَلْبُ
يَنْفَعُ أَهْلَهُ فَنَزِّهْ الْكَلْبَ عَنْ أَنْ تَرَى أَخَا الْبُخْلِ
مِثْلَهُ وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ : دَخَلْت
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَنَا ضَيِّقُ
الصَّدْرِ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ شِيرَازَ لَا أَذْكُرُهُ رَحِمَهُ
اللَّهُ فَأَخَذْت يَدَهُ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ لِي ابْتِدَاءً مِنْ
غَيْرِ أَنْ أُعْلِمَهُ بِمَا أَنَا فِيهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ : لَا
يَضِيقُ صَدْرُك عِنْدَنَا ، فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مَثَلٌ يُضْرَبُ
يُقَالُ : نَخْلُ أَهْوَازِيٍّ ، وَحَمَاقَةُ شِيرَازِيٍّ ، وَكَثْرَةُ
كَلَامِ رَازِيٍّ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أُصُولُ الشَّرِّ ثَلَاثَةٌ :
الْحِرْصُ ، وَالْحَسَدُ ، وَالْكِبْرُ ، فَالْكِبْرُ مَنَعَ إبْلِيسَ
مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ ، وَبِالْحِرْصِ أُخْرِجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ ،
وَالْحَسَدُ حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ .
وَرَوَى
الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ
الشَّافِعِيِّ قَالَ : السَّخَاءُ ، وَالْكَرَمُ يُغَطِّي عُيُوبَ
الدُّنْيَا ،
وَالْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ بِدْعَةٌ
قَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ الثَّقَفِيُّ الْفَقِيهُ وَهُوَ أَخُو
جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْمُتَكَلِّمِ فَعُدْت مَعَ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ
فَأَجْمَعُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رَجُلًا صَالِحًا بَخِيلًا .
وَقَالَ
بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُزَوِّجْ
الْبَخِيلَ وَلَا تُعَامِلُهُ مَا أَقْبَحَ الْقَارِئَ أَنْ يَكُونَ
بَخِيلًا ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ .
وَقَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ : كَانَ
ذَا عَقْلٍ وَدِينٍ وَلِسَانٍ وَبَيَانٍ وَفَهْمٍ وَذَكَاءٍ وَحَزْمٍ
غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْبُخْلِ وَهُوَ دَاءٌ دَوِيٌّ
يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ " .
وَقَالَ حَاتِمٌ
الطَّائِيُّ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ : قَلِيلُ الْمَالِ
تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الْفَسَادِ وَحِفْظُ
الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ نَفَادٍ وَعَسْفٍ فِي الْبِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ
قَالَ قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَهُ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْبُخْلِ فَهَلَّا
قَالَ : فَلَا الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ قَبْلَ فَنَائِهِ وَلَا
الْبُخْلُ فِي مَالِ الْبَخِيلِ يَزِيدُ فَلَا تَلْتَمِسْ مَا لَا يَعِيشُ
مُقَتِّرًا لِكُلِّ غَدٍ رِزْقٌ يَعُودُ جَدِيدُ وَقَالَ حَاتِمٌ أَيْضًا
: لَعَمْرُك مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى إذَا حَشْرَجَتْ
يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ
وَرَائِحٌ وَيَبْقَى مِنْ الْمَالِ الْأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ وَرَوَى
أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ
عَنْ هِلَالِ بْنِ سُوَيْدٍ أَبِي الْمُعَلَّى عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ { : أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَوَائِرُ ثَلَاثٌ فَأَكَلَ طَائِرًا وَأَعْطَى خَادِمَهُ
طَائِرَيْنِ فَرَدَّهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ أَنْهَك أَنْ تَرْفَعَ
شَيْئًا لِغَدٍ ؟ إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِرِزْقِ كُلِّ غَدٍ } .
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيّ
الزَّاهِدُ
الصُّوفِيُّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِّثْنِي فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ
بِالْحَدِيثِ يَا صُوفِيُّ ؟ فَقُلْت : لَا بُدَّ حَدِّثْنِي فَحَدَّثَهُ
هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَة
هِلَالٍ حَرَّمَ أَنْ يَدَّخِرَ رِزْقَ غَدٍ وَقَالَ : لَا يُتَابَعُ
عَلَى حَدِيثِهِ .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ إسْنَادُهُ
جَيِّدٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ
رُوِيَ مُرْسَلًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِيمَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ
سَنَةٍ } قَالَ فِيهِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا
مِنْ طُولِ الْأَمَلِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلْحَاجَةِ مُسْتَحْسَنٌ
شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبُ مُوسَى عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ فِي
إخْرَاجِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا عَنْ التَّوَكُّلِ ، فَإِنْ احْتَجُّوا
بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا
يَدَّخِرُ لَغَدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنْ
الْفُقَرَاءِ فَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ
إِسْحَاق بْنُ هَانِئٍ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَلِيلُ
الْمَالِ تُصْلِحُهُ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَقِلُّ مَعَ الْإِصْلَاحِ
شَيْءٌ ، وَلَا يَبْقَى مَعَ الْفَسَادِ شَيْءٌ .
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ
عَاصِمٍ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَوَادُ سَيِّدُ قَوْمِهِ
بَنِي تَمِيمٍ الْحَلِيمُ الَّذِي قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ
التَّمِيمِيُّ مِنْهُ تَعَلَّمْت الْحِلْمَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ
تَزَوَّجَهَا جَدِيدًا وَأَحْضَرَتْ لَهُ طَعَامًا قَالَ لَهَا : أَيْنَ
أَكِيلِي فَلَمْ تَدْرِ مَا يَقُولُ لَهَا فَأَنْشَأَ يَقُولُ : إذَا مَا
صَنَعْت الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْت آكِلَهُ
وَحْدِي
أَخًا طَارِقًا أَوْ جَارَ بَيْتٍ فَإِنَّنِي أَخَافُ مَلَامَاتِ
الْأَحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مِنْ غَيْرِ
ذِلَّةٍ وَمَا فِي إلَّا ذَاكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ فَسَمِعَهُ جَارٌ
لَهُ وَكَانَ بَخِيلًا فَقَالَ : لَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرْءِ قَيْسِ
بْنِ عَاصِمٍ بِمَا قَالَ بَوْنٌ فِي الْفِعَالِ بَعِيدُ وَإِنَّا
لَنَجْفُو الضَّيْفَ مِنْ غَيْرِ قِلَّةٍ مَخَافَةَ أَنْ يُغْرَى بِنَا
فَيَعُودُ وَأَنْشَدَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّاشِيُّ : كُلُّ الْأُمُورِ
تَزُولُ عَنْك وَتَنْقَضِي إلَّا الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ لَك بَاقِ لَوْ
أَنَّنِي خُيِّرْت كُلَّ فَضِيلَةٍ مَا اخْتَرْت غَيْرَ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَدَخَلَ جَرِيرٌ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَنْشَدَهُ :
رَأَيْتُك أَمْسِ خَيْرَ بَنِي مَعْدِ وَأَنْتَ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْك
أَمْسِ وَنَبْتُكَ فِي الْمَنَابِتِ خَيْرُ نَبْتِ وَغَرْسُكَ فِي
الْمَغَارِسِ خَيْرُ غَرْسِ أَنْتَ غَدًا تَزِيدُ الضِّعْفَ ضِعْفًا
كَذَاك تَزِيدُ سَادَةَ عَبْدِ شَمْسِ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ .
وَأَنْشَدَ يَحْيَى بْنُ مَعْبَدٍ بَيْتًا فَأَمَرَ لَهُ
بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ وَهُوَ : إذَا قِيلَ مَنْ لِلْجُودِ
وَالْمَجْدِ وَالنَّدَى فَنَادِ بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَحْيَى بْنُ
مَعْبَدِ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : إذَا مَا الْمَرْءُ صِرْت إلَى
سُؤَالِهْ فَمَا تُعْطِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نَوَالِهْ وَمَنْ عَرَفَ
الْمَكَارِمَ جَدَّ فِيهَا وَحَنَّ إلَى الْمَكَارِمِ بِاحْتِيَالِهْ
وَلَمْ يَسْتَغْلِ مَحْمَدَةً بِمَالٍ وَإِنْ كَانَتْ تُحِيطُ بِكُلِّ
مَالِهْ وَلَمَّا وَلَّى الْمَنْصُورُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ
أَذْرَبِيجَانَ قَصَدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَظَرَ
إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ : إذَا
نَوْبَةٌ نَابَتْ صَدِيقَك فَاغْتَنِمْ مَرَمَّتَهَا فَالدَّهْرُ فِي
النَّاسِ قُلَّبُ فَأَحْسَنُ ثَوْبَيْك الَّذِي هُوَ لَابِسٌ وَأَفْرَهُ
مُهْرَيْك الَّذِي هُوَ يَرْكَبُ وَبَادِرْ بِمَعْرُوفٍ إذَا كُنْت
قَادِرًا زَوَالَ اقْتِدَارٍ فَالْغِنَى عَنْك يَذْهَبُ فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ أَلَا أُنْشِدُكَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا لِابْنِ هَرِمَةَ قَالَ
هَاتِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : وَلِلنَّفْسِ تَارَاتٌ يَحِلُّ بِهَا
الْعَزَاءُ
وَتَسْخُو عَنْ الْمَالِ النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ إذَا الْمَرْءُ لَمْ
يَنْفَعْك حَيًّا فَنَفْعُهُ أَقَلُّ إذَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ الصَّفَائِحُ
لِأَيَّةِ حَالٍ يَمْنَعُ الْمَرْءُ مَالَهُ غَدًا فَغَدًا وَالْمَوْتُ
غَادٍ وَرَائِحُ فَقَالَ لَهُ مَعْنُ أَحْسَنْت ، وَاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ
الشِّعْرُ لِغَيْرِك يَا غُلَامُ أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَالَ
الْغُلَامُ اجْعَلْهَا دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ .
فَقَالَ مَعْنُ ، وَاَللَّهِ لَا تَكُونُ هِمَّتُك أَرْفَعَ مِنْ هِمَّتِي يَا غُلَامُ صَفِّرْهَا لَهُ .
وَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِلْأَصْمَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَغْفَلَك عَنَّا وَأَجْفَاكَ بِحَضْرَتِنَا .
فَقَالَ
: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلَاقَتْنِي بِلَادٌ
بَعْدَك حَتَّى آتِيك فَقَالَ لِلْأَصْمَعِيِّ : مَا أَلَاقَتْنِي قَالَ :
أَمْسَكَتْنِي وَأَنْشَدَ : كَفَّاك كَفٌّ لَا تَلِيقُ دَرَاهِمًا جُودًا
وَأُخْرَى تَمُطُّ بِالسَّيْفِ الدَّمَا أَيْ : مَا تُمْسِكُ دِرْهَمًا .
فَقَالَ أَحْسَنْت وَهَكَذَا كُنَّ وُقِّرْنَا فِي الْمَلَا ، وَعَلِمْنَا فِي الْخَلَا .
وَأَمَرَ لِي بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ .
دَخَلَ
الْعَتَّابِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَنْشَدَهُ : حُسْنُ
ظَنِّي حُسْنُ مَا عَوَّدَ اللَّهُ سِوَايَ بِك الْغَدَاةَ أَتَا بِي
أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ حُسْنِ يَقِينٍ حَدَا إلَيْك رِكَابِي
فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى
فَأَنْشَدَهُ : جُودُك يَكْفِيك فِي حَاجَتِي وَرُؤْيَتِي تَكْفِيك مِنِّي
سُؤَالِي فَكَيْفَ أَخْشَى الْفَقْرَ مَا عِشْتَ لِي وَإِنَّمَا كَفَّاكَ
لِي بَيْتُ مَالِي فَأَجَازَهُ أَيْضًا ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ
الثَّالِثَ فَأَنْشَدَهُ : اُكْسُنِي مَا يَبِيدُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ
فَإِنِّي أَكْسُوكَ مَا لَا يَبِيدُ فَأَجَازَهُ وَكَسَاهُ وَحَمَّلَهُ .
وَجَاءَ
أَبُو الدِّئْلِ الْمَعْتُوهُ إلَى حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَهُوَ قَاضٍ
فَكَسَاهُ فَطَلَب مِنْهُ نَفَقَةً فَحَلَفَ حَفْصٌ مَا فِي بَيْتِي
ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ لَهُ دِينَارًا فَأَعْطَاهُ
إيَّاهُ فَقَالَ أَبُو الدِّئْلِ أَيّهَا الْقَاضِي ، وَاَللَّهِ مَا
أَجِدُ لَك مِثْلًا إلَّا قَوْلَ الشَّاعِرِ :
يُعَيِّرُنِي
بِالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا تَقَرَّضْتُ فِي أَشْيَاءَ تُورِثُهُمْ
مَجْدَا وَقَوْلُ صَاحِبِهِ : وَمَا كُنْت إلَّا كَالْأَصَمِّ بْنِ
جَعْفَرٍ رَأَى الْمَالَ لَا يَبْقَى فَأَبْقَى بِهِ حَمْدَا وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ : دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيِّ فَقَالَ أَصَلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ إنِّي قَدْ
امْتَدَحْتُك بِبَيْتَيْنِ وَلَسْت أُنْشِدُهَا إلَّا بِعَشْرَةِ آلَافٍ
وَخَادِمٍ فَقَالَ لَهُ خَالِدُ قُلْ فَأَنْشَأَ يَقُولُ : لَزِمْت نَعَمْ
حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا سِوَى
نَعَمِ وَأَنْكَرْتَ لَا حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ بِهَا فِي
سَائِرِ الدَّهْرِ وَالْأُمَمِ قَالَ وَدَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ
فِي يَوْمِ مَجْلِسِ الشُّعَرَاءِ عِنْدَهُ وَقَدْ كَانَ قَالَ فِيهِ
بَيْتَيْ شِعْرٍ امْتَدَحَهُ فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الشُّعَرَاءِ صَغُرَ
عِنْدَهُ مَا قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشُّعَرَاءُ بِجَوَائِزِهِمْ
بَقِيَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ : أَلَكَ حَاجَةٌ ؟
فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَيْنِ وَهُمَا : تَعَرَّضْتَ لِي بِالْجُودِ حَتَّى
نَعَشْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي حَتَّى ظَنَنْتُكَ تَلْعَبُ فَأَنْتَ
النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى حَلِيفُ النَّدَى مَا
لِلنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ فَقَالَ سَلْ حَاجَتَك فَقَالَ عَلَيَّ مِنْ
الدَّيْنِ خَمْسُونَ أَلْفًا ، فَقَالَ : قَدْ أَمَرْتُ لَك بِهَا
وَشَفَعْتُهَا بِمِثْلِهَا ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَهَذَا
الْعَطَاءُ وَشِبْهُهُ مِنْ الْمُلُوكِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ
وَإِلَّا فَصَاحِبُهُ مَمْدُوحٌ عُرْفًا .
وَقَدْ قَالَ أَبُو
الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ الْأَغْلَاطِ ، وَالْأَوْهَامِ الْقَبِيحَةِ الْمَدْحُ
بِمَا يُوجِبُ الذَّمَّ فَإِنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا عَنْ السَّلَاطِينِ ،
وَالْوُلَاةِ بِالْعَطَاءِ الْمُسْرِفِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
مَدَحُوهُمْ بِالْكَرَمِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ أَعْطَى حَمَّادًا الرَّاوِيَةَ لِإِنْشَادِ بَيْتٍ
جَارِيَتَيْنِ وَعَشْرَ بُدَرٍ ، وَقَالَ لَوْ كَانَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ
مَالِ نَفْسِهِ كَانَ تَبْذِيرًا
وَتَفْرِيطًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ
مِنْ مَالِهِ ؟ فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ الْمُلُوكِ
فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ ، وَالْكَرَمِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي
التَّبْذِيرِ ، وَالْإِسْرَافِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَتَثْبِيتًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أَيْ : يَنْظُرُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ الْأَمْوَالَ
وَأَيْنَ الْفُقَرَاءُ عَنْهَا وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَ وَجَدْت
الْأَمْوَالَ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَصُرِفَتْ فِي غَيْرِ
حَقِّهَا ، وَخَرَجَتْ عَنْ نِيَّاتٍ فَاسِدَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ .
وَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ : عَجَبًا لِلْبَخِيلِ الْمُتَعَجِّلِ لِلْفَقْرِ الَّذِي
مِنْهُ هَرَبَ ، وَالْمُؤَخِّرِ لِلسَّعَةِ الَّتِي إيَّاهَا طَلَبَ ،
وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ بَيْنَ هَرَبِهِ وَطَلَبِهِ ، فَيَكُونُ عَيْشُهُ فِي
الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ ، وَحِسَابُهُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ
الْأَغْنِيَاءِ ، مَعَ أَنَّك لَمْ تَرَ بَخِيلًا إلَّا غَيْرُهُ أَسْعَدُ
بِمَالِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُهْتَمٌّ بِجَمْعِهِ وَفِي
الْآخِرَةِ آثِمٌ بِمَنْعِهِ وَغَيْرُهُ آمِنٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ
هَمِّهِ ، وَنَاجٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ إثْمِهِ .
وَمِنْ مَنْثُورِ كَلَامِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ بَشِّرْ مَالَ الْبَخِيلِ بِحَادِثٍ أَوْ وَارِثٍ .
وَمِنْ
مَنْظُومِهِ : يَا مَالَ كُلِّ جَامِعٍ وَحَارِثِ أَبْشِرْ بِرَيْبٍ
حَادِثٍ أَوْ وَارِثِ وَقَالَ غَيْرُهُ : كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا
تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا وَغَيْرُهَا بِاَلَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
وَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ فِي أَبْيَاتِهِ
الَّتِي يَحُثُّ فِيهَا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَلَا يُضَيِّعُهُ يَوْمًا
عَلَى حَالٍ ، مِنْهَا : إنِّي مُقِيمٌ عَلَى الزَّوْرَاءِ أَعْمُرُهَا
إنَّ الْكَرِيم عَلَى الْأَقْوَامِ ذُو الْمَالِ كُلُّ النِّدَاءِ إذَا
نَادَيْتُ يَخْذُلُنِي إلَّا نِدَائِي إذَا نَادَيْتُ يَا مَالِي وَقَالَ
الشَّاعِرُ : وَإِنِّي لَأَجْتَازُ الْقُرَى طَاوِيَ الْحَشَا مُحَاذَرَةً
مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ الرِّوَايَةُ بِضَمِّ لَامِ يُقَالُ .
وَمَدْحُ الْكَرَمِ وَذَمُّ الْبُخْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قَالَ
ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَيْحَكَ مَا تَصْنَعُ بِادِّخَارِ مَالٍ لَا يُؤَثِّرُ
حَسَنَةً فِي صَحِيفَةٍ ، وَلَا مَكْرُمَةً فِي تَارِيخٍ ؟ أَمَا سَمِعْت
بِإِنْفَاقِ أَبِي بَكْرٍ وَبُخْلِ ثَعْلَبَةَ أَمَا رَأَيْتَ مَآثِرَ
مَدْحِ حَاتِمٍ وَبُخْلَ الْحَبَابِ وَيْحَك لَوْ ابْتَلَاكَ فِي مَالِكَ
بِقِلَّةٍ اسْتَغَثْتَ ، أَوْ فِي بَدَنِكَ لَيْلَةً بِمَرَضٍ شَكَوْتَ .
إنَّمَا نُرِيدُ كَمَالَ مُرَادِك فَأَنْتَ تَسْتَوْفِي مَطْلُوبَاتِك مِنْهُ وَلَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ عَلَيْك .
{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ
قِيلَ : مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضَوْا وَمَضَوْا وَمَاتَتْ
مِنْ بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ وَخَلَّفُونِي فِي قَوْمٍ ذَوِي
سَفَهٍ لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا وَقَدْ سَبَقَ
مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ
قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ خَمْسِ كَرَارِيسَ أَوْ سِتَّةٍ وَقَبْلَهُ
بِيَسِيرٍ طَلَبُ الْحَاجَاتِ مِنْ النَّاسِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ : أَجْمَعَتْ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : وَهِيَ
لَا تُحَمِّلْ قَلْبَكَ مَا لَا يُطِيقُ وَلَا تَعْمَلْ عَمَلًا لَيْسَ
لَك فِيهِ مَنْفَعَةٌ ، وَلَا تَثِقَنَّ بِامْرَأَةٍ ، وَلَا تَغْتَرَّ
بِمَالٍ وَإِنْ كَثُرَ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ تَمَامُ
الْمُرُوءَةِ أَنْ تُرَاعِيَ وَرَثَةَ مَنْ كُنْتَ تُرَاعِيهِ
وَتَخْلُفُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كُنْت تُرَاعِيهِمْ حَالَ حَيَاتِهِ
لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ إرْعَائِهِ وَلَا تُوهِمْهُمْ أَنَّ
الْمَنْزِلَةَ سَقَطَتْ بِمَوْتِ كَاسِبِهِمْ ، وَفِّرْ الْإِكْرَامَ
عَلَى الْأَيْتَامِ لِتَشُوبَ مَرَارَةَ يُتْمِهِمْ حَلَاوَةُ
التَّحَنُّنِ .
كَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُذْهِبُونَ حُزْنَ
الْأَيْتَامِ ، وَالْأَرَامِلِ وَيُزِيلُونَ ذُلَّ الْيَتِيمِ بِأَنْوَاعِ
الْبِرِّ حَتَّى صَارُوا كَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ لِلْيَتِيمِ لَا
يَتْرُكُونَهُ يُضَامُ وَيَتَنَاضَلُونَ عَنْهُ ، وَفِي الْجُمْلَةِ
الْكِرَامُ لَا يَبِينُ بَيْنَهُمْ يُتْمُ أَوْلَادِ الْجِيرَانِ وَلَا
النَّازِلُ مِنْ الْقَاطِنِينَ .
فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ
فِي كَسْبِ الْحَمَّامِيِّ وَلْنَذْكُرْ الْآنَ حُكْمَ الْحَمَّامِ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ فَنَقُولُ بَيْعُ الْحَمَّامِ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ
وَبِنَاؤُهُ مَكْرُوهٌ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا
لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا
يَجُوزُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرِهَا وَدُخُولِهَا النِّسَاءَ .
وَفِي
مَجْمُوعِ أَبِي حَفْصٍ فِي الْإِجَارَةِ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
الْكَحَّالُ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ حَمَّامٌ تُقِيمُهُ
غَلَّتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ قَالَ لَا يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ
حَمَّامٌ يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَقَارٌ وَيَهْدِمُ الْحَمَّامَ ،
ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ : وَكَذَلِكَ الْأَبْنِيَةُ
الْمُصَوَّرَةُ كَنَائِسَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ
لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ
الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ عَلَى مَنْفَعَةٍ
مُبَاحَةٍ مِثْلُ الْحَرِيرِ الْمُفَصَّلِ لِلرِّجَالِ ، وَخَاتَمِ
الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَلِلرَّجُلِ دُخُولُهُ بِإِزَارٍ إذَا أَمِنَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ ذَكَرَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَابْنُ تَمِيمٍ .
وَقَالَ
فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ غَالِبًا ، وَإِنْ
خَافَ ذَلِكَ كُرِهَ لِأَنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ
يُوَاقِعَهُ وَإِنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَيَتَوَجَّهُ التَّحْرِيمُ إنْ ظَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْذُورِ ،
وَقَدْ قَالَ فِي الشَّرْعِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ عَلِمْت أَنَّ
كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إزَارٌ فَادْخُلْهُ وَإِلَّا فَلَا
تَدْخُلْ وَكَذَا أَحْوَالُ الْمَرْأَةِ إنْ دَخَلَتْهُ لِحَيْضٍ ، أَوْ
نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ لِخَوْفِ
تَغَسُّلِهَا فِي الْبَيْتِ ، أَوْ تَعَذُّرِهِ فِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ
عَلَيْهَا دُخُولُهُ ، وَاخْتَارَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ ،
وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
اعْتَادَتْ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا
تَرْكُ دُخُولِهِ إلَّا
لِعُذْرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُهُ ، وَلَا تَتَعَرَّى مُسْلِمَةٌ
بِحَضْرَةِ ذِمِّيَّةٍ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ، وَقِيلَ : لِلْمَرْأَةِ
دُخُولُهُ فِي قَمِيصٍ .
خَفِيفٍ تَصُبُّ الْمَاءَ فَوْقَهُ وَقِيلَ : هَذَا فِي حَمَّامِ الزَّبُونِ لَا فِي حَمَّامِ بَيْتِهَا .
فَصْلٌ
فِي أَحْكَامٍ وَآدَابٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحَمَّامِ ) وَلَا بَأْسَ
بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ
وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ وَقِيلَ : يُكْرَهُ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ
الْقَادِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُكْرَهُ لَهُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعِ
الْمِهَنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَالْحَمَّامِ وَالْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَدْ
تَقَدَّمَ حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ
بِمَاءِ الْحَمَّامِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ تَارَةً يَغْتَسِلُ مِنْ
الْأُنْبُوبِ ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ نَجِسَةٌ وَلَا إنَاءَ مَعَهُ
أَخَذَ الْمَاءَ بِفِيهِ وَغَسَلَهَا .
وَقَالَ فِي الشَّرْحِ رُوِيَ
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
الْأُنْبُوبَةِ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَقَدْ قَالَ
أَحْمَدُ عِنْدِي مَاءُ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْجَارِي وَهَلْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُهُ مَنْ يَتَحَرَّى وَمَنْ لَا
يَتَحَرَّى وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ
الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ( وَالثَّانِي ) لَا يُكْرَهُ لِكَوْنِ
الْأَصْلُ طَهَارَتُهُ فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي شَكَكْنَا فِي
نَجَاسَتِهِ كَذَا .
قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا
مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَمُقْتَضَى الْخِلَافِ فِيهِ أَنْ يَجْرِيَ فِي
كُلِّ مَاءٍ مَشْكُوكٍ فِي نَجَاسَتِهِ .
وَيُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَدُخُولُ الْمَاءِ بِلَا مِئْزَرٍ وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ .
وَهَلْ يَحْرُمُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ خَلْوَةً لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ يُكْرَهُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ قَدَّمَ ابْنُ تَمِيمٍ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ ، وَيُبَاحُ كَشْفُهَا لِخِتَانٍ وَتَدَاوٍ وَمَعْرِفَةِ بُلُوغٍ وَبَكَارَةٍ وَوِلَادَةٍ وَعَيْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ ابْن
الْجَوْزِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ وَيُكْرَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ
قَرِيبًا مِنْ الْغُرُوبِ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فَإِنَّهُ وَقْتُ
انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ .
وَرُوِيَ
عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ صَالِحٌ كَانَ
أَبِي يَتَنَوَّرُ فِي الْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ لِي يَوْمًا أُرِيدُ
أَنْ أَدْخُلَ الْحَمَّامَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَوْمًا شَتْوِيًّا
قُلْ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ فَقُلْت لَهُ فَلَمَّا كَانَ الْمَغْرِبُ
قَالَ : ابْعَثْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إنِّي قَدْ صُرِفَتْ عَنْ
الدُّخُولِ ، وَتَنَوَّرَ فِي الْبَيْتِ .
فَصْلٌ ( دُخُولُ الْحَمَّامِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ وَالطِّلَاءُ بِالنُّورَةِ فِيهِ وَفِي الْبَيْتِ ) .
يُسَنُّ
فِي الْجَنَابَةِ وَقِيلَ فِي الْوُضُوءِ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ
تَقْدِيمُ يُسْرَاهُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ وَالْمُغْتَسَلِ
وَنَحْوِهِمَا ، وَالْأَوْلَى فِي الْحَمَّامِ أَنْ يَغْسِلَ إبِطَيْهِ
وَقَدَمَيْهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ دُخُولِهِ ، وَيَلْزَمَ الْحَائِطَ
وَيَقْصِدَ مَوْضِعًا خَالِيًا وَلَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْتِ الْحَارِّ
حَتَّى يَعْرَقَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَيُقَلِّلَ الِالْتِفَاتَ .
وَلَا
يُطِيلَ الْمُقَامَ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ
عِنْدَ خُرُوجِهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّهُ
يُذْهِبُ الصُّدَاعَ .
وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَ زَوْجَتِهِ
وَأَمَتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يَحْلِقَ عَانَتَهُ وَيَنْتِفَ إبِطَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ النُّورَةَ
فِي ذَلِكَ فَحَسَنٌ قَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَوَّرُ وَكَانَ إذَا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا
بِنَفْسِهِ } .
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ إذَا بَلَغَ مُرَاقَهُ
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَوَّرَ فِي
الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَدَنِهِ قَمِيصًا ، أَوْ دُونَهُ ،
وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطْلِيَهُ غَيْرَهُ فِيمَا عَدَا الْعَوْرَةِ .
وَقَدْ
عَمِلَ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
النَّيْسَابُورِيُّ ، نَوَّرْنَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ فَلَمَّا بَلَغَ
عَانَتَهُ نَوَّرَهَا بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ :
أَصْلَحْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّورَةَ غَيْرَ مَرَّةٍ
وَاشْتَرَيْت لَهُ جِلْدًا لِيَدِهِ فَكَانَ يَدْخُلُ فِيهِ وَيُنَوِّرُ
نَفْسَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ،
وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَنَوَّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَطْلِي جَمِيعَ جَسَدِهِ قَمِيصًا
وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَسَرْوَلُ ، وَأَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ
وَدَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ قَالَتْ : لَهُ لَمْ يَمَسَّنِي حَدِيدٌ قَطُّ ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلشَّيَاطِينِ اُنْظُرُوا إلَى شَيْءٍ يُذْهِبُ الشَّعْرَ فَقَالُوا : النُّورَةُ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ .
وَذَكَرَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ أَنَّ فِي
الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ فَوَائِدَ مِنْهَا أَنَّهَا تَثُورُ
الْأَخْلَاطَ وَتَجْذِبُهَا وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِيَ بِهَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي إزَارٍ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً اسْتَغْنَى
بِذَلِكَ عَنْ الْفَصْدِ ، وَالْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الْمُسَهِّلِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِالنُّورَةِ يَسِيرٌ مِنْ شَحْمِ الْحَنْظَلِ
لِيَأْمَنَ الْحَكَّةَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيَطْلِيَ بَعْدَهَا
بِالْحِنَّاءِ ، وَالْعُصْفُرِ لِتَبْرِيدِ الْبَدَنِ وَإِذْهَابِ
الْكَلَفِ الْحَادِثِ بِإِبْرَازِهَا الْأَخْلَاطَ إلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ
وَذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَذَكَرَ بَعْضَهُ غَيْرُهُ .
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ فِي الْعِلَلِ قَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ حَدِيثِ كَامِلِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ
عَنْ رَجُلٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ
لِأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ { مَا أَطْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ
قَتَادَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَكُنْ يَطْلِي وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ .
} رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَسْنَدَهُ كَامِلُ بْنُ الْعَلَاءِ وَأَرْسَلَهُ مِنْ نَاسٍ أَوْثَقَ مِنْهُ .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيَّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ عَنْ
ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَنَوَّرُ } قَالَ وَلَيْسَ
بِالْمَعْرُوفِ بَعْضُ رِجَالِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي
الْفُصُولِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ النُّورَةِ ، وَالْمُوسَى فِي حَلْقِ
الشَّعْرِ ، فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنَسٌ { لَمْ
يَتَنَوَّرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ
وَكَانَ إذَا كَثُرَ عَلَيْهِ