الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ
فَصْلٌ ( يَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ فِي ذِكْرِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) .
رَوَى
أَبُو دَاوُد ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
بِشْرٍ ثَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ ، } كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ أَيْضًا ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْبَيْهَقِيُّ
وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ يَعْنِي السَّمَّ أَظُنُّهُ أَحْمَدَ وَابْنُ
مَاجَهْ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ خَبِيثٍ كَالسَّمِّ وَنَحْوِهِ } .
وَرَوَى
سَعِيدٌ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُسْكِرِ { أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ
شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُخَارِقٍ .
وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَسَّانِ بْنِ مُخَارِقٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
مَرْفُوعًا وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ { أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ
الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الْخَمْرِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ
فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ ، وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ أَصْحَابِهِمْ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ
التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّارِعُ التَّدَاوِيَ
بِالْمُحَرَّمَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ إلَّا لِخُبْثِهِ لَا
عُقُوبَةً .
وَقَدْ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ : إنَّهُ دَاءٌ
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ دَوَاءٌ وَلَا نَفْعَ فِيهِ ؟
وَإِنْ كَانَ أَعْقَبَ الْبَدَنَ ، وَالرُّوحَ ، وَالطَّبِيعَةَ ،
وَالْقَلْبَ خُبْثًا وَضَرَرًا أَكْثَرَ مِمَّا حَصَلَ بِهِ مِنْ
النَّفْعِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَعَاطِيهِ
لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَهُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَالذَّرَائِعُ
مُعْتَبَرَةٌ
، وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ إمْسَاكِ الْخَمْرِ لِتُتَّخَذَ خَلًّا ، وَلِأَنَّ مِنْهَا مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ فَلَا تَنْبَعِثُ الطَّبِيعَةُ لِمُسَاعَدَتِهِ فَيَبْقَى كَلًّا عَلَيْهَا .
وَقَدْ قَالَ أَبُقْرَاطُ : ضَرَرُ الْخَمْرِ بِالرَّأْسِ شَدِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ الِارْتِفَاعَ إلَيْهِ وَتُرْفَعُ بِارْتِفَاعِهِ الْأَخْلَاطُ الَّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ وَهُوَ لِذَلِكَ يَضُرُّ بِالذِّهْنِ وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ : إنَّ خَاصِّيَّةَ الشَّرَابِ الْإِضْرَارُ بِالدِّمَاغِ ، وَالْعَصَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : كَانَ
عَلِيٌّ يَكْرَهُ الْحُقْنَةَ .
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَّا لَيْثًا فَإِنَّهُ مُضَعَّفٌ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ .
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا الْحُقْنَةَ .
وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسُئِلَ عَنْ الْحُقْنَةِ فَقَالَ : هِيَ سُنَّةُ الْمُشْرِكِينَ .
وَرَوَى
أَيْضًا حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ فِي الْحُقْنَةِ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ دَاءٌ ، وَاحْتَجَّ
الْقَاضِي لِلْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ الْحُقْنَةِ بِمَا رَوَى وَكِيعٌ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
الْحُقْنَةِ ، } وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ
وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَأَلَهُ
رَجُلٌ أَحْتَقِنُ قَالَ : لَا تُبْدِي الْعَوْرَةَ وَلَا تَسْتَنَّ
بِسُنَّةِ الْمُشْرِكِينَ .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
الْحُقْنَةُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي : وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ
الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَخَّصَ
فِي الْحُقْنَةِ .
وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ
عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا { خَيْرُ دَوَاءٍ الْحِجَامَةُ ، وَالْفَصْدُ ،
وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ } وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ
أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { بَعَثَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَكَوَاهُ
وَفَصَدَهُ فِي الْعِرْقِ } وَقَالَ أَحْمَدُ : أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ
كُلُّهُمْ يَقُولُونَ كَوَاهُ وَفَصَدَهُ فِي الْعُرُوقِ وَرُوِيَ أَيْضًا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : قَطْعُ
الْعُرُوقِ مَسْقَمَةٌ ، الْحِجَامَةُ خَيْرٌ مِنْهُ } قَالَ الْقَاضِي :
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَيْ
بَأْسًا أَنْ تُعَوِّذَ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ .
وَرَوَى
أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { :
مَرِضَ الْحَسَنُ بْنَ عَلِيٍّ فَعَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَهُ مَوْعُوكًا فَانْكَبَّ عَلَيْهِ
يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي فَهَبَطَ جِبْرِيلُ فَقَالَ : هَذِهِ هَدِيَّةٌ
مِنْ اللَّهِ لَك وَلِأَهْلِ بَيْتِك .
فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ أَنْ يَكْتُبَ فَدَعَا بِجَامٍ وَعَسَلِ نَحْلٍ فَقَالَ :
اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ } .
ثُمَّ دَعَا بِمَاءِ مَطَرٍ فَغَسَلَهُ وَسَقَاهُ
فَبَرِئَ مِنْ سَاعَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَعَاشِرَ أُمَّتِي هَذِهِ هَدِيَّةُ اللَّهِ فَتَدَاوَوْا
بِهَا } وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى أَنْ { يَكْتُبَ لِابْنَتِهِ مِنْ
الْحُمَّى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ الْحَمْدُ
لِلَّهِ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدُ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ
سُورَةَ الْفَلَقِ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ
سُورَةَ النَّاسِ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
، ثُمَّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ الْحَمْدُ ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، ثُمَّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ، ثُمَّ يَكْتُبُ بَعْدَ هَذَا بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِشْرِينَ مَرَّةً ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ
وَيَسْقِيهِ
الْمَرِيضَ عَلَى الرِّيقِ فَإِنْ عَادَتْ فَعَاوِدْهَا الثَّانِيَةَ
فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ الثَّالِثَةَ أَبَدًا } وَقَوْلُهُ ، " ثُمَّ
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ثُمَّ الْحَمْدُ ، ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ " أَيْ الْفَاتِحَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا مِنْ الْحُمَّى ، وَالْأَوْجَاعِ بِسْمِ اللَّهِ
الْكَبِيرِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ
نَعَّارٍ وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ : كَانَ يُعَلِّمُهُمْ رُقَى
الْحُمَّى وَمِنْ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا ، وَذَكَرَهُ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ
بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَضَعَّفَهُ
أَيْضًا غَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَيْسَ
بِقَوِيٍّ .
نَعَرَ الْعِرْقُ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الدَّمِ حَتَّى عَلَا وَخَرَجَ نَعُورَةً وَنَعُورًا إذَا ضُرِّيَ دَمُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ .
وَعَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ
قُرْحَةٌ أَوْ وَجَعٌ قَالَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ
سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ رَفَعَهَا وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ
تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ
رَبِّنَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلِابْنِ
مَاجَهْ فِي أَوَّلِهِ كَانَ مِمَّا يَقُولُهُ لِلْمَرِيضِ بِبُزَاقِهِ
بِإِصْبَعِهِ وَذَكَرَهُ .
وَلِأَبِي دَاوُد كَانَ يَقُولُ
لِلْإِنْسَانِ إذَا اشْتَكَى نَفَثَ بِرِيقِهِ ، ثُمَّ قَالَ بِهِ فِي
التُّرَابِ " تُرْبَةُ أَرْضِنَا " وَذَكَرَهُ ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ
الْأَرْضِ وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ لِبَرَكَتِهَا ، وَالرِّيقَةُ
أَقَلُّ مِنْ الرِّيقِ .
وَهَذَا عِلَاجٌ مُرَكَّبٌ سَهْلٌ فَإِنَّ
الْقُرُوحَ ، وَالْجِرَاحَ يَتْبَعُهَا غَالِبًا سُوءُ مِزَاجٍ
وَرُطُوبَةٌ رَدِيئَةٌ وَسَيَلَانٌ ، وَالتُّرَابُ الْخَالِصُ طَبِيعَتُهُ
بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ فَوْقَ بَرْدِ كُلِّ دَوَاءٍ
بَارِدٍ مُفْرَدٍ
فَتُقَابِلُ بُرُودَتُهُ تِلْكَ الْحَرَارَةَ وَيُبْسُهُ تِلْكَ
الرُّطُوبَةَ وَيَعْدِلُ مِزَاجَ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ فَتَقْوَى
قُوَّتُهُ الْمُدَبِّرَةُ فَتَدْفَعُ أَلَمَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَنْضَمُّ مَعَ ذَلِكَ .
هَذَا الْكَلَامُ الْمُتَضَمِّنُ لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ .
وَلِبَعْضِ
التُّرَابِ خَاصِّيَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا قَالَ
جَالِينُوسُ : رَأَيْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَطْحُولِينَ
وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيُطْلُونَ بِهِ
عَلَى سُوقِهِمْ وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ
وَأَضْلَاعِهِمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيِّنَةً قَالَ :
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطِّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ
الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهِّلَةِ ، وَالرِّخْوَة قَالَ : وَإِنِّي
لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهَّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلُّهَا مِنْ كَثْرَةِ
اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ مِنْ سُفْلٍ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطِّينِ نَفْعًا
بَيِّنًا ، وَقَوْمًا آخَرِينَ شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً
كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَمْكِينًا شَدِيدًا
فَبَرِئَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا .
وَقَالَ الْمَسِيحِيُّ : قُوَّةُ
الطِّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ كُبْرُسَ وَهِيَ جَزِيرَةُ الْمُصْطَكَى
قُوَّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ وَتُنْبِتُ اللَّحْمَ فِي الْقُرُوحِ
وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ فَمَا ظَنُّك بِتُرْبَةِ خَيْرِ الْأَرْضِ
خَالَطَتْ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
الطِّبِّ الْإِلَهِيِّ مِنْهُ .
وَعَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ .
يَمْسَحُ
بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ
الْبَأْسَ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا
يُغَادِرُ سَقْمًا } وَفِي لَفْظٍ { كَانَ يَرْقِي يَقُول : امْسَحْ
الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِك الشِّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا
أَنْتَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلِابْنِ مَاجَهْ كَانَ إذَا أَتَى الْمَرِيضَ دَعَا لَهُ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ .
وَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ : اشْتَكَيْت .
فَقَالَ : أَلَا
أَرْقِيك بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ : { وَقَعَتْ الْقِدْرُ عَلَى يَدِي
فَأَحْرَقَتْ يَدِي فَانْطَلَقَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَتْفُلُ عَلَيْهَا وَيَقُولُ ثُمَّ
ذَكَرَ مَعْنَاهُ ، } وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ
مَيْمُونَةَ قَالَتْ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي أَلَا أَرْقِيَك بِرُقْيَةِ
رَسُولِ اللَّهِ قُلْت بَلَى .
قَالَتْ : { بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك
وَاَللَّهُ يَشْفِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ ، أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ
النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ }
رَوَاهُمَا أَحْمَدُ .
وَدَخَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ثَابِتِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَ : { اكْشِفْ الْبَأْسَ
رَبَّ النَّاسِ عَنْ ثَابِتٍ ، ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ
فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ ، ثُمَّ نَفَثَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيْهِ
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَيْضًا هُوَ ، وَالنَّسَائِيُّ فِي
الْيَوْمِ ، وَاللَّيْلَةِ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ : مُنْكَرُ
الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا { مَنْ اشْتَكَى مِنْكُمْ
شَيْئًا أَوْ اشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ كَمَا
رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَك فِي
الْأَرْضِ ، وَاغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا ، أَنْتَ رَبُّ
الطَّيِّبِينَ فَأَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِك وَرَحْمَةً مِنْ
رَحْمَتِك عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ } .
وَعَنْ أَبِي
سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْجَانِّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ
فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا
سِوَاهُمَا } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ
اشْتَكَيْتَ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ يُؤْذِيكَ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنٍ ، بِسْمِ اللَّهِ
أَرْقِيكَ وَاَللَّهُ يَشْفِيكَ } .
{ وَرَقَى رَجُلٌ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ لَدِيغًا عَلَى قَطِيعٍ مِنْ غَنَمٍ فَبَرِئَ فَذَكَرُوا
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَمَا
يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا
} رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ {
أَنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } وَرَقَى
بِهَا رَجُلٌ عَلَى مَجْنُونٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً
يَجْمَعُ بُزَاقَهُ ، ثُمَّ يَتْفُلُ فَبَرَأَ فَأَعْطَوْهُ جُعْلًا ،
فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { كُلْ
فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ
حَقٍّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ وَجَعٍ
وَمَرَضٍ .
وَفِي مُسْلِمٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ .
}
الْحُمَّةُ ذَوَاتُ السَّمُومِ كُلِّهَا ، ، وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ
تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ سُمِّيَ نَمْلَةً ؛ لِأَنَّهُ يُحِسُّ بِهِ
كَنَمْلَةٍ تَدِبُّ عَلَيْهِ وَتَعَضُّهُ وَلِأَبِي دَاوُد { لَا رُقْيَةَ
إلَّا فِي عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ } ، وَالْمُرَاد بِهِ إنْ صَحَّ إنَّهُمَا
أَوْلَى بِالرُّقْيَةِ مِنْ غَيْرهمَا بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ وَلِأَبِي
دَاوُد عَنْ أَنْسَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : لَا
رُقْيَة إلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ دَمٍ يُرْقَأُ } .
فَصْل
( فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِمَاءِ زَمْزَم وَالْآثَارِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
وَالتَّبَرُّكِ بِهِمَا وَمَا يَنْفَعُ لِعُسْرِ الْوِلَادَةِ ،
وَالْعَقْرَبِ ) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : رَأَيْتُ أَبِي غَيْرَ مَرَّةٍ يَشْرَبُ زَمْزَمَ يَسْتَشْفِي بِهِ وَيَمْسَحُ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ .
وَرَأَيْتُ
أَبِي يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ فَيُقَبِّلُهَا ، وَأَحْسَبُ أَنِّي
رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ ،
ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهَا .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مَاءً مِنْ مَاءِ
زَمْزَمَ فِي الْقَوَارِيرِ ، وَتَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ } ، وَبِإِسْنَادِهِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى سَهْلِ بْنِ
عَمْرٍو يَسْتَهْدِيهِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَبَعَثَ إلَيْهِ
بِرَاوِيَتَيْنِ } وَبِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ { وَضَعَ يَدَهُ
عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ } .
وَرَوَى أَبُو
مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا عَسِرَ عَلَى
الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا أُخِذَ إنَاءٌ نَظِيفٌ فَيُكْتَبُ : { كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } وَ { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا }
إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَ { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ } إلَى آخِرِهَا ، ثُمَّ يُغْسَلُ فَتُسْقَى
الْمَرْأَةُ وَيُنْضَحُ عَلَى بَطْنِهَا مِنْهُ وَوَجْهِهَا قَالَ صَالِحٌ
: لِأَبِيهِ يُكْتَبُ الشَّيْءُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قِرْطَاسٍ وَيُدْفَنُ
لِلْآبِقِ قَالَ : لَا بَأْسَ } .
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَدَعَا بِمِلْحٍ
وَمَاءٍ فَجَعَلَهُ فِي إنَاءٍ ، ثُمَّ جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى أُصْبُعِهِ
حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ
،
} وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : {
بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي أُصْبُعِهِ فَانْصَرَفَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ
الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ : ثُمَّ دَعَا
بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللَّدْغَةِ فِي
الْمَاءِ ، وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حَتَّى سَكَنَتْ } .
هَذَا عِلَاجٌ مُرَكَّبٌ
مِنْ إلَهِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ فَإِنَّ شُهْرَةَ فَضَائِلِ هَذِهِ السُّوَرِ
مِنْ التَّوْحِيدِ مَعْرُوفٌ غَيْرُ خَافٍ .
وَأَمَّا الْمِلْحُ
فَفِيهِ نَفْعُ كَثِيرٍ مِنْ السَّمُومِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُسَخَّنُ ، يُوضَعُ عَلَيْهَا مِرَارًا وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : مَعَ بِزْرِ كَتَّانٍ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَشَيْءٍ مِنْ
لَبَنِ شَجَرِ التِّينِ .
وَالْمِلْحُ يَجْذِبُ السَّمَّ وَيُحَلِّلُهُ
بِقُوَّتِهِ الْجَاذِبَةِ الْمُحَلِّلَةِ ، وَفِي الْمَاءِ تَبْرِيدُ
لِنَارِ اللَّدْغَةِ فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا عِلَاجٌ تَامٌّ
سَهْلٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَاجَهُ بِالتَّبْرِيدِ ،
وَالْجَذْبِ ، وَالْإِخْرَاجِ ، وَلِهَذَا بَدَأَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ
بِشَرْطِ مَوْضِعِ اللَّدْغَةِ وَحَجْمِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
فَالْمِلْحُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
الْحِجَامَة وَلَعَلَّهَا لَمْ تَتَيَسَّر فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَوْ
قَصَدَ الْأَسْهَلَ ، وَالدَّوَاءُ الْإِلَهِيُّ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ
وَأَشْرَفُ مِنْ الدَّوَاءِ الطَّبِيعِيِّ .
وَلِهَذَا قَدْ يَمْنَعُ
الْإِلَهِيُّ وُقُوعَ السَّبَبِ وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَكْمُلْ تَأْثِيرُهُ
فَهُوَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيُزِيلُ الْمَرَضَ ، وَالدَّوَاءُ
الطَّبِيعِيُّ لَا أَثَر لَهُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الدَّاءِ وَذَلِكَ
مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ هُنَا وَفِيمَا
يَقُولهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ ، وَالْمَسَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ فِي عِلَاجِ الِاحْتِرَاقِ وَالْكَيِّ : يُبَرَّدُ بِخِرْقَةٍ بُلَّتْ بِمَاءِ الْوَرْدِ الْمُبَرَّدِ بِالثَّلْجِ وَمِمَّا يُسَكِّنُ الْوَجَعَ بَيَاضُ الْبَيْضِ الرَّقِيقِ إذَا دُهِنَ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَبُلَّتْ بِهِ خِرْقَةٌ وَوُضِعَتْ عَلَيْهِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَلْيَضَعْ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ وَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } } .
فَصْلٌ ( فِيمَا يُسَكِّنُ الْفَزَعَ ) .
عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : جَاوَرْتُ
بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ
بَطْنَ الْوَادِي فَنُودِيت فَنَظَرْت أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي
وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ نُودِيت فَنَظَرْت فَلَمْ
أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ نُودِيت فَرَفَعْت رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى
الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي
فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً } رَوَاهُ مُسْلِمُ .
وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَعِنْدَهُ { فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي
وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ } } .
إنَّهُ فِيهِ يُسْتَحَبُّ مِثْل هَذَا لِمَنْ
حَصَلَ لَهُ فَزَعٌ وَخَوْفٌ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ أَنَّهُ
يَنْبَغِي أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْفَزِعِ الْمَاءُ لِيَسْكُنَ فَزَعُهُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاضْمُمْ إلَيْكَ
جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ } .
الْمَعْنَى اُضْمُمْ يَدَك إلَى صَدْرِك
لِيَذْهَب عَنْك الْخَوْفُ قَالَ مُجَاهِدٌ : كُلُّ مَنْ فَزِعَ فَضَمَّ
جَنَاحَهُ إلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْفُنُونِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ كَانَ هَارِبًا
مِنْ عَدُوِّهِ فَلْيَكْتُبْ بِسَوْطِهِ بَيْنَ أُذُنَيْ دَابَّتِهِ : {
لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى } أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ
الْخَوْفِ .
فَصْلٌ ( فِي فَائِدَةِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْخُمُودِ وَالْحُمَّى ) .
ذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيث مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ { أَنَّ قَوْمًا مَرُّوا بِشَجَرَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا
فَكَأَنَّمَا مَرَّتْ بِهِمْ رِيحٌ فَأَخْمَدَتْهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَرِّسُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ
وَصُبُّوا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ } قَرِّسُوا الْمَاء
يَعْنِي بَرِّدُوا الْمَاءَ ، وَالْقَرْسُ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ يُقَال
لَيْلَةٌ ذَاتُ قَرْسٍ أَيْ بَرْدٍ قَرَسَ يَقْرِسُ قَرْسًا اشْتَدَّ
وَفِيهِ لُغَةٌ قَرَسَ الْبَرْدُ قَرَسَا ، وَالْبَرْدُ الْيَوْمُ قَارِسٌ
وَقَرِيسٌ ، وَلَا تَقُلْ قَارِصٌ ، ، وَالشِّنَانُ الْأَسْقِيَةُ ،
وَالْقِرَبُ الْخَلِقَاتُ ، يُقَال لِلسِّقَاءِ شَنٌّ وَلِلْقِرْبَةِ
شَنَّةٌ ، وَإِنَّمَا الشِّنَانُ دُونَ الْجُدُدِ ؛ لِأَنَّهَا أَشَدّ
تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَوْلُهُ " بَيْنَ
الْأَذَانَيْنِ " يَعْنِي أَذَانَ الْفَجْرِ ، وَالْإِقَامَةِ .
قَالَ
بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ : هَذَا مِنْ أَفْضَلِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ إذَا
كَانَ وُقُوعُهُ بِالْحِجَازِ وَهِيَ بِلَادٌ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ ،
وَالْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ سُكَّانِهَا وَصَبُّ
الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ
أَبْرَدُ أَوْقَاتِ الْيَوْمِ يُوجِبُ جَمْعَ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ
الْمُنْتَشِرِ فِي الْبَدَنِ الْحَامِلِ لِجَمِيعِ قُوَاهُ فَتَقْوَى
الْقُوَّةَ الدَّافِعَةَ وَتَجْتَمِعُ مِنْ أَقْطَارِ الْبَدَنِ إلَى
بَاطِنِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ ذَلِكَ الدَّاءِ وَيَسْتَظْهِرُ بِبَاقِي
الْقُوَى عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ
اللَّهِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَ مَا دَخَلَ إلَى بَيْتِهَا وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ { : أَهْرِيقُوا
عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي
أَعْهَدُ إلَى النَّاسِ قَالَتْ : فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ
لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
طَفِقْنَا نَصُبُّ
عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ، وَخَرَجَ يُشِيرُ إلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ } .
فَصْلٌ ( فِي خَوَاصِّ الشُّونِيزِ وَهِيَ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ ) .
فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ فِي الْحَبَّةِ
السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ } السَّامُ
الْمَوْتُ ، ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ .
التَّفْسِيرُ عِنْد الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَى الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
وَذَكَرَ
ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ : " عَلَيْكُمْ
بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا
فَاسْحَقُوهَا ، ثُمَّ اُقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي
هَذَا الْجَانِب وَهَذَا الْجَانِبِ " .
الْمُرَادُ بِهِ الْعِلَلُ
الْبَارِدَةُ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يَصِفُ وَيَقُولُ بِحَسَبِ
حَالِ مَنْ شَاهَدَهُ ، وَالشُّونِيزُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ
مُقَطِّعٌ لِلْبَلْغَمِ مُحَلِّلُ الرِّيَاحِ يَقْلَعُ الثَّآلِيلَ ،
وَالْبَهَقَ ، وَالْبَرَصَ وَيَنْفَعُ مِنْ الزُّكَامِ الْبَارِدِ
وَخُصُوصًا مَقْلُوًّا مَجْعُولًا فِي خِرْقَةِ كَتَّانٍ وَيُطْلَى عَلَى
جَبْهَةِ مَنْ بِهِ صُدَاعٌ بِمَاءِ بَارِدٍ وَيَفْتَحُ سَدَدَ الصَّفَاةِ
، وَالسُّعُوطُ بِهِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمَاءِ وَشُرْبُهُ يَمْنَعُ
مِنْ انْتِصَابِ النَّفَسِ وَيَقْتُلُ الدِّيدَانَ لَوْ طُلِيَ عَلَى
السُّرَّةِ ، وَيُدِرُّ الْحَيْضَ ، وَاللَّبَنَ ، وَبِالْمَاءِ ،
وَالْعَسَلِ لِلْحَصَاةِ وَيُحِلُّ الْحُمِّيَّاتِ الْبَلْغَمِيَّةَ ،
وَالسَّوْدَاوِيَّةَ وَدُخَانُهُ يَهْرُبُ مِنْهُ الْهَوَامُّ ، وَإِذَا
نُقِعَ مِنْهُ سَبْعُ حَبَّاتٍ عَدَدًا فِي لَبَنِ امْرَأَةٍ وَسَعَطَ
بِهِ صَاحِبُ الْيَرَقَانِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا .
وَإِذَا
ضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْخَلِّ قَلَعَ الْبُثُورَ ، وَالْجَرَبَ
الْمُتَقَرِّحَ وَحَلَّلَ الْأَوْرَامَ الْبَلْغَمِيَّةَ الْمُزْمِنَةَ ،
وَالْأَوْرَامَ الصُّلْبَةَ ، وَيَنْفَعُ مِنْ اللِّقْوَةِ ، وَالْفَالِجِ
إذَا سُعِطَ بِدُهْنِهِ ، وَإِنْ شُرِبَ مِنْهُ نِصْفُ مِثْقَالٍ إلَى
مِثْقَالٍ نَفَعَ مِنْ لَسْعِ الرُّتَيْلَاءِ ، وَإِنْ سُحِقَ وَاسْتُفَّ
بِمَاءٍ بَارِدٍ دِرْهَمَانِ مِنْ عَضَّةِ
الْكَلْبِ قَبْلَ أَنْ
يَفْرُغَ مِنْ الْمَاءِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا وَقِيلَ الْإِكْثَارُ
مِنْهُ قَاتِلٌ وَإِنْ أُذِيبَ الأنزروت بِمَاءٍ وَلُطِّخَ عَلَى دَاخِلِ
الْحَلْقَةِ ، ثُمَّ ذُرَّ عَلَيْهَا الشُّونِيزُ كَانَ عَجَبًا فِي
النَّفْعِ مِنْ الْبَوَاسِيرِ وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَارَةً
مُنْفَرِدًا وَتَارَةً مُرَكَّبًا .
قَالَ بَعْضُهُمْ : الرَّمَدُ
حَارٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ وَيُرَكَّبُ السُّكَّرُ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْمُفْرَدَاتِ الْحَارَّةِ مَعَ الأنزروت ، وَيَنْفَعُ الْكِبْرِيتُ
الْحَارُّ جِدًّا مِنْ الْجَرَبِ وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْقَانُونِ
وَغَيْرُهُ الزَّعْفَرَانَ فِي قُرْصِ الْكَافُورِ لِسُرْعَةِ تَنْفِيذِهِ
وَإِيصَالِهِ قُوَّتَهُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ هِيَ الشُّونِيزُ فِي
لُغَةِ الْفُرْسِ وَهِيَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ وَسُمِّيَ الْكَمُّونَ
الْهِنْدِيَّ ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ
ثَمَرَةُ الْبُطْمِ ، وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا
الْخَرْدَلُ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
فَصْلٌ ( أَدْوِيَةُ الْأَطِبَّاءِ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَأَدْوِيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الرُّوحَانِيَّةُ ) .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الْأَدْوِيَةُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ ،
وَالدُّعَاءُ ، وَالرُّقَى أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ حَتَّى قَالَ
أَبُقْرَاطُ : نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ
كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا .
وَقَدْ يَحْصُلُ
الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ
فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقَوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَالظَّاهِرُ إنْ لَمْ يَكُنْ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا
أَرَادَ بِالْهَيَاكِلِ طَائِفَةً مِنْ الْأَطِبَّاءِ لَمْ يُرِدْ بِهِ
طِبَّ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : طِبُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى
طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَطِبِّ الطَّرْقِيَّة بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّهِمْ
وَإِنَّ نِسْبَةَ طِبِّهِمْ إلَى طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةِ
عُلُومِهِمْ إلَى عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ لِأَنَّ طِبَّ الْأَنْبِيَاءِ
وَحْيٌ قَطْعِيٌّ وَطِبُّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ هُوَ قِيَاسٌ
وَقِيلَ تَجْرِبَةٌ وَقِيلَ هُمَا وَقِيلَ إلْهَامٌ وَمَنَامٌ وَحَدْسٌ ،
وَقِيلَ أُخِذَ بَعْضُهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ لَكِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ قَصْدُهُمْ
الْأَكْبَرُ غَيْرُ هَذَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَرَضِ ، وَأَمَّا
الْأَطِبَّاءُ فَأَفْنَوْا الْأَعْمَارَ فِي هَذَا الْعَرَضِ مَعَ
الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَحْصُلُوا عَلَى طَائِلٍ
وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُ بَعْضُ الْمَرْضَى بِطِبِّ النُّبُوَّةِ لِعَدَمِ
تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ أَوْ عَدَمِ
اسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ الْمُنَاسِبِ ، وَمَعْلُومٌ
أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا .
وَالْعُدُولُ
عَنْهُ إلَى بَعْضِ أَدْوِيَةٍ مُعْتَادَةٍ يَحْسُنُ الظَّنُّ بِهَا
أَوْجَبَ ذَلِكَ سُوءَ الظَّنِّ أَوْ عَدَمَ التَّلَقِّي بِالْقَبُولِ
فَامْتَنَعَ الشِّفَاءُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَعَ شِدَّة قَبُولِ
الطَّبِيعَةِ وَفَرَحِ النَّفْسِ تَنْتَعِشُ الْقُوَّةُ وَيَنْبَعِثُ
الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ فَيَحْصُلُ التَّسَاعُدُ
عَلَى الْمَرَضِ
وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَلِهَذَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَانَ يَتَلَطَّف بِالْمَرِيضِ فَتَارَةً يَضَعُ
يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَتَارَةً
تَوَضَّأُ وَصَبَّ عَلَيْهِ وُضُوءَهُ وَتَارَةً يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ
وَعَمَّا يَشْتَهِيهِ وَيُعَلِّمُهُ دُعَاءً يُوَافِقُهُ } .
وَمِنْ
ذَلِكَ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى
الْمَرِيضِ فَانْفُثُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ
شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ
التَّيْمِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ أَنَّهُ
فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ لَكِنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَتَحْدُثُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ وَتَتَحَيَّرُ الْأَطِبَّاءُ فِي
عِلَاجِهَا وَعِلَاجُهَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ
الْقَطْعِيِّ مَوْجُودًا لَا يُسْتَعْمَلُ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَغَلَبَةِ
الْعَوَائِدِ الْحَادِثَةِ وَقَدْ قِيلَ : وَمِنْ الْعَجَائِبِ
وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ قُرْبُ الشِّفَاءِ وَمَا إلَيْهِ وُصُولُ
كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا وَالْمَاءُ فَوْقَ
ظُهُورِهَا مَحْمُولُ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ { خَيْرُ
الدَّوَاءِ الْقُرْآنُ } .
فَصْلٌ ( فِي وَصَايَا صِحِّيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ ) .
قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ : وَرَوَى
النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ
: مَنْ ابْتَدَأَ غَدَاءَهُ بِالْمِلْحِ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ
دَائِهِ ، وَمَنْ أَكَلَ إحْدَى وَعُشْرِينَ زَبِيبَةً كُلَّ يَوْمٍ لَمْ
يَرَ فِي جَوْفِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ ، وَاللَّحْمُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ ،
وَالثَّرِيدُ طَعَامُ الْعَرَبِ ، وَلَحْمُ الْبَقَرِ دَاءٌ ، وَلَبَنُهَا
شِفَاءٌ ، وَسَمْنُهَا شِفَاءٌ ، وَالشَّحْمُ يُخْرِجُ مِثْلَهُ مِنْ
الدَّاءِ قَالَ النَّزَّالُ : أَظُنُّهُ يُرِيدُ شَحْمَ الْبَقَرِ .
وَعَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا اُسْتُشْفِيَ بِأَفْضَلَ مِنْ
السَّمْنِ ، وَالسَّمَكِ يُذِيبُ الْبَدَنَ أَوْ قَالَ الْجَسَدَ وَلَمْ
تَسْتَشْفِ النُّفَسَاءُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ الرُّطَبِ ، وَالسِّوَاكِ
وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يُذْهِبَانِ الْبَلْغَمَ ، وَمَنْ أَرَادَ
الْبَقَاءَ وَالْإِبْقَاءَ ، فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ ، وَلِيُخَفِّفْ
الرِّدَاءَ ، وَلْيُقْلِلْ غَشَيَانَ النِّسَاءِ قِيلَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خِفَّةُ الرِّدَاءِ قَالَ : قِلَّةُ الدَّيْن .
وَسُئِلَ
الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ طَبِيبُ الْعَرَبِ مَا الدَّوَاءُ الَّذِي لَا
دَاءَ فِيهِ قَالَ : هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ بَطْنَك طَعَامًا وَفِيهِ
طَعَامٌ وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الطَّعَامُ إلَيْك
وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ وَيُرْفَعَ عَنْك وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ قَالَ :
ثَلَاثَةٌ تَقْتُلُ الْحَمَّامُ عَلَى الْكِظَّةِ ، وَالْجِمَاعُ عَلَى
الْبِطْنَةِ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ أَكْلِ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ .
وَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَر وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى أَحَدٍ :
ثَلَاثَةٌ تُهْرِمُ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ ، الْجِمَاعُ عَلَى الِامْتِلَاءِ
، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ عَلَى الْبِطْنَةِ ، وَأَكْلُ الْقَدِيدِ
الْيَابِسِ ، وَثَلَاثَةٌ تُفْسِدُ الذِّهْنَ : الْهَمُّ ، وَالْوَحْدَةُ
، وَالْفِكْرَةُ ، وَثَلَاثَةٌ يَفْرَحُ بِهِنَّ الْجَسَدُ وَيَرْبُو ،
الطِّيبُ ، وَالثَّوْبُ اللَّيِّنُ وَشُرْبُ الْعَسَلِ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ : ذَكَرْت عَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ
وَقُرُونًا
بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا كَانَتْ فِيهِمْ الْأَدْوَاءُ ، وَكَانَتْ فِيهِمْ
الْأَطِبَّاءُ فَلَا الْمُدَاوَى بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوِي وَقِيلَ
لِلرَّبِيعِ فِي عِلَّتِهِ : أَلَا نَدْعُو لَك طَبِيبًا ؟ فَقَالَ
الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي .
وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : إنَّ
الطَّبِيب بِطِبِّهِ وَدَوَائِهِ لَا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَكْرُوهٍ أَتَى
مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي قَدْ كَانَ يُبْرِئُ مِثْلَهُ
فِيمَا مَضَى وَقَالَ آخِرٌ : كَمْ مِنْ عَلِيلٍ قَدْ تَخَطَّاهُ الرَّدَى
فَنَجَا وَمَاتَ طَبِيبُهُ وَالْعُوَّدُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
نَعَى لَك ظِلَّ الشَّبَابِ الْمَشِيبُ وَنَادَتْك بِاسْمِ سِوَاك
الْخُطُوبُ وَقَبْلَك دَاوَى الْمَرِيضَ الطَّبِيبُ يَخَافُ عَلَى
نَفْسِهِ مَنْ يَتُوبُ فَكَيْفَ تُرَى حَالُ مَنْ لَا يَتُوبُ
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ سَبِّ الْحُمَّى وَتَكْفِيرِهَا لِلذُّنُوبِ كَغَيْرِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَعِلَاجِهَا ) .
عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ
الْمُسَيِّبِ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ
الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ ؟ فَقَالَتْ : الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ
فِيهَا فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا
بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } رَوَاهُ
مُسْلِمٌ " تُزَفْزِفِينَ " تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً سَرِيعَةً
وَمَعْنَاهُ تَرْتَعِدُ وَهُوَ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَالرَّاءِ
الْمُكَرَّرَةِ ، وَالْفَاءِ الْمُكَرَّرَةِ ، وَرُوِيَ أَيْضًا
بِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ ، وَالْقَافَيْنِ وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ :
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ تَبًّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ
وَمُوَدِّعِ قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا مَاذَا تُرِيدُ
فَقُلْت أَلَّا تَرْجِعِي وَلَا مَنْ قَالَ : زَارَتْ مُكَفِّرَةُ
الذُّنُوبِ لِصَبِّهَا أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ قَالَتْ
وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت أَلَّا
تُقْلِعِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ ارْتَكَبَ النَّهْيَ عَنْ سَبِّهَا ،
وَالثَّانِي تَرَكَ الْأَمْرَ بِسُؤَالِ الْعَفْوِ ، وَالْعَافِيَةِ
وَأَرَادَ بَقَاءَ الْمَرَضِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
كَانَ يَقُولُ اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ وَلِأَحْمَدَ ، وَالْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ
أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ
كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا } .
وَلِأَحْمَدَ عَنْ شَدَّادٍ
أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ : اُشْكُرْ كَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ
وَحَطَّ الْخَطَايَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إنِّي إذَا
ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا
ابْتَلَيْتُهُ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ
أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا } وَفِيهِ رَاشِدُ بْنُ دَاوُد الصَّنْعَانِيُّ
وَهُوَ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ مُرْسَلًا { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ
مَلَكَيْنِ فَقَالَ اُنْظُرُوا مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ ؟ فَإِذَا
هُوَ إذَا جَاءَهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى
اللَّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ : إنَّ لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ
تَوَفَّيْتُهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ
أُبَدِّلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ ،
وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث أَبِي
أُمَامَةَ { الْحُمَّى كِيرُ جَهَنَّمَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا
كَانَ حَظُّهُ مِنْ النَّارِ } وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ هَذَا
الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَلِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ
وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ
بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ
وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ
عُمَر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ
الْحُمَّى أَوْ شِدَّةُ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا
بِالْمَاءِ } فَيْحُ جَهَنَّمَ شِدَّة لَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا وَكَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ
فَإِنَّ شَدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } قِيلَ هُوَ دَقِيقَةٌ
وَأُنْمُوذَجٌ مِنْ جَهَنَّمَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ الْعِبَادُ وَقَدَّرَ
اللَّهُ ظُهُورَهُ بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَلِهَذَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي مُسْلِمٍ { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا
فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ فَشَبَّهَ هَذَا
بِفَيْحِ جَهَنَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ أَجَارَنَا
اللَّهُ ، وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا .
وَقَوْلُهُ " أَبْرِدُوهَا
بِالْمَاءِ " الْأَفْصَحُ أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ هَمْزَةِ وَصْلٍ مِنْ بَرُدَ
الشَّيْءُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُقَالُ بَرَدْتُهُ أَنَا فَهُوَ مَبْرُودٌ
وَبَرَّدْتُهُ تَبْرِيدًا يُقَالُ بَرَدْتُ الْحُمَّى أَبْرُدُهَا بَرْدًا
كَقَتَلْتُهَا قَتْلًا أَيْ أَسْكَنْتُ حَرَارَتهَا ، وَقِيلَ هُوَ
رُبَاعِيٌّ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ
أَبْرَدَ الشَّيْء إذَا صَيَّرَهُ بَارِدًا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ
لُغَةٌ رَدِيئَةٌ .
ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، وَالْأَصَحُّ كُلُّ مَاءٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ .
وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَسْمَاءَ كَانَتْ تَفْعَلُهُ بِالنِّسَاءِ وَتَحْتَجُّ بِالْخَبَرِ .
وَعَنْ
سَعِيدٍ الشَّامِيِّ هُوَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا {
إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ الْحُمَّى فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنْ
النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَلِيَسْتَقْبِلْ
نَهْرًا جَارِيًا يَسْتَقْبِلُ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَيَقُولُ بِسْمِ
اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَك ، بَعْدَ صَلَاةِ
الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَيَنْغَمِسُ فِيهِ ثَلَاثَ
غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي ثَلَاثٍ فَخَمْسٌ
فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٌ ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي
سَبْعٍ فَتِسْعٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُجَاوِزُ التِّسْعَ بِإِذْنِ
اللَّهِ } سَعِيدٌ رَوَاهُ عَنْهُ اثْنَانِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ
وَقِيلَ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ .
وَقِيلَ الصَّدَقَةُ بِالْمَاءِ ،
وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَمَا ،
وَالَاهُمْ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحُمَّى الْعَارِضَةُ لَهُمْ عَنْ شِدَّةِ
الْحَرِّ فَيَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ غَسْلًا وَشُرْبًا ،
لِأَنَّهَا بِمُجَرَّدِ كَيْفِيَّةٍ حَارَّةٍ فَتَزُولُ بِكَيْفِيَّةٍ
بَارِدَةٍ تُسَكِّنُهَا بِلَا حَاجَةٍ إلَى اسْتِفْرَاغِ مَادَّةٍ أَوْ
انْتِظَارِ نُضْجٍ ، فَإِنَّ الْحُمَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ
حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ وَتُبَثُّ مِنْهُ
بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ ، وَالدَّمِ
فِي الشَّرَايِين ، وَالْعُرُوقِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ فِيهِ اشْتِعَالًا يُضِرُّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ .
ثُمَّ
الْحُمَّى عَرَضِيَّةٌ وَمَرَضِيَّةٌ ، فَالْعَرَضِيَّةُ حَادِثَةٌ عَنْ
حَرَارَةِ الشَّمْسِ أَوْ شِدَّةِ غَيْظٍ أَوْ وَرَمٍ أَوْ حَرَكَةٍ
وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْمَرَضِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَادَّةٍ
أُولَى مِنْهَا تُسَخِّنُ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ
تَعَلُّقِهَا بِالرُّوحِ سُمِّيَتْ حُمَّى يَوْمٍ لِزَوَالِهَا غَالِبًا
فِي يَوْمٍ وَغَايَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ
تَعَلُّقِهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمِّيَتْ عَفِنَةً وَهِيَ صَفْرَاوِيَّةٌ
وَسَوْدَاوِيَّةٌ وَبَلْغَمِيَّةٌ وَدَمَوِيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ
تَعَلُّقُهَا بِالْأَعْضَاءِ الصُّلْبَةِ الْأَصْلِيَّةِ سُمِّيَتْ حُمَّى
دَقٍّ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَادَ بِالْخَبَرِ أَنْوَاعُ الْحُمَّى .
وَقَدْ
ذَكَرَ جَالِينُوسُ أَنَّ الشَّابَّ الْحَسَنَ اللَّحْمِ الْخِصْبِ
الْبَدَنِ وَلَا وَرَمَ فِي أَحْشَائِهِ إنْ اسْتَحَمَّ بِمَاءٍ بَارِدٍ
أَوْ سَبَحَ فِيهِ انْتَفَعَ بِهِ وَقَالَ وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِذَلِكَ
وَقَالَ غَيْرُهُ إذَا كَانَتْ الْقَوَى قَوِيَّةً ، وَالْحُمَّى حَارَّةً
جِدًّا ، وَالنَّضْجُ بَيِّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ
يَنْفَعُ الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا ، وَإِنْ كَانَ خِصْبَ الْبَدَنِ ،
وَالزَّمَانُ حَارٌّ وَكَانَ مُعْتَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْبَارِدِ مِنْ
خَارِجٍ فَلْيُؤْذَنْ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَنْتَفِعُ الْبَدَنُ
بِالْحُمَّى انْتِفَاعًا لَا يَبْلُغُهُ الدَّوَاءُ فَتَكُونُ حُمَّى
يَوْمٍ وَحُمَّى الْعَفِنَةِ سَبَبًا لِإِنْضَاجِ مَوَادَّ غَلِيظَةٍ لَا
تَنْضَجُ بِدُونِهَا ، وَسَبَبًا لِتَفَتُّحِ سُدَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا
الْأَدْوِيَةُ وَتُبْرِئُ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الرَّمَدِ وَتَنْفَعُ مِنْ
الْفَالِجِ ، وَاللَّقْوَةِ ، وَالشَّنَجِ الِامْتِلَائِيِّ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ
الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْمَادِحِ ، وَالْمَمْدُوحِ
فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصغاني عَنْ
مُعَاوِيَةَ يَعْنِي بْنَ عُمَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ يَعْنِي
الْفَزَارِيِّ عَنْ
الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ قَالَتْ : { أَتَانَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ
مِرَارًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَرَجَعَ فَقَالَ سَعْدٌ ائْتِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَأَخْبِرِيهِ إنَّمَا سَكَتْنَا عَنْك رَجَاءَ أَنْ
تَزِيدَنَا فَأَتَيْتُهُ ، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ عِنْدَهُ إذْ جَاءَ
شَيْءٌ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ مِلْدَمٍ
قَالَ لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا أَتَنْهَدِينَ إلَى أَهْلِ قُبَاءَ ؟
قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي إلَيْهِمْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ
يَعْلَى بْن عُبَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ وَفِيهِ أَنَّ أُمَّ طَارِقٍ
قَالَتْ سَمِعْت صَوْتًا عَلَى الْبَابِ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ مَنْ أَنْتِ
؟ وَلَيْسَ فِيهِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا
وَذَكَرَ مَعْنَى أَوَّلِ الْخَبَرِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَ السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ فَسَلَّمَ ثَلَاثًا } فَهَذَا الْخَبَرُ إنْ صَحَّ فَلَا
يُعَارِضُ الْخَبَرَ السَّابِقَ ، لِأَنَّ السَّابِقَ أَصَحُّ وَلَا
تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وَأُمُّ مِلْدَمٍ كُنْيَةُ الْحُمَّى ، وَالْمِيمُ
الْأُولَى مَكْسُورَةٌ زَائِدَةٌ وَأَلْدَمَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى دَامَتْ
.
وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ الْحُمَّى اسْتَأْذَنَتْ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ أَمَرَ
بِهَا إلَى أَهْلِ قُبَاءَ فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ
فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ فَقَالَ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ
أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكْشِفَهَا عَنْكُمْ ، وَإِنْ
شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَوَتَفْعَلُ قَالَ نَعَمْ قَالُوا فَدَعْهَا } .
فَصْلٌ ( فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَعِلَاجِهِ ) .
الْقُلُوبُ
تَمْرَضُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ وَعِلَاجُهَا فِي كُتُبِ
الْأَطِبَّاءِ وَتَمْرَضُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالشُّكُوكِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } تَمْرَضُ الْقُلُوبُ بِالشَّهَوَاتِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } .
أَيْ
فُجُورٌ وَهُوَ شَهْوَةُ الزِّنَا ، وَعِلَاجُ ذَلِكَ اتِّبَاعُ كِتَابِ
اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْبَاطِنَةِ وَتَرْكِ
الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْبَاطِنَةِ فَالْقُلُوبُ كَثِيرَةُ
التَّقَلُّبِ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ } .
وَقَالَ { مَا مِنْ قَلْبٍ
إلَّا وَهُوَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ
كَيْفَ يَشَاءُ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ
يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ ، وَصَلَاحُ الْقُلُوبِ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ ،
وَفَسَادُهَا رَأْسُ كُلِّ شَرٍّ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا
صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ
فَسَادَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ .
وَاعْلَمْ
أَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ
، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشِّفَاءِ مَا لَا
يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَقْوَى بِذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ
أَنَّ النَّفْسَ مَتَى قَوِيَتْ وَقَوِيَتْ الطَّبِيعَةُ تَعَاوَنَا عَلَى
فِعْلِ الدَّاءِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ زَوَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَمِثْلُ
هَذَا مَعْلُومٌ مُجَرَّبٌ مَشْهُورٌ ، وَلَا يُنْكِرهُ إلَّا جَاهِلٌ
أَوْ بَعِيدٌ عَنْ اللَّهِ .
فَصْلٌ ( فِي الْعِشْقِ وَأَسْبَابِهِ وَعِلَاجِهِ ) .
الْعِشْقُ
دَاءٌ صَعْبٌ وَمَرَضٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَهُوَ فَرْطُ الْحُبِّ وَقَدْ
عَشِقَهُ عِشْقًا مِثْل عَلِمَهُ عِلْمًا وَعَشَقًا أَيْضًا عَنْ
الْفَرَّاءِ ، وَالْعَشَقَةُ نَبْتٌ يَصْفَرُّ كُلُّهُ وَيَذْبُلُ بِهِ
شُبِّهَ الْعَاشِقُ وَرَجُلٌ عَشَقٌ مِثْلُ فَسَقٍ أَيْ كَثِيرُ الْعِشْقِ
عَنْ يَعْقُوبَ .
وَالتَّعَشُّقُ تُكَلَّفُ الْعِشْقِ قَالَ الْفَرَّاءُ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ مُحِبٌّ لِزَوْجِهَا وَعَاشِقٌ .
وَالْعِشْقُ
الطَّوِيلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُثْقَلٍ وَلَا ضَخْمٍ مِنْ قَوْمٍ عَانِقَةٌ
، وَالْمَرْأَةُ عِشْقَةٌ وَقَدْ يَقْتُلُ الْعِشْقُ صَاحِبَهُ .
وَقَدْ
صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِهِ مِنْ
الشُّهَدَاءِ .
وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الضَّعِيفَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ
شَهِيدًا } لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ
الْجَنَائِزِ فِي عَدَدِ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
التَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا
لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .
إنَّهُ الْمَحَبَّةُ ، وَالْعِشْقُ ،
وَمَاتَ بِهِ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ
ثَعْلَبُ أَنْشَدَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبُّ
عَلَاقَةٍ وَحُبُّ تِمْلَاقٍ وَحَبٌّ هُوَ الْقَتْلُ وَيُقَالُ
تَمَلَّقَهُ وَتَمَلَّقَ لَهُ تَمْلِيقًا وَتَمَلُّقًا أَيْ تَوَدَّدَ
إلَيْهِ وَتَلَطَّفَ لَهُ ، وَلَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ غَالِبًا إلَّا
مَنْ غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }
يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ سَبَبٌ لِدَفْعِ السُّوءِ ،
وَالْفَحْشَاءِ فَالْقَلْبُ إذَا امْتَلَأَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَحْلَاهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَتَغَذَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ .
قَالَ فِي الْفُنُونِ قَالَ
بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ لَيْسَ الْعِشْقُ مِنْ أَدْوَاءِ الْحُكَمَاءِ إنَّمَا هُوَ
مِنْ أَمْرَاضِ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا دَأْبَهُمْ
وَلَهْجَتَهُمْ مُتَابَعَةَ النَّفْسِ وَإِرْخَاءً عَنْ الشَّهْوَةِ
وَإِفْرَاطَ النَّظَرِ فِي الْمُسْتَحْسَنَاتِ مِنْ الصُّوَرِ ،
فَهُنَالِكَ تَتَقَيَّدُ النَّفْسُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَتَأْنَسُ ، ثُمَّ
تَأْلَفُ ، ثُمَّ تَتُوقُ ، ثُمَّ تَتَشَوَّقُ ، ثُمَّ تَلْهَجُ فَيُقَالُ
عَشِقَ ، وَالْحَكِيمُ مَنْ اسْتَطَالَ رَأْيُهُ عَلَى هَوَاهُ
وَتَسَلَّطَتْ حِكْمَتُهُ أَوْ تَقْوَاهُ عَلَى شَهْوَتِهِ ، فِرْعُونَاتُ
نَفْسِهِ مُقَيَّدَةٌ أَبَدًا ، كَصَبِيٍّ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ أَوْ
عَبْدٍ بِمَرْأَى سَيِّدِهِ وَمَا كَانَ الْعِشْقُ إلَّا لِأَرْعَنَ
بَطَّالٍ ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَشْغُولٍ وَلَوْ بِصِنَاعَةٍ أَوْ
تِجَارَةٍ فَكَيْفَ بِعُلُومٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ ؟ فَإِنَّهَا
صَارِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَيْضًا الْأَبْدَانُ الْمُدَلَّلَةُ
تَسْتَحِيلُ تُرَابًا وَفِي تَدَرُّجِهَا تَسْتَحِيلُ دَمًا وَقَيْحًا
وَمِدَّةً ، فَلَوْ فَكَّرَ الْعَاشِقُ فِي حَالِ الْمَعْشُوقِ فَتَرَ
عِشْقُهُ وَقَالَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ أَوْحَشَنَا فُلَانُ ، الْوَحْشَةُ
انْقِبَاضٌ فِي الْقَلْبِ لِفَقْدِ الْمَأْلُوفِ ، وَحَدُّ الْأُنْسِ
انْبِسَاطُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتِهِ إلَى مَحْسُوسٍ ، وَحَدُّ
الْقَلَقِ تَتَابُعُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ لِمُزْعِجٍ ، ، وَالْوَجِيبُ
أَشَدُّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ ، ، وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ
وَدَعَتُهُ ، وَالتَّشَفِّي دَرْكُ الْقَلْبِ غَرَضَهُ مِنْ الِانْتِقَامِ
، وَالْغَيْظُ أَخْفَاهُ طَلَبُ الِانْتِقَامِ لِلْعَجْزِ عَنْ إيقَاعِهِ
، ، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِسَاءَةِ ، ،
وَالْهَيَمَانُ الذَّهَاب فِي طَلَب غَرَضٍ لَا غَايَةَ لَهُ ، ،
وَالْكَلَفُ الشَّغَفُ ، وَاللَّهَجُ تَطَلُّبُ الْغَرَضِ ،
وَالْحَمَاقَةُ إهْمَالُ قَوَانِينِ الْحِكْمَةِ ، ، وَالتَّمَنِّي
تَطَوُّحٌ بِالْأَمَلِ ، ، وَالشَّرَهُ إسْرَافُ الطَّبْعِ فِي
الْمَطْلُوبِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَ الصَّابِئِ الْكَاتِبِ :
وَقَالُوا أَفِقْ مِنْ لَذَّةِ السُّكْرِ وَالصِّبَا فَقَدْ بَانَ صُبْحٌ
فِي دُجَاك عَجِيبُ فَقُلْت أَخِلَّائِي دَعُونِي
وَلَذَّتِي
فَإِنَّ الْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ وَطَرِيقُ عِلَاجِهِ
الْبُعْدُ عَنْ الْمَعْشُوقِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ
كَلَامَهُ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَاءٌ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر : تَزَوَّدْت
مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ سَاعَةٍ فَمَا زَادَ إلَّا ضِعْفَ مَا بِي
كَلَامُهَا وَالتَّفَكُّرُ فِي مَسَاوِيهِ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِ ، وَقَدْ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ : الِاطِّلَاعُ عَلَى
بَعْضِ الْعُيُوبِ يَقْدَحُ فِي الْمَحَبَّةِ .
وَالنَّظَرُ فِي
عَاقِبَةِ الْمَعَاصِي وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ الذُّلِّ ،
وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا
يُؤْثِرُ لَذَّةَ سَاعَةٍ بِعُقُوبَةِ سَنَةٍ ، كَمَا لَا يُؤْثِرُ مَا
يُسَاوِي دِرْهَمًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِينَارًا ، بَلْ إيثَارُ مَا
يُسَاوِي دِينَارًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا شَأْنُ الْعُقَلَاءِ
الْعَارِفِينَ ، وَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ لَذَّةَ سَاعَةٍ عَلَى فَوَاتِ
نَعِيمٍ مِنْ صِفَتِهِ " مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ
وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " ؟ نَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْتَهُ فَاتَ حَسْبُ بَلْ مَعَ
فَوَاتِهِ يَحْصُلُ لَهُ ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ وَوَهَنٌ فِي الْبَدَن
وَسَوَادٌ فِي الْوَجْهِ وَضِيقٌ فِي الرِّزْقِ وَبَغْضَةٌ فِي قُلُوبِ
النَّاسِ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَوْ تَرَكَ هَذِهِ اللَّذَّةَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ
كَانَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَاسْتَحَقَّ عَكْسَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ،
وَتَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ يَجِدُ حَلَاوَتَهَا كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَسْتَحِقُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ اللَّذَّة مَعَ مَا سَبَقَ
مِنْ الصِّفَاتِ سَخَطَ الرَّحْمَنِ وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَدُخُولَ دَارِ
الذُّلِّ ، وَالْهَوَانِ وَهِيَ جَهَنَّمُ أَعَاذَنَا اللَّهُ
وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ { سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ
النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ } .
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ : وَإِنَّكَ مَهْمَا
تُعْطِ
بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا
وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَظَمَتِهِ وَنِعَمِهِ
الَّتِي لَا تُحْصَى وَأَنَّ مَعَ هَذَا كَيْفَ يُعْصَى وَيُخَالَفُ
فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ؟ ، وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لَيْسَ
لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ ، وَأَنَّ هَذَا الْمَحْبُوبَ كَغَيْرِهِ مِنْ
النَّاسِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ دُونَهُمْ كَمَا قَدْ شَاعَ عَنْ قُبْحِ
لَيْلَى وَصَاحِبهَا الْمَجْنُونِ الْمَفْتُونِ بِهَا ، وَجِمَاعُ
الْحَلَالِ مِنْ زَوْجَةٍ وَجَارِيَةٍ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ
زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ
خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ
شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ
امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ مَا فِي نَفْسِهِ
} .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ
الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إلَى امْرَأَتِهِ
فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ نَفْسَهُ } قَوْلُهُ : "
تَمْعَسُ " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة الدَّلْك ، ، وَالْمَنِيئَةُ بِمِيمٍ
مَفْتُوحَةٍ ، ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ ، ثُمَّ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ،
ثُمَّ تَاءٍ تُكْتَبُ هَاءً وَهِيَ الْجِلْدُ فِي الدِّبَاغِ قَالَ
الْكِسَائِيُّ يُسَمَّى مَنِيئَةً مَا دَامَ فِي الدِّبَاغِ وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ : هُوَ فِي أَوَّلِ الدِّبَاغِ .
مَنِيئَةٌ ، ثُمَّ أَفِيقٌ
بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرِ الْفَاءِ وَجَمْعُهُ فُيُقٌ كَقَفِيزٍ
وَقُفُزٌ ، ثُمَّ أَدِيمٌ وَقَوْلُهُ " تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ
وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ " أَيْ إنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِهِ
فِي دُعَائِهِ إلَى الشَّرِّ بِتَزْيِينِهِ وَوَسْوَسَتِهِ ، وَالْمُرَادُ
الْإِشَارَةُ إلَى الْهَوَى ، وَالدُّعَاءُ إلَى الْفِتْنَةِ
بِالْمَرْأَةِ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى النِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا أَتَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا
فَعَلَ بَيَانًا وَإِرْشَادًا إلَى مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فَعَلَّمَ النَّاسَ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ " مِنْ فَوَائِدِ الْجِمَاعِ أَنَّهُ يُزِيلُ دَاءَ الْعِشْقِ وَلَوْ كَانَ مَعَ غَيْرِ مَنْ يَهْوَى " .
وَمِنْ
أَكْبَرِ الدَّوَاءِ التَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا
فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ ، وَالْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ فِي كَشْفِ
ذَلِكَ وَإِزَالَتِهِ ، وَالْعَافِيَةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .
وَمِنْ
الدَّوَاءِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ
يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ إنَّ الطَّمَعَ
فِي ذَلِكَ جُنُونٌ كَالطَّمَعِ بِالشَّمْسِ ، وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا
، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ كَالْمُمْتَنِعِ
قَدَرًا بِالنَّظَرِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُدَاوَاةِ
يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا .
وَإِنْ اعْتَنَى مَعَ ذَلِكَ بِمَا
ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِمَّا يُبَاحُ شَرْعًا فَحَسَنٌ كَقَوْلِ
بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ ابْنَ الْمَالِكِيِّ : الْمُدَاوَاةُ لِلْعِشْقِ ،
تُدْبِرُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُرَطِّبِ كَالِاسْتِحْمَامِ بِالْمَاءِ
الْعَذْبِ ، وَالرُّكُوبِ ، وَالرِّيَاضَةِ الْمُعْتَدِلَةِ ،
وَالتَّمْرِيخِ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَشُرْبِ الشَّرَابِ ، وَالنَّظَرِ
إلَى الْبَسَاتِينِ ، وَالْمَزَارِعِ النَّضِرَةِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ
الْمُطْرِبِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَالْمُسَامَرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَا يَنْبَغِي التَّمَادِي مَعَ الْهَوَى
وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ إزَالَتِهِ وَكَشْفِهِ فَإِنَّ
الْأَمْرَ فِي أَوَّلِهِ سَهْلٌ فَزَوَالُهُ قَرِيبٌ سَهْلٌ وَقَدْ قِيلَ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى فَإِنْ أُطْمِعَتْ
تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ وَقَدْ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ فَتَبْعُدُ
إزَالَتُهُ جِدًّا وَيَبْعُدُ السَّعْيُ فِي سَبَبهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى
، وَالْمَحَبَّةِ .
وَسَبَقَ فِي أَوَائِل الْكِتَاب مَا رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ {
حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } وَيَحْصُلُ مَعَ التَّمَادِي فِي
ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ ، وَالشَّرِّ ، وَالْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ
إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً وَطَبِيعَةً
وَجِبِلَّةً فَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ مَعَ الشَّيْخُوخَةِ وَعُلُوِّ السِّنِّ
وَيَنْتَقِلُ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ وَلَا يَنْفَعُ مَعَ ذَلِكَ
وَعْظٌ وَلَا زَجْرٌ وَيُضْعِفُ الطَّعَامَ عَنْهُ جِدًّا وَقَدْ قَالَ
الْأَطِبَّاءُ مَا قَالَ غَيْرهمْ : الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ .
وَفِي
فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ حَنْبَلٌ الْخَيْرُ بِالتَّعَوُّدِ ،
وَالشَّرُّ طَبْعِيٌّ ، وَانْظُرْ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ { مُرُوهُمْ
بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ } فَلَمَّا جَاءَ إلَى الشَّرِّ { فَرِّقُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَر فِي
الْمُجْتَمِعِينَ .
وَقَدْ نَظَمَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا .
تَعَوَّدْ
فِعَالَ الْخَيْرِ جَمْعًا فَكُلُّ مَا تَعَوَّدَ الْإِنْسَانُ صَارَ لَهُ
خُلُقَا قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَا يَسُرُّنِي أَنِّي مُكْتَفٍ
مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا قِيلَ لَهُ وَلِمَ قَالَ أَخَافُ عَادَةَ
الْعَجْزِ .
وَقَالَتْ الْعَرَبُ ، الْعَادَةُ أَمْلَكُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدَبِ .
وَقَالُوا
الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَقَالُوا الْخَيْرُ عَادَةٌ ،
وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَكَانَ
يُقَالُ وَاَللَّهِ لَا أَنْسَاك حَتَّى أَنْسَى الْعَوْمَ ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَلَّمَ السِّبَاحَةَ لَمْ يَنْسَهَا ، وَقَدْ
قِيلَ لِي عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَلَّعَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَلِفَهَا
وَعَشِقَهَا وَأَرَادَ الْكَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَ نَفْسَهُ فَحَلَفَ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ يَشْرَبُهَا فَغَلَبَتْهُ
عَادَتُهُ وَطَبِيعَتُهُ عَلَى أَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ وَشَرِبَهَا
وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ .
وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى
الْمَعَاصِي فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا
أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا أَوْ مَعْصِيَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا كَانَ
الْمُفْتَتَنُ
بِذَلِكَ عَالِمًا أَوْ عَابِدًا فَرُبَّمَا فَتَنَ بِعِلْمِهِ
وَعِبَادَتِهِ قُلُوبَ بَعْضِ الْعَوَامّ وَرُبَّمَا اسْتَمَالَ النَّاسَ
وَقُلُوبَهُمْ إلَيْهِ بِبَعْضِ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا
تَرَخَّصُوا بِفِعْلِهِ وَرُبَّمَا عَذَرُوهُ فِيهِ ، وَرُبَّمَا
حَمَلَهُمْ عَرَضُ الدُّنْيَا عَلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ ، وَالْكَفِّ عَنْ
مَسَاوِيهِ ، فَتَحْصُلُ الْفِتْنَةُ ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ عَبَدَ هَوَاهُ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ
وَلَمْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَلَمْ يُبْغِضْ فِي اللَّهِ ، بَلْ أَحَبَّ
لِعَرَضِ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَ لِلدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ
هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ } وَعَنْهُ أَيْضًا عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي
اللَّهِ ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } بَلْ رُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَرَضُ
الدُّنْيَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُعَادَاة مَنْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ
فَتَتَكَرَّرَ الْمَعْصِيَةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَصِفَاتِهَا
عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْمِسْكِينُ لِأَجْلِ هَذَا
الْعَرَضِ الْقَلِيلِ الزَّائِلِ عَنْ قَلِيلٍ مُعَادِيًا لِأَوْلِيَاءِ
اللَّهِ مُوَالِيًا لِأَهْلِ الْفُسُوقِ ، وَالْمَعَاصِي ، وَلَا يَخْفَى
مَا يَعْمَلُ الْمُعَادِي لِقَوْمٍ حَسْبَ مَا يُمْكِنُهُ وَمَا يَعْمَلُ
الْمُوَالِي لِقَوْمٍ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ
بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } .
وَمَنْ نَظَرَ فِي
هَذَا وَأَمْثَالِهِ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ قَدْ
فُتِنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَحَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّرَر مَا لَمْ
يَحْصُل بِغَيْرِهَا ، فَنَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَهُمْ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ وَهْبُ بْن مُنَبِّهٍ : الْعَقْلُ ،
وَالْهَوَى يَصْطَرِعَانِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ مَالَ بِصَاحِبِهِ قَالَ
ابْنُ دُرَيْدٍ : وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا عَلَى هَوَاهُ
عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَفْضَلُ
الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَشْجَعُ
النَّاسِ أَشَدُّهُمْ مِنْ الْهَوَى امْتِنَاعًا قَالَ وَمِنْ
الْمُحَقَّرَاتِ تَنْتُجُ الْمُوبِقَاتُ ، وَيَقُولُونَ إنَّ هِشَامَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ يَقُلْ بَيْتَ شِعْرٍ قَطُّ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ
: إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى بَعْضِ مَا
فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَوْ قَالَ إلَى كُلِّ
مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ كَانَ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ وَمَا قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ مُتَوَجِّهٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ .
إنَّمَا
يَحْتَاج اللَّبِيبُ ذُو الرَّأْي ، وَالتَّجْرِبَةِ إلَى الْمُشَاوَرَةِ
لِيَتَجَرَّدَ لَهُ رَأْيُهُ مِنْ هَوَاهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ اعْصِ
النِّسَاءَ وَهَوَاك وَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
لَوْ قَالَ اعْصِ الْهَوَى لَاكْتَفَى وَصَدَقَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ
وَكَانَ أَوْجَزَ قِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بِمَ ظَفِرْت قَالَ بِطَاعَةِ
الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى .
قَالُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
الْهَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا ذَمَّهُ وَقَالَ
بَزَرْجَمْهَرْ الْهَوَى غَالِبٌ ، وَالْقَلْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ ، وَقَدْ
امْتَدَحَ بِتَرْكِ الْهَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ .
وَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : وَأَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ حَيْثُ
كَانَتْ وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث ثَنَا قَاسِمٌ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْمِصِّيصِيّ
ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ( رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ) يَحْرُسُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إذْ سَمِعَ امْرَأَةً وَهِيَ تَقُولُ :
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى
نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ فَلَمَّا أَصْبَحَ
قَالَ عَلَيَّ بِنَصْرٍ
فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ أَجْمَلُ النَّاسِ فَقَالَ : إنَّهَا
الْمَدِينَةُ لَا تُسَاكِنِّي فِيهَا فَخَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ ،
فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ هُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ ، فَبَيْنَمَا
هُوَ جَالِسٌ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ وَامْرَأَتِهِ إذْ كَتَبَتْ فِي
الْأَرْضِ إنِّي لَأُحِبّكَ حُبًّا لَوْ كَانَ فَوْقَكَ لَأَظَلَّكَ ،
وَلَوْ كَانَ تَحْتَكَ لَأَقَلَّكَ ، فَقَرَأَهُ وَكَتَبَ تَحْتَهُ
وَأَنَا كَذَلِكَ .
وَكَانَ الْأَمِيرُ لَا يَقْرَأُ فَعَلِمَ أَنَّهُ
جَوَابُ كَلَامٍ فَأَكْفَأَ عَلَيْهِ إنَاءً وَقَامَ فَبَعَثَ إلَى مَنْ
يَقْرَؤُهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَصْرًا فَلَمْ يَجِئْ إلَيْهِ وَمَرِضَ
حَتَّى سُلَّ وَصَارَ شِبْهَ الْفَرْخِ وَأُخْبِرَ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ ،
فَقَالَ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِ وَأَسْنِدِيهِ إلَى صَدْرِكِ
وَأَطْعِمِيهِ ، فَلَمَّا أَتَتْ الْبَابَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ فُلَانَةُ
فَكَأَنَّهُ انْتَعَشَ فَصَعِدَتْ إلَيْهِ وَأَسْنَدَتْهُ إلَى صَدْرِهَا
وَأَطْعَمَتْهُ فَأَفَاقَ ، فَخَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَاسْتَحْيَا مِنْ
ابْنِ عَمِّهِ فَلَمْ يَلْقَهُ بَعْدَهَا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ
عُثْمَانَ الْأَمِيرُ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ
الْخَضْرَاءُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَوْ لِسَهْلٍ الْوَرَّاقِ : إذَا
حَارَ وَهْمُكَ فِي مَعْنَيَيْنِ وَأَعْيَاكَ حَيْثُ الْهَوَى
وَالصَّوَابْ فَدَعْ مَا هَوِيت فَإِنَّ الْهَوَى يَقُودُ النُّفُوسَ إلَى
مَا يُعَابْ كَانَ يُقَالُ إذَا غَلَبَ عَلَيْك عَقْلُك فَهُوَ لَك ،
وَإِنْ غَلَبَ هَوَاك فَهُوَ لِعَدُوِّكَ قَالَ عُمَرُ لِمُعَاوِيَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْ أَصْبَرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ كَانَ
رَأْيُهُ رَادًّا لِهَوَاهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ أَشَدُّ جَوْلَةِ
الرَّأْيِ عِنْدَ الْهَوَى ، وَأَشَدُّ فِطَامِ النَّفْسِ عِنْد الصَّبْرِ
.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ إنَّ الْمِرْآةَ لَا تُرِيَك خُدُوشَ وَجْهِك فِي
صَدَاهَا ، وَكَذَلِكَ نَفْسُك لَا تُرِيك عُيُوبَ نَفْسِك فِي هَوَاهَا .
فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْهَوَى .
وَلِلْحُكَمَاءِ كَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِ فِي الْعِشْقِ كَلَامٌ اخْتَصَرَتْهُ .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْهُ فَقَالَ شُغْلُ قَلْبٍ فَارِغٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَطْنٌ فَرَقَّ ،
وَظَهْرٌ
فَكُثِّفَ ، وَامْتَنَعَ وَصْفُهُ عَلَى اللِّسَانِ ، فَهُوَ بَيْنَ
السِّحْرِ ، وَالْجُنُونِ ، لَطِيفُ الْمَسْلَكِ ، وَالْكُمُونِ .
وُجِدَ
فِي صَحِيفَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْهِنْدِ : الْعِشْقُ ارْتِيَاحٌ جُعِلَ
فِي الرُّوحِ ، وَهُوَ مَعْنَى تُنْتِجُهُ النُّجُومُ بِمَطَارِحِ
شُعَاعِهَا ، وَتُوَلِّدُهُ الطَّبَائِعُ بِوَصْلِهِ أَشْكَالَهَا ،
وَتَقْبَلُهُ النُّفُوسُ بِلُطْفِ خَوَاطِرهَا ، وَهُوَ يُعَدُّ جَلَاءً
لِلْقُلُوبِ ، وَصَيْقَلًا لِلْأَذْهَانِ ، مَا لَمْ يُفْرِطْ ، فَإِذَا
أَفْرَطَ عَادَ سَقْمًا قَاتِلًا ، وَمَرَضًا مُنْهِكًا ، لَا تَنْفُذُ
فِيهِ الْآرَاءُ ، وَلَا تَنْجَعُ فِيهِ الْحِيَلُ ، الْعِلَاجُ مِنْهُ
زِيَادَةٌ فِيهِ .
حَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ يَوْمًا يَحْيَى بْنُ
أَكْثَمَ الْقَاضِي وَثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ فَقَالَ الْمَأْمُونُ
لِيَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ حَدِّ الْعِشْقِ ؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ سَوَانِحُ تَسْنَحُ لِلْعَاشِقِ يُؤْثِرُهَا وَيَهْتَمُّ
بِهَا تُسَمَّى عِشْقًا .
فَقَالَ ثُمَامَةُ اُسْكُتْ يَا يَحْيَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُجِيبَ فِي مَسْأَلَةِ الْفِقْهِ وَهَذِهِ صِنَاعَتُنَا .
فَقَالَ الْمَأْمُونُ : أَجِبْ يَا ثُمَامَةُ .
فَقَالَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا تَقَادَحَتْ جَوَاهِرُ النُّفُوسِ
بِوَصْلِ الْمُشَاكَلَةِ أَثْبَتَتْ لَمْحَ نُورٍ سَاطِعٍ تَسْتَضِيءُ
بِهِ نَوَاظِرُ الْعَقْلِ فَتَهْتَزُّ لِإِشْرَاقِهِ طَبَائِعُ
وَيُتَصَوَّرُ مِنْ ذَلِكَ نُورٌ خَاطِرٌ بِالنَّفْسِ مُتَّصِلٌ
بِجَوْهَرِهَا فَيُسَمَّى عِشْقًا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِيمَا
أَنْشَدَهُ إِسْحَاقُ الْمُوصِلِيُّ : فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ
بِوَاحِدٍ وَخَلَّيْت قَلْبًا فِي هَوَاك يُعَذَّبُ وَلَكِنَّمَا أَحْيَا
بِقَلْبٍ مُرَوَّعٍ فَلَا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلَا الْمَوْتُ يَقْرُبُ
تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَى خَوْفَ سُخْطِهَا وَعَلَّمَهَا حُبِّي
لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ وَلِي أَلْفُ وَجْهٍ قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهُ
وَلَكِنْ بِلَا قَلْبٍ إلَى أَيْنَ يَذْهَبُ وَقَالَ أَيْضًا : أَرَى
الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ إلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ
أَنْصَرِفُ وَلَهُ : يُقَرِّبُ الشَّوْقُ دَارًا وَهْيَ نَازِحَةٌ مَنْ
عَالَجَ الشَّوْقَ لَمْ
يَسْتَبْعِدْ الدَّارَا وَقَالَ آخَرُ :
فَلَوْ أَنَّ شَرْقَ الشَّمْسِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا وَأَهْلِي وَرَاءَ
الشَّمْسِ حَيْثُ تَغِيبُ لَحَاوَلْتُ قَطْعَ الْأَرْضِ بَيْنِي
وَبَيْنَهَا وَقَالَ الْهَوَى لِي إنَّهُ لَقَرِيبُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ إلَّا
أَنَّهُ يُشَجِّعُ قَلْبَ الْجَبَانِ ، وَيُسَخِّي قَلْبَ الْبَخِيلِ ،
وَيُصَفِّي الْغَبِيَّ ، وَيَبْعَثُ حَزْمَ الْعَاقِل ، وَيَخْضَعُ لَهُ
عِزُّ الْمُلُوكِ ، وَتَضْرَعُ لَهُ صَوْلَةُ الشُّجَاعِ ، وَيَنْقَادُ
لَهُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ ، لَكَفَى بِهِ شَرَفًا .
قَالَ أَعْرَابِيٌّ
مِنْ فَزَارَة عَشِقْت امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ فَكَانَتْ تُظْهِرُ لِي
مَوَدَّةً فَوَاَللَّهِ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهَا شَيْءٌ مِنْ
رِيبَةٍ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّهَا فَوَضَعْت كَفِّي عَلَى
كَفِّهَا فَقَالَتْ : مَهْ لَا تُفْسِدْ مَا صَلَحَ .
فَارْفَضَضْتُ
عَرَقًا مِنْ قَوْلِهَا فَمَا عُدْتُ لِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
الرَّجُلُ يَكْتُمُ بُغْضَ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حُبَّهَا يَوْمًا وَالْمَرْأَةُ تَكْتُمُ حُبَّ
الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَكْتُمَ بُغْضَهُ
يَوْمًا وَاحِدًا .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : يَا سَائِلِي مَا
الْهَوَى اسْمَعْ إلَى صِفَتِي الْحُبُّ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِي
وَمِقْدَارِي مَاءُ الْمَدَامِعِ نَارُ الشَّوْقِ تَحْدُرُهُ فَهَلْ
سَمِعْت بِمَاءٍ فَاضَ مِنْ نَارِ وَقَالَ آخَر : أُسِرُّ الَّذِي بِي
وَالدُّمُوعُ تَبُوحُ وَجِسْمِي سَقِيمٌ وَالْفُؤَادُ جَرِيحُ وَبَيْنَ
ضُلُوعِي لَوْعَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا أَذُوبُ اشْتِيَاقًا وَالْفُؤَادُ
صَحِيحُ وَقَالَ عَلِيُّ بْن عَبَّاسٍ الرُّومِيُّ : وَحَدِيثُهَا
السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ
الْمُتَحَرِّزِ إنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ وَدَّ
الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزْ شِرْكُ الْعُقُولِ وَنُزْهَةٌ مَا
مِثْلُهَا لِلْمُطْمَئِنِّ وَعُقْلَةُ الْمُسْتَوْفِزِ وَقَالَ حُمَيْدُ
بْنُ ثَوْرٍ : مُنَعَّمَةٌ لَوْ يُصْبِحُ الذَّرُّ سَارِيًا عَلَى
جِلْدِهَا صَبَّتْ مَدَارِجُهَا دَمَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ :
لَوْ دَبَّ
ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا لَأَبَانَ مِنْ
آثَارِهِنَّ حُدُودَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ : كَأَنَّ مَنْثُورَ
رُمَّانٍ بِوَجْنَتِهَا لَوْ دَبَّ فِيهَا خَيَالُ الذَّرِّ لَانْجَرَحَا
وَقَالَ آخَرُ رَقَّ فَلَوْ دَبَّ بِهِ ذَرَّةٌ مُنَعَّلَةٌ أَرْجُلُهَا
بِالْحَرِيرِ لَأَثَّرَتْ فِيهِ كَمَا أَثَّرَتْ مُدَامَةٌ فِي الْعَارِضِ
الْمُسْتَدِيرِ وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْكَاتِبُ لِنَفْسِهِ أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا :
لِسَانُكِ يَاقُوتٌ وَثَغْرُكِ لُؤْلُؤٌ وَرِيقُكِ شَهْدٌ وَالنَّسِيمُ
عَبِيرُ فَمَا لَكِ فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّاسِ مُشْبِهٌ وَلَا لَكِ فِي
حُورِ الْجِنَانِ نَظِيرُ لِأَنَّ الْحُورَ لَا نَظِيرَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَصِفَاتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ،
نَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْجَنَّةَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ نَظَرَ أَبُو حَازِمٍ إلَى امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ تَرْمِي
الْجِمَارَ وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَقَدْ شَغَلَتْ النَّاسَ بِالنَّظَرِ
إلَيْهَا لِبَدَاعَةِ حُسْنِهَا فَقَالَ لَهَا أَمَةَ اللَّهِ خَمِّرِي
وَجْهَك فَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ وَهَذَا مَوْضُوعُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ
، فَقَالَتْ لَهُ إحْرَامِي فِي وَجْهِي أَصْلَحَك اللَّهُ يَا أَبَا
حَازِمٍ وَأَنَا مِنْ اللَّوَاتِي قَالَ فِيهِنَّ الْعَرْجِيُّ : مِنْ
اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ
التَّقِيَّ الْمُغَفَّلَا فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ
بِالنَّارِ ، فَقِيلَ لَهُ أَفَتَنَتْك يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ فَقَالَ لَا
وَلَكِنَّ الْحُسْنَ مَرْحُومٌ .
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْد
اللَّه بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ قَالَ : خَرَجْت حَاجًّا فَرَأَيْت
امْرَأَةً جَمِيلَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ أَرْفَسَتْ فِيهِ يُقَالُ
أَرْفَسَ فِي كَلَامِهِ زَوَّرَهُ وَزَخْرَفَهُ قَالَ : فَأَدْنَيْت
نَاقَتِي مِنْهَا وَقُلْت يَا أَمَةَ اللَّهِ أَلَسْتِ حَاجَّةً أَمَا
تَخَافِينَ اللَّهَ ؟ فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهٍ بَهَرَ الشَّمْسَ حُسْنًا ،
فَقَالَتْ تَأَمَّلْ يَا عُمَرِيُّ فَإِنِّي مِمَّنْ عَنَاهُ الْعَرْجِيُّ
بِقَوْلِهِ : أَمَاطَتْ كِسَاءَ الْحَجِّ
عَنْ حُرِّ وَجْهِهَا
وَأَبْدَتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَرْدًا مُهَلَّلَا مِنْ اللَّاءِ لَمْ
يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ
الْمُغَفَّلَا وَتَرْمِي بِعَيْنَيْهَا الْقُلُوبَ وَلَحْظُهَا إذَا مَا
رَمَتْ لَمْ تُخْطِ مِنْهُنَّ مَقْتَلَا قَالَ : فَقُلْت : فَأَنَا
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ هَذَا الْوَجْهَ بِالنَّارِ قَالَ
وَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ
لَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَقَالَ أَغْرُبِي قَبَّحَكِ
اللَّهُ ، وَلَكِنَّهُ أَظْرَفُ عُبَّادِ أَهْل الْحِجَاز قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ : وَجْهٌ يَدُلُّ النَّاظِرِينَ عَلَيْهِ فِي
اللَّيْلِ الْبَهِيمِ فَكَأَنَّهُ رُوحُ الْحَيَاةِ تَهُبُّ مِسْكَ
نَسِيمِ فِي خَدِّهِ وَرْدُ الْحَيَاءِ يُعَلُّ بِالْمَاءِ النَّعِيمِ
سَقَمُ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِلِّ وَصِحَّةُ الرَّجُلِ السَّقِيمِ نَظَرَ
رَجُلَانِ إلَى جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ فَمَالَا
إلَيْهَا وَاسْتَسْقَيَاهَا فَسَقَتْهُمَا فَجَعَلَا يَشْرَبَانِهِ وَلَا
يُسِيغَانِهِ فَعَرَفَتْ مَا بِهِمَا فَجَعَلَتْ تَقُول : هُمَا
اسْتَسْقَيَا مَاءً عَلَى غَيْرِ ظِمْأَةٍ لِيَسْتَمْتِعَا بِاللَّحْظِ
مِمَّنْ سَقَاهُمَا فَعَجِبَا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَا الْإِنَاءَ إلَيْهَا
فَمَرَّتْ وَهِيَ تَقُولُ : وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا
لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلَّهُ
أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ دَخَلَ
الشَّعْبِيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .
فَقَالَ يَا
شَعْبِيُّ بَلَغَنِي أَنْ اخْتَصَمَ إلَيْك رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَضَيْت
لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ فِيك شِعْرًا فَأَخْبِرْنِي
بِقِصَّتِهِمَا وَأَنْشِدْنِي الشِّعْرَ إنْ كُنْتَ سَمِعَتْهُ ، فَقَالَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَسْأَلْنِي عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ
عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرَنِّي قَالَ نَعَمْ اخْتَصَمَتْ إلَيَّ
امْرَأَةٌ وَبَعْلُهَا فَقَضَيْت لِلْمَرْأَةِ إذْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ
لَهَا فَقَامَ بَعْلُهَا أَوْ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : فُتِنَ
الشَّعْبِيُّ لَمَّا رَفَعَ الطَّرْفَ إلَيْهَا بِفَتَاةٍ حِينَ قَامَتْ
رَفَعَتْ
مَالَتَيْهَا وَمَشَتْ مَشْيًا رُوَيْدًا ثُمَّ هَزَّتْ
مَنْكِبَيْهَا فَتَنَتْهُ بِقَوَامٍ وَبِخَطَّيْ حَاجِبَيْهَا وَبَنَانٍ
كَالدَّرَارِي وَسَوَادَيْ مُقْلَتَيْهَا قَالَ لِلزَّوْجِ قَرِّبْ هَا
وَأَحْضِرْ شَاهِدَيْهَا فَقَضَى جَوْرًا عَلَيْنَا ثُمَّ لَمْ يَقْضِ
عَلَيْهَا كَيْفَ لَوْ أَبْصَرَ مِنْهَا نَحْرَهَا أَوْ سَاعِدَيْهَا
لَصَبَا حَتَّى تَرَاهُ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهَا بِنْتُ عِيسَى بْنِ
جَرَادٍ ظُلِمَ الْخَصْمُ لَدَيْهَا فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : فَمَا
صَنَعْتَ يَا شَعْبِيُّ قَالَ : أَوْجَعْت ظَهْرَهُ حِينَ جورني فِي
شِعْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ
أَصَحُّ إسْنَادٍ لِهَذَا الْخَبَرِ .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ : إنِّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بِالْحُسْنِ أَتْبَعُهُ لَا حَظَّ
لِي فِيهِ إلَّا لَذَّةُ النَّظَرِ كَانَ يُقَالُ أَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي
النَّظَرِ أَوْ فِي الْبَصَرِ .
النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ وَإِلَى الْخُضْرَةِ ، وَإِلَى الْمَاءِ ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ .
دَخَلَ
الشَّعْبِيُّ سُوقَ الرَّقِيقِ فَقِيلَ لَهُ : هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟
فَقَالَ : حَاجَتِي صُورَةٌ حَسَنَةٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا طَرْفِي ،
وَيَلْتَذُّ بِهَا قَلْبِي ، وَتُعِينُنِي عَلَى عِبَادَةِ رَبِّي قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَنْبَغِي لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ أَنْ لَا يَشِينَ
وَجْهَهُ بِقُبْحِ فِعْلِهِ ، وَيَنْبَغِي لِقَبِيحِ الْوَجْهِ أَنْ لَا
يَجْمَعَ بَيْنَ قَبِيحَيْنِ قَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ
يَحْتَاجُ إلَى حُسْنِ الْفِعَالِ حَاجَةَ الصَّادِي مِنْ الْمَاءِ إلَى
الْعَذْبِ الزُّلَالِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى
الْيَمَنِ عَسْكَرًا فَأَقَامُوا سِنِينَ فَقَالَتْ امْرَأَةُ يَزِيدَ
بْنِ سِنَانٍ : تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ فَالْعَيْنُ تَدْمَعُ
وَأَرَّقَنِي حُزْنٌ بِقَلْبِي مُوجِعُ فَبِتُّ أُقَاسِي اللَّيْلَ
أَرْعَى نُجُومَهُ وَبَاتَ فُؤَادِي هَائِمًا يَتَفَزَّعُ إذَا غَابَ
مِنْهَا كَوْكَبٌ فِي مَغِيبِهِ لَمَحْتُ بِعَيْنِي آخَرًا حِينَ يَطْلُعُ
إذَا مَا تَذَكَّرْت الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَجَدْت فُؤَادِي لِلْهَوَى
يَتَقَطَّعُ وَكُلُّ حَبِيبٍ ذَاكِرٌ
لِحَبِيبِهِ يُرَجِّي لِقَاهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَطْمَعُ فَذَا الْعَرْشِ فَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ صَبَابَتِي فَأَنْتَ الَّذِي تَرْعَى أُمُورِي وَتَسْمَعُ دَعَوْتُك فِي السَّرَّاءِ وَالضُّرِّ دَعْوَةً عَلَى عِلَّةٍ بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ تَلْذَعُ فَسَأَلَ عَبْدَ الْمَلِكِ كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا ، قَالُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ أَنْ لَا يَمْكُثَ الْعَسْكَرُ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ الشَّرَاسِيفُ مُقَاطِعُ الْأَضْلَاعِ وَهِيَ أَطْرَافُهَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ وَيُقَالُ الشرسوف غُضْرُوفٌ مُعَلَّقٌ بِكُلِّ ضِلْعٍ مِثْلُ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ .
فَصْلٌ كَمَالُ الشَّرِيعَةِ يَسْتَلْزِمُ
كَمَالَ مُقِيمِهَا حَتَّى فِي الْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ قَدْ سَبَقَ
جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الطِّبِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا
وَأَنْصَفَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ نِسْبَةَ طِبِّ غَيْرِ أَتْبَاعِ
الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّسْبَةِ
إلَى طِبِّهِمْ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ بِالنِّسْبَةِ
إلَى طِبِّهِمْ هَذَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ
الْمُسْتَضْعَفِينَ ، فَكَيْفَ لَوْ ظَهَرَ ذَلِكَ وَصَدَرَ عَنْ
الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ .
وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ
الشَّرِيعَةَ كَامِلَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ
الْإِسْلَامَ دِينًا } .
وَأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً أَوْ قِيَاسًا .
وَكَيْفَ
لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهِيَ شَرِيعَةُ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ وَبَعَثَهُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً
، وَالْإِنْسِ ، وَالْجِنِّ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ ،
فَاشْتَمَلَتْ شَرِيعَتُهُ الطَّاهِرَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْأَبَدَانِ
كَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَصَالِحِ الْقُلُوبِ وَفِيهَا مِنْ الطِّبِّ
الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ
وَأَتْبَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ
وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله
تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا
وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَبَهْزٌ
حَدِيثُهُ حَسَنٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ
هَذَا
الْحَدِيثَ عَنْ بَهْزٍ نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ يَعْنِي
الْآيَةَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَقَالَ " تُوفُونَ فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ " كَمَا أَنَّ رَسُولَهُمْ
أَفْضَلُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ .
وَلِهَذَا
تَغْلِبُ الطَّبِيعَةُ الدَّمَوِيَّةُ عَلَيْهِمْ وَكُلُّ وَصْفٍ
مَطْلُوبٍ شَرْعًا وَعُرْفًا مِنْ الْعَقْلِ ، وَالْفَهْمِ ، وَالْعِلْمِ
، وَالْحِلْمِ ، وَالْكَرَمِ ، وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَتَغْلِبُ
عَلَى النَّصَارَى الطَّبِيعَةُ الْبَلْغَمِيَّةُ ، وَالْبَلَادَةُ
وَقِلَّةُ الْفَهْمِ وَكَثْرَةُ الْجَهْلِ ، وَيَغْلِبُ عَلَى الْيَهُودِ
الطَّبِيعَةُ الصَّفْرَاوِيَّةُ ، وَالْهَمُّ ، وَالْغَمُّ ، وَالْحُزْنُ
، وَالْحَسَدُ ، وَالْمَكْرُ ، وَالصَّغَارُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى
الْإِسْلَامِ ، وَالسُّنَّةِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَنْ يُحْيِيَنَا عَلَيْهِمَا وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَيْهِمَا
بِفَضْلِهِ وَرَحْمَته ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ .
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ الْوَسْمِ وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ ) لَا يَسِمُ فِي
الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
ضَرْبِ الْوَجْهِ وَعَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ } .
وَفِي لَفْظٍ { مُرَّ
عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ
الَّذِي وَسَمَهُ } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَأَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا مَوْسُومًا فِي
الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ : فَوَاَللَّهِ لَا أَسِمُهُ إلَّا
فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ وَأَمَرَ بِحِمَارٍ فَكُوِيَ عَلَى
جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ } ، رَوَى
ذَلِكَ مُسْلِمٌ .
وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد حَدِيثُ جَابِرٍ {
أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْت مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا
وَضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا ؟ } فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { : وَنَهَى عَنْ الْوَسْمِ } قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ الْجَاعِرَتَانِ مَوْضِعُ الرَّقْمَتَيْنِ مِنْ اسْتِ
الْحِمَارِ وَهُوَ مَضْرِبُ الْفَرَسِ بِذَنَبِهِ عَلَى فَخِذَيْهِ قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ هُمَا حَرْفَا الْوَرِكَيْنِ الْمُشْرِفَانِ عَلَى
الْفَخِذَيْنِ .
وَصَرَّحَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ أَنَّ
السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ مَكْرُوهَةٌ وَظَاهِر كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ
أَنَّ السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ لَا تَجُوزُ وَهُوَ أَوْلَى وَسُئِلَ
أَحْمَدُ عَنْ الْغَنَمِ تُوسَمُ قَالَ : تُوسَمُ وَلَا يُعْمَلْ فِي
اللَّحْمِ يَعْنِي يَجُزُّ الصُّوفَ نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ وَظَاهِرُهُ
التَّحْرِيمُ .
وَقَالَ النَّوَاوِيُّ الضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيِّ أَشَدُّ
قَالَ وَالْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إجْمَاعًا فَأَمَّا
الْآدَمِيُّ فَوَسْمُهُ حَرَامٌ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ
فَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْبَغَوِيّ لَا يَجُوزُ
وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ وَغَيْرُ الْآدَمِيِّ فَوَسْمُهُ
فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ فَمُسْتَحَبٌّ
فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ
، وَالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ { عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَسَمَهَا فِي آذَانِهَا } ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْأُذُنَ لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ لِنَهْيِهِ عَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ يُكْرَهُ .
،
وَالْوَسْمُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ قَالَ عِيَاضٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ
بِمُهْمَلَةٍ وَبِمُعْجَمَةٍ وَبَعْضُهُمْ قَالَ بِمُهْمَلَةٍ فِي
الْوَجْهِ وَبِمُعْجَمَةٍ فِي سَائِر الْجَسَدِ .
فَصْلٌ ( فِي إخْصَاءِ الْبَهَائِمِ وَالنَّاسِ ) .
وَيُبَاحُ
خَصْيُ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ لَحْمِهَا وَقِيلَ يُكْرَهُ
كَالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا ، وَالشَّدْخُ أَهْوَنُ مِنْ الْجَبِّ .
وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْصِيَ
شَيْئًا وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ إيلَامِ
الْحَيَوَانِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
إخْصَاءِ الْخَيْلِ ، وَالْبَهَائِمِ } قَالَ ابْنُ عُمَر فِيهَا نَمَاءُ
الْخَلْقِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى خِصَاءِ النَّاسِ مِنْ
أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ ،
وَالتَّمْثِيلُ بِهِمْ حَرَامٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَا يَجُوزُ
إخْصَاءُ الْبَهَائِمِ وَلَا كَيُّهَا بِالنَّارِ لِلْوَسْمِ وَتَجُوزُ
الْمُدَاوَاةَ حَسَبَ مَا أَجَزْنَا فِي حَقِّ النَّاسِ فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَر إنَّ ذَلِكَ وَخَزْمَهَا فِي
الْأَنْفِ لِقَصْدِ الْمُثْلَةِ إثْمٌ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ
صَحِيحٍ جَازَ ، وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّينَ فَيَحْصُلُ
بِهِ الْفِسْقُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامَ ابْنِ
عَقِيلٍ الْأَوَّلَ وَقَالَ فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ وَسْمُهَا
بِحَالٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ : لَا
يَمْلِكُ إيقَاعَ الْإِضْرَارِ بِمُثْلَةٍ وَلَا جِرَاحَةٍ وَلَا كَيٍّ
وَلَا وَسْمٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
فِي ، وَالِي الْحِسْبَةِ : وَيُمْنَعُ مِنْ إخْصَاءِ الْآدَمِيِّينَ ،
وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي
رِوَايَةِ حَرْبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ خِصَاءِ الدَّوَابِّ ، وَالْغَنَمِ
لِلسِّمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ غَضَاضَةً ،
وَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ الْبَوْنِيِّ الْقَاضِي وَقَدْ سُئِلَ عَنْ
خِصَاءِ الْخَيْلِ ، وَالدَّوَابِّ فَكَرِهَهُ إلَّا مِنْ غِضَاضٍ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْرُمُ خِصَاءُ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ
الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا
يُؤْكَلُ وَكَذَا مَا يُؤْكَلُ فِي كِبَرِهِ لَا فِي صِغَرِهِ .
وَفِي
الْمُسْتَوْعِبِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ : وَلَا يَجُوزُ إخْصَاءُ
شَيْءٍ مِنْ الْبَهَائِمِ وَيَجُوزُ وَسْمُهَا فِي غَيْرِ الْوَجْهِ إذَا
لَمْ يَأْخُذْ فِي اللَّحْمِ ، وَأَمَّا قَطْعُ قَرْنِ الْحَيَوَانِ أَوْ
أُذُنِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْخِصَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ ،
وَالْخِلَافِ وَسَوَّى صَاحِبُ النَّظْمِ بَيْنَهُمَا وَيَحْتَمِلُ
الْمَنْعَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ أَوْ تَشْوِيهِ الْخَلْقِ مِنْ
غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ حُكْمُ إنْزَاءِ حِمَارٍ
عَلَى فَرَسٍ .
فَصْلٌ ( فِي جَزِّ أَعْرَافِ الدَّوَابِّ وَأَذْنَابِهَا وَنَوَاصِيهَا ) .
يُكْرَهُ
جَزُّ مَعْرَفَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ،
وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ حَمْدَانَ ، وَهَلْ يُكْرَهُ جَزُّ ذَنَبِهَا
عَلَى رِوَايَتَيْنِ نَقَلَ مُهَنَّا الْكَرَاهَةَ ذَكَرَ صَاحِبُ
النَّظْمِ أَنَّهَا أَشْهَرُ وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ ، وَالْفَضْلُ
نَفْيَ الْكَرَاهَةِ جَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُولِ قَالَ فِي رِوَايَةِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ إنَّمَا رُخِّصَ فِي جَزِّ الْأَذْنَابِ
وَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَلَا .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ يُعْمَلُ
بِالْمَصْلَحَةِ وَهِيَ مُتَّجِهَةٌ وَسَأَلَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ حَذْفِ
الْخَيْلِ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبْهَى وَأَجْوَدَ لَهُ ( قُلْت ) إنَّهُ
يَنْفَعُهُ فِي الشِّتَاءِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِرَكْضِهِ ، فَكَأَنَّهُ
سُهِّلَ فِيهِ وَقَالَ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ
يَكْرَهُونَ حَذْفَ الْخَيْلِ .
وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ
السُّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
نَهَى عَنْ جَزِّ أَعْرَافِ الْخَيْلِ وَنَتْفِ أَذْنَابِهَا وَجَزِّ
نَوَاصِيهَا وَقَالَ أَمَّا أَذْنَابُهَا فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا ،
وَأَمَّا أَعْرَافُهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا ، وَأَمَّا نَوَاصِيهَا
فَإِنَّ الْخَيْرَ مَعْقُودٌ فِيهَا } رَوَاهُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ
يَزِيدَ عَنْ نَضْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ
فَذَكَرَهُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ
قَالَ حَدَّثَنِي نَضْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ
بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُصُّوا
نَوَاصِي الْخَيْلِ فَإِنَّ فِيهَا الْبَرَكَةَ ، وَلَا تَجُزُّوا
أَعْرَافَهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا ، وَلَا تَقُصُّوا أَذْنَابَهَا
فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا } رِجَالٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ جَمَاعَةٌ يَبْعُدُ
أَنْ لَا يَكُون فِيهِمْ مَنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ لَا سِيَّمَا
وَالْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ جَيِّدٌ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ
طَرِيقِينَ عَنْ ثَوْرٍ فِي
إحْدَاهُمَا عَنْ رَجُلٍ ، وَفِي الْأُخْرَى عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ جَزِّ نَوَاصِي
الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كَانَ
يُقَالُ { لَا تَقُودُوا الْخَيْلَ بِنَوَاصِيهَا فَتُذِلُّوهَا ، وَلَا
تَجُزُّوا أَعْرَافَهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا وَلَا تَجُزُّوا
أَذْنَابَهَا فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا
مَرْفُوعًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَلَيْكُمْ بِإِنَاثِ الْخَيْلِ فَإِنَّ بُطُونَهَا كَنْزٌ وَظُهُورَهَا
حِرْزٌ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا أَيْضًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَحِبُّوا الْخَيْلَ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا
فَإِنَّ الْعِزَّ فِيهَا وَالْجَمَالَا إذَا مَا الْخَيْلُ ضَيَّعَهَا
رِجَالٌ رَبَطْنَاهَا فَشَارَكَتْ الْعِيَالَا نُقَاسِمُهَا الْمَعِيشَةَ
كُلَّ يَوْمٍ وَنَكْسُوهَا الْبَرَاقِعَ وَالْجِلَالَا وَلِلْحَسَنِ بْنِ
بَشَّارٍ : يَا فَارِسًا يَحْذَرُ الْفُرْسَانُ صَوْلَتَهُ أَمَا عَلِمْت
بِأَنَّ النَّفْسَ تُفْتَرَسُ يَا رَاكِبَ الْفَرَسِ السَّامِي يَعَزُّ
بِهِ وَلَابِسَ السَّيْفِ يَحْكِي لَوْنَهُ الْقَبَسُ لَا أَنْتَ تَبْقَى
عَلَى سَيْفٍ وَلَا فَرَسٍ وَلَيْسَ يَبْقَى عَلَيْك السَّيْفُ
وَالْفَرَسُ وَأَوَّل هَذَا الشِّعْرِ : إنَّ الْحَبِيبَ مِنْ
الْأَحْبَابِ يُخْتَلَسُ لَا يَمْنَعُ الْمَوْتَ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسُ
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَفِي
الْخَيْلِ أَخْبَارٌ مِنْهَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ
مَرْفُوعًا { الْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْخَيْلُ لِرَجُلٍ
أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ
لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي
مَرَجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرَجِ
، وَالرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ
حَبْلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا أَوْ
أَرْوَاثُهَا لَهُ حَسَنَاتٍ ، وَلَوْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ
وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِمَكَانِهِ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ أَجْرٌ
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ
فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ } رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَعَنْ
رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَرْفُوعًا { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ فَرَسٌ
رَبَطَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَثَمَنُهُ أَجْرٌ وَرُكُوبُهُ أَجْرٌ ،
وَرِعَايَتُهُ أَجْرٌ ، وَعَلَفُهُ أَجْرٌ ، وَفَرَسٌ يُغَالَقُ عَلَيْهِ
وَيُرَاهَنُ فَثَمَنُهُ وِزْرٌ ، وَعَلَفُهُ وِزْرٌ ، وَرُكُوبُهُ وِزْرٌ
، وَفَرَسٌ لِلْبِطْنَةِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ سَدَادًا مِنْ الْفَقْرِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى } إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ
أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ :
فَفَرَسُ الرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ ،
فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَاَلَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا
فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَاَلَّذِي يُقَامَرُ بِهِ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ ،
وَأَمَّا فَرَسُ الْإِنْسَانِ فَاَلَّذِي يَرْبِطُهُ الْإِنْسَانُ
يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا فَهِيَ سِتْرُ فَقْرٍ } يُغَالِقُ عَلَيْهِ أَيْ
يُرَاهِنُ .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا { خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْدَحُ الْأَرْثَمُ الْمُحَجَّلُ طَلْقُ
الْيَمِينِ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذَا الشَّبَهِ } حَدِيثٌ
صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { يُمْنُ الْخَيْلِ فِي شُقْرِهَا }
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ،
وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ
مَرْفُوعًا { عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ
أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
مُهَاجِرٍ عَنْ عَقِيلِ بْن شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وُهَيْبٍ وَعَقِيلٌ
تَفَرَّدَ عَنْهُ مُحَمَّدٌ فَلِهَذَا قِيلَ لَا يُعْرَفُ وَقَدْ
وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ .
}
، وَالشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ
وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى أَوْ يَدِهِ الْيُمْنَى وَفِي رِجْلِهِ
الْيُسْرَى رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
فَأَّمَا إنْزَاءُ
الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدًا مَأْمُورًا مَا اخْتَصَّنَا بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إلَّا
بِثَلَاثٍ ، أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ
الصَّدَقَةَ ، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ } حَدِيثٌ
صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ
خُزَيْمَةَ وَأَشُكُّ فِي غَيْرِهِمَا قَالَ مُوسَى بْنُ سَالِمٍ يَعْنِي
رَاوِيَ الْحَدِيثِ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ يَعْنِي حَسَنَ
بْنَ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقُلْت إنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا
فَقَالَ إنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ قَلِيلَةٌ فَأُحِبُّ
أَنْ تُكْثِرَ فِيهِمْ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {
: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ
فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنْزَيْنَا الْحُمُرَ عَلَى
خَيْلِنَا فَجَاءَتْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُ
ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } إسْنَادُ ثِقَاتٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي
كَرَاهِيَةِ الْحُمُرِ تُنْزِي عَلَى الْخَيْلِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي
الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ .
وَعَنْ
عَلِيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَا عَلِيُّ { أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْك وَلَا
تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ وَلَا تُنْزِ الْحُمُرَ عَلَى الْخَيْلِ وَلَا
تُجَالِسْ أَصْحَابَ النُّجُومِ } رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدُ
فِي الْمُسْنَدِ وَعَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ { قُلْت يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلَا أَحْمِلُ لَكَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ فَتُنْتِجُ لَك
بَغْلًا فَتَرْكَبَهَا قَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
ثَنَا مُحَمَّدُ بْن عُبَيْدٍ ثَنَا
عُمَرُ
مِنْ آلِ حُذَيْفَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ أَيْ عُمَرَ قِيلَ هُوَ
ابْنُ حَنْبَلٍ وَقِيلَ ابْنُ أَبِي حَنْبَلِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ الْيَمَانِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَرَوَى عَنْهُ
جَمَاعَةٌ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ
اللَّه وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النِّسَاءِ مِنْ
الْخَيْلِ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إنْزَاءِ
الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ فَذَهَبَ أَبُو دَاوُد وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ إلَى الْكَرَاهَةِ وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ فِي ذَلِكَ
وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
أَحْكَامِهِ الْمُنْتَقَى وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِيمَا رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ هَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ ؟
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا
بِخِلَافِهَا وَقَدْ حَكَى هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ
لِيُدَلِّلَ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ .
فَإِنْ
قِيلَ النَّهْيُ خَاصٌّ لِبَنِي هَاشِمٍ لِقِلَّةِ الْخَيْلِ بِدَلِيلِ
مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ قِيلَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا
بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ
مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي
ارْتِبَاطِهَا وَاقْتِنَائِهَا كَمَا سَبَقَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ،
وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ وَيَحْصُلُ بِهَا مِنْ النَّفْعِ فِي جِهَادِ
أَعْدَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ
أَوْ أَفْضَلُهَا مِنْ الْكَرِّ ، وَالْفَرِّ وَإِدْرَاكِ الْعَدُوِّ ،
وَالنَّجَاةِ عَلَيْهَا مِنْهُ وَيُسَمَّ لَهَا فِي الْجِهَادِ
وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَخْبَارِ
الصَّحِيحَةِ .
وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ
مِثْلِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ ، وَالْفَضَائِلِ مَعَ عَدَمِ النَّسْلِ ،
وَالنَّمَاءِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا قَالَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ
هَذِهِ الْفَضَائِلَ ، وَالْمَنَافِعَ وَمَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي نَظَرِ
الشَّارِعِ فَلَا يَعْدِل عَنْ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ
ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْعُقَلَاءِ لَمْ
يَعْدِلُوا عَنْهُ غَالِبًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَادَةً وَعُرْفًا
تَرْجِيحًا مِنْهُمْ لِلْفَضَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْمَنَافِعِ
الْعُرْفِيَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فَفِيهِ
إسْبَاغُ الْوُضُوءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ سَوَاءٌ ،
وَمَهْمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ عَنْ إنْزَاءِ
الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ
الشَّارِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ
شِفَاهًا اتِّفَاقًا أَوْ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ
أَوْ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِشَرَفِهِمْ
وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطْلَاقُ مَنْ
أَطْلَقَ اخْتِصَاصَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا وَغَيْرُهُمْ فِي
الْحُكْمِ سَوَاءً ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ { لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ
النُّجُومِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ عَامٌّ
لَهُ وَلِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْ الْحَالَ وَلَمْ
يُدْرِكْ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ خِلَافُهُ وَهِيَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ " فَهَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّهْي بِلَا شَكٍّ فَكَيْفَ
يُخَالِفْ كَلَامَ الشَّارِعِ وَيَتْبَعُ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يَكُونُوا أَقَلَّ خَيْلًا
مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟ بَلْ كَانَ فِيهِمْ
مِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَدُونَهُمْ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
لَيْسَ
فِي كَلَامِهِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِبَنِي هَاشِمٍ بَلْ أَرَادَ بَيَانَ
وَجْهِ إطْلَاقِ الِاخْتِصَاصِ وَأَنَّهُ لِهَذَا السَّبَبِ ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ
لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَرَادَ
تَكْثِيرَ الْخَيْلِ فِي بَنِي هَاشِمٍ لِقِلَّتِهَا فَإِنْ كَانَ
غَيْرُهُمْ مِثْلَهُمْ فِي قِلَّتِهَا كَانُوا مِثْلَهُمْ فِي هَذَا
الْحُكْمِ ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهُمْ كَانُوا أَوْلَى بِهَذَا
الْحُكْمِ أَوْ مِثْلَهُمْ .
وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ يَخْتَصُّ هَذَا
الْحُكْمُ بِبَنِي هَاشِمٍ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا وَأَمْثَالَهُ عَلِمَ
أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّعَلُّقِ بِهَذَا فِي صَرْفِ دَلَالَةِ هَذِهِ
الْأَخْبَارِ ، وَالْعُدُولِ عَنْهَا ، فَعَلَى هَذَا ظَاهِرُ مَا سَبَقَ
عَنْ إمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتِصَاصُ
الْكَرَاهَةِ بِإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ
الْأَخْبَارِ ، وَلَا يُقَالُ عَدُّوا الْحُكْمَ نَظَرًا إلَى عَدَمِ
النَّسْلِ ، وَالنَّمَاءِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ سَبَقَتْ أَوْصَافٌ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى
مَجْمُوعِهَا ، وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى أَوْصَافٍ لَا يَثْبُتُ
إلَّا بِمَجْمُوعِهَا فَلَا تَصِحُّ التَّعْدِيَةُ .
، وَقَدْ
يَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ نَظَرًا إلَى عَدَمِ النَّمَاءِ فَإِنَّهُ
الْمَقْصُودُ أَوْ مُعْظَمُهُ ، ، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ
الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ جِنْسَيْنِ أَخْبَثُ طَبْعًا مِنْ أُصُولِهَا
الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهَا كَمَا مَعْرُوفٌ مِنْ الْبِغَالِ وَغَيْرِهَا
فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ مُلَابَسَتِهِ وَاقْتِنَائِهِ تَعَبٌ
وَمَشَقَّةٌ لَا تَحْصُلُ بِالْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَهَذَا مَعْنًى
مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ فِعْلِهِ وَيَصْلُحُ ذِكْرُهُ فِي أَصْلِ
الْمَسْأَلَةِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَخْبَارُ خَرَجَتْ بِحَسَبِ
الْوَاقِعِ أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَيَكُونُ الْمُرَادُ صِيَانَةَ
الْخَيْلِ عَنْ مُزَاوَجَةِ الْحُمُرِ وَحِفْظِ مَائِهَا لِمَا فِيهَا
مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَالْمَنَافِعِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ
إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ ،
وَالْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ وَقَالَ عَنْ إنْزَاءِ
الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرُ يُحْتَمَل أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي
النَّهْيِ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْلِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ
الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } .
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ
فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَسْبَابِ اتِّخَاذِ
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَا يُمْتَنُّ بِهَا .
وَمِنْ
الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَةً وَاقْتَنَاهَا } فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ
السَّبَبِ وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُتَأَسَّى بِهِ فِي
فِعْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ ،
وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ ، وَلِأَنَّهُ
اسْتِيلَادُ حَيَوَانٍ لَهُمْ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا فَلَمْ يُكْرَهْ
كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ .
وَلِمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ أَنْ يُجِيبَ
عَنْ ذَلِكَ : أَمَّا الْآيَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ
الِامْتِنَانِ هُنَا إبَاحَةُ السَّبَبِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ
الدَّلِيلُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَإِنْ أَبْدَى دَلِيلًا تَكَلَّمْنَا
عَلَيْهِ .
ثُمَّ نَقُولُ قَدْ يَكُونُ هَذَا السَّبَبُ مُحَرَّمًا ،
وَالِامْتِنَانُ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَطَفَ بِنَا وَرَحِمَنَا
إذْ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا هَذَا الْحَيَوَانَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ
أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إجْمَاعًا
بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ بِهِ
عَلَيْنَا بِلَا شَكٍّ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ
فَكَيْفَ بِهَذَا السَّبَبِ الْمَكْرُوهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي
الْجُمْلَةِ ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ هَذَا فِي السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ هُنَا
فَلَا نُسَلِّمُهُ فِي الْمَكْرُوهِ .
وَيَحْسُنُ الِامْتِنَانُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِيهِ
فِي
الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ الْمُكَلَّفُ إلَّا مَا وَسَّعَ الشَّارِعُ
عَلَيْهِ فِيهِ ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ
جَمْعًا بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ ،
وَالْإِلْغَاءِ .
وَهَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ وَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَقَوْلِهِمْ
الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ فَيَصِحُّ إنْ أُرِيدَ الْجِنْسُ لَا
عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَةِ عُمُومِ الْجِنْسِ فَكُلُّ رَجُلٍ لَيْسَ هُوَ
خَيْرًا مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ .
وَأَمَّا رُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْلَةَ فَأَضْعَفُ فِي الدَّلَالَةِ لِعَدَمِ
الِامْتِنَانِ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّبَبِ بِوَجْهٍ وَقَدْ
يَكُونُ فَعَلَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ
غَيْرُهَا وَقَدْ يَكُونُ فَعَلَهُ بَيَانًا وَتَعْلِيمًا لِمَنْ قَدْ
يَخْفَى عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ
لَيْسَ وُقُوعُ مِثْلِهِ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ لِيَكُونَ حُكْمُهُ
مَشْهُورًا لَا يَخْفَى وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ بَيَانًا لِجَوَازِ
قَبُولِ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ ، وَالِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَدَوَامِ ذَلِكَ لِيَشْتَهِرَ فَيَبْلُغَهُمْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ
رَجَاءَ خَيْرِهِمْ وَكَفًّا لِشَرِّهِمْ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ
لِيَتَبَيَّنَ بِهِ غَايَةَ الشَّجَاعَةِ إذَا حَضَرَ بِهِ الْجِهَادَ ؛
لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَكِرُّ وَلَا يَفِرُّ إنْ طَلَبَ لَمْ
يُدْرِكْ وَإِنْ طُلِبَ أَدْرَكَ كَمَا جَرَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ هَوَازِنَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ وَقَدْ
انْكَشَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ { أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ أَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } وَهَذَا غَايَةُ الشَّجَاعَةِ ، وَمَعَ
هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ وَغَيْرِهَا فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَذَا
الْفِعْلِ لَا سِيَّمَا مَعَ
مَا سَبَقَ عَنْهُ مِنْ الْبَيَانِ الْخَاصِّ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ ، وَالْإِلْغَاءِ ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى فَسَادِهِ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ جَرَسٍ أَوْ وَتَرٍ عَلَى الدَّوَابِّ
وَالْبَهَائِمِ وَالْجِمَالِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَنَحْوِهَا
لِلْخَبَرِ وَهُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ مَرْفُوعًا { لَا تَصْحَبُ
الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ } .
وَعَنْهُ
أَيْضًا مَرْفُوعًا { الْجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ }
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ قَالَ الْقَاضِي : وَيُكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ
اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي الرَّكْبِ ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْأَوْتَارِ
فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ ، وَالرِّكَابِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي الرَّكْبِ وَيُكْرَهُ تَرْكُ
الْأَوْتَارِ فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ ، وَالرِّكَابِ وَقَالَ ابْنُ
عَقِيلٍ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي مَرْكَبٍ وَيُكْرَهُ تَرْكُ
الْأَوْتَارِ فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ ،
وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ
عُبَيْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ
رَسُولًا لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ
أَوْ قِلَادَةٌ إلَّا قُطِعَتْ { .
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا
الْأَوْتَارَ } أَيْ قَلِّدُوهَا طَلَبَ أَعْدَاءِ الدِّينِ ،
وَالدِّفَاعَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا طَلَبَ أَوْتَارِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَدُخُولَهَا الَّتِي كَانَتْ بَيْنَكُمْ ،
وَالْأَوْتَارُ جَمْعُ وِتْرٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الدَّمُ وَطَلَبُ
الثَّأْرِ ، يُرِيدُ اجْعَلُوا ذَلِكَ لَازِمًا لَهَا فِي أَعْنَاقِهَا
لُزُومَ الْقَلَائِدِ لِلْأَعْنَاقِ .
وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَوْتَارِ
جَمْعَ وَتَرٍ وَتَرَ الْقَوْسِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِهَا
الْأَوْتَارَ فَتَخْتَنِقَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ رُبَّمَا رَعَتْ
الْأَشْجَارَ فَنَشِبَتْ الْأَوْتَارُ بِبَعْضِ شُعَبِهَا فَخَنَقَتْهَا ،
وَقِيلَ إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْهَا ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ
أَنَّ تَقْلِيدَ الْخَيْلِ بِالْأَوْتَارِ يَدْفَعُ عَنْهَا الْعَيْنَ ،
وَالْأَذَى فَيَكُونُ كَالْعُوذَةِ لَهَا فَنَهَاهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ
أَنَّهَا لَا تَدْفَعُ ضَرَرًا انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَذَكَرَ
الْخَطَّابِيُّ
الْأَوَّلَ قَوْلًا ، وَالثَّانِي احْتِمَالًا
وَقَالَ أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَطْعِ قَلَائِدِ الْخَيْلِ قَالَ
مَالِكٌ أَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْعَيْنِ قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ
إنَّمَا أَمَرَ بِقَطْعِهَا ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ فِي
الْقَلَائِدِ الْأَجْرَاسَ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي
الْمُسْنَدِ ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ
حَدَّثَنِي عَقِيلُ بْنُ شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ
وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ
وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا أَوْ قَالَ وَأَكْفَالِهَا ،
وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَقِيلٌ
وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ قَالَ
بَعْضُهُمْ لَا يُعْرَفُ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ جَيِّدٌ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ مُوسَى الْأَشْنَبُ ثَنَا ابْنُ
لَهِيعَةَ ثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ شُيَيْمِ بْنِ بَيْتَانِ
ثَنَا رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ { كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَنِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ جَمَلَ
أَخِيهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَهُ
النِّصْفُ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَطِيرُ لَهُ النِّصَالُ ، وَالرِّيشُ
، وَالْآخَرَ الْقَدَحُ ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِك
فَأَخْبِرْ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ
وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ
مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد : ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَمْدَانِيِّ حَدَّثَنَا
الْفَضْلُ يَعْنِي بْنَ فَضَالَةَ الْمِصْرِيَّ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ
عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانِ أَخْبَرَهُ عَنْ
شَيْبَانَ الْعَنَانِيِّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ اسْتَعْمَلَ
رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى أَسْفَلِ الْأَرْضِ قَالَ شَيْبَانُ
فَسِرْنَا مَعَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
ثَنَا
يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا مُفَضَّلٌ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ شُيَيْمِ أَنَّ
بَيْتَانِ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سَلَمَةَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَذَكَرَ آخَرُ
قَبْلَهُ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانِ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ
وَأَوَّلُهُ { يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِك بَعْدِي }
.
وَمَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحٌ وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ
الثَّلَاثَةُ جَيِّدَةٌ وَفِي ابْنِ لَهِيعَةَ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ
بِالْعُمْدَةِ هُنَا وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ وَهُوَ
يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَقْلِيدِ الْوَتَرِ لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ
كَلَامُ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي الْمُرَادِ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ قِيلَ هُوَ مُعَالَجَتُهَا حَتَّى
تَتَعَقَّدَ وَتَتَجَعَّدَ وَقِيلَ كَانُوا يَعْقِدُونَهَا فِي الْحُرُوبِ
فَأَمَرَهُمْ بِإِرْسَالِهَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا
وَعَجَبًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي الطَّرِيقِ
اتِّفَاقًا بِمَنْ مَعَهُ كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ فَلَمْ يَقْصِدْ رُفْقَتَهُ
يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ صُحْبَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ أَمْ لَا أَمْ إنْ
أَمْكَنَهُ الِانْفِرَادُ فَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ سَبَبًا وَإِلَّا فَلَا ؟
يَتَوَجَّهُ احْتِمَالَاتُ .
يُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ ، وَالْإِسْنَادُ حَسَنٌ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ
كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا جُنُبٌ } فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ
أَمْ صُورَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا ؟ وَهَلْ يُحْمَلُ الْكَلْبُ عَلَى كَلْبٍ
يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ كَمَا لَا يَنْقُصُ أَجْرَهُ بِغَيْرِهِ أَمْ
مُطْلَقًا ؟ وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْجُنُبِ مَنْ يَتْرُكهُ عَادَةً
وَتَهَاوُنًا أَمْ مُطْلَقًا ؟ يَتَوَجَّهُ الْخِلَافُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا الْخَبَرُ
فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ } سُلَيْمَانُ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ لَمْ يَرْتَكِبْ صَاحِبُهُ نَهْيًا .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسَائِلِ الْوَرْعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ
النَّوْمِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ
أَنْ تُقْبَضَ رُوحُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَا تَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ
جِنَازَتَهُ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا
فِيهِ جُنُبٌ } وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَنْ اللُّبْثِ فِي
الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ
وَالْبَصَلَ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقَدْ قَالَ { إنَّ الْمَلَائِكَةَ
تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } فَلَمَّا أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ
وَعِنْدَ النَّوْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ
الْجَنَابَةَ الْغَلِيظَةَ يَبْقَى مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُحْدِثِ
وَبَيْنَ الْجُنُبِ لَمْ يُرَخَّصْ فِيمَا تُرُخِّصَ فِيهِ لِلْمُحْدِثِ
مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مِنْ
اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وُضُوءٌ عِنْدَ النَّوْمِ
يَقْتَضِي شُهُودَ الْمَلَائِكَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ
تَدْخُلُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا تَوَضَّأَ قَالَ
وَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ فَتَشْهَدُ
الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ ، حِينَئِذٍ عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا
يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ تَخْفِيفُ
الْجَنَابَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ
يَنَامُ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ
فَذَلِكَ الْوُضُوءُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ ،
وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ لِيُخَفِّفَ الْجَنَابَةَ وَإِلَّا فَهَذَا
الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مِنْ
الصَّلَاةِ ، وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَصْلٌ ( اسْتِعْمَالُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَمَا يُكْرَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْيُسْرَى ) .
وَيُكْرَهُ
لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَثِرَ وَيُنَقِّي أَنْفَهُ وَوَسَخَهُ
وَدَرَنَهُ وَيَخْلَعَ نَعْلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَسَارِهِ مُطْلَقًا وَيَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ
مِنْ يَدِ غَيْرِهِ بِالْيُمْنَى ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ
الْمُسْتَحَبَّاتِ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ
الْقَادِرِ وَقَالَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَ إنْسَانًا تَوْقِيعًا
أَوْ كِتَابًا فَلْيَقْصِدْ يَمِينَهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
{ لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ
وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ
وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ }
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ " وَلْيَأْخُذْ
بِيَمِينِهِ " .
فَصْلٌ يَجُوزُ الْإِرْدَافُ عَلَى الدَّابَّةِ وَرُكُوبُ ثَلَاثَةٍ ، { أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ عَلَى حِمَارٍ } وَقَالَ أَيُّوبُ ذُكِرَ أَشَرُّ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ ، وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَيُّهُمْ أَشَرُّ وَأَيُّهُمْ أَخْيَرُ ؟ } رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
فَصْلٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ لَا يَبْصُقُ الرَّجُلُ إلَّا عَنْ يَسَارِهِ .
وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَيَبْصُقُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ
وَغَيْرِ الصَّلَاةِ عَنْ يَسَارِهِ وَقَالَ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ
يَبْصُقَ عَنْ يَسَارِهِ وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ سَأَلْتُ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ كُرِهَ الرُّكُوبُ فِي الْمَحْمَلِ فِي
الشِّقِّ الْأَيْمَنِ قَالَ لِمَوْضِعِ الْبُصَاقِ .
وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ مُهَنَّا يُكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ فِي
الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ وَقَالَ أَلَيْسَ عَنْ يَمِينِهِ
الْمَلَكُ ؟ فَقُلْت وَعَنْ يَسَارِهِ أَيْضًا مَلَكٌ قَالَ الَّذِي عَنْ
يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَاَلَّذِي عَنْ يَسَارِهِ يَكْتُبُ
السَّيِّئَاتِ .
فَصْلٌ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى لَا
يُكْرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ الِانْتِعَالُ وَالشُّرْبُ وَالْبَوْلُ
قَائِمًا مَعَ التَّحَرُّزِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى الْكَرَاهَةَ
وَقَطَعَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِعَدَمِهَا وَيَأْتِي بَعْدَ فُصُولٍ
فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ مَسْأَلَةُ الشُّرْبِ قَائِمًا .
وَيُكْرَهُ
الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ زَادَ فِي
الْمُجَرَّدِ ، وَالْفُصُولِ ، وَالْغُنْيَةِ مَا مَعْنَاهُ إلَّا
الْيَسِيرَ بِمِقْدَارِ مَا يُصْلِحُ الْأُخْرَى قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ
وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ يَقِفَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْهَا
وَيَأْتِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي اللِّبَاسِ قَبْلَ ذِكْرِ
الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ .
وَيُكْرَهُ النَّوْمُ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلْخَبَرِ أَنَّهُ يُخْتَلَسُ عَقْلُهُ فِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَنَامَ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ يُخَافُ عَلَى عَقْلِهِ .
وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ
الظِّلِّ ، وَالشَّمْسِ قَالَ هَذَا مَكْرُوهٌ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ
ذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَعِيدٌ ثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي
حَازِمٍ قَالَ { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الظِّلِّ }
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الظِّلِّ ، وَالشَّمْسِ عَنْ
مُسَدَّدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ { جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَخْطُبُ فَقَامَ فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَ بِهِ فَحَوَّلَ إلَى الظِّلِّ }
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ أَبِي خَالِدٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ الْمَعْنَى
الْمُقْتَضَيْ لِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ خَلَلُ فَهْمِ
الْخُطْبَةِ بِتَشْوِيشِ الذِّهْنِ بِالشَّمْسِ أَوْ تَضَرُّرِهِ
بِالشَّمْسِ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهَا أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَرَوَى
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا فِي
الشَّمْسِ فَقَالَ تَحَوَّلْ إلَى الظِّلِّ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ }
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ " اسْتَقْبِلُوا الشَّمْسَ
بِجِبَاهِكُمْ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ " .
وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى
أَنْ يُقْعَدَ بَيْنَ الظِّلِّ ، وَالشَّمْسِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَفِيهِ أَبُو الْمُنِيبِ الْعَتَكِيُّ
وَقَدْ ضُعِّفَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ ،
هَذَا وَلِأَحْمَدَ الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَجْلِسُ
الشَّيْطَانِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الشَّمْسِ وَفِي لَفْظٍ فِي الْفَيْءِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظِّلُّ وَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ فَلْيَقُمْ } وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ اخْتِيَارُ الظِّلِّ ، وَالْفَيْءِ فَلَا يُكْثِرُ الْجُلُوسَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَنَامُ فِيهَا كَمَا قِيلَ يُثِيرُ الدَّاءَ الدَّفِينَ وَلَا بَيْنَهُمَا ، وَيُحْمَلُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ عَلَى الْحَاجَةِ لِدَفْعِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ جَالِينُوسُ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ السَّهَرِ أَوْ التَّعَرُّضِ لِلشَّمْسِ الْحَارَّةِ وَقَعَ فِي الْبِرْسَامِ سَرِيعًا ، وَالْبِرْسَامُ وَرَمٌ حَارٌّ فِي الدِّمَاغِ .
وَيُكْرَهُ أَنْ
يَتَّكِئَ أَحَدٌ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ قَالَ
أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ
ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الشَّرِيدِ عَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ مَرَّ بِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا أَيْ
وَقَدْ وَضَعْت يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى
أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ : { لَا تَقْعُدْ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَيَأْتِي الْجُلُوسُ
مُتَّكِئًا وَمُحْتَبِيًا وَمُتَرَبِّعًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي آدَابِ
الْمَجَالِسِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي ظِلِّ الْمَنَارَةِ وَكَنْسُ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ .
فَصْلٌ ( فِي اسْتِحْبَابِ الْقَيْلُولَةِ وَالْكَلَامِ فِي سَائِرِ نَوْمِ النَّهَارِ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ اسْتِحْبَابُ الْقَائِلَةِ نِصْفَ النَّهَارِ قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ كَانَ أَبِي يَنَامُ نِصْفَ النَّهَارِ شِتَاءً كَانَ أَوْ
صَيْفًا لَا يَدَعُهَا وَيَأْخُذُنِي بِهَا وَيَقُولُ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا
تَقِيلُ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ ضَبَطَهُنَّ ضَبَطَ الصَّوْمَ مَنْ قَالَ
وَتَسَحَّرَ وَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ
تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { اسْتَعِينُوا
بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ ، وَالْقَيْلُولَةِ عَلَى
قِيَامِ اللَّيْلِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ زَمْعَةَ بْنِ
صَالِحٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى
الْمُوصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ وَرَوَاهُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ
حَدِيثِهِ .
ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ
وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ نَوْمَ النَّهَارِ لَا يُكْرَهُ شَرْعًا
لِعَدَمِ دَلِيلِ الْكَرَاهَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّهُ
تُسْتَحَبُّ الْقَائِلَةُ .
وَالْقَائِلَةُ النَّوْمُ فِي الظَّهِيرَةِ
، ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَظَاهِرُهُ شِتَاءً وَصَيْفًا ، وَإِنْ
كَانَ الصَّيْفُ أَوْلَى بِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَا سَبَقَ وَسَبَقَ
الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ، وَجَزَمَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي
الْأَصْحَابِ أَظُنُّهُ صَاحِبَ النَّظْمِ بِكَرَاهَةِ ، النَّوْمِ بَعْدَ
الْفَجْرِ .
وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ الْأَرْضَ تَعِجُّ مِنْ
نَوْمِ الْعَالَمِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ رَأَى مُعَاوِيَةَ حَمَلَ
اللَّحْمَ فَقَالَ يَا مُعَاوِيَةُ مَا هَذَا لَعَلَّك تَنَامُ نَوْمَةَ
الضُّحَى ؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّمْنِي مِمَّا
عَلَّمَك اللَّهُ .
وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنًا لَهُ
نَائِمًا نَوْمَةَ الضُّحَى فَقَالَ لَهُ قُمْ أَتَنَامُ فِي السَّاعَةِ
الَّتِي تُقَسَّمُ
فِيهَا الْأَرْزَاقُ ؟ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ
وَقْتُ طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَالسَّعْيِ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا عِنْدَ
الْعُقَلَاءِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ
بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا } وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلَا
إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى خَبَالًا وَنَوْمَاتِ
الْعَصِيرِ جُنُونُ وَاقْتَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ
الْأَطِبَّاءُ أَنَّ نَوْمَ النَّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ
الرُّطُوبِيَّةَ ، وَالنَّوَازِلَ وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ وَيُورِثُ
الطِّحَالَ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ وَيُضْعِفُ الشَّهْوَةَ إلَّا
فِي الصَّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ وَأَرْدَؤُهُ النَّوْمَ أَوَّلَ
النَّهَارِ وَأَرْدَأُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَنَوْمُ الصُّبْحَةِ
مُضِرٌّ جِدًّا بِالْبَدَنِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُفْسِدُ
الْعَضَلَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرِّيَاضَةِ فَتُحْدِثُ
تَكَسُّرًا وَعَنَاءً أَوْ ضَعْفًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبِرَازِ ،
وَالرِّيَاضَةِ وَإِشْغَالِ الْمَعِدَةِ بِشَيْءِ فَهُوَ الدَّاءُ
الْعُضَالُ الْمُوَلِّدُ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ وَرُوِيَ أَنَّ
الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ خُلُقَانِ أَكْرَهُهُمَا :
النَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ ، وَالضَّحِكِ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ .
وَالثَّالِثَةُ
وَهِيَ الْعُظْمَى إعْجَابُ الرَّجُلِ بِعَمَلِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
ذَلِكَ وَقَالَ دَاوُد لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
إيَّاكَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يُفْقِرُك إذَا احْتَاجَ النَّاسُ
إلَى أَعْمَالِهِمْ وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إيَّاكَ
وَكَثْرَةَ النَّوْمِ ، وَالْكَسَلَ ، وَالضَّجَرَ فَإِنَّك إذَا كَسِلْت
لَمْ تُؤَدِّ حَقًّا ، وَإِذَا ضَجِرْت لَمْ تَصْبِرْ عَلَى حَقٍّ وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْجَهْلِ النَّوْمُ فِي أَوَّلِ
النَّهَارِ ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ ، وَالْقَائِلَةُ تَزِيدُ
فِي الْعَقْلِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ :
النَّوْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ نَوْمُ خُرْقٍ ، وَنَوْمُ خَلْقٍ ،
وَنَوْمُ حُمْقٍ .
فَأَمَّا النَّوْمُ الْخُرْقُ فَنَوْمَةُ الضُّحَى يَقْضِي النَّاسُ حَوَائِجَهُمْ وَهُوَ
نَائِمٌ
، وَأَمَّا النَّوْمُ الْخَلْقُ فَنَوْمُ الْقَائِلَةِ نِصْفَ النَّهَارِ
، وَأَمَّا نَوْمُ الْحُمْقِ فَنَوْمٌ حِينَ تَحْضُرُ الصَّلَاةُ وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ نَوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ يَعْدِلُ
شَرْبَةَ دَوَاءٍ يَعْنِي فِي الصَّيْفِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ
النُّعَاسُ يُذْهِبُ الْعَقْلَ ، وَالنَّوْمُ يَزِيدُ فِيهِ .
قَالُوا
تَنَامُ فَقُلْت الشَّوْقُ يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَنَامَ وَعَيْنِي
حَشْوُهَا السَّهَدُ أَبْكِي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ حَتَّى
إذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى رَقَدُوا هُمُو دَعَوْنِي فَلَمَّا قُمْت
مُقْتَضِيًا لِلْحُبِّ نَحْوَهُمْ مِنْ قُرْبِهِمْ بَعُدُوا لَأَخْرُجَنَّ
مِنْ الدُّنْيَا وَحُبُّهُمْ بَيْنَ الْجَوَانِحِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ
أَحَدُ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : يَقُولُونَ طَالَ اللَّيْلُ وَاللَّيْلُ
لَمْ يَطُلْ وَلَكِنَّ مَنْ يَبْكِي مِنْ الشَّوْقِ يَسْهَرُ وَقَالَ
آخَرُ : أَبِيتُ أُرَاعِي النَّجْمَ حَتَّى كَأَنَّنِي بِنَاصِيَتِي
حَبْلٌ إلَى النَّجْمِ مُوثَقُ وَمَا طَالَ لَيْلِي غَيْرَ أَنِّي
أُحِبُّهَا أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالْأَمَانِي فَتَقْلَقُ ذَكَرَ هَذِهِ
الْآثَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ .
فَأَمَّا النَّوْمُ
عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : النَّوْمُ عِنْدَ
الْمَوْعِظَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ ، كَانَ يُقَالُ لِإِبْلِيسِ لَعَنَهُ
اللَّهُ لَعُوقٌ وَكُحْلٌ وَسَعُوطٌ ، فَلُعُوقُهُ الْكَذِبُ وَكُحْلُهُ
النُّعَاسُ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَسُعُوطُهُ الْغَضَبُ .
وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ حُكْمُ النَّوْمِ فِي الشَّمْسِ .
فَصْلٌ ( فِي التَّكَنِّي مَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُكْرَهُ ) .
يُكْرَهُ
أَنْ يَتَكَنَّى بِأَبِي يَحْيَى وَأَبِي عِيسَى ذَكَرَهُ فِي
الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ
وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ دَلِيلًا .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ
مَنْصُورٍ عَمَّنْ كَرِهَ أَنْ يُكَنَّى بِأَبِي عِيسَى قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ : فَإِنَّمَا كَرِهَ أَبَا عِيسَى دُونَ أَبِي يَحْيَى ،
وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا
هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ ثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنُ
سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ ابْنًا لَهُ يُكْنَى أَبَا
عِيسَى .
وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ تَكَنَّى بِأَبِي عِيسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمَا يَكْفِيك أَنْ تُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّه .
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَنَّانِي " فَقَالَ
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَإِنَّا فِي جَلَجِنَا
فَلَمْ يَزَلْ يُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى هَلَكَ ، كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد .
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ : ثَنَا أَبُو بَكْرٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
بُكَيْرٍ ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ
لِصُهَيْبٍ مَا لَك تُكَنَّى بِأَبِي يَحْيَى وَلَيْسَ لَك وَلَدٌ قَالَ
كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ بِأَبِي يَحْيَى } إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَعَنْ
أَبِي الْقَاسِمِ رِوَايَاتٌ الْكَرَاهَةُ وَعَدَمُهَا ، وَالثَّالِثَةُ
إنْ اكْتَنَى بِهَا مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا
ذَكَرَهُنَّ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { تَسَمَّوْا
بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ
بَيْنَكُمْ } .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { نَادَى رَجُلٌ بِالْبَقِيعِ
يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ أَعْنِك إنَّمَا عَنَيْت فُلَانًا فَقَالَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَعَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ وُلِدَ
لِي مِنْ بَعْدِك وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِك وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِك
قَالَ نَعَمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ
جَيِّدٍ وَفِيهِ فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ كَانَتْ رُخْصَةً لِعَلِيٍّ رَوَاهُمَا
أَحْمَدُ وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا النُّفَيْلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عِمْرَانَ الْحَجَبِيُّ عَنْ جَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَلَدْت غُلَامًا
فَسَمَّيْته مُحَمَّدًا وَكَنَّيْته أَبَا الْقَاسِمِ فَذُكِرَ لِي أَنَّك
تَكْرَهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ
كُنْيَتِي ؟ أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي }
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ ثَنَا
أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنَّى بِكُنْيَتِي
وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي } وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ هِشَامٍ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ
طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ
أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُدْعَى
أَحَدٌ بِاسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ فَيَلْتَفِتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ سَمِعْت
أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَعْقُوبَ سَمِعْت الرَّبِيعَ
بْنَ
سُلَيْمَانَ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ
يَكْتَنِيَ بِأَبِي الْقَاسِمِ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ غَيْرَهُ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرَوَيْنَا مَعْنَى هَذَا عَنْ طَاوُسٍ قَالَ
وَأَحَادِيثُ النَّهْي عَلَى الْإِطْلَاقِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فَالْحُكْمُ
لَهَا ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ نَهْيًا حَتَّى
سَأَلَ الرُّخْصَةَ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنْ صَحَّ طَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ وَقَعَ
فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَالتَّنْزِيهِ لَا عَلَى غَيْرِ
التَّحْرِيمِ فَحِينَ تَوَهَّمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ
بَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّمِ قَالَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
.
وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّ التَّكَنِّي بِغَيْرِ
ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي
حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَكَمُ وَكَنَّاهُ بِأَبِي شُرَيْحٍ } قَالَ وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ
ذَلِكَ لِئَلَّا يُشَارِكَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ ، وَيَجُوزُ
أَنْ يُكْتَنَى بِوَلَدٍ قَبْلَ حُصُولِهِ وَبِحَيَوَانٍ صَغِيرٍ
لِلْأَثَرِ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ لَا بَأْسَ أَنْ يُكْنَى الصَّبِيُّ { قَالَ النَّبِيُّ لِأَبِي
عُمَيْرٍ وَكَانَ صَغِيرًا يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ } .
وَقَالَ
ابْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ تُكَنَّى الْمَرْأَةُ قَالَ نَعَمْ
عَائِشَة كَنَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ صَحَّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ
صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى قَالَ فَاكْتَنِي بِابْنِ أُخْتِك عَبْدِ
اللَّهِ .
قَالَ مُسَدِّدٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ
فَكَانَتْ تُكَنَّى أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أَتَيْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ
فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَقَالَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَنْتِ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ } .
وَقَالَ
أَبُو طَالِبٍ سَأَلْتُهُ يَكْنِي الرَّجُلُ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَالَ قَدْ
كَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْقُفَ نَجْرَانَ
وَعُمَرُ قَالَ يَا أَبَا حَسَّانٍ أَيْ : كَنَّى رَجُلًا أَنَّهُ لَا
يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ رَوَى
مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مُرْسَلًا
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُسْقُفِ
نَجْرَانَ يَا أَبَا الْحَارِثِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ } .
فَصْلٌ ( فِي آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمُرَاعَاةِ الصِّحَّةِ فِيهَا ) .
يُكْرَهُ
نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ
وَلِذَلِكَ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَ النَّفْخِ ، وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ إذَا كَانَ حَارًّا وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ حَارًّا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ .
وَالتَّنَفُّسُ
فِي إنَائِهِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ } ، وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ } .
وَعَنْ
أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ رَجُلٌ الْقَذَاةُ أَرَاهَا
فِي الْإِنَاءِ ؟ فَقَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ
نَفَسٍ وَاحِدٍ وَقَالَ فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذًا عَنْ فِيك } رَوَاهُمَا
أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَيُكْرَهُ
أَكْلُهُ مِمَّا يَلِي غَيْرَهُ ، وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ذَكَرَ
الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا هَذَا الْقَيْدَ وَمِنْ وَسَطِ
الْقَصْعَةِ ، وَالصَّحْفَةِ وَأَعْلَاهَا وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ ذَكَرَهُ
ابْنُ عَقِيلٍ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى
الصَّحْفَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ
تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا } عَطَاءٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ اخْتَلَطَ قَالَ
يَحْيَى الْقَطَّانُ مَا سَمِعَ مِنْهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ فَصَحِيحٌ
إلَّا حَدِيثَيْنِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ حَسَنٌ
صَحِيحٌ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ قَالَ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ عَنْ عَطَاءٍ .
وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ { الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ فِي وَسَطِ
الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ }
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْخَبَرِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَمْرُو
بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ ثَنَا أَبِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَالَ { كَانَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا
الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا
وَسَجَدُوا الضُّحَى أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي وَقَدْ ثُرِدَ
فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثُرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ
الْجِلْسَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ
اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا شَكُورًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا
عَنِيدًا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَدَعُوا ذُرْوَتَهَا يُبَارَكْ
فِيهَا } إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا .
وَيُكْرَهُ
أَكْلُهُ مُتَّكِئًا أَوْ مُضْطَجِعًا ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ
بِشِمَالِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ
حَزْمٍ أَنَّ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ مُحَرَّمٌ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ .
وَقَالَ
ابْنُ أَبِي مُوسَى وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ
تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَتَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ كَلَامُ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِيهِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ ،
وَالتَّنَاوُلِ بِالْيَمِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ يَجِبُ
الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيُسْرَى وَمَسُّ الْفَرْجِ بِهَا دُونَ الْيُمْنَى
رُبَّمَا لِينَ النَّهْيُ فِي كِلَيْهِمَا .
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ
عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ
الشَّيْطَانُ وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ }
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ بِيَمِينِهِ خُبْزًا
وَبِشِمَالِهِ شَيْئًا يَأْتَدِمُ بِهِ وَجَعَلَ يَأْكُلُ
مِنْ
هَذَا وَمِنْ هَذِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ بِشِمَالِهِ
وَلِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرَهِ وَغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَرِهَ أَنْ
لَا يَتَنَاوَلَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعُ مَا قَبْلَهَا وَقَدْ سَبَقَ
فِي آخِرِ فُصُولِ الطِّبِّ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ إنَّ الرُّطَبَ
يُؤْكَلُ بِأَشْيَاءَ لِيَقِلَّ ضَرَرُهُ ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَأْخُذُ
الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ ، وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ
بِالْبِطِّيخِ } .
فَهَذَا الْخَبَرُ غَرِيبٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَإِنْ صَحَّ خُصَّ الْعُمُومُ بِهِ وَمَعَ ضَعْفِهِ يُعْمَلُ
بِالْعُمُومِ ، وَقَدْ يُقَالُ الْمَقَامُ مَقَامُ اسْتِحْبَابٍ
وَكَرَاهَةٍ ، وَالْخَبَرُ الضَّعِيفُ يُعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى
كُلِّ حَالٍ فَهُوَ شَيْءٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى هَنَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيُّ وَهُوَ
رِوَايَةٌ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْوَاهِيَاتِ مَعَ أَنَّ الْإِسْنَادَ لَا
يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ التَّمْرَ بِيَمِينِهِ
وَبَعْضَ الْبِطِّيخِ بِشِمَالِهِ } .
وَيُكْرَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ
بِمَطْعُومٍ غَيْرِ نُخَالَةٍ مَحْضَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ وَمِلْحٍ ،
كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ وَقَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَطْعُومِ وَلَا بَأْسَ
بِالنُّخَالَةِ .
قَالَ فِي الْمُغْنِي وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ
عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمِلْحِ ، وَالْمِلْحُ طَعَامٌ فَفِي مَعْنَاهُ
مَا أَشْبَهَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهَذَا مِنْ أَبِي
مُحَمَّدٍ يَقْتَضِي جَوَازَ غَسْلِهَا بِالْمَطْعُومِ ، وَهَذَا خِلَافُ
الْمَشْهُورِ .
وَيَأْتِي كَلَامُهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ
فُصُولٍ : وَعَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ التَّمِيمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
أَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ
اللَّهُ
عَنْهَا فَقَالَ : هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَأُتِينَا بِجَفْنَةٍ
كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ ، وَالْوَدَكِ فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا
فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلْت أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا فَقَبَضَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى
يَدِي الْيُمْنَى ، ثُمَّ قَالَ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ
فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ ، ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ
رُطَبٌ أَوْ تَمْرٌ شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ فَجَعَلْت
آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ ، ثُمَّ قَالَ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ
حَيْثُ شِئْت فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ .
ثُمَّ أُتِينَا
بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ،
ثُمَّ مَسَحَ بِبَلَلِ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ
يَا عِكْرَاشُ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ } رَوَاهُ
أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ ثَنَا إسْمَاعِيلُ
الْقَاضِي ثَنَا أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَاءُ بْنُ الْفَضْلِ
الْمُنْقِرِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ حَدَّثَنِي
أَبِي فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ
وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا
مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ وَقَدْ تَفَرَّدَ الْعَلَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ يَنْفَرِدُ بِأَشْيَاءَ مَنَاكِيرَ وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِكْرَاشٍ شَيْخٌ
مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : لَا يَثْبُتُ .
وَالْقَوْلُ
بِحُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا فَظَاهِرُهُ الْأَكْلُ مِمَّا يَلِيهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو
زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ { يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ
وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيَك }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ
عِكْرَاشٍ قَدْ يُعَضِّدُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ
يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
تَتَبَّعَهُ مِنْ حَوَالَيْ جَانِبِهِ أَوْ أَنَّ الْعِلَّةَ اسْتِقْذَارُ
جَلِيسِهِ ذَلِكَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ
كَوْنِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ
حَامِدٍ فِي مُبَاسَطَةِ الْإِخْوَانِ عَلَى الطَّعَامِ .
فَصْلٌ
فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَصْدِقَاءِ بِالْإِذْنِ
وَلَوْ عُرْفًا يُبَاحُ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ
مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ عَنْهُ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ رِضَا
صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ ، وَالْعُرْفِ هَذَا هُوَ
الْمُتَوَجِّهُ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ
الِاسْتِئْذَانِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي رِضَا صَاحِبِهِ أَوْ
عَلَى الْوَرَعِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرَابَاتِ الْمَذْكُورِينَ
لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ طَعَامِهِمْ لَهُمْ فَإِنْ كَانَ
الطَّعَامُ وَرَاءَ حِرْزٍ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ ذَلِكَ الْحِرْزَ .
قَالَ
وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَة يَرَيَانِ الْأَكْلَ مِنْ طَعَامِ
الصَّدِيقِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ جَائِزًا وَقَالَ الْقَاضِي فِي
الْجَامِعِ فَرْعٌ فِي مَنْعِ الْأَكْلِ مِنْ مَنْزِلِ الْأَهْلِ ،
وَالْأَصْدِقَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سُئِلَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ } إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } .
فَقَالَ إذَا أُذِنَ
لَك فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فَرَخَّصَ لَهُمْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ
النَّضْرِ سُئِلَ أَحْمَدُ أَيَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِهِ
بَيْتِ عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ قَالَ لَا يَأْكُلُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَنَحْوِهِ مَعَ شَرِيكٍ أَوْ مُطْلَقًا ) .
وَيُكْرَهُ
الْقِرَانُ فِي التَّمْرِ وَقِيلَ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ لَا وَحْدَهُ
وَلَا مَعَ أَهْلِهِ وَلَا مَعَ مَنْ أَطْعَمَهُمْ ذَلِكَ ، كَذَا
ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ ، وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ وَتَرْكُهُ مَعَ
كُلِّ أَحَدٍ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَأَحْسَنُ ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ
فِي التَّرْغِيبِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ
أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ ،
وَالْأَدَبِ .
وَذَكَرَ النَّوَاوِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ ،
فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ
إلَّا بِرِضَاهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ أَوْ
ظَنٌّ ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ لِأَحَدِهِمْ
اُشْتُرِطَ رِضَاهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَرَنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَحَرَامٌ .
وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ
وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ بِهِ فَحَسَنٌ أَلَّا يَقْرِنَ لِيُسَاوِيَهُمْ إنْ
كَانَ الطَّعَامُ فِيهِ قِلَّةٌ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَفْضُلُ
عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ لَكِنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقًا لِلتَّأَدُّبِ
وَتَرْكِ الشَّرَهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا وَيُرِيدُ
الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّمَا كَانَ
هَذَا فِي زَمَنِهِمْ حِينَ كَانَ الطَّعَامُ ضَيِّقًا فَأَمَّا الْيَوْمَ
مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ ، وَفِيمَا
ذَكَرَهُ نَظَرٌ ، وَالْقِرَانُ فِي غَيْرِ التَّمْرِ مِثْلُهُ إلَّا
أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ إلَّا فِي
الْفَوَاكِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَعَلَى قِيَاسِهِ قِرَانُ كُلِّ مَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَنَاوُلِهِ إفْرَادًا .
وَقَالَ
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْحَنْبَلِيُّ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ هَلْ يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ ؟ فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ فَالْجَوَابُ
إنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا
يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } الْآيَةَ .
وَنَهَى
عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ ، وَالتَّعْرِيسِ عَلَى
الطُّرُقَاتِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
فِي الْوَاضِحِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ
بِهِ وَلَا النَّهْيَ قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَقْلًا عِنْدنَا
وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ ، نَهَى الشَّرْعُ
عَنْ أَشْيَاءَ ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا لَا لِقُبْحِهَا كَالنَّهْيِ
عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ
، وَالْجُلُوسِ فِي ظِلِّ الْمَنَارَةِ ، وَالشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ
الْإِنَاءِ ، وَالْأَكْلِ فِي الْمِنْجَلِ أَوْ الْمُنْخُلِ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ .
كَذَا قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ
أَخَاهُ } قَالَ شُعْبَةُ الْإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي
لَفْظٍ فِيهِمَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ حَتَّى
يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ } .
فَصْلٌ ( فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ) .
يُسَنُّ
لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ لِلْأَكْلِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى
وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى أَوْ يَتَرَبَّعَ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ
وَذَكَرَ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مِنْ آدَابِ ،
الْأَكْلِ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ
وَسَبَقَ قَبْلَ فُصُولِ آدَابِ ، الْأَكْلِ بِفَصْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
فِي كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا رِوَايَتَانِ قَطَعَ ابْنُ أَبِي مُوسَى
بِالْكَرَاهَةِ ، وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِعَدَمِهَا .
وَفِي
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَجَرَ وَفِي لَفْظٍ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا } .
وَرَوَى
أَيْضًا اللَّفْظَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ قُلْت
لِأَنَسٍ فَالْأَكْلُ قَالَ : ذَاكَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ .
وَلِمُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَإِذَا نَسِيَ فَلْيَسْتَقِ } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ
مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ ، ثُمَّ
تَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ، ثُمَّ قَالَ
: إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْت } .
وَعَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : { رَأَيْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَائِمًا
وَقَاعِدًا } ، إسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَى عَمْرٍو وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ وَيَتَوَجَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِبَ
قَائِمًا لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ وَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ ، وَالنَّهْيِ
لِلْكَرَاهَةِ أَوْ لِتَرْكِ الْأَوْلَى قَالَ ابْنُ عُمَرَ { كُنَّا
نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ
مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ
عَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانِ سَمِعْت
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ : قِهْ
قَالَ : وَلِمَهْ قَالَ : أَيَسُرُّك أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ ؟
قَالَ : لَا قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَك مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ
يَعْنِي الشَّيْطَانَ } أَبُو زِيَادٍ قِيلَ لَا يُعْرَفُ وَقِيلَ شُيُوخُ
شُعْبَةَ جِيَادٌ .
فَأَمَّا الْأَكْلُ قَائِمًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
كَالشُّرْبِ لِقَوْلِ أَنَسٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ
لِتَخْصِيصِ الشَّارِعِ النَّهْيَ بِالشُّرْبِ لِسُرْعَةِ نُفُوذِهِ إلَى
أَسَافِلِ الْبَدَنِ بِلَا تَدْرِيجٍ وَإِلَى الْمَعِدَةِ فَيُبَرِّدُهَا
وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ فِيهَا حَتَّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى
الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ
بِالْقَيْءِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ قَائِمًا
بِالْقَيْءِ وَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِهِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ قَائِمًا
فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ فِي غَيْرِ
حَالِ الْقِيَامِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا
فَمِنْ مَانِعٍ وَمُبِيحٍ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثِ
أَصَابِعَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِإِصْبَعٍ ؛ لِأَنَّهُ مَقْتٌ
وَبِإِصْبَعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ كِبْرٌ وَبِأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ ، لِأَنَّهُ
شَرَهٌ وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَلِأَنَّ
بِأُصْبُعَيْنِ يَطُولُ حَتَّى يَشْبَعَ وَلَا تَفْرَحُ الْمَعِدَةُ وَلَا
الْأَعْضَاءُ بِذَلِكَ لِقِلَّتِهِ كَمَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ قَلِيلًا
قَلِيلًا فَلَا يَسْتَلِذُّ بِهِ وَلَا يُمْرِئُهُ ، وَبِأَرْبَعِ
أَصَابِعَ قَدْ يَغَصُّ بِهِ لِكَثْرَتِهِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً وَعُرْفًا بِإِصْبَعٍ
أَوْ إصْبَعَيْنِ فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِيهِ وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ
مُنْتَفٍ عَنْهُ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ قَبْلَ
غَسْلِهَا أَوْ مَسْحِهَا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ
أَصَابِعَ
فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا } وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ
أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ } وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { إذَا وَقَعْت
لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا وَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ
أَذًى وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ
بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُلْعِقَهَا فَإِنَّهُ
لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ } .
وَعَنْهُ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَعْقِ
الْأَصَابِعِ ، وَالصَّحْفَةِ وَقَالَ : إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي
أَيِّهِ الْبَرَكَةُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَعْنَى
الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { إنَّ الشَّيْطَانَ
يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَحْضُرَهُ
عِنْدَ طَعَامِهِ فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ
فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ، ثُمَّ لِيَأْكُلهَا وَلَا
يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ
فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ } .
رَوَى
ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَالْمِنْدِيلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
النَّدْلِ وَهُوَ النَّقْلُ وَقِيلَ الْوَسَخُ ؛ لِأَنَّهُ يُنْدَلُ بِهِ
، يُقَالُ تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ
أَيْضًا تَمَنْدَلْتُ وَأَنْكَرَهَا الْكِسَائِيُّ ، وَيُرْوَى فِي خَبَرٍ
ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الْأَكْلُ
بِإِصْبَعٍ وَاحِدٍ أَكْلُ الشَّيْطَانِ وَبِاثْنَتَيْنِ أَكْلُ
الْجَبَابِرَةِ وَبِثَلَاثٍ أَكْلُ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَذُكِرَ
لِأَحْمَدَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِي { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا } فَلَمْ يُصَحِّحْهُ
وَلَمْ يَرَ إلَّا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ
يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُسِنُّ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقَمَ وَيُجِيدُ الْمَضْغَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ
إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ إطَالَةِ الْأَكْلِ
عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ أَجِدْهَا مَأْثُورَةً وَلَا عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَكِنْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ .
وَقَالَ أَيْضًا :
هُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ اسْتِحْبَابِ
تَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اسْتِحْبَابَ
تَصْغِيرِ الْكِسَرِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْخُبْزِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ
وَعِنْدَ الْأَكْلِ وَيُطِيلُ الْمَضْغَ وَلَا يَأْكُلُ لُقْمَةً حَتَّى
يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ الْأُخْرَى حَتَّى يَبْلُغَ الْأُولَى كَذَا فِي
التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ .
وَيَنْوِي بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ
التَّقَوِّيَ عَلَى التَّقْوَى وَطَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَيَبْدَأُ بِهِمَا الْأَكْبَرُ ، وَالْأَعْلَمُ وَقَالَ
حُذَيْفَةُ كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ : وَيُكْرَهُ سَبْقُ
الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهُمَةً وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ
يَبْتَدِي .
فَصْلٌ ( فِي التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَمْدِ بَعْدَهُمَا وَآدَابٌ أُخْرَى ) .
وَيُسَمِّي
فِي أَوَّلِهَا وَهِيَ بَرَكَةُ الطَّعَامِ يَكْفِي الْقَلِيلُ بِهَا
وَبِدُونِهَا لَا يَكْفِي كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ
الْآتِيَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ { : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَرَّبَ طَعَامًا فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ
أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً
فِي أَخِرِهِ فَقُلْنَا كَيْفَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : ؛
لِأَنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ
مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ فَأَكَلَهُ مَعَهُ الشَّيْطَانُ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ .
وَيَحْمَدُ اللَّهَ إذَا فَرَغَ وَيَقُولُ مَا وَرَدَ ،
وَيُسَنُّ مَسْحُ الصَّحْفَةِ ، وَالْأَكْلُ عِنْدَ حُضُورِ رَبِّ
الطَّعَامِ وَإِذْنِهِ وَأَكْلُ مَا تَنَاثَرَ ، وَقِيلَ يَحْمَدُ
الشَّارِبُ كُلَّ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَحْمَدُهُ عَلَى هَذِهِ
النِّعْمَةِ ، وَالتَّسْمِيَةُ تُرَادُ لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ
وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ السَّامِرِيُّ
أَنَّ الشَّارِبَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُهُ
عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ فِعْلٍ كَالْأَوَّلِ ، وَإِنْ
كَانَ الْأَوَّلُ آكَدُّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الشَّارِبَ إمَّا
لِقِلَّتِهِ فَلَا يَشُقُّ التَّكْرَارُ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ
مَرَّةٍ مَأْمُورٌ بِهَا وَاسْتُحِبَّ فِيهَا مَا اُسْتُحِبَّ فِي
الْأُولَى بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ التَّكْرَارُ
، وَالْقَطْعُ فِيهِ أَمْرٌ عَادِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ
يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ
عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ تَعَشَّيْت مَرَّةً أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَابَةٌ
لَهُ فَجَعَلْنَا لَا نَتَكَلَّمُ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ
أَكْلٍ وَصَمْتٍ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافَ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ
صَرِيحًا وَلَمْ أَجِدْهَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ ، ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِي
ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَعَادَتِهِ تَحَرِّيَ الِاتِّبَاعِ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ
لِبَعْضِ قَوْمٍ أَكَلُوا مَعَهُ يَا بَنِيَّ لَا تَدَعُوا أَنْ
تَأْدِمُوا أَوَّلَ طَعَامِكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ
مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ، وَكَذَا قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ
التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ
مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ
فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّسْمِيَةِ أَوَّلًا ، وَالْحَمْدُ
آخِرًا ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَلَوْ فِي حَدِيثٍ
وَاحِدٍ ، بَلْ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ
وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغَايَةُ فِي فِعْلِ الْفَضَائِلِ ،
وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ ،
وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَفِي
كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مِنْ
الْقُرَّاءِ مَنْ يَفْصِلُ بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ
اللَّهِ فَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ كَمَنْ سَمَّى
إذَا أَكَلَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّعَامِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي فِي
أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ حَسَنٌ لِمُتَابَعَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَفْعِ الطَّعَامِ وَوَضْعِ طَعَامٍ فَالتَّسْمِيَةُ
عِنْدَهُ أَفْضَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ أَجْوَدُ فِي
الطِّبِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ، ثَمَّ عَادَةٌ
كَمَا سَبَقَ ، وَلَا يَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا ، وَيَأْخُذُ إنَاءَ
الْمَاءِ بِيَمِينِهِ وَيُسَمِّي وَيَنْظُرُ فِيهِ ، ثُمَّ يَشْرَبُ
مِنْهُ مَصًّا ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { إذَا شَرِبَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَلَا يَعُبُّهُ عَبًّا فَإِنَّ
مِنْهُ الْكُبَادَ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَالْكُبَادُ
بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ أَيْ وَجَعُ الْكَبِدِ وَهَذَا
مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَيَشْرَبُ مُقَطِّعًا ثَلَاثًا ،
وَيَتَنَفَّسُ دُونَ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَى
وَأَبْرَى رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَلَا يَتَنَفَّسُ فِيهِ
كَمَا سَبَقَ .
قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ ، وَالنَّفْخُ فِي
الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَالْكِتَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَسَبَقَتْ
الْمَسْأَلَةُ وَتَأْتِي أَيْضًا ، وَقِيلَ تَجِبُ التَّسْمِيَةُ
الْمَذْكُورَةُ هُنَا ، وَذَكَرَ وُجُوبَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَحَكَى
ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَكْلِ
أَرْبَعَةٌ : فَرِيضَةُ أَكْلِ الْحَلَالِ ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ ، وَالشُّكْرُ
لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَأْتِي فِي الشُّكْرِ كَلَامٌ فِي فَصْلِ هَلْ
يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَوْ
بِقُرْبِهِ قَالَ ابْنُ الْبَنَّا وَتَحْقِيقُ الْفِقْهِ أَنَّ
التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ ، وَالْحَمْدَ كِلَيْهِمَا مَسْنُونٌ .
وَذَكَرَ
أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ
هُنَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَظَاهِرُ مَا ذَكَرُوهُ لَا
يُسَمِّي غَيْرُ الشَّارِبِ ، وَالْآكِلِ عَنْهُ ، وَسَبَقَتْ
الْمَسْأَلَةُ فِي مَسْأَلَةِ هَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ أَحَدٌ عَنْ
الْعَاطِسِ ؟ ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ شَرَعَ الْحَمْدَ عَنْ
تَسْمِيَةِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ فَفَعَلَ عَنْهُ كَانَ
كَتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ فِي امْتِنَاعِ الشَّيْطَانِ مِنْ الطَّعَامِ
وَعَدَمِ
اسْتِحْلَالِهِ إيَّاهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ
يَشْرَعُ الْحَمْدَ عَنْهُ فَعَلْت أَمْ لَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ
اسْتَحَلَّهُ لِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ تَشْرَعُ مِنْهُ كَتَرْكِ
الْعَاقِلِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ الْحَمْدَ عَنْهُ فَفَعَلْتَ أَمْ
لَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَمْ
تُتْرَكْ وَهُوَ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَعُفِيَ عَنْهُ كَفِعْلِ الْبَهِيمَةِ
.
فَأَمَّا الْمُمَيِّزُ الْعَاقِلُ فَإِنَّهُ يُسَمِّي وَيَمْتَنِعُ
الشَّيْطَانُ بِهَا مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ
اسْتَحَلَّهُ الشَّيْطَانُ ، وَإِنْ أَتَى بِهَا فِي أَثْنَائِهِ قَاءَ
الشَّيْطَانُ كُلَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ فَيَقُولُ " بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ
وَآخِرَهُ " لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَقِصَّةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي
جَاءَ الشَّيْطَانُ يَسْتَحِلُّ بِهَا رَوَاهَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ ، وَخَبَرُ أُمَيَّةَ بْنِ
مَخْشِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْخَاءِ ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَفِي ذَلِكَ أَنَّ
الْآكِلَ يُعَلَّمُ آدَابَ الْأَكْلِ إذَا خَالَفَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْعَاقِلُ سَبْعَ سِنِينَ فَيَتَوَجَّهُ إنْ
صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَبَيْعُهُ صَحَّتْ مِنْهُ وَاعْتُبِرَتْ وَإِلَّا
فَلَا .
وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْهَرَ بِهَا لِيُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا وَلَمْ
يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ
أَنَّهُ إذَا سَمَّى وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ
وَلَا يَشْرَبُ مِنْ فِي سِقَاءٍ وَلَا فِي ثُلْمَةِ إنَاءٍ قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا ، ثُمَّ يَشْرَبَ مِنْهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي
السِّقَاءِ
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ
فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ
حَيَّةٌ فَهَذِهِ عِلَّةُ النَّهْي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ شَيْءٌ
وَلِأَنَّهُ يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُنْتِنُهُ
بِتَرَدُّدِ أَنْفَاسِهِ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَهُ الْمَاءُ
فَتَضَرَّرَ بِهِ ، وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ اتِّفَاقًا ،
ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ ، وَيَتَوَجَّهُ فِي كَرَاهَتِهِ مَا سَبَقَ
أَوَّلَ الْفَصْلِ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ
عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ
جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ
كَبْشَةَ قَالَتْ { : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مِنْ قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْت
إلَيْهَا فَقَطَعْتُهُ } وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَاهُ
سَعِيدٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ
بْنِ زَيْدِ ابْنِ بِنْتِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ
أُمِّ سُلَيْمٍ الْبَرَاءُ انْفَرَدَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيُّ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ
عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعَا بِإِدَاوَةٍ
يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اخْنَثَ فَمَ الْإِدَاوَةِ ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْ
فِيهَا } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ .
وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ لَيْسَ
إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ
حِفْظِهِ ، وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَمْ لَا .
وَأَمَّا
الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { : نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ
ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ } رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ
ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا
فَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَتَرْكُهُ أَوْلَى
وَحِكْمَتُهُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ حُسْنِ الشُّرْبِ وَهِيَ مَحَلُّ
الْوَسَخِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهَا تَامًّا وَخُرُوجُ
الْقَذَى وَنَحْوُهُ وَرُبَّمَا انْجَرَحَ بِحَدِّهَا ، وَيُقَالُ إنَّ
الرَّدِيءَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ ، يُرْوَى أَنَّ
بَعْضَهُمْ رَأَى مَنْ يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ : لَا
تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلِّ
رَدِيءٍ .
قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَلَا يَشْرَبُ مُحَاذِيًا
لِلْعُرْوَةِ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَلِهَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ
أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ
الْجَوْزِيُّ وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرَ آدَابَ
ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ
ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } .
وَاحِدُهَا كُوبٌ وَهُوَ إنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا أُذُنَ لَهُ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيُّ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ
وَإِنَّمَا كَانَتْ بِغَيْرِ عُرًى لِيَشْرَبَ الشَّارِبُ مِنْ أَيْنَ
شَاءَ ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ عَنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ
انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اتَّصَلَتْ الْعُرْوَةُ
بِرَأْسِ الْإِنَاءِ ، فَحِينَئِذٍ تَرُدُّ الْعُرْوَةُ الشَّارِبَ
مُطْلَقًا أَوْ بَعْضَ الشَّيْءِ فَيَمْتَنِعُ الشُّرْبُ مُطْلَقًا أَوْ
يَحْصُلُ قَلِيلًا فَيَتَنَغَّصُ الشُّرْبُ وَرُبَّمَا شَرِقَ أَوْ
تَبَذَّرَ الْمَاءُ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى الْإِنَاءِ فَأَمَّا إذَا لَمْ
تَتَّصِلْ الْعُرْوَةُ بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ إذًا وَلِأَنَّهُ مِنْ
الْأَدَبِ وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَإِنْ صَدَقَ
عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّمَا أَرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَلَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ أَيْضًا عَلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَغُضَّ
طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ
وَيُخَلِّلَ أَسْنَانَهُ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ قَالَ فِي
الْمُسْتَوْعِبِ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ ، وَذَكَرَهُ
بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ يُكْرَهُ التَّخَلُّلُ
عَلَى الطَّعَامِ وَلَا يَتَخَلَّلُ بِقَصَبٍ وَرُمَّانٍ وَرَيْحَانٍ
وَطُرَفَاءَ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ
يُخَلَّلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَ الْأَكْلِ قَالَ صَاحِبُ
النَّظْمِ ، وَالْقِ ذَلِكَ وَهَذَا لِلْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ
فَلْيَلْفِظْ ، وَمَنْ لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْلَعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ
أَحْسَنَ ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ
مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ وَفِي إسْنَادِهِ حُصَيْنُ بْنُ الْحِمْيَرِيِّ
الْحُبْرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْرِ وَيُقَالُ أَبُو سَعْدٍ
وَهُمَا مَجْهُولَانِ فَلِهَذَا ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَصَحَّحَهُ
ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَضَعْفُهُ أَوْلَى ، وَقِيَاسُ قَوْلِ
الْأَصْحَابِ الْعَمَلُ بِهِ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا قَالُوا بِمَا
فِيهِ مِنْ الْمُسْتَجْمِرِ ، وَالْمُكْتَحِلِ ، وَلَا يَأْكُلُ مَا
يُشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرُ ، وَلَا مُخْتَلِطًا بِحَرَامٍ بِلَا
ضَرُورَةٍ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا
يَأْكُلَ إلَّا مُطْمَئِنًّا وَهَذَا خِلَافُ أَشْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ
فِيمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا } أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ
فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ
وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِالتَّرَبُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ .
وَعَنْهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا
يَجْلِسُ الْعَبْدُ ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ } وَفُسِّرَ
الِاتِّكَاءُ بِالْمَيْلِ عَلَى الْجَنْبِ ، وَالِاسْتِنَادِ إلَى شَيْءٍ
وَهَذَا هُوَ
الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا وَهُوَ يَضُرُّ
مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِتَغَيُّرِ الْأَعْضَاءِ ، وَالْمَعِدَةِ عَنْ
الْوَضْعِ الطَّبِيعِيِّ وَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ بِسُهُولَةٍ .
وَقَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى
اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ
رِزْقِهِ وَفِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَنَاوُلِهِ ،
وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ
الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ
الْأَدَبِ ، وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا
كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي
هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ .
وَعَنْهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ أَكَلَ مُقْعِيًا تَمْرًا } وَفِي لَفْظٍ {
يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا } وَفِي لَفْظٍ { حَثِيثًا } رَوَى
ذَلِكَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .
" مُقْعِيًا " أَيْ جَالِسًا
عَلَى أَلْيَتِهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ ، " وَذَرِيعًا " " وَحَثِيثًا "
أَيْ مُسْتَعْجِلًا لِشُغْلٍ آخَرَ .
وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَثَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ
مَنْصُورٍ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَكْرَهُ الْأَكْلَ مُتَّكِئًا
قَالَ أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
آكُلُ مُتَّكِئًا ؟ } قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ .
لَا يَأْكُلُ
مُتَّكِئًا فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ إنَّ مِنْ آدَابِ
الْأَكْلِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَلَا مُنْبَطِحًا وَلَا يَأْكُلُ
إلَّا مُطَمْئِنًا .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
مَطْعَمَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا
الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ } وَقَالَ
لَمْ يَسْمَعْهُ جَعْفَرٌ بْنُ بُرْقَانَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ
مُنْكَرٌ ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ .
وَذَكَرَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ
الْأَكْلُ
مُتَّكِئًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا ، وَلَا يُلْقِمُ
جَلِيسَهُ وَلَا يُفْسِحُ لَهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ ،
ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا
مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ
مَالِكِ الطَّعَامِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَمَلًا
بِالْعَادَةِ ، وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَدَبَ ، وَالْأَوْلَى
الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى
صَاحِبِهِ ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى طَعَامِهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ مِنْ
غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الضِّيفَانِ
مَا لَدَيْهِ وَنَقْلُهُ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي
لِفَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ جَلِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ ،
وَالْقَرِينَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ {
دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ
فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَجِيءَ بِمَرَقٍ فِيهَا دُبَّاءٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ
مِنْ ذَلِكَ الدُّبَّاءِ وَيُعْجِبُهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ جَعَلْت
أُلْقِيهِ وَلَا أَطْعَمُهُ قَالَ أَنَسٌ فَمَا زِلْت أُحِبُّ الدُّبَّاءَ
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا أَطْعَمُهُ .
وَفِيهِ
أَنَّ خَادِمَ الْكَبِيرِ يَتْبَعُهُ فِي الدَّعْوَةِ كَمَا هُوَ فِي
الْعُرْفِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ زَوْجَةٍ
وَغَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّفُ حُضُورُ الْكَبِيرِ عَلَيْهِ
لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِ وَحَاجَتِهِ بِهِ ، ، وَالدَّاعِي يَرْضَى
بِذَلِكَ وَيَأْذَنُ فِيهِ عَادَةً وَعُرْفًا لَا بِغَيْرِهِ فَاخْتُصَّ
بِالْجَوَازِ لِذَلِكَ ، وَقَدْ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَدْعُوٌّ لِهَذَا
الْمَعْنَى وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى وَلَمْ أَجِدْ مَنْ
ذَكَرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّاعِيَ يَأْذَنُ
فِي ذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قِيلَ يَأْذَنُ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ لَا لِمَعْنًى
خَاصٍّ وَلِهَذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَيْرِ خَادِمِهِ
وَلَمْ
يَسْتَأْذِنْ فِي خَادِمِهِ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ خَدَمَهُ مُدَّةَ
إقَامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَدِينَةِ لَا زَمَنًا يَسِيرًا
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ دَعْوَةٍ بِلَا عُذْرٍ
وَخَادِمُهُ مُلَازِمُهُ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ
أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : { كَانَ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ
فَقَالَ لِغُلَامِهِ : وَيْحَك اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ
فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ فَلَمَّا
بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ
هَذَا اتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْت أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْت رَجَعَ
قَالَ بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ
فِي مُسْلِمٍ لَمْ يُدْعَ ، فِيهِ أَنَّ مَنْ دُعِيَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ
لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْذَنُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ إعْلَامُ صَاحِبِ
الطَّعَامِ وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَا
لَمْ يَكُنْ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ .
وَعَنْ أَنَسٍ ( رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ) { أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ صَنَعَ لَهُ
طَعَامًا ، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ : وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ فَقَالَ
: لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
فَعَادَ يَدْعُوهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : وَهَذِهِ قَالَ : لَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذِهِ قَالَ نَعَمْ فِي
الثَّالِثَةَ ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ }
رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَرِهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْتَصَّ عَنْ
عَائِشَةَ بِالطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ أَوْ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ حُضُورُهَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ مُعْتَادًا وَقَوْلُهُ
يَتَدَافَعَانِ أَيْ
يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ فِي أَثَرِ الْآخَرِ .
وَأَمَّا
مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنْ ذَهَابِهِ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، وَالْفَاقَةِ إلَى
حَدِيقَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيهَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِتْبَاعِ الْإِنْسَانِ إلَى دَارِ مَنْ
يَعْلَمُ رِضَاهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَدْعُوًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَالْقَضِيَّةُ
قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا رِضَاهُ بِذَلِكَ وَهَذَا
جَائِزٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلِهَذَا
قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ
أَضْيَافًا مِنِّي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى
اسْتِتْبَاعِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قُومَا فَقَامَا فَأَتَى رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ
الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالَتْ ذَهَبَ
لِيَسْتَعْذِبَ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ ،
ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ
أَضْيَافًا مِنِّي قَالَ : فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ
وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إيَّاكَ ، وَالْحَلُوبَ
فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ
وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا
النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ،
ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ } .
وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلْ لَك خَادِمٌ قَالَ : لَا قَالَ
: فَإِذَا أَتَانَا شَيْءٌ فَائْتِنَا فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسَيْنِ فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْ مِنْهُمَا قَالَ
يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ خُذْ هَذَا فَإِنِّي
رَأَيْته يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا .
فَانْطَلَقَ أَبُو
الْهَيْثَمِ إلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ
مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ
نُعْتِقَهُ قَالَ فَهُوَ عَتِيقٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً
إلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا
وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ } هَذَا حَدِيثٌ تَضَمَّنَ
فَوَائِدَ حَسَنَةً يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَفْهُومَةً مِنْهُ فَلِهَذَا
ذَكَرْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَكِنْ فِي خَبَرِ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ زَمَنَ الْخَنْدَقِ { أَنَّهُ صَنَعَ طَعَامًا ، ثُمَّ
جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَقُلْت
طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ
قَالَ : كَمْ هُوَ ؟ فَذَكَرْت لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ ، قُلْ لَهَا
لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ حَتَّى آتِيَ قَالَ قُومُوا
فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ ، وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَ :
فَقَالَ اُدْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ
وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ ، وَالتَّنُّورَ
إذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى شَبِعُوا
وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ
أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ يَعْنِي يَقُولُ لِامْرَأَةِ جَابِرٍ } رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ جَابِرٌ { فَجِئْته
فَسَارَرْته
فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بَهِيمَةً لَنَا
وَطَحَنْت صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ فِي
نَفَرٍ مَعَك فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا
فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ وَفِيهِ فَبَصَقَ فِيهِمَا وَبَارَكَ .
وَفِيهِ
وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ
وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لِتَغُطّ كَمَا هِيَ ، وَإِنَّ
عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ } .
وَفِي الْبُخَارِيُّ { أَنَّهُ
عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ
أَنَا نَازِلٌ ، ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا
أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ } .
وَمِثْلُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي
اسْتِتْبَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ حَدِيثُ { أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ يَدْعُوهُ
فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ : قُومُوا وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَصَبَ بَطْنَهُ
عَنْ الْجُوعِ : وَفِيهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَآهُ فِي الْمَسْجِدِ
يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ فَظَنَّهُ لَجَائِعًا ، وَفِيهِ أَنَّهُ
أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ
كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا وَفِي مُسْلِمٍ ، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ
رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَرَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ .
وَأُخِذَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ اسْتِحْبَابُ إيثَارِ الضِّيفَانِ بَعْضِهِمْ
بَعْضًا إذَا لَمْ يَكْرَهْ صَاحِبُ الطَّعَامِ كَذَا قَالَ .
وَعَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا { أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ
عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ } كَذَا فِي
مُسْلِمٍ أَيْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةٍ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : " وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ
أَرْبَعَةٍ
فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ " أَوْ كَمَا قَالَ ، وَإِنَّ
أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى
عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى
صَلَّيْت الْعِشَاءَ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ
مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ : مَا أَحْبَسَكَ
عَنْ أَضْيَافِك قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ ؟ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى
تَجِيءَ أَنْتَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ قَالَ : فَذَهَبْت
أَنَا فَاخْتَبَأْت فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَعَ وَسَبَّ وَقَالَ :
كُلُوا لَا هَنِيئًا وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ :
وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ
أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا قَالَ : شَبِعْنَا وَصَارَتْ أَكْثَرَ
مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا
هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ
بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ
أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا
أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي
يَمِينَهُ .
وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ { نَزَلَ عَلَيْنَا أَضْيَافٌ
لَنَا وَكَانَ أَبِي يَتَحَدَّثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ فَانْطَلَقَ قَالَ يَا عَبْدَ
الرَّحْمَنِ اُفْرُغْ مِنْ أَضْيَافِك قَالَ فَلَمَّا أَمْسَيْت جِئْنَا
بِقِرَاهُمْ قَالَ فَأَبَوْا قَالُوا حَتَّى يَجِيءَ أَبُو مَنْزِلِنَا
فَيَطْعَمَ مَعَنَا قَالَ فَقُلْتُ إنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ وَإِنَّكُمْ إنْ
لَمْ تَفْعَلُوا خِفْت أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ أَذًى قَالَ فَأَبَوْا
فَلَمَّا جَاءَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْهُمْ فَقَالَ
فَرَغْتُمْ مِنْ أَضْيَافِكُمْ ؟ قَالُوا لَا وَاَللَّهِ مَا فَرَغْنَا
قَالَ أَوَلَمْ آمُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ وَتَنَحَّيْت عَنْهُ
فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَتَنَحَّيْت ، فَقَالَ يَا غُنْثَرُ
أَقْسَمْت
عَلَيْك إنْ كُنْت تَسْمَعُ صَوْتِي إلَّا أَجَبْت قَالَ فَجِئْت فَقُلْت
وَاَللَّهِ مَا لِي ذَنْبٌ ، هَؤُلَاءِ أَضْيَافُك فَسَلْهُمْ قَدْ
أَتَيْتُهُمْ بِقِرَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُطْعَمُوا حَتَّى تَجِيءَ قَالَ
فَقَالَ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ قَالَ : فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ قَالَ فَقَالُوا
وَاَللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ قَالَ فَمَا رَأَيْت
الشَّرَّ كَاللَّيْلَةِ قَطُّ ، وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا
عَنَّا قِرَاكُمْ ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا الْأُولَى فَمِنْ الشَّيْطَانِ
هَلُمُّوا قِرَاكُمْ قَالَ فَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَسَمَّى فَأَكَلَ
وَأَكَلُوا قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا
وَحَنِثْتُ ، وَأَخْبَرَهُ قَالَ بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ
قَالَ وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ : " بَرُّوا وَحَنِثْتُ إلَى آخِرِهِ " .
وَفِيهِ
فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ ، وَلَيْسَ
عِنْدَهُ : حَتَّى نَعَسَ وَهِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إنَّمَا عِنْدَهُ
حَتَّى تَعَشَّى .
فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ الضَّيْفِ بِشُغْلٍ وَمَصْلَحَةٍ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ .
وَفِيهِ
أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِمَّا يُرِيدُ الْمُضِيفُ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِقِرَاهُ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ
يَتَكَلَّفُ مَشَقَّةً حَيَاءً مِنْهُ اعْتَرَضَ بِرِفْقٍ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ يَكُونُ لِلْمُضِيفِ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ
إظْهَارُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ الضَّيْفِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو
زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ ذَلِكَ عَنْ الْعُلَمَاءِ .
وَفِيهِ
السَّمَرُ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ
الْبُخَارِيُّ وَتَرْجَمَ أَيْضًا ( بَابٌ فِي قَوْلِ الضَّيْفِ
لِصَاحِبِهِ لَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ ) وَإِنَّمَا امْتَنَعَ أَضْيَافُ
أَبِي بَكْرٍ لِمَصْلَحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ عَشَاءٌ .
وَإِنَّمَا اخْتَبَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَوْفَ خِصَامٍ وَشَتْمٍ ، وَغُنْثَرُ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ
وَمَضْمُومَةٍ
، ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ، ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ
وَمَضْمُومَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ ، وَقِيلَ الْجَاهِلُ وَقِيلَ السَّفِيهُ
وَقِيلَ اللَّئِيمُ وَقِيلَ هُوَ ذُبَابٌ أَزْرَقُ .
وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ عَنْتَرُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ
مَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الذُّبَابُ الْأَزْرَقُ ، وَقَوْلُهُ فَجَدَعَ
أَيْ دَعَا بِالْجَدْعِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَنْفِ وَغَيْرِهِ ، وَالسَّبُّ
الشَّتْمُ .
وَفِيهِ الِاخْتِبَاءُ خَوْفَ أَذًى وَإِنَّهُ لَا أَذًى بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْوَالِدِ .
قَوْلُهُ
: لَا هَنِيئًا إنَّمَا قَالَهُ غَيْظًا بِتَرْكِهِمْ الْعَشَاءَ
بِسَبَبِهِ ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَدَمُ
الْمُؤَاخَذَةِ عَمَّا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْغَيْظِ .
وَيَتَوَجَّهُ
أَنَّهُ قَالَ أَدَبًا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلَهُ نَظَائِرُ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُمْتَنِعِ مِنْ الْأَكْلِ
بِيَمِينِهِ وَقَوْلُهُ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ { لَا اسْتَطَعْتَ مَا
مَنَعَهُ إلَّا الْكِبْرُ } .
وَقَوْلُهُ { مَنْ سَمِعْتُمُوهُ
يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ
عَلَيْهِ } وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلْقَائِلِ
فِي الْجِنَازَةِ اسْتَغْفِرُوا لَهُ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك .
وَقِيلَ
فِي قَوْلِهِ لَا هَنِيئًا إنَّمَا هُوَ خَبَرٌ أَيْ لَمْ يَتَهَنَّوْا
بِهِ فِي وَقْتِهِ ، وَفِيهِ إثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ خِلَافًا
لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ يُرَادُ بِهَا الْمَسَرَّةُ فَقِيلَ
مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَرَارِ ، لِأَنَّ عَيْنَهُ تَقِرُّ لِحُصُولِ
مُرَادِهِ فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرِّ
بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ أَيْ عَيْنُهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهَا
يُقَالُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَبْرَدَ دَمْعَتَهُ ؛ لِأَنَّ
دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ .
وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ
اللَّهُ عَيْنَهُ ، وَفِيهِ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ قِيلَ أَرَادَتْ
بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَقْسَمَتْ بِهِ ، وَقَوْلُهُ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَا زَائِدَةٌ
وَقِيلَ نَافِيَةٌ أَيْ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا أَقُولُ وَهُوَ قُرَّةُ
عَيْنِي .
وَقَوْلُهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ : أَيْ قَوِيٌّ يَغْضَبُ لِذَلِكَ .
قَوْلُهُ
أَلَا تَقْبَلُونَ ؟ أَلَا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلتَّحْضِيضِ
وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ ، وَقِيلَ مُشَدَّدَةٌ أَيْ مَا لَكُمْ لَا
تَقْبَلُونَ ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكُمْ ؟ قَوْلُهُ أَخْيَرُهُمْ هِيَ
لُغَةٌ ، وَالْأَشْهَرُ خَيْرُهُمْ ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ حِنْثِ الْمُضِيفِ
لِتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ
أَيْ قَبْلَ الْحِنْثِ ، أَمَّا وُجُوبُهَا فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، كَذَا
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ
الْفِقْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {
جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
إنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ قُلْنَ كُلُّهُنَّ : لَا
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إلَّا مَاءٌ قَالَ مَنْ
يُضِيفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى
رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ ؟ قَالَتْ لَا إلَّا
قُوتُ صِبْيَانِنَا قَالَ فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ
ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا
أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ قَالَ
فَقَعَدُوا فَأَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ عَجِبَ اللَّهُ
مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَفِيهِمَا { وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك } قَالَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَفِي
الْبُخَارِيِّ : { ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا نَدَّخِرُ بِهِ شَيْئًا } وَفِيهِ { إذَا أَرَادَ الضَّيْفُ
الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ } .
وَفِيهِ { أَنَّ مَنْ سُئِلَ شَيْئًا
قَامَ بِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا سَأَلَ لَهُ } لَكِنْ لَيْسَ فِي
الْخَبَرِ سُؤَالٌ مُعَيَّنٌ ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ
مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا ، وَفِيهِ
الِاحْتِيَالُ ، وَالتَّلَطُّفُ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ عَلَى أَحْسَنِ
الْوُجُوهِ
، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْأَنْصَارِيِّ
وَأَوْلَادِهِ حَاجَةٌ إلَى الْأَكْلِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الضَّرَرُ
بِتَرْكِهِ وَإِلَّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ شَرْعًا عَلَى حَقِّ
الضَّيْفِ وَفِيهِ الْإِيثَارُ مِمَّنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِأُمُورِ
الدُّنْيَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
فَضِيلَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْكِفَايَةِ مَعَ
حِيَازَةِ الْفَضِيلَةِ .
وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافٍ
الثَّلَاثَةَ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافٍ الْأَرْبَعَةَ } وَلِمُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ
وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ
يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
جُحَيْفَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى
بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَّ سَلْمَانَ زَارَهُ
فَصَنَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَهُ طَعَامًا وَقَالَ لَهُ كُلْ فَإِنِّي
صَائِمٌ ، فَقَالَ سَلْمَانُ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ
} .
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ
وَلَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ
الْإِفْرَاطِ فِي كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ النِّسَاءِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ زِيَارَةِ الْأَخِ أَخَاهُ
فَإِنْ رَآهُ عَلَى خَيْرٍ أَعَانَهُ ، وَإِنْ رَآهُ مُحْتَاجًا إلَى
تَقْوِيمٍ قَوَّمَهُ ، قَالَ وَفِيهِ جَوَازُ أَنْ يُؤَاخَى بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ إلَّا أَنَّ هَذَا
الْإِخَاءَ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ نَظَرَ بِنُورِ
الْأَيْمَانِ إلَى خُشُونَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ
إلَيْهَا عِلْمُ سَلْمَانَ وَفِقْهُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
فِي الْغُنْيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إنْسَانٌ قَائِمٌ أَمَرَهُ
بِالْجُلُوسِ فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ أَوْ قَامَ مَمْلُوكُهُ أَوْ
غُلَامُهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَسَقْيِهِ الْمَاءَ أَخَذَ مِنْ أَطَايِبِ
الطَّعَامِ فَلَقَمَهُ ، وَإِذَا أَكَلَ مَعَ ضَرِيرٍ أَعَلَمَهُ بِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ فَرُبَّمَا فَاتَهُ أَطَايِبُ الطَّعَامِ لِعَمَاهُ .
وَذَكَرَ
الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ هَلْ
لَهُ الصَّدَقَةُ مِنْ قُوتِهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ : إنَّ الضَّيْفَ
لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَقَالَ إنْ
حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يُمَلِّكْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ الْأَكْلَ ، وَلِهَذَا لَا
يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ ، خُولِفَ فِي أَكْلِهِ مِنْهُ لِإِذْنِهِ فِيهِ يَبْقَى مَا
سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَدْنَى
الْإِذْنُ فِي الْأَعْلَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ ،
وَالضِّيقِ .
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ التَّحْرِيمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ إنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ مَنْ حَضَرَ
مَعَهُ قَالَ ، لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِلْكَ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ
الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَمْلِيكٍ ، وَوُجِّهَتْ رِوَايَةَ
الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ
الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ ، وَالْإِذْنِ عُرْفًا فَجَازَ
كَصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْت زَوْجِهَا ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ
جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ فَيَتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ فِيهَا
حَيْثُ جَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَتَلْخِيصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ
الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ ،
وَالْمُسَامَحَةُ فِيهِ وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَمْ تُخَالِفْهُ
قَرِينَةٌ كَتَلْقِيمِ بَعْضٍ بَعْضًا وَتَقْدِيمِ طَعَامٍ وَإِطْعَامِ
سِنَّوْرٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ رِضَا صَاحِبِهِ
بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ ، وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ .
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ
بَابُ
مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى .
ثُمَّ
رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبَ أَنَسٌ مَعَهُ
فَقَرَّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ
الصَّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ فَجَعَلْت
أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ } .
وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ
قَبْلَ ذَلِكَ وَفِيهَا قَالَ فَاقْبَلْ الْغُلَامُ عَلَى عَمَلِهِ
وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إلَى طَعَامٍ وَأَقْبَلَ
عَلَى عَمَلِهِ وَمَا ذَكَرَهُ حَسَنٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ عَادَةً أَوْ
قَرِينَةً مُؤْذِيَةً لِلضَّيْفِ وَتَمْنَعُ إكْرَامَهُ وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ .
وَلِمَنْ مَنَعَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى أَنْ يَحْمِلَ
خَبَرَ أَنَسٍ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ رَاضٍ
بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ
سَأَلَ سَائِلٌ حَنْبَلِيًّا فَقَالَ هَلْ يَجُوزُ لِلْقَوْمِ يُقَدَّمُ
لَهُمْ الطَّعَامُ أَنْ يُقَرِّبَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ؟ فَقَالَ قَدْ
كُنْت أَقُولُ لَا يَجُوزُ وَلَا لِسِنَّوْرٍ حَتَّى وَجَدْتُ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ .
وَلِرَبِّ
الطَّعَامِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الضِّيفَانِ
بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إذَا لَمْ يَتَأَذَّ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْمَخْصُوصِ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَفْضُلُ
مِنْهُ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا
سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ فِي قِصَّةِ أَبِي أَسِيدٍ مَعَ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ
مِمَّنْ
يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ أَوْ كَانَ ، ثَمَّ حَاجَةٌ .
قَالَ
أَبُو أَيُّوبَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إلَيَّ }
فَيَسْأَلُ أَبُو أَيُّوبَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ
مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ جَابِرٍ { نِعْمَ الْإِدَامُ
الْخَلُّ } فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ .
وَفِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ
يَبْدَأُ بِالضَّيْفِ قَبْلَ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَإِنَّهُ
لَا بَأْسَ أَنْ يَخُصَّ الضَّيْفَ بِشَيْءٍ وَيَخْتَصَّ بِشَيْءٍ
وَيَشْتَرِكَانِ فِي شَيْءٍ حَتَّى فِي الْخُبْزِ لَا سِيَّمَا مَعَ
الْحَاجَةِ وَأَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ إنْ شَاءَ أَبْقَى الْأَرْغِفَةَ
صِحَاحًا وَإِنْ شَاءَ كَسَرَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَإِنَّ الضَّيْفَ
يُبْقِي ذَلِكَ ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَسَاوِيَ الضِّيفَانِ
فِيمَا حَضَرَ أَوْلَى بَلْ قَدْ يَتَوَجَّهُ أَنْ لَوْ بَادَرَ
أَحَدُهُمْ إلَى أَكْلِ مَا حَضَرَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ
النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَأْذَنُ
فِيهِ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَلَا يُعْجِبُهُ وَيَتَسَخَّطُ بِهِ عَادَةً
وَعُرْفًا .
وَفِيهِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ بِيَدِ صَاحِبِهِ فِي
تَمَاشِيهِمَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَحْرُمُ رَفْعُ الْمَائِدَةِ
إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْأَكْلِ لَا
بِالرَّفْعِ وَلَوْ نَاوَلَ الضَّيْفَ لُقْمَةً مِنْ طَعَامِ ضَيْفٍ آخَرَ
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَأْكُلَ بَلْ
يَضَعُ ، ثُمَّ يَأْكُلُ مِنْ الْمَائِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ
بِالْأَكْلِ لَا بِالْإِعْطَاءِ .
وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ
يَحِلُّ لَهُ لِلْعَادَةِ ، وَكَذَا لَوْ نَاوَلَ بَعْضُ الْخَدَمِ
الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ جَازَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُعْطِيَ سَائِلًا وَلَا إنْسَانًا دَخَلَ هُنَاكَ لِحَاجَةٍ ؛ لِأَنَّهُ
لَا إذْنَ فِيهِ عَادَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَاوَلَ شَيْئًا مِنْ
الْخُبْزِ ، وَاللَّحْمِ كَلْبَ صَاحِبِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرَهُ لَا
يَسَعُهُ ، وَلَوْ نَاوَلَهُ الطَّعَامَ ، وَالْخُبْزَ الْمُحْتَرِقِ
وَسِعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عَادَةً انْتَهَى
كَلَامُهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْعِمَ رَبُّ الطَّعَامِ مِنْ حَضَرَهُ شَيْئًا مِنْهُ ذَكَرَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ قَالَ الْكِلَابُ ضَعَفَةُ الْجِنِّ فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُكُمْ فَاطْرُدُوهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ شَيْئًا فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسَ سُوءٍ يَعْنِي أَعْيُنَ سُوءٍ .
فَصْلٌ ( فِي تَنَاهُدِ الرِّفَاقِ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي الطَّعَامِ ) .
قِيلَ
لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك يَعْتَزِلُ الرَّجُلُ فِي
الطَّعَامِ أَوْ يُرَافِقُ قَالَ يُرَافِقُ هَذَا أَرْفَقُ يَتَعَاوَنُونَ
إذَا كُنْت وَحْدَك لَمْ يُمْكِنْك الطَّبْخُ وَلَا غَيْرُهُ ، وَلَا
بَأْسَ بِالنَّهْدِ قَدْ تَنَاهَدَ الصَّالِحُونَ .
كَانَ الْحَسَنُ
إذَا سَافَرَ أَلْقَى مَعَهُمْ وَيَزِيدُ أَيْضًا بِقَدْرِ مَا يَلْقَى
يَعْنِي فِي السِّرِّ ، وَمَعْنَى النَّهْدِ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْ الرُّفْقَةِ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ يَدْفَعُونَهُ إلَى رَجُلٍ
يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا ، وَإِنْ أَكَلَ
بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ فَلَا بَأْسَ ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ
الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ
وَيُفَارَقُ النِّثَارُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَهْبٍ وَتَسَالُبٍ
وَتَجَاذُبٍ بِخِلَافِ هَذَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ
الْأُمُورُ فِي التَّنَاهُدِ كُرِهَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ
كَالنِّثَارِ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّدَقَةُ مِنْهُ قَالَ أَبُو دَاوُد
سَمِعْت أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ يُتَنَاهَدُ فِي الطَّعَامِ فَيُتَصَدَّقُ
مِنْهُ .
قَالَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ أَوْ قَالَ
لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنَظَرَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى الْعُرْفِ ، وَالْعَادَةِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى
هَذَا يَتَوَجَّهُ صَدَقَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِمَا يُتَسَامَحُ بِهِ
عَادَةً وَعُرْفًا ، وَالْمُضَارِبِ ، وَالضَّيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ
وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك ثَلَاثًا ، ثُلُثًا
لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ ، وَلَوْ أَكَلْت
كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ قَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ
إسْرَافٌ ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ وَرَدَ بِالْأَكْلِ
تَأْدِيبًا لَا تَحْدِيدًا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ
أَحْمَدُ ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ثَنَا
يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ سَمِعْت الْمِقْدَادَ بْنَ مَعْدِي
كَرِبَ الْكِنْدِيَّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ
حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا
مَحَالَةَ فَثُلُثُ طَعَامٍ وَثُلُثُ شَرَابٍ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ }
حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَهُ طُرُقٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ وَقِيلَ لَهُ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُونَ مِنْ
طَعَامِهِمْ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
مَهْدِيٍّ يَقُولُ فَعَلَ قَوْمٌ هَكَذَا فَقَطَعَهُمْ عَنْ الْفَرْضِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّهُ مَتَى بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ أَوْ الشَّرَابِ
فَأَضَرَّ بِبَدَنَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ قَصَرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ
لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ يَلْزَمُهُ
مُؤْنَتُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا كُرِهَ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ
عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ
لَا يَنْبَغِي التَّأْخِيرُ عَنْ تُنَاوِل ذَلِكَ إذَا تَاقَتْ إلَيْهِ
النَّفْسُ وَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْغِذَاءَ ، ثُمَّ لَمْ
تَطْلُبْهُ نَفْسُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلُهُ إذًا ، بَلْ
يُنْهِضُهَا بِالرِّيَاضَةِ أَوْ بِالْقَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَنَقَلْت مِنْ غَيْرِ الْجَامِعِ وَهُوَ مِنْ كِتَابِ الْوَرَعِ .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَالَ كَيْفَ لَا
يُؤْجَرُ
وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً وَهُوَ يَشْبَعُ ؟ قَالَ مَا أَرَى .
،
وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الشِّبَعُ الْكَثِيرُ
، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ مَنْ يَأْكُلُ يَسِيرًا يَحْصُلُ
لَهُ بِهِ أَدْنَى شِبَعٍ .
وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَلَوْ أَكَلْت كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى
الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ لَا مُطْلَقًا ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَتْخُومِ أَوْ
الْأَكْلَ الْمُفْضِيَ إلَى تُخَمَةٍ سَبَبٌ لِمَرَضِهِ وَإِفْسَادِ
بَدَنِهِ وَهُوَ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ فِي مَضَرَّةٍ
بَلْ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَوْقَ مُطْلَقِ الشِّبَع فَإِنَّهُ لَا
يُفْضِي إلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْأَكْلَ
مِنْ الْمَيْتَةِ فَوْقَ الشِّبَعِ لَا يَجُوزُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ
الْأَكْلَ فَوْقَ مُطْلَقِ الشِّبَعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
يَجُوزُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَائِدَةٌ ،
وَقَدْ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ وَلَوْ أَكَلَ كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا
يُؤْذِيهِ جَازَ وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ مِنْ
حَيْثُ يُخَافُ مِنْهُ التُّخَمَةُ مَكْرُوهٌ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ
النَّظْمِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالشِّبَعِ وَإِنَّهُ يُكْرَهُ
الْإِسْرَافُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَقُولُ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا جَاءَهُ قَدَحٌ مِنْ لَبَنٍ وَأَمَرَهُ أَنْ
يَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَسَقَاهُمْ ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي
هُرَيْرَةَ اشْرَبْ فَشَرِبَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى
قَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا } .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ : إيَّاكُمْ ، وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا
مُكْسِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ ، وَعَلَيْكُمْ
بِالْقَصْدِ فِي قُوتِكُمْ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِ وَأَصَحُّ
لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّ امْرَأً لَنْ
يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ .
وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ ،
وَالْعُرُوقُ وَارِدَةٌ عَلَيْهَا وَصَادِرَةٌ عَنْهَا فَإِذَا صَحَّتْ
صَدَرَتْ الْعُرُوقُ عَنْهَا بِالصِّحَّةِ ، وَإِذَا سَقِمَتْ صَدَرَتْ
الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ اثْنَتَانِ
يُقَسِّيَانِ الْقَلْبَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ وَقَالَ
لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تَأْكُلْ شَيْئًا عَلَى شِبَعٍ
فَإِنَّك إنْ تَتْرُكَهُ لِلْكَلْبِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ .
وَقَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْمَآكِلُ الَّتِي الْغَالِبُ فِيهَا الْأَذَى ،
وَالْإِفْرَاطُ فِي الشِّبَعِ وَإِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ
وَمُطَاوَعَةُ الشَّرَهِ ، وَالتَّعْرِيضُ بِالنَّفْسِ فِيمَا الْغَالِبُ
فِيهِ الْأَذَى ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَلْقِيَ تَحْتَ حَائِطٍ مَائِلٍ
أَوْ يَنَامَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ ، أَوْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ
عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ أَوْ يَتَعَرَّضَ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُهُ
كَذَا قَالَ فِي النَّوْمِ عَلَى السَّطْحِ وَلَيْسَتْ نَظِيرَ ذَلِكَ
وَسَيَأْتِي .
وَقَالَ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ فَوْقَ
حَاجَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قُوتُهُ وَقُوتُ غَيْرِهِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ
بِحَسَبِ الِاحْتِيَاجِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ مُشَاعٌ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ ظَلَمَ غَيْرَهُ
بِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ .
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ
قِيلَ لَهُ إنَّ ابْنَك بَاتَ الْبَارِحَةَ بَشَمًا قَالَ أَمَا لَوْ
مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يَعْنِي
أَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَتْخَمَ ،
ثُمَّ ذَكَرَ مَا سَبَقَ عَنْ سَمُرَةَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ
الْأَكْلِ تُنَوِّمُ وَإِنَّهُ يَنْبَغِي النَّفْرَةُ مِمَّنْ عُرِفَ
بِذَلِكَ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَاِتَّخَذَهُ عَادَةً وَلِهَذَا رَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ
رَأَى ابْنُ عُمَرَ مِسْكِينًا فَجَعَلَ
يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ
كَثِيرًا قَالَ لَا تُدْخِلُنَّ هَذَا عَلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { الْمُؤْمِن يَأْكُلُ
فِي مِعًى وَاحِدٍ ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } .
وَرَوَى
أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا
أَكُولًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ { إنَّ
الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ قَالَ فَأَنَا أُومِنُ
بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِنْ
حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ ،
وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } .
وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ لَهُ فَشَرِبَ حِلَابَهَا حَتَّى
شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ، ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ
فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ
فَشَرِبَ حِلَابَهَا ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأُخْرَى فَلَمْ يُتِمَّهَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ
يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ
أَمْعَاءٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ
فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي
مِعَاءٍ وَاحِدٍ ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } .
قِيلَ
ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ
الْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ فِي أَكْلِهِ وَقِيلَ إنَّهُ يُسَمِّي اللَّهَ فَلَا
يُشَارِكُهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ ، وَالْكَافِرُ بِالْعَكْسِ قَالَ
الْأَطِبَّاءُ لِكُلِّ إنْسَانٍ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ الْمَعِدَةُ ، ثُمَّ
ثَلَاثَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِهَا رِقَاقٌ ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ غِلَاظٌ
فَالْمُؤْمِنُ لِاقْتِصَادِهِ وَتَسْمِيَتِهِ يَكْفِيهِ
مِلْءُ أَحَدِهَا ، وَالْكَافِرُ بِالْعَكْسِ .
وَقِيلَ
الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ
مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ سَبْعُ صِفَاتٍ الْحِرْصُ ،
وَالشَّرَهُ وَطُولُ الْأَمَلِ ، وَالطَّمَعُ وَسُوءُ الطَّبْعِ ،
وَالْحَسَدُ ، وَالسِّمَنُ ، وَقِيلَ هَذَا فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ قِيلَ
لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا قَالَ
؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ وَمَنْ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ كُرِهَتْ
مُخَالَطَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَمَا يَأْكُلُهُ هَذَا يَسُدُّ خَلَّةَ
جَمَاعَةٍ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَهُوَ مِنْ
الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ
الْمُبَاحِ وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا
كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ أَوْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ
شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ مِنْ لِبْسِ الْكَتَّانِ ، وَالْقُطْنِ وَلَا
يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَيَظُنُّ
أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ ، فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ إلَى
أَنْ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ،
وَالشُّكْرِ لَهُ ، وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ
وَيُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا
يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ
بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ قَالَ فَمَنْ أَكَلَ
مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا
كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ
يُحِلَّ لَهُ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَحَلَّهَا
لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ .
وَلَمْ يَحِلّهَا لِمَنْ
يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا } الْآيَةَ قَالَ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ
الْإِنْسَانُ بِالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمَعَاصِي مِثْلَ مَنْ يُعْطِيَ
اللَّحْمَ ، وَالْخُبْزَ لِمَنْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ
الْخَمْرَ
وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاحِشِ قَالَ وقَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ الشُّكْرِ عَلَى
النَّعِيمِ فَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى
النَّعِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ عَلَى مَا أَبَاحَ
وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْذُورٍ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَآيَةُ الْمَائِدَةِ ذَكَرَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِيهَا بَعْضُ الْمُفَسَّرَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهَا .
فَأَمَّا
السُّؤَالُ عَنْ النَّعِيمِ فَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْكُفَّارِ
وَيُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ وَقِيلَ عَامٌّ ، ثُمَّ النَّعِيمُ
هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ، ثُمَّ فِي تَعْيِينِهِ
نَحْوُ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِيهَا قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ قَالَ فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ
تَوْبِيخًا لَهُ إذَا لَمْ يَشْكُرْ الْمُنْعِمَ وَلَمْ يُوَحِّدْهُ ،
وَالْمُؤْمِنُ يُسْأَلُ عَنْ شُكْرِهَا كَذَا قَالَ فَظَاهِرُهُ لَا
يُسْأَلُ تَوْبِيخًا وَتَعْذِيبًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ
الْمُفَسِّرِينَ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْد كَلَامِهِ
الْمَذْكُورِ : وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثٌ لَا أَسْأَلُ
عَبْدِي عَنْ شُكْرِهِنَّ وَأَسْأَلُهُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ بَيْتٌ
يَسْكُنُهُ وَمَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَمَا يُوَارِي
بِهِ عَوْرَتَهُ مِنْ اللِّبَاسِ } وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي
فَصْلِ تَقْبِيلِ الْخُبْزِ ، وَيُوَافِقُ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ مَا ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله
تَعَالَى { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَوْلُهُ
{ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } قَالَ الْقَاضِي أَيْ عَنْ
الْقِيَامِ بِحَقِّ شُكْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ
سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَإِعْلَامٍ بِالِامْتِنَانِ بِهَا لَا
سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
إنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْمُبَاحِ رَأْسًا جَهْلٌ كَذَا قَالَ غَيْرُهُ
مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ
خِلَافُ فِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِهِ فَمَنْ اتَّخَذَ طَرِيقًا إلَى
اللَّهِ سُبْحَانَهُ خِلَافَ طَرِيقِهِ فَإِنَّمَا يَرُومُ ذَلِكَ
وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَوْصَلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَبْلَغُ فِي حُصُولِ
الْمَطْلُوبِ لَا سِيَّمَا مَعَ شِدَّةِ طَرِيقِهِ وَضِيقِهَا وَلَا
يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ الْجَهْلِ ، وَالضَّلَالِ .
وَقَدْ ذَكَرَ
أَبُو شَامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ
الْمَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْبَاعِثِ عَلَى إنْكَارِ
الْبِدَعِ ، وَالْحَوَادِثِ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ
أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ أَنَّ رَجُلًا
جَاءَ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مِنْ
أَيْنَ أُحْرِمُ قَالَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْرَمَ فَقَالَ الرَّجُلُ فَإِنِّي
أَوْ فَإِنْ أَحْرَمْت مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى
ذَلِكَ ، فَقَالَ مَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَكْرَهُ عَلَيْك
الْفِتْنَةَ قَالَ وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي ازْدِيَادِ الْخَيْرِ قَالَ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَكْبَرُ مِنْ أَنَّك خُصِصْتَ
بِفِعْلٍ لَمْ يُخْصَصْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ
مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ قَالَ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا قَالَ فَإِنْ
زِدْتُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك
الْفِتْنَةَ قَالَ وَمَا فِي هَذَا مِنْ الْفِتْنَةِ إنَّمَا هِيَ
أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : {
فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قَالَ وَأَيُّ فِتْنَةٍ
فِي هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَيْ
اخْتِيَارَك لِنَفْسِك خَيْرًا مِنْ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى
وَاخْتِيَارِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ نَفَرًا مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا
أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ
فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ
عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ مَا
بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا ، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ
وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ
عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ
قَالَهَا ثَلَاثًا } وَهُمْ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ ، وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ
الصُّلَحَاءِ أَنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَضَعَ جَنْبَهُ إلَى
الْأَرْضِ مَا بَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ
سَنَةً وَوَفَّى بِذَلِكَ .
وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ كَانَ
يَسَفُّ السَّوِيقَ لِئَلَّا يَشْتَغِلُ بِمَضْغِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ
عَنْ الذِّكْرِ ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعُبَّادِ مَعْنَى هَذِهِ
الْأَحْوَالِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْ عَابِدٍ عَالِمٍ ،
وَعَابِدٌ جَاهِلٌ لَا عِبْرَةَ بِرَأْيِهِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
مَحْجُوجٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَلَامَ الْمَشْهُورَ : كُلُّ
أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ
يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ بَعْضَ
ذَلِكَ وَغَيْرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعُبَّادِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالَ
وَلَعَمْرِي إنَّ هَذِهِ خَيْرَاتٌ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْجَادَّةِ
طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَوْ كَمَا قَالَ ، وَأَمَّا إنْ أَسْرَفَ فِي
تَنَاوُلِ
ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَمَاعَةٌ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّبْذِيرَ وَالْإِسْرَافَ مَا أَخْرَجَهُ فِي
الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ : لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا لُقْمَةٌ فَوَضَعَهَا فِي
فِي أَخِيهِ لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى
إنْ لَمْ يَخَفْ الْفَقْرَ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ
السَّرَفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
التَّبْذِيرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي
غَيْرِ حَقٍّ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ .
( وَالثَّانِي ) الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ الْمَالَ { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } .
يُوَافِقُونَهُمْ
فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَيُشَاكِلُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
{ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } أَيْ جَاحِدًا لِنِعَمِهِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُسْرِفَ
كَفُورٌ لِلنِّعَمِ وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ
التَّبْذِيرَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي حَرَامٍ أَوْ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ
وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ الْحَجْرِ ،
وَسَبَقَ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي
الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ يُحْتَجُّ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ
بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَإِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى السَّبَبِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } .
وَكَقَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } .
وَبِأَنَّهُ
إجْمَاعٌ سَابِقٌ فِي الْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ كَمَا يَأْتِي فِي
كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ فَهَذَا أَوْلَى ، وَمِنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ
يَحْتَجُّ بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُسْرِفُوا } .
وَيُحْمَلُ
مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِبَاحَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا مَعَ
السَّرَفِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَحَيْثُ لَمْ يُحَرَّمْ فَمَعْلُومُ أَنَّ
تَرْكَهُ أَوْلَى ، وَهَلْ يُكْرَهُ ؟ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ
أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ
وَعَدَمُ دَلِيلِهَا وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي فُصُولِ
التَّكَسُّبِ : أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَوْ عَبَسَ الزَّمَانُ فِي وَجْهِكَ
مَرَّةً لَعَبَسَ فِي وَجْهِكَ أَهْلُكَ وَجِيرَانُكَ ثُمَّ حَثّ عَلَى
الْإِمْسَاكِ ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ مُتَمَثِّلًا
: قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى
الْفَسَادِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَامَةِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي
الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ ، افْتَقَرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْإِسْرَافِ فِي
اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ
الْكَرَاهَةُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ
الدُّنْيَا } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِطَيِّبَاتِهِمْ مَا
كَانُوا فِيهِ مِنْ اللَّذَّاتِ مُشْتَغِلِينَ بِهَا عَنْ الْآخِرَةِ
مُعْرِضِينَ عَنْ شُكْرِهَا ، وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
بِذَلِكَ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ بَعْدَهُمْ اجْتِنَابَ نَعِيمِ الْعَيْشِ
وَلَذَّتِهِ لِيَتَكَامَلَ أَجْرُهُمْ وَلِئَلَّا يُلْهِيهِمْ عَنْ
مَعَادِهِمْ .
رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا
فِي يَدِي فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِرُ ؟ فَقُلْتُ : اشْتَهَيْتُ
لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ ، فَقَالَ أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ
يَا جَابِرُ ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ : { أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَوْ أَمَرْتَ أَنْ يُصْنَعَ لَكَ
طَعَامٌ أَلْيَنُ مِنْ هَذَا فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ
أَقْوَامًا فَقَالَ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ
الدُّنْيَا } انْتَهَى كَلَامُهُ .
الْأَثَرُ عَنْ جَابِرٍ فِي
الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَى لَحْمًا بِدِرْهَمٍ ، وَأَنَّ
عُمَرَ قَالَ لَهُ : مَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ
جَارِهِ وَابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ يَذْهَبُ عَنْكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : {
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } .
وَمَا
يُرْوَى عَنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي
الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا يَدُلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَقَّقُ
فِيهِ إسْرَافٌ وَالْكَلَام فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَازِمٍ
لِسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّقْيَ ؟ فَقَالَ : مَا رَأَى النِّقْيَ مَنْ حِينِ
ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، فَقُلْتُ هَلْ كَانَ
لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنَاخِلُ ؟ قَالَ : مَا رَأَى مُنْخُلًا مَنْ حَيْثُ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ
حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قُلْتُ : كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ
غَيْرَ مَنْخُولٍ ؟ قَالَ : كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا
طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَيْنَاهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ بَعْد قَوْلِهِ : النِّقْيَ يَعْنِي
الْحَوَارِيَّ ثَرَيْنَا عَجَنَّاهُ وَسَيَأْتِي فِي آدَابِ الْمَسَاجِدِ
حُكْمُ إنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْبِنَاء وَالْعِمَارَةِ ، وَكَلَامُ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَأَمَّا إنْفَاقُهُ فِي الصَّدَقَةِ
فَمَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَيَأْتِي فِي
فُصُولِ التَّكَسُّبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ قَالَ الْمَشَايِخُ مِنْهُمْ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يَأْكُل فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ .
(
وَالثَّانِي ) : إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ وَقَدْ تَنَاهَى أَكْلُهُ وَلَمْ
يَشْبَعْ ضَيْفُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَمْسَكَ عَنْ الْأَكْلِ
أَمْسَكَ الضَّيْفُ عَنْهُ حَيَاءً وَخَجَلًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ
فَوْقَ الشِّبَعِ ؛ لِكَيْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَسَاءَ الْقِرَى وَإِسَاءَةُ الْقِرَى مَذْمُومَةٌ شَرْعًا ، وَهَذَا
الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ
الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ الْمَشَايِخَ مِنْ
الْحَنَفِيَّةِ : وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْمَائِدَة مِنْ
الْخُبْزِ أَضْعَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُونَ .
وَمِنْ
السَّرَف أَنْ يَضَعَ لِنَفْسِهِ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ، وَيُكْرَهُ
تَعْلِيقُ الْخُبْزِ عَلَى الْخِوَانِ بَلْ يُوضَعُ بِحَيْثُ لَا
يَتَعَلَّقُ ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْخُبْزِ فِي جَنْبِ الْقَصْعَةِ
لِتَسْتَوِيَ الْقَصْعَةُ وَيُكْرَهُ مَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ
فِي الْخُبْزِ ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ بَلْ
يُوضَعُ الْمِلْحُ وَحْدَهُ عَلَى الْخُبْزِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ
مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ وَوَجْهَهُ وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ ، وَمَتَى
أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا
ذَهَبَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا
ظَاهِرُهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَة الْأَخِيرَةِ .
وَرَوَى
مُسْلِمُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْكَافِرَ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ
بِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ
لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا
عَلَى طَاعَتِهِ } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُؤْمِنُ يُدَّخَرُ لَهُ
حَسَنَاتُهُ وَثَوَابُ أَعْمَالِهِ إلَى الْآخِرَةِ وَيُجْزَى بِهَا مَعَ
ذَلِكَ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا وَلَا مَانِعَ مَنْ جَزَائِهِ بِهَا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَيَجِبُ
اعْتِقَادُهُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَالَ : { مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنْ
الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً
تَمَّ لَهُمْ الْأَجْرُ } حَمَلَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِهِ
وَقَالَ : وَتَكُونُ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ مَنْ جُمْلَةِ الْأَجْرِ قَالَ :
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِمْ : مِنَّا مَنْ مَاتَ
وَلَمْ يَأْكُلْ مَنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ
ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا .
وَذَكَرَ فِيهِ
أَقْوَالًا وَضَعَّفَهَا وَقَالَ : إنَّ هَذَا الصَّوَابُ الَّذِي لَا
يَجُوزُ غَيْرُهُ وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَاهُ وَاخْتَارَهُ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْخَبَرَ
الْمَذْكُورَ فِي تَنْقِيصِ أَجْرِ مَنْ غَنِمَ لَا يَصِحُّ ، وَإِنَّهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ ثَوَابُ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ بَعْضُهُمْ
وَرَاوِي هَذَا الْخَبَرِ أَبُو هَانِئٍ حُمَيْدُ بْنُ هَانِئٍ مَجْهُولٌ
؛ وَلِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يَرْجِعُ بِمَا نَالَ
مَنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَبَا هَانِئٍ ثِقَةٌ
مَشْهُورٌ رَوَى عَنْهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ .
وَلَيْسَ
فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ نَصُّ إنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ
أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِهِمْ ، وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ ، وَلَا
تَعَارُضَ
بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَمْ
يَقُلْ : إنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْقُصُ الْأَجْرَ أَمْ لَا ، وَلَا قَالَ :
أَجْرُهُ كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ
الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ
عَلَى غَيْر وَجْهِهَا ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ
الَّتِي لَمْ تَغْنَمْ يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بِالْأَسَفِ عَلَى مَا
فَاتَهَا مَنْ الْغَنِيمَةِ فَيُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا يُضَاعَفُ
ثَوَابُ مَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ
أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ وَالْغَنِيمَةِ
مَعًا فَيَنْقُصُ اللَّهُ ثَوَابَهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ } : قَالَ لَهُ هُنَاكَ جَزَاءُ
الصَّالِحِينَ غَيْر مَنْقُوصٍ مِنْ الْآخِرَةِ بِمَا أُعْطِيَ فِي
الدُّنْيَا مَنْ الْآخِرَة .
فَصْلٌ ( فِي مُبَاسَطَةِ الضِّيفَانِ وَمُعَامَلَةِ كُلِّ طَبَقَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا ) .
وَيُسْتَحَبُّ
لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُبَاسِطَ الْإِخْوَانَ بِالْحَدِيثِ
الطَّيِّبِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا كَانُوا
مُنْقَبِضِينَ قَالَ الْمَأْمُونُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ لَا تُمَلُّ أَكْلُ
خُبْزِ الْبُرِّ ، وَشُرْبُ مَاءِ الْعِنَبِ ، وَأَكْلُ لَحْمِ الضَّأْنِ
، وَالثَّوْبُ اللَّيِّنُ ، وَالرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ ، وَالْفِرَاشُ
الْوَطِيءُ ، وَالنَّظَرُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ ، فَقَالَ لَهُ
الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ : أَيْنَ مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : هُنَّ ثَمَانٍ وَهِيَ أُولَاهُنَّ .
وَيَأْكُلُ
وَيَشْرَبُ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَدَبِ وَمَعَ الْفُقَرَاءِ
بِالْإِيثَارِ وَمَعَ الْإِخْوَانِ بِالِانْبِسَاطِ وَمَعَ الْعُلَمَاءِ
بِالتَّعَلُّمِ وَالِاتِّبَاع قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : يَأْكُلُ
بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ
وَبِالْمُرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا .
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ عِيدٍ : خُذْ عَلَيْكَ رِدَاءَكَ وَادْخُلْ
قَالَ : فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَائِدَةٌ وَقَصْعَةٌ عَلَى خِوَانٍ عَلَيْهَا
عِرَاقٌ وَقَدْ زَالَ جَانِبُهُ ، فَقَالَ لِي : كُلْ فَلَمَّا رَأَى مَا
نَزَلَ بِي قَالَ إنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ
لَتَأْكُلَنَّ .
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ : إنَّمَا وُضِعَ الطَّعَامُ لِيُؤْكَلَ .
وَكَانَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَبِيعُ ثِيَابَهُ وَيُنْفِقُهَا عَلَى
أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيْهِ مَنْ ذَاكَ ،
وَأَوْمَأَ إلَى جِذْعٍ مَطْرُوحٍ قَالَ : فَانْبَسَطْت فَأَكَلْتُ
لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد
الْحَرْبِيُّ اشْتَرَى إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ لِأَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ : يَا فِتْيَانُ كُلُوا فِي رَهْنٍ رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي
الْأَخْلَاقِ وَغَدَّى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ
الْقَطِيعِيَّ وَأَبَاهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فَجَعَلْتُ آكُلُ وَفِي
انْقِبَاضٌ لِمَكَانِ أَحْمَدَ قَالَ : فَقَالَ لِي لَا
تَحْتَشِمْ
قَالَ : فَجَعَلْتُ آكُلُ قَالَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ
لِي فِي الثَّالِثَةِ يَا بُنَيَّ كُلْ فَإِنَّ الطَّعَامَ أَهْوَنُ
مِمَّا يُحْلَفُ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكُتَّابُ فِي بَابِ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ
الَّذِي اسْتِعْمَالُهُ خَطَأٌ وَقَالَ وَاسْتَعْمَلُوا .
احْتَشَمَ بِمَعْنَى اسْتَحْيَا وَلَا نَعْرِفُ احْتَشَمَ بِمَعْنَى اسْتَحْيَا وَلَا نَعْرِفُ احْتَشَمَ إلَّا بِمَعْنَى غَضِبَ .
وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ حَشَمْتُ الرَّجُلَ
وَأَحْشَمْتُهُ بِمَعْنَى وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ إلَيْك فَتُؤْذِيَهُ
وَتُغْضِبهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَشَمْتُهُ أَخْجَلْتُهُ
وَأَحْشَمْتُهُ أَغْضَبْتُهُ ، وَالِاسْمُ الْحَشَمُ وَهُوَ
الِاسْتِحْيَاءُ وَالْغَضَبُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ :
الْحِشْمَةُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْغَضَبِ لَا بِمَعْنَى
الِاسْتِحْيَاءِ ، وَأَحْشَمْتُهُ وَاحْتَشَمْتُ مِنْهُ بِمَعْنَى
وَرَجُلٌ حَشَمٌ أَيْ : مُحْتَشِمٌ ، وَحَشَمُ الرَّجُلِ خَدَمُهُ وَمَنْ
يَغْضَبُ لَهُ ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَغْضَبُونَ لَهُ ذَكَرَ
ذَلِكَ الْجَوْهَرِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ بسرى قَدْ جَاءَ الْحِشْمَةُ
بِمَعْنَى الْحَيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْإِبَةُ الْحَيَاءُ ، يُقَالُ
: فَاتَّأَبَ أَيْ احْتَشَمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلِّ دَاخِلٍ
دَهْشَةٌ ، وَلِكُلِّ طَاعِمٍ حِشْمَةٌ ، فَابْدَءُوهُ بِالْيَمِينِ
وَقَالَ لِلْمُنْقَبِضِ عَنْ الطَّعَامِ مَا الَّذِي حَشَمَكَ ، انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِئَلَّا يَنْسِبُ بَعْضُ مَنْ
يَقِفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، لَكِنْ قَدْ
اُسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي عُرْفٍ حَادِثٍ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ فِي
اللُّغَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذُكِرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَأَهْلِ الطَّعَامِ الْأَكْلُ بَعْد
طَعَامِ الضِّيفَانِ لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحِيحِ
، وَالْأَوْلَى النَّظَرُ فِي قَرَائِنِ الْحَالِ ، وَمَا تَقْتَضِيهِ
الْمَصْلَحَةُ وَفِيمَا تَقَدَّمَ إشْعَارٌ بِذَلِكَ ،
وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ لَا يُخَالِفُهُ .
وَذَكَرَ
ابْن الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ لَا يَسْكُتُوا عَلَى
الطَّعَامِ ، بَلْ يَتَكَلَّمُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَتَكَلَّمُونَ
بِحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا .
وَمِنْ
ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ الْإِيثَارَ لِرَفِيقِهِ وَلَا
يُحْوِجُ رَفِيقَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ بَلْ يَنْبَسِطُ ، وَلَا
يَتَصَنَّعُ بِالِانْقِبَاضِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا
يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَنْفُضُ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ
وَلَا يُقَدِّمُ إلَيْهَا رَأْسَهُ عِنْد وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ ،
وَإِذَا خَرَجَ شَيْءٌ مَنْ فِيهِ لِيَرْمِيَ بِهِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ
الطَّعَامِ وَأَخَذَهُ بِيَسَارِهِ ، وَلَا يَغْمِسُ اللُّقْمَةَ
الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ ، وَلَا الْخَلَّ فِي الدَّسَمِ فَقَدْ
يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ ، وَلَا يَغْمِسُ بَقِيَّةَ اللُّقْمَةِ الَّتِي
أَكَلَ مِنْهَا فِي الْمَرَقَةِ .
وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ
إلَى الْإِخْوَانِ وَيُقَدِّمُ مَا حَضَرَ مَنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا
يَسْتَأْذِنُهُمْ فِي التَّقْدِيمِ بَلْ يُقَدِّمُ مِنْ غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ كَذَا ذَكَرَ .
وَفِي هَذَا الْأَدَبِ نَظَرٌ قَالَ : وَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ
أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثَنَا قَيْسُ بْنُ
الرَّبِيعِ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سالور عَنْ شَقِيقٍ أَوْ نَحْوِهِ شَكَّ
قَيْسٌ { أَنَّ سَلْمَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَا لَهُ بِمَا
كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَوْ قَالَ لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا أَنْ
يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ لَتَكَلَّفْنَا لَكَ } .
هَذَا الْإِسْنَادُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمِنْ آدَابِ الزَّائِرِ أَنْ لَا يَقْتَرِحَ
طَعَامًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ اخْتَارَ
الْأَيْسَرَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُضِيفَهُ يُسَرُّ بِاقْتِرَاحِهِ
، وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ إلَى الدَّعْوَةِ نَفْسَ
الْأَكْلِ بَلْ
يَنْوِي بِهِ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ وَإِكْرَامَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ
وَيَنْوِي صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَمَّنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ ، فَرُبَّمَا
قِيلَ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ هَذَا مُتَكَبِّرٌ ، وَلَا يُكْثِرُ
النَّظَرَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ
دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى الشَّرَهِ .
وَهَذَا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي فِعْلُ مَا يَدُلّ عَلَى الشَّرَهِ ، وَمِنْهُ
الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْت وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ
إذَا دُعِيَ أَكَلَ مَا يَكْسِر نَهْمَتَهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ وَلَعَلَّهُ
تَبِعَ فِي ذَلِكَ مَنْ مَضَى مَنْ السَّلَفِ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
عَبْد الْبَرّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا دُعِيَ إلَى طَعَام أَكْل
شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَيَقُولُ قَبِيحٌ بِالرَّجُلِ أَنْ
يُظْهِرَ نَهْمَتَهُ فِي طَعَامِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَال .
قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِنْ آدَابِ إحْضَارِ الطَّعَامِ
تَعْجِيلُهُ وَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ قَبْلَ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ
أَصْلَحُ فِي بَابِ الطِّبِّ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَصْلٌ
( فِيمَا وَرَدَ مَنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الطَّعَامِ ) وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ وَالتَّسْمِيَةِ قَبْلَهُ .
عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا
مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى
عَنْهُ رَبَّنَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ " فِي
غَيْرَ مَكْفِيٍّ " أَيْ غَيْرَ مَرْدُودٍ وَلَا مَقْلُوبٍ ، وَالضَّمِيرُ
رَاجِعٌ إلَى الطَّعَامِ ، وَقِيلَ مَكْفِيٍّ مِنْ الْكِفَايَةِ يَعْنِي
أَنَّ اللَّهُ هُوَ الْمُطْعِمُ وَالْكَافِي وَغَيْرُ مُطْعَمٍ وَلَا
مَكْفِيٍّ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلَّهِ .
وَقَوْلُهُ " وَلَا مُوَدَّعٍ " أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبُ إلَيْهِ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ .
وَقَوْلُهُ
" رَبَّنَا " مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعٌ
عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ رَبَّنَا غَيْرَ مَكْفِيِّ وَلَا مُوَدَّعٍ ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الْحَمْدِ كَأَنَّهُ قَالَ
حَمْدًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ
وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ أَيْ عَنْ الْحَمْد .
وَلِلْبُخَارِيِّ {
كَانَ إذَا فَرَغَ مَنْ طَعَامِهِ قَالَ الْحَمَدُ لِلَّهِ الَّذِي
كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ } وَعَنْ أَبِي
سَعِيد قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا
وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ } هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ضَعْفٌ
وَاضْطِرَابٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا
وَرَزَقْنِيهِ مَنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ ، غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مَنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي
وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ }
.
هَذَا
الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو
مَرْحُومٍ الْمَعَافِرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ ، أَمَّا أَبُو
مَرْحُومٍ فَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمِ وَغَيْرُهُمَا
وَقَالَ النَّسَائِيُّ : أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَأَمَّا سَهْلٌ فَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
قَالَ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ عَلَى
الطَّرِيقِ قَالَ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمِلْحِ وَيَخْتِمَ
بِهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَدْ زَادَ الْمِلْحَ قَالَ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ
النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ الْآكِلِينَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْشِمُهُمْ
وَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى الطَّعَامِ بِمَا يُسْتَقْذَرُ مَنْ الْكَلَامِ
وَلَا بِمَا يُضْحِكهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مَنْ الشَّرَقِ وَلَا بِمَا
يُحْزِنُهُمْ لِئَلَّا يُنَغِّصَ عَلَى الْآكِلِينَ أَكْلَهُمْ وَيُكْرَهَ
أَكْلُ الْبَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ وَهِيَ الثُّومِ وَالْبَصَلُ
وَالْكُرَّاثُ لِكَرَاهَةِ رِيحِهِ قَالَ : وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ
مِنْ فِيهِ وَرَدُّهُ إلَى الْقَصْعَةِ قَالَ : وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ
بِالْخُبْزِ وَلَا يَسْتَبْدِلُهُ وَلَا يَخْلِطُ طَعَامًا بِطَعَامٍ
قَالَ : وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَمُّ الطَّعَامِ وَلَا لِصَاحِبِ الطَّعَامِ
اسْتِحْسَانُهُ وَمَدْحُهُ وَلَا تَقْوِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ كَذَا
قَالَ .
وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { مَا عَابَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ كَانَ إذَا
اشْتَهَى طَعَامًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ } .
وَتَرْجَمَ
عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ ذَمِّ الطَّعَامِ قَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَأْكُلَ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا مَا يَشْتَهِيهِ ، لَا يُجَاهِدُ نَفْسَهُ
عَلَى تَنَاوُلِ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَضَرِّ شَيْءٍ
بِالْبَدَنِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ { وَلَحْمِ
طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } .
قَالَ : وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ تَنَاوُلَ مَا لَا يُشْتَهَى مَكْرُوهٌ .
وَقَالَ
أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي كَرَاهِيَة التَّقَذُّرِ لِلطَّعَامِ ) ثَنَا
النُّفَيْلِيُّ ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا سِمَاكٌ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي
قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ
مِنْ الطَّعَامِ طَعَامًا أَتَحَرَّجُ مِنْهُ .