الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ
فَصْلٌ ( فِي صِيغَةِ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ الْجَوَابِ بِلَا النَّافِيَةِ ) .
عَنْ
عَائِدِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ { أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ
وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا : مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ : تَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ ؟
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّك أَغْضَبْتَهُمْ ؟ لَئِنْ كُنْتَ
أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَتَاهُمْ
أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : يَا إخْوَتَاهُ ، أَغْضَبْتُكُمْ ؟ قَالُوا : لَا .
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ : رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَقَالَ : { قُلْ عَافَاكَ
اللَّهُ رَحِمَكَ اللَّهُ لَا تُزِدْ } ، لَا تَقُلْ قَبْلَ الدُّعَاءِ :
لَا .
فَتَصِيرُ صُورَتُهُ نَفْيًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قُلْ لَا ، وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ .
فَصْلٌ ( فِي الْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدَعُ الْمَشُورَةَ
إذَا كَانَ فِي أَمْرٍ حَتَّى إنْ كَانَ لَيُشَاوِرُ مَنْ هُوَ دُونَهُ ،
وَكَانَ إذَا أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ
مَنْ لَا يَتَّهِمُهُ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَاوِرَهُ
قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَكَانَ إذَا شَاوَرَهُ الرَّجُلُ اجْتَهَدَ لَهُ
رَأْيَهُ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يَرَى مِنْ صَلَاحٍ ، وَظَاهِرُ هَذَا
أَنَّهُ يُشَاوِرُ فِي كُلِّ مَا يَهُمُّ بِهِ ، وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ
مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْحَيَاءِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ قَبْلَ ذِكْرِ الزُّهْدِ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ
أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ
بِهِ ، وَقَوْلُ الْخَلَّالِ فِي الْأَدَبِ كَرَاهَةُ الْعَجَلَةِ
وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَسَبَقَ مِنْ نَحْوِ نِصْفِ كُرَّاسَةٍ الْكَلَامُ فِي
النُّصْحِ .
قَالَ : قَالَ : ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } .
مَعْنَاهُ
: اسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ ، وَيُقَالُ إنَّهُ
مِنْ شَارَ الْعَسَلَ وَأَنْشَدُوا : وَقَاسَمَهَا بِاَللَّهِ حَقًّا
لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنْ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا قَالَ
الزَّجَّاجُ : يُقَالُ شَاوَرْتُ الرَّجُلَ مُشَاوَرَةً وَشِوَارًا وَمَا
يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ اسْمُ الْمَشُورَةِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ :
الْمَشُورَةُ وَيُقَالُ فُلَانٌ حَسَنُ الصُّورَةِ وَالْمَشُورَةِ ، أَيْ
: حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَاللِّبَاسِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : شَاوَرْتُ
فُلَانًا أَظْهَرْتُ مَا عِنْدِي وَمَا عِنْدَهُ ، وَشُرْتُ الدَّابَّةَ ،
إذَا امْتَحَنْتَهَا فَعَرَفْتُ هَيْئَتَهَا فِي سَيْرِهَا ، وَشُرْتُ
الْعَسَلَ إذَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَوَاضِعِ النَّحْلِ ، وَعَسَلٌ مَشَارٌ .
وَقَالَ الْأَعْشَى : كَأَنَّ الْقُرُنْفُلَ وَالزَّنْجَبِيلَ بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْيًا مَشَارَا وَالْأَرْيُ الْعَسَلُ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ : أَشَارَ إلَيْهِ بِالْيَدِ أَوْمَأَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ ، وَشُرْتُ الْعَسَلَ
وَاشْتَرْتُهَا
اجْتَنَيْتُهَا وَأَشَرْتُ لُغَةٌ ، وَأَنْكَرَهَا الْأَصْمَعِيُّ
وَشُرْتُ الدَّابَّةَ شَوْرًا عَرَضْتُهَا عَلَى الْبَيْعِ أَقْبَلْتُ
بِهَا وَأَدْبَرْتُ ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يُعْرَضُ فِيهِ الدَّوَابُّ
مِشْوَارٌ ، يُقَالُ إيَّاكَ وَالْخُطَبَ فَإِنَّهَا مِشْوَارٌ كَثِيرُ
الْعِثَارِ ، وَأَشَارَتْ الْإِبِلُ إذَا سَمِنَتْ بَعْضَ السِّمَنِ ،
يُقَالُ جَاءَتْ الْإِبِلُ شِيَارًا ، أَيْ : سِمَانًا حِسَانًا ، وَقَدْ
أَشَارَ الْفَرَسُ أَيْ : سَمِنَ ، وَحَسُنَ وَالْمَشُورَةُ الشُّورَى
وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ بِضَمِّ الشِّينِ تَقُولُ مِنْهُ شَاوَرْتُهُ فِي
الْأَمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ بِمَعْنًى ، وَالْمُسْتَشِيرُ السَّمِينُ
وَقَدْ اسْتَشَارَ الْبَعِيرُ مِثْلَ اسْتَشَارَ أَيْ : سَمِنَ ،
وَالشَّوَارُ : فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ ، وَمِنْهُ قِيلَ شَوَّرَ
بِهِ أَيْ : كَأَنَّهُ أَبْدَى عَوْرَتَهُ وَيُقَالُ أَبْدَى اللَّهُ
شَوَارَهُ أَيْ عَوْرَتُهُ ، وَالشُّوَارُ ، وَالشَّارَةُ اللِّبَاسُ
وَالْهَيْئَةُ ، وَشَوَّرْتُ الرَّجُلَ فَتَشَوَّرَ أَيْ : خَجَّلْتُهُ
فَخَجِلَ ، وَشَوَّرَ إلَيْهِ بِيَدِهِ أَيْ : أَشَارَ .
عَنْ ابْنِ
السِّكِّيتِ وَهُوَ رَجُلٌ حَسَنُ الصُّورَةِ وَالشُّورَةِ ، وَإِنَّهُ
لَصَيِّرٌ شَيِّرٌ ، أَيْ : حَسَنُ الصُّورَةِ وَالشَّارَةِ وَهِيَ
الْهَيْئَةُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَفُلَانٌ خَيِّرٌ شَيِّرٌ أَيْ : يَصْلُحُ
لِلْمُشَاوَرَةِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْأَرْيُ هُوَ الْعَسَلُ
وَعَمَلُ النَّحْلِ أَرْيٌ أَيْضًا ، وَقَدْ أَرَتْ النَّحْلُ تَأْرِي
أَرْيًا عَمِلَتْ الْعَسَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
لِأَيِّ مَعْنًى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مَعَ كَمَالِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَقِيلَ لِيَسْتَنَّ بِهِ
مَنْ بَعْدَهُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَقِيلَ
لِتَطِيبَ قُلُوبُهُمْ ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ
إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْهُ : نَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { :
الْبِكْرُ
تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا } إنَّمَا أَرَادَ
اسْتِطَابَةُ نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَوْ كَرِهَتْ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ
يُزَوِّجَهَا ، وَكَذَلِكَ مُشَاوَرَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِابْنِهِ حِينَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ وَقِيلَ لِلْإِعْلَامِ بِتَرْكِهِ
الْمُشَاوَرَةَ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ :
وَمِنْ فَوَائِدِ الْمُشَاوَرَةِ أَنَّ الْمُشَاوِرَ إذَا لَمْ يَنْجَحْ
أَمْرُهُ عَلِمَ أَنَّ امْتِنَاعَ النَّجَاحِ مَحْضُ قَدَرٍ فَلَمْ يَلُمْ
نَفْسَهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَعْزِمُ عَلَى أَمْرٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ
الصَّوَابُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ فَيَعْلَمُ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْ
الْإِحَاطَةِ بِفُنُونِ الْمَصَالِحِ ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ
اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ ، وَالتَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَلِ يُؤَمِّنُكَ
مِنْ النَّدَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا اُسْتُنْبِطَ
الصَّوَابُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ ، وَلَا حُصِّنَتْ النِّعَمُ بِمِثْلِ
الْمُوَاسَاةِ ، وَلَا اُكْتُسِبَتْ الْبَغْضَاءُ بِمِثْلِ الْكِبْرِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ بِهِ وَحْيٌ وَعَمَّهُمْ
بِالذِّكْرِ وَالْمَقْصُودُ : أَرْبَابُ الْفَضْلِ وَالتَّجَارِبِ
مِنْهُمْ وَفِي الَّذِي أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ
حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَحَدُهُمَا : أَمْرُ الدُّنْيَا
خَاصَّةً ( وَالثَّانِي ) أَمْرُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَهُوَ أَصَحُّ .
وَقَرَأَ
ابْنُ مَسْعُودٍ ( وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) قَالَ تَعَالَى :
{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } .
أَيْ : لَا عَلَى
الْمُشَاوَرَةِ ، وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ يُرِيدُ
أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ
( فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) وَأَنَّ الْأَمْرَ هُنَا جِنْسٌ وَهُوَ عَامٌّ
يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ ( عَزَمْتُ ) بِضَمِّ التَّاءِ
أَيْ : إذَا أَمَرْتُكَ بِفِعْلِ شَيْءٍ فَتَوَكَّلْ ، فَوَضَعَ
الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا
تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هَدَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَرْشَدِ
أُمُورِهِمْ } وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَيْضًا { لَنْ يَهْلَكَ امْرُؤٌ
عَنْ مَشُورَةٍ } وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ { الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ }
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِي إسْنَادِهِ
اضْطِرَابٌ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ
سَلَمَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
فِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيهَانِ فِي الضِّيَافَةِ .
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ .
وَرَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْهُ ، شَرِيكٌ
حَدِيثُهُ حَسَنٌ .
قَالَ الْحَسَنُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَأْمُرْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُشَاوَرَةِ
أَصْحَابِهِ حَاجَةً مِنْهُ .
إلَى رَأْيِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ
يُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْمَشُورَةِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَعَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ
فَشَاوَرَ فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ تَوَاضُعًا عَزَمَ لَهُ عَلَى
الرُّشْدِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : شَاوِرْ فِي أَمْرِكَ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقِيلَ
لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ مَا أَكْثَرَ صَوَابَكُمْ ؟ قَالَ : نَحْنُ أَلْفٌ
وَفِينَا وَاحِدٌ حَازِمٌ وَنَحْنُ نُشَاوِرُهُ وَنُطِيعُهُ فَصِرْنَا
أَلْفَ حَازِمٍ ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ : رَأْيُ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ
وَقَالَ : بَزَرْجَمْهَرْ حَسْبُ ذِي الرَّأْيِ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ
أَنْ يَسْتَشِيرَ عَالِمًا وَيُطِيعَهُ .
مَرَّ حَارِثَةُ بْنُ زَيْدٍ
بِالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّك عَجْلَانُ
لَشَاوَرْتُكَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ قَالَ : يَا حَارِثَةُ أَجَلْ كَانُوا
لَا يُشَاوِرُونَ الْجَائِعَ حَتَّى يَشْبَعَ ، وَالْعَطْشَانَ حَتَّى
يُنْقَعَ ، وَالْأَسِيرَ حَتَّى
يُطْلَقَ ، وَالْمُضِلَّ حَتَّى
يَجِدَ ، وَالرَّاغِبَ حَتَّى يُمْنَحَ وَكَانَ يُقَالُ اسْتَشِرْ
عَدُوَّكَ الْعَاقِلَ ، وَلَا تَسْتَشِرْ صَدِيقَكَ الْأَحْمَقَ ، فَإِنَّ
الْعَاقِلَ يَتَّقِي عَلَى رَأْيِهِ الزَّلَلَ كَمَا يَتَّقِي الْوَرِعُ
عَلَى دِينِهِ الْحَرَجَ ، وَكَانَ يُقَالُ لَا تُدْخِلْ فِي رَأْيِكَ
بَخِيلًا فَيُقَصِّرَ فِعْلَكَ ، وَلَا جَبَانًا فَيُخَوِّفَكَ مَا لَا
يُخَافُ ، وَلَا حَرِيصًا فَيُبْعِدَكَ عَمَّا لَا يُرْجَى .
وَقَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ
، لَا تَقْطَعْ أَمْرًا حَتَّى تُشَاوِرَ مُرْشِدًا ، فَإِنَّك إذَا
فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ تَنْدَمْ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : مَا
نَزَلَتْ بِي قَطُّ عَظِيمَةٌ فَأَبْرَمْتُهَا حَتَّى أُشَاوِرَ عَشَرَةً
مِنْ قُرَيْشٍ ، فَإِنْ أَصَبْتُ كَانَ الْحَظُّ لِي دُونَهُمْ ، وَإِنْ
أَخْطَأْتُ لَمْ أَرْجِعْ عَلَى نَفْسِي بِلَائِمَةٍ .
وَقَالَ
بَزَرْجَمْهَرْ : أَفْرَهُ الدَّوَابِّ لَا غِنَى بِهِ عَنْ السَّوْطِ ،
وَأَعْقَلُ الرِّجَالِ لَا غِنَى بِهِ عَنْ الْمَشُورَةِ وَقَالَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ : لَأَنْ أُخْطِئَ وَقَدْ اسْتَشَرْتُ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ .
وَقَالَ قُتَيْبَةُ
بْنُ مُسْلِمٍ : الْخَطَأُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
الصَّوَابِ مَعَ الْفُرْقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ لَا تُخْطِئُ
وَالْفُرْقَةُ لَا تُصِيبُ .
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَشِيرُ فِي الْأَمْرِ حَتَّى إنْ كَانَ رُبَّمَا
اسْتَشَارَ الْمَرْأَةَ فَأَبْصَرَ فِي رَأْيِهَا فَضْلًا ، وَكَانَ
يُقَالُ : مَنْ طَلَبَ الرُّخْصَةَ مِنْ الْإِخْوَانِ عِنْدَ الْمَشُورَةِ
، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ ، وَمِنْ الْأَطِبَّاءِ عِنْدَ
الْمَرَضِ ، أَخْطَأَ الرَّأْيَ ، وَحَمَلَ الْوِزْرَ ، وَازْدَادَ
مَرَضًا .
قَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ اللَّبِيبَ إذَا تَفَرَّقَ أَمْرُهُ
فَتَقَ الْأُمُورَ مُنَاظِرًا وَمُشَاوِرَا وَأَخُو الْجَهَالَةِ
يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ فَتَرَاهُ يَعْتَسِفُ الْأُمُورَ مُخَاطِرَا
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ
مَرْفُوعًا { إذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ .
}
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ وَقَالَ الْعِجْلِيُّ : هُوَ جَائِزُ الْحَدِيثِ وَمُرَادُ الْخَبَرِ إذَا ظَهَرَ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ ، وَيَأْتِي اسْتِشَارَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي فُضُولِ الطَّلَبِ بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِخَارَةِ بَعْدَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَبْلَ ذِكْرِ الزُّهْدِ .
فَصْلٌ ( فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْقَوْلِ ) .
رَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
قَالَ : كَانَ يُقَالُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ
فَهُوَ وَلَدُ شَيْطَانٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ
الْمُصَفَّرِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : فَهُوَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ .
قَالَ
الْخَلَّالُ : سَأَلْتُ ثَعْلَبًا النَّحْوِيَّ عَنْ السَّفِلَةِ فَقَالَ
: الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ : السُّفْلُ وَالسِّفْلُ وَالسُّفُولُ وَالسُّفَالُ
بِالضَّمِّ نَقِيضُ الْعُلُوِّ وَالْعُلْوِ وَالْعِلْوِ وَالْعَلَاءِ
وَالْعُلَاوَةِ ، وَالسَّافِلُ نَقِيضُ الْعَالِي ، وَالسَّفَالَةُ
بِالْفَتْحِ النَّذَالَةُ ، وَقَدْ سَفُلَ بِالضَّمِّ ، وَالسَّفِلَةُ
بِكَسْرِ الْفَاءِ السَّاقِطُ مِنْ النَّاسِ يُقَالُ هُوَ مِنْ
السَّفِلَةِ وَلَا يُقَالُ هُوَ مِنْ سَفَلَةٍ لِأَنَّهُ جَمْعٌ ،
وَالْعَامَّةُ تَقُولُ رَجُلٌ سَفَلَةٌ مِنْ قَوْمٍ سُفْلٍ .
قَالَ
ابْنُ السِّكِّيتِ : وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُخَفِّفُ فَيَقُولُ فُلَانٌ مِنْ
سِفْلَةِ النَّاسِ ، قَالَ الْخَلَّالُ : وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي
تَارِيخِهِ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ لِي رَبِيعَةُ الرَّأْيِ يَا مَالِكُ
مَنْ السَّفِلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ مَنْ أَكَلَ بِدِينِهِ ، فَقَالَ لِي :
وَمَنْ أَسْفَلُ السَّفِلَةِ ؟ قُلْتُ مَنْ أَصْلَحَ دُنْيَا غَيْرِهِ
بِفَسَادِ دِينِهِ ، فَصَدَرَنِي .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ
الْمُبَارَكِ وَسُئِلَ مَا حَدُّ السَّفِلَةِ ؟ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ
يَتَطَيْلَسُونَ وَيَأْتُونَ أَبْوَابَ الْقُضَاةِ وَيَطْلُبُونَ
الشَّهَادَاتِ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ الْحَنْبَلِيُّ رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِ : قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحَدِ الصُّوفِيَّةِ :
السَّفِلَةُ مَنْ يَمُنُّ بِمَا يُعْطِيهِ .
وَقَالَ أَيْضًا : مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ أَيْضًا : مَنْ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ أَيْضًا : سَأَلْتُ ثَعْلَبًا قُلْتُ : الْقَلِيلُ الْحَيَاءِ
وَالسَّفِيقُ الْوَجْهِ ، قَالَ مَا أَقْرَبَهُمَا مِنْ الْقَوْلِ .
وَسَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ قُلْتُ : الْقَلِيلُ الْحَيَاءِ وَالسَّفِيقُ الْوَجْهِ وَاحِدٌ ؟ قَالَ :
نَعَمْ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { لَا يَبْغِي عَلَى النَّاسِ
إلَّا وَلَدُ بَغْيٍ أَوْ فِيهِ عِرْقٌ مِنْهُ } وَرَوَى أَيْضًا عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاءٍ أَبِي مُسْلِمٍ : يَا
عَطَاءُ احْذَرْ النَّاسَ وَاحْذَرْنِي .
فَصْلٌ ( فِي الصَّلَاةِ
عَلَى النَّبِيِّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ )
تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِ " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إذَا ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى
غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ وَقِيلَ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } مِنْ
الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا
، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ
، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِهِ
مُنْفَرِدًا ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ وَاللَّالَكَائِيُّ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ ، هَلْ يُقَالُ
هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ أَدَبٌ ؟ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ :
وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَيْرِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ مِثْلُ فُلَانٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ
وَجِيهُ الدِّينِ : الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الرَّسُولِ جَائِزَةٌ تَبَعًا
لَا مَقْصُودًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ ، نَعَمْ
الرَّسُولُ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ : يُسْتَحَبُّ
لِلْوَالِي يَعْنِي إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ أَنْ يَقُولَ يَعْنِي
الدُّعَاءَ الْمَشْهُورَ ، وَلَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ
فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَقَالَ
أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي قَصِيدَتِهِ عَنْ الْعَبَّاسِ
وَبَنِيهِ : صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْهِ مَا هَبَّتْ صَبَا وَعَلَى بَنِيهِ
الرَّاكِعِينَ السُّجَّدِ وَرَأَيْتُ بِخَطِّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ
قَالَ عَنْ الْعَبَّاسِ : صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَعَنْ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ : الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْصُوصَ أَحْمَدَ قَالَ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ عَبْدِ الْقَادِرِ قَالَ : وَإِذَا جَازَتْ أَحْيَانًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِمَّا أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لِذِكْرِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ يَقْصُدَ الصَّلَاةَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ بَعْضٍ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَالسَّلَامُ عَلَى غَيْرِهِ بِاسْمِهِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ .
فَصْلٌ ( فِي السَّلَامِ وَتَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِهِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةِ ) .
السَّلَامُ
سُنَّةُ عَيْنٍ مِنْ الْمُنْفَرِدِ ، وَسُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ
الْجَمَاعَةِ ، وَالْأَفْضَلُ السَّلَامُ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَلَا يَجِبُ
إجْمَاعًا ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ ، وَظَاهِرُ مَا
نُقِلَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ وُجُوبُهُ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَاجِبٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ ،
صَحَّحَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّلْخِيصِ غَيْرَهُ ،
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ ، وَفِيهِ قَوْلٌ : لَا يُكْرَهُ ، ذَكَرَ
فِي الشَّرْحِ أَنَّهُ الْأَوْلَى لِلْعُمُومِ وَصَحَّحَهُ أَبُو
الْبَرَكَاتِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ
التَّوَقُّفُ ، وَيُكْرَهُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ أَوْ يُقَاتِلُ
لِاشْتِغَالِهِمَا ، وَفِيمَنْ يَأْكُلُ نَظَرٌ ، فَظَاهِرُ التَّخْصِيصِ
أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عَلَى غَيْرِهِمَا ، وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ
خِلَافُهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْفُصُولِ فِي السَّلَامِ
عَلَى الْمُصَلِّي ، وَصَرَّحَ بِالْمُنْحَجِمِ وَالْمُشْتَغِلِ بِمَعَاشٍ
أَوْ حِسَابٍ ، وَيَأْتِي قَرِيبًا كَلَامُ أَبِي الْمَعَالِي وَعَلَى
امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ عَجُوزٍ وَبَرْزَةٍ ، فَلَوْ سَلَّمَتْ
شَابَّةٌ عَلَى رَجُلٍ رَدَّهُ عَلَيْهَا كَذَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ
وَلَعَلَّهُ فِي النُّسْخَةِ غَلَطٌ وَيُتَوَجَّهُ لَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا لَمْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، إذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَى الرَّجُلِ أَصْلًا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَعَلَى
هَذَا لَا يُرَدُّ عَلَيْهَا ، وَيُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ مِثْلِهِ
عَكْسَهُ مَعَ عَدَمِ مَحْرَمٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ {
ذَهَبْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ
بِثَوْبٍ ، قَالَتْ : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟
قُلْتُ
أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ مَرْحَبًا يَا أُمَّ هَانِئٍ
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ }
الْحَدِيثَ .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ سَلَامُ الْمَرْأَةِ
الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ عَلَى الرَّجُلِ بِحَضْرَةِ مَحَارِمِهِ
وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُكَنِّيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى سَبِيلِ
التَّعْرِيفِ إذَا اُشْتُهِرَ بِالْكُنْيَةِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ
بِالْكَلَامِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَلَا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ ،
وَجَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِحَضْرَةِ امْرَأَةٍ مِنْ مَحَارِمِهِ إذَا
كَانَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ عَنْهَا ، وَجَوَازِ تَسْتِيرِهَا إيَّاهُ
بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ ، وَمَعْنَى مَرْحَبًا صَادَفْت رَحْبًا أَيْ سَعَةً .
وَرَوَى
ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْحِلْيَةِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ عَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ قَالَ : { لَيْسَ لِلنِّسَاءِ
سَلَامٌ وَلَا عَلَيْهِنَّ سَلَامٌ } وَهَذَا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهَا
مُطْلَقًا .
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : التَّسْلِيمُ عَلَى النِّسَاءِ ؟ قَالَ : إذَا كَانَتْ عَجُوزًا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ حَرْبٌ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ ؟ قَالَ : إنْ كُنَّ عَجَائِزَ فَلَا بَأْسَ .
وَقَالَ
صَالِحٌ : سَأَلْتُ أَبِي : يُسَلَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : أَمَّا
الْكَبِيرَةُ فَلَا بَأْسَ ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا تُسْتَنْطَقُ ،
فَظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْعَجُوزِ وَغَيْرِهَا .
وَجَزَمَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي
تَسْلِيمِهِنَّ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِنَّ ، وَأَنَّ التَّشْمِيتَ
مِنْهُنَّ وَلَهُنَّ كَذَلِكَ ، وَقِيلَ لَا تُسَلِّمُ امْرَأَةٌ عَلَى
رَجُلٍ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهَا ، وَقِيلَ : الشَّابَّةُ الْبَرْزَةُ
كَعَجُوزٍ ، وَيُتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ رِوَايَةٍ مِنْ تَشْمِيتِهَا وَعَلَى
مَا يَأْتِي فِي الرِّعَايَةِ فِي التَّشْمِيتِ لَا تُسَلِّمُ ، وَإِنْ
قُلْنَا يُسَلِّمُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا ، وَإِرْسَالُ السَّلَامِ إلَى
الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِرْسَالُهَا إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا ،
وَقَدْ يُقَالُ لَا بَأْسَ بِهِ
لِلْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِ
الْمَحْظُورِ وَأَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ } قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى
الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ ،
وَسَيَأْتِي زِيَارَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ الْأَجْنَبِيَّ
الصَّالِحَ وَلَا مَحْذُورَ ، وَمِنْهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : انْطَلِقْ بِنَا إلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا .
قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَفَضْلُهَا
وَزِيَارَةُ الصَّالِحِ لِمَنْ دُونَهُ ، وَزِيَارَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ
كَانَ صَدِيقُهُ يَزُورُهُ ، وَلِأَهْلٍ وُدُّ صَدِيقِهِ ، وَزِيَارَةُ
رِجَالٍ لِلْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ وَسَمَاعُ كَلَامِهَا ، وَالْبُكَاءُ
حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَابِ .
فَصْلٌ ( فِي
حُكْمِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُؤَذِّنِ
وَالْآكِلِ وَالْمُتَخَلِّي وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى
الْمُصَلِّي وَأَنْ يَرُدَّ إشَارَةً ؟ ) عَلَى رِوَايَتَيْنِ (
إحْدَاهُمَا ) : يُكْرَهُ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ .
(
وَالثَّانِيَةُ ) : لَا يُكْرَهُ لِلْعُمُومِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَصْحَابِهِ حِينَ
سَلَّمُوا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَلِأَنَّ
{ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ إشَارَةً عَلَى
ابْنِ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ .
} رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ :
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا ، وَعَنْهُ لَا
يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ فَقَطْ وَقِيلَ إنْ عَلِمَ الْمُصَلِّي
كَيْفِيَّةَ الرَّدِّ جَازَ وَإِلَّا كُرِهَ ، وَعَنْهُ يَجِبُ رَدُّهُ
إشَارَةً .
وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ : لَهُ رَدُّ السَّلَامِ إشَارَةً .
وَقَالَ
فِي الشَّرْحِ : يَرُدُّ السَّلَامَ إشَارَةً ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ
الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ،
فَإِنْ رَدَّ فِي صَلَاتِهِ لَفْظًا بَطَلَتْ ، وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ
؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدَّ
عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ :
{ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ قَدْ
أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ .
}
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ ،
وَقَالَ : رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي
النَّجُودِ وَتَدَاوَلَهُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمْ ، وَكَانَ الْحَسَنُ
وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا ، وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ ، وَقَالَ إِسْحَاقُ إنْ
فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ
عَمَّارٍ { أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَرَدَّ عَلَيْهِ } .
وَيُكْرَهُ عَلَى
الْمُتَوَضِّئِ
، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الرِّعَايَةِ وَزَادَ : وَرَدُّهُ مِنْهُ .
وَرَوَى
الْمُهَاجِرُ بْنُ قُنْفُذٍ { أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ
حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ : إنَّهُ لَمْ
يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إلَّا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ } بِإِسْنَادِهِ جَيِّدٌ
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو حَاتِمٍ فِي
صَحِيحِهِ وَقَالَ : أَرَادَ بِهِ الْفَضْلَ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى
الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ لَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَيُكْرَهُ
السَّلَامُ عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ وَرَدُّهُ مِنْهُ ، نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَرُدَّ عَلَى الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ .
رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقُدِّمَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى أَنَّ
الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَدَّ .
كَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ .
قَالَ
الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي
شُغْلٍ يَقْضِيهِ كَالْمُصَلِّي وَالْآكِلِ وَالْمُتَغَوِّطِ وَإِنْ
لَقِيَ طَائِفَةً فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَظَاهِرُهُ كَرَاهَةُ السَّلَامِ عَلَى الْمُؤَذِّنِ ،
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ
سَأَلَهُ عَنْ الْمُؤَذِّنِ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَذَانِ فَقَالَ : لَا ،
فَقِيلَ لَهُ يَرُدُّ السَّلَامَ ؟ قَالَ : السَّلَامُ كَلَامٌ ، وَجَعَلَ
الْقَاضِي هَذَا النَّصَّ مُسْتَنَدَ رِوَايَةِ كَرَاهَةِ الْكَلَامِ فِي
الْأَذَانِ ، فَإِنَّهُ حَكَى فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ رِوَايَتَيْنِ
وَأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُكْرَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَأَنَّ عَلَيْهِمَا تَخْرُجُ
كَرَاهَةُ السَّلَامِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَجَبَ رَدُّ
الْمُصَلِّي إشَارَةً وَاسْتَحِبَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَهَهُنَا أَوْلَى .
فَصْلٌ ( فِي أَحْكَامِ رَدِّ السَّلَامِ الْمَسْنُونِ ) .
وَرَدُّ
السَّلَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ ،
وَهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ
السَّلَامِ وَلَا يُسَنُّ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُمْ
أَطْلَقُوا وُجُوبَ رَدِّ السَّلَامِ ، لَا سِيَّمَا وَسَيَأْتِي كَلَامُ
صَاحِبِ النَّظْمِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَيَأْتِي كَلَامُ
الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ فِيمَا إذَا بَدَأَ بِصِيغَةِ الْجَوَابِ
أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِكَوْنِهِ بَدَأَ بِالْجَوَابِ فَدَلَّ
أَنَّهُ إذَا أَتَى بِصِيغَةِ الِابْتِدَاءِ لَزِمَ الرَّدُّ ، اللَّهُمَّ
إلَّا أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مَكْرُوهًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
مُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ الْمَسْنُونِ .
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ
الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ أَنَّ حُكْمَ الرَّدِّ
حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا إلَّا كَلَامُهُ فِي
الرِّعَايَةِ : يُكْرَهُ عَلَى الْمُتَخَلِّي لَا رَدُّهُ .
وَقَالَ :
أَبُو حَفْصٍ فِي الْأَدَبِ لَهُ قَالَ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ حَمْدَانَ الْعَطَّارُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ عَنْ رَجُلٍ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ
يَرُدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟ فَقَالَ : يُسْرِعُ فِي خُطَاهُ لَا
تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةُ مَعَ الْقَوْمِ ، وَقِيلَ بَلْ سُنَّةٌ ، وَذَكَرَ
ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ جَعَلُوهُ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ أَصْحَابِنَا
عَنْ الْحَنَفِيَّةِ ، ذَكَرَهُ فِي تَسْلِيمِ الْخَطِيبِ فِي الْجُمُعَةِ
.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : وَلَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ السَّائِلِ
عَلَى بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لِشِعَارِ سُؤَالِهِ لَا
لِلتَّحِيَّةِ ، وَيُجْزِي سَلَامُ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَرَدُّ
أَحَدِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فَأَمَّا الْوَاحِدُ
الْمُنْقَطِعُ
فَلَا يُجْزِي سَلَامُهُ عَنْ سَلَامِ آخَرَ مُنْقَطِعٍ ، كَذَا ذَكَرَهُ
ابْنُ عَقِيلٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ خِلَافُهُ .
قَالَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا : { يُجْزِي عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا
مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِي عَنْ الْجُلُوس أَنْ يَرُدَّ
أَحَدُهُمْ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ .
ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ .
وَفِي
مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا { وَإِذَا سَلَّمَ
مِنْ الْقَوْمِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْ الْجَمَاعَةِ } .
قَالَ صَاحِبُ
الْمُحَرَّرِ : وَرَدُّ السَّلَامِ سَلَامٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ
بِلَفْظِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ ، وَلِأَنَّهُ
قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ فَلَا تَجِبُ زِيَادَةٌ
كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ ، قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّ غَيْرِ
الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا
الْفَرْضِ ، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْأَذَانُ عَنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ
بِأَذَانِ أَهْلِ بَلْدَةٍ أُخْرَى .
وَيَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِلِ فِيهَا وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ .
وَذَكَرَهُ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعًا ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ :
فَأَمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ ، فِيهِ نَظَرٌ ،
وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ
النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ .
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : { أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَنَحْنُ صِبْيَانٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا } .
وَالصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا لُغَةٌ .
وَعَنْ
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ : { مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا .
} رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ مَرَّ عَلَى
صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ .
قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى
حَدِيثَ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ ، وَلَفْظُهُمْ : قَالَتْ : { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ
مِنْ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ } .
وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { لَيْسَ
مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا ، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا
بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ
وَتَسْلِيمُ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْكَفِّ .
} إسْنَادٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : إسْنَادٌ ضَعِيفٌ .
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ فَلَمْ يَرْفَعْهُ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَإِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ بَدَلَ السَّلَامِ .
وَتُزَادُ الْوَاوُ فِي رَدِّ السَّلَامِ .
وَذَكَرَ
الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ
لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
لِلْمَلَائِكَةِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
فَقَالُوا لَهُ : عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " .
وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَاحْتَجَّ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى : { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ،
قِيلَ هُوَ مَرْفُوعٌ خَبَرُهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ ، أَيْ : قَوْلِي
سَلَامٌ أَوْ جَوَابِي أَوْ أَمْرِي ، وَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ
وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ، أَيْ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، وَأَمَّا النَّصْبُ
فَقِيلَ : مَفْعُولٌ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ، كَأَنَّهُ قَالَ
ذَكَرُوا سَلَامًا ، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ ، أَيْ : سَلَّمُوا سَلَامًا .
وَلَا
يُقَالُ : سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ ،
وَكَأَنَّهُ سَبَبُهُ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ كَذِبٌ ،
وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ
، كَقَوْلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ ذَكَرَ
الْمَسْأَلَةَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ قَوْلِ ذَلِكَ ، وَالْإِتْيَانُ
بِالسَّلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ لَا أَنَّ قَوْلَ
ذَلِكَ يُكْرَهُ أَوْ لَا يَجُوزُ .
وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ
الْخَامِسِ أَنَّ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ رَدًّا
لِسَلَامِ غَائِبٍ نَظَرَ إلَى مَعْنَى السَّلَامِ ، وَلَعَلَّ هَذَا
أَوْلَى مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأُولَى .
وَآخِرُهُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ابْتِدَاءً وَأَدَاءً وَلَا تُسْتَحَبُّ
الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ أَحْمَدُ فِي
رِوَايَةِ حُبَيْشِ بْنِ سِنْدِيٍّ وَسُئِلَ عَنْ تَمَامِ السَّلَامِ ،
فَقَالَ وَبَرَكَاتُهُ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إلَى الْبَرَكَةِ .
قَالَ
الْقَاضِي : وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءَ عَلَى لَفْظِ الرَّدِّ
، وَالرَّدُّ عَلَى لَفْظِ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّ الِانْتِهَاءَ فِي
ذَلِكَ إلَى الْبَرَكَاتِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ وَيُتَوَجَّهُ
، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ مُسَاوَاةُ الرَّدِّ
لِلْجَوَابِ أَوْ أُزِيدَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَلَعَلَّهُ ظَاهِرُ
كَلَامِ أَبِي الْبَرَكَاتِ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ
فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ ، قَالَ :
أَرْبَعُونَ وَقَالَ هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ } وَهُوَ خَبَرٌ
ضَعِيفٌ وَخِلَافُ الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ وَيُسَنُّ أَنْ يَتْرُكَهُ
الْمُبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ لِيَقُولَهُ الرَّادُّ عَلَيْهِ ، ذَكَرَهُ
ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ .
وَقَالَ أَبُو
زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ :
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
فَيَأْتِي
بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا ،
وَيَقُولُ الْمُجِيبُ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ .
وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ {
جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَشْرٌ ، ثُمَّ جَاءَ
آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ .
فَرَدَّ
عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ : عِشْرُونَ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ :
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ : ثَلَاثُونَ } .
قَالَ
أَبُو دَاوُد ( بَابُ كَيْفَ السَّلَامُ ) ثُمَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ ، وَهَذَا
أَظْهَرُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْمُبْتَدِئُ كَامِلًا وَهَذَا مُقْتَضَى
كَلَامِ أَبِي دَاوُد .
وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ
أَصْحَابِنَا : أَكْمَلُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ ابْتِدَاءً
وَكَذَا الْجَوَابُ ، وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَأَوْسَطُهُ
ذِكْرُ الرَّحْمَةِ أَوْ عَلَيْكُمْ ، إنْ كَانُوا جَمَاعَةً ، فَإِنْ
كَانَ وَاحِدًا فَنَوَى مَلَائِكَتَهُ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
وَصَحَّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ يَا أُبَيٍّ
فَالْتَفَتَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ صَلَّى أُبَيٍّ فَخَفَّفَ ثُمَّ
انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَعَلَيْكَ مَا مَنَعَكَ
أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُكَ ؟ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْقَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ( مَجْمَعُ
الْبَحْرَيْنِ ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرَّادِّ
لِلسَّلَامِ وَعَلَيْك بِحَذْفِ الْمُبْتَدَإِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَكَذَا
رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ ، وَهَذَا أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ قَالُوا : وَهَذَا فِيمَا إذَا أَتَى
بِالْوَاوِ .
فَأَمَّا إنْ قَالَ : عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ لَمْ يُجْزِئْهُ ،
وَأَصْحَابُنَا
تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَقَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ : فَإِنْ اقْتَصَرَ الرَّادُّ عَلَى لَفْظِ وَعَلَيْكَ
كَمَا رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ فَإِنَّ الْمُضْمَرَ
كَالْمُظْهَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إذَا وَصَلَهُ بِكَلَامٍ فَلَهُ
الِاقْتِصَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ ، وَلَوْلَا أَنَّ الرَّدَّ
الْوَاجِبَ يَحْصُلُ بِهِ لَمَا أَجْزَأَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي
الرَّدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى
وَابْنِ عَقِيلٍ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ
الْقَادِرِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمُقْتَضَى أَخْذِهِ مِنْ الرَّدَّ
عَلَى الذِّمِّيِّ أَنْ يُجْزِئَ ، وَلَوْ حَذَفَ الْوَاوَ وَقَالَ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : فَإِنْ قَالَ سَلَامٌ ، لَمْ يُجِبْهُ
وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِكَلَامٍ تَامٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ ، وَيُتَوَجَّهُ مِنْ
الِاكْتِفَاءِ بِرَدِّ وَعَلَيْكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَقَالَ
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ : يُقَالُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَسَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَسَلَامٌ بِحَذْفِ عَلَيْكُمْ ، قَالَ : وَكَانُوا
يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ ،
وَيَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي السَّلَامَ الْأَوَّلَ
.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَارَّ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجَالِسِ أَوْ الْجُلُوسِ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ :
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى
إيجَابِ الرَّدِّ بِمِثْلِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ ( فِي " حَدِيثِ " حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ ) .
قَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ
حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَذْفُ
السَّلَامِ سُنَّةٌ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا أَنْ يَجِيءَ
الرَّجُلُ إلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَمَدَّ
بِهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ شَدِيدًا ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَخَفَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ ،
قَالَ
: يَقُولُ هَكَذَا ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : وَرَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ إذَا خَرَجَ عَلَيْنَا سَلَّمَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ
سَلَّمَ .
وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى
الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ
، وَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ ) .
رَوَى
أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { : إنِّي لَأَرَى لِرَدِّ
جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلَامِ .
}
قَالَ الشَّيْخَ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَعْنِي مَوْقُوفًا انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ،
وَقَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ خِلَافُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَعْمُولٍ
بِهِ ، وَيُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَيُتَوَجَّهُ فِي
الْوُجُوبِ مَا فِي الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ ، وَرَدِّ جَوَابِ
كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَمَّا إنْ أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ
إلَى سُوءِ ظَنٍّ وَإِيقَاعِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ
الْوُجُوبُ وَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ جَوَابِ مَا قَصَدَهُ الْكَاتِبُ
وَإِلَّا كَانَ الرَّدُّ كَعَدَمِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا .
وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ : فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لَا أَخِيسُ
بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ { إنِّي لَا أَنْقُضُ الْعَهْدَ وَلَا
أُفْسِدُهُ } وَأَصْلُهُ مِنْ خَاسَ الشَّيْءُ فِي الْوِعَاءِ إذَا فَسَدَ
قَالَ : وَقَوْلُهُ { لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ } يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى
فِي ذَلِكَ أَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي جَوَابًا وَالْجَوَابَ لَا
يَصِلُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَّا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ بَعْدَ
انْصِرَافِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ لَهُ الْعَهْدَ مُدَّةَ
مَجِيئِهِ وَرُجُوعِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَإِذَا أَبْطَأَ الْجَوَابَ
فَيَنْبَغِي التَّلَطُّفُ لِيَزُولَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ ،
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ :
كَتَبَ إلَيَّ الْمُغِيرَةُ يَسْتَبْطِئُ كُتُبِي فَكَتَبْتُ إلَيْهِ :
مَا غَيَّرَ النَّأْيُ وُدًّا كُنْتَ تَعْهَدُهُ وَلَا تَبَدَّلْتُ بَعْدَ
الذِّكْرِ نِسْيَانَا وَلَا حَمِدْتُ إخَاءً مِنْ أَخِي ثِقَةِ إلَّا
جَعَلْتُكَ فَوْقَ الْحَمْدِ عُنْوَانَا وَأَظُنُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ الْمَشْهُورُ
الْإِخْبَارِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ النَّسَبِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَدُّ جَدِّ أَبِيهِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ اسْمُهُ
الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرَهُ وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
مَا يَأْتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ
فِي التَّأَخُّرِ عَنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ : وَلَئِنْ جَفَوْتُكَ فِي
الْعِيَادَةِ إنَّنِي لِبَقَاءِ جِسْمِكَ فِي الدُّعَاءِ لَجَاهِدُ
وَلَرُبَّمَا تَرَكَ الْعِيَادَةَ مُشْفِقُ وَطَوَى عَلَى غِلِّ
الضَّمِيرِ الْعَائِدُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بْنُ
سَعِيدٍ : كَتَبَ إلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
لِأَبِي جَعْفَرٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ
حَرْبٌ قُلْتُ لِأَحْمَدَ كَيْفَ تَكْتُبُ عَلَى عُنْوَانِ الْكِتَابِ ؟
قَالَ نَكْتُبُ : إلَى أَبِي فُلَانٍ ، وَلَا يُكْتَبُ لِأَبِي فُلَانٍ ،
قَالَ : لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إذَا كُتِبَ لِأَبِي فُلَانٍ .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عُنْوَانَ
الْكِتَابِ : إلَى أَبِي فُلَانٍ ، وَقَالَ : هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ
يَكْتُبَ لِأَبِي فُلَانٍ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ : كَتَبَ
إلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ إلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ ، أَمَّا
بَعْدُ : فَإِنَّ الدُّنْيَا دَاءٌ ، وَالسُّلْطَانُ دَوَاءٌ ،
وَالْعَالِمَ طَبِيبٌ ، فَإِذَا رَأَيْتَ الطَّبِيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ
إلَى نَفْسِهِ فَاحْذَرْهُ .
وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .
وَقَالَ
حَنْبَلٌ : كَانَتْ كُتُبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا : مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَتَبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَكَتَبَ كُلَّ مَا كَتَبَ عَلَى ذَلِكَ ،
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمْرٌو
كَتَبَ إلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ ، وَهَذَا الَّذِي يُكْتَبُ الْيَوْمَ
لِفُلَانٍ مُحْدَثٌ لَا أَعْرِفُهُ ، قُلْتُ : فَالرَّجُلُ يَبْدَأُ
بِنَفْسِهِ ، قَالَ : أَمَّا الْأَبُ فَلَا أُحِبُّ إلَّا أَنْ
يُقَدِّمَهُ بِاسْمِهِ ، وَلَا يَبْدَأُ وَلَدٌ بِاسْمِهِ عَلَى وَالِدٍ ،
وَالْكَبِيرُ
السِّنِّ كَذَلِكَ يُوَقِّرُهُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
لَا بَأْسَ ، وَفِي مَعْنَى كِبَرِ السِّنِّ : الْعِلْمُ وَالشَّرَفُ
وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِمُرَاعَاةِ شَيْخٍ لَا عِلْمَ
عِنْدَهُ ، وَتَرْكِ عَالِمٍ صَغِيرِ السِّنِّ ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُخَالِفُ هَذَا النَّصَّ صَرِيحًا ،
وَلَعَلَّ ظَاهِرَ حَالِهِ اتِّبَاعُ طَرِيقِ مَنْ مَضَى فِي بُدَاءَةِ
الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا ، فَيَكُونُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي
ذَلِكَ ، وَهِيَ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْقِيَامِ أَوْ نَظِيرَهَا .
وَسَيَأْتِي بَعْدَ نَحْوِ سِتَّةِ كَرَارِيسَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ .
( فَصْلٌ ) .
وَذَكَرَ
ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ ثَعْلَبِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ :
الرَّسُولُ وَالرُّسُلُ وَالرِّسَالَةُ سَوَاءٌ ، قَالَ : وَيُنْشَدُ
هَذَا الْبَيْتُ عَلَى وَجْهَيْنِ لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ
عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ وَبِرَسِيلِ .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَبْرَدْتُمْ إلَيَّ بَرِيدًا أَوْ بَعَثْتُمْ
إلَيَّ رَسُولًا فَلْيَكُنْ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ ، وَإِذَا
سَأَلْتُمْ الْحَوَائِجَ فَاسْأَلُوهَا حِسَانَ الْوُجُوهِ } وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الرَّجُلُ الصَّالِحُ يَجِيءُ
بِالْخَبَرِ الصَّالِحِ ، وَالرَّجُلُ السُّوءُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ
السُّوءِ } قَالُوا : الرَّسُولُ قِطْعَةٌ مِنْ الْمُرْسِلِ ، وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
صَاحِبِهَا الرَّسُولُ عَلَى الْمُرْسِلِ ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى
الْمُهْدِي ، وَالْكِتَابُ عَلَى الْكَاتِبِ .
قَالَ صَالِحُ بْنُ
عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلًا فَأَرْسِلْ
حَكِيمًا وَلَا تُوصِهِ فَسَمِعَ الْخَلِيلُ رَجُلًا يُنْشِدُ هَذَا
الْبَيْتَ فَقَالَ هُوَ الدِّرْهَمُ .
وَقَالَ آخَرُ : مَا أَرْسَلَ
الْأَقْوَامُ فِي حَاجَةٍ أَمْضَى وَلَا أَنْفَعَ مِنْ دِرْهَمِ يَأْتِيكَ
عَفْوًا بِاَلَّذِي تَشْتَهِي نِعْمَ الرَّسُولُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ
وَقَالَ
آخَرُ : مَا مُرْسَلٌ أَنْجَحُ فِيمَا نَعْلَمُ مِنْ طَبَقٍ يُهْدَى
وَهَذَا الدِّرْهَمِ وَقَالَ مَنْصُورٌ : أَرْسَلْتُ فِي حَاجَةٍ رَسُولًا
يُكْنَى أَبَا دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ وَلَوْ سِوَاهُ بَعَثْتُ فِيهَا لَمْ
تَحْظَ نَفْسِي بِمَا تَمَنَّتْ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ : الصَّوَابُ ، إلَى أَبِي فُلَانٍ لِأَنَّ
الْكِتَابَ إلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا عَلَى مَجَازٍ بَعِيدٍ ، قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ .
كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : يَكْتُبُ الرَّجُلُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ ، وَلَا يَكْتُبُ لِفُلَانٍ .
وَرَوَى
ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : كَتَبَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ فَقَالَ :
مَهْ ، إنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ لَهُ إذًا ، وَعَنْ مُغِيرَةَ عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُ
فِي الْعُنْوَانِ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ
أَنَّهُ رَخَّصَ فِي أَنْ يُكْتَبَ لِأَبِي فُلَانٍ فِي عُنْوَانٍ وَلَا
غَيْرِهِ ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ .
وَقَالَ : فَأَمَّا ابْتِدَاءُ
الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَكَتْبِهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ ، فَفِيهِ
اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُنْوَانِ وَصَدْرِ الْكِتَابِ
فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ
هُوَ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : أَنَّ الْعَلَاءَ
بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا الْخَبَرُ
رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ
رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَحْمَدُ قَالَ مَرَّةً يَعْنِي هُشَيْمًا : عَنْ
بَعْضِ وَلَدِ الْعَلَاءِ : إنَّ الْعَلَاءَ كَانَ عَامِلَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَانَ إذَا
كَتَبَ إلَيْهِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ .
وَابْنُ سِيرِينَ لَمْ يُدْرِكْ الْعَلَاءَ وَابْنُ الْعَلَاءِ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ
لِغِلْمَانِهِ وَوَلَدِهِ : إذَا كَتَبْتُمْ إلَيَّ فَلَا تَبْدَءُوا بِي
، وَكَانَ إذَا كَتَبَ إلَى الْأُمَرَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ ، وَذَكَرَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ
الْمَلِكِ فَبَدَأَ بِهِمَا .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ كَتَبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ إلَّا إلَى وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ ، وَإِمَامٍ
يَخَافُ عُقُوبَتَهُ } وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ اُكْتُبْ إلَى
الْمَهْدِيِّ قَالَ : إنْ كَتَبْتُ إلَيْهِ بَدَأْتُ بِنَفْسِي قِيلَ
فَلَا تَكْتُبْ إلَيْهِ إذًا .
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : مَا
كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَصْحَابُهُ يَكْتُبُونَ إلَيْهِ فَيَبْدَءُونَ
بِأَنْفُسِهِمْ ، وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَتَبَ إلَى
مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِالرَّجُلِ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ
، وَكَتَبَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَامِلٍ فِي حَاجَةٍ فَبَدَأَ
بِاسْمِهِ فَقِيلَ لَهُ : ابْتَدَأْتَ بِاسْمِهِ فَقَالَ : لِي إلَيْهِ
حَاجَةٌ ، وَعَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ قُلْتُ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ لِي
إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَاجَةٌ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ
أَكْتُبَ إلَيْهِ ، قَالَ : فَابْدَأْ بِهِ ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ لِأَبِي فُلَانٍ إنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى
إلَى ، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : {
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } .
مَعْنَاهُ أَوْحَى إلَيْهَا ،
فَإِنْ أَعَدْتَ الْكُنْيَةَ خَفَضْتَ عَلَى الْبَدَلِ وَيَجُوزُ
الرَّفْعُ عَلَى إضْمَارِ مُبْتَدَأٍ ، وَالنَّصْبُ بِمَعْنَى أَعْنِي
وَفِي إعَادَةِ الْكُنْيَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا
الْغِنَى وَالْفَقِيرَا وَتَتْرِيبُ
الْكِتَابِ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ،
وَسَتَأْتِي فِيهِ الْأَخْبَارُ ، يُقَالُ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ
وَتَرَّبْتُهُ بِمَعْنًى ، وَيُقَالُ تَرِبَ الرَّجُلُ إذَا افْتَقَرَ ،
وَاشْتِقَاقُهُ أَنَّهُ صَارَ إلَى التُّرَابِ وَأَتْرَبَ : اسْتَغْنَى ،
مَعْنَاهُ كَثُرَ مَالُهُ حَتَّى صَارَ كَالتُّرَابِ ، وَأَكْثَرُ
الِاسْتِعْمَالِ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ ، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ
أَتْرَبَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَغْنَى ، وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَنْ خَتَمَ
الْكِتَابَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله
تَعَالَى { إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } .
أَيْ :
مَخْتُومٌ وَيُقَالُ : فُضَّ الْكِتَابُ إذَا كُسِرَ خَاتَمُهُ وَمَعْنَى
الْفَضِّ فِي اللُّغَةِ التَّفْرِيقُ وَالْكَسْرُ وَمِنْهُ انْفَضَّ
الْقَوْمُ وَمِنْهُ لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ وَإِنْ شِئْتَ لَا يَفُضُّ
اللَّهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ ، وَذَكَرَ بَعْضُ
النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ : قَالَ : لَا
يَجْعَلُهُ فَضَاءً لَا أَسْنَانَ فِيهِ لِأَنَّ الْفَضَاءَ الْمَكَانُ
الْوَاسِعُ وَهَذَا غَلَطٌ فِي الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ
مِنْ الْفَضَاءِ لَيْسَتْ ضَادًا وَلَامَ الْفِعْلِ مِنْ فَضَّ ضَادٌ .
وَفِي
عُنْوَانِ الْكِتَابِ لُغَاتٌ أَفْصَحُهَا : عِنْوَانٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ
وَجَمْعُهَا عَنَاوِينُ وَعِلْوَانُ وَجَمْعُهَا عَلَاوِينُ وَعِنْيَانٌ
وَعِينَانٌ ، تَقُولُ عَنْوَنْتُ الْكِتَابَ أُعَنْوِنُهُ عَنْوَنَةً
وَعَلْوَنْتُهُ وَعَنَيْتُ تَعْنِيًا وَعَنَيْتُ تَعْنِيَةً وَعَنَوْتُ
الْكِتَابَ أَعْنُوهُ عَنْوًا ، وَتَقُولُ مِنْهُ يَا عَانٍ اُعْنُ
كِتَابَكَ مِثْلُ دَعَا يَدْعُو ، وَالْعُنْوَانُ الْأَثَرُ ،
فَالْعُنْوَانُ أَثَرُ الْكِتَابِ مِمَّنْ هُوَ وَإِلَى مَنْ هُوَ ،
وَقِيلَ الْعُنْوَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ عَنَتْ الْأَرْضُ
تَعْنُوا إذَا أَخْرَجَتْ النَّبَاتَ وَأَعْنَاهَا الْمَطَرُ إذَا
أُخْرِجَ نَبَاتُهَا ، فَعُنْوَانٌ عَلَى هَذَا فُعْلَانٌ ، يَنْصَرِفُ
فِي النَّكِرَةِ دُونَ الْمَعْرِفَةِ ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَنَّ
يَعِنُّ إذَا عَرَضَ وَبَدَأَ فَعَلَى هَذَا يَنْصَرِفُ نَكِرَةً
وَمَعْرِفَةً
لِأَنَّهُ فُعْلَانٌ ، وَمَنْ قَالَ عِلْوَانٌ أَبْدَلَ مِنْ النُّونِ
لَامًا مِثْلُ صَيْدَلَانِيِّ وَصَيْدَنَانِيِّ وَالِاشْتِقَاقُ وَاحِدٌ .
وَقِيلَ
مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ خَطٌّ مُظْهَرٌ عَلَى الْكِتَابِ
، وَاسْتَحْسَنَ جَمَاعَةٌ أَنْ يُصَغِّرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى
عُنْوَانَاتِ الْكُتُبِ وَرَأَوْا ذَلِكَ تَوَاضُعًا ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يُحَسِّنَ اسْمَ اللَّهِ إذَا كَتَبَهُ ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ :
وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الدُّعَاءَ عَلَى الْعُنْوَانِ وَيُنْكِرُونَهُ ،
كَذَا قَالَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُ
الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ : لَا يَحْسُنُ بِالْعُنْوَانِ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ
، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ( بَابُ تَرْتِيبَاتٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا )
فَمِنْ ذَلِكَ : اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى أَنَّ " أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ
سَيِّدِنَا " أَجَلُّ الدُّعَاءِ ، وَيَلِيهِ : أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ
سَيِّدِي ، وَاسْتَقْبَحُوا الْخِلَافَ فِي فُصُولِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ
أَنْ يَكْتُبَ : أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا أَوْ سَيِّدِي ثُمَّ
يَقُولُ فِي الْكِتَابِ بَلَّغَكَ اللَّهُ أَمَلَكَ فَإِنْ رَأَيْتَ
فَهَذَا خِلَافٌ فِي الدُّعَاءِ ، أَوْ يَقُولُ أَيَّدَ اللَّهُ سَيِّدِي
ثُمَّ يَقُولُ أَكْرَمَ اللَّهُ سَيِّدِي ، وَاسْتَقْبَحُوا أَيْضًا أَنْ
تَكُونَ الْأَدْعِيَةُ مُتَّفِقَةً وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : أَعَزَّكَ
اللَّهُ وَيَكْتُبَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ مِثْلَهُ ،
وَاصْطَلَحُوا عَلَى مُكَاتَبَةِ النَّظِيرِ نَظِيرَهُ ، فَإِنْ رَأَيْتَ
أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْتَ ، وَلَا يَكْتُبُونَ إلَيْهِ
فَرَأْيُكَ ، فَإِنْ كَانَ دُونَكَ قَلِيلًا فَرَأْيُكَ ، وَكَتَبُوا
فَأُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
كَتَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كَانَ دُونَ
ذَلِكَ كَتَبَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ :
سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ
الْكُتَّابِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْعِلْمَ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ
فَرَأْيُكَ وَبَيْنَ إنْ رَأَيْتَ وَجَعَلَ فَرَأْيُكَ لَا يَكْتُبُ بِهَا
إلَّا جَلِيلٌ لَهُ أَمْرٌ ، فَقَالَ مَا أَعْجَبَ هَذَا ؟ أَتَرَاهُ لَا
يَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَاطِبُ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ فَيَقُولُ : اُنْظُرْ فِي أَمْرِي فَيَكُونُ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ السُّؤَالُ وَالطَّلَبُ ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَجَعَلُوا أَعَزَّكَ اللَّهُ أَجَلَّ مِنْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ ، قَالَ وَمِنْ الْمُسْتَقِيمِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَيَشْتُمَهُ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ .
ثُمَّ ذَكَرَ اصْطِلَاحَاتٍ فِي
الْمُكَاتَبَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ إلَى أَنْ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحْسَنُ
مَعَ الرُّؤَسَاءِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ
يُضْجِرُهُمْ حَتَّى رُبَّمَا يُصَيِّرُهُمْ إلَى اسْتِقْبَاحِ الْحَسَنِ
مِمَّا يُكَاتَبُونَ بِهِ وَالرَّدِّ عَمَّا يُسْأَلُونَ ، وَإِنَّهُ قَدْ
يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ يُعَزِّيهِ : أَمَّا بَعْدُ
: فَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ عَرَفَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أُخِذَ
مِنْهُ مَنْ عَظَّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أَبْقَاهُ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ الصَّابِرِينَ فِيمَا يُصَابُونَ أَعْظَمُ مِنْ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعَافُونَ فِيهِ .
وَعَنْ
الْمَأْمُونِ سَمِعْتُ الرَّشِيدَ يَقُولُ : الْبَلَاغَةُ : التَّبَاعُدُ
عَنْ الْإِطَالَةِ ، وَالتَّقَرُّبُ مِنْ مَعْنَى الْبُغْيَةِ ،
وَالدَّلَالَةُ بِالْقَلِيلِ مِنْ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى .
وَكَتَبَ
الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ إلَى مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ فِي ابْنِ أَبِي الشِّيصِ
الشَّاعِرِ : كِتَابِي إلَيْكَ كِتَابٌ خَطَطْتُهُ بِيَمِينِي ،
وَفَرَّغْتُ لَهُ ذِهْنِي ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَاجَةٍ هَذَا مَوْقِعُهَا
مِنِّي ؟ أَتَرَانِي أَقْبَلُ الْعُذْرَ فِيهَا أَوْ أُقَصِّرُ الشُّكْرَ
عَلَيْهَا .
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : إنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُكُمْ مِثْلَ التَّوْقِيعِ فَافْعَلُوا .
وَذَكَرَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ مِنْ مُجَانَسَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ
عَلَى الْبَلَاغَةِ قَوْلُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ كَثِيرًا : الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَنَا
بَيْنَ نِعْمَةٍ وَذَنْبٍ فَأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ
وَأَسْتَغْفِرُهُ مِنْ الذَّنْبِ .
وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ فَأَكْثَرَ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : حَسْبُكَ
فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُحَاسَبُ وَالْعَدُوَّ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا يُرَى الْجَاهِلُ إلَّا مُفْرِطًا أَوْ
مُفَرَّطًا ، وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حَمْدًا
وَمَجْدًا ، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إلَّا بِفِعَالٍ وَلَا مَجْدَ إلَّا
بِمَالٍ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ لَا يَسَعُنِي الْقَلِيلُ وَلَا أَسَعُهُ
.
وَقَالَ
عِنْدَ وَفَاتِهِ : اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ إذْ كُنْتُ
أَعْصِيكَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يُطِيعُكَ وَكَانَ بَعْضُهُمْ
يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا أَمْلِكُ
وَأَسْتَحِلُّكَ لِمَا لَا أَمْلِكُ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ أَرْضَى لِلرِّضَى ،
وَأَسْخَطُ لِلسَّخَطِ ، وَأَقْدَرُ أَنْ تُغَيِّرَ مَا كَرِهْتَ
وَأَعْلَمُ بِمَا تَقْدِرُ ، وَمِنْ دُعَاءِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي خَوْفَ الْوَعِيدِ
وَسُرُورَ رَجَاءِ الْمَوْعُودِ ، حَتَّى لَأَرْجُو إلَّا مَا رَجَيْتَ ،
وَلَا أَخَافُ إلَّا مَا خَوَّفْتَ .
وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
يَقُولُ : أَسْتَلْطِفُ اللَّهَ لِكُلِّ عَسِيرٍ ، فَإِنَّ تَيْسِيرَ
الْعَسِيرِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ
أَسْمَاؤُهُ ، وَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّكَ بِمَا أَنْتَ لَهُ
أَهْلٌ مِنْ الْعَفْوِ ، أَوْلَى مِنِّي بِمَا أَنَا لَهُ أَهْلٌ مِنْ
الْعُقُوبَةِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ إلَّا
إلَيْكَ ، وَمِنْ الذُّلِّ إلَّا لَكَ ، وَحَكَى فِي مَكَان آخَرَ هَذِهِ
الدَّعْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ اللَّهُمَّ
أَعِنِّي عَلَى الدُّنْيَا بِالْغِنَى وَعَلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى ،
وَذَكَرَ دُعَاءً آخَرَ مِنْ الْمَأْثُورِ قَالَ : وَقَالَ غَيْرُهُ :
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ كَمَا نَعُوذُ
بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّكَلُّفِ لِمَا
لَا يُحْسَنُ ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجَبِ مِمَّا يُحْسَنُ ،
وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ
الْعَجْزِ وَالْعِيِّ وَالْحَصْرِ .
وَقَالَ الْأَفْوَهُ : فِينَا
مَعَاشِرُ لَمْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمْ وَإِنْ بَنَى قَوْمُهُمْ مَا
أَفْسَدُوا عَادُوا وَمِنْهَا : لَا يُصْلِحُ اللَّهُ قَوْمًا لَا سَرَاةَ
لَهُمْ وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وَإِنْ تَوَلَّى سَرَاةُ
الْقَوْمِ أَمْرَهُمْ نَمَا لِذَلِكَ أَمْرُ الْقَوْمِ فَازْدَادُوا
تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ فَإِنْ تَوَلَّتْ
فَبِالْأَشْرَارِ
تَنْقَادُ وَبَلَغَ هُشَامًا كَلَامٌ عَنْ رَجُلٍ
فَأُتِيَ بِهِ فَاحْتَجَّ فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ : أَتَتَكَلَّمُ أَيْضًا ؟
فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا } .
فَيُجَادِلُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا تَكَلَّمُ أَنْتَ ؟ فَقَالَ تَكَلَّمَ بِمَا أَحْبَبْتَ .
وَقَدِمَ
إلَى الْحَجَّاجِ أَسْرَى لِيُقْتَلُوا فَقَدِمَ رَجُلٌ لِيُضْرَبَ
عُنُقُهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَئِنْ كُنَّا أَسَأْنَا فِي الذَّنْبِ
لَمَا أَحْسَنْتَ فِي الْعُقُوبَةِ .
فَقَالَ الْحَجَّاجُ أُفٍّ لِهَذِهِ الْجِيَفِ أَمَا كَانَ فِيهَا أَحَدٌ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا ؟ وَأَمْسَكَ عَنْ الْقَتْلِ .
وَأُتِيَ
الْهَادِي بِرَجُلٍ مِنْ الْحَبْسِ فَجَعَلَ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ
فَقَالَ الرَّجُلُ : اعْتِذَارِي رَدَّ عَلَيْكَ ، وَإِقْرَارِي يُوجِبُ
لِي ذَنْبًا وَلَكِنِّي أَقُولُ : إذَا كُنْتَ تَرْجُو فِي الْعُقُوبَةِ
رَاحَةً فَلَا تَزْهَدَنَّ عِنْدَ الْمُعَافَاةِ فِي الْأَجْرِ فَعَفَا
عَنْهُ .
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ : تَكَلَّمْ
بِحُجَّتِكَ فَقَالَ لَوْ كَانَ لِي ذَنْبٌ تَكَلَّمْتُ بِعُذْرِي
وَعَفْوُكَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَرَاءَتِي .
وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ ذَنْبٍ كَانَ لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ :
تَقَدَّمَتْ لَك طَاعَةٌ ، وَحَدَثَتْ لَكَ تَوْبَةٌ ، وَكَانَتْ
بَيْنَهُمَا مِنْكَ نَبْوَةٌ ، وَلَنْ تَغْلِبَ سَيِّئَةٌ حَسَنَتَيْنِ .
وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ : عَفَوْتُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ
مِثْلِهِ عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إلَيْكَ بِشَافِعِ إلَّا الْعُلُوَّ عَنْ
الْعُقُوبَةِ بَعْدَ مَا ظَفِرَتْ يَدَاكَ بِمُسْتَكِينٍ خَاضِعِ
وَرَحِمْتَ أَطْفَالًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا وَحُنَيْنِ وَالِهَةٍ
كَقَوْسِ النَّازِعِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ
الْيَزِيدِيُّ وَكَانَ مُعَلِّمًا حِذَاءَ دَارِ أَبِي الْعَلَاءِ وَقِيلَ
لَهُ الْيَزِيدِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَ يَزِيدَ بْنِ
مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ فِي أَبْيَاتٍ : أَنَا الْمُذْنِبُ
الْخَطَّاءُ وَالْعَفْوُ وَاسِعُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبٌ لَمَا عُرِفَ
الْعَفْوُ قَالَ ذَلِكَ يَعْتَذِرُ إلَى الْمَأْمُونِ لِأَنَّهُ امْتَنَّ
عَلَيْهِ
بِتَأْدِيبِهِ إيَّاهُ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى
حَلْقَةِ الْحَسَنِ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ فَضْلٍ ،
أَوْ وَاسَى مِنْ كَفَافٍ ، أَوْ آثَرَ مِنْ قُوتٍ ، فَقَالَ الْحَسَنُ
مَا تَرَكَ أَحَدًا إلَّا وَقَدْ سَأَلَهُ .
وَقَالَ أَعْرَابِيُّ
آخَرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ : قَدْ جَهِدَ النَّاسُ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ
السُّنُونَ جَاءَتْ سَنَةٌ فَذَهَبَتْ بِالْمَالِ ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا
سَنَةٌ بَرَتْ اللَّحْمَ ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا سَنَةٌ كَسَرَتْ الْعَظْمَ
وَعِنْدَكَ أَمْوَالٌ فَإِنْ تَكُنْ لِلَّهِ فَاقْسِمْهَا بَيْنَ
عِبَادِهِ ، وَإِنْ تَكُنْ لَهُمْ فَلَا تَخْزُنْهَا دُونَهُمْ ، فَإِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمِرْصَادِ ، وَإِنْ تَكُنْ لَك فَتَصَدَّقْ
فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ .
وَسُئِلَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ عَنْ : أَعْدَلِ النَّاسِ ، وَأَجْوَرِ النَّاسِ ،
وَأَكْيَسِ النَّاسِ ، وَأَحْمَقِ النَّاسِ وَأَسْعَدِ النَّاسِ فَقَالَ :
أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَجْوَرُ النَّاسِ
مَنْ رَأَى جَوْرَهُ عَدْلًا ، وَأَكْيَسُ النَّاسِ مَنْ أَخَذَ أُهْبَةَ
الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ ، وَأَحْمَقُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ
بِدُنْيَا غَيْرِهِ ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ خُتِمَ لَهُ فِي عَاقِبَةِ
أَمْرِهِ بِخَيْرٍ وَقِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ فُلَانٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ .
فَقَالَ : إذًا لَا يَكُونُ لَهُ غَايَةٌ دُونَ الْجَنَّةِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأَعْرَابِ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ دَرَجَةَ
اللِّسَانِ فَأَنْطَقَهُ بِتَوْحِيدِهِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ وَضَحِكَ
الْمُعْتَصِمُ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ وَكَانَ مُفْرِطَ
الْقُبْحِ فَقَالَ الْمَكِّيُّ لِلْمَأْمُونِ : مِمَّا يَضْحَكُ هَذَا ؟
وَاَللَّهِ مَا اُصْطُفِيَ يُوسُفُ لِجَمَالِهِ ، وَإِنَّمَا اصْطَفَاهُ
لِبَيَانِهِ قَالَ { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا
مَكِينٌ أَمِينٌ } .
فَبَيَانِي أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ هَذَا فَضَحِكَ
الْمَأْمُونُ وَأَعْجَبَهُ كَلَامُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلَامُ
الْجَزْلُ ، أَغْنَى الْمَعَانِي عَنْ اللَّطِيفَةِ مِنْ الْمَعَانِي
اللَّطِيفَةِ عَنْ الْكَلَامِ الْجَزْلِ فَإِذَا اجْتَمَعْنَا فَذَاكَ
الْبَلَاغَةُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ
الْبَلَاغَةُ أَنْ
يَظْهَرَ الْمَعْنَى صَرِيحًا وَالْكَلَامُ صَحِيحًا وَقَالَ غَيْرُهُ
أَفْضَلُ اللَّفْظِ بَدِيهَةُ امْرِئٍ وَرَدَتْ فِي مَكَانِ خَوْفٍ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ يَسْتَحْسِنُ الْكُتَّابُ أَنْ تَكُونَ
الْأَلْفَاظُ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي فِي الْمِقْدَارِ
وَالْكَثْرَةِ فَإِذَا كَتَبُوا حَسُنَ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ
الْأَلْفَاظِ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي وَلَا زَائِدَةً
عَلَيْهَا إلَّا فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِسْهَابِ
وَيُسْتَحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى إذَا كَانَ
الْإِكْثَارُ أَبْلَغَ كَانَ الْإِيجَازُ تَقْصِيرًا ، وَإِذَا كَانَ
الْإِيجَازُ كَافِيًا كَانَ الْإِكْثَارُ عَيًّا .
وَدَخَلَ عُمَرُ
بْنُ سَعْدٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ يَا
عُمَرُ إلَى مَنْ أَوْصَى بِكَ أَبُوكَ ؟ فَقَالَ : أَوْصَى إلَيَّ وَلَمْ
يُوصِ بِي .
وَقِيلَ لِعِيسَى بْنِ عَاصِمٍ مَا الْبَلَاغَةُ قَالَ : الْإِيجَازُ .
وَقِيلَ
لِلْأَصْمَعِيِّ مَا حَدُّ الِاخْتِصَارِ ؟ قَالَ حَذْفُ الْفُضُولِ
وَتَقْرِيبُ الْبَعِيدِ وَسُئِلَ رَجُلٌ عَنْ الْبَلَاغَةِ ؟ فَقَالَ :
سُهُولَةُ اللَّفْظِ وَحُسْنُ الْبَدِيهَةِ وَقَالَ آخَرُ : أَحْسَنُ
الْقَوْلِ أَوْجَزُهُ وَأَهْنَأُ الْمَعْرُوفِ أَوْحَاهُ .
وَقَالَ
مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مَا هَذِهِ
الْغَيْبَةُ الْمُنْسَاةُ ؟ قَالَ : أَبْقَى اللَّهُ الْأَمِيرَ فِي
نِعَمٍ زَائِدَةٍ ، وَكَرَامَةٍ دَائِمَةٍ ، مَا غَابَ أَيُّهَا
الْأَمِيرُ عَنْ الْعَيْنِ مَنْ ذَكَرَهُ الْقَلْبُ وَمَا زَالَ شَوْقِي
إلَى الْأَمِيرِ شَدِيدًا ، وَهُوَ دُونَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيَّ ،
وَذِكْرِي لَهُ كَثِيرٌ وَهُوَ دُونَ قَدْرِهِ عِنْدِي ، وَلَكِنْ
جَفْوَةُ الْحُجَّابِ وَقِلَّةُ بِشْرِ الْغِلْمَانِ ، يَمْنَعَانِي مِنْ
الْإِتْيَانِ فَأَمَرَ بِتَسْهِيلِ أَمْرِهِ وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ .
وَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَاقَتْنِي إلَيْكَ
الْحَاجَةُ وَانْتَهَيْتُ فِي الْغَايَةِ وَاَللَّهُ مُسَائِلُكَ عَنْ
مَقَامِي هَذَا .
فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ : مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَبْلَغَ مِنْ هَذَا وَلَا وَعْظًا أَوْجَعَ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ :
الْبَلَاغَةُ
فِي الْمَعَانِي أَلْطَفُ مِنْ الْبَلَاغَةِ فِي الْأَلْفَاظِ ،
فَيُسْتَحْسَنُ مِنْهَا صِحَّةُ التَّقْسِيمِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقُولُ ابْنُ آدَمَ
مَالِي وَإِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ
لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ } .
وَعَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ هَذَا الدِّينَ
مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا
قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى } .
وَمِنْ حُسْنِ الْبَلَاغَةِ فِي
الْمَعَانِي صِحَّةُ الْمَقَالِ يُؤْتَى فِي الْمُوَافِقِ بِمُوَافِقَةٍ ،
وَفِي الْمُضَادِّ بِمُضَادٍّ ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْكُتَّابِ : فَإِنَّ
أَهْلَ الرَّأْيِ وَالنُّصْحِ لَا يُسَاوِيهِمْ ذَوُو الْأَفَنِ
وَالْغِشِّ وَلَيْسَ مِنْ جَمْعِ الْكِفَايَةِ الْأَمَانَةُ ، كَمَنْ
أَضَافَ إلَى الْعَجْزِ الْخِيَانَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ إذَا
تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَ وَجَدْتَ غَايَةَ الْمُعَادَلَةِ لِأَنَّهُ
جَعَلَ بِإِزَاءِ الرَّأْيِ الْأَفَنَ ، وَالْأَفْنُ سُوءُ الرَّأْيِ ،
وَبِإِزَاءِ النُّصْحِ الْغِشَّ ، وَقَابَلَ الْعَجْزَ بِالْكِفَايَةِ
وَالْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ :
الْأَفَنُ بِالتَّحْرِيكِ ضَعْفُ الرَّأْيِ وَقَدْ أَفِنَ الرَّجُلُ
بِالْكَسْرِ وَأَفِنَ فَهُوَ مَأْفُونٌ وَأَفِنَ ، وَأَفَنَهُ اللَّهُ
يَأْفِنُهُ أَفْنًا فَهُوَ مَأْفُونٌ قَالَ جَعْفَرٌ وَمِنْ هَذَا مَا
دَعَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَقَدْ أُحْسِنَ إلَيْهَا
فَقَالَتْ : شَكَرَتْكَ يَدٌ نَالَتْهَا خَصَاصَةٌ بَعْدَ ثَرْوَةٍ .
وَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْ يَدٍ نَالَتْ ثَرْوَةً بَعْدَ فَاقَةٍ .
وَعَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ
ذَكَرَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ : وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا : فَقَالَ : يَصْلُحُ
لَهَا مَنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ فِي غَيْرِ مَهَانَةٍ ، وَشِدَّةٌ فِي
غَيْرِ عُنْفٍ ، وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى إنَّ أَسْعَدَ الْوُلَاةِ
مَنْ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ شَقِيَتْ بِهِ
رَعِيَّتُهُ .
وَعَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لِلُقْمَانِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَعْدَ مَا كَبِرَتْ
سِنُّهُ : مَا بَقِيَ مِنْ عَقْلِكَ ؟ قَالَ : لَا أَنْطِقُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي ، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا كُفِيتُهُ .
وَكَانَ
الْأَحْنَفُ رَجُلًا دَمِيمًا أَعْوَرَ قَصِيرًا أَحْنَفَ ، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ بِأَيِّ شَيْءٍ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ ؟ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ
بِأَشْرَفِ قَوْمِكَ وَلَا أَشْجَعِهِمْ وَلَا أَجْوَدِهِمْ ، فَقَالَ يَا
ابْنَ أَخِي بِخِلَافِ مَا أَنْتَ فِيهِ ، فَقَالَ وَمَا خِلَافُ مَا
أَنَا فِيهِ قَالَ : تَرْكِي مِنْ أَمْرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي ، كَمَا
عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
صِحَّةُ التَّقْسِيمِ فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ تَضَعَ مَعَانِيَ ثُمَّ
تَشْرَحَ فَلَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تُنْقِصُ ، قَالَ :
وَلِبَعْضِهِمْ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ اسْتَشْرَفَ لِلْمَدْحِ
وَالذَّمِّ لِأَنَّهُ إنْ أَحْسَنَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْحَسَدِ ،
وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّتْمِ .
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ
مِنْ التَّكَافُؤِ فِي الْبَلَاغَةِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ مَا قِيلَ
لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ إنَّ أَخًا لَكَ قَدْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَلِمَ لَا
تُهَنِّئُهُ ؟ قَالَ مَا سَرَّتْنِي لَهُ فَأُهَنِّيهِ ، وَلَا سَاءَتْهُ
فَأُعَزِّيهِ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا
الْمُؤَنُ فَقَالَ مَا أَحَدٌ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ ، إلَّا
وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ ، فَإِنْ ضَجِرَهُمْ تَعَرَّضَ
لِزَوَالِهَا .
وَذُكِرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَجُلٌ شَرِيفٌ لَا
يُفِيقُ مِنْ الشَّرَابِ فَقَالَ الْعَجَبُ لِمَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ
مَرَّةً كَيْفَ لَا يَشْغَلُهُ الِاهْتِمَامُ بِمَا فَقَدَ عَنْ
مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ ؟ وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ
مِنْ اللُّغَةِ فِي الْبَلَاغَةِ قَوْلُ " الطِّمِّ وَالرِّمِّ " إذَا
أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ ، وَهَذَا مِنْ
الِاسْتِعَارَةِ الْبَلِيغَةِ لِأَنَّ الطِّمَّ الْبَحْرُ وَالرِّمَّ
الثَّرَى ، وَهَذَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا اللَّهُ ، وَلَيْسَ هُوَ كَذِبًا
لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَعْنَاهُ .
وَقَالَ وَمَحْفُوظٌ عَنْ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ
طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ يَسْكُتُ ، فَقَالَ لَا
يَحْنَثُ
لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّكْثِيرُ .
وَمِنْهُ " مَا لَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ " أَيْ مَا لَهُ شَيْءٌ ، وَالسَّبَدُ الشَّعْرُ وَاللَّبَدُ الصُّوفُ .
وَمِنْهُ
" مَا يُعْرَفُ قَبِيلُهُ مِنْ دَبِيرِهِ " فَالْقَبِيلُ مَا أَقْبَلَتْ
بِهِ الْمَرْأَةُ عَنْ غَزْلِهَا حِينَ تَفْتِلُهُ ، وَالدَّبِيرُ مَا
أَدْبَرَتْ بِهِ ، وَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إلَى أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ
مِنْ الْإِقْبَالَةِ .
وَالْإِدْبَارَةِ وَهُوَ شَقٌّ فِي الْأُذُنِ
يُفْتَلُ ، فَإِذَا بِهِ فَهُوَ الْإِقْبَالَةُ وَإِذَا أَدْبَرَ فَهُوَ
الْإِدْبَارَةُ وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ قَالَ يَعْقُوبُ
الْقَبِيلُ مَا أَقْبَلْتَ بِهِ إلَى صَدْرِكَ ، وَالدَّبِيرُ مَا
أَدْبَرْتَ بِهِ عَنْ صَدْرِكَ ، يُقَالُ فُلَانٌ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا
مِنْ دَبِيرٍ وَالْجِلْدَةُ الْمُعَلَّقَةُ مِنْ الْأُذُنِ هِيَ
الْإِقْبَالَةُ وَالْإِدْبَارَةُ كَأَنَّهَا زَنَمَةٌ .
قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَيُسْتَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُغِيرَةِ يَصِفُ الْقَلَمَ : يَخْدُمُ الْإِرَادَةَ وَلَا يَمَلُّ
الِاسْتِزَادَةَ ، وَيَسْكُتُ وَاقِفًا ، وَيَنْطِقُ سَائِرًا عَلَى
أَرْضٍ بَيَاضُهَا مُظْلِمٌ ، وَسَوَادُهَا مُضِيءٌ .
وَمِنْ
الْكُتَّابِ مَنْ يَسْتَحْسِنُ السَّجْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ
لِقَوْلِ { حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ
لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ ، وَمِثْلُ
ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ
الَّذِي سَجَعَ } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا
ذَمَّ سَجْعَهُ لِأَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ ، فَإِنْ لَمْ
يَتَكَلَّفْهُ فَحَسَنٌ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى {
أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ } وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ
حَسَنٌ إذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ
أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } وَقَوْلِهِ لِلْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ { أُعِيذُكُمَا مِنْ السَّامَّةِ وَالْحَامَّةِ وَمِنْ
كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ }
وَعَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ وَهُوَ ابْنُ
زِيَادٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا ؟ قَالُوا
الْأَمِيرُ وَأَصْحَابُهُ قَالَ كَلًّا أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا رَجُلٌ
فِي دَارٍ لَا يُجْرَى عَلَيْهِ كِرَاءٌ ، لَهُ زَوْجَةٌ قَدْ قَنَعَ
بِهَا وَقَنَعَتْ بِهِ ، لَا يَعْرِفُنَا وَلَا نَعْرِفُهُ ، إنَّا إنْ
عَرَفْنَاهُ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ ، وَأَتْعَبْنَا
لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
الْعَنْبَرِيُّ : هَذَا وَاَللَّهِ كَلَامٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَمَنْ أَحَبَّ
أَنْ يَسْمَعَ كَلَامًا مِنْ ذَهَبٍ فَلْيَسْمَعْ هَذَا .
وَعَنْ
بَعْضِ الْحُكَمَاءِ بِقَدْرِ السُّمُوِّ فِي الرِّفْعَةِ ، تَكُونُ
وَحْيَةُ الْوَقْعَةِ وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ الْمَازِنِيُّ كَتَبَ لَا تُحَقِّرْ ضَعِيفًا ، وَلَا
تَحْسُدْ شَرِيفًا .
وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ عَرَفَ النَّاسَ
دَارَاهُمْ ، وَمَنْ جَهِلَهُمْ مَارَاهُمْ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِيهِ مَا
الْمُرُوءَةُ ؟ قَالَ إذَا أُنْعِمَ عَلَيْكَ شَكَرْتَ ، وَإِذَا
اُبْتُلِيتَ صَبَرْتَ ، وَإِذَا قَدَرْتَ غَفَرْتَ .
وَوَصَفَ رَجُلٌ
رَجُلًا فَقَالَ ظَاهِرُهُ مُرُوَّةٌ ، وَبَاطِنُهُ فُتُوَّةٌ ، وَعَنْ
عَلِيٍّ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
النَّحَّاسُ هَذَا إذَا تَدَبَّرَ كَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحِكْمَةِ
لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ مَا يُحْسِنُ
وَعَنْهُ أَيْضًا الْفُرَصُ تَمُرُّ مِثْلَ السَّحَابِ .
وَعَاتَبَ
عُثْمَانُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ عُثْمَانُ مَا لَكَ
لَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ إنْ قُلْتُ لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا تَكْرَهُ ،
وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إلَّا مَا تُحِبُّ .
وَعَنْهُ أَيْضًا مَنْ لَانَتْ كَلِمَتُهُ ، وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ .
وَرَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَزِعًا فَقَالَ عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ فَبِهِ يَأْخُذُ الْحَازِمُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْجَزِعُ .
وَقِيلَ
لَهُ صِفْ لَنَا الدُّنْيَا فَقَالَ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ ، وَآخِرُهَا
فَنَاءٌ ، حَلَالُهَا حِسَابٌ ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا
زَمِنَ ، وَمَنْ مَرِضَ فِيهَا نَدِمَ ، وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ
وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزَنَ مَنْ
سَاعَاهَا فَاتَتْهُ ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا أَعْمَتْهُ ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِهَا بَصُرَتْهُ .
وَعَنْهُ
: الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ ، لَا دَارُ مَقَرٍّ النَّاسُ فِيهَا
رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَرَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ
فَأَعْتَقَهَا .
وَعَنْهُ : مَثَلُ الدُّنْيَا كَمِثْلِ الْحَيَّةِ
لَيِّنٌ لَمْسُهَا وَفِي جَوْفِهَا السُّمُّ النَّاقِعُ ، يَهْوِي
إلَيْهَا الصَّبِيُّ ، الْجَاهِلُ وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْحَاذِرُ .
وَعَنْهُ إذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلْ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ ( فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ نَوَابِغِ الْكَلِمِ ، وَنَوَابِغِ الْحِكَمِ وَكُتُبِ الْبُلَغَاءِ ) .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ الْكُتَّابِ قَالَ وَهُمْ يَعِيبُونَ
تَكْرِيرَ الْأَلْفَاظِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ
اللُّغَةِ كَمَا يَذْهَبُونَ إلَيْهِ ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ
التَّوْكِيدُ وَغَيْرُهُ قَالَ بِشْرُ بْنُ النُّعْمَانِ إيَّاكَ
وَالتَّوَعُّرَ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُكَ إلَى التَّعَقُّدِ ، وَالتَّعَقُّدُ
هُوَ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ مَعَانِيكَ ، وَيَمْنَعُكَ مَرَامِيكَ .
وَمِمَّنْ
كَانَ يَسْتَعْمِلُ حَوَاشِيَ الْكَلَامِ أَبُو عَلْقَمَةَ النَّحْوِيُّ
وَهَذَا مُسْتَثْقَلٌ مِنْ كُلِّ مُتَعَمِّدٍ ، فَأَمَّا مَنْ لَا
يَتَعَمَّدُ مِنْ الْفُصَحَاءِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ
مُسْتَحْسَنٌ مِنْهُمْ ، وَأَنْشَدَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ : حِمَارٌ فِي
الْكِتَابَةِ يَدَّعِيهَا كَدَعْوَى آلِ حَرْبٍ مِنْ زِيَادِ فَدَعْ
عَنْكَ الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا وَلَوْ غَرَّقْتَ ثَوْبَكَ
بِالْمِدَادِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَسُرُّهُ
دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ ، وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ
لِيُدْرِكَهُ فَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تَكُنْ بِهِ فَرِحًا
وَمَا فَاتَكَ فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ حُزْنًا ، وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ
فِيمَا قَدَّمْتَ ، وَأَسَفُكَ عَلَى مَا أَخَّرْتَ ، وَهَمُّكَ لِمَا
بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَكَتَبَ سَالِمٌ إلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ : أَمَّا
أَنَا فَمُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ فِي شُكْرِكَ عِنْدَ ذِكْرِكَ ، لَيْسَ
ذَاكَ لِتَرْكِي إيَّاهُ فِي مَوَاضِعِهِ ، وَلَكِنْ لِزِيَادَةِ حَقِّكَ
عَلَى مَا يَبْلُغُهُ جَهْدِي .
وَأَهْدَى بَعْضُهُمْ طِيبًا وَكَتَبَ
: الثِّقَةُ بِكَ سَهَّلَتْ السَّبِيلَ إلَيْكَ ، فَأَهْدَيْتُ هَدِيَّةَ
مَنْ لَا يَحْتَشِمُ إلَى مَنْ لَا يَغْتَنِمُ .
وَأَهْدَى بَعْضُهُمْ
إلَى الْمَأْمُونِ قَارُورَةً فِيهَا دُهْنُ أُتْرُجٍّ ، وَكَتَبَ إلَيْهِ
إذَا كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ الصَّغِيرِ إلَى الْكَبِيرِ فَكُلَّمَا
لَطُفَتْ كَانَتْ أَبْلَغَ وَأَوْصَلَ ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ الْكَبِيرِ
إلَى الصَّغِيرِ فَكُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ
أَجْزَلَ لَهَا وَأَخْطَرَ .
وَكَتَبَ
الْحَسَنُ بْنُ سُهَيْلٍ إلَى أَخٍ لَهُ يُعَزِّيهِ مَدَّ اللَّهُ فِي
عُمُرِكَ مَوْفُورًا غَيْرَ مُنْتَقِصٍ ، وَمَمْنُوحًا غَيْرَ مُمْتَحِنٍ
، وَمُعْطٍ غَيْرَ مُسْتَلِبٍ .
وَعَزَّى أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ بِابْنِهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
جَعَلَنَا نُعَزِّيكَ عَنْهُ وَلَا نُعَزِّيهِ عَنْكَ فَدَعَا
بِالطَّعَامِ وَقَدْ كَانَ امْتَنَعَ مِنْهُ .
وَكَتَبَ بَعْضُهُمْ
أَطَالَ اللَّهُ فِي دَوَامِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ بَقَاءَكَ ،
وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ مُدَّتَكَ ، وَأَحَاطَ الدِّينَ وَالْمُرُوءَةَ
بِحِفْظِهِ دَوْلَتَكَ ، وَجَعَلَ إلَى خَيْرِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ
عَاقِبَةَ أَمْرِكَ ، وَعَلَى الرُّشْدِ وَالتَّوْفِيقِ وَاقِعَ قَوْلِكَ
وَفِعْلِكَ ، وَلَا أَخْلَى مِنْ السُّلْطَانِ مَكَانَكَ ، وَمِنْ
الرِّفْعَةِ مَنْزِلَتَكَ .
وَكَتَبَ أَيْضًا وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، رَاغِبًا إلَيْهِ بِسَرِيرَةٍ
يَعْلَمُ صِحَّتَهَا ، وَنِيَّةٍ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهَا أَنْ يَشْفَعَ
إحْسَانَهُ إلَيَّ وَجَمِيلَ بَلَائِهِ لَدَيَّ ، بِطُولِ بَقَائِكَ ،
إمْتَاعِي بِمَا وُهِبَ لِي مِنْ رَبِّكَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ دُونَ
الْهَوَى ، وَتَمَامُ شُرُوطِ الْوُدِّ دُونَ التَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ
.
وَكَتَبَ أَيْضًا : أَرَاك اللَّهُ فِي وَلِيِّكَ مَا يَسُرُّكَ بِهِ ، وَفِي عَدُوِّكَ مَا يَعْطِفُكَ عَلَيْهِ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ وَمِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْبَلَاغَةِ مُحَمَّدُ بْنُ
مِهْرَانَ الْكَاتِبُ وَلَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ يَقُولُ
إنَّ رَسَائِلَهُ تُطْرِبُنِي كَمَا يُطْرِبُنِي الْغِنَاءُ ، فَمِنْ
مُسْتَحْسَنِ فُصُولِهِ وَرَسَائِلِهِ فَصْلٌ لَهُ يُعَزِّيهِ : وَمَنْ
صَدَّقَ نَفْسَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ ، وَعَلِمَ أَنَّ
الْبَاقِيَ تَبَعٌ لِلْمَاضِي ، حَتَّى يَرِثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، وَلَهُ لِي
أَبِي نَجْدَةَ الشَّاعِرِ : أَمَّا الشِّعْرُ فَلَسْنَا نُسَاجِلُكَ
فِيهِ ، وَلَا نَرْكَبُ مِضْمَارَكَ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْهُ ،
إلَى أَنْ قَالَ لِأَنَّا نَرَى الِاعْتِرَافَ لِلْمُبْرِزِ فَضِيلَةً ،
وَغُمُوضَ
حَقِّهِ نَقِيصَةً ، وَلَهُ أَيْضًا قَدْ انْقَضَتْ
أَيَّامُ أَهْلِ الْأَدَبِ وَأَفْلَتَ نُجُومُهُمْ ، حَتَّى صَارُوا
غُرَبَاءَ فِي أَوْطَانِهِمْ ، مُنْقَطِعِي الْوَصْلِ وَالْوَسَائِلِ ،
تَرْتَدُّ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ ، وَتَنْبُو عَنْهُمْ الْقُلُوبُ ،
وَإِذَا شَامُوا مُخَيِّلَةً مِثْلَكَ مِمَّنْ يُحْسِنُ تَأَلُّفَهُمْ
وَرِفْدَهُمْ ، وَيَرْعَى وَسَائِلَهُمْ ثَلِجَتْ صُدُورُهُمْ
وَانْبَسَطَتْ آمَالُهُمْ ، وَأَمْسَكَ ذَلِكَ بِحَشَاشَاتٍ قَدْ
نَهَكَهَا سُوءُ بَلَاءِ الزَّمَانِ ، فَزَادَكَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَزَادَ بِكَ .
وَلَهُ أَيْضًا وَأَنَا مُنْتَظِرٌ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا الْبَاغِي وَانْتِقَامِهِ مِنْ الظَّالِمِ مَا
لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ مُسْتَدْرَجِينَ بِالْإِمْهَالِ
فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاجِزٌ وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ
ظَالِمٍ .
وَكَتَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى إيجَازِ الْقَوْلِ
وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ فِي السَّجْعِ إلَى بَعْضِهِمْ
كِتَابِي إلَيْكَ لَيْسَ بِاسْتِبْطَاءٍ ، وَإِمْسَاكِي عَنْكَ لَيْسَ
بِاسْتِغْنَاءٍ ، لَكِنَّهُ تَذْكِرَةٌ لَكَ ، وَإِمْسَاكِي ثِقَةٌ بِكَ ،
وَكَتَبَ هَذَا الرَّجُلُ إلَى الْمَأْمُونِ إنَّكَ مِمَّنْ إذَا أَسَّسَ
بَنَى ، وَإِذَا غَرَسَ سَقَى ، لِيَسْتَتِمَّ بِنَاءُ أُسِّهِ ،
وَيَجْتَنِيَ ثِمَارَ غَرْسِهِ ، وَأَشُكُّ فِي بِرِّي قَدْ وَهِيَ
وَقَارَبَ الدُّرُوسَ ، وَغَرْسُكَ فِي حِفْظِي قَدْ عَطِشَ وَشَارَفَ
الْيُبُوسَ ، فَتَدَارَكْ مَا أَسَّسْتَ ، وَاسْقِ مَا غَرَسْتَ فَأَمَرَ
لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ .
قَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ :
رَسَائِلُ الْمَرْءِ فِي كُتُبِهِ أَدَلُّ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِهِ ،
وَأَصْدَقُ شَاهِدًا عَلَى غَيْبِهِ لَكَ وَمَعْنَاهُ فِيكَ مِنْ
أَضْعَافِ ذَلِكَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ .
كَتَبَ
رَجُلٌ إلَى أَخٍ لَهُ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ لَا أَفْتَتِحَ
مُكَاتَبَتَكَ بِذِكْرِ حَاجَةٍ إلَّا أَنَّ الْمَوَدَّةَ إذَا خَلَصَتْ
سَقَطَتْ الْحِشْمَةُ ، وَاسْتُعْمِلَتْ الدَّالَّةُ .
وَلِآخَرَ : إنَّ مِنْ صِغَرِ الْهِمَّةِ ، الْحَسَدُ لِلصِّدِّيقِ عَلَى النِّعْمَةِ .
كَتَبَ آخَرُ كَفَاكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ لِي سُوءُ ظَنِّكَ بِي .
وَكَتَبَ
آخَرُ
قَدْ سَبَقَ جَمِيلُ وَعْدِكَ إيَّايَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَتَأَخَّرَ
الْأَمْرُ تَأَخُّرًا دَلَّنِي عَلَى زُهْدِكَ فِي الصَّنِيعَةِ عِنْدِي ،
وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ اللَّجُوجَ تُطَالِبُنِي بِبُلُوغِ آخِرِ
الْأَمْرِ ، لِتَنْصَرِفَ عَنْ الطَّمَعِ بِوَاضِحِ الْعُذْرِ ، لَكَانَ
فِيمَا عَايَنْتَ مِنْ التَّقْصِيرِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى ضَعْفِ
الْعِنَايَةِ ، وَلَقَدْ حَمِدْت اللَّهَ إذَا لَمْ أُخْبِرْ
بِمَسْأَلَتِي وَضَمَانِكَ أَحَدًا ، فَأَكُونُ فِي وَقْتِي هَذَا إمَّا
كَاذِبًا فِيمَا حَكَيْتُهُ ، وَإِمَّا شَاكِيًا ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْت
لَكَ شَاكِرًا ، وَلَسْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ شُكْرٍ إلَى ذَمٍّ ، وَلَا
أَرْغَبُ مِنْ عَلِيٍّ إلَى خُلُقٍ دَنِيٍّ ، فَيُسَرُّ حَسُودٌ ،
وَيُسَاءُ وَدُودٌ ، وَلَكِنِّي أَرْكَبُ طَرِيقًا بَيْنَ شُكْرِكَ عَلَى
مَا يَسَّرَهُ الْمِقْدَارُ عَلَى يَدِكَ ، وَبَيْنَ عُذْرِكَ عَلَى مَا
عَسَّرَهُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُخْلِفٍ وَلَا مُجْحِفٍ .
وَلِغَيْرِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ بِحَمْدِهِ نَزَّهَ الْإِسْلَامَ عَنْ كُلِّ قَبِيحَةٍ ،
وَأَكْرَمَهُ عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ وَرَفَعَهُ عَنْ كُلِّ دَنِيئَةٍ ،
وَشَرَّفَهُ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ ، وَجَعَلَ سِيمَا أَهْلِهِ الْوَقَارَ
وَالسَّكِينَةَ .
وَكَتَبَ آخَرُ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِكَرَمِكَ عَنْ ذَرِيعَةٍ إلَيْكَ وَمَا تُنَازِعُنِي نَفْسِي إلَى
اسْتِعَانَةٍ عَلَيْكَ ، إلَّا أَبَى ذَلِكَ حُسْنُ الظَّنِّ بِكَ ،
وَتَأْمِيلٌ نَحُجُّ لِلرَّغْبَةِ إلَيْكَ دُونَ الشُّفَعَاءِ عِنْدَكَ
وَلِغَيْرِهِ حَتَّى إذَا نَزَلَ الْجَمْعَانِ تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ
مِنْ حِزْبِهِ ، وَأَزْهَقَ اللَّهُ بَاطِلَهُمْ بِحَقِّهِ ، وَجَعَلَ
الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ لِأَوْلَى الْحِزْبَيْنِ بِهِ ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ
سُنَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَاضِينَ مِنْ خَلْقِهِ ،
وَبِذَلِكَ وَعَدَ مَنْ تَمَسَّكَ بِأَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَلِغَيْرِهِ
: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أُولَى نِعْمَةٍ تُشْكَرُ سَلَامَةٌ شَمَلَتْ ،
عَزَّ فِيهَا الْحَقُّ فَوَقَعَ مَوَاقِعَهُ ، وَذَلَّ الْبَاطِلُ
فَقُمِعَ أَشْيَاعُهُ ، وَتَقَلَّبَ فِي سِرْبِهَا وَأَمْنِهَا خَاصَّةً
وَعَامَّةً ، وَانْبَسَطَ فِي تَأْمِيلِ فَضْلِهَا وَعَاقِدَتِهَا
رَغْبَةً حَاضِرَةً وَقَاصِيَةً .
وَكَتَبَ آخَرُ : كَتَبْتُ
وَأَنَا ذُو صَبَابَةٍ تُوهِي قَوِيَّ الصَّبْرِ إلَى لِقَائِكَ
وَاسْتِرَاحَةٍ لَيْسَ إلَّا إلَى طَيِّبِ إخْبَارِكَ مُنْتَهَاهَا .
وَكَتَبَ
آخَرُ كَتَبْتُ عَنْ سَلَامَةٍ وَوَحْشَةٍ لِفِرَاقِكَ ، وَبُعْدِ
الْبَلَدِ الَّذِي يَجْمَعُ السَّادَةَ وَالْإِخْوَانَ ، وَالْأَهْلَ
وَالْجِيرَانَ عَلَى حَسَبِ الْأَمْرِ كَانَ بِمَكَانِي فِيهِ ،
وَالسُّرُورِ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْمِقْدَارَ يَجْرِي فَيَنْصَرِفُ مَعَهُ
، وَقَعَ ذَلِكَ بِالْهَوَى أَوْ خَالَفَهُ ، وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ
حَالِي فِي الْوَحْشَةِ أَنْ أُكْثِرَ ذَلِكَ وَأُوَفِّرَهُ لِفِرَاقِكَ
وَمَا بَعِدْنَا عَنْهُ مِنْ الْأُنْسِ بِكَ ، فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ
يَهَبَ لَنَا اجْتِمَاعًا عَاجِلًا فِي سَلَامَةٍ مِنْ الْأَبَدَانِ
وَالْأَدْيَانِ ، وَغِبْطَةٍ مِنْ الْحَالِ ، وَغِنًى عَنْ الْمَطَالِبِ
بِرَحْمَتِهِ وَلَهُ كِتَابِي ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ
وَحْشَتِي وَلَا أَوْحَشَكَ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ ، وَلَا فَرَّقَ
بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَافِيَتِهِ وَكَانَ مِمَّا زَادَ فِي الْوَحْشَةِ
أَنَّهَا جَاوَزَتْ الْأَمَلَ الْمُتَمَكِّنَ فِي الْأُنْسِ بِقُرْبِ
الدَّارِ ، وَتَدَانِي الْمَزَارِ ، نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نِعْمَةٍ ،
وَنَسْتَدِيمُهُ لَنَا فِيكَ أَجْمَلَ بَلَائِهِ ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ لَا
يُخَلِّينَا وَإِيَّاكَ مِنْ شُكْرِهِ وَمَزِيدِهِ ، وَلَوْ كَتَبْتُ فِي
كُلِّ يَوْمٍ كِتَابًا .
بَلْ لَوْ شَخَصْتُ نَحْوَكَ قَاصِدًا ،
لَكَانَ ذَلِكَ دُونَ الْحَقِّ لَكَ ، وَلَكِنِّي عَلِقٌ بِمَا تَعْلَمُهُ
مِنْ الْعَمَلِ ، وَأَكْرَهُ أَنْ أُتَابِعَ كَتْبِي وَأَسْلُكَ سَبِيلًا
مِنْ الثِّقَلِ فَأَنَا وَاقِفٌ بِمَنْزِلَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ أَرْجُو أَنْ
أَسْلَمَ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْإِبْرَامِ ، وَأَنَا وَإِنْ أَبْقَيْتُهُ
عَلَيْكَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي شُغْلِكَ ، فَلَسْتُ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ
سُؤَالِكَ التَّطَوُّلَ بِتَعْرِيفِي جُمْلَةً مِنْ خَبَرِكَ ، أَسْكُنُ
إلَيْهَا ، وَأَعْتَدُّ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا وَأَحْمَدُ اللَّهَ
عَلَيْهَا .
وَكَتَبَ آخَرُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ قَضَى
الْحَاجَاتِ لِإِخْوَانِهِ وَاسْتَوْجَبَ الشُّكْرَ عَلَيْهِمْ ،
فَلِنَفْسِهِ عَمِلَ لَا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ إذَا وُضِعَ
عِنْدَ مَنْ
شَكَرَهُ فَهُوَ زَرْعٌ لَا بُدَّ لِزَارِعِهِ مِنْ حَصَادِهِ ، أَوْ لِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ .
وَكَتَبَ آخَرُ : لَا تَتْرُكْنِي مُعَلَّقًا بِحَاجَتِي ، فَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَطْلِ الطَّوِيلِ .
(
تَعْزِيَةٌ ) إذَا اسْتَوَى الْمُعَزِّي وَالْمُعَزَّى فِي النَّائِبَةِ ،
اسْتَغْنَى عَنْ الْإِكْثَارِ فِي الْوَصْفِ لِمَوْضِعِ الرَّزِيَّةِ
وَكَانَ ظُهُورُهُ يُغْنِي عَنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، إقْرَارًا بِالْمُلْكِ لَهُ ،
وَاعْتِرَافًا بِالْمَرْجِعِ إلَيْهِ ، وَتَسْلِيمًا لِقَضَائِهِ ،
وَرِضًا بِمَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصَلِّيَ
عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتٍ مُتَّصِلَةً بَرَكَاتُهَا ، وَأَنْ يُوَفِّقَ
لِمَا يُرْضِيهِ عَنْك قَوْلًا وَفِعْلًا حَتَّى يَكْمُلَ لَك ثَوَابُ
الصَّابِرِينَ الْمُحْتَسِبِينَ ، وَأَجْرُ الْمُطِيعِ الْمُمْتَحَنِ
لِلْوَعْدِ ، فَرَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا وَأَنْزَلَهُ مَنَازِلَ
أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَرْضَى سَعْيَهُمْ ، وَيَطُولُ بِفَضْلِهِ
عَلَيْهِمْ ، إنَّهُ وَلِيٌّ قَدِيرٌ .
كَتَبَ آخَرُ : إنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ بِتَمْكِينِهِ إيَّاكَ فِي النِّعْمَةِ ، وَإِعْلَائِهِ
يَدَكَ بِالْقُدْرَةِ ، وَصَلَ بِك آمَالَ الْمُؤَمِّلِينَ ، وَخَصَّ
بِجَمِيلِ الْحَظِّ مِنْكَ أَهْلَ الْمُرُوءَةِ وَالدِّينِ ، وَقَدْ
حَلَلْنَا بِفِنَائِكَ ، وَأَمَلْنَا حُسْنَ عَائِدَتِكَ ، وَرَجَوْنَا
أَنْ تُودِعَنَا مِنْ مَعْرُوفِكَ مَا تَجِدُ عِنْدَنَا شُكْرَهُ ،
وَالْوَفَاءَ بِمَا تُسْدِي إلَيْنَا مِنْهُ ، وَأَنْتَ بَيْنَ صَنِيعَةٍ
مَشْكُورَةٍ وَمَثُوبَةٍ مَذْخُورَةٍ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُصْغِيَ
إلَيْنَا بِكَرَمِكَ ، وَتَخْلِطَنَا بِعَدَدِكَ ، وَتَجْعَلَ لَنَا مِنْ
لَحَظَاتِ بِرِّكَ ، بِحَيْثُ يَشْمَلُنَا فَضْلُكَ ، وَيَسَعُنَا
طَوْلُكَ ، فَعَلْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ .
فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَاتَبَةِ
وَيَنْبَغِي فِي الْمُكَاتَبَةِ تَحَرِّي طَرِيقِ السَّلَفِ وَمَا
قَارَبَهَا ، فَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ الْكُتَّابُ مِنْ تَقْبِيلِ الْيَدِ
أَوْ الْكَفِّ أَوْ الْقَدَمِ أَوْ الْبَاسِطَةِ أَوْ الْبَاسِطِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي
أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ
مِنْهُ .
فَأَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَيُتَلَطَّفُ فِي تَرْكِهَا
مُطْلَقًا حَسَبُ الْإِمْكَانِ ، وَإِنْ أَتَى بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ
يَقْرِنَ بِذَلِكَ نِيَّةً وَتَأْوِيلًا ، كَمَا فِي لَفْظِ الْإِتْيَانِ
بِالْعَبْدِ أَوْ الْعَبْدِ الْأَصْغَرِ أَوْ الْعَبْدِ الرِّقِّ أَوْ
الْمَمْلُوكِ أَوْ الْخَادِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَدْ رَأَيْتُ
بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ ( كِتَابَ سِيرَةِ
الْخُلَفَاءِ ) كَأَنَّهُ صَنَعَهُ لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ أَوْ لِبَعْضِ
الْأَكَابِرِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ : فَرَغَ مِنْ تَصْنِيفِهِ الْعَبْدُ
فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْأَرْضَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ
، أَوْ بِوَجْهِهِ وَيَدِهِ .
وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا
الْمُكَاتَبَةُ بِمِثْلِ هَذَا إلَى الْكُفَّارِ فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ
بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ .
لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ
فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ ، وَرَأَيْتُ مِنْ حَالِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ
مِنْ أَصْحَابِنَا الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى
مَفْسَدَةِ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ
حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ
يَنْظُرُ فِي دَرْءِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِارْتِكَابِ
أَدْنَاهُمَا ، وَهَذَا فِيهِ تَسْهِيلٌ ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي
مِثْل هَذِهِ الْأَزْمَانِ ، وَالِاحْتِيَاطُ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ
وَالتَّلَطُّفُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الشَّرْعِ
وَمَا يُقَارِبُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ عَبْدُكَ وَيَا مَوْلَايَ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ يَا سَيِّدِي وَأَجَازَ هَذَا بَعْضُهُمْ قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
لِمُنَافِقٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ يَا سَيِّدِي وَيُقَالُ ،
لِغَيْرِهِمْ ، وَاحْتَجَّ بِأَخْبَارٍ تَأْتِي فِي الْمَدْحِ فِي
الْوَجْهِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يَرْضَى أَحَدٌ أَنْ يُخَاطَبَ يَا سَيِّدِي وَأَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ كَمَا
فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ {
السَّيِّدُ اللَّهُ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَعَنْ الْحَسَنِ سَمِعْتُ
{ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إلَى جَنْبِهِ
وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ
إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ
فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي
وَأَمَتِي فَكُلُّكُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إمَاءُ
اللَّهِ ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي ، وَفَتَايَ
وَفَتَاتِي } وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَا يَقُلْ الْعَبْدُ رَبِّي وَلَكِنْ
لِيَقُلْ سَيِّدِي } وَفِي رِوَايَةٍ { لَا يَقُلْ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ
مَوْلَايَ ، فَإِنَّ مَوْلَاكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَعَنْهُ
أَيْضًا مَرْفُوعًا { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اسْقِ رَبَّكَ وَأَطْعِمْ
رَبَّكَ وَوَضِّئْ رَبَّكَ ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ ، وَلَا
يَقُلْ أَحَدُكُمْ : عَبْدِي ، أَمَتِي ، وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي
وَغُلَامِي } رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْخَبَرَ
الْأَخِيرَ .
وَفِي الصِّحَاحِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ
رَبَّتَهَا أَوْ رَبَّهَا } فَقِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ
لِلتَّنْزِيهِ ، وَقِيلَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا لَا فِي
النَّادِرِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَفْظِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ
لِلْكَرَاهَةِ
جَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَجَزَمَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ
بِسَيِّدِي وَذَكَرَ مَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِ {
قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَقَوْلُهُ {
اسْمَعُوا مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ } يَعْنِي سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ .
وَنَقَلَ
الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ دُعَاءَ اللَّهِ بِسَيِّدِي
وَيَأْتِي اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي كَرَاهَةِ الْمَدْحِ وَقَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَيْضًا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا
أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِأَحَدٍ مِنْ
الْمَخْلُوقِينَ مَوْلَايَ وَلَا يَقُولَ عَبْدَكَ وَلَا عَبْدِي وَإِنْ
كَانَ مَمْلُوكًا ، وَقَدْ حَظَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَمْلُوكِينَ فَكَيْفَ الْأَحْرَارُ ؟ كَذَا
قَالَ ، وَجَزَمَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ
بِمَوْلَايَ ، وَأَنَّ النَّهْيَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ الْأَعْمَشِ
، وَحَذْفُهَا أَصَحُّ انْتَهَى كَلَامُهُ ، ثُمَّ هِيَ لِتَرْكِ
الْأُولَى جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِذْنِ فِي اسْتِعْمَالِهَا .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ { ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ عَبْدٌ
أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ ، وَمَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ
مَوَالِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ } وَيَأْتِي
فِي الِاسْتِئْذَانِ : هَلْ يَكْنِي الرَّجُلُ نَفْسَهُ ؟ قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ : وَيَكْتُبُ مِنْ أَخِيهِ إنْ كَانَتْ الْحَالُ
بَيْنَهُمَا تُوجِبُ ذَلِكَ وَدُونَهُ مِنْ وَلِيِّهِ قَالَ وَمَحْظُورٌ
أَنْ يَكْتُبَ مِنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَاتِبُ غُلَامَهُ .
وَالْمُسْتَعْمَلُ
فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ سَلَامٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْرِفَةٌ
وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ وَالسَّلَامُ عَلَيْك لِأَنَّهُ مُشَارٌ بِهِ إلَى
الْأُولَى وَمَا ذَكَرَهُ مُتَّجِهٌ .
وَكَذَا كَانَ يَكْتُبُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ أَوَّلُ الْكِتَابِ سَلَامٌ عَلَيْكَ .
فَصْلٌ
مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُبْدَأَ أَهْلُ الذِّمَّةِ
بِالسَّلَامِ وَلَا يَجُوزُ بُدَاءَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ
هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بُدَاءَتِهِمْ
بِالسَّلَامِ وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ أَحْمَدُ
فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَسُئِلَ عَمَّنْ يَبْتَدِئُ الذِّمِّيَّ
بِالسَّلَامِ إذَا كَانَتْ حَاجَةٌ إلَيْهِ قَالَ لَا يُعْجِبُنِي .
وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَسَأَلَهُ قَالَ : مَرَرْتُ بِقَوْمٍ
جُلُوسٍ وَفِيهِمْ نَصْرَانِيٌّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ سَلِّمْ
عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْوِهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ
أَخْلَاطٌ مِنْ الْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَةٌ
ذِمِّيٌّ أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ لَا يَبْدَأْهُ بِالسَّلَامِ
يَقُولُ : ابدراتم ، وَلَا يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ .
وَكَذَا نَقَلَ
إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ
رَجُلٍ لَهُ قَرَابَاتٌ مَجُوسٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَدْخُلُ
عَلَيْهِمْ أَيُسَلِّمُ ؟ قَالَ : لَا فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ يَقُولُ ؟
قَالَ يَقُولُ ابدراتم وَلَا يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ .
قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ فَقَدْ نَهَى عَنْ الِابْتِدَاءِ مُطْلَقًا وَرَخَّصَ
عِنْدَ قُدُومِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَيِّيَ بِمِثْلِ ابدراتم .
وَذَهَبَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِهِ
لِلْحَاجَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِمَالًا
رَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الزَّيْدَانِيِّ
الْبَغْدَادِيِّ ، وَسَبَقَ قَوْلُ أَحْمَدَ لَا يُعْجِبُنِي .
وَلِأَصْحَابِنَا
وَجْهَانِ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ
الْكَرَاهَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ إنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سُئِلَ عَنْ
ابْتِدَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ قَالَ : يَرُدُّ عَلَيْهِمْ
وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِالسَّلَامِ ، فَقَالَ لَهُ : لِمَ ؟ فَقَالَ
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ } كَذَا
قَالَ وَهُوَ غَرِيبٌ قَالَ السُّدِّيُّ : قُلْ خَيْرًا بَدَلًا مِنْ
شَرِّهِمْ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : اُرْدُدْ عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قُلْ مَا تَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهِمْ .
وَتَأَوَّلَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّهْيَ عَنْ بُدَاءَتِهِمْ عَلَى أَنَّ
مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْدَءُوهُمْ قَالَ بِدَلِيلِ مَا
رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ :
رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ
لَقِيَ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَيَقُولُ هِيَ تَحِيَّةٌ لِأَهْلِ
مِلَّتِنَا ، وَاسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ نُفْشِيهِ بَيْنَنَا قَالَ :
وَمُحَالٌ أَنْ يُخَالِفَ أَبُو أُمَامَةَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ كَذَا
قَالَ وَأَبُو أُمَامَةَ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَدْ خَالَفَهُ
غَيْرُهُ بِلَا شَكٍّ وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالْأَصْلُ
عَدَمُ الْإِضْمَارِ .
وَفِي تَتِمَّةِ الْخَبَرِ { وَإِذَا
لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا } وَهَذَا
السِّيَاقُ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
مَالِكًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِأَنَّ
فِي ذَلِكَ وُدًّا وَلُطْفًا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِمُجَاهَدَتِهِمْ
وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ كَمَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي
آخِرِ الْكِتَابِ وَمِنْ ذَلِكَ مُوَاكَلَتُهُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
كَانَ يُقَالُ : مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تُوَاكِلَ غَيْرَ أَهْلِ دِينِكَ ،
فَأَمَّا مَنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَبَّ أَوْ يَجِبُ نَظَرًا إلَى ارْتِكَابِ أَدْنَى
الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا ، فَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَيْهِ
يَسْهُلُ تَرْكُهَا بِلَا مَشَقَّةٍ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِ
الدُّنْيَا
الْمُعْتَادَةِ فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الَّذِي أَرَادَ أَحْمَدُ فِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَكَلَامُهُ فِيهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ
وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ مُحْتَمَلَةٌ .
فَأَمَّا الْحَاجَةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَتَبْعُدُ إرَادَتُهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَنْعُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمْ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
لِصِحَّةِ
الْأَحَادِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ ،
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ
وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ .
وَصِفَةُ الرَّدِّ عَلَيْكُمْ أَوْ وَعَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِهَا .
صَحَّتْ
هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا الْوَاوَ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي
الْإِرْشَادِ حَذْفَهَا قَطَعَ بِهِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ :
اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ
حَذْفَ الْوَاوِ لِئَلَّا تَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ وَقَالَ غَيْرُهُ
بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ : عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَهُ وَعَلَيْكُمْ
بِالْوَاوِ وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ عَلَيْكُمْ
بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَ الْوَاوَ
صَارَ قَوْلُهُمْ الَّذِي قَالُوهُ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ ،
فَإِدْخَالُ الْوَاوِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ مَعَهُمْ وَالدُّخُولَ فِيمَا
قَالُوهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ .
وَقَالَ
غَيْرُهُ : الْوَاوُ أَجْوَدُ كَمَا هُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ وَلَا
مَفْسَدَةَ فِيهِ لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَيْنَا
وَعَلَيْهِمْ ، وَقِيلَ الْوَاوُ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ
وَالتَّشْرِيكِ ، وَقَوْلُهُ وَعَلَيْكُمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ
الذَّمِّ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْكُمْ
السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ
وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَذَكَرَ فِي آخِرِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ
سِينَ السَّلَامِ وَهِيَ حِجَارَةٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ وَذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْأَوَّلُ أَوْلَى عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ
الْوَارِدَةِ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا سَلَّمَ
الذِّمِّيُّ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ
تَحِيَّتِهِ وَإِنْ قَالَ أَهْلًا وَسَهْلًا فَلَا بَأْسَ كَذَا قَالَ ،
وَجَزَمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِمِثْلِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ وَسَلَّمَ
أَحْمَدُ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ ، وَذَكَرَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي ،
فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ .
فَصْلُ ( السَّلَامِ وَالدُّعَاءِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُصَافَحَتِهِمْ ) .
قِيلَ
لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُعَامِلُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى وَنَأْتِيهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ
مُسْلِمُونَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ تَنْوِي السَّلَامَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وُجُوبُ النِّيَّةِ لِذَلِكَ ،
وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْوِيهِ
فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ لَا تَجِبُ لَكِنْ لَا يَنْوِي
السَّلَامَ عَلَيْهِ .
وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا نَظِيرُ
الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ
عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ هَلْ يَحْنَثُ إنْ لَمْ يَنْوِ إخْرَاجَهُ أَوْ
يَحْنَثُ إنْ قَصَدَهُ فَقَطْ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مُصَافَحَةِ
أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَرِهَهُ وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ حَدِيثَ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُصَافَحَتِهِمْ وَابْتِدَائِهِمْ
بِالسَّلَامِ وَقَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد : يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ
الرَّجُلُ لِلذِّمِّيِّ كَيْفَ أَصْبَحْتَ ، أَوْ كَيْفَ أَنْتَ ؟ أَوْ
كَيْفَ حَالُكَ ؟ قَالَ أَكْرَهُهُ ، هَذَا عِنْدِي أَكْبَرُ مِنْ
السَّلَامِ وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
شَرْحِ الْهِدَايَةِ : أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا تَبْدَأْهُمْ بِالسَّلَامِ ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَهُمْ هَدَاكَ اللَّهُ ، وَأَطَالَ اللَّهُ
بَقَاءَكَ ، وَنَحْوُهُ .
وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .
وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَقَطْ .
وَلَمْ
يُصَرِّحْ أَصْحَابُنَا بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
لَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَيْفَ أَصْبَحْتَ
؟ وَنَحْوِهِ وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ
مَنْعُ غَيْرِهِ كَالسَّلَامِ وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ مَنْعِ الدُّعَاءِ
بِالْبَقَاءِ وَنَحْوِهِ إلَّا بِنِيَّةِ الْجِزْيَةِ أَوْ الْإِسْلَامِ ،
أَوْ الْإِخْبَارِ بِالْوَاقِعِ .
وَهَذَا قَدْ يُقَالُ هُوَ نَظِيرُ
نَصِّ أَحْمَدَ فِي أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَنْوِي الْإِسْلَامَ فَيَكُونُ
هُوَ مَذْهَبَهُ فِيهِمَا وَيُحْتَمَلُ مَعَ الْحَاجَةِ فَقَطْ ، وَأَمَّا
الدُّعَاءُ
بِالْهِدَايَةِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا جَوَازُهُ وَاضِحٌ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنْ خَاطَبَهُ بِكَلَامٍ غَيْرِ السَّلَامِ
مِمَّا يُؤْنِسُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ
مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يُطِيلُ
بَقَاءَهُ لَعَلَّهُ يُسْلِمُ أَوْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ عَنْ ذُلٍّ
وَصَغَارٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ دَعَا لَهُ الْإِسْلَامَ فِي
الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ
يَنْوِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ قَالَ : وَلَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ أَرْشَدَكَ
اللَّهُ أَوْ هَدَاكَ اللَّهُ فَحَسُنَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ
: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يَقُولُ
لِلرَّجُلِ النَّصْرَانِيِّ أَكْرَمَكَ اللَّهُ قَالَ نَعَمْ .
يَقُولُ
أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ مَا
سَبَقَ مِنْ الدُّعَاءِ بِالْبَقَاءِ وَإِنَّهُ كَالدُّعَاءِ
بِالْهِدَايَةِ وَيُشْبِهُ هَذَا أَعَزَّكَ اللَّهُ ، وَذَكَرَ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَهُ لِنَصْرَانِيٍّ
وَأَنَّهُ عُوتِبَ فَقَالَ أَخَذْتُهُ مِنْ عَزَّ الشَّيْءُ إذَا قَلَّ
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطُّوسِيُّ : كَانَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ إذَا نَظَرَ إلَى نَصْرَانِيٍّ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ
فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا أَقْدِرُ أَنْظُرُ إلَى مَنْ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ وَكَذَبَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى .
وَرُوِيَ
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ : لَا تَأْخُذُوا عَنِّي
هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَلَكِنِّي
لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَنَى أَحْمَدُ
نَصْرَانِيًّا وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ ( مَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَتَبْلِيغِهِ بِالْكِتَابِ ، وَحُكْمُ الْجَوَابِ ) .
يُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ .
وَالْمَاشِي
عَلَى الْجَالِسِ ، وَيُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَيْهِمَا ، لِخَبَرِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
خَلَا ذِكْرِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ
الْبُخَارِيُّ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ
الْأَصْحَابُ ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ
مِنْهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَسْنُونُ إذْ هُوَ مُبْتَدِئٌ ، وَظَاهِرُ
هَذَا صَرِيحُهُ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ مَنْ قُلْنَا يَبْدَأُ
غَيْرَهُ أَنَّهُ تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِسَلَامِهِ وَيَكُونُ مُبْتَدِئًا
، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ
وَالْأَخْبَارِ .
وَيَكُونُ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ ذَلِكَ كَمَالُ السُّنَّةِ وَأَفْضَلُهَا .
وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ سُنَّةٌ مَفْضُولَةٌ بِالنِّسْبَةِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَامْتِيَازِ
أَحَدِهِمَا وَهَذَا مُحْتَمَلٌ ، وَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ
عَمَّا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ لِلِاسْتِحْبَابِ قَالَ وَلَوْ عَكَسُوا
جَازَ وَكَانَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ قَالَ : وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ
أَنَّهُ يَأْتِي بِالْجَوَابِ بِصِيغَةِ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَأْتِي
الْمَسْأَلَةُ .
لَكِنْ فَكَيْفَ يَقُولُ حَصَلَ الْمَسْنُونُ
وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَفْرُوضُ ؟ وَيَقُولُ إذْ هُوَ مُبْتَدِئٌ إنَّمَا
يَكُونُ مُجِيبًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ :
إنْ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فَقَدْ أَمِنَهُ ، فَالْفَارِسُ أَقْوَى مِنْ
الرَّاجِلِ فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَلَامِ الْأَقْوَى عَلَى
الْأَضْعَفِ ، وَسَلَامُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ أَقَلُّ حَرَجًا
وَلَوْ سَلَّمَ الْغَائِبُ عَنْ الْعَيِّنِ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ
سِتْرٍ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ أَوْ سَلَّمَ الْغَائِبُ عَنْ
الْبَلَدِ بِرِسَالَتِهِ أَوْ كِتَابِهِ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ عِنْدَ
الْبَلَاغِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ
الْغَائِبِ كَذَلِكَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى
الرَّسُولِ قِيلَ لِأَحْمَدَ إنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ
عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَعَلَيْكَ
وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ أَبِي يُقْرِئُكَ
السَّلَامَ قَالَ : عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ } وَقَالَ
الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ أَبِي مُوسَى قِيلَ لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ إنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ سَلَّمَ
اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ .
وَهُوَ مَعْنَى مَا سَبَقَ عِنْدَنَا
وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ
رَجُلٌ لِأَبِي ذَرٍّ فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ، فَقَالَ هَدِيَّةٌ
حَسَنَةٌ وَمَحْمَلٌ خَفِيفٌ .
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : وَيُسْتَحَبُّ
بَعْثُ السَّلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ ، وَهَذَا
يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ إذَا تَحَمَّلَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ
عَلَيْكِ السَّلَامَ فَقَالَتْ : وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ } .
زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ : وَبَرَكَاتُهُ زَادَ
أَحْمَدُ : جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ وَدَخِيلٍ فَنِعْمَ
الصَّاحِبُ وَنِعْمَ الدَّخِيلُ .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى مُبَلِّغِ السَّلَامِ وَهُوَ الرَّسُولُ .
وَفِيهِ تَرْخِيمُ الْمُنَادَى وَيَجُوزُ فَتْحُ آخِرِهِ وَهُوَ الشِّينُ هُنَا وَضَعَهُ .
وَمَعْنَى
" يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ " يُسَلِّمُ عَلَيْكِ قَالَ فِي شَرْحِ
مُسْلِمٍ وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ
الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ .
وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ { قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ
خَدِيجَةُ مَعَهَا إنَاءٌ فِيهِ إدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ ،
فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ
عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ
رَبِّهَا ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ ، لَا
صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَحْمَدَ
وَمُسْلِمٍ " فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي " ،
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ سِوَى هَذَا وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَ إبْلَاغَهُ
لَهَا ذَلِكَ وَرَدَّهَا الْجَوَابَ مَعَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ
بِوُجُوبِ رَدِّ سَلَامِ الْمَلَكِ وَوُجُوبِ الرَّدِّ مِنْهُ ، وَلَيْسَ
رَدُّ سَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَرَدِّ سَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ .
وَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ
قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّشَهُّدِ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ
عِبَادِهِ ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ ،
السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى
اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ
لِلَّهِ } الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَنَهَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَنْ السَّلَامِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
السَّلَامُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَأَظُنُّ
أَنَّ فِي غَرِيبِ مَا رُوِيَ أَنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
لَمَّا قِيلَ لَهَا قَالَتْ : اللَّهُ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ ،
وَهَذَا كَمَا فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ
السَّلَامُ } .
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَرَأَ وَفِيهِ " أَنَّ
الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ " يُقَالُ أَقْرِئْ
فُلَانًا السَّلَامَ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَأَنَّهُ حِينَ
يُبَلِّغُهُ سَلَامَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ
وَيَرُدَّهُ .
هَذَا لَفْظُ النِّهَايَةِ فِي فَصْلِ الْقَافِ مَعَ
الرَّاءِ وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ عَلَى
الشَّيْخِ يَقُولُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ
أَقْرَأَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ
قَالَ : { أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَجَّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا عِنْدِي مَا
أُحِجُّكِ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ
قَالَ : ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي تَقْرَأُ
عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ ، وَإِنَّهَا سَأَلَتْنِي
الْحَجَّ مَعَكَ .
فَقَالَتْ : أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ .
قَالَتْ : أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ .
فَقُلْتُ : ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ : أَمَا إنَّكَ لَوْ حَجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَإِنَّمَا
أَمَرَتْنِي مَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقْرِئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ
وَبَرَكَاتِهِ وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً يَعْنِي عُمْرَةً
فِي رَمَضَانَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُسَلِّمُ مَنْ انْصَرَفَ
بِحَضْرَةِ أَحَدٍ أَوْ أَتَى أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُمْ أَوْ دَخَلَ
بَيْتًا مَسْكُونًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ أَوْ لَقِيَ
صَبِيًّا أَوْ رَجُلًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ .
وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ
ذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ ،
وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْخُلُ إلَى السُّوقِ فَلَا يَمُرُّ بِأَحَدٍ إلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ .
فَقَالَ
لَهُ الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ
وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا
تَسُومُ بِهَا وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ ؟ فَقَالَ يَا أَبَا
بَطْنٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ إنَّمَا نَغْدُو
مِنْ أَجْلِ
السَّلَامِ وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّأِ ، وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ قَوْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ
لَقِيتَ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا
تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا
فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ }
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ وَمَنْ لَمْ
يَعْرِفْ أَنَّهُ يُكْثِرُ مِنْهُ وَيُفْشِيهِ وَيُشِيعُهُ ، لَا أَنَّهُ
يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ ، فَإِنَّ هَذَا فِي السُّوقِ
وَنَحْوِهِ يُسْتَهْجَنُ عَادَةً وَعُرْفًا .
وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ لَشَاعَ
وَتَوَاتَرَ وَنَقَلَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا
{ مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى
السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ } وَقَالَ الشَّاعِرُ : قَدْ يَمْكُثُ النَّاسُ
دَهْرًا لَيْسَ بَيْنَهُمْ وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطْفُ
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ
عَلَيْهِمْ تَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ : إنْ
سَلَّمَ بَالِغٌ عَلَى بَالِغٍ وَصَبِيٌّ رَدَّهُ الْبَالِغُ وَلَمْ
يَكْفِ رَدُّ الصَّبِيِّ ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِأَبِي
الْمَعَالِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ ،
وَيُتَوَجَّهُ ، يَخْرُجُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِأَذَانِهِ وَصَلَاتِهِ
عَلَى الْجِنَازَةِ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : وَالسَّلَامُ عَلَى
الصَّبِيِّ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْجَوَابِ
وَالْأَمْرِ بِهِ ، كَذَا قَالَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ
الْجَوَابَ ، وَيَرُدَّهُ الصَّبِيُّ
لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
، وَسَبَقَ كَلَامُهُمْ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يُشْرَعُ
السَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا يَرُدُّهُ ؟ وَكَيْفَ يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ
مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِرَدِّهِ ؟ وَلَعَلَّ مُرَادَ أَبِي الْمَعَالِي لَا
يَسْتَحِقُّ جَوَابًا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : فَإِنْ سَلَّمَ صَبِيٌّ
عَلَى بَالِغِينَ فَوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ مُخْرَجَانِ مِنْ
صِحَّةِ إسْلَامِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ يُسَلَّمُ
عَلَى الصَّبِيِّ أَيْ الْمُمَيِّزِ ، وَإِلَّا فَلَا يُسَلَّمُ عَلَى
مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ إذَا لَمْ
يُشْرَعْ السَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا يُشْرَعُ مِنْهُ الرَّدُّ لِعَارِضٍ
فَهُنَا مِثْلُهُ وَأَوْلَى ، وَيُتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامِ أَبِي
الْمَعَالِي يُشْرَعُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَجْنُونُ وَقَدْ
يَلْتَزِمُهُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِي
دُخُولِهِ أَعَادَهُ فِي خُرُوجِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ ،
وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي
وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ
أَحْمَدَ ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالدُّخُولُ آكَدُ اسْتِحْبَابًا .
وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ { إذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ
عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ
ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ } وَكَلَامُهُ فِي الرِّعَايَةِ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نَظَرٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَقَدَّمَ
أَنَّهُ لَا يُعِيدُ السَّلَامَ ثَانِيًا وَقِيلَ : بَلَى ، وَمَنْ دَخَلَ
بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ وَرَدَّ
هُوَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ وَيُعَايَا ،
بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ يَرُدُّ السَّلَامَ
وَيُتَوَجَّهُ مِنْهُ تَخْرِيجٌ فِيمَنْ عَطَسَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ
أَحَدٌ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي ، وَظَاهِرُ كَلَامِ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتًا مَسْكُونًا
يُسَلِّمُ لَا خَالِيًا ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ .
وَرَوَى
سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَانَ إذَا
دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَلَمْ يَرُدَّ ابْنُ عُمَرَ السَّلَامَ
عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ
الْهَدِيَّةِ : إذَا دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا أَوْ مَسْجِدًا خَالِيًا
فَلْيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ } .
كَذَا قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ
أَقْوَالٌ قِيلَ : بُيُوتُ أَنْفُسِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ
وَعِيَالِكُمْ ، وَقِيلَ الْمَسَاجِدُ فَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا ،
وَقِيلَ الْمَعْنَى إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا
عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَقَوْلِ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ مَنْ قَالَ مِنْ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي
تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ .
وَإِنْ
دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عُلَمَاءُ سَلَّمَ عَلَى الْكُلِّ ثُمَّ
سَلَّمَ عَلَى الْعُلَمَاءِ سَلَامًا ثَانِيًا ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ
وَابْنُ حَمْدَانَ وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ خِلَافُهُ وَيُتَوَجَّهُ
كَمَا ذَكَرَ الْقَرِيبَ وَالصَّالِحَ وَنَحْوَهُمَا .
وَيَجُوزُ
تَعْرِيفُ السَّلَامِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ، وَتَنْكِيرُهُ عَلَى
الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ
وَغَيْرِهَا وَقِيلَ تَنْكِيرُهُ أَفْضَلُ وَقَالَ ابْنُ الْبَنَّاءِ
سَلَامُ التَّحِيَّةِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْوَدَاعِ مُعَرَّفٌ وَقَالَ
ابْنُ عَقِيلٍ سَلَامُ الْأَحْيَاءِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْأَمْوَاتِ
مُعَرَّفٌ ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَقِيلَ
عَكْسُهُ ، أَمَّا سَلَامُ الرَّدِّ فَمُعَرَّفٌ وَجَعَلَهُ صَاحِبُ
النَّظْمِ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ فَدَلَّ أَنَّ تَعْرِيفَهُ
لِلِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ : { أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُلْتُ
عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا تَقُلْ عَلَيْكَ
السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى }
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابَ
كَرَاهِيَةِ أَنْ يَقُولَ : عَلَيْكَ السَّلَامُ .
وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
يُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَجِبُ الرَّدُّ
لِأَنَّهُ سَلَامٌ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْخَبَرِ
الْمَذْكُورِ { إذَا لَقِيَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلْ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ } ثُمَّ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ " فَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا
يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِهِ ، وَيُجَابُ لَكِنْ لَا عَلَى
الْوُجُوبِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَحِيَّةٍ
شَرْعِيَّةٍ ، وَرَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيُبَيِّنَّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الرَّدُّ ، أَوْ اسْتِحْبَابًا لَكِنْ
فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَا مُطْلَقًا ، وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ
بَعْدَهُ كَلَامُ أَبِي الْمَعَالِي قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ : إنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ إشَارَةً مِنْهُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ
بَيْنَهُمْ فِي تَحِيَّةِ الْأَمْوَاتِ إنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ
اسْمَ الْمَيِّتِ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ مَذْكُورٌ كَثِيرٌ فِي
أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ
بْنَ عَاصِمِ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا قَالَ فِي
النِّهَايَةِ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ عَلَى
الْقَوْمِ يَتَوَقَّعُ الْجَوَابَ وَأَنْ يُقَالَ لَهُ عَلَيْكَ
السَّلَامُ ، فَلَمَّا كَانَ الْمَيِّتُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ جَوَابٌ
جَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ كَالْجَوَابِ .
وَقِيلَ أَرَادَ
بِالْمَوْتَى كُفَّارَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ وَهَذَا فِي الدُّعَاءِ
بِالْخَيْرِ وَالْمَدْحِ فَأَمَّا فِي الشَّرِّ وَالذَّمِّ فَيُقَدَّمُ
الضَّمِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي } .
وَقَوْلِهِ { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } وَفِي
الصَّحِيحِ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِعَقَبَةَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَقَالَ :
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا قَالَ فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي
قَبْرِهِ ثَلَاثًا كَمَا كَرَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
لَمْ
يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا هَذَا السَّلَامَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ، بَلْ
ذَكَرُوا كَمَا فِي الْأَخْبَارِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَوْلَى وَلَمْ
يَذْكُرُوا أَيْضًا تَكْرَارَهُ وَلَعَلَّ هَذَا رَأْيٌ لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ
تَكْرَارُهُ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَلِلْبُخَارِيِّ
عَنْ { جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ ، قَالَ : فَأَتَيْتُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ
يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ
فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ وَجَدَ عَلَيَّ أَنْ أَبْطَأْتَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ
سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ
مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ
وَقَالَ : إنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ
أُصَلِّي وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
} .
وَلِمُسْلِمٍ { أَنَّهُ أَوْمَأَ بِيَدِهِ } ، وَفِي هَذَا
الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّ
السَّلَامِ مَانِعٌ أَنْ يَعْتَذِرَ إلَى الْمُسَلِّمِ ( وَيَذْكُرَ )
الْمَانِعَ لَهُ ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا
أَبُو شِهَابٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " إنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْعَبْدَ
إذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ
فَضْلُ دَرَجَةٍ أَنْ ذَكَّرَهُمْ السَّلَامَ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا
عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ " .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي فَضْلِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ ) حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ
وَهْبٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
أَوْلَى النَّاسِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ } حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَأَبُو
عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ وَأَبُو خَالِدٍ وَهْبُ بْنُ خَالِدٍ
وَأَبُو سُفْيَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ وَحَسَّنَهُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ .
فَصْلٌ ( فُرُوعٌ فِي السَّلَامِ وَرَدِّهِ بِاللَّفْظِ وَبِالْإِشَارَةِ ) .
إذَا
الْتَقَيَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَأَ صَاحِبَهُ بِالسَّلَامِ
فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِجَابَةُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَجِيهُ
الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ
وَقَالَ الشَّاشِيُّ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ
كَانَ جَوَابًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَا قَالَهُ
صَحِيحٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ كَمَا هُوَ
ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ وَصَاحِبِ
النَّظْمِ قَالَ وَجِيهُ الدِّينِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : وَلَوْ
قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ
ابْتِدَاءً لَا جَوَابًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ لِأَنَّ هَذِهِ
صِيغَةُ جَوَابٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا .
وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى
أَصَمَّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ
لَمْ يَجِبْ الْجَوَابُ ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَصَمُّ جَمَعَ بَيْنَ
اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ فِي الرَّدِّ وَالْجَوَابِ ، فَأَمَّا
الْأَخْرَسُ فَسَلَامُهُ بِالْإِشَارَةِ وَكَذَلِكَ جَوَابُ الْأَخْرَسِ .
وَيُؤْخَذُ
مِنْ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى أَخْرَسَ أَوْ
رَدَّ سَلَامَهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ وَهُوَ
مُتَوَجَّهٌ وَالْوَاجِبُ مِنْهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ قَدْرَ
الْإِبْلَاغِ وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا .
قَالَ
قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { زَارَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا
فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ
خَفِيًّا ، فَقُلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ قَالَ ذَرْهُ ثُمَّ
ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا يُكْثِرُ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ
أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ
عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ } ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، فَوُجِّهَ مِنْهُ أَنَّهُ
اكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ سَعْدٍ هَذَا حَيْثُ
لَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدٍّ يَسْمَعُهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَذَا
الرَّدَّ .
وَيَنْبَغِي فِي هَذَا أَنْ يُنْظَرَ إلَى الْحَالِ فَإِنْ
أَفْضَى الرَّدُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَفْسَدَةٍ تَعَيَّنَ مَا قَالَ
الْأَصْحَابُ .
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ
النُّعْمَانِ قَالَ : { مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ جَالِسٌ فِي الْمَقَاعِدِ
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَزْتُ فَلَمَّا رَجَعْتُ وَأَبْصَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هَلْ رَأَيْتَ
الَّذِي كَانَ مَعِي قُلْتُ نَعَمْ قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ
رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ } .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ وَرُبَّمَا آذَى .
وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجِيءُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ
تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا ، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ } .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ
الْمَرَضُ كَانَ رُبَّمَا أَذِنَ لِلنَّاسِ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ
أَفْوَاجًا فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِيَدِهِ .
وَاخْتُلِفَ
فِي مَعْنَى السَّلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد
وَسَيَأْتِي ، فَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيْ اسْمُ السَّلَامِ
عَلَيْكَ ، وَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَيْ أَنْتَ فِي حِفْظِهِ
كَمَا يُقَالُ اللَّهُ يَصْحَبُكَ وَاَللَّهُ مَعَكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ أَيْ السَّلَامَةُ مُلَازِمَةٌ لَكَ .
فَصْلٌ ( فِي قَوْلِ كَيْفَ أَمْسَيْتَ كَيْفَ أَصْبَحَتْ ؟ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ ) .
قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَدَقَةَ وَهُمْ فِي
جِنَازَةٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ أَمْسَيْتَ ؟ فَقَالَ لَهُ :
مَسَّاكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَقَالَ أَيْضًا لِلْمَرُّوذِيِّ : وَقْتَ
السَّحَرِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ وَقَالَ إنَّ أَهْلَ
مَكَّةَ يَقُولُونَ إذَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ يُرِيدُ بَعْدَ النَّوْمِ
كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ : صَبَّحَكَ اللَّهُ
بِخَيْرٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ
بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ ( قَوْلَهُ فِي
السَّلَامِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ ) .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ : كَيْفَ
أَصْبَحْتُمْ ؟ } وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ عَلَى
الْعَبَّاسِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا وَعَلَيْكَ
السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ قَالَ : كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ
؟ قَالُوا بِخَيْرٍ نَحْمَدُ اللَّهَ ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ بِأَبِينَا
وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : أَصْبَحْتُ بِخَيْرٍ
أَحْمَدُ اللَّهَ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قُلْتُ : { كَيْفَ
أَصْبَحْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ
يُصْبِحْ صَائِمًا وَلَمْ يَعُدْ سَقِيمًا } وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُسْلِمٍ بْنِ هُرْمُزَ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ
الْقَاضِي الْكَبِيرِ عِنْدَ كِتَابِ النُّذُورِ : رَوَى أَبُو بَكْرٍ
الْبَرْقَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَقِيتُ رَجُلًا فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ
فِيكَ ، لَقُلْتُ وَفِيكَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ
بِنَحْوِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ ؟ بَدَلًا مِنْ
السَّلَامِ ، وَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ
كَانَ السَّلَامُ وَجَوَابُهُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ .
وَقَدْ اسْتَحَبَّ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ
الْقِيَامَ لِمَنْ يَصْلُحُ الْقِيَامُ لَهُ لَمَّا صَارَ تَرْكُ
الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ بِالشَّخْصِ ، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ عَقِيلٍ
وَغَيْرُهُ الدُّعَاءَ لِلْمُتَجَشِّئِ إذَا حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ :
إنَّهُ لَا سُنَّةَ فِيهِ بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَمَعْلُومٌ
أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سُنَّةٌ كَانَتْ كَذَلِكَ
أَوْ أَوْلَى لِشُهْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ هُنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ،
فَأَمَّا مَعَ السُّنَّةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ
الْمُتَقَدِّمِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، ثُمَّ هَلْ يَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ ؟
بِتَوَجُّهِ أَنْ يُقَالَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ
اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فَإِنَّهُمْ خَصُّوا
الْوُجُوبَ بِرَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِرَدِّ السَّلَامِ
وَإِفْشَائِهِ يَخُصُّهُ فَلَا يَتَعَدَّاهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ
آدَمَ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا
تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ، فَذَهَبَ فَقَالَ : السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ فَقَالُوا : السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ } فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ
أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سِوَى هَذَا لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ
شَرْعِيَّةٍ ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ ظَاهِرُ تَسْوِيَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ السَّلَامِ عَلَى
الذِّمِّيِّ فِي الْمَنْعِ أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَاهُ مِنْ التَّحِيَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالْإِكْرَامِ أَوْ أَوْلَى
كَمَا سَبَقَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ وَهَذَا أَخَصُّ
مِنْ مَأْخَذِ عَدَمِ الْوُجُوبِ مِمَّا سَبَقَ وَقَدْ ذَكَرَهُ
الْأَصْحَابُ وَعَمِلُوا بِهِ فَكَانَ أَوْلَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا } .
وَمِثْلُ هَذَا تَحِيَّةٌ لِوُرُودِهِ فِي كَلَامِ
الشَّارِعِ وَحَمَلَةِ الشَّرْعِ ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ
وَالْأَصْلَ التَّقْرِيرُ
وَعَدَمُ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ السَّلَامُ
وَالدُّعَاءُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } .
قَالَ
مُقَاتِلٌ وَعُمَرُ وَابْنُ مُرَّةَ : تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ
التَّطْفِيفِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَلَمْ
يَنُصَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ } وَإِخْرَاجُ مَسْأَلَتِنَا مِنْ
ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ
وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الرَّدِّ لَا سِيَّمَا مَعَ
التَّكْرَارِ عَدَاوَةً وَشَنَآنًا وَوَحْشَةً وَنَفْرَةً عَلَى مَا لَا
يَخْفَى فَيَجِبُ الرَّدُّ لِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ
بِالْمَحَبَّةِ وَالِائْتِلَافِ .
وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ .
فَإِنْ
قِيلَ يَزُولُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَحْذُورِ بِإِعْلَامِ قَائِلِ ذَلِكَ
أَنَّ مَا قَالَهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ
مُحْدَثَةٌ لِيُوَطَّنَ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ
وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ قِيلَ فَهَذَا الْإِعْلَامُ وَاجِبٌ ؟ فَإِنْ لَمْ
يَجِبْ جَازَ تَرْكُهُ وَبَقِيَ الْمَحْذُورُ ، وَإِنْ وَجَبَ فَمَنْ
أَوْجَبَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا دَلِيلُهُ شَرْعًا ؟ ثُمَّ مَا
الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَأَنَّهُ
بِدْعَةٌ ؟ وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ ضَلَالَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَمْ
يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ .
ثُمَّ قَدْ سَبَقَ
الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَحِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا بِدْعِيَّةٌ وَأَنَّ
مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالْمَعْرُوفِ
وَكِلَاهُمَا صَدَقَةٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَعَ الْإِحْسَانِ ، وَالشَّرْعِ قَدْ أَمَرَ بِمُجَازَاةِ
ذَلِكَ وَمُكَافَأَتِهِ ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ إلَّا مَا دَلَّ
دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ،
وَيُؤَيِّدُ
مَا سَبَقَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ وَلِهَذَا
لَمَّا تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةً قَالُوا لَهُ :
بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ .
فَقَالَ لَا تَقُولُوا هَكَذَا وَلَكِنْ
قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ مَعْنَاهُ ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ لَا
تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ، { قُولُوا بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيكَ
وَبَارَكَ لَكَ فِيهَا } قَالَ فِي النِّهَايَةِ الرِّفَاءُ الِالْتِئَامُ
وَالِاتِّفَاقُ وَالْبَرَكَةُ وَالنَّمَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ رَفَأْتُ
الثَّوْبَ رَفْئًا وَرَفَوْتُهُ رَفْوًا وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ
كَرَاهِيَةً لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَاتِهِمْ وَلِهَذَا سُنَّ فِيهِ
غَيْرُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ مَعَ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَلَامًا
وَبَعْضُهُ فِي حَوَاشِي الْأَحْكَامِ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
وَهْبٍ دَعَوْتُ يُونُسَ بْنَ زَيْدٍ فِي عُرْسِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ
سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ فِي عُرْسٍ لِصَاحِبِهِ بِالْجَدِّ
الْأَسْعَدِ وَالطَّائِرِ الْأَيْمَنِ قَالَ وَهَذِهِ تَهْنِئَةُ أَهْلِ
الْحِجَازِ .
وَلِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ الِابْتِدَاءِ يَقُولُ
عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَمَعَ هَذَا رَدَّهُ أَبُو دَاوُد وَقَدْ قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ عَلَى الصَّحِيحِ
الْمَشْهُورِ وَأَوْجَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ رَدَّهُ مَعَ أَنَّهُ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ عُرْفٌ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ
حَمَلَةِ الشَّرْعِ فَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى وَهَذَا الْقَوْلُ
بِالْوُجُوبِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَإِنَّهُ قَالَ
يَجِبُ الْعَدْلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَيَجِبُ لِكُلِّ
أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ وَلِشُمُولِ الْعَدْلِ لِكُلٍّ قَالَ
تَعَالَى : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } .
قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ الْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ يَعْنِي أَنَّ الْمُحْسِنَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْزَى
بِالْإِحْسَانِ
وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا لِأَنَّهُ مِنْ الْعَدْلِ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } .
فَرَدُّ مِثْلِهَا عَدْلٌ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ ، وَالتَّحِيَّةُ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فَضْلٌ وَالْفَضْلُ مُسْتَحَبٌّ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي "
عَلَيْكُمْ السَّلَامُ " مَا سَبَقَ وَقَالَ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا
يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِصِحَّةِ النَّهْيِ فِي
عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَلَا نَهْيَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَإِنْ كَانَ
فَلِلتَّأْدِيبِ لِيَتَعَلَّمَ السَّلَامَ الْمَشْهُورَ وَلِهَذَا لَا
يُقَالُ بِالْكَرَاهَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا بَلْ قَدْ يُقَالُ : تَرَكَ
الْأَوْلَى .
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ
مَأْخُوذَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي النَّهْيِ عَنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ
، وَمَا هِيَ ؟ ) قَالَ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَبِ مِنْ سُنَنِهِ
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَنْبَأْنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ { عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي : الْجَاهِلِيَّةِ : أَنْعَمَ اللَّهُ
بِكَ عَيْنًا .
وَأَنْعَمَ صَاحِبًا فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ
نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ } قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ مَعْمَرٌ يُكْرَهُ
أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا ، وَلَا بَأْسَ
أَنْ يَقُولَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَيْنَيْكَ .
فَهَذِهِ مِنْ أَبِي
دَاوُد تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ
إمَامِنَا أَحْمَدَ فَاخْتِيَارُهُ يُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِهِ كَاخْتِيَارِ
غَيْرِهِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ هَذَا غَيْرُهُ
إنْ كَانَ ذِكْرُ قَتَادَةَ مَحْفُوظًا فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
عِمْرَانَ ، وَغَيْرِ قَتَادَةَ مَجْهُولٌ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ : وَلَا تَقُلْ نَعِمَ
اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْعَمُ بِأَحَدٍ عَيْنًا
وَلَكِنْ قُلْ أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ
الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ مُطَرِّفٌ صَحِيحٌ ( فَصِيحٌ ) فِي كَلَامِهِمْ ،
وَعَيْنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ الْكَافِ ، وَالْبَاءُ
لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى نَعَّمَكَ اللَّهُ عَيْنًا أَيْ نَعَّمَ
عَيْنَكَ وَأَقَرَّهَا .
وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَارَّ وَيُوصِلُونَ
الْفِعْلَ فَيَقُولُونَ نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا وَأَمَّا أَنْعَمَ
اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ
كَافِيَةٌ فِي التَّعْدِيَةِ تَقُولُ نَعِمَ زَيْدٌ عَيْنًا وَأَنْعَمَهُ
اللَّهُ عَيْنًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنْعَمَ إذَا دَخَلَ فِي
النَّعِيمِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ ( قَالَ ) وَلَعَلَّ مُطَرِّفًا خُيِّلَ
إلَيْهِ أَنَّ انْتِصَابَ الْمُمَيِّزِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَنْ
الْفَاعِلِ فَاسْتَعْظَمَهُ تَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَوَاسِّ
عُلُوًّا كَبِيرًا كَمَا يَقُولُونَ نَعِمْتُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَيْنًا
وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ ، فَحَسِبَ أَنَّ الْأَمْرَ
فِي نَعِمَ
اللَّهُ بِكَ عَيْنًا كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ
أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ مِنْ النُّعُومَةِ وَأَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ
عَيْنًا أَيْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ ، وَكَذَلِكَ
نَعِمَ اللَّهُ .
بِكَ عَيْنًا نِعْمَةً مِثْلُ غَلِمَ غُلْمَةً وَنَزِهَ نُزْهَةً وَنِعَمَكَ عَيْنًا مِثْلَهَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَيُتَوَجَّهُ
أَنَّ النَّهْيَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ إمَّا لِأَنَّهُ كَلَامٌ
جَاهِلِيٌّ فَيَنْبَغِي هَجْرُهُ وَتَرْكُهُ ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ
رُبَّمَا جَعَلُوهُ عِوَضًا وَبَدَلًا مِنْ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ (
السَّلَامُ ) لِاعْتِيَادِهِمْ لَهُ وَإِلْفِهِمْ إيَّاهُ ، فَنُهُوا عَنْ
ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( يُكْرَهُ قَوْلُ أَبْقَاكَ اللَّهُ فِي السَّلَامِ ) .
قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ : كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ أَبْقَاك اللَّهُ .
أَنْبَأَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي إذَا
دُعِيَ لَهُ بِالْبَقَاءِ يَكْرَهُهُ وَيَقُولُ هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ
مِنْهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ جِئْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِكِتَابٍ مِنْ
خُرَاسَانَ فَإِذَا عِنْوَانُهُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَبْقَاهُ اللَّهُ
فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ أَيْشٍ هَذَا ؟ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ
مِنْ الْأَئِمَّةِ .
وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ
فِي هَذَا بِحَدِيثِ { أُمِّ حَبِيبَةَ لَمَّا سَأَلَتْ أَنْ يُمَتِّعَهَا
اللَّهُ بِزَوْجِهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِأَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِيهَا مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكِ سَأَلْتِ
اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ
مَقْسُومَةٍ ، لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حِلِّهِ ، وَلَا
يُؤَخَّرُ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ حِلِّهِ ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ
يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ
خَيْرًا لَكِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ { وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ } فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى { وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ } ( حِلِّهِ ) بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَكَسْرِهَا .
وَعَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا { إنَّ الرَّجُلَ
لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ
الْقَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ
} رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ .
وَرَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ وَكِيعٍ ، كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ
الطَّالَقَانِيِّ
عَنْ يَحْيَى بْنِ الضُّرَيْسِ عَنْ أَبِي مَوْدُودٍ عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي
الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى وَأَبُو مَوْدُودٍ
هَذَا اسْمُهُ فِضَّةُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكُتَّابُ : وَمِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ
كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ
سُلَيْمَانَ لَا أَدْرِي مِمَّنْ أَخَذُوا هَذَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ
أَجَلُّ الدُّعَاءِ وَنَحْنُ نَدْعُو رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى غَيْرِ
هَذَا ، وَمَعَ هَذِهِ فَفِيهِ انْقِلَابُ الْمَعْنَى قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ إنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَعْرَفَ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ مِنْهُ سَيُسِيءُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ
لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَةِ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا
وَمِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ،
وَقَدْ حَكَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ دُعَاءٌ مُحْدَثٌ ،
وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كُلَّهَا
لَا يُوجَدُ فِيهَا هَذَا الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا :
رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يُنْكِرُ كَتْبَهُمْ أَطَالَ اللَّهُ
بَقَاءَ سَيِّدِي وَقَالَ هَذَا دُعَاءُ الْغَائِبِ وَهُوَ جَهْلٌ
بِاللُّغَةِ ، وَنَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُخَاطَبَةِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ
أَجَلُّ الدُّعَاءِ لِأَنَّ الْعِزَّ وَمَا بَعْدَهُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ
بِهِ مَعَ طُولِ الْبَقَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَفْخَمُ الدُّعَاءِ
فَلِذَلِكَ قَدَّمُوهُ وَاتَّبَعُوهُ ، وَأَدَامَ عِزَّكَ لِأَنَّهُ إذَا
دِيمَ عِزُّهُ كَانَ مَحُوطًا مَصُونًا غَالِبًا لِعَدُوِّهِ آمِنًا
غَنِيًّا فَاتَّبَعُوهُ ، " وَتَأْيِيدَكَ " .
لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَزَادَ مِمَّا
دَعَوْتُ
لَكَ بِهِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَيَّدَهُ أَيْ قَوَّاهُ " وَسَعَادَتَكَ "
أَصْلُهُ مِنْ الْمُسَاعَدَةِ أَيْ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى مَا يُرِيدُهُ .
وَهَذَا
كُلُّهُ أَجَلُّ مِنْ " وَأَكْرَمَكَ " لِأَنَّهُ قَدْ يُكْرَمُ وَلَا
يُسَاعَدُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ أَعَزَّكَ جَلِيلًا ثُمَّ حَدَثَ
وَتَأْيِيدُكَ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ
أَنْ يُكْتَبُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ
حَبِيبَةَ يَعْنِي الْمَذْكُورَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو { اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِهِ }
وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ بَدْرٍ وَفَاةً .
وَبِحَدِيثِ
عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقُولُ { اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي } كَذَا قَالَ فِي
حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا بِحَضْرَتِي الْآنَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ { وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ
مِنِّي } .
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا
بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا
وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي } وَذُكِرَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي وَعَافِنِي فِي بَصَرِي
وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ
وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ
مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْئًا .
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ
فِي دُعَائِهِ { اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ
سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ
وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي
فِي سَبِيلِكَ } رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَأَمَّا مَا أَشْكَلَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ الْعُمُرَ
قَدْ
فُرِغَ مِنْهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُعَلَّقٌ بِمَا فِيهِ
الصَّلَاحُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَكَذَا أَنْسَأَ اللَّهُ
فِي أَجَلِكَ وَنَسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ قَالَ وَقِيلَ الدُّعَاءُ بِهَذَا
مَعْنَاهُ التَّوْسِعَةُ وَالْغِنَى وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
أَنَّ مُكَاتَبَةَ الْمُسْلِمِينَ : كَانَتْ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ
سَلَامٌ عَلَيْكَ ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللَّهَ
الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى
مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ .
ثُمَّ إنَّ الزَّنَادِقَةَ
أَحْدَثُوا هَذِهِ الْمُكَاتَبَاتِ ، أَوَّلُهَا أَطَالَ اللَّهُ
بَقَاءَكَ وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ يُدْعَى لِلْخُلَفَاءِ الْغَابِرِينَ
أَمَّا بَعْدُ حَفِظَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْتَعَ بِهِ ،
وَأَمَّا بَعْدُ أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ، وَأَمَّا بَعْدُ أَكْرَمَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَحَفِظَهُ وَزَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ رَسَمَ الدُّعَاءَ مُعَاوِيَةُ
كَتَبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ : عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ
السُّوءِ .
ثُمَّ زَادَ النَّاسُ .
فَمِمَّا يُكَاتَبُ بِهِ مَا
ذَكَرْنَاهُ فَمَنْ يَسْتَحْسِنُ أَنْ يُكَاتِبَ بِطُولِ الْبَقَاءِ
فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَكِنْ يُضَمِّنُهُ بِشَيْءٍ
آخَرَ فَيَكْتُبُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فِي طَاعَتِهِ وَسَلَامَتِهِ
وَكِفَايَتِهِ ، وَأَعْلَى جَدَّكَ وَصَانَ قَدْرَكَ وَكَانَ مَعَكَ
وَلَكَ حَيْثُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِكَ .
وَكَذَا يَكْتُبُ أَطَالَ
اللَّهُ بَقَاءَكَ فِي أَسَرِّ عَيْشٍ وَأَنْعَمِ بَالٍ ، وَخَصَّكَ
مِنْهُ بِالتَّوْفِيقِ بِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَحَيَّاكَ بِرُشْدِهِ ،
وَقَطَعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ بِلُطْفِهِ .
وَمَنِّهِ ،
أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ بِمَا أَطَالَ بِهِ بَقَاءَ الْمُطِيعِينَ
وَأَعْطَاكَ مِنْ الْعَطَاءِ بِمَا أَعْطَى الْمُصْلِحِينَ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ لَا يُضَمِّنُهُ بِشَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ يَدْعُو بِغَيْرِ دُعَاءِ
الْكُتَّابِ فَيَقُولُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ وَأَكْرَمَ مَثْوَاكَ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَجِيزُ الدُّعَاءَ بِطُولِ الْبَقَاءِ
وَيَكْتُبُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ
بِطَاعَتِهِ وَتَوَلَّاكَ بِحِفْظِهِ وَحُسْنِ كِلَاءَتِهِ ، وَأَسْعَدَكَ بِمَغْفِرَتِهِ ، وَأَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ .
وَجَمَعَ
لَكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِرَحْمَتِهِ ، وَفِي مِثْلِهِ :
تَوَلَّاكَ اللَّهُ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ
إلَّا بِإِذْنِهِ وَكَانَ لَكَ مَنْ هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ ، وَمِثْلُهُ : أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَ عَنْ النَّارِ
وَجْهَكَ ، وَزَيَّنَ بِالتَّقْوَى عَمَلَكَ وَمِثْلُهُ أَكْرَمَكَ
اللَّهُ كَرَامَةً تَكُونُ لَكَ فِي الدُّنْيَا عِزًّا ، وَفِي الْآخِرَةِ
مِنْ النَّارِ حِرْزًا .
وَسُئِلَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَعْنَى "
أَمَّا بَعْدُ " فَذَكَرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ : مَهْمَا يَكُنْ مِنْ
شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي حَدِيثٍ وَأَرَادَ
أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ قَالَ أَمَّا بَعْدُ وَعَلَى هَذَا
النَّحْوِيُّونَ وَلِهَذَا لَمْ يُجِيزُوا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَمَّا
بَعْدُ ، وَقِيلَ أَمَّا بَعْدُ .
فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيهِ
دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ ،
وَقِيلَ بَلْ هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ
بِهِ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْعُرُوبَةُ ، وَأَجَازَ
الْفَرَّاءُ أَمَّا بَعْدًا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ ، وَأَمَّا بَعْدٌ
بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ ، وَأَجَازَ ابْنُ هِشَامٍ أَمَّا بَعْدَ
بِفَتْحِ الدَّالِ ، وَيَقُولُ أَمَّا بَعْدُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ
فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي كَذَا وَأَجْوَدُ مِنْهُ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي
نَظَرْتُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ .
وَلَك أَنْ تَقُولَ أَمَّا
بَعْدُ فَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ إنِّي ، وَفَإِنِّي ، وَإِنِّي ،
وَثُمَّ إنِّي ، وَأَمَّا بَعْدُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَإِنِّي ،
وَأَمَّا بَعْدُ ثُمَّ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ثُمَّ إنِّي ،
وَبَقَاؤُكَ مَصْدَرٌ مِنْ بَقِيَ ، وَإِنْ أَخَذْتُهُ مِنْ أَبْقَى
قُلْتُ أَبْقَاكَ اللَّهُ فَإِنْ ثَنَّيْتَ بَقَاءً أَوْ جَمَعْتَهُ
قُلْتَ بَقَاءَكُمَا وَبَقَاءَكُمْ وَبَقَاءَكُنَّ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ
وَإِنْ جَعَلْتَ بَقَاءً مُخَالِفًا لِبَقَاءٍ قُلْتَ
بَقَاءً كَمَا وَأَبْقَيْتُمْ .
وَيُكْتَبُ
فِي الدُّعَاءِ الْآخَرِ وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ بِالْوَاوِ ،
وَالْفَائِدَةُ فِي الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّكَ لَمْ
تَضْرِبْ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ حَذَفْتَهَا جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ
أَنَّكَ قَدْ أَضْرَبْتَ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ
النَّحْوِيِّينَ فِي الْفَائِدَةِ فِي الْمَجِيءِ بِوَاوِ الْعَطْفِ مَعَ
الْجُمَلِ ، وَإِنَّ حَذْفَهَا أَيْضًا جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ
الْمَعْنَى .
وَكَذَا وَحَسْبِي اللَّهُ ، وَإِنْ شِئْتَ حَذَفْتَ
الْوَاوَ ، فَأَمَّا حَسْبُنَا اللَّهُ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ بِهِ
الْجَلِيلُ مِنْ النَّاسِ .
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ حَسْبِي اللَّهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَيَسْتَعْمِلُ
ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ مَعْنَى هَذَا فَيَقُولُ حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ
الْأَجَلِّ قَاضِي الْقُضَاةِ حَرَسَ اللَّهُ نِعَمَهُ وَأَطَالَ عُمُرَهُ
.
وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَلَسَ إلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ فَقَالُوا لَا بَأْسَ
بِهِ فَقَالَ رَجُلٌ إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمَوْءُودَةُ
الصُّغْرَى ، فَقَالَ عَلِيٌّ لَا يَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ
عَلَيْهِ التَّارَاتُ السَّبْعُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ
ثُمَّ تَكُونَ نُطْفَةً ثُمَّ تَكُونَ عَلَقَةً ثُمَّ تَكُونَ مُضْغَةً
ثُمَّ تَكُونَ عَظْمًا ثُمَّ تَكُونَ لَحْمًا ثُمَّ تَكُونَ خَلْقًا آخَرَ
، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ قَالَ بَعْضُ
مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ عَلَى
جَوَازِ الدُّعَاءِ لِلرَّجُلِ بِطُولِ الْبَقَاءِ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهِيَةِ قَوْلِ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ فِي الدُّعَاءِ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ ( كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي الدُّعَاءِ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ
) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ
سُفْيَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ قَالَ أَحْمَدُ
لَا أَدْرِي مَا هَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ إِسْحَاقُ
بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ .
فَصْلٌ ( قَوْلُهُمْ فِي السَّلَامِ وَالْكِتَابِ جُعِلْت فِدَاءَكَ وَفِدَاكَ أُمِّي وَأَبِي وَنَحْوُهُ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ ( كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ )
قَالَ بِشْرُ بْنُ مُوسَى سَأَلَ رَجُلٌ وَأَنَا أَسْمَعُ لِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ فَقَالَ : لَا تَقُلْ هَكَذَا فَإِنَّ
هَذَا مَكْرُوهٌ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مِنْهُمْ مَنْ
كَرِهَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى
عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْلَى مِنْهُ لِصِحَّةِ غَيْرِهِ
ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاءَك ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ غَيْرِهِ قَالَ وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ
: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ
وِقَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي ذَرٍّ
أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
لَيْلَةٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك مَرَّتَيْنِ } فِي الْخَبَرِ الَّذِي
فِيهِ { أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ
لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ
وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قُلْت وَإِنْ
سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ } .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ ( قَوْلُهُ فِي السَّلَامِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ) قَالَ
ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ
الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَوْلُهُمْ قَالَ أَكْرَهُ
أَنْ يَقُولَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ
فِدَاك أَبِي وَأُمِّي .
وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلزُّبَيْرِ
وَسَعْدٍ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي } وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِدَاءٍ
حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ بِرٌّ
وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ ، وَكَرِهَهُ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْدِيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ بِأَبَوَيْهِ .
وَقَالَ
أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ )
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادٍ وَعَنْ مُسْلِمٍ
عَنْ هِشَامٍ جَمِيعًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقُلْت لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَأَنَا فِدَاؤُكَ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
{ وَنَادَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا وَقَالَ لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُك } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ
رِوَايَةِ أَبِي هَمَّامٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ
يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا الْحَدِيثَ وَصَحَّ أَنَّ { أَبَا
قَتَادَةَ لَزِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
حَفِظَك اللَّهُ بِمَا حَفِظْت بِهِ نَبِيَّهُ } وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ
بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو
دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ .
فَصْلٌ ( فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ عَلَى النَّاسِ ) .
يُسَنُّ
أَنْ يُسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ
قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَيَجُوزُ ثَلَاثًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ
جَمَاعَةٍ وَقِيلَ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي
مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ
الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ
ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ .
وَقَدْ
رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ إذَا دَخَلَ
أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ { أَنَّ رَجُلًا
سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى
أُمِّي قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا } ، مُرْسَلٌ
جَيِّدٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ( آيَةُ الْإِذْنِ ) وَإِنِّي
لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا
وَقِيلَ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا
أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ ؟ : { لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلَى : { وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قَالَ
إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَءُوفٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ التَّسَتُّرَ
وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ فَرُبَّمَا
دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ أَوْ
الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ
فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ
فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ .
الْحِجَالِ جَمْعُ حَجَلَةٍ بِالتَّحْرِيكِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يَسْتُرُ الثِّيَابَ وَلَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ
مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا } .
لِأَنَّ
الْبَالِغَ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَالطِّفْلَ وَالْمَمْلُوكَ
يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
أَيْضًا أَنَّ الْبُيُوتَ الْخَالِيَةَ هَلْ دَخَلَتْ فِي آيَةِ الْأَمْرِ
بِالِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } .
أَمْ
لَمْ تَدْخُلْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ آذِنٍ ،
فَإِذَا بَطَلَ الِاسْتِئْذَانُ لَمْ تَكُنْ الْبُيُوتُ الْخَالِيَةُ
دَاخِلَةً فِي الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَأَنَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ .
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك
إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي : { لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى
أَهْلِهَا } .
( وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا ) تَسْتَأْذِنُوا وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ .
وَلَا
يُوَاجِهُ الْبَابَ فِي اسْتِئْذَانِهِ لِأَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ
الْبَابَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { هَكَذَا عَنْك وَهَكَذَا
فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ النَّظَرِ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ { إذَا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إذْنَ } حَدِيثَانِ حَسَنَانِ
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ
وَإِلَّا زَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ سَمِعَ فَإِنْ
أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ فَلَا
يَقِفُ عَلَى الْبَابِ وَيُلَازِمُهُ لِلْآيَةِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا
فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ } وَقِيلَ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ
مُطْلَقًا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ ، وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ
سَعِيدٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ فَقَالَ إذَا
اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا رَجَعَ
وَالِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ ،
فَظَاهِرُهُ كَهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ حَمَلَ
الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ يَظُنَّ .
وَحَجَبَ مُعَاوِيَةُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمًا وَأَجْلَسَهُ عِنْدَ
بَابِهِ فَقِيلَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ يُفْعَلُ هَذَا بِك وَأَنْتَ
صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ
مَنْ يَأْتِي أَبْوَابَ السُّلْطَانِ يَقُمْ وَيَقْعُدْ .
وَاسْتَأْذَنَ
أَبُو سُفْيَانَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَبْطَأَ
إذْنَهُ فَقِيلَ : حَجَبَك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَا عَدِمْت
مِنْ قَوْمِي مَنْ إذَا شَاءَ حَجَبَ .
وَقَالَ مَرْوَانُ لِابْنِهِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ : يَا بُنَيَّ مُرْ حَاجِبَك
يُخْبِرْك مَنْ حَضَرَ بَابَك كُلَّ يَوْمٍ فَتَكُونُ أَنْتَ تَأْذَنُ
وَتَحْجُبُ ، وَآنِسْ مَنْ دَخَلَ إلَيْك بِالْحَدِيثِ فَيَنْبَسِطَ
إلَيْك ، وَلَا تُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ
الْأَمْرُ فَإِنَّك عَلَى الْعُقُوبَةِ أَقْدَرُ مِنْك عَلَى
ارْتِجَاعِهَا .
وَأَقَامَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ كِسْرَى فَلَمْ يُؤْذَنْ
لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ اُكْتُبْ كِتَابًا وَخَفِّفْهُ أُوصِلْهُ
لَك فَقَالَ لَا أَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْطُرٍ فَكَتَبَ فِي
السَّطْرِ الْأَوَّلِ الضَّرُورَةُ وَالْأَمَلُ أَقْدَمَانِي عَلَى
الْمَلِكِ ، وَفِي السَّطْرِ الثَّانِي لَيْسَ لِي صَبْرٌ عَلَى الطَّلَبِ
، وَفِي السَّطْرِ الثَّالِثِ الرُّجُوعُ بِلَا إفَادَةٍ شَمَاتَةُ
الْأَعْدَاءِ ، وَفِي السَّطْرِ الرَّابِعِ أَمَّا " نَعَمْ " مُثْمِرَةٌ
وَأَمَّا " لَا " مُؤَيِّسَةٌ فَوَضَعَ كِسْرَى تَحْتَ كُلِّ سَطْرٍ " ز "
فَانْصَرَفَ بِسِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
يَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ وَالْمَشْرَبُ الْعَذْبُ كَثِيرُ
الزِّحَامِ وَقَالَ آخَرُ : وَإِنِّي لَأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إذَا غَدَا
عَلَى طَمَعٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ وَأَرْثِي لَهُ مِنْ وَقْفَةٍ
عِنْدَ بَابِهِ كَمَرْثِيَّتِي لِلطِّرْفِ وَالْعِلْجُ رَاكِبُهْ كَتَبَ
رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ : إذَا كَانَ الْجَوَادُ
لَهُ حِجَابٌ فَمَا فَضْلُ الْجَوَادِ عَلَى الْبَخِيلِ فَأَجَابَهُ
عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ طَاهِرٍ : إذَا كَانَ الْجَوَادُ قَلِيلَ مَالٍ
وَلَمْ يُعَلِّلْ تَعَذَّرَ بِالْحِجَابِ وَقِيلَ لِحَاجِبٍ : سَأَتْرُكُ
بَابًا أَنْتَ تَمْلِكُ إذْنَهُ وَإِنْ كُنْت أَعْمَى مِنْ جَمِيعِ
الْمَسَالِكِ فَلَوْ كُنْت بَوَّابَ الْجِنَانِ تَرَكْتُهَا وَحَوَّلْتُ
رِجْلِي مُسْرِعًا نَحْوَ مَالِكِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ :
سَأَتْرُكُ هَذَا الْبَابَ مَا دَامَ إذْنُهُ كَعَهْدِي بِهِ حَتَّى
يَلِينَ قَلِيلَا وَمَا خَابَ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ مُتَعَمِّدَا وَلَا
فَازَ مَنْ قَدْ نَالَ مِنْهُ وُصُولَا وَمَا جُعِلَتْ أَرْزَاقُنَا
بِيَدِ امْرِئٍ حَمَى بَابَهُ مِنْ أَنْ يُنَالَ دُخُولَا إذَا لَمْ
أَجِدْ فِيهِ إلَى الْإِذْنِ سُلَّمَا وَجَدْت إلَى تَرْكِ الْمَجِيءِ
سَبِيلَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ رَفَعَ حَاجَةَ ضَعِيفٍ إلَى ذِي سُلْطَانٍ لَا
يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ
لِلَّهِ عِبَادًا خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ هُمْ الْآمِنُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
اُطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ } كَذَا يَذْكُرُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَحْسَنُ
أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ ضَعِيفَةً إنْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَكِنْ
لَوْ اعْتَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَمْ
يَذْكُرْهَا فِي التَّرْغِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي ذَلِكَ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } .
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا
يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ
اللَّهُ فِي
حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ
عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ
مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً
مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ
عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ
مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } .
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي
قَالَ : لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُك عَلَيْهِ وَلَكِنْ ائْتِ فُلَانًا
فَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْمِلَك فَأَتَاهُ فَحَمَلَهُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ
فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالْخَبَرُ
الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ صِفَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي
الشَّمَائِلِ وَكَانَ يَقُولُ : { أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا
يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا فَإِنَّهُ مَنْ بَلَّغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ
لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَسَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنْ الْمُنْكَرِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِهَذَا ، وَيَأْتِي فِي الشَّفَاعَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ
نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا .
وَالدُّعَاءُ إلَى
الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الدُّخُولِ وَفِي الْأَكْلِ ذَكَرَهُ فِي
الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِهِمْ يَسْتَأْذِنُ
الدُّخُولَ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا جَازِمًا بِهِ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَذَلِكَ إذْنٌ لَهُ } .
وَرُوِيَ
قَبْلَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ } وَتَرْجَمَ
عَلَيْهِمَا فِي الِاسْتِئْذَانِ ( بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُدْعَى أَيَكُونُ
ذَلِكَ إذْنَهُ ؟ ) .
{ وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَاقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا
فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَإِنْ
دَخَلَ سَلَّمَ مَرَّةً ثَانِيَةً ، وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ ، زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَالشَّيْخُ عَبْدُ
الْقَادِرِ : أَأَلِجُ ؟ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ
الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ
: أَأَلِجُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِخَادِمِهِ " اُخْرُجْ إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ " فَقَالَ
لَهُ : قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَسَمِعَهُ فَقَالَ :
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا .
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا تَقْدِيمُ
السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَادَّعَى فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اسْتِحْبَابَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا صَرَّحَ بِهِ
الْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ
أَحْمَدَ : الِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد
حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ فِي آخَرَيْنِ
حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلْ
الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ
أَوْ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا
يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ } بَقِيَّةُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ إذَا صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ وَلَمْ يُدَلِّسْ .
وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَحْصُبِيُّ ،
فَذَكَرَهُ وَمُحَمَّدٌ ثِقَةٌ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ
حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ صَفْوَانَ أَخْبَرَهُ { أَنَّ
كَلَدَةَ بْنَ الْحَنْبَلِ أَخْبَرَهُ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ
بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَإٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي قَالَ : فَدَخَلْت
عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْجِعْ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ،
أَدْخُلُ ؟ } وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ .
حَدِيثٌ
جَيِّدٌ وَعَمْرُو بْنُ صَفْوَانَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظِهِ بِلَبَنٍ وَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ
أَسْتَأْذِنْ وَلَمْ يَزِدْ " أَدْخُلُ ؟ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ .
وَالْجَدَايَةُ مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ
مَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجَدْيِ فِي
أَوْلَادِ الْمُعِزِّ وَالضَّغَابِيسُ صِغَارُ الْقِثَّاءِ وَاحِدَتُهَا
ضُغْبُوسٌ ، وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ التَّمَامِ يُسْلَقُ
بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَيُؤْكَلُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا يُلْقَى مِنْ النَّاسِ يَدُقُّونَ
الْبَابَ فَيَقُولُونَ أَنَا أَنَا ، أَلَا نَقُولُ أَنَا فُلَانٌ ؟ لِمَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعَلَ يَقُولُ لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَيْهِ وَهُوَ جَابِرٌ أَنَا أَنَا }
كَأَنَّهُ كَرِهَهَا وَلِيَزُولَ اللَّبْسُ فَذَكَرَ مَا يُمَيِّزُهُ مِنْ
كُنْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ
: أَبُو قَتَادَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ طَرَقَ أَبِي الْبَابَ فَقِيلَ مَنْ
هَذَا قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، وَسَأَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ
أَحْمَدَ عَنْ شَيْءٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ لَهُ تَقُولُ قَالَ لِي أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا لَمْ يُنْسَبْ
الْإِنْسَانُ إلَى مَا لَا يَلِيقُ وَإِلَّا فَلَا يَبْعُدُ مَا قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَلَا يَتَكَنَّى الرَّجُلُ عَلَى كُنْيَتِهِ
إلَّا أَنْ تَكُونَ كُنْيَتُهُ أَشْهَرَ مِنْ اسْمِهِ فَيُكَنَّى عَلَى
نَظِيرِهِ وَيَتَسَمَّى لِمَنْ فَوْقَهُ ثُمَّ يُلْحِقُ الْمَعْرُوفَ
أَبَا فُلَانٍ أَوْ بِأَبِي فُلَانٍ وَلَا يَدُقُّ الْبَابَ بِعُنْفٍ
لِنِسْبَةِ فَاعِلِهِ عُرْفًا إلَى قِلَّةِ الْأَدَب .
وَسَبَقَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ فِي سَعَةِ الْكَلَامِ إذَا دُقَّ الشَّرْطُ .
وَفِي مَعْنَاهُ الصِّيَاحُ الْعَالِي وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنْ
قِيلَ لِلْمُسْتَأْذِنِ اُدْخُلْ بِسَلَامٍ فَهَلْ يَدْخُلُ ؟ كَانَ
طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ إذَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ حَكَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدَ وَعَلَّلَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّهُ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَمْ
يَدْرِ يَفِي بِهِ أَمْ لَا وَقَالَ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ .
وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يُحَرِّكَ نَعْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ حَتَّى إلَى
بَيْتِهِ قَالَ أَحْمَدُ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَتَنَحْنَحُ وَقَالَ
مُهَنَّا سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَى مَنْزِلِهِ
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ قَالَ : يُحَرِّكُ نَعْلَهُ إذَا دَخَلَ
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَأْذِنُ
الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِهِ أَعْنِي زَوْجَتَهُ قَالَ : مَا أَكْرَهُ ذَلِكَ
أَنْ أَسْتَأْذِنَ مَا يَضُرُّهُ ؟ قُلْت زَوْجَتُهُ وَهُوَ يَرَاهَا فِي
جَمِيعِ حَالَاتِهَا فَسَكَتَ عَنِّي .
فَهَذِهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا الِاسْتِئْذَانُ عَلَى
زَوْجَتِهِ بِالسَّلَامِ أَوْ قَوْلِهِ أَأَدْخُلُ ؟ لِأَنَّهُ بَيْتُهُ
وَمَنْزِلُهُ وَاسْتَحَبَّ إذَا دَخَلَ النَّحْنَحَةَ أَوْ تَحْرِيكَ
النَّعْلِ لِئَلَّا يَرَاهَا عَلَى حَالَةٍ لَا يُعْجِبُهَا وَلَا
تُعْجِبُهُ ، وَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ قَالَ
ابْنُ أَبِي
مُوسَى وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ ( مَا شَاءَ
اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ) وَيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ
بَيْتِهِ إذَا دَخَلَ يُكْثِرُ خَيْرَ بَيْتِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا {
يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُنْ
بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا } وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي
مُوسَى مَرْفُوعًا { مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا
يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } .
وَلِمُسْلِمٍ { مَثَلُ
الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ
اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } .
وَلِأَحْمَدَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { اُذْكُرْ اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ
} وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو
بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بِشْرٍ يَقُولُ { جَاءَ
أَعْرَابِيَّانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ
مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَقَالَ الْآخَرُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَمُرْنِي
بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ فَقَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا بِذِكْرِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَمُعَاوِيَةُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ
أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا { إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ
بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ
وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ ، بِاسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِاسْمِ اللَّهِ
خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ، ثُمَّ لِيُسَلِّمَ
عَلَى أَهْلِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الْحِمْصِيِّينَ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ
مَرْفُوعًا
{ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ خَرَجَ
غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدُّهُ بِمَا نَالَ مِنْ
أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ
ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : " ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ "
مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يُرِيدُ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ قَالَ : وَقَوْلُهُ " دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ " يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يُسَلِّمَ إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } .
(
وَالثَّانِي ) : أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لُزُومَ الْبَيْتِ فَطَلَبَ
السَّلَامَةَ مِنْ الْفِتَنِ ، يَرْغَبُ بِذَلِكَ فِي الْعُزْلَةِ ،
وَيَأْمُرُ بِإِقْلَالٍ مِنْ الْخُلْطَةِ ، وَيَجْلِسُ حَيْثُ أَجْلَسَهُ
صَاحِبُ الْبَيْتِ .
وَقِيلَ : بَلْ حَيْثُ انْتَهَى إلَيْهِ مِنْهُ
كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَدَخَلَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ النَّحْوِيُّ
عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَيْتَهُ زَائِرًا لَهُ قَالَ : فَوَجَدْته
جَالِسًا بِالْأَرْضِ إلَى وِسَادَةٍ فَقُلْت لَهُ إنِّي قَدْ رَضِيت
لِنَفْسِي مَا قَدْ رَضِيتَ لِنَفْسِك ، فَقَالَ : إنِّي لَا أَرْضَى لَك
فِي بَيْتِي بِمَا أَرْضَى بِهِ لِنَفْسِي فَاجْلِسْ حَيْثُ تُؤْمَرُ
فَلَعَلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُ أَنْ
تَسْتَقْبِلَهُ .
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ : ( مَا يُكْرَهُ إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ
أَنْ يَقْعُدَ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يُقْعِدُهُ ) قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ : " لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ فِي
أَهْلِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ " .
قَالَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى كُلِّهِ ، وَأَمَّا التَّكْرِمَةُ فَلَا بَأْسَ إذَا أَذِنَ لَهُ .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إنْ
أَمَرَهُ
صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَتَكْرِمَتُهُ وَلِهَذَا
لَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الدُّخُولِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ أَمَرَهُ
بِالْخُرُوجِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ .
وَإِنْ
لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ فَهَلْ يَجْلِسُ ؟
وَأَيْنَ يَجْلِسُ ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى عُرْفِ صَاحِب
الْمَنْزِل وَعَادَتِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ
لِأَنَّهُ خَاصٌّ فَيَتَقَيَّدُ الْمُطْلَقُ كَالْكَلَامِ فَإِنْ خَالَفَ
صَاحِبُ الْمَنْزِلِ عَادَتَهُ مَعَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ
فِي شَيْءٍ وَافَقَهُ إنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا
وَكَذَا إنْ شَكَّ حَمْلًا لِحَالِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الصِّحَّةِ
وَالسَّلَامَةِ .
وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا
لَا بَاطِنًا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي لَمْ يُجِبْهُ لِأَنَّ
الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فَلَمْ يَأْذَنْ ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيمَا
يَظُنُّ إذْنَهُ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَعْمَلُ فِي ذَلِكَ
بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَظَوَاهِرِ الْحَالِ ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ عُرْفٌ وَعَادَةٌ فِي ذَلِكَ فَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي
ذَلِكَ الْجُلُوسُ بِلَا إذْنٍ خَاصٍّ فِيهِ لِحُصُولِهِ بِالْإِذْنِ فِي
الدُّخُولِ ثُمَّ إنْ شَاءَ جَلَسَ أَدْنَى الْمَجْلِسِ مِنْ مَحَلِّ
الْجُلُوسِ لِتَحَقُّقِ جَوَازِهِ مَعَ سُلُوكِ الْأَدَبِ ، وَلَعَلَّ
هَذَا أَوْلَى وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ صَاحِبِ الْقَوْلِ الَّذِي
ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يُعَدَّ جُلُوسُهُ
هُنَاكَ مُسْتَهْجَنًا عَادَةً وَعُرْفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَرْتَبَتِهِ
، أَوْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ بِذَلِكَ خَجَلٌ وَاسْتِحْيَاءٌ ،
فَإِنَّهُ يُعْجِبُهُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا ظَنَّ شَيْئًا لَا
يَلِيقُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ عَمِلَ بِالظَّنِّ فِي جُلُوسِهِ
فِيمَا يَأْذَنُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى
عَوَائِدِ النَّاسِ وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ وَأَقَلُّ لِلْكَلَامِ
فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَيَأْتِي مَا يُشْبِهُ هَذَا بَعْدَ آدَابِ الصَّبَاحِ
وَالْمَسَاءِ وَالنَّوْمِ فِي فَصْلِ الْمَشْيِ مَعَ غَيْرِهِ .
وَيُعْمَلُ
بِعَلَامَةٍ كَرَفْعِ سِتْرٍ أَوْ إرْخَائِهِ فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ
لِقَوْلِهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : إذْنُكَ عَلَيَّ
أَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ وَأَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاك }
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ السِّوَادُ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِالدَّالِ
أَيْ السِّرَارُ وَهُوَ السِّرُّ وَالْمُسَارَّةُ يُقَالُ سَاوَدْت
الرَّجُلَ مُسَاوَدَةً إذَا سَارَرْته وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سِوَادِهِ
عِنْدَ الْمُسَارَّةِ أَيْ شَخْصُك مِنْ شَخْصِهِ وَالسِّوَادُ اسْمٌ
لِكُلِّ شَخْصٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ
يَعْمَلُ بِذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ قَدْ عَلِمَ
بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلِمَ بِهِ وَالْأَوْلَى الثَّانِي
احْتِيَاطًا ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ تَأَكَّدَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَنِّي
وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ لَا يَأْذَنَ بِالْعَلَامَةِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُسْتَأْذِنَ فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْتَأْذِنُ
غَيْرَ مَنْ ظَنَّهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَلِيقُ
وَيَحْصُلُ بِهِ شَرٌّ وَمَحْذُورٌ وَمَنْ أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُول
فَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْحَالِ ، وَيَتَثَبَّتُ إنْ اقْتَضَى الْحَالُ
تَوَقُّفَهُ .
وَلِهَذَا فِي مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ قَالَ : غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ
فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ
هُنَيْهَةً قَالَ : فَخَرَجَتْ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ : أَلَا
تَدْخُلُونَ ؟ فَدَخَلْنَا فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ : مَا
مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ ؟ فَقُلْنَا : لَا إلَّا
أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ قَالَ :
ظَنَنْتُمْ بَلْ أُمُّ عَبْدٍ غَفَلَةٌ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ
حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ قَالَ : يَا جَارِيَةُ
اُنْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ ؟ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ ،
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا قَالَ
مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ
أَحْسَبُهُ قَالَ : وَلَمْ يُهْلِكْنَا
بِذُنُوبِنَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : قَرَأْت الْبَارِحَةَ
الْمُفَصَّلَ كُلَّهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ
، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَفِيهِ التَّلَبُّثُ عَنْ الدُّخُولِ بَعْدَ
الْإِذْنِ لِاحْتِمَالِ عُذْرٍ وَعَرَضَ الدُّخُولَ ثَانِيًا وَالسُّؤَالَ
عَنْ سَبَبِ التَّلَبُّثِ عَنْ الدُّخُولِ وَذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ وَلَمْ
يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ التَّوَقُّفَ لِلْعُذْرِ ، لَكِنْ ذَكَرَ أَنَّ
مِثْلَ هَذَا السَّبَبِ لَا يُظَنُّ بِآلِهِ فَفِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ
بِالسَّبَبِ وَنَفْيُ التُّهَمَةِ وَالنَّقْصِ عَنْ الْإِنْسَانِ وَعَنْ
أَهْلِهِ .
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْ يُعَاشِرُهُ وَيُلَازِمُهُ
وَرُبَّمَا قِيلَ وَعَمَّنْ يَبْعُدُ مِنْهُ وُقُوعُ مِثْلِ ذَلِكَ
وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ ، وَأَنَّ
النَّوْمَ إذَنْ يُكْرَهُ ، وَأَنَّ مَنْ اُسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ وَهُوَ
فِي عَمَلِ طَاعَةٍ يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا لَا يَتْرُكُهَا لِئَلَّا
يَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَيَتَّخِذَهُ
الشَّيْطَانُ سَبَبًا يَصُدُّ بِهِ عَنْهَا ، وَإِنْ خَافَ رِيَاءً
وَإِعْجَابًا تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
وَحَاسَبَ نَفْسَهُ ، وَإِنْ قَوِيَ الْخَوْفُ مِنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا
قَوِيَ الْخَوْفُ جِدًّا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَحِينَئِذٍ يَتْرُكُهُ
ظَاهِرًا وَيَأْتِي بِهِ خِفْيَةً إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا قَضَاهُ وَلَا
يَفُوتُهُ دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ ، وَفِيهِ
الْإِخْبَارُ بِالطَّاعَةِ لَكِنَّ لِلْمَصْلَحَةِ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ
لِذَلِكَ وَالرَّدُّ عَلَى فَاعِلِهَا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ .
قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَقَوْلُنَا : لَا مَعْنَاهُ لَا
مَانِعَ لَنَا إلَّا أَنَّا تَوَهَّمْنَا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ
نَائِمٌ فَنُزْعِجُهُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ " ظَنَنَّا " تَوَهَّمْنَا
وَجَوَّزْنَا ، لَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا الظَّنَّ الْمَعْرُوفَ وَهُوَ
رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ قَالَ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ
الرَّجُلِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي ( بَابِ
مَا
جَاءَ فِي الْمِزَاحِ ) ثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ بِشْرِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ
فَسَلَّمْت فَرَدَّ وَقَالَ : اُدْخُلْ فَقُلْت : أَكُلِّيَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ : كُلُّك فَدَخَلْت } .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ دُحَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْوَلِيدِ .
وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ بِشْرٍ
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ
ثَنَا الْوَلِيدُ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةَ قَالَ :
إنَّمَا قَالَ : " أَدْخُلُ كُلِّي " مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ وَيَأْتِي
قَرِيبًا فِي آدَابِ السَّفَرِ قُدُومُ الْمُسَافِرِ لَيْلًا .
فَصْلٌ ( فِي الْجُلُوسِ فِي وَسَطِ الْحَلَقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ : ( كَرَاهِيَةُ الْجُلُوسِ فِي وَسَطِ الْحَلَقَةِ )
أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي الْحَلَقَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ
خَلْفَهُ يَتَأَخَّرُ يَعْنِي يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ وَسَطَ الْحَلَقَةِ
لِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
انْتَهَى
كَلَامُهُ وَيَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ
الْخَلَّالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعْنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ
الْحَلَقَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَخْلَدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ
وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إذَا جَلَسَ فِي
وَسَطِهَا اسْتَدْبَرَ بَعْضَهُمْ بِظَهْرِهِ فَيُؤْذِيهِمْ بِذَلِكَ
وَيَسُبُّونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ : { لَا حِمَى إلَّا فِي ثَلَاثٍ } وَذَكَرَ مِنْهَا
حَلَقَةَ الْقَوْمِ أَيْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوهَا حَتَّى لَا
يَتَخَطَّاهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَجْلِسَ وَسَطَهَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يَجْلِسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ لِلْأَخْبَارِ فَإِنْ قَامَ
لَهُ أَحَدٌ عَنْ مَجْلِسِهِ فَفِي كَرَاهَةِ إيثَارِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ
فَإِنْ كُرِهَ فَفِي كَرَاهَةِ الْقَبُولِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ
وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يُحَرِّمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي
بَكْرَةَ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ
زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلًى لِآلِ أَبِي
بُرْدَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَلَا يُفَرَّقُ
بَيْنَ اثْنَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا .
وَرَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ
عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { لَا
يُجْلَسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا } .
وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا } رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَهُمَا حَدِيثَانِ حَسَنَانِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الثَّانِيَ وَحَسَّنَهُ .
فَصْلٌ ( فِي الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ وَأَدَبِ السُّنَّةِ وَمُرَاعَاةِ الْعَادَةِ فِيهِ ) .
وَيُكْرَهُ
الْقِيَامُ لِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَعَالِمٍ وَوَالِدٍ ذَكَرَهُ
السَّامِرِيُّ وَقِيلَ سُلْطَانٍ عَادِلٍ وَزَادَ فِي الرِّعَايَةِ
الْكُبْرَى وَلِغَيْرِ ذِي دِينٍ وَوَرَعٍ وَكَرِيمِ قَوْمٍ وَسِنٍّ فِي
الْإِسْلَامِ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ : لَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ إلَّا
لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْوَالِدَيْنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
وَالْوَرَعِ وَالْكَرَمِ وَالنَّسَبِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي
الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ
وَقَاسَهُ عَلَى الْمُهَادَاةِ لَهُمْ قَالَ : وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ
الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ ،
وَاَلَّذِي يُقَامُ إلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرَ
نَفْسَهُ إلَيْهِ وَلَا يَطْلُبَهُ ، وَالنَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى
السُّرُورِ بِذَلِكَ الْحَالِ فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ
وَقَامُوا لَهُ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ وَلِمَنْ قَامَ إلَيْهِ
لِإِعْظَامِهِ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ عَلَى مَا رَسَمْنَاهُ .
وَكَذَا
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ :
إنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْعُجْبِ وَالْخُيَلَاءِ
قَالُوا مَعَ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ قَدْ قَالَ : إنَّمَا مَعْنَاهُ مَا
يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ وَالْأُمَرَاءُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنَّهُ
يَجْلِسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَكَبُّرًا وَعُجْبًا قَالَ
صَاحِبُ النَّظْمِ : وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ
يَمْشِي النَّاسُ خَلْفَهُ إكْرَامًا : إنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ
فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ فُصُولِ آدَابِ
الطَّعَامِ وَكَلَامِ أَبِي الْمَعَالِي فِي فُصُولِ الْمُصَافَحَةِ .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَأَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ
تَبِعَهُمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ
فَاسْتَحَبُّوهُ لِطَائِفَةٍ وَكَرَّهُوهُ لِأُخْرَى ، وَالتَّفْرِيقُ فِي
مِثْلِ هَذَا بِالصِّفَاتِ فِيهِ نَظَرٌ .
قَالَ : وَأَمَّا أَحْمَدُ فَمَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَكُونُوا
يَقُومُونَ لَهُ فَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ مُطْلَقًا
خَطَأٌ وَقِصَّةُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مَعَ الْمَنْصُورِ تَقْتَضِي ذَلِكَ
وَمَا أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا لِغَيْرِ
الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَادِمَ مِنْ
السَّفَرِ إذَا أَتَاهُ إخْوَانُهُ فَقَامَ إلَيْهِمْ وَعَانَقَهُمْ فَلَا
بَأْسَ بِهِ .
وَحَدِيثُ سَعْدٍ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا وَسَائِرُ
الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ الْقَادِمَ يُتَلَقَّى لَكِنَّ هَذَا قَامَ
فَعَانَقَهُمْ ، وَالْمُعَانَقَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقِيَامِ ،
وَأَمَّا الْحَاضِرُ فِي الْمِصْرِ الَّذِي قَدْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ
وَاَلَّذِي لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ الْمَجِيءُ إلَيْهِ فَمَحَلُّ نَظَرٍ .
فَأَمَّا
الْحَاضِرُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مَجِيئُهُ فِي الْأَيَّامِ كَإِمَامِ
الْمَسْجِدِ ، أَوْ السُّلْطَانِ فِي مَجْلِسِهِ ، أَوْ الْعَالِمِ فِي
مَقْعَدِهِ فَاسْتِحْبَابُ الْقِيَامِ لَهُ خَطَأٌ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الصَّوَابُ ، هَذَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ
أَيْضًا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ سَرَّهُ أَنْ
يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ .
قَالَ : { لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا يُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَمَّا
الْقِيَامُ لِمَصْلَحَةٍ وَفَائِدَةٍ كَقِيَامِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ
يَرْفَعُ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الْبَيْعَةِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ فَمُسْتَحَبٌّ .
وَذَكَرَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ وَقَالَ عَنْ الْأَنْبَارِ
وَالْأَعَاجِمِ : الْقِيَامُ عَلَى رُءُوسِهِمْ شَدِيدُ الْكَرَاهِيَةِ
قَالَ : فَأَمَّا وُقُوفُ مَنْ يَذْهَبُ فِي شُغْلٍ وَيَعُودُ كَقِيَامِ
الْحُجَّابِ وَالْمُسْتَخْدِمِينَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ
يَتَقَدَّمُ فِي
الْأَشْغَالِ وَيَتَرَدَّدُ فِيهَا وَبَيْنَ مَنْ
لَيْسَ كَذَلِكَ مَعْنًى ظَاهِرٌ وَسَتَأْتِي نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مُوَافَقَةُ الْأَصْحَابِ وَبَعْضُهَا يَدُلُّ
عَلَى الْكَرَاهَةِ إلَّا لِلْوَالِدَيْنِ ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ إلَّا
لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ خَرَجَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ :
لَا تَقُومُوا لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ لَا يَقُومُونَ لَهُ لِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ
كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ .
وَهَذَا كَانَ شِعَارَ السَّلَفِ ثُمَّ صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ بِالشَّخْصِ لِذَلِكَ .
فَيَنْبَغِي
أَنْ يُقَامَ لِمَنْ يَصْلُحُ ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ : يَنْبَغِي تَرْكُ الْقِيَامِ فِي
اللِّقَاءِ الْمُتَكَرِّرِ الْمُعْتَادِ لَكِنْ إذَا اعْتَادَ النَّاسُ
الْقِيَامَ وَقَدِمَ مَنْ لَا يَرَى كَرَامَتَهُ إلَّا بِهِ فَلَا بَأْسَ
بِهِ .
فَالْقِيَامُ دَفْعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْفَسَادِ خَيْرٌ مِنْ
تَرْكِهِ الْمُفْضِي إلَى الْفَسَادِ وَيَنْبَغِي مَعَ هَذَا أَنْ يَسْعَى
فِي الْإِصْلَاحِ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ قِيلَ لِمَالِكٍ فَالرَّجُلُ يَقُومُ
لِلرَّجُلِ لَهُ الْفَضْلُ وَالْفِقْهُ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ .
وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَالَ
: { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ
كَبِيرِنَا } وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ " شَرَفَ كَبِيرِنَا "
وَلِلتِّرْمِذِيِّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ .
وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي
مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ
لِعَالِمِنَا حَقَّهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ
وَهْبٍ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ الْخَيْرِ الزِّيَادِيُّ عَنْ أَبِي
قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيِّ عَنْ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ( الزَّبَادِيُّ )
بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ تَحْتُ وَرَوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهَذَا كَافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ
ابْنُ الْقَطَّانِ : لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ وَلِأَبِي دَاوُد
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { إنَّ مِنْ إجْلَالِ
اللَّهِ إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ
غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي
السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ، } وَسَيَأْتِي فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ .
وَلَا
يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقِيَامُ لَهُ وَإِنَّمَا فِيهِ إكْرَامُهُ
وَتَوْقِيرُهُ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : اتَّفَقُوا عَلَى تَوْقِيرِ أَهْلِ
الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْفَاضِلُ وَالْعَالِمُ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَرْسَلَ
إلَيْهِ فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَكَانَ مَجْرُوحًا فَقَالَ :
قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } وَفِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ :
{ قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ لَهُ بِهِ إلَيْهِ لِتَلَقِّيهِ
لِضَعْفِهِ وَجِرَاحَتِهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { لَمَّا تَابَ
اللَّهُ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ
فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَى فَرَسِي وَسَعَى
سَاعٍ قِبَلِي فَأَوْفَى عَلَى الْحَبْلِ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ
الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي
نَزَعْت لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْلِكُ
غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ يَعْنِي مِنْ الثِّيَابِ وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ
فَلَبِسْتُهُمَا .
وَانْطَلَقْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا
يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ
عَلَيْك ، حَتَّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ
النَّاسُ
فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي
وَهَنَّأَنِي ، وَاَللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
غَيْرُهُ .
فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَوَائِدُ وَآدَابٌ كَثِيرَةٌ .
وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ }
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى
الْمُوصِلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ
الْأَنْطَاكِيِّ ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ فَذَكَرَهُ ، وَلَفْظُهُ {
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَقَى
قَالَ : ابْدَءُوا بِالْكُبَرَاءِ أَوْ الْأَكَابِرِ } وَذَكَرَهُمَا فِي
الْمُخْتَارَةِ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ إنَّمَا حَدَّثَ بِهِ ابْنُ
الْمُبَارَكِ بِدَرْبِ الرُّومِ فَسَمِعَ مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ وَلَيْسَ
هَذَا الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَرْفُوعًا .
وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ الْقِيَامِ فِي السَّلَامِ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا لَمْ
يَقْدَمْ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَقُومَ كَذَا إلَى الرَّجُلِ فَيُعَانِقُهُ
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَامَ يَعْنِي الرَّجُلَ حَتَّى
يُجِلَّهُ لِكَبَرِهِ فَأَقُولُ لَهُ إمَّا أَنْ تَقْعُدَ وَإِمَّا أَنْ
أَقُومَ فَقَالَ : إذَا كَانَ لِكِبَرِهِ أَوْ لِكَذَا .
وَأَمَّا
الْحَدِيثُ { : الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا
} قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا
مَعْنَى الْحَدِيثِ { لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ } قَالَ إذَا كَانَ
عَلَى جِهَةِ الدُّنْيَا مِثْلُ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ فَلَا يُعْجِبُنِي
مِنْ الْأَدَبِ لِلْخَلَّالِ ثُمَّ رَوَى الْخَلَّالُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ
مَرْفُوعًا { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ بَنُو آدَمَ قِيَامًا
فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَقَالَ حَنْبَلٌ
قُلْت لِعَمِّي تَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُومَ لِلرَّجُلِ إذَا رَآهُ
قَالَ : لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ إلَّا الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ أَوْ
لِأُمِّهِ ، فَأَمَّا لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ فَلَا ، نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي } .
إنَّمَا
ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ إذَا قَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامُوا لِلصَّلَاةِ وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَمْثُلَ لَهُ الرَّجُلُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ } وَقَالَ مُثَنَّى إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا
تَقُولُ فِي الْمُعَانَقَةِ ؟ وَهَلْ يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِي
السَّلَامِ إذَا رَآهُ ؟ قَالَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ ، وَأَمَّا
إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَلَى
التَّدَيُّنِ يُحِبُّهُ فِي اللَّهِ أَرْجُو ، لِحَدِيثِ جَعْفَرٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ } .
وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّ أَبَا إبْرَاهِيمَ
الزُّهْرِيَّ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ جَاءَ إلَى أَحْمَدَ يُسَلِّمُ
عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إلَيْهِ وَقَامَ إلَيْهِ قَائِمٌ
وَأَكْرَمَهُ ، فَلَمَّا أَنْ مَشَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ :
يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ وَتَعْمَلُ بِهِ هَذَا وَتَقُومُ
إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا
أَلَا أَقُومُ إلَى ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ؟ ذَكَرَهُ
ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد
( بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ ) ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ
وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَنْصَارِ { قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ
} وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الصَّحِيحِ .
ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ يَسَارٍ قَالَا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ أَنْبَأَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ
عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ
أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا وَقَالَ الْحَسَنُ حَدِيثًا
وَكَلَامًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ
كَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا
وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا
قَامَتْ إلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي
مَجْلِسِهَا .
إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَقَالَ ( بَابٌ فِي قُبْلَةِ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ ) .
ثُمَّ
رُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ أَجْلَحَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ
عَيْنَيْهِ وَقَالَ أَيْضًا ( بَابٌ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ )
ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ
الشَّهِيدِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ : اجْلِسْ فَإِنِّي
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { :
مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَحَسَّنَهُ وَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَلَى مَا إذَا
أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَأَلْزَمَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْكِبْرِ .
قَالَ
أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي الْعَدَبَّسِ عَنْ أَبِي
مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ خَرَجَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ : { لَا تَقُومُوا
كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } .
أَبُو الْعَدَبَّسِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ
وَبِفَتْحِ
الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِهَا وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ،
تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْعَدَبَّسِ وَأَبُو غَالِبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَمَنَعَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْقِيَامَ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ .
وَعَنْ
أَنَسٍ قَالَ : { لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ
يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ
عُبَادَةَ قَالَ { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ
بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَامُ لِي إنَّمَا يُقَامُ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
دَاوُد ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ رَبَاحٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ عُبَادَةَ ، فَذِكْرُهُ الرَّجُلَ
مَجْهُولٌ وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ .
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ
طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ
الْفِرْيَابِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ وَائِلَةَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ سَكَنَ دِمَشْقَ قَالَ { : دَخَلَ رَجُلٌ
الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ
فَتَحَرَّكَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
رَجُلٌ : إنَّ فِي الْمَكَانِ سَعَةً فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِ أَوْ
الْمُسْلِمِ حَقٌّ } حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
أَنْبَأَنَا
أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ ثَنَا مُجَاهِدٌ فَذَكَرَهُ وَلَمْ
يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ
أَنْ يُكْرِمَ الْقَاصِدَ إلَيْهِ إذَا كَانَ كَرِيمَ قَوْمٍ أَوْ
عَالِمَهُمْ أَوْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْبِرَّ مِنْهُمْ بِالْقِيَامِ
إلَيْهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلرَّئِيسِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُكَلِّفَ
النَّاسَ الْقِيَامَ إلَيْهِ أَوْ يَرْضَى
بِذَلِكَ مِنْهُمْ .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُد ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا أَبُو عَامِرٍ
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ قَالَ قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ فَإِذَا قَامَ
قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ
فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إلَى
أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ
رَقَبَتَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ
فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ
فَإِنَّك لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِك وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيك فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا وَأَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ ، لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، لَا
أَحْمِلُ لَك حَتَّى تُقَيِّدَنِي مِنْ جَبْذِك الَّذِي جَبَذْتنِي
فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَللَّهِ لَا
أُقَيِّدُكَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ
لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا
وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا
عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى } .
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَوَثَّقَهُ
ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ رَوَاهُ
أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ بَعْضَهُ .
وَفِيهِ فَهَمُّوا بِهِ فَقَالَ " دَعُوهُ " وَكَانَتْ يَمِينُهُ أَنْ يَقُولَ " لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " .
وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ ( بَابُ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وَجْهِ
الْإِكْرَامِ ) ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ طَلْحَةَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
وَقَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَمَّا جَاءَ سَعْدٌ { قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ }
وَقَالَ مُسْلِمٌ : لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ
حَدِيثًا أَصَحَّ
مِنْ هَذَا .
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا
النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُحْتَجًّا بِهِ : وَقَدْ احْتَجَّ
الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى
الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ أَبُو دَاوُد
فِي سُنَنِهِ فَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ وَاحْتَجَّ
بِهِ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي الزَّاهِدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو
زُرْعَةَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالْخَطَّابِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيّ
وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَآخَرُونَ لَا يُحْصَوْنَ .
أَبُو
دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ
فَأَجْلَسَهُ عَلَى بَعْضِ ثَوْبِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ
شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ
أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ } .
مُرْسَلٌ جَيِّدٌ .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا قَامَ إلَيْهِ فَرِحًا
بِقُدُومِهِ } .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا .
وَعَنْ
{ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَلْقَى لَهُ كِسَاءَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ
فَقَالَ إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ } رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ الْأَحْمَسِيِّ
وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ
أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ الشَّعْبِيِّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ :
قَامَ وَكِيعٌ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِيَامَهُ
لَهُ فَقَالَ لَهُ وَكِيعٌ : أَنْتَ حَدَّثْتنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إجْلَالَ ذِي
الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ } فَأَخَذَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إلَى
جَانِبِهِ .
وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ
بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبُو نُعَيْمِ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ : كَانَ أَبُو
زُرْعَةَ لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ وَلَا يُجْلِسُ أَحَدًا فِي مَكَانِهِ
إلَّا ابْنُ دَارِهِ فَإِنِّي رَأَيْته يَفْعَلُ ذَلِكَ .
وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { دَخَلَ
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ
إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا
يَجُرُّ ثَوْبَهُ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } .
وَيَأْتِي فِي الْمُصَالَحَةِ .
وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ فِي بَابِ الضَّرِيرِ يُوَلَّى مِنْ كِتَابِ الْإِمَارَةِ
{ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ
لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كُلَّمَا أَقْبَلَ وَيَقُولُ مَرْحَبًا بِمَنْ
عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ } ذَكَرَ جَمَاعَةٌ غَيْرُ
الْخَطَّابِيِّ ذَلِكَ سِوَى الْقِيَامِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ لَهُ : { هَلْ لَك حَاجَةٌ ؟ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى
جَالِسًا وَصَلَّى مَنْ صَلَّى وَرَاءَهُ قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْهِمْ
أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ كِدْتُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ تَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ ، يَقُومُونَ عَلَى
مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ } .
فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ
مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَحْكَامِهِ الْمُنْتَقَى عَنْ قِيَامِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ : فِيهِ
اسْتِحْبَابُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ .
لِإِرْهَابِ
الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَمِّهِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الرَّئِيسِ الرِّجَالَ
عَلَى رَأْسِهِ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَمَوَاطِنِ الْحُرُوبِ جَائِزٌ ،
وَأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنْ النَّارِ } إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَصَدَ بِهِ الْكِبْرَ وَهُوَ
مَذْهَبُ النَّحْوِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ لَا بَأْسَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي إكْرَامِ كَرِيمِ الْقَوْمِ كَالشُّرَفَاءِ وَإِنْزَالِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ
فَأَكْرِمُوهُ } قَالَ : نَعَمْ هَكَذَا يُرْوَى قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ الرَّجُلُ السُّوءُ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا وَاحِدٌ
قَالَ : لَا قُلْت : فَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يُكْرِمُهُ ، قَالَ : لَا
، وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ حَضَرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي
هَاشِمٍ وَمَعَهُ إبْرَاهِيمُ سِيلَانُ فَرَأَيْته قَدَّمَ الْغُلَامَ ،
وَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ قَدَّمَهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ
وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَجَعَلَ الْفَتَى يَمْتَنِعُ ، وَجَعَلَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ يَأْتِي حَتَّى قَدَّمَهُ .
وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ سَعْدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَرْجُو
أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ ، وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ
جَرِيرٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : رَأَيْت أَبِي إذَا جَاءَ
الشَّيْخُ وَالْحَدَثُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَشْرَافِ
لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ فَيَكُونُوا
هُمْ يَتَقَدَّمُونَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : رَأَيْته جَاءَ إلَيْهِ مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ
فَأَلْقَى لَهُ مِخَدَّةً وَأَكْرَمَهُ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ
يُكْرَمُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْمِخَدَّةَ مِنْ تَحْتِهِ فَيُلْقِيهَا لَهُ
.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ إعْظَامًا لِإِخْوَانِهِ وَمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ ، لَقَدْ
جَاءَهُ أَبُو هَمَّامٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ فَأَخَذَ لَهُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بِالرِّكَابِ وَرَأَيْته فَعَلَ هَذَا بِمَنْ هُوَ أَسَنُّ
مِنْ الشُّيُوخِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي تَنْزِيلِ
النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ ) ثَنَا يَحْيَى بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأُبَيُّ بْنُ
خَلَفٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ { أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ
كِسْرَةً وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ
فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ
مَنَازِلَهُمْ } قَالَ أَبُو دَاوُد : مَيْمُونٌ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ
وَحَدِيثُ يَحْيَى مُخْتَصَرٌ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
الْمُسْتَدْرَكِ وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَحَدِيثُهُ
حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ
قَبْلَهُ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ { : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ
صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا } قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى
فِي الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا }
قَالَ : الْمُرَادُ بِهِ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا كَمَا قَالَ : { مَنْ
لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا }
كَذَا قَالَ ، وَسَبَقَ قَوْلُهُ { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي } .
وَكَلَامُ
ابْنِ حَزْمٍ وَسَبَقَ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ غَيْرِ الْعَاصِي كَلَامَ
ابْنِ عَقِيلٍ يُوَافِقُ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَفِيهِ
اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مُقْتَضَاهَا التَّحْرِيمُ وَكَذَا ذَكَرَ
الْأَصْحَابُ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّارِعِ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ قَالَ أَوْ
فَعَلَ كَذَا } مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ
كَبِيرَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ
دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَقَوْلُهُ {
يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ .
فَصْلٌ عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ عَلَى أَخِيهِ فَيُلْقِي لَهُ وِسَادَتَهُ إكْرَامًا لَهُ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ : الطِّيبُ وَالْوِسَادَةُ وَاللَّبَنُ } رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ وَقَدْ { جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ : الرَّجُلُ يَسْتَأْذِنُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ عَنْ
الْمَجْلِسِ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا جَلَسَ
رَجُلٌ إلَى قَوْمٍ يَسْتَأْذِنُهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ :
قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ مَا أَحْسَنَهُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ
رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ .
وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَلَسُوا إلَيْهِ فَأَرَادَ الْقِيَامَ اسْتِئْذَانُهُمْ .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا أَرَادَ أَنْ
يَقُومَ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ،
فَكُنْت رُبَّمَا غَمَزْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا فَأَقُولُ قُمْ فَإِنَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد : رَأَيْت أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ وَكُنَّا نَقْعُدُ إلَيْهِ كَثِيرًا فَيَقُومُ لَا
يَسْتَأْذِنُنَا وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ( بَابُ مَنْ قَامَ مِنْ
مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ
لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ ) وَذَكَرَ وَلِيمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى زَيْنَبَ وَجُلُوسَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ
وَقَالَ ( بَابُ مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ ) وَذَكَرَ
فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى أَبُو
دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ عَنْ
كَعْبٍ الْإِيَادِيِّ تَفَرَّدَ عَنْهُ تَمَّامٌ قَالَ : كُنْت أَخْتَلِفُ
إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ { : كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا
حَوْلَهُ فَقَامَ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ نَزَعَ نَعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا
يَكُونُ عَلَيْهِ فَعَرَفَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ } .
فَصْلٌ ( فِي تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَالسِّيرَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالِاقْتِصَادِ ) .
وَيُسَنُّ
أَنْ يُتَعَلَّمَ الْأَدَبُ وَالسَّمْتُ وَالْفَضْلُ وَالْحَيَاءُ
وَحُسْنُ السِّيرَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا قَالَ أَحْمَدُ : ثَنَا حَسَنٌ
ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّ أَبَاهُ
حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ
الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا
مِنْ النُّبُوَّةِ } قَابُوسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد عَنْ النُّفَيْلِيِّ عَنْ زُهَيْرٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : "
الْهَدْيُ السِّيرَةُ وَالْهَيْئَةُ وَالطَّرِيقَةُ " وَمَعْنَى
الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ مِنْ شَمَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْ
جُمْلَةِ خِصَالِهِمْ وَأَنَّهَا جُزْءٌ مَعْلُومٌ مِنْ أَجْزَاءِ
أَفْعَالِهِمْ .
وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ النُّبُوَّةَ تَتَجَزَّأُ
وَلَا أَنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِلَالَ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ
النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَلَا
مُجْتَلَبَةٍ بِالْأَسْبَابِ وَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالنُّبُوَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ
النُّبُوَّةُ وَدَعَتْ إلَيْهِ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْعَدَدِ مِمَّا
يَسْتَأْثِرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَعْرِفَتِهِ .
وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ { الْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ السَّمْتِ } وَذَكَرَهُ .
وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ إسْنَادٌ
جَيِّدٌ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ { جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ
وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَى
الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ قَوْلَ أَنَسٍ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا مَشَى كَأَنَّهُ
يَتَوَكَّأُ ، وَقَوْلَ أَبِي الطُّفَيْلِ كَانَ إذَا مَشَى كَأَنَّمَا
يَهْوِي فِي صَبُوبٍ ( بَابٌ فِي هَدْيِ الرَّجُلِ ) يُرْوَى صَبُوبٌ
بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُصَبُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءٍ
وَغَيْرِهِ كَالطَّهُورِ
وَالْغَسُولِ ، وَبِالضَّمِّ جَمْعُ صَبَبٍ
أَيْ فِي مَوْضِعٍ مُنْحَدِرٍ ، وَقِيلَ : الصَّبُّ وَالصَّبُوبُ
تَصَوُّبُ نَهْرٍ أَوْ طَرِيقٍ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
قَالَ كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى
سَمْتِهِ وَإِلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَمَاعَةٍ .
وَأَنْ يُحَسِّنَ
خُلُقَهُ وَصُحْبَةَ وَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا وَأَنْ يَقُولَ مَا وَرَدَ
إذَا رَكِبَ دَابَّةً أَوْ غَيْرَهَا أَوْ سَافَرَ أَوْ وَدَّعَ
مُسَافِرًا أَوْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ رَزَقَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ .
وَرُوِيَ
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ ذَلِكَ وَرَوَى
اللَّفْظَ الْأَوَّلَ عَنْهُ جَعْفَرُ وَالثَّانِيَ الْفَضْلُ بْنُ
زِيَادٍ وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لَا
تَقُولُوا لِلسَّائِلِ بُورِكَ فِيك فَإِنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ الْكَافِرُ
وَالْمُسْلِمُ وَلَكِنْ قُولُوا رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ .
وَعَنْ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إذَا ذُكِرَ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَدَعَا لَهُ بَدَأَ
بِنَفْسِهِ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ابْدَأْ بِنَفْسِك } وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي
أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْأَدَبِ
: كَتَبَ أَحْمَدُ مَعِي كِتَابًا إلَى رَجُلٍ فَأَمَرَنِي الرَّجُلُ
فَقَرَأْته فَكَانَ فِيهِ وَكَفَانَا وَإِيَّاكَ كُلَّ مُهِمٍّ مِنْ
أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ {
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى } إنَّهُ يُسْتَحَبُّ
تَقْدِيمُ نَفْسِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ فِي
أَمْرِ الدُّنْيَا الْمُسْتَحَبَّ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ وَإِيثَارُهُ .
وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } قِيلَ طَالِبُ
الْعِلْمِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِهِ سَائِلُ الْبِرِّ
وَالْمَعْنَى : لَا تَنْهَرْهُ إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ وَإِمَّا أَنْ
تَرُدَّهُ رَدًّا لَيِّنًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَالْبَغَوِيُّ
: يُقَالُ نَهَرَهُ يَنْتَهِرُهُ إذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ
انْتَهَى كَلَامُهُمَا فَهَذَا الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَمَّا
لَوْ رَدَّهُ بِلِينٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَأَلَحَّ كَفِعْلِ بَعْضِ
السُّؤَالِ سَقَطَ احْتِرَامُهُ وَيُؤَدَّبُ بِلُطْفٍ بِحَسَبِ مَا
يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَصْلَحَةُ ثُمَّ قَدْ يُقَالُ هُوَ أَوْلَى
مِنْ تَرْكِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ ، لَا سِيَّمَا إنْ قَالَ أَوْ فَعَلَ
مَا لَا يَنْبَغِي لِمَا فِيهِ مِنْ زَجْرِهِ وَتَهْذِيبِهِ وَتَقْوِيمِهِ
فَهُوَ إحْسَانٌ إلَيْهِ مَعَ إقَامَةِ الشَّرْعِ فِي عُقُوبَةِ
الْمُعْتَدِي وَقَدْ يُقَالُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْله
تَعَالَى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذًى } .
إنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ
فِي حَاجَةٍ لَمْ يَقْضِهَا فَظَهَرَ مِنْهُ ضَجَرٌ فَأَنْشَدَهُ : لَا
يَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ فَلَخَيْرُ دَهْرِك أَنْ تُرَى
مَسْئُولَا لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلِ فَبَقَاءُ عِزِّك
أَنْ تُرَى مَأْمُولَا تَلْقَى الْكَرِيمَ فَيَسْبِقَنَّكَ بِشْرُهُ
وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلَا وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ
قَلِيلٍ صَائِرُ خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوقُ جَمِيلَا وَيَقُولُ
لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا مُبَاحًا : أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ
وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك وَزَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى .
وَقَالَ
صَالِحٌ لِأَبِيهِ : الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِأَبِيهَا : اللَّهُ خَلِيفَتِي
عَلَيْك قَالَ لَوْ اسْتَوْدَعْته اللَّهَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ ،
فَأَمَّا خَلِيفَتِي فَمَا أَدْرِي .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي
حَدِيثِ الدَّجَّالِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } .
فِي
حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى قَالَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ
وَدَّعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حِينَ أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى بَابِلَ
فَقَالَ : لَا جَعَلَهُ اللَّهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنَّا وَمِنْك .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ {
اسْتَأْذَنْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ
وَقَالَ : لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك فَقَالَ : كَلِمَةٌ مَا
يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا .
} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { أَشْرِكْنَا يَا أَخِي فِي دُعَائِك } .
وَعَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ،
وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَزَادَ : " عَلَى وَلَدِهِ " وَكَذَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ لِوَلَدِهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ
تَفَرَّدَ عَنْهُ يَحْيَى .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {
ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الْإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ
حِينَ يُفْطِرُ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ
مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَعِنْدَهُ قُلْت : يَا رَسُولَ
اللَّهِ مِمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ ؟ قَالَ : " مِنْ الْمَاءِ " .
وَرَوَى
أَحْمَدُ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنِّي إذَا رَأَيْتُك طَابَتْ نَفْسِي ، وَقَرَّتْ عَيْنِي ،
فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ
} إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
لِلرَّجُلِ أُوَدِّعُك كَمَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُنَا فَيَقُولُ : أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَك
وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو
دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْمُرَادُ
بِالْأَمَانَةِ هَاهُنَا أَهْلُهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْهُمْ وَمَالُهُ
الَّذِي يُودِعُهُ وَيَسْتَحْفِظُهُ أَمِينَهُ وَوَكِيلَهُ ، وَجَرَى
ذِكْرُ الدِّينِ مَعَ الْوَدَائِعِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ قَدْ يَكُونُ
سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ
فَدَعَا لَهُ
بِالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِيهَا .
ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ .
{
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي قَالَ :
زَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى قَالَ : زِدْنِي قَالَ : وَغَفَرَ ذَنْبَكَ
قَالَ : زِدْنِي قَالَ : وَيَسَّرَ لَك الْخَيْرَ حَيْثُ مَا كُنْت .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .
وَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ : إذَا خَرَجَ
أَحَدُكُمْ إلَى سَفَرٍ فَلْيُوَدِّعْ إخْوَانَهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ
فِي دُعَائِهِمْ بَرَكَةً قَالَ : وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : السُّنَّةُ إذَا
قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَأْتِيَهُ إخْوَانُهُ فَيُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِ ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ فَيُوَدِّعُهُمْ
وَيَغْنَمُ دُعَاءَهُمْ .
وَقَدْ قِيلَ : فِرَاقُك مِثْلُ فِرَاقِ
الْحَيَاةِ وَفَقْدُك مِثْلُ افْتِقَادِ الدِّيَمِ وَقِيلَ : عَلَيْك
السَّلَامُ فَكَمْ مِنْ وَفَا أُفَارِقُ مِنْك وَكَمْ مِنْ كَرَمْ وَقِيلَ
: لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ مَوْقِفَهَا وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا
غَرِقُ وَقَوْلَهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ تَتْرُكُنِي هَكَذَا
وَتَنْطَلِقُ وَقِيلَ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَ أَخُو
الْوَجْدِ وَالِهًا كَلِفَا أَحْرَقَ مِنْ وَقْفَةِ الْمُشَيِّعِ
لِلْقَلْبِ يُرِيدُ الرُّجُوعَ مُنْصَرِفَا وَقِيلَ : أَقُولُ لَهُ حِينَ
وَدَّعْته وَكُلٌّ بِعَبْرَتِهِ مُفْلِسُ لَئِنْ رَجَعَتْ عَنْك
أَجْسَامُنَا لَقَدْ سَافَرَتْ مَعَك الْأَنْفُسُ وَقِيلَ : يَا رَاحِلَ
الْعِيسِ عَرِّجْ بِي أُوَدِّعْهُمْ يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي تَرْحَالِكَ
الْأَجَلُ إنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ يَا لَيْتَ
شِعْرِي لِطُولِ الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا صَاحَ الْغُرَابُ بِوَشْكِ
الْبَيْنِ فَارْتَحَلُوا وَقَرَّبُوا الْعِيسَ قَبْلَ الصُّبْحِ
وَاحْتَمَلُوا وَغَادَرُوا الْقَلْبَ مَا تَهْدَا لَوَاعِجُهُ كَأَنَّهُ
بِضِرَامِ النَّارِ يَشْتَعِلُ وَفِي الْجَوَانِحِ نَارُ الْحُبِّ
تَقْدَحُهَا أَيْدِي النَّوَى بِزِنَادِ الشَّوْقِ إذْ رَحَلُوا وَقِيلَ :
أُهْدِي إلَيْهِ سَفَرْجَلًا فَتَطَيَّرَا مِنْهُ وَظَلَّ مُفَكِّرًا
مُتَحَيِّرَا
خَوْفَ الْفِرَاقِ لِأَنَّ شَطْرَ هِجَائِهِ سَفَرٌ وَحُقَّ لَهُ بِأَنْ
يَتَطَيَّرَا وَدَّعَ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ : كَبَتَ اللَّهُ لَك
كُلَّ عَدُوٍّ إلَّا نَفْسَك ، وَجَعَلَ خَيْرَ عَمَلِك مَا وَلِيَ
أَجَلَك قَالَ الشَّاعِرُ : وَكُلُّ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ وَجَدْتهَا
سِوَى فُرْقَةِ الْأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ {
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا
اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ
قَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } .
اللَّهُمَّ
إنَّا نَسْأَلُك فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى ، وَمِنْ
الْعَمَلِ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا
سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ
فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ
بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ ، وَسُوءِ
الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ
وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ } رَوَاهُ
مُسْلِمٌ .
مَعْنَى مُقْرِنِينَ ( مُطِيقِينَ ) .
وَاحْتَجَّ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَلَى كَرَاهَةِ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ { لَا تُرْسِلُوا مَوَاشِيَكُمْ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ } وَقَالَ : ( بَابٌ فِي أَيِّ يَوْمٍ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ ؟ ) وَذَكَرَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ : { قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ إلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ } ، وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ } وَقَالَ : ( بَابٌ فِي الِابْتِكَارِ فِي السَّفَرِ ) وَذَكَرَ حَدِيثَ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { إذَا خَرَجَ
ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ } وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُمَا
جَيِّدٌ ، وَفِيهِمَا ابْنُ عَجْلَانَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ ، وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ
بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ }
رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي أَحْكَامِهِ ( بَابُ
وُجُوبِ نَصْبِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَغَيْرِهِمَا )
وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ .
وَقَالَ حَفِيدُ الشَّيْخِ مَجْدِ
الدِّينِ فَأَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمِيرَ
الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ
تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَوُجُوبُ هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ( أَشْهَرُهُمَا ) يَجِبُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْجُيُوشِ وَالرُّفَقَاءِ وَالسَّرَايَا ) وَذَكَرَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورَ خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ .
قَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى
أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ طُرُوقًا قَالَ :
نَعَمْ يُؤْذِنُهُمْ قِيلَ بِكِتَابٍ قَالَ : نَعَمْ } وَهَذَا الْخَبَرُ
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي آخِرِهِ كَيْ تَمْتَشِطَ
الشَّعِثَةُ ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ ، وَفِي مُسْلِمٍ
يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ .
.
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَجِيءَ
أَهْلَهُ طُرُوقًا } .
وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ لَيْلًا ، يُقَالُ
لِكُلِّ مَنْ أَتَاك لَيْلًا طَارِقٌ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : {
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } .
أَيْ النَّجْمِ لِأَنَّهُ يَطْرُقُ
بِطُلُوعِهِ لَيْلًا ، وَقَوْلُهُ تَسْتَحِدَّ أَيْ تُصْلِحَ مِنْ شَأْنِ
نَفْسِهَا ، وَالِاسْتِحْدَادُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَدِيدِ وَمَعْنَاهُ
الِاحْتِلَاقُ بِالْمُوسَى ، يُقَالُ : اسْتَحَدَّ الرَّجُلُ إذَا
احْتَلَقَ بِالْحَدِيدِ ، وَاسْتَبَانَ مَعْنَاهُ إذَا حَلَقَ عَانَتَهُ
وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُهُ طَلَبًا لِلْعَثَرَاتِ حَرُمَ
لِأَنَّهُ مِنْ التَّجَسُّسِ ، وَإِلَّا كَرُهَ .
وَإِنَّمَا خَصَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّيْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ .
وَقَوْلُ
أَحْمَدَ يُؤْذِنُهُمْ بِكِتَابٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَإِلَّا لَقَالَ
يَدْخُلُ نَهَارًا وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا مِنْ
الْمُحَدِّثِينَ ، فَقَالَ : إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ أَنْ لَيْسَ
زِيُّهُ زِيَّ النُّسَّاكِ .
فَصْلٌ ( فِيمَا يُسْتَحَبُّ فِي السَّفَرِ وَالْعَوْدِ مِنْهُ مِنْ ذِكْرٍ وَعَمَلٍ ) .
عَنْ
أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ
النَّاسُ إذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ
وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ
إنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ } فَلَمْ يَنْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ
مَنْزِلًا إلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ .
إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْمُرَادُ بِحَيْثُ لَا يُضَيِّقُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَتَرْجَمَ
عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ( بَابُ مَا يُؤْمَرُ مِنْ انْضِمَامِ الْعَسْكَرِ
) ثُمَّ رَوَى بَعْدَ هَذَا الْخَبَرِ : ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ
ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَسِيد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْخَثْعَمِيِّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُجَاهِدٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ سَهْلِ
بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { غَزَوْت
مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ كَذَا
وَكَذَا فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ
نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي
فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا
جِهَادَ لَهُ } إسْمَاعِيلُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ الشَّامِيِّينَ
وَأُسِيدُ مِنْ الرَّمْلَةِ وَسَهْلٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةٌ وَهُوَ فِي
ثِقَاتِ ابْنِ حِبَّانَ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ .
وَالْمُرَادُ لَا
جِهَادَ لَهُ كَامِلٌ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا {
الْأَرْضُ تُطْوَى بِاللَّيْلِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ
جَابِرٍ مَرْفُوعًا { إذَا سِرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَمْكِنُوا
الرِّكَابَ أَسْنَانَهَا وَلَا تُجَاوِزُوا الْمَنَازِلَ ، وَإِذَا
سِرْتُمْ فِي الْجَدْبِ فَاسْتَجِدُّوا وَعَلَيْكُمْ بِالدَّلْجِ فَإِنَّ
الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ ، وَإِذَا تَغَوَّلَ لَكُمْ الْغِيلَانُ
فَنَادُوا بِالْأَذَانِ وَإِيَّاكُمْ وَالصَّلَاةَ عَلَى جَوَادِّ
الطُّرُقِ وَالنُّزُولَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مَأْوَى الْحَيَّاتِ
وَالسِّبَاعِ وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ
فَإِنَّهَا الْمَلَاعِنُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا إذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُيُوشُهُ إذَا عَلَوْا الثَّنَايَا
كَبَّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا .
} وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا إذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا نُسَبِّحُ حَتَّى نَحُلَّ الرِّحَالَ } .
إسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَقَدْ
وَرَدَ التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ ( بَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ )
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ { قُلْت لِلنَّبِيِّ : أَطَلَّقْتَ نِسَاءَك ؟
قَالَ : لَا قُلْت : اللَّهُ أَكْبَرُ .
} وَقَوْلَ أُمِّ سَلَمَةَ {
اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ } { وَقَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيَّيْنِ :
إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ } .