الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُسْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } .
وَقَدْ
{ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ
وَشَرْطٍ } وَقَدْ كُنْت أَشْرُطُ الْخِيَارَ لِنَفْسِي فَأَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إذَا وَرَدَ وَسَمِعَهُ
الْعَوَامُّ كَانَ نَسْخًا عِنْدَهُمْ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا
الرَّاوِي إذَا كَانَ قَادِرًا أَنْ يُبَيِّنَ خُصُوصَ الْعَامِّ
الْمُخَصَّصِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِتَقْيِيدِهِ وَإِلَّا
فَمُخَاطَرَةٌ ، وَرُبَّمَا قَرَأَ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ الْيَمِينِ "
وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ
اعْتَقَدَ ظَاهِرَ هَذَا كَفَرَ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
كِتَابِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَا يَصْلُحُ لِإِيدَاعِ الْأَسْرَارِ
كُلُّ أَحَدٍ وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ بِكَنْزٍ أَنْ يَكْتُمَهُ
مُطْلَقًا فَرُبَّمَا ذَهَبَ هُوَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْكَنْزِ ،
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَاطِبَ الْعَوَامَّ
بِكُلِّ عِلْمٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ الْخَوَاصَّ بِأَسْرَارِ
الْعِلْمِ لِاحْتِمَالِ هَؤُلَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُولَئِكَ ،
وَقَدْ عُلِمَ تَفَاوُتُ الْأَفْهَامِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ
رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ } .
وَقَالَ { وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا
الْعَالِمُونَ } وَقَالَ { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الْآيَةَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ بَثَثْتُ أَحَدَهُمَا وَلَوْ
بَثَثْتُ الْآخَرَ لَقُطِعَ هَذَا الْحُلْقُومُ .
وَهَذَا يُشْكِلُ
فَيُقَالُ كَيْفَ كَتَمَ الْعِلْمَ ؟ وَلَا أَحْسِبُ هَذَا الْمَكْتُومَ
إلَّا مِثْلَ قَوْلِهِ { إذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ
رَجُلًا جَعَلُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا } وَمِثْلَ ذِكْرِ قَتْلِ
عُثْمَانَ وَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ الْفِتَنِ .
وَمِنْ التَّغْفِيلِ تَكَلُّمِ الْقُصَّاصِ عِنْدَ الْعَوَامّ الْجَهَلَةِ بِمَا لَا يَنْفَعُهُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي
أَنْ
يُخَاطَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ وَمُخَاطَبَةُ الْعَوَامّ
صَعْبَةٌ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَرَى رَأْيًا يُخَالِفُ فِيهِ
الْعُلَمَاءَ وَلَا يَنْتَهِي .
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّ امْرَأَةً
قَالَتْ لِوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا : هَذَا زَوْجِي كَافِرٌ قَالَ
: وَكَيْفَ ؟ قَالَتْ : طَلَّقَنِي بُكْرَةً وَضَاجَعَنِي فِي اللَّيْلِ ،
فَقَالَ : أَنَا أَقْتُلُهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ
وَأَنَّهُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى ارْتِجَاعِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا ،
أَوْ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ رَجْعَةٌ وَرَأَى رَجُلٌ رَجُلًا
يَأْكُلُ فِي رَمَضَانَ فَهَمَّ بِقَتْلِهِ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ
مُسَافِرٌ فَالْوَيْلُ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ مُقَاسَاةِ الْجَهَلَةِ .
ثُمَّ
رَوَى بِإِسْنَادِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَا
أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لَمْ تَبْلُغْهُ عُقُولُهُمْ إلَّا
كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً } وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسِرُّ إلَى
قَوْمٍ وَلَا يُحَادِثُ قَوْمًا وَقَالَ عَمَّنْ وَعَظَ الْعَوَامَّ
لِيَحْذَرَ الْخَوْضَ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ
لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْفِتَنَ وَرُبَّمَا كَفَّرُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ
جَهَلَةً .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْدَحَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا يَتَعَرَّضَ بِتَخْطِئَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَلَّ
أَنْ يَرْجِعَ ذُو هَوًى عَنْ عَصَبِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا
فَمَا يَسْتَفِيدُ مُكَلِّمُ النَّاسِ بِمَا قَدْ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ
غَيْرُهُ إلَّا الْبُغْضَ وَالْوَقِيعَةَ فِيهِ فَإِنْ سَأَلَهُ ذُو هَوًى
تَلَطَّفَ فِي الْأَمْرِ وَأَشَارَ لَهُ إلَى الصَّوَابِ ، وَذَكَرْتُ
مَرَّةً أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعَلَوِيِّينَ خَرَجُوا عَلَى
الْخُلَفَاءِ فَعَادَانِي الْعَلَوِيُّونَ وَقُلْتُ مَا أَسْلَمَ أَبُو
طَالِبٍ فَزَادَتْ عَدَاوَتُهُمْ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ
يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ يُعَادَى وَمَا يَتَغَيَّرُ ذُو
عَقِيدَةٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَغْرَاضَ الْعَوَامّ لَا يَقْدِرُ
الْعُلَمَاءُ عَلَى تَغْيِيرِهَا فَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ الْوُعَّاظِ مَنْ
كَانَ مَعْرُوفًا بِالتَّشَيُّعِ ذُكِرَ يَوْمًا أَنَّ عَلَيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ
يَوْمًا شَرِبَ الْخَمْرَ حِينَ كَانَتْ مُبَاحَةً
فَهَجَرُوهُ وَسَبُّوهُ وَسُئِلَ آخَرُ هَلْ يَسْمَعُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي
عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ فَضَجُّوا بِلَعْنَتِهِ .
وَقَالَ
آخَرُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ فَغَضِبَ قَوْمٌ
وَقَالُوا كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مُسْلِمًا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ
مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يَفْهَمُ بِمَا لَا يُحْتَمَلُ .
وَقَدْ جَرَتْ
فِتَنٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ سِنِينَ
قُتِلَ فِيهَا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ
لِمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لَهُمْ أَهْوَاءٌ
مَعَ الصَّحَابَةِ فَاسْتَبَاحُوا بِأَهْوَائِهِمْ الْقَتْلَ فَاحْذَرْ
الْعَوَامَّ كُلَّهُمْ وَالْخَلْقَ جُمْلَةً فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
فَسَدَ الزَّمَانُ فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا
مَلِيحٌ يُعْشَقُ .
فَصْلٌ ( فِي هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَلَامِ ) .
قَالَ
أَبُو دَاوُد بَابُ الْهَدْيِ فِي الْكَلَامِ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ يَعْنِي
ابْنَ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ
عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ أَنْ
يَرْفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ } ابْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ ، ثُمَّ
رَوَى مِنْ حَدِيثِ مِسْعَرٍ سَمِعْتُ شَيْخًا فِي الْمَسْجِدِ سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : { كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ
اللَّهِ تَرْتِيلٌ أَوْ تَرْسِيلٌ } .
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ
سُفْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ
كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا
فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُهُ ، وَقَالَتْ كَانَ يُحَدِّثُنَا
حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ وَقَالَتْ إنَّهُ لَمْ
يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ كَانَ { إذَا
تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ فَإِذَا
أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ ثَلَاثًا } .
فَصْلٌ كَرَاهَةُ التَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ .
عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ
بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرُ بِلِسَانِهَا } إسْنَادُهُ
جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَتَشَدَّقُ فِي الْكَلَامِ
وَيُفَخِّمُ بِهِ لِسَانَهُ وَيَلُفُّهُ كَمَا تَلُفُّ الْبَقَرَةُ
الْكَلَأَ بِلِسَانِهَا لَفًّا ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مَنِيعٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ
بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ ،
وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ } كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ .
وَفِي أَطْرَافِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ حَسَّانُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَإِنَّمَا
جُعِلَ الْحَيَاءُ وَهُوَ غَرِيزَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ اكْتِسَابٌ
لِأَنَّ الْمُسْتَحْيِي يَنْقَطِعُ بِحَيَائِهِ عَنْ الْمَعَاصِي فَصَارَ
كَالْإِيمَانِ الَّذِي يَقْطَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ، وَإِنَّمَا
جَعَلَهُ بَعْضَهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقَسِمُ إلَى ائْتِمَارِ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَانْتِهَاءٍ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِذَا
حَصَلَ الِانْتِهَاءُ بِالْحَيَاءِ كَانَ بَعْضَ الْإِيمَانِ ، وَالْعِيُّ
قِلَّةُ الْكَلَامِ ، وَالْبَذَاءُ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ .
وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ
الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ ثَنَا مُبَارَكُ بْنُ
فَضَالَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ
مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ
أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ
الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارِينَ وَالْمُتَشَدِّقِينَ
فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ : الْمُتَكَبِّرُونَ } مُبَارَكٌ ثِقَةٌ
تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّدْلِيسِ وَقَدْ زَالَ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ
جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ رَبِّهِ وَهَذَا أَصَحُّ قَالَ فِي
النِّهَايَةِ الثَّرْثَارُ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَلَامَ تَكَلُّفًا
وَخُرُوجًا عَنْ الْحَقِّ ، وَالثَّرْثَرَةُ كَثْرَةُ الْكَلَامِ
وَتَرْدِيدُهُ .
وَالْمُتَشَدِّقُ الْمُتَوَسِّعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ
غَيْرِ احْتِيَاطٍ وَاحْتِرَازٍ ، وَقِيلَ الْمُسْتَهْزِئُ بِالنَّاسِ
يَلْوِي شِدْقَهُ بِهِمْ وَعَلَيْهِمْ قَالَ وَالْمُتَفَيْهِقُ الَّذِي
يَتَوَسَّعُ فِي الْكَلَامِ وَيَفْتَحُ فَاهُ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ
الْفَهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ الِاتِّسَاعُ يُقَالُ أَفْهَقْتُ
الْإِنَاءَ فَفَهِقَ يَفْهَقُ فَهْقًا .
ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي
هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُتَشَدِّقِ فِي الْكَلَامِ
ثَنَا ابْنُ السَّرْحِ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ
النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا
عَدْلًا } عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ
وَهْبٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَرْفُ الْحَدِيثِ مَا يَتَكَلَّفُهُ
الْإِنْسَانُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا
كُرِهَ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ وَلِمَا
يُخَالِطُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّزَيُّدِ .
يُقَالُ فُلَانٌ لَا
يُحْسِنُ صَرْفَ الْكَلَامِ أَيْ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ ، وَهُوَ
مِنْ صَرْفِ الدَّرَاهِمِ وَتَفَاضُلِهَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ .
وَالصَّرْفُ التَّوْبَةُ وَقِيلَ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ وَقِيلَ
الْفَرِيضَةُ وَتَكَرَّرَتْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ فِي الْحَدِيثِ .
وَرَوَى
أَيْضًا ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي
أَصْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَحَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
ابْنَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي ضَمْضَمٌ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ
عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو طِيبَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ
يَوْمًا وَقَالَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فَقَالَ عَمْرُو لَوْ قَصَدَ
فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي
الْقَوْلِ فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ } مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
لَيْسَ بِذَاكَ وَضَمْضَمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ يُشَقِّقُونَ الْكَلَامَ تَشْقِيقَ الشِّعْرِ }
رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ
الْمَشْرِقِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ { إنَّ
مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَوْ إنَّ مِنْ بَعْضِ الْبَيَانِ لَسِحْرًا }
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ قَالَ فِي
النِّهَايَةِ أَيْ مِنْهُ مَا يَصْرِفُ قُلُوبَ السَّامِعِينَ وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ حَقٍّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ مَا
يُكْتَسَبُ بِهِ مِنْ الْإِثْمِ مَا يَكْتَسِبُهُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ
فَيَكُونُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْرِضِ
الْمَدْحِ لِأَنَّهُ تُسْتَمَالُ بِهِ الْقُلُوبُ وَيَتَرَضَّى بِهِ
السَّاخِطُ وَيُسْتَنْزَلُ بِهِ الصَّعْبُ .
وَالسِّحْرُ فِي
كَلَامِهِمْ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ تَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ عَلَى الذَّمِّ لِأَنَّ السِّحْرَ
مَذْمُومٌ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ
الْأَدَبِ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
مَدَحَ الْبَيَانَ وَأَضَافَهُ إلَى الْقُرْآنِ .
قَالَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنْ حَاجَةٍ فَأَحْسَنَ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْجَبَهُ
قَوْلُهُ
فَقَالَ هَذَا وَاَللَّهِ السِّحْرُ الْحَلَالُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ
الْعَبَّاسِ الرُّومِيُّ : وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ
أَنَّهَا لَمْ تَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ وَقَالَ
الْحَسَنُ الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ بِلِسَانِهِ
وَرَجُلٌ بِمَالِهِ وَنَظَرَ مُعَاوِيَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلًا : إذَا قَالَ لَمْ
يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلٍ مُصِيبٍ وَلَمْ يَثْنِ اللِّسَانَ عَلَى
هُجْرِ يُصَرِّفُ بِالْقَوْلِ اللِّسَانَ إذَا انْتَحَى وَيَنْظُرُ فِي
أَعْطَافِهِ نَظَرَ الصَّقْرِ وَلِحَسَّانٍ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا : إذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلِ
بِمُلْتَقَطَاتٍ لَا تَرَى بَيْنَهَا فَصْلًا شَفَى وَكَفَى مَا فِي
النُّفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ لِذِي إرْبَةٍ فِي الْقَوْلِ جِدًّا وَلَا
هَزْلَا قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا
فَارِسُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ حَدَّثَنِي أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنِي صَخْرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {
إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَإِنَّ
مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا ، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا } فَقَالَ
صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَّا قَوْلُهُ { إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا } فَالرَّجُلُ
يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلَحْنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ
الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا " .
فَتَكَلُّفُ
الْعَالِمِ إلَى عِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ فَيُجْهِلُهُ ذَلِكَ ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا " فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ
وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ
مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا " فَعَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ
لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { لَا
تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ { لَا تُعْطُوا
الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا
أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ } قَالَ وَقَدْ ضُرِبَ لِذَلِكَ مَثَلٌ أَنَّهُ
كَتَعْلِيقِ اللَّآلِئِ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ وَيَأْتِي بِنَحْوِ
كُرَّاسَةٍ مَنْ حَدَّثَ النَّاسَ بِمَا لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُمْ
أَبُو جَعْفَرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو تُمَيْلَةَ وَأَمَّا صَعْصَعَةُ
فَثِقَةٌ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ أَمِيرًا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ
فِي " إنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا " قِيلَ هُوَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا لَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالنُّجُومِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ وَيَدْعُ مَا
يَحْتَاجُهُ فِي دِينِهِ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ
وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ
مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { إنَّ مِنْ الشِّعْرِ
حِكْمَةً } قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَهِيَ الْحِكَمُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ
{ الصَّمْتُ حِكَمٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ } وَقَالَ { إنَّ مِنْ الْقَوْلِ
عَيْلًا } يُقَالُ عِلْتُ الضَّالَّةَ أَعِيلُ عَيْلًا إذَا لَمْ تَدْرِ
أَيَّ جِهَةٍ تَبْغِيهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ لِمَنْ يَطْلُبُ
كَلَامَهُ فَعَرَضَهُ عَلَى مَنْ لَا يُرِيدُهُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ
عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا { الشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ
وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ } وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَلِأَحْمَدَ
وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ {
لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا } وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ { بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يَنْشُدُ فَقَالَ خُذُوا
الشَّيْطَانَ أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ
أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا }
وَلِأَحْمَدَ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " امْرُؤُ الْقِيسِ
صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إلَى النَّارِ " .
وَعَنْ الشَّرِيدِ
قَالَ { كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي
الصَّلْتِ قُلْتُ نَعَمْ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ
فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا قَالَ هِيهِ
حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ فَقَالَ لَقَدْ كَادَ أَنْ يُسْلِمَ
فِي شِعْرِهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا { وَلَمَّا
دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ
يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ : خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ
سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ
الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَرَمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ تَقُولُ الشِّعْرَ قَالَ خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهِيَ
أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ وَقَدْ رَوَى فِي
غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ { أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ } وَهَذَا أَصَحُّ
عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ كَانَتْ
بَعْدَ مَوْتِهِ { وَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ إنِّي قَدْ
حَمِدْتُ رَبِّي بِمَحَامِدِ مَدْحٍ وَإِيَّاكَ ، فَقَالَ أَمَا إنَّ
رَبَّكَ يُحِبُّ الْمَدْحَ فَهَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ عَزَّ
وَجَلَّ فَأَنْشَدْتُهُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُل فَاسْتَنْصَتَنِي لَهُ
فَتَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ ، فَأَنْشَدْتُهُ ثُمَّ رَجَعَ
فَاسْتَنْصَتَنِي فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ
الْبَاطِلَ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ثَنَا
حَسَنُ بْنُ مُوسَى ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ
زَيْدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
وَأَكْثَرُهُمْ لَيَّنَهُ .
وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى ذِكْرِ مَنْ ضَعَّفَهُ عَقِبَ هَذَا الْخَبَرِ .
وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ
عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ
الْمَدِينِيِّ لَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ الْأَسْوَدِ وَعَنْ
الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِحَسَّانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ { اُهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ
مَعَكَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَأَشْفَى .
وَرَوَى
أَحْمَدُ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ
{ إنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ } حَدِيثٌ
صَحِيحٌ ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَمَّارٌ { لَمَّا هَجَانَا
الْمُشْرِكُونَ شَكَوْنَا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قُولُوا لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ
فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نُعَلِّمُهُ إمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } مُحَمَّدٌ
لَمْ أَجِدْ لَهُ تَرْجَمَةً ، وَبَاقِيهِ حَسَنٌ وَسَبَقَ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالْوَعْظِ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْوُلَاةِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا
غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا
بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } .
وَفِي
لَفْظِ { سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوَا وَرَوِّحُوا ، وَشَيْئًا مِنْ
الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا } رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ
" الدِّينُ " مَرْفُوع عَلَى
مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَرُوِيَ
مَنْصُوبًا " لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدًا " وَقَوْلُهُ : " إلَّا
غَلَبَهُ " أَيْ غَلَبَهُ الدِّينُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ وَالْغَدْوَةُ
أَوَّلُ النَّهَارِ وَالرَّوْحَةُ آخِرُهُ وَالدُّلْجَةُ آخِرُ اللَّيْلِ
وَالْمُرَادُ الْعَمَلُ وَقْتَ النَّشَاطِ وَالْفَرَاغِ كَمَا أَنَّ
الْمُسَافِرَ يَسِيرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِلْيُسْرِ .
وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ
قَالَهَا ثَلَاثًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
الْمُتَنَطِّعُونَ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُد ( فِي بَابِ الْحَسَدِ ) ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي الْعَمْيَاءِ أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ
أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي
الْمَدِينَةِ فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كَانَ يَقُولُ : { لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
يُشَدِّدْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي
الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } } إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ عَائِشَةَ : { مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ
يَكُنْ إثْمًا وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ
فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ } ، زَادَ مُسْلِمٌ { وَمَا ضَرَبَ شَيْئًا بِيَدِهِ
وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { يَسِّرُوا
وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا } رَوَى أَحْمَدُ
حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ
الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ } وَرَوَى
أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ
دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ {
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَنِيفَةُ السَّمْحَةُ } وَذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَثَلُ
الَّذِي يَجْلِسُ لِيَسْمَعَ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ عَنْ
صَاحِبٍ إلَّا بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا
فَقَالَ يَا رَاعٍ اخْتَرْ لِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ قَالَ : اذْهَبْ
فَخُذْ بِأُذْنِ خَيْرِهَا فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذْنِ كَلْبِ الْغَنَمِ }
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { لَا
يُدْرِكُنِي زَمَانٌ وَلَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتَّبَعُ فِيهِ
الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَحْيَى فِيهِ مِنْ الْحَكِيمِ ، قُلُوبُهُمْ
الْأَعَاجِمُ وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ } .
وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلِيَنْظُرْ مَا
يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ أَمْنِيَّتِهِ }
رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
فَصْلٌ ( فِي قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقُصَّاصِ ) .
سُئِلَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي
رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَغَضِبَ فَقَالَ : هَذِهِ
مَسْأَلَةُ مُسْلِمٍ ؟ وَغَضِبَ .
وَظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَذَكَرَهُ
الْقَاضِي ثُمَّ احْتَجَّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
لَمَّا رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنْ التَّوْرَاةِ غَضِبَ وَقَالَ
أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً } ؟ الْحَدِيثَ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ رِوَايَة مُجَالِدٍ وَجَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ وَلِأَنَّهَا كُتُبٌ مُبَدَّلَةٌ
مُغَيَّرَةٌ فَلَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا .
قَالَ
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ شُيُوخِنَا الْعُكْبَرِيِّينَ فَكَانَ
ابْنُ هُرْمُزَ وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ يَقُصُّ بِهَذِهِ
الْكُتُبِ وَكَانَتْ مُعَرَّبَةً فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ ذَلِكَ وَصَنَّفَ فِيهِ جُزْءًا ذَكَرَ مَا
حَكَيْنَا مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ
رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي يَحْيَى النَّاقِدِ قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ
يَقُولُ : الِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ يَقْطَعُ
عَنْ الْعِلْمِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ .
وَذَكَرَ أَيْضًا
بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا كَعْبٌ يَقُصُّ .
فَقَالَ
: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {
مَنْ قَصَّ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ نَبِيِّهِ فَاضْرِبُوا
رَأْسَهُ } فَمَا رُئِيَ كَعْبٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَعْدُ .
وَبِإِسْنَادِهِ
أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَدِيَّةً ،
فَقَالَتْ : وَلَا حَاجَةَ لِي فِي هَدِيَّتِهِ بَلَغَنِي أَنَّهُ
يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ الْأُوَلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَوَ
لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ } .
ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ الْجَامِعِ عِنْدَ الْكَلَامِ
عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْمُصْحَفِ ، وَسَبَقَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي بَيَانِ الْكَذِبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } وَكَلَامُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَصْلٌ ( فِي التَّخَوُّلِ بِالْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ الْمَلَلِ ) .
فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يُذَكِّرُ كُلَّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ
حَدَّثَتْنَا كُلَّ يَوْمٍ ، فَقَالَ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ
إلَّا كَرَاهِيَةٌ أَنْ أُمِلَّكُمْ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ
مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا } .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدِّثْ النَّاسَ مَا أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ
قُلُوبُهُمْ إذَا حَدَّقُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ وَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ
قُلُوبُهُمْ فَلَا تُحَدِّثْهُمْ ، وَذَلِكَ إذَا اتَّكَأَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِّثْ النَّاسَ
كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَمَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ
أَكْثَرْتَ فَثَلَاثًا وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ
وَلْتَأْتِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ فَتَقْطَعَ عَلَيْهِمْ
حَدِيثَهُمْ وَقَالَ : أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ
يَشْتَهُونَهُ ، وَإِيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنِّي عَهِدْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَا
يَفْعَلُونَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : أَيُّهَا النَّاسُ لَا
تُبَغِّضُوا اللَّهَ إلَى عِبَادِهِ ، فَقِيلَ كَيْفَ ذَاكَ أَصْلَحَكَ
اللَّهُ قَالَ يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ قَاصًّا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ
حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ ، وَيَقُومُ أَحَدُكُمْ
إمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ
فِيهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ إيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ وَكَانَ
الزُّهْرِيُّ إذَا سُئِلَ عَنْ الْحَدِيثِ يَقُولُ أَحْمِضُوا أَخْلِطُوا
الْحَدِيثَ بِغَيْرِهِ حَتَّى تَنْفَتِحَ النَّفْسُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
نَقْلُ الصَّخْرِ أَيْسَرُ مِنْ تَكْرِيرِ الْحَدِيثِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ
يُقَالُ
سِتَّةٌ إذَا أُهِينُوا فَلَا يَلُومُوا أَنْفُسَهُمْ : الذَّاهِبُ إلَى
مَائِدَةٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهَا وَطَالِبُ الْفَضْلِ مِنْ اللِّئَامِ .
وَالدَّاخِلُ
بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي حَدِيثِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَاهُ فِيهِ ،
وَالْمُسْتَخِفُّ بِالسُّلْطَانِ ، وَالْجَالِسُ مَجْلِسًا لَيْسَ لَهُ
بِأَهْلٍ ، وَالْمُقْبِلُ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَنْ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ
وَلَا يُصْغِي إلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ
الْمَجَالِسِ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ :
فَابْتَغَوْا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرِيحُوا الْقُلُوبَ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا
كَرِهَ عَمِيَ وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالًا
، وَفَتْرَةً وَإِدْبَارًا .
فَخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا ، وَذَرُوهَا عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا .
وَفِي
صُحُفِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ
لَهُ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ .
وَسَاعَةٌ
يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ
وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ ، فَإِنَّ هَذِهِ
السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى سَائِرِ السَّاعَاتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحَدَّثُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَجَالَسُوا ، وَإِذَا
مَلَلْتُمْ فَحَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرِّجَالِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَقَالَ
أَيْضًا لِابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَا بُنَيَّ إنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي
وَإِنْ حَمَلْتُ عَلَيْهَا فَوْقَ الْجَهْدِ قَطَعْتُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : حَادِثُوا هَذِهِ الْقُلُوبَ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهَا تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ هَذِهِ
الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ قَالُوا فَمَا جِلَاؤُهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ } وَكَانَ يُقَالُ :
التَّفَكُّرُ نُورٌ وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةٌ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَوْلُ سَلْمَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ : إنَّ
لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِك عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
وَقَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ سَلْمَانُ "
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُنَيْدٍ قَالَ :
لَا تَنْسَى شَيْئًا فَتَقُولُ : { سُبْحَانَك لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا إنَّك أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } .
إلَّا ذُكِّرْتَهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقُولَهَا .
وَرُوِيَ
أَيْضًا عَنْ الْأَعْمَشِ : جَوَابُ الْأَحْمَقِ السُّكُوتُ عَنْهُ
وَقَالَ الْأَعْمَشُ : السُّكُوتُ جَوَابٌ وَالتَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرًّا
كَثِيرًا ، وَرِضَى الْمُتَجَنِّي غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ ، وَاسْتِعْطَافُ
الْمُحِبِّ عَوْنٌ لِلظَّفَرِ ، وَمَنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ طَالَ حُزْنُهُ .
فَصْلٌ حُكْمِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ وَمَتَى يَكُونُ بِدْعَةً .
قَالَ
: مُهَنَّا : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِسُ إلَى
الْقَوْمِ فَيَدْعُو هَذَا وَيَدْعُو هَذَا ، وَيَقُولُونَ لَهُ : اُدْعُ
أَنْتَ .
فَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا هَذَا وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يُكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَوْمُ يَدْعُونَ
وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ ؟ فَقَالَ : مَا أَكْرَهُهُ لِلْإِخْوَانِ
إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى عَمْدٍ إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا .
قَالَ
ابْنُ مَنْصُورٍ : قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ
وَإِنَّمَا مَعْنَى إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا إلَّا أَنْ يَتَّخِذُوهَا
عَادَةً حَتَّى يَكْثُرُوا .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ
مِهْرَانَ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قُلْتُ
: إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فَيَدْعُونَ وَيَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَمَا تَرَى فِيهِمْ قَالَ :
فَأَمَّا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَقَالَ : يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ
وَيَدْعُو بَعْدَ صَلَاةٍ وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ .
قُلْتُ :
فَأَخٌ لِي يَفْعَلُ هَذَا قَالَ : انْهَهُ قُلْتُ : لَا يَقْبَلُ قَالَ :
عِظْهُ قُلْتُ : لَا يَقْبَلُ ، أَهْجُرُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
ثُمَّ
أَتَيْتُ أَحْمَدَ حَكَيْتُ لَهُ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ لِي
أَحْمَدُ أَيْضًا : يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى
فِي نَفْسِهِ .
وَيُطْلَبُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : فَأَنْهَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ :
فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ قَالَ : بَلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ
هَذَا مُحْدَثٌ ، الِاجْتِمَاعُ وَاَلَّذِي تَصِفُ قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ أَهْجُرُهُ ؟ فَتَبَسَّمَ وَسَكَتَ .
وَعَنْ مَعْمَرٍ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ قَالَ
: فَخَرَجَ يَوْمًا وَقَرَأَ وَجَهَرَ بِصَوْتِهِ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ
لَهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : فَتَنْت النَّاسَ قَالَ :
فَدَخَلَ .
وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَأُ قَارِئٌ وَيَدْعُونَ حَتَّى
يُصْبِحُوا ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : كُنْت أُصَلِّي
فَرَأَيْت إلَى جَنْبِي رَجُلًا عَلَيْهِ كِسَاءٌ ، وَمَعَهُ نَفْسَانِ
يَدْعُوَانِ فَدَنَوْت فَدَعَوْت مَعَهُمْ ، فَلَمَّا قُمْت رَأَيْت
جَمَاعَةً يَدْعُونَ فَأَرَدْت أَنْ أَعْدِلَ إلَيْهِمْ وَلَوْلَا
مَخَافَةُ الشُّهْرَةِ لَقَعَدْت مَعَهُمْ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ
النَّاسُ فَيُصَلُّوا وَيَذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا
قَالَتْ الْأَنْصَارُ ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا
إسْمَاعِيلُ ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ :
نُبِّئْت أَنَّ الْأَنْصَارَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالُوا : لَوْ نَظَرْنَا
يَوْمًا فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ ، فَذَكَرْنَا هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا ، وَذُكِرَ الْحَدِيثُ وَفِيهِ أَنَّهُمْ
اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ
وَذُبِحَتْ لَهُمْ شَاةٌ وَكَفَتْهُمْ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ : فَقَيَّدَ أَحْمَدُ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الدُّعَاءِ إذَا لَمْ
يُتَّخَذْ عَادَةً ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا اتَّخَذَ
أَصْحَابُهُ مَكَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلذِّكْرِ ، فَخَرَجَ
إلَيْهِمْ فَقَالَ : يَا قَوْمُ لَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ أَوْ لَأَنْتُمْ عَلَى شُعْبَةِ ضَلَالَةٍ .
وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاجْتِمَاعُ
لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَقَالَ مَالِكٌ :
يُكْرَهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يَسْقُطُ إلَى الْأَرْضِ
حَتَّى يَكَادَ يَذْهَبُ عَقْلُهُ ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ يَبْكِي وَيُنْكِرُ سُقُوطَ يَحْيَى ، قَالَ يَحْيَى قَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَوْ قَدَرَ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا
أَحَدٌ لَدَفَعَهُ يَحْيَى ، وَيَأْتِي فِي آدَابِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ
فُصُولِ الطَّلَبِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَا رَأَيْت أَبِي
يَبْكِي قَطُّ إلَّا فِي حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبٍ .
فَصْلٌ ( فِي صِفَةِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي يُؤْخَذُ عَنْهُ ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ
إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْحَدِيثَ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : صَارَ
الْحَدِيثُ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا
يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ إذَا
كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ قَالَ لِي
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : الْحَدِيثُ شَدِيدٌ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا
أَشَدَّهُ ، أَوْ كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ : يَحْتَاجُ إلَى ضَبْطٍ
وَذِهْنٍ وَكَلَامٍ يُشْبِهُ هَذَا ثُمَّ قَالَ : وَلَا سِيَّمَا إذَا
أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ إذَا حَدَّثَ ، ثُمَّ
قَالَ : هُوَ مَا لَمْ يُحَدِّثْ مَسْتُورٌ ، فَإِذَا حَدَّثَ خَرَجَ
مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَدَا مَا كَانَ فِيهِ ، وَكَلَامٌ نَحْوُ هَذَا ،
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : وَمُرْ أَهْلَ الْفِقْهِ مِنْ
جُنْدِك فَلْيَنْشُرُوا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ فِي مَسَاجِدِهِمْ
وَمَجَالِسِهِمْ ، وَالسَّلَامُ وَقَالَ أَحْمَدُ لِابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ : أَفِدْ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَأَكْرِمْهُمْ ، فَإِنَّ
إبْرَاهِيمَ بْنَ بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ لَمْ يَكُنْ يُفِيدُ أَصْحَابَ
الْحَدِيثِ وَيَجْفُوهُمْ فَلَمْ يُفْلِحْ ، وَمَشْهُورٌ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ : يَقُولُ : سَلُوا مَوْلَانَا
الْحَسَنَ فَإِنَّهُ حَضَرَ وَغِبْنَا .
وَحَفِظَ وَنَسِينَا وَقَالَ
الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ : مَا عَبَّرَ الْإِنْسَانُ
عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَيْلِهِ إلَى الْفَضْلِ وَأَهْلِهِ ،
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْقَاتِيُّ بِنُونٍ
مَفْتُوحَةٍ وَقَافٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ ، ثُمَّ بِتَاءٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ
فَوْقٍ نِسْبَةً إلَى نَوْقَاتَ مَوْضِعٌ بِسِجِسْتَانَ ، وَيَشْتَبِهُ
بِالنَّوْقَانِيِّ بِنُونٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بَلْدَةٌ مِنْ مُدُنِ طُوسٍ ،
كَانَ حَاضِرًا فَنَظَمَ الْمَعْنَى وَقَالَ : وَمَا عَبَّرَ الْإِنْسَانُ
عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ اعْتِقَادِ الْفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ
وَإِنَّ أَخَسَّ
النَّقْصِ أَنْ يَتَّقِيَ الْفَتَى قَذَى النَّقْصِ
عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الْأَفَاضِلِ وَهَذَا لَمَّا سَعَى بَعْضُ النَّاسِ
إلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّادٍ ، وَقَالَ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ أَنَّهُ جَمَعَ كِتَابًا فِي التَّشْبِيهِ
فَاسْتَدْعَاهُ ، وَبَحَثَ عَنْهُ فَأَنْصَفَ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّادٍ
مُعْتَزِلِيًّا ، وَقَالَ : كَيْفَ يُنْقَمُ عَلَى رَجُلٍ مَا أَوْدَعَ
كِتَابَهُ إلَّا آيَةً مُحْكَمَةً أَوْ أَخْبَارًا صَحِيحَةً .
وَدَخَلَ
ابْنُ مَنْدَهْ عَلَى ابْنِ عَبَّادٍ فَقَامَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا
خَرَجَ قِيلَ لَهُ : قُمْت لِرَجُلٍ مِنْ مُعَانِدِينَا لَا يُحْسِنُ
شَيْئًا ، إنَّمَا يَعْرِفُ جَمَاعَةً مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ .
قَالَ
ابْنُ عَبَّادٍ : أَلَيْسَ يَعْرِفُ جَمَاعَةً مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ
لَا أَعْرِفُهُمْ ؟ فَلَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ الصَّاحِبُ
بْنُ عَبَّادٍ : مَنْ لَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَعْرِفْ حَلَاوَةَ
الْإِسْلَامِ ، وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُمْلِيَ وَيَرْوِيَ الْحَدِيثَ ،
امْتَنَعَ مِنْ حُضُورِ الدِّيوَانِ وَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ
وَالتَّوَرُّعَ ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ
وَاسْتَفْتَاهُمْ بِالْكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِ ، فَأَفْتَوْا
بِجَوَازِهَا فَأَفْتَى مَجَالِسَ ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ
الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي كِتَابِ تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ
.
وَلَمَّا حَجَّ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السِّجْزِيُّ ، وَنَزَلَ
بِظَاهِرِ الرَّيِّ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ
ضِيَافَةً ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت
بِكُلِّ سَوْطٍ ضُرِبَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ ،
وَاسْتَرَحْت مِنْ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ .
وَرَوَى الْحَاكِمَ
فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ
اُبْتُلِيَ بِثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ ،
وَإِمَّا أَنْ يَنْسَى حَدِيثَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُبْتَلَى
بِالسُّلْطَانِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْحِبْرُ خَلُوقُ
الْعُلَمَاءِ .
فَصْلٌ ( فِي إنْصَافِ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يُحَابِي فِي التَّحْدِيثِ ) .
قَالَ
مُهَنَّا : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ إسْمَاعِيلُ
ابْنُ عُلَيَّةَ يَضَعُ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي
الشَّفَاعَاتِ ، وَنَحْنُ عَلَى الْبَابِ نَتَضَوَّرُ وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادَةَ : كَانَ لَا يُنْصِفُهُمْ فِي
الْحَدِيثِ يَعْنِي إسْمَاعِيلَ قُلْت : كَيْفَ كَانَ لَا يُنْصِفُ ؟
قَالَ كَانَ يُحَدِّثُ بِالشَّفَاعَاتِ قُلْت : فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ
إخْوَانٌ يَخُصُّهُمْ بِالْحَدِيثِ لَا تَرَى ذَلِكَ قَالَ مَا أَحْسَنَ
الْإِنْصَافَ ؟ مَا أَرَى يَسْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا قُلْت :
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُقْرِئُ رَجُلًا مِائَتَيْ آيَةٍ ، وَيُقْرِئُ آخَرَ
مِائَةَ آيَةٍ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُنْصِفَ
بَيْنَ النَّاسِ وَقُلْت لَهُ : إنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى هَذَا مِائَتَيْ
آيَةٍ لِأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِهِ ، وَيَأْخُذُ عَلَى
هَذَا أَقَلَّ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ هَذَا فِي الْعَمَلِ ، مَا تَرَى
فِيهِ قَالَ مَا أَحْسَنَ الْإِنْصَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ عِيسَى كَانَ مُنْتَصِبًا لِلنَّاسِ وَحَفْصٌ كَانَ يُحَدِّثُ بِالشَّفَاعَةِ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّوْرِيُّ ثَنَا
أَبُو سُلَيْمَانَ الْأَشْقَرُ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ فَجَعَلَ يُقْبِلُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ
وَيُحَدِّثُهُمْ فَقُلْنَا : تُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَدَعُنَا قَالَ
: أَهْلُ بَلَدِي أَحَقُّ بِالْحَدِيثِ مِنْكُمْ ، وَسَمِعْت الْعَبَّاسَ
بْنَ مُحَمَّدٍ الدَّوْرِيَّ يَقُولُ : رُبَّمَا كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ أَيَّامَ الْحَجِّ فَيَجِيئُهُ أَقْوَامٌ مِنْ الْحُجَّاجِ
، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ فَرُبَّمَا قُلْنَا لَهُ فِي
ذَلِكَ فَيَقُولُ : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ غُرَبَاءُ وَإِلَى أَيَّامٍ
يَخْرُجُونَ .
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى
يُونُسَ فَأَخَذَ يَسْأَلُهُ وَيُمْلِي عَلَيْهِ وَمَعَهُ أَلْوَاحٌ ،
فَلَمَّا قَامَ قَالُوا : نَسْأَلُك فَلَا تُحَدِّثُنَا وَتُحَدِّثُ
سُفْيَانَ قَالَ : سُفْيَانُ
غَرِيبٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا دَامَ
الْعَالِمُ يَعْدِلُ بَيْنَكُمْ بِعِلْمِهِ لَا يَحِيفُ .
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك لِلنَّاسِ } .
قَالَ
: يَكُونُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ عِنْدَك فِي الْعِلْمِ سَوَاءً وَقَالَ
ابْنُ عَوْنٍ : كَلَّمُوا مُحَمَّدًا فِي رَجُلٍ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ :
لَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الزِّنْجِ لَكَانَ عِنْدِي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ فِي هَذَا سَوَاءً .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ قَضَى بِهِ حُكْمًا لِغَيْرِهِ .
وَقَالَ
الشَّاعِرُ : إذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاك وَجَدْته عَلَى طَرَفِ
الْهِجْرَانِ إنْ كَانَ يَعْقِلُ وَقَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ حَقَائِقِ
الْإِيمَانِ : الِاقْتِصَادُ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَالِابْتِدَاءُ
بِالسَّلَامِ ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك وَقَالَ مَالِكُ بْنُ
دِينَارٍ : وَلَيْسَ فِي النَّاسِ شَيْءٌ أَقَلَّ مِنْ الْإِنْصَافِ
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ : مَا أَقَلَّ الْإِنْصَافَ وَمَا أَكْثَرَ
الْخِلَافَ ، وَالْخِلَافُ مُوَكَّلٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَذَاةِ
فِي رَأْسِ الْكُوزِ ، فَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَشْرَبَ الْمَاءَ حَارَتْ
إلَى فِيك ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَصُبَّ عَنْ رَأْسِ الْكُوزِ
لِتَخْرُجَ رَجَعَتْ .
قَالَ الشَّاعِرُ : آخِ الْكِرَامَ
الْمُنْصِفِينَ وَصِلْهُمْ وَاقْطَعْ مَوَدَّةَ كُلِّ مَنْ لَا يُنْصِفُ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : إذَا مَا لَمْ يَكُنْ لَك حُسْنُ فَهْمٍ
أَسَأْت إجَابَةً وَأَسَأْت سَمْعَا وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهُ
حَدَّثَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ ، وَأَسْمَعَ هُشَيْمٌ رَجُلًا
بِشَفَاعَةِ أَحْمَدَ ، وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَهُ
إنْسَانٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ أَوْ شَفَاعَةً حَدَّثَهُ مَعَ
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يُحَدِّثْهُ دُونَهُمْ ، وَلَمْ يَخُصَّهُ .
فَصْلٌ
جَاءَ رَجُلَانِ إلَى أَحْمَدَ فَقَالَ : لَوْ جِئْتُكُمْ إلَى
الْمَنْزِلِ وَحَدَّثْتُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْلًا لِذَلِكَ وَقَالَ
عُرْوَةُ : ائْتُونِي فَتَلَقَّوْا مِنِّي ، وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا
أَنَّهُ كَانَ يَأْلَفُ النَّاسَ عَلَى حَدِيثِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
حُبَيْشٍ : جَاءَ زُهَيْرٌ إلَى ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ بِرَجُلٍ فَقَالَ :
حَدِّثْهُ قَالَ : حَتَّى أَسْأَلَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ : مَتَى
عَهِدْت النَّاسَ يَفْعَلُونَ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ زَائِدَةُ : وَمَتَى
عَهِدْت النَّاسَ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَالَ أَيُّوبُ
قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ حَدِيثٍ فَمَنَعَهُ
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ تُؤْجَرُ ، فَقَالَ لَهُ : لَيْسَ كُلُّ الْأَجْرِ
نَقْوَى عَلَيْهِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ
قَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ : لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ
بِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَوْ لَا يَعْرِفُونَ فَتَضُرُّوهُمْ ، وَصَحَّ
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : لَا تَنْشُرْ بَزَّك إلَّا عِنْدَ مَنْ يَبْغِيهِ
، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ يَعْنِي
الْحَدِيثَ وَقَالَ شُعْبَةُ : أَتَانِي الْأَعْمَشُ وَأَنَا أُحَدِّثُ
قَوْمًا فَقَالَ : وَيْحَك تُعَلِّقُ اللُّؤْلُؤَ فِي أَعْنَاقِ
الْخَنَازِيرِ ، وَقَالَ مُهَنَّا لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ ؟
فَقَالَ : مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّثَ مَنْ لَا
يَسْتَأْهِلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : قَالَ
سُفْيَانُ قَالَ عِيسَى : عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحِكْمَةِ أَهْلٌ فَإِنْ
وَضَعْتهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا ضِيعَتْ ، وَإِنْ مَنَعْتهَا مِنْ
أَهْلِهَا ضِيعَتْ ، كُنْ كَالطَّبِيبِ يَضَعُ الدَّوَاءَ حَيْثُ
يَنْبَغِي وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِك بْنُ عُمَيْرٍ : كَانَ يُقَالُ :
إضَاعَةُ الْحَدِيثِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ ، وَعَنْ
دَغْفَلٍ قَالَ : آفَةُ الْعِلْمِ أَنْ تَخْزُنَهُ وَلَا تُحَدِّثَ بِهِ
وَلَا تَنْشُرَهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : حَدِّثْ حَدِيثَك
مَنْ تَشْتَهِيهِ وَمَنْ لَا تَشْتَهِيهِ فَإِنَّك تَحْفَظُهُ حَتَّى
كَأَنَّهُ أَمَامَك تَقْرَأُهُ .
رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ
رَجُلٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : قَالَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَطْرَحْ اللُّؤْلُؤَ إلَى الْخِنْزِيرِ ،
فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا ، وَلَا تُعْطِ
الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنْ
اللُّؤْلُؤِ ، وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ
مَالِكٌ : ذَلِكَ ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ لِلْعِلْمِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ
عِنْدَ مَنْ لَا يُطِيعُهُ .
وَقَالَ كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ
الْحَضْرَمِيُّ : لَا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ
فَيُكَذِّبُوك ، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ
فَيَمْقُتُوك ، وَلَا تَمْنَعْ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمْ ، وَلَا
تُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتَجْهَلْ ، إنَّ عَلَيْك فِي عِلْمِك
حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْك فِي مَالِكَ حَقًّا .
ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ شِمَاسٍ قَالَ
كُنَّا بِعَبَّادَانَ فَجَرَى تَشَاجُرٌ بَيْنَ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ ،
فَلَمْ يُحَدِّثْهُمْ يَعْنِي وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
فَقَالَ : إنَّمَا أَرَدْت أَدَبَهُمْ ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
إنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ الرَّعَاعَ وَالْغَوْغَاءَ فَأَمْهِلْ حَتَّى
تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ .
فَقَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ قَبِلَ مَشُورَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ : فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَا يُودَعَ الْعِلْمُ
عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ وَلَا يُحَدَّثَ الْقَلِيلُ الْفَهْمِ مَا لَا
يَحْتَمِلُهُ فَهْمُهُ قَالَ : وَالرَّعَاعُ السَّفَلَةُ وَالْغَوْغَاءُ
نَحْوُ ذَلِكَ ، وَأَصْلُ الْغَوْغَاءِ صِغَارُ الْجَرَادِ قَالَ ابْنُ
عَقِيلٍ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك } .
ذَلِكَ مَعَ الْمُعْجِزِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ الْحَقُّ لَهُ لَوْلَا تَخَلُّقُهُ لِلْخُلُقِ
الْجَمِيلِ لَانْفَضُّوا عَنْك ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالْمُعْجِزِ
فِي تَحْصِيلِهِمْ ، لَا تَقْنَعْ أَنْتَ بِالْعُلُومِ وَتَظُنَّ أَنَّهَا كَافِيَةٌ فِي حَوْشِ النَّاسِ إلَى الدِّينِ ، بَلْ حُسْنُ ذَلِكَ وَجُلُّهُ بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ .
فَصْلٌ ( فِي أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانُوا صِغَارَ السِّنِّ ) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ الْغُلَامُ أُسْتَاذٌ إذَا كَانَ ثِقَةً .
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : لَأَنْ أَسْأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيُفْتِيَنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَسْأَلَ أَبَا
عَاصِمٍ وَابْنَ دَاوُد ، إنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِالسِّنِّ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ : قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْعِلْمَ
لَيْسَ عَنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ وَلَا قِدَمِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَقَالَ وَكِيعٌ : لَا يَكُونُ
الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَسْمَعَ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَمَنْ
هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ .
هَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِهِ وَغَيْرُهُ .
وَفِي
فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ وَجَدْت فِي تَعَالِيقِ مُحَقِّقٍ أَنَّ سَبْعَةً
مِنْ الْعُلَمَاءِ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَهُ سِتٌّ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً ، فَعَجِبْت مِنْ قُصُورِ أَعْمَارِهِمْ مَعَ
بُلُوغِهِمْ الْغَايَةَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ ، فَمِنْهُمْ
الْإِسْكَنْدَرُ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَقَدْ مَلَكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ صَاحِبُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ
، وَابْنُ الْمُقَفَّعِ صَاحِبُ الْخَطَابَةِ وَالْفَصَاحَةِ ،
وَسِيبَوَيْهِ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعَرَبِيَّةِ ،
وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ فِي عِلْمِ الشِّعْرِ ، وَإِبْرَاهِيمُ
النِّظَامُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي
الْمَخَازِي ، وَلَهُ كِتَابُ الدَّامِغِ مِمَّا غُرَّ بِهِ أَهْلُ
الْخَلَاعَةِ ، وَلَهُ الْجَدَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَكَانَ
الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا
، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : كُنْت أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ : فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ صَغُرَتْ أَسْنَانُهُمْ أَوْ قَلَّتْ أَقْدَارُهُمْ ، وَقَدْ كَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقْرَأُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقِيلَ لَهُ : تَقْرَأُ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ الْخَزْرَجِيِّ ؟ ، قَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَنَا التَّكَبُّرُ .
فَصْلٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
فِي الْفُنُونِ : مِنْ أَكْبَرِ مَا يُفَوِّتُ الْفَوَائِدَ تَرْكُ
التَّلَمُّحِ لِلْمَعَانِي الصَّادِرَةِ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ
لِلْحِكْمَةِ ، أَتَرَى يَمْنَعُنِي مِنْ أَخْذِ اللُّؤْلُؤَةِ وِجْدَانِي
لَهَا فِي مَزْبَلَةٍ ؟ كَلًّا سَمِعْت كَلِمَةً بَقِيَتْ مِنْ قَلِقِهَا
مُدَّةً ، وَهِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُولُ عَلَى شُغْلِهَا
وَتَتَرَنَّمُ بِهَا .
كَمْ كُنْت بِاَللَّهِ أَقُلْ لَك ؟ إنَّ
لِلتَّوَانِي غَائِلَةً وَلِلْقَبِيحِ خَمِيرَةً تَبِينُ بَعْدَ قَلِيلٍ ،
فَمَا أَوْقَعَهَا مِنْ تَخْجِيلٍ عَلَى إهْمَالِنَا الْأُمُورَ ، غَدًا
تَبِينُ خَمَائِرُهَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ
حَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا } .
فَصْلٌ خَيْرُ النَّاسِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ أَهْلُهُ وَجِيرَانُهُ .
قَالَ
الْفَضْلُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ الْمَغَازِي فَقَالَ : هَذَا يُسْأَلُ
عَنْهُ جِيرَانُهُ ، فَإِذَا أَثْنَوْا عَلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُمْ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ
قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ خَيْرُهُمْ فِي أَهْلِهِ وَخَيْرُهُمْ فِي
جِيرَانِهِ قَالَ : هُمْ أَعْلَمُ بِهِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ
رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ لِي
أَنْ أَعْلَمَ إذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا سَمِعْتَ جِيرَانَك
يَقُولُونَ : قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ ، وَإِذَا سَمِعْتهمْ
يَقُولُونَ : قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ كُلْثُومٍ الْخُزَاعِيِّ
وَرَوَى أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَلَفْظُهُ " إذَا سَمِعْتَهُمْ "
وَلَمْ يَقُلْ : " جِيرَانَك " وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا .
بِنَحْوِ
كُرَّاسَيْنِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ
مُحَبَّبًا إلَى جِيرَانِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُدَاهِنٌ .
فَصْلٌ ( فِيمَنْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ ) .
قَالَ
أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ
يَكْتُبُ عَنْ الرَّجُلِ لِكَيْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً ؟ فَقَالَ : إذَا
كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ يَكْتُبُ عَنْهُ قُلْت : لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي
مَوْضِعٍ يَكْتُبُ عَنْهُ يَقُولُ : اُكْتُبْ ثُمَّ ارْمِي بِهِ فَكَرِهَ
ذَلِكَ قُلْتُ : أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ بِالْعِلْمِ ؟
فَقَالَ : أَخَافُ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْت أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ لَا يَكُونُ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ
فَتَعْرِضُ لِلرَّجُلِ إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، أَيَكْتُبُ عَنْهُ لِمَكَانِ
حَاجَتِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ ثِقَةً يَكْتُبْ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُ
ثِقَةً فَلَا يَكْتُبُ عَنْهُ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنْ كُنْت لَأَسْتَقْرِئُ
الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي قَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُحَادَثَةِ الرَّجُلِ
بِشَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ لِقَصْدٍ يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ
يَسْتَجْلِبُ بِهِ نَفْعًا لَهُ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَةً ، قَالَ :
وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مُنْكِرٌ .
وَقِيلَ لِأَبِي
زُرْعَةَ : كَتَبْت عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ ؟ فَقَالَ : مَا
أَطْمَعْته فِي هَذَا قَطُّ ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْإِيجَابِ لِي ،
لَقَدْ مَرِضْت مِرْضَةً بِبَغْدَادَ ، فَمَا أُحْسِنُ أَصِفُ مَا كَانَ
يُولِينِي مِنْ التَّعَاهُدِ وَالِافْتِقَادِ .
وَحَدَّثَ ذَاتَ يَوْمٍ
عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ الْحَنَفِيِّ بِحَدِيثِ الْأَشْرِبَةِ
فَقَالَ " يَعِيشُ " وَصَحَّفَ فِيهِ فَقَالَ : " تَعِيسٌ " مِنْ أَسَامِي
الْعَبِيدِ وَخَجِلَ ، فَقُلْت لَهُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَالْقَوَارِيرِيُّ قَالَا : حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُرَّةَ فَرَجَعَ
لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْقَوَارِيرِيُّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ
جَبَلَانِ .
فَصْلٌ ( فِي مَحْوِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ دَفْنِهَا إذَا كَانَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ) .
قَالَ
بَكْرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَهُ ، وَسُئِلَ عَنْ
رَجُلٍ أَوْصَى إلَيْهِ رَجُلٌ أَنْ يَدْفِنَ كُتُبَهُ قَالَ : مَا
أَدْرِي مَا هَذَا وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ :
دَفَنَ دَفَاتِرَ الْحَدِيثِ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ
بَأْسٌ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ
مَحْوِ كُتُبِ الْحَدِيثِ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ تَمْحِي السُّنَّةَ
وَالْعِلْمَ قُلْت : مَا تَقُولُ قَالَ : لَا وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ مَا تَرَى فِي دَفْنِ الْعِلْمِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ
يَخَافُ أَنْ لَيْسَ لَهُ خَلَفٌ يَقُومُ بِهِ وَيَخَافُ عَلَيْهِ
الضَّيْعَةَ قَالَ : لَا يُدْفَنُ وَلَعَلَّ وَلَدَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ،
عُبَيْدَةُ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ وَالثَّوْرِيُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَلَعَلَّ غَيْرَ وَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ قُلْت يُبَاعُ قَالَ : لَا
يُبَاعُ الْعِلْمُ وَلَكِنْ يَدَعُهُ لِوَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ
غَيْرِ وَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ
وَسَأَلَهُ عَمَّنْ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ قَالَ : مَا
يُعْجِبُنِي دَفْنُ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ بِدَفْنِ كُتُبِهِ وَلَهُ أَوْلَادٌ
فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا ، ثُمَّ
قَالَ إنْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ عُرِضَتْ فَمَا أُعْطِيَ بِهَا مِنْ
شَيْءٍ حُسِبَتْ مِنْ ثُلُثِهِ .
وَحَمَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
الْحَوَارِيِّ كُتُبَهُ إلَى الْبَحْرِ فَفَرَّقَهَا وَقَالَ : لَمْ
أَفْعَلْ هَذَا تَهَاوُنًا بِك وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّك وَلَكِنْ
كُنْت أَطْلُبُ أَنْ أَهْتَدِيَ بِك إلَى رَبِّي ، فَلَمَّا اهْتَدَيْتُ
بِك إلَى رَبِّي اسْتَغْنَيْتُ عَنْك .
فَصْلٌ قَالَ صَالِحٌ سَأَلْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَاهُ أَبُوهُ إذَا هُوَ مَاتَ أَنْ
يَدْفِنَ كُتُبَهُ ، قَالَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مَا أَشْتَهِي
أَنْ أَدْفِنَهَا قَالَ : إنِّي أَرْجُو إذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْتَفِعُ
بِالنَّظَرِ فِيهَا وَرَثَتُهُ رَجَوْت إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
، وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَمَّنْ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ
وَلَهُ أَوْلَادٌ قَالَ فِيهِمْ مَنْ أَدْرَكَ ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ :
وَعَمَّنْ كَتَبَ هَذِهِ الْكُتُبَ قُلْتُ : عَنْ قَوْمٍ صَالِحِينَ قَالَ
: أُحِبُّ الْعَافِيَةَ مِنْهَا ، أَكْرَهُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِيهَا ،
وَاسْتَعْفَى مِنْ أَنْ يُجِيبَ مِنْ أَنْ تُتْرَكَ أَوْ تُدْفَنَ .
قَالَ
الْخَلَّالُ : وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا
أَنَّهُ إنْ كَانَتْ صُحُفًا أَوْ حَدِيثًا أَنَّهَا لَا تُبَاعُ وَلَا
تُمْحَى وَلَا تُحْسَبُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ
لِحِسَابِهِ مِنْ الثُّلُثِ مَعْنًى لَعَلَّهُ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ
فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ ، وَقَدْ تَوَقَّفَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ،
وَالْأَحْوَطُ فِي هَذَا أَنْ تُدْفَنَ فَهُوَ أَشْبَهُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ .
فَصْلٌ ( فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهَا ) .
رَوَى
الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو عَبَّاسٍ الدَّوْرِيُّ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ
سَعِيدٍ الْقَطَّانَ مَا رَأَيْت مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، كُنْت
إذَا سَأَلْته عَنْ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ
وَكَانَ مِسْعَرٌ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ وَقَالَ رَجُلٌ
لِأَحْمَدَ : أُرِيدُ أَعْرِفُ الْحَدِيثَ قَالَ : إنْ أَرَدْت أَنْ
تَعْرِفَ الْحَدِيثَ فَأَكْثِرْ مِنْ الْكِتَابَةِ .
وَقَدْ دَلَّ
هَذَا النَّصُّ وَغَيْرُهُ عَلَى كِتَابَةِ الْحَدِيثِ ، بَلْ وَكِتَابَةِ
الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ {
اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ } وَفِيهِمَا أَيْضًا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي
إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا
أَكْتُبُ .
وَفِي رِوَايَةٍ { اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابَةِ فَأَذِنَ لَهُ } .
وَفِي
السُّنَنِ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَكْتُبُ عَنْك فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ فَقَالَ : اُكْتُبْ
فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ وَأَشَارَ
بِيَدِهِ إلَى فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَعَنْ
عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : قَيِّدُوا
الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ وَقَالَ حَنْبَلٌ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَيِّدُوا الْعِلْمَ قُلْت وَمَا
تَقْيِيدُهُ قَالَ الْكِتَابُ } ابْنُ الْمُؤَمَّلِ ضَعِيفٌ ،
وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ { إنَّا نَسْمَعُ مِنْك
أَحَادِيثَ فَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَكْتُبَهَا ، قَالَ نَعَمْ } وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ قَالَ
النَّسَائِيُّ مُنْكَرٌ ، وَهُوَ عِنْدِي خَطَأٌ .
وَسَمِعَ
أَنَسٌ وَكَتَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَرَضَهَا عَلَيْهِ ، وَأَمْلَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ عَلَى
النَّاسِ الْأَحَادِيثَ ، وَهُمْ يَكْتُبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو الْمَلِيحِ يَعِيبُونَ عَلَيْنَا الْكِتَابَ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ غُدْوَةً حَتَّى يَنْظُرَ فِي كُتُبِهِ .
وَقَالَ
بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ كَتَبْت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا كُنْت أَسْمَعُهُ
مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَيْته بِهِ فَقُلْت : هَذَا سَمِعْته مِنْك قَالَ
نَعَمْ .
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ أَمَرَ بَنِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ حَتَّى
يَرْوُوهُ أَوْ يَضَعُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ ، وَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ
كَثِيرًا وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ
وَالْبَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ
لَا يُحْصَوْنَ ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ السُّنَنَ وَالْآثَارَ : فَإِنِّي
خَشِيت ذَهَابَ الْعِلْمِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { مَنْ كَتَبَ عَنِّي سِوَى الْقُرْآنِ
فَلْيَمْحُهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا نُكَتِّبُكُمْ وَلَا نَجْعَلُهَا مَصَاحِفَ ،
احْفَظُوا عَنَّا كَمَا كُنَّا نَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِكِتَابِ اللَّهِ
شَيْءٌ ، ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ : أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ
السُّنَنَ ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ شَهْرًا ثُمَّ
قَالَ : إنِّي ذَكَرْت قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا ،
فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
وَإِنِّي وَاَللَّهِ لَا أُلْبِسُ
كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا .
وَعَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ ، وَكَذَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِ
وَاحِدٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ ، .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَكْتُمُ ، .
وَقَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِتَابَةِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ : إنَّمَا أَضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْكُتُبُ .
قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا
إلَيْهِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَالَ أَيْضًا : لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِمَنْ خَشِيَ عَلَيْهِ
النِّسْيَانَ ، وَنَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ لِمَنْ وَثِقَ بِحِفْظِهِ ،
أَوْ نَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ حِينَ خَافَ الِاخْتِلَاطَ ، وَأَذِنَ فِي
الْكِتَابَةِ حِينَ أَمِنَ مِنْهُ ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : كَانَ
هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا يَتَلَافَاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا
دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَقَالَ
أَبُو كُرَيْبٍ : كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : لَا خَيْرَ
فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ ، وَلَا يَعْمُرُ بِك
النَّادِيَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى
اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَجَابُوا عَنْ
أَحَادِيثِ النَّهْيِ بِخَوْفِ اخْتِلَاطِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ قَبْلَ
اشْتِهَارِهِ ، فَلَمَّا اُشْتُهِرَ وَأُمِنَ ذَلِكَ جَازَ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِمَنْ وُثِقَ بِحِفْظِهِ وَخِيفَ اتِّكَالُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ .
وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ : مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ أَشَدُّ
مِنْ حِفْظِهِ وَقَالَ وَكِيعٌ : قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ
مُجَمِّعٍ وَكَانَ ثِقَةً : كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ
بِالْعَمَلِ بِهِ .
وَسَأَلَ مُهَنَّا أَحْمَدَ مَا الْحِفْظُ ؟ قَالَ الْإِتْقَانُ هُوَ الْحِفْظُ .
وَقَالَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : الْحِفْظُ الْإِتْقَانُ ، وَلَا
يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ، وَلَا
يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِالشَّاذِّ مِنْ الْعِلْمِ
، وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَا
أَنْفَعَ مَجَالِسَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قُلْت : كَيْفَ مُجَالَسَتُهُمْ
وَهُمْ يَغْتَابُونَ ؟ قَالَ : مَا أَنْفَعَ مُجَالَسَتَهُمْ يَعْرِفُ
الرَّجُلُ الْحَدِيثَ بِهِمْ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ
سِيرِينَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ وَيَتَرَاجَزُونَ
الشِّعْرَ ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ
قَالَ : تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّ حَيَاتَهُ الْمُذَاكَرَةُ ،
وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : أَطِيلُوا ذِكْرَ الْحَدِيثِ لَا يَدْرُسُ ،
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : مَجْلِسٌ يُتَنَازَعُ فِيهِ
الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَدْرِهِ صَلَاةً ، رَوَى ذَلِكَ
الْخَلَّالُ .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ
قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا جَلَسُوا كَانَ حَدِيثُهُمْ يَعْنِي الْفِقْهَ إلَّا أَنْ
يَقْرَأَ رَجُلٌ سُورَةً أَوْ يَأْمُرُوا أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ
سُورَةً ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : تَذَاكَرُوا
الْحَدِيثَ فَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ انْدَرَسَ الْعِلْمُ .
وَقَالَ
أَبُو سَعِيدٍ : تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَهِيجُ
الْحَدِيثَ وَقَالَ عُمَرُ الْمُهَاجِرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ
لَهُ لِسَانًا سَئُولًا ، وَقَلْبًا عَقُولًا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ
جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : بِمَ
أَصَبْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ : بِلِسَانٍ سَئُولٍ ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ الزُّهْرِيُّ : الْعِلْمُ
خَزَائِنُ وَتَفْتَحُهَا الْمَسْأَلَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَنَّهُ كَانَ يَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ سَمِعَ حَدِيثًا كَثِيرًا
، فَيُعِيدُهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ كَمَا
سَمِعَهُ وَيَقُولُ لَهَا : إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَحْفَظَهُ وَكَانَ
غَيْرُهُ يُعِيدُهُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكْتَبِ لِيَحْفَظَهُ ، وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ : آفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ
وَقِلَّةُ الْمُذَاكَرَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مُرْسَلًا : مَا
تَجَالَسَ قَوْمٌ يُنْصِتُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ الْبَرَكَةَ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
كَانَ إذَا قَعَدَ يَقُولُ : إنَّكُمْ فِي مَمَرِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
إلَى آجَالٍ مَنْقُوصَةٍ ، وَأَعْمَالٍ مَحْفُوظَةٍ ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي
بَغْتَةً فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً ، وَمَنْ
زَرَعَ شَرًّا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً ، وَلِكُلِّ زَارِعٍ مَا
زَرَعَ لَا يَفُوتُ بَطِيءٌ حَظَّهُ ، وَلَا يُدْرِكُ حَرِيصٌ مَا لَمْ
يُقْدَرُ لَهُ ، فَمَنْ أُعْطِيَ خَيْرًا فَاَللَّهُ أَعْطَاهُ ، وَمَنْ
وُقِيَ شَرًّا فَاَللَّهُ وَقَاهُ ، الْمُتَّقُونَ سَادَةٌ ،
وَالْفُقَهَاءُ قَادَةٌ ، مُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
:
وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الرُّوَاسِيُّ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : جَالِسُوا الْكُبَرَاءَ
وَسَائِلُوا الْعُلَمَاءَ ، وَخَالِطُوا الْحُكَمَاءَ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ { وَقَالَ لُقْمَانُ :
يَا بُنَيَّ جَالِسْ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك ، فَإِنَّ
اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ
بِوَابِلِ الْمَطَرِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ
ضَعِيفٌ .
وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ
طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ مِنْ قَوْلِهِ .
وَرَوَى
الْفَقِيهُ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ
الْمُؤَدِّبُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ حَدَّثَنَا جَدِّي قَالَ :
سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الرَّجُلُ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَوْ يَصُومُ
وَيُصَلِّي ؟ قَالَ : يَكْتُبُ الْحَدِيثَ قُلْت : فَمِنْ أَيْنَ فَضَّلْت
كِتَابَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ؟ قَالَ : لَأَنْ
يَقُولَ : إنِّي رَأَيْت قَوْمًا عَلَى شَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُمْ .
فَصْلٌ ( فِي فَضْلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَكَرَاهَةِ طَلَبِ الْغَرِيبِ وَالضَّعِيفِ مِنْهُ ) .
قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ : إذَا كَانَ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَيَكُونُ مَعَهُ فِقْهٌ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ مَعَهُ فِقْهٌ .
وَقَالَ
الْأَثْرَمُ سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ تَرَكُوا الْعِلْمَ
وَأَقْبَلُوا عَلَى الْغَرَائِبِ ، مَا أَقَلَّ الْفِقْهَ فِيهِمْ .
وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سُئِلَ عَنْ
أَحَادِيثَ غَرَائِبَ فَقَالَ : شَيْءٌ غَرِيبٌ أَيُّ شَيْءٍ يُرْجَى بِهِ
قَالَ : يَطْلُبُ الرَّجُلُ مَا يَزِيدُ فِي أَمْرِ دِينِهِ مَا
يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : يَطْلُبُونَ
حَدِيثًا مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً قَالَ : شَيْءٌ
لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ .
وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ أَيْضًا :
شَرُّ الْحَدِيثِ الْغَرَائِبُ الَّتِي لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا
يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : كَانُوا
يَكْرَهُونَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ .
وَرَوَى
أَحْمَدُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ : إنَّ مِنْ الْحَدِيثِ
حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ ، وَإِنَّ مِنْ
الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ : الْعِلْمُ مَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسُنُ .
وَقَالَ
مَالِكٌ : شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ الظَّاهِرُ
الَّذِي قَدْ رَآهُ النَّاسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي : مَنْ
طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ ، وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ
الْحَدِيثِ كَذَبَ ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ ،
وَعَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَنَا فِي صَحِيحِ
الْحَدِيثِ شَغْلٌ عَنْ سَقِيمِهِ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ : لَا
يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِكِتَابَةِ الْحَدِيثِ
الضَّعِيفِ ، فَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْ الصَّحِيحِ
بِقَدْرِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ : الِاشْتِغَالُ بِالْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ يَقْطَعُ عَنْ
الْعِلْمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : مَا
أَكْثَرَ أَحَدٌ مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْجَحَ ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ :
وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ التَّشَاغُلِ بِكَثْرَةِ
الطُّرُقِ وَالْغَرَائِبِ فَيَفُوتُ الْفِقْهُ .
وَذَكَرَ كَلَامًا
كَثِيرًا إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ أَوْغَلَ خَلْقٌ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابَةِ طُرُقِ الْمَنْقُولَات ، فَشَغَلَهُمْ
عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ ، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ يُسْأَلُ عَنْ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَدْرِي ، لَا بَلْ قَدْ أَثَّرَ هَذَا فِي
الْقُدَمَاءِ ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى
مَجْلِسٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَخَلَفُ بْنُ
سَالِمٍ فِي جَمَاعَةٍ يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ ، فَسَأَلَتْهُمْ عَنْ
الْحَائِضِ تُغَسِّلُ الْمَوْتَى وَكَانَتْ غَاسِلَةً ، فَلَمْ يُجِبْهَا
مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ ، فَأَقْبَلَ
أَبُو ثَوْرٍ فَقَالُوا لَهَا : عَلَيْك بِالْمُقْبِلِ ، فَسَأَلَتْهُ
فَقَالَ : نَعَمْ تُغَسِّلُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا { أَمَا إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك }
وَلِقَوْلِهَا { : كُنْت أَفْرُقُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَاءِ وَأَنَا حَائِضٌ } قَالَ أَبُو ثَوْرٍ :
فَإِذَا فَرَقَتْ رَأْسَ الْحَيِّ فَالْمَيِّتُ بِهِ أَوْلَى ، قَالُوا :
نَعَمْ رَوَاهُ فُلَانٌ وَحَدَّثَنَا بِهِ فُلَانٌ وَنَعْرِفُهُ مِنْ
طَرِيقِ كَذَا ، وَخَاضُوا فِي الطُّرُقِ وَالرِّوَايَاتِ فَقَالَتْ
الْمَرْأَةُ : فَأَيْنَ كُنْتُمْ إلَى الْآنَ .
قَالَ : وَقَدْ كَانَ
بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ يَسْتَحِي مِنْ رَدِّ الْفُتْيَا فَيُفْتِي بِمَا
لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ حَتَّى إنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَلِيَّ بْنَ
دَاوُد وَفِي مَجْلِسِهِ نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ فَقَالَتْ : إنِّي حَلَفْت
بِصَدَقَةِ إزَارِي ؟ فَقَالَ : بِكَمْ اشْتَرَيْته فَقَالَتْ :
بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا قَالَ : صُومِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ
يَوْمًا ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ جَعَلَ يَقُولُ آهٍ
غَلِطْنَا وَاَللَّهِ ، أَمَرْنَاهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، حَكَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ .
ثُمَّ
رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ : كُتِبَ إلَى أَبِي
ثَوْرٍ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْأَمْرُ فِي أَصْحَابِك حَتَّى شَغَلَهُمْ
عَنْهُ إحْصَاءُ عَدَدِ رُوَاةِ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا }
فَغَلَبَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
( صَيْدِ الْخَاطِرِ ) : فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحُطَيْئَةُ : زَوَامِلُ
لِلْأَخْبَارِ لَا عِلْمَ عِنْدَهَا بِمُتْقَنِهَا إلَّا كَعِلْمِ
الْأَبَاعِرِ لَعَمْرُك مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إذَا غَدَا بِأَوْسَاقِهِ
أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعُلُومَ وَقَالَ : إنَّ
الْفِقْهَ عَلَيْهِ مَدَارُ الْعُلُومِ ، فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ
لِلتَّزَيُّدِ مِنْ الْعِلْمِ فَلْيَكُنْ مِنْ الْفِقْهِ .
فَإِنَّهُ
الْأَنْفَعُ وَقَالَ فِيهِ : وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي زَمَانِنَا مَنْ
قَرَأَ مِنْ اللُّغَةِ أَحْمَالًا فَحَضَرَ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ
فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذِهَا
أَجْزَأَك } فَقَالَ : هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ ، فَقَالَ لَهُ الصَّبِيُّ :
أَلَيْسَ هَذَا فِي ذَكَاةِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ؟ فَفَكَّرَ
الشَّيْخُ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : صَدَقْت .
وَأَدْرَكْنَا مَنْ قَرَأَ
الْحَدِيثَ سِتِّينَ سَنَةً فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ
مَسْأَلَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ ؟ وَأَدْرَكْنَا
مَنْ بَرَعَ فِي عُلُومِ الْفِقْهِ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لَا
يَدْرِي مَا يَقُولُ ؟ وَأَدْرَكْنَا مَنْ بَرَعَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا : إنِّي أَدْرَكْتُ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ فَأَضَفْت إلَيْهَا أُخْرَى فَمَا تَقُولُ ؟ فَسَبَّهُ
وَلَامَهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ وَلَمْ يَدْرِ مَا الْجَوَابُ ،
وَأَدْرَكْنَا مَنْ بَرَعَ فِي عُلُومِ الْقِرَاءَاتِ فَكَانَ إذَا سُئِلَ
عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ : عَلَيْك بِفُلَانٍ .
هَذِهِ كُلُّهَا مِحَنٌ
قَبِيحَةٌ ، فَلَمَّا رَأَيْت فِي الصِّبَا أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَعَ مِنْ
أُولَئِكَ فِي فَنِّهِ مَا اسْتَقْصَى ، وَإِنَّمَا عَوَّقَتْهُ فُضُولُهُ
عَنْ الْمُهِمِّ ، وَمَا بَلَغَ الْغَايَةَ
رَأَيْت أَنَّ أَخْذَ
الْمُهِمِّ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ هُوَ الْمُهِمُّ ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ
الْأَشْيَاءِ أَنْ يَطْلُبَ الْمُحَدِّثُ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ وَحُسْنَ
التَّصَانِيفِ ، فَيَقْرَأَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَيَطْلُبَ
الْأَسَانِيدَ الْعَوَالِيَ وَيَكْتُبَ ، فَيَذْهَبَ الْعُمْرُ وَيَرْجِعَ
كَمَا كَانَ ، لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَجْزَاءٌ مُصَحَّحَةٌ لَا يَدْرِي
مَا فِيهَا وَقَدْ سَهِرَ وَتَعِبَ .
وَإِذَا سَاءَلْته عَنْ عِلْمِهِ
قَالَ عِلْمِي يَا خَلِيلِي فِي سَفَطْ فِي كَرَارِيسَ جِيَادٍ أُحْكِمَتْ
وَبِخَطٍّ أَيِّ خَطٍّ أَيِّ خَطْ وَإِذَا سَاءَلْته عَنْ مُشْكِلٍ حَكَّ
لَحْيَيْهِ جَمِيعًا وَامْتَخَطْ وَيَتَفَقَّهُ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فَيُفْتِي
فِي مَسْأَلَةٍ عَجَزَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَنْهَا ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ
هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلتَّعْلِيمِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلِأَبِي
دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا {
الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ
، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ
وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا بُنَيَّ { إنْ قَدَرْت أَنْ تُصْبِحَ
وَتُمْسِيَ ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِك غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ
: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ
أَحْيَانِي ، وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لِيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى : عَلَيْك بِالْفِقْهِ
فَإِنَّهُ كَالتُّفَّاحِ الشَّامِيِّ يُحْمَلُ مِنْ عَامِهِ .
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ : الْفِقْهُ عُمْدَةُ
الْعُلُومِ ، وَأَمْلَى الشَّافِعِيُّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ أَشْعَارَ هُذَيْلٍ وَوَقَائِعَهَا وَأَيَّامَهَا
حِفْظًا ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْنَ أَنْتَ بِهَذَا
الذِّهْنِ عَنْ الْفِقْهِ ؟ فَقَالَ إيَّاهُ أَرَدْت وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحُثُّنَا عَلَى الْفِقْهِ ،
وَنَهَانَا عَنْ الْكَلَامِ وَكَانَ يَقُولُ : لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو
بْنَ عُبَيْدٍ لَقَدْ فَتَحَ لِلنَّاسِ
الطَّرِيقَ إلَى الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ .
وَقَالَ
الرَّبِيعُ : مَرَّ الشَّافِعِيُّ بِيُوسُفَ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَذْكُرُ
شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ فَقَالَ : يَا يُوسُفُ تُرِيدُ تَحْفَظُ
الْحَدِيثَ وَتَحْفَظُ الْفِقْهَ هَيْهَاتَ .
وَقَالَ صَاحِبُ
الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : أَفْضَلُ الْعُلُومِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْلِ الدِّينِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ
مَعْرِفَةُ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : قَالَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ :
يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ تَعَلَّمُوا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فَإِنِّي
تَعَلَّمْتُ مَعَانِيَ الْحَدِيثِ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، قَالَ :
فَتَرَكُوهُ وَقَالُوا : عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَمَّنْ ؟ وَقَالَ أَبُو
حَيَّانَ النَّحْوِيُّ الْمُتَأَخِّرُ الْمَشْهُورُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ
لَهُ : وَأَمَّا إنَّ صَاحِبَ تَنَاتِيفٍ وَيَنْظُرُ فِي عُلُومٍ
كَثِيرَةٍ ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَ الْإِمَامَةَ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ الْعُقَلَاءُ : ازْدِحَامُ الْعُلُومِ مُضِلَّةٌ
لِلْمَفْهُومِ ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَنْ بَلَغَ الْإِمَامَةَ مِنْ
الْمُتَقَدِّمِينَ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَا يَكَادُ يَشْتَغِلُ
بِغَيْرِهِ ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ نَظَمْتُ أَبْيَاتًا
فِي شَأْنِ مَنْ يَنْهَزُ بِنَفْسِهِ .
وَيَأْخُذُ الْعِلْمَ مِنْ
الصُّحُفِ بِفَهْمِهِ : يَظُنُّ الْغَمْرُ أَنَّ الْكُتْبَ تَهْدِي أَخَا
فَهْمٍ لِإِدْرَاكِ الْعُلُومِ وَمَا يَدْرِي الْجَهُولُ بِأَنَّ فِيهَا
غَوَامِضَ حَيَّرَتْ عَقْلَ الْفَهِيمِ إذَا رُمْت الْعُلُومَ بِغَيْرِ
شَيْخٍ ضَلَلْت عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَتَلْتَبِسُ الْعُلُومُ
عَلَيْك حَتَّى تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ تُوِّمَا الْحَكِيمِ أَشَرْت إلَى
قَوْلِ بَعْضِهِمْ : قَالَ حِمَارُ الْحَكِيمِ تُوِّمَا لَوْ أَنْصَفُونِي
لَكُنْت أَرْكَبُ لِأَنَّنِي جَاهِلٌ بَسِيطٌ وَصَاحِبِي جَاهِلٌ
مُرَكَّبُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا
فَجَمْعُك لِلْكُتْبِ لَا يَنْفَعُ وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَوْضِعٍ
وَعِلْمُك فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ وَمَنْ كَانَ فِي
عُمُرِهِ هَكَذَا يَكُنْ دَهْرَهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ وَمِنْ الْمَشْهُورِ : فَدَعْ عَنْك الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا وَلَوْ سَوَّدْت وَجْهَك بِالْمِدَادِ وَلِلْعُلُومِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهَا وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ .
فَصْلٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَمِنْ
عُلُومِ الْحَدِيثِ مَعْرِفَةُ عِلَلِهِ ، وَذَلِكَ بِجَمْعِ طُرُقِهِ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إذَا لَمْ يُجْمَعْ طُرُقُ الْحَدِيثِ
لَمْ يُفْهَمْ ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
وَقَالَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : لَأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ الْحَدِيثِ
هُوَ عِنْدِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْتُبَ عِشْرِينَ حَدِيثًا
لَيْسَتْ عِنْدِي ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ
الرَّبِيعِ قَالَ : إنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ
النَّهَارِ نَعْرِفُهُ ، وَإِنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ
كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نُنْكِرُهُ ، وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قُلْت
لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ : كَيْفَ تَعْرِفُ صَحِيحَ
الْحَدِيثِ مِنْ خَطَئِهِ ؟ فَقَالَ : كَمَا يَعْرِفُ الطَّبِيبُ
الْمَجْنُونَ .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ
ابْنِ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ : أَرَأَيْت لَوْ أَتَيْت النَّاقِدَ فَأَرَيْته دَرَاهِمَك ،
فَقَالَ : هَذَا جَيِّدٌ وَهَذَا مَسْتُوقٌ ، وَهَذَا مُبَهْرَجٌ ،
أَكُنْت تَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ كُنْت تُسَلِّمُ الْأَمْرَ لَهُ ؟
قَالَ : بَلْ كُنْت أُسَلِّمُ الْأَمْرَ إلَيْهِ قَالَ : فَهَذَا كَذَلِكَ
لِطُولِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالْخِبْرَةِ .
وَعَنْ ابْنِ
مَهْدِيٍّ قَالَ : عِلْمُنَا بِصِلَةِ الْحَدِيثِ كِهَانَةٌ عِنْدَ
الْجَاهِلِ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي زُرْعَةَ فَقَالَ : مَا الْحُجَّةُ
فِي تَعْلِيلِكُمْ الْحَدِيثَ ؟ فَقَالَ : الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنْ
تَسْأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ لَهُ عِلَّةٌ فَأَذْكُرَ عِلَّتَهُ ، ثُمَّ
تَقْصِدَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ فَتَسْأَلَهُ عَنْهُ
فَيُعَلِّلَهُ ، ثُمَّ تَقْصِدَ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ فَيُعَلِّلَهُ
، ثُمَّ تَنْظُرَ فَإِنْ وَجَدْت بَيْنَنَا اخْتِلَافًا فِي عِلَّتِهِ
فَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَّا تَكَلَّمَ عَلَى مُرَادِهِ ، وَإِنْ
وَجَدْت الْكَلِمَةَ مُتَّفِقَةً فَاعْلَمْ حَقِيقَةَ هَذَا الْعِلْمِ ،
فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ ، فَقَالَ :
أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إلْهَامٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ
أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ : ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ
ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ : كُنَّا
نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَنَعْرِضُهُ عَلَى أَصْحَابِنَا كَمَا نَعْرِضُ
الدِّرْهَمَ الْمُزَيَّفَ ، فَمَا عَرَفُوا مِنْهُ أَخَذْنَا وَمَا
أَنْكَرُوا مِنْهُ تَرَكْنَا .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ
إبْرَاهِيمُ صَيْرَفِيَّ الْحَدِيثِ فَكُنْت إذَا سَمِعْت الْحَدِيثَ مِنْ
بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَتَيْته فَعَرَضْته عَلَيْهِ .
وَقَالَ قَبِيصَةُ
بْنُ عُقْبَةَ : رَأَيْت زَائِدَةَ يَعْرِضُ كُتُبَهُ عَلَى سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى رَجُلٍ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ : مَا
لَكَ لَا تَعْرِضُ كُتُبَك عَلَى الْجَهَابِذَةِ كَمَا نَعْرِضُ ؟ وَقَالَ
زَائِدَةُ : كُنَّا نَأْتِي الْأَعْمَشَ فَيُحَدِّثُنَا بِكَثِيرٍ ، ثُمَّ
نَأْتِي سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فَنَذْكُرُ لَهُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ
فَيَقُولُ : لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ فَنَقُولُ : صَدَقَ
سُفْيَانُ لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ فَنَقُولُ هُوَ
حَدَّثَنَاهُ السَّاعَةَ فَيَقُولُ : اذْهَبُوا فَقُولُوا لَهُ إنْ
شِئْتُمْ فَنَأْتِي الْأَعْمَشَ فَنُخْبِرُهُ ، فَيَقُولُ : صَدَقَ
سُفْيَانُ لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِنَا .
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ :
لَوْلَا الْجَهَابِذَةُ كَثُرَتْ السَّتُّوقُ وَالزُّيُوفُ فِي رُوَاةِ
الشَّرِيعَةِ أَمَا تَحْفَظُ قَوْلَ شُرَيْحٍ : إنَّ لِلْأَثَرِ
جَهَابِذَةً كَجَهَابِذَةِ الْوَرِقِ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ قَالَ
الشَّافِعِيُّ : لَا تَسْتَدِلُّ عَلَى أَكْثَرِ الْحَدِيثِ وَكَذِبِهِ
إلَّا بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبِهِ ، إلَّا فِي الْخَاصِّ الْقَلِيلِ
مِنْ الْحَدِيثِ ، وَذَلِكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ
فِيهِ بِأَنْ يُحَدِّثَ الْمُحَدِّثُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مِثْلُهُ ، أَوْ يُخَالِفُهُ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ وَأَكْثَرُ دَلَالَاتٍ
بِالصِّدْقِ مِنْهُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ
يَحْيَى بْنِ آدَمَ يَعْنِي مَا يَأْتِي فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ
الضَّعِيفِ فِي آدَابِ الدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ ، قَالَ :
وَإِنْ كَانَتْ رُوَاتُهُ ثِقَاتٍ .
فَهُوَ
مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ بِتَصْدِيقِ مَنْ أَخْبَرَ
عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ ، وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ
وَهُوَ ثِقَةٌ ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ وَأَرْسَلَهُ
بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَشْبَهُ ، وَالْخَطَأُ فِي مَرَاسِيلِ الْمَقْبُرِيِّ
مُتَوَهَّمٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَحَادِيثَ أُخَرَ
مُعَلَّلَةً ، إلَى أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي آخِرِ
الْكِتَابِ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَبَقَ
قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَدِيثُ {
يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ } .
فَصْلٌ ( فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ ) .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَمِنْ الْعُلُومِ الَّتِي تَلْزَمُ صَاحِبَ
الْحَدِيثِ مَعْرِفَتُهُ لِلْإِعْرَابِ لِئَلَّا يَلْحَنَ وَلِيُورِدَ
الْحَدِيثَ عَلَى الصِّحَّةِ .
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ
عَلَى اللَّحْنِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ عَلَى اللَّحْنِ قَالَ :
وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَمَّا
بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ وَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ ،
أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، إسْنَادٌ
جَيِّدٌ ، وَرُوِيَ الثَّانِي عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ ، فَذَكَرَهُ ، وَهُوَ
مُنْقَطِعٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ
: تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ
فِي الْمُرُوءَةِ ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَقَالَ شُعْبَةُ : مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْحَدِيثَ وَلَا
يَتَعَلَّمُ النَّحْوَ مَثَلُ الْبُرْنُسِ لَا رَأْسَ لَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ اللَّحْنُ فِي الْكَلَامِ أَقْبَحُ مِنْ آثَارِ الْجُدَرِيِّ فِي الْوَجْهِ .
وَقَالَ
ابْنُ شُبْرُمَةَ إذَا سَرَّك أَنْ تَعْظُمَ فِي عَيْنِ مَنْ كُنْت فِي
عَيْنِهِ صَغِيرًا ، أَوْ يَصْغُرَ فِي عَيْنِك مَنْ كَانَ فِيهَا
كَبِيرًا ، فَتَعَلَّمْ الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُجَرِّئُك عَلَى
الْمَنْطِقِ وَتُدْنِيك مِنْ السُّلْطَانِ قَالَ الشَّاعِرُ : اللَّحْنُ
يَصْلُحُ مِنْ لِسَانِ الْأَلْكَنِ وَالْمَرْءُ تُعْظِمُهُ إذَا لَمْ
يَلْحَنِ وَلَحْنُ الشَّرِيفِ مَحَطَّةٌ مِنْ قَدْرِهِ فَتَرَاهُ يَسْقُطُ
مِنْ لِحَانِ الْأَعْيُنِ وَتَرَى الدَّنِيَّ إذَا تَكَلَّمَ مُعْرِبًا
حَازَ النِّهَايَةَ بِاللِّسَانِ الْمُعْلِنِ وَإِذَا طَلَبْت مِنْ
الْعُلُومِ أَجَلَّهَا فَأَجَلُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَلْسُنِ وَذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا لَوْ كَانَ
مُهْتَدِيًا لَقَالَ : فَأَجَلُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَدْيُنِ وَمَا
قَالَهُ
حَقٌّ قَالَ : وَقَالُوا الْعَرَبِيَّةُ تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ
وَقَالُوا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ الْكِبَرَ
فَلْيَتَعَلَّمْ النَّحْوَ ، كَذَا قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
النَّحَّاسُ : وَيُرْوَى أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ يَتَفَقَّدُ مَا
يَكْتُبُ بِهِ الْكُتَّابُ ، فَيُسْقِطُ مَنْ لَحَنَ ، وَيَحُطُّ
مِقْدَارَ مَنْ أَتَى بِمَا غَيْرُهُ أَجْوَدُ مِنْهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ
، فَكَانَ الْكُتَّابُ يُثَابِرُونَ عَلَى النَّحْوِ لَمَّا كَانَ
الرُّؤَسَاءُ يَتَفَقَّدُونَ هَذَا مِنْهُمْ وَيُقَرِّبُونَ الْعُلَمَاءَ
، كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ : جَاءَنِي رَسُولُ الرَّشِيدِ
فَنَهَضْت وَدَخَلْت وَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ ،
وَمُحَمَّدٌ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَأْمُونُ عَنْ يَسَارِهِ ،
وَالْكِسَائِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُطَارِحُهُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ
وَالشِّعْرِ ، فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ : كَمْ اسْمٌ { فَسَيَكْفِيكَهُمْ
اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ؟ فَقُلْت : ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْكَافُ
الثَّانِيَةُ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْهَاءُ مَعَ الْمِيمِ اسْمُ الْكُفَّارِ ، قَالَ الرَّشِيدُ : كَذَا
قَالَ الرَّجُلُ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الْكِسَائِيّ ، ثُمَّ
الْتَفَتَ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَفَهِمْت ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ :
فَارْدُدْهُ عَلَيَّ إنْ كُنْت صَادِقًا ، فَرَدَّهُ عَلَى مَا لَفَظْت
بِهِ ، فَقَالَ : أَحْسَنْت أَمْتَعَ اللَّهُ بِك .
ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيَّ فَقَالَ مَنْ يَقُولُ : نَفْلِقُ هَامًا لَمْ تَنَلْهُ أَكُفُّنَا
بِأَسْيَافِنَا هَامَ الْمُلُوكِ الْقَمَاقِمِ فَقُلْت الْفَرَزْدَقُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : كَيْفَ يَفْلِقُ هَامًا لَمْ تَنَلْهُ
كَفُّهُ ؟ قُلْت : عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، كَأَنَّهُ قَالَ
نَفْلِقُ بِأَسْيَافِنَا مِنْ الْمُلُوكِ الْقَمَاقِمِ هَامًا لَمْ
تَنَلْهُ أَكُفُّنَا عَلَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ ، فَقَالَ
أَصَبْت ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْكِسَائِيّ فَحَادَثَهُ سَاعَةً ثُمَّ
الْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ : أَعِنْدَك مَسْأَلَةٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ ،
لِصَاحِبِ هَذَا الْبَيْتِ قَالَ : هَاتِ ، فَقُلْت :
أَخَذْنَا
بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ
الطَّوَالِعُ قَالَ الرَّشِيدُ : أَفَادَنَا هَذَا الشَّيْخُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ ؟ قَالَا نَعَمْ ، عَلَّمَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ أَنَّ
الْقَمَرَيْنِ هَهُنَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، قَالُوا سِيرَةُ
الْعُمَرَيْنِ يُرِيدُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ، كَمَا قِيلَ : مَا
اطَّرَدَ الْأَسْوَدَانِ ، يُرِيدُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قُلْت :
أَزِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي السُّؤَالِ قَالَ : زِدْ قُلْت :
فَلِمَ اسْتَحْسَنُوا هَذَا قَالَ : لَمَّا اجْتَمَعَ شَيْئَانِ مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشْهَرَ مِنْ الْآخَرِ غَلَبَ
الْأَشْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِأُنْسِهِ
وَكَثْرَةِ بُرُوزِهِمْ فِيهِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ إيَّاهُ دُونَ الشَّمْسِ
فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ فِي قَوْلِهِمْ :
الْعُمْرَانِ لِطُولِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَكَثْرَةِ الْفُتُوحِ فِيهَا ،
وَكَذَلِكَ اللَّيْلُ لِأَنَّهُمْ فِيهِ أَفْرَغُ ، وَسَمَرُهُمْ فِيهِ
أَكْثَرُ .
قُلْت : أَفِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ هَذَا ؟
قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى الْكِسَائِيّ فَقَالَ :
أَتَعْرِفُ فِي هَذَا غَيْرَ مَا قُلْنَاهُ مِمَّا أَفَدْتنَاهُ ؟ قَالَ :
لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُوَ وَفَاءُ الْمَعْنَى ، فَأَمْسَكَ
عَنِّي قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ : أَتَعْرِفُ فِيهِ أَنْتَ أَكْثَرَ مِنْ
هَذَا قُلْت : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ الْغَايَةُ
الَّتِي افْتَخَرَ بِهَا قَائِلُ هَذَا الشِّعْرِ قَالَ قُلْت : الشَّمْسُ
أَرَادَ بِهَا إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ ، وَالْقَمَرُ ابْنُ عَمِّك
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنُّجُومُ أَنْتَ
وَالْخُلَفَاءُ مِنْ آبَائِك وَمَنْ يَكُونُ مِنْ وَلَدِك إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ، قَالَ : فَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَقَالَ : حَسَنٌ وَاَللَّهِ
، وَالْعِلْمُ كَثِيرٌ لَا يُحَاطُ بِهِ ، وَلَعَلَّ هَذَا الشَّيْخَ لَمْ
يَسْمَعْ هَذَا فَيُفِيدَنَاهُ ، وَإِنَّ هَذَا الْعُمَرِيَّ لَأَبْلَغُ
إلَى غَايَةِ الْفَخْرُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى الْفَضْلِ بْنِ
الرَّبِيعِ فَقَالَ تَحْمِلُ إلَى مَنْزِلِ الشَّيْخِ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ
فَتَقَدَّمَ بِهَا مِنْ سَاعَتِهِ .
قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ وَمِمَّنْ امْتَنَعَ مِنْ
النَّحْوِيِّينَ مِنْ مُلَازَمَةِ السُّلْطَانِ ، إجْلَالًا لِلْعِلْمِ
وَغِنَى نَفْسٍ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَبَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَازِنِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كَانَ الْخَلِيلُ مِنْ
الزُّهَّادِ الْمُنْقَطِعِينَ إلَى الْعِلْمِ ، وَمِنْ خِيَارِ عِبَادِ
اللَّهِ الْمُتَقَشِّفِينَ فِي الْعِبَادَةِ ، أَرْسَلَ إلَيْهِ
سُلَيْمَانُ بْنُ حُبَيْتٍ الْمُهَلَّبِيُّ لَمَّا وَلِيَ ، فَنَثَرَ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِهِ كَثِيرًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَكَتَبَ
إلَيْهِ : أَبْلِغْ سُلَيْمَانَ أَنِّي عَنْهُ فِي سَعَةٍ وَفِي غِنًى
غَيْرَ أَنِّي لَسْت ذَا مَالِ شُحًّا بِنَفْسِي إنِّي لَا أَرَى أَحَدًا
يَمُوتُ هُزْلًا وَلَا يَبْقَى عَلَى حَالِ وَالرِّزْقُ عَنْ قَدَرٍ لَا
الضَّعْفُ يُنْقِصُهُ وَلَا يَزِيدَنَّ فِيهِ حَوْلُ مُحْتَالِ
وَالرِّزْقُ يَغْشَى أُنَاسًا لَا طَبَاخَ لَهُمْ كَالسَّيْلِ يَغْشَى
أُصُولَ الدِّنْدِنِ الْبَالِي كُلُّ امْرِئٍ بِسَبِيلِ الْمَوْتِ
مُرْتَهَنٌ فَاعْمَلْ لِبَالِك إنِّي شَاغِلٌ بَالِي وَالْفَقْرُ فِي
النَّفْسِ لَا فِي الْمَالِ نَعْرِفُهُ وَمِثْلُ ذَاكَ الْغِنَى فِي
النَّفْسِ لَا الْمَالِ وَأَمَّا الْمَازِنِيُّ ، فَأَشْخَصَهُ الْوَاثِقُ
إلَى سُرَّ مَنْ رَأَى لِأَنَّ جَارِيَةً غَنَّتْ وَرَاءَ سِتَارِهِ
أَظُلَيْمُ إنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
فَقَالَ لَهَا الْوَاثِقُ : رَجُلٌ ، فَقَالَتْ : لَا أَقُولُ إلَّا كَمَا
عَلِمْت ، فَقَالَ لِلْفَتْحِ : كَيْفَ هُوَ يَا فَتْحُ ؟ فَقَالَ : هُوَ
خَبَرُ إنَّ كَمَا قُلْت ، فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ : عَلَّمَنِي أَعْلَمُ
النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَازِنِيُّ فَأَمَرَ بِإِشْخَاصِهِ
فَأُشْخِصَ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى : فَلَقِيَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
السِّكِّيتِ فَسَأَلَنِي فَأَجَبْته بِالنَّصْبِ فَقَالَ : فَأَيْنَ
خَبَرُ إنَّ قُلْت ظُلْمُ ، ثُمَّ أَتَى الْمَازِنِيُّ ، فَأَجَابَهُ
بِمَقَالَةِ الْجَارِيَةِ .
قَالَ الْمَازِنِيُّ : قُلْت لِابْنِ
قَادِمٍ وَلِابْنِ سَعْدٍ ، لَمَّا كَابَرَنِي : كَيْفَ تَقُولُ نَفَقَتُك
دِينَارًا أَصْلَحُ مِنْ دِرْهَمٍ ؟ فَقَالَ : دِينَارًا قُلْت :
كَيْفَ
تَقُولُ : ضَرْبُك زَيْدًا خَيْرٌ لَك ؟ فَنَصَبَ ، قُلْت : فَرِّقْ
بَيْنَهُمَا فَانْقَطَعَ ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْوَاثِقِ وَحَضَرَ
ابْنُ السِّكِّيتِ فَقَالَ لِي الْوَاثِقُ : هَاتِ مَسْأَلَةً فَقُلْت
لِيَعْقُوبَ : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } .
مَا
وَزْنُهُ مِنْ الْفِعْلِ ؟ قَالَ : نَفْعَلْ ، قَالَ الْوَاثِقُ : غَلِطْت
، ثُمَّ قَالَ لِي : فَسِّرْهُ ، فَقُلْت : نَكْتَلْ تَقْدِيرُهُ
نَفْتَعِلُ نَكْتَيِلُ فَانْقَلَبَتْ الْيَاءُ أَلِفًا لِفَتْحِ مَا
قَبْلَهَا ، فَصَارَ لَفْظُهَا نَكْتَالُ ، فَأُسْكِنَتْ اللَّامُ
لِلْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ ، وَحُذِفَتْ الْأَلِفُ
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، فَقَالَ : هَذَا هُوَ الْجَوَابُ ،
فَلَمَّا خَرَجْنَا عَاتَبَنِي يَعْقُوبُ ، فَقُلْت : وَاَللَّهِ مَا
قَصَدْت تَخْطِئَتَك وَلَكِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِي هَيِّنَةَ الْجَوَابِ ،
وَلَمْ أَظُنَّ أَنَّهَا تَعْزُبُ عَلَيْك .
قَالَ : وَحَضَرَ يَوْمًا
آخَرَ وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فَقَالَ لِي
الْوَاثِقُ : يَا مَازِنِيُّ ، هَاتِ مَسْأَلَةً فَقُلْت : مَا تَقُولُونَ
فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَتْ أُمُّك بَغِيًّا } وَلَمْ
يَقُلْ : بَغِيَّةً وَهِيَ صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ فَأَجَابُوا بِجَوَابَاتٍ
لَيْسَتْ مُرْضِيَةً ، فَقَالَ لِي الْوَاثِقُ : هَاتِ الْجَوَابَ ،
فَقُلْت : لَوْ كَانَتْ بَغِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى
فَاعِلَةٍ لَحِقَتْهَا الْهَاءُ إذًا لَكَانَتْ مَفْعُولَةً بِمَعْنَى :
امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَكَفٌّ خَضِيبٌ ، وَتَقْدِيرُ بَغِيٍّ هَهُنَا لَيْسَ
بِفَعِيلٍ إنَّمَا هُوَ فَعُولٌ ، وَفَعُولٌ لَا تَلْحَقُهُ الْهَاءُ فِي
وَصْفِ التَّأْنِيثِ نَحْوَ امْرَأَةٌ سُكُونٌ وَبِئْرٌ شَطُونٌ إذَا
كَانَتْ بَعِيدَةَ الرِّشَاءِ ، وَتَقْدِيرُ بَغِيٍّ بَغَوِيٌّ قُلِبَتْ
الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ نَحْوَ سَيِّدٍ
وَمَيِّتٍ ، فَاسْتَحْسَنَ الْجَوَابَ ثُمَّ اسْتَأْذَنْته فِي الْخُرُوجِ
فَقَالَ : أَلَا أَقَمْت عِنْدَنَا : فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إنَّ لِي بُنَيَّةً أُشْفِقُ أَغِيبُ عَنْهَا قَالَ : كَأَنِّي بِهَا قَدْ
قَالَتْ مَا قَالَتْ ابْنَةُ الْأَعْشَى لِلْأَعْشَى : أُرَانَا إذَا
أَضْمَرَتْك الْبِلَادُ
نُجْفَى وَتُقْطَعُ مِنَّا الرَّحِمْ
وَقُلْت أَنْتَ : تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْت مُرْتَحِلًا يَا رَبِّ
جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت
فَاغْتَمِضِي يَوْمًا فَإِنَّ بِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
فَوَاَللَّهِ مَا أَخْطَأَ مَا فِي نَفْسِي ، فَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ
وَأَذِنَ لِي فِي الِانْصِرَافِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ :
وَفَرَّ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ الْحَجَّاجِ قَالَ :
فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ إذْ سَمِعْت رَجُلًا يُنْشِدُ : رُبَّمَا
تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ الْعِقَالِ
قَدْ مَاتَ الْحَجَّاجُ فَلَمْ أَدْرِ بِأَيِّهِمَا كُنْت أَشَدَّ فَرَحًا
؟ أَبِمَوْتِ الْحَجَّاجِ أَوْ قَوْلِهِ : فُرْجَةٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّينَ
: كَانَ مُمْتَنِعَ الْجَانِبِ قَلِيلَ الْغِشْيَانِ لِلسُّلْطَانِ حَتَّى
ذَكَرَهُ الْفَرَزْدَقُ وَعَيَّرَهُ الْكِبْرَ وَهَجَاهُ .
قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَمِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ سَارَعَ إلَى السَّلَاطِينِ وَلَمْ
يَحْمَدْ الْعَاقِبَة ، مِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ وَابْنُ السِّكِّيتِ كَمَا
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ ، قَالَا لَمَّا وَرَدَ سِيبَوَيْهِ إلَى
الْعِرَاقِ شَقَّ أَمْرُهُ عَلَى الْكِسَائِيّ ، فَأَتَى جَعْفَرَ بْنَ
يَحْيَى وَالْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَقَالَ : أَنَا وَلِيُّكُمَا
وَصَاحِبُكُمَا ، وَهَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَدِمَ لِيُذْهِبَ مَحَلِّي ،
قَالَا فَاحْتَمِلْ لِنَفْسِك فَسَنَجْمَعُ بَيْنَكُمَا ، فَجُمِعَا
عِنْدَ الْبَرَامِكَةِ وَحَضَرَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ ، وَحَضَرَ
الْكِسَائِيُّ وَمَعَهُ الْفَرَّاءُ وَعَلِيٌّ الْأَحْمَرُ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَسَأَلُوهُ كَيْفَ تَقُولُ : كُنْت أَظُنُّ أَنَّ
الْعَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةً مِنْ الزُّنْبُورِ ، فَإِذَا هُوَ هِيَ أَوْ
هُوَ إيَّاهَا ؟ فَقَالَ : أَقُولُ : فَإِذَا هُوَ هِيَ ، فَقَالَ لَهُ :
أَخْطَأْت وَلَحَنْت ، فَقَالَ يَحْيَى : هَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ فَمَنْ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ؟ قَالُوا : هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ بِالْبَابِ ،
فَأُدْخِلَ أَبُو الْجَرَّاحِ وَجَمَاعَةٌ
مَعَهُ فَسُئِلُوا
فَقَالُوا نَقُولُ : فَإِذَا هُوَ إيَّاهَا فَانْصَرَمَ الْمَجْلِسُ عَلَى
أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَخْطَأَ وَحُكِمَ عَلَيْهِ ، فَأَعْطَاهُ
الْبَرَامِكَةُ وَأُخِذَ لَهُ مِنْ الرَّشِيدِ وَبُعِثَ بِهِ إلَى
بَلْدَةٍ فَيُقَالُ : إنَّهُ مَا لَبِثَ إلَّا يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ
كَمَدًا قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ : وَأَصْحَابُ سِيبَوَيْهِ إلَى
هَذِهِ الْغَايَةِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا
قَالَ سِيبَوَيْهِ ، وَهُوَ فَإِذَا هُوَ هِيَ وَهَذَا مَوْضِعُ الرَّفْعِ
.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا ابْنُ السِّكِّيتِ فَحَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّحْوِيُّ قَالَ قَالَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ
السِّكِّيتِ : أُرِيدُ أُشَاوِرُك فِي شَيْءٍ قُلْت : قُلْ قَالَ : إنَّ
الْمُتَوَكِّلَ قَدْ أَدْنَانِي وَقَرَّبَنِي وَنَدَبَنِي إلَى
مُنَادَمَتِهِ فَمَا تَرَى ؟ قُلْت : لَا تَفْعَلْ وَكَرِهْت لَهُ
النِّهَايَةَ ، فَدَافَعَ بِهِ يَعْقُوبُ ثُمَّ تَطَلَّعَتْ نَفْسُهُ
إلَيْهِ فَشَاوَرَنِي ، فَقُلْت : يَا أَخِي أُحَذِّرُك عَلَى نَفْسِك ،
فَإِنَّهُ سُلْطَانٌ وَأَكْرَهُ أَنْ تَزِلَّ بِشَيْءٍ ، فَحَمَلَهُ حُبُّ
ذَلِكَ عَلَى أَنْ خَالَفَنِي فَقَتَلَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِشَيْءٍ
جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَانَ أَوَّلُهُ مِزَاحًا
وَكَانَ ابْنُ السِّكِّيتِ يَتَشَيَّعُ فَقَتَلَهُ .
قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ : وَمِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَرُبَ مِنْ السَّلَاطِينِ
فَحَظِيَ عِنْدَهُمْ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ يُونُسُ بْنُ
حَبِيبٍ : أَقَامَ الْكِسَائِيُّ بِالْبَصْرَةِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ
رَحَلَ إلَى الْكُوفَةِ ، فَأَخَذَ عَنْ أَعْرَابٍ لَيْسُوا بِفُصَحَاءَ
فَأَفْسَدَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، فَقَدْ صَارَ النَّحْوُ كُلُّهُ مِنْ
الْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِسَائِيَّ مِنْهُمْ تَعَلَّمَ ، ثُمَّ قَرَأَ
عَلَى الْأَخْفَشِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ ، وَيُحْكَى أَنَّهُ دَفَعَ
إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلَيْسَ أَحَدٌ
مِنْ الرُّؤَسَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي النَّحْوِ إلَّا بَصْرِيٌّ ،
حَتَّى إنَّهُمْ حُجَجٌ
فِي اللُّغَةِ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ
لِفَصَاحَتِهِمْ ، وَكَانُوا لَا يَأْخُذُونَ إلَّا عَنْ الْفُصَحَاءِ
مِنْ الْأَعْرَابِ ، وَلَهُمْ السَّبْقُ وَالتَّقْدِيمُ ، مِنْهُمْ أَبُو
الْأَسْوَدِ وَأَبُو عَمْرٍو ، وَسَمِعْت عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ
يَقُولُ : سَاءَنِي أَنَّ خَلَفًا الْبَزَّارَ عَلَى جَلَالَتِهِ
وَمَحَلَّهُ تَرَكَ الْكِسَائِيَّ ، وَهُوَ أُسْتَاذُهُ فَلَمْ يَرْوِ
عَنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا ، مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي تَصْنِيفِهِ
كِتَابَ الْقِرَاءَاتِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : ثُمَّ عَرَّفَنِي
غَيْرُ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ
لِأَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ : قَالَ لِي سَيِّدِي الرَّشِيدُ ، فَتَرَكَهُ
وَقَالَ : إنَّ إنْسَانًا مِقْدَارُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ
مِنْ أَجْلِهَا هَذَا الْإِجْلَالَ ، لَحَرِيٌّ أَنْ لَا يُؤْخَذَ عَنْهُ
شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ كَانَ
الْأَصْمَعِيُّ مُتَّصِلًا بِالرَّشِيدِ وَكَانَ يُقَدِّمُهُ
وَيَتَكَلَّمُ فِي مَجْلِسِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاسِمُ
بْنُ مُخَيْمِرَةَ أَنَّهُ قَالَ : النَّحْوُ أَوَّلُهُ شُغْلٌ ،
وَآخِرُهُ بَغْيٌ ، وَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَسِيقَ فِي
فُصُولِ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَيَأْتِي بَعْدَ
نِصْفِ كُرَّاسَةٍ أَيْضًا .
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي بَاب
الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثَ الَّذِي اسْتِعْمَالُهُ خَطَأٌ قَالَ :
وَاسْتَعْمَلُوا يَفْعَلْ ذَلِكَ بِغَيْرِ لَامِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا مِنْ
الْخَطَأِ الْقَبِيحِ الَّذِي يُقْلَبُ مَعَهُ الْمَعْنَى فَيَصِيرُ
خَبَرًا ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ ، وَإِنْ جُزِمَ أَيْضًا فَخَطَأٌ ؛
لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ لَامٍ إلَّا فِي شُذُوذٍ
وَاضْطِرَارٍ ، عَلَى أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ حَذْفُ اللَّامِ
مِنْ الْأَمْرِ لِلْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تُضْمَرُ ؛
وَلِأَنَّ عَوَامِلَ الْأَفْعَالِ أَضْعَفُ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ ،
وَأَنَّ مَا أُنْشِدَ فِيهِ مِنْ الشِّعْرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ ، وَهُوَ : مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَك كُلُّ نَفْسِ
كَذَا قَالَ وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } .
قِيلَ
هُوَ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ عَنْ حَالِهِمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ : إنَّهُ
أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ لَهُمْ بِالْحَذَرِ ، فَتَقْدِيرُهُ لِيَحْذَرْ
الْمُنَافِقُونَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَالْعَرَبُ رُبَّمَا
أَخْرَجَتْ الْأَمْرَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ فَيَقُولُونَ : يَرْحَمُ
اللَّهُ الْمُؤْمِنَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرَ ، يُرِيدُونَ لِيَرْحَمْ
وَيُعَذِّبْ فَيُسْقِطُونَ اللَّامَ وَيُجْرُونَهُ مَجْرَى الْخَبَرِ فِي
الرَّفْعِ ، وَهُمْ لَا يَنْوُونَ إلَّا الدُّعَاءَ ، وَالدُّعَاءُ
مُضَارِعٌ لِلْأَمْرِ .
وَأَمَّا الْجَزْمُ بِلَامٍ مُقَدَّرَةٍ
فَيَجُوزُ كَثِيرًا مُطَّرِدًا بَعْدَ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ
لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ } .
وَالْأَشْهَرُ
أَنَّهُ جَوَابُ قُلْ ، وَالتَّقْدِيرُ : قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا
الصَّلَاةَ يُقِيمُوا ، أَيْ إنْ تَقُلْ لَهُمْ يُقِيمُوا .
وَرَدَّهُ
قَوْمٌ بِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَهُمْ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقِيمُوا ، وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا
الرَّدَّ ، وَلَمْ يَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِالْعِبَادِ الْكُفَّارَ ، بَلْ الْمُؤْمِنِينَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ { لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا } وَإِذَا أَمَرَهُمْ الرَّسُولُ
قَامُوا .
وَقِيلَ : يُقِيمُوا جَوَابُ أَقِيمُوا الْمَحْذُوفَةِ أَيْ
: أَنْ يُقِيمُوا ، يُقِيمُوا وَرُدَّ بِوُجُوبِ مُخَالَفَةِ جَوَابِ
الشَّرْطِ لَهُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ أَوْ فِيهِمَا ، فَلَا يَجُوزُ
قُمْ تَقُمْ ، وَبِأَنَّ الْمُقَدَّرَ لِلْمُوَاجَهَةِ وَيُقِيمُوا عَلَى
لَفْظِ الْغَيْبَةِ ، وَهُوَ خَطَأٌ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ وَاحِدًا ،
وَيَجُوزُ الْجَزْمُ فَاللَّامُ الْأَمْرِ مُقَدَّرَةً قَلِيلًا بَعْدَ
قَوْلٍ بِلَا أَمْرٍ ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ
بِهَا بِلَا أَمْرٍ وَلَا قَوْلٍ وَلَا ضَرُورَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا
ذَكَرْت ذَلِكَ لِكَثْرَةِ كِتَابَةِ " يُعْتَمَدُ ذَلِكَ " وَنَحْوِهَا
وَكَثْرَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا إنْكَارَهُ فَيُنْكِرُهُ ،
وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ
.
فَصْلٌ ( فِي إصْلَاحِ اللَّحْنِ الْعَارِضِ لِمَتْنِ الْحَدِيثِ وَمَتَى يَجُوزُ التَّحْدِيثُ وَمَنْ يُقَدَّمُ ) .
قَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : سَمِعْت ابْنَ زَنْجُوَيْهِ يَسْأَلُ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ : يَجِيءُ الْحَدِيثُ فِيهِ اللَّحْنُ وَشَيْءٌ فَاحِشٌ ،
فَتَرَى أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُحَدِّثَ بِهِ كَمَا سَمِعَ قَالَ :
يُغَيِّرُهُ شَدِيدٌ ؛ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَلْحَنُونَ ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ اللَّحْنُ
مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَيَنْبَغِي
لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يُصْلِحَ اللَّحْنَ فِي كِتَابِهِ ، ذَكَرَ
ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُهُ قَالَ : وَيُصْلِحُ
الْغَلَطَ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ ، وَذَكَرَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ .
وَالْأَوْلَى
لَا يُحَدِّثُ حَتَّى أَنْ يَتِمَّ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، إلَّا أَنْ
يُحْتَاجَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّثَ بُنْدَارٌ وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
سَنَةً ، وَحَدَّثَ الْبُخَارِيُّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ ،
وَيُكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ أَوْ
أَعْلَمُ ، فَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا حَضَرَ مَعَ إبْرَاهِيمَ لَمْ
يَتَكَلَّمْ إبْرَاهِيمُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِسُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ مَا لَك لَا تُحَدِّثُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا وَأَنْتَ حَيٌّ
فَلَا وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لَقَدْ كُنْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا ، فَكُنْت أَحْفَظُ
عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا رِجَالًا
هُمْ أَسَنُّ مِنِّي ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ
فِيهِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَدَثِ أَنْ يُوَقِّرَ الشُّيُوخَ ،
وَأَنَّهُ إذَا رُئِيَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُزَاحِمْهُمْ بِالرِّوَايَةِ لَهُ
، فَإِنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُمْ فَيَرْوِيَ فِي حَالَةِ
عَدَمِهِمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْقِعِهِ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ
لَمْ تَكُنْ تُغْنِي رِوَايَتُهُ ، لِمَا يَعْرِفُهُ الشُّيُوخُ طَائِلًا
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ
فِي فَصْلٍ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا
أَدْرِي .
وَقَدْ
ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ الْغَلَطَ الْخَطَأَ
كَمَا عَلَيْهِ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ : سَمِعْت أَبَا إِسْحَاقَ الْحَبَّالَ
بِمِصْرَ يَقُولُ : لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ أَبِي الْقَاسِمِ
سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيِّ فِي الْفَضْلِ ، وَكَانَ يَحْضُرُ
مَعَنَا الْمَجَالِسَ وَيُقْرَأُ الْخَطَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلَا
يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا ، وَلَوْ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكُفْرُ
، إلَّا أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ أَجَابَ ، وَأُرِيَ يَوْمًا بَعْضَ
الصِّبْيَانِ يَتْبَعُونَ الْأَغْلَاطَ وَيُبَادِرُونَ بِالرَّدِّ عَلَى
الْمُقْرِئِ وَلَا يُحْسِنُونَ الْأَدَبَ .
وَمُرَادُ أَبِي إِسْحَاقَ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ لَا يُبَادِرُ بِالرَّدِّ ،
وَلَعَلَّهُ يَكْتَفِي بِغَيْرِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَوْ قُرِئَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْكُفْرُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ عَدَمُ
بَيَانِهِ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ : سَمِعْت
الْفَقِيهَ أَبَا مُحَمَّدٍ هَيَّاجَ بْنَ عُبَيْدٍ إمَامَ الْحَرَمِ
وَمُفْتِيَهُ يَقُولُ : يَوْمٌ لَا أَرَى فِيهِ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ
الزَّنْجَانِيَّ لَا أَعْتَدُّ أَنِّي عَمِلْت خَيْرًا .
قَالَ ابْنُ
طَاهِرٍ وَكَانَ هَيَّاجٌ يَعْتَمِرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ عُمَرَ ،
وَيُوَاصِلُ الصَّوْمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَيَدْرُسُ عِدَّةَ دُرُوسٍ ،
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ نَظْرَةً إلَى الشَّيْخِ
سَعْدٍ وَالْجُلُوسَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلُّ مِنْ سَائِرِ عَمَلِهِ ،
قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ
أَحْمَدَ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ : لَمَّا عَزَمَ الشَّيْخُ سَعْدٌ عَلَى
الْإِقَامَةِ بِالْحَرَمِ وَالْمُجَاوَرَةِ بِهِ ، عَزَمَ عَلَى نَفْسِهِ
نَيِّفًا وَعِشْرِينَ عَزِيمَةً أَنَّهُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ مِنْ
الْمُجَاهَدَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ، وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ
سَنَةً وَلَمْ يُخَلِّ مِنْهَا عَزِيمَةً وَاحِدَةً رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَصْلٌ ( فِي مَكَانَةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَإِقْبَالِ الْأُلُوفِ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَحَسَدِ الْخُلَفَاءِ لَهُمْ ) .
قَالَ
جَعْفَرُ بْنُ دُرُسْتَوَيْهِ كُنَّا نَأْخُذُ الْمَجْلِسَ فِي مَجْلِسِ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقْتَ الْعَصْرِ ، الْيَوْمَ لِمَجْلِسِ غَدٍ
، فَنَقْعُدُ طُولَ اللَّيْلِ مَخَافَةَ أَنْ لَا نَلْحَقَ مِنْ الْغَدِ
مَوْضِعًا نَسْمَعُ فِيهِ ، فَرَأَيْت شَيْخًا فِي الْمَجْلِسِ يَبُولُ
فِي طَيْلَسَانِهِ ، وَيُدْرِجُ الطَّيْلَسَانَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ
مَكَانُهُ إنْ قَامَ لِلْبَوْلِ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ
فِي مَجْلِسِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ يَحْزِرُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا ،
وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِحَزْرِ مَجْلِسِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ
فَحَزَرُوا الْمَجْلِسَ عِشْرِينَ أَلْفًا وَمِائَةَ أَلْفٍ ، وَأَمْلَى
الْبُخَارِيُّ بِبَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ لَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا .
وَقَالَ
أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ كَانَ فِي مَجْلِسِ جَعْفَرٍ
الْفِرْيَابِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ يَكْتُبُ حُدُودَ
عَشَرَةِ آلَافٍ ، مَا بَقِيَ مِنْهُمْ غَيْرِي سِوَى مَنْ لَا يَكْتُبُ ،
وَأَمْلَى أَبُو مُسْلِمٍ اللُّجِّيُّ فِي رَحْبَةِ غَسَّانَ ، فَكَانَ
فِي مَجْلِسِهِ سَبْعَةُ مُسْتَمْلِينَ يُبَلِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
صَاحِبَهُ الَّذِي يَلِيهِ ، وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْهُ قِيَامًا
بِأَيْدِيهِمْ الْمَحَابِرُ ، ثُمَّ مُسِحَتْ الرَّحْبَةُ وَحُسِبَ مَنْ
حَضَرَ بِمِحْبَرَةٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ
مِحْبَرَةٍ سِوَى الْعِطَارَةِ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَدْ
كَانَتْ الْهِمَمُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا ، ثُمَّ مَا
زَالَتْ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ حَتَّى اضْمَحَلَّتْ فَحَكَى شَيْخُنَا
أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ طَفْرٍ الْمَغَازِلِيُّ قَالَ : كُنَّا فِي
حَلْقَةِ ابْنِ يُوسُفَ نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَطَلَبْنَا مِحْبَرَةً
نَكْتُبُ بِهَا السَّمَاعَ ، فَمَا وَجَدْنَا قَالَ : وَقَدْ كَانَ
الْخُلَفَاءُ وَالْكُبَرَاءُ يَغْبِطُونَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى هَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ
الْجُمَحِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قِيلَ لِلْمَنْصُورِ : هَلْ مِنْ لَذَّاتِ
الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ ؟ قَالَ
: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ أَنْ
أَقْعُدَ فِي مِصْطَبَةٍ وَحَوْلِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَيَقُولُ
الْمُسْتَمْلِي : مَنْ ذَكَرْت رَحِمَك اللَّهُ ؟ قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِ
النُّدَمَاءُ وَأَبْنَاءُ الْوُزَرَاءِ بِالْمَحَابِرِ وَالدَّفَاتِرِ
فَقَالَ : لَسْتُمْ بِهِمْ إنَّمَا هُمْ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ ،
الْمُتَشَقِّقَةُ أَرْجُلُهُمْ ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ ، بَرْدُ
الْآفَاقِ وَنَقَلَةُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ
قَالَ لِي الرَّشِيدُ : مَا أَنْبَلُ الْمَرَاتِبِ قُلْت : مَا أَنْتَ
فِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : فَتَعْرِفُ أَجَلَّ مِنِّي ؟
قُلْت : لَا قَالَ : لَكِنِّي أَعْرِفُهُ رَجُلٌ فِي حَلْقَةٍ يَقُولُ :
حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : هَذَا
خَيْرٌ مِنْك وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ نَعَمْ
وَيْلَك هَذَا خَيْرٌ مِنِّي ؛ لِأَنَّ اسْمَهُ مُقْتَرِنٌ بِاسْمِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ أَبَدًا ،
وَنَحْنُ نَمُوتُ وَنَفْنَى وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ
.
وَقَالَ الْمَأْمُونُ : مَا طَلَبَتْ مِنِّي نَفْسِي شَيْئًا إلَّا
وَقَدْ نَالَتْهُ مَا خَلَا هَذَا الْحَدِيثَ ، فَإِنِّي كُنْت أُحِبُّ
أَنْ أَقْعُدَ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيُقَالُ لِي : مَنْ حَدَّثَك ؟ فَأَقُولُ
: حَدَّثَنِي فُلَانٌ قِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِمَ لَا
تُحَدِّثُ ؟ قَالَ لَا يَصْلُحُ الْمِلْكُ وَالْخِلَافَةُ مَعَ الْحَدِيثِ
.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ وَلِيت الْقَضَاءَ وَقَضَاءَ
الْقَضَاءِ وَالْوَزَارَةَ وَكَذَا وَكَذَا ، مَا سُرِرْت لِشَيْءٍ
كَسُرُورِي بِقَوْلِ الْمُسْتَمْلِي مَنْ ذَكَرْت رَضِيَ اللَّهُ عَنْك .
فَصْلٌ ( فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَالْإِخْلَاصِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ) .
تَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ لِلْعِلْمِ وَالْحَذَرِ مِنْ الرِّيَاءِ ،
وَقَالَ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ : يَا قَوْمِ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ
الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَقَدْ فَهِمْتُمْ قَوْله تَعَالَى { أَلَا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } .
وَقَدْ سَمِعْتُمْ عَنْ السَّلَفِ
أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُعَلِّمُونَ وَلَا يَقُولُونَ حَتَّى تَتَقَدَّمَ
النِّيَّةُ وَتَصِحَّ ، أَيَذْهَبُ زَمَانُكُمْ يَا فُقَهَاءُ فِي
الْجَدَلِ وَالصِّيَاحِ ، وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتُكُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِ
الْعَوَامّ تَقْصِدُونَ الْمُغَالَبَةَ ، ثُمَّ يُقْدِمُ أَحَدُكُمْ عَلَى
الْفَتْوَى وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
يَتَدَافَعُونَهَا ، وَيَا مَعْشَرَ الْمُتَزَهِّدِينَ إنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَمَا يَخْفَى ، أَتُظْهِرُونَ الْفَقْرَ فِي لِبَاسِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْتَهُونَ شَهَوَاتٍ ، وَتُظْهِرُونَ التَّخَشُّعَ
وَالْبُكَاءَ فِي الْجَلَوَاتِ دُونَ الْخَلَوَاتِ ، كَانَ ابْنُ سِيرِينَ
يَضْحَكُ وَيُقَهْقِهُ ، فَإِذَا خَلَا بَكَى فَأَكْثَرَ وَقَالَ
سُفْيَانَ لِصَاحِبِهِ : مَا أَوْقَحَك تُصَلِّي وَالنَّاسُ يَرَوْنَك .
أَفْدِي
ظِبَاءَ فَلَاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا مَضْغَ الْكَلَامِ وَلَا صَبْغَ
الْحَوَاجِيبِ آهٍ لِلْمُرَائِي مِنْ يَوْمَ يُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ
، وَهِيَ النِّيَّاتُ وَالْعَقَائِدُ ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِمَا لَا
عَلَى الظَّوَاهِرِ ، فَأَفِيقُوا مِنْ سَكْرَتِكُمْ ، وَتُوبُوا مِنْ
زَلَلِكُمْ وَاسْتَقِيمُوا عَلَى الْجَادَّةِ .
{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } .
فَصْلٌ ( فِي جَرْحِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ ) .
سَأَلَ
رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فَقَالَ : كَانَ
كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا ابْنُ عَمِّهِ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي
الدِّينِ مُحَابَاةٌ .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت ابْنَ مَعِينٍ عَنْ
الْوَاقِدِيِّ قَالَ : أَنْتَ تَعْرِفُهُ وَأُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي
قُلْت لِمَ قَالَ : إنَّ ابْنَهُ أَخٌ لِي قُلْت فَدَعْهُ ، وَسَأَلَ
أَحْمَدُ رَجُلًا عَنْ مَوْتِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُ
بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعْرِفُ بِهِ الْكَذَّابِينَ .
وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ بْنَ سَعِيدٍ
وَسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الرَّجُلِ
يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يُخْطِئُ فِيهِ أَوْ يَكْذِبُ فِيهِ فَقَالُوا
جَمِيعًا بَيِّنْ أَمْرَهُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا هُوَ
كَمَا قَالُوا ، فَقُلْت لَهُ أَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ
الْفَاحِشَةِ قَالَ لَا هَذَا دِينٌ وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ
أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ فَقَالَ : إذَا لَمْ تُرِدْ
عَيْبَ الرَّجُلِ قُلْت قَدْ جَاءَ يَقُولُ فُلَانٌ لَمْ يَسْمَعْ
وَفُلَانٌ يُخْطِئُ قَالَ لَوْ تَرَكَ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ الصَّحِيحُ
مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَ شُعْبَةُ وَقِيلَ لَهُ تُمْسِكُ عَنْ أَبَانَ بْنِ
أَبِي عَيَّاشٍ ؟ فَقَالَ مَا أَرَى يَسَعُنِي السُّكُوتُ عَنْهُ ، وَقَدْ
سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَفِي فُصُولِ
الْهِجْرَةِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْت
حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَك عِنْدَ اللَّهِ قَالَ : ذَاكَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ يَكُونَ خَصْمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ لِمَ حَدَّثْت عَنِّي حَدِيثًا تَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ .
وَقَالَ
بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي
الْمُعَلَّى بْنِ هِلَالٍ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَغْتَابُ ؟
فَقَالَ لَهُ : اُسْكُتْ إذَا لَمْ نُبَيِّنْ كَيْفَ
نَعْرِفُ
الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ هَذَا مِنْ
الْغِيبَةِ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ .
وَقَالَ
أَبُو الْحَارِثِ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ
: مَا تَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي النَّاسِ إلَّا سَقَطَ وَذَهَبَ حَدِيثُهُ
قَدْ كَانَ بِالْبَصْرَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْأَفْطَسُ كَانَ يَرْوِي
عَنْ الْأَعْمَشِ وَالنَّاسِ ، وَكَانَتْ لَهُ مَجَالِسُ وَكَانَ صَحِيحَ
الْحَدِيثِ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْلَمُ عَلَى لِسَانِهِ أَحَدٌ
فَذَهَبَ حَدِيثُهُ وَذِكْرُهُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ
وَذَكَرَ الْأَفْطَسَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ :
إنَّمَا سَقَطَ بِلِسَانِهِ فَلَيْسَ نَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُهُ .
وَتَكَلَّمَ
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي أَبِي بَدْرٍ فَدَعَا عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ :
فَأُرَاهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
عَدَمُ التَّثَبُّتِ وَالْغِيبَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَقَالَ أَبُو
زُرْعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْأَفْطَسُ : كَانَ عِنْدِي
صَدُوقًا لَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ
وَيَحْيَى الْقَطَّانِ ، وَذُكِرَ لَهُ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
فَقَالَ : لَا يَنْتَهِي يُونُسُ حَتَّى يَقُولَ سَمِعْت الْبَرَاءَ .
قَالَ
أَبُو زُرْعَةَ فَانْظُرْ كَيْفَ يُرَدُّ أَمْرُهُ ، كُلُّ مَنْ لَمْ
يَتَكَلَّمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى الدِّيَانَةِ فَإِنَّمَا يُعْطِبُ
نَفْسَهُ ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي النَّاسِ
عَلَى الدِّيَانَةِ فَيَنْفُذُ قَوْلُهُمْ ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ
يَتَكَلَّمْ فِيهِمْ عَلَى غَيْرِ الدِّيَانَةِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ
عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَذَكَرَ أَبَا قَتَادَةَ
الْحَرَّانِيَّ فَقَالَ سَمِعْت ابْنَ نُفَيْلٍ يَقُولُ : قَرَأَ يَعْنِي
أَبَا قَتَادَةَ كِتَابَ مِسْعَرٍ فَبَلَغَ : وَشَكَّ أَبُو نُعَيْمٍ ،
فَقَالَ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : وَذَكَرَ ابْنُ نُفَيْلٍ
يَوْمًا مَاتَ فُلَانٌ سَنَةَ كَذَا لِشُيُوخِهِ فَقِيلَ لَهُ : مَتَى
مَاتَ أَبُو قَتَادَةَ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نُسْأَلُ عَنْ تَارِيخِ
الْعُلَمَاءِ ، فَظَنَنْت أَنَّهُ سُلِّطَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ
أَنَّ
ابْنَ نُفَيْلٍ حَدَّثَ فَقِيلَ لِأَبِي قَتَادَةَ حَدَّثَ ابْنُ نُفَيْلٍ
، فَقَالَ ابْنُ أُخْتِ ذَاكَ الصَّبِيِّ يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ جَعْفَرٍ :
فَجَعَلْت أَعْجَبُ مِنْ اسْتِخْفَافِهِ هَذَا بِهِ ثُمَّ سُلِّطَ
عَلَيْهِ تُرَى انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ عِنْدَ
الْأَئِمَّةِ وَكَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ ، وَقَوَّاهُ أَحْمَدُ ، وَكَذَا
ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ فِي الْكُتُبِ
السِّتَّةِ ، وَمَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ ، فَمَنْ هَذِهِ
حَالُهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
لَا سِيَّمَا بِغَيْرِ إنْصَافٍ فِيمَنْ عَظَّمَهُ الْأَئِمَّةُ
وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُفَيْلٍ النُّفَيْلِيُّ
الْحَرَّانِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ ثِقَةٌ ، وَتُوُفِّيَا سَنَةَ
بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ فَلَمْ يَضُرَّهُمَا كَلَامُ أَبِي
قَتَادَةَ وَانْضَرَّ هُوَ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالسَّتْرَ .
وَقَالَ
أَبُو زُرْعَةَ : ذَكَرْت لِأَبِي جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيِّ أَنَّ أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَاغْتَمَّ وَقَالَ : قَدْ
كَتَبْت إلَيْهِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ عَنْهُ وَإِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ
حَدَّثَنَا عَنْهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ .
فَصْلٌ ( فِي خَطَإِ الثِّقَاتِ وَكَوْنِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ ) .
قَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : لَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يُنْكِرَ حَدِيثًا يُلْقَى عَلَيْهِ كَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ : لَيْسَ هَذَا
عِنْدَنَا وَلَا يَقُولُ : لَمْ أَسْمَعْهُ يَسْكُتُ قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ : وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ ذُكِرَ لَهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ
عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ ثُمَّ
أَنْكَرَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ ، فَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا ثُمَّ
نَظَرَ فَوَجَدَهُ فِي كِتَابِهِ .
وَقَالَ مُهَنَّا لِأَحْمَدَ كَانَ
غُنْدَرٌ يَغْلَطُ قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ مِنْ النَّاسِ ؟ ، وَقَالَ
الْبُوَيْطِيُّ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قَدْ أَلَّفْت هَذِهِ
الْكُتُبَ وَلَمْ آلُ فِيهَا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا الْخَطَأُ
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } .
فَمَا وَجَدْتُمْ
فِي كُتُبِي هَذِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ
رَجَعْت عَنْهُ وَقَالَ حَنْبَلٌ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ
: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَقَلَّ خَطَأً مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ يَعْنِي
الْقَطَّانَ ، وَلَقَدْ أَخْطَأَ فِي أَحَادِيثَ قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ : وَمَنْ يَعْرَى مِنْ الْخَطَإِ وَالتَّصْحِيفِ ؟ وَنَقَلَ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ كَانَ وَكِيعٌ يَحْفَظُ عَنْ
الْمَشَايِخِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَحِّفُ وَكُلُّ مَنْ كَتَبَ يَتَّكِلُ
عَلَى الْكِتَابِ يُصَحِّفُ .
وَنَقَلَ إِسْحَاقُ أَيْضًا عَنْ
أَحْمَدَ : مَا أَكْثَرَ مَا يُخْطِئُ شُعْبَةُ فِي أَسَامٍ وَقَالَ
عَبَّاسٌ الدَّوْرِيُّ : سَمِعْت يَحْيَى يَقُولُ : مَنْ لَا يُخْطِئُ فِي
الْحَدِيثِ فَهُوَ كَذَّابٌ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ :
مَنْ يُبَرِّئْ نَفْسَهُ مِنْ الْخَطَإِ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَقَالَ مَالِكٌ
: وَمَنْ ذَا الَّذِي لَا يُخْطِئُ ؟ ، .
فَصْلٌ ( فِي صِفَاتِ مَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالدِّينُ وَمَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ ) .
قَالَ
الصَّاغَانِيُّ رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ
الْخُزَاعِيِّ وَكُنْت قَائِمًا فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : يَا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ هَهُنَا ، فَأَبَى حَتَّى كَتَبَ الْمَجْلِسَ ، وَهُوَ
قَائِمٌ .
وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ الْعِجْلِيُّ : سَمِعْت أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : بَلَغَنِي أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ سُئِلَ
عَنْ حَدِيثٍ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ تَسْأَلُ ؟ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ قَائِمٌ ؟ وَقَالَ
حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : إنَّمَا يَحْيَا
النَّاسُ بِالْمَشَايِخِ ، فَإِذَا ذَهَبَ الْمَشَايِخُ فَمَاذَا بَقِيَ ؟
وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَسْمِيَةِ
مَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ قَالَ الْبُخَارِيُّ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ يَقُولُ : إنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ فَإِذَا ذَهَبَ
الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنْ الْعَيْشُ ؟ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ :
الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ؟ ذَكَرَهُ
مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ
وَكِيعٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَامِرِ
بْنِ عَبْدَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ
الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةٍ فَيَأْتِي الْقَوْمَ
فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْكَذِبِ ، فَيَتَفَرَّقُونَ ،
فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَمِعْت رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا
أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ عَامِرٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمُسَيِّبُ .
وَرَوَى
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي
أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا
آبَاؤُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } .
وَفِي لَفْظٍ { يَكُونُ
فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ
الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ،
فَإِيَّاكُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ } .
وَقَالَ
مَالِكٌ
لِرَجُلٍ : اُطْلُبْ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ وَقَالَ
مَالِكٌ أَيْضًا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : إنَّك امْرُؤٌ ذُو
هَيْئَةٍ وَكِبَرٍ ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ ؟ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا
يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ، لَا
يُؤْخَذُ عَنْ مُعْلِنٍ بِالسَّفَهِ ، وَلَا عَمَّنْ جُرِّبَ عَلَيْهِ
الْكَذِبُ ، وَلَا عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ ،
وَلَا عَنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا
يُحَدِّثُ بِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : إنَّ هَذَا الْعِلْمَ
دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ، لَقَدْ أَدْرَكْنَا
فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ
لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَمَا
أَخَذْت مِنْهُمْ شَيْئًا ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ،
وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ
وَهُوَ شَابٌّ فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
الْقَطَّانِ : كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَوْ لَمْ يُحَدِّثْ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُ وَقَالَ أَيْضًا : مَا رَأَيْت الْكَذِبَ فِي أَحَدٍ
أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخَيْرِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
: لِأَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْعِبَادَةِ عَنْ ضَبْطِ الْحَدِيثِ
وَإِتْقَانِهِ ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الْكَذَّابُونَ مَا لَيْسَ مِنْ
حَدِيثِهِمْ ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أَنَّ فِي وَضْعِ
الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَجْرًا ، وَجَهِلُوا مَا
فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ كَبِيرِ الْإِثْمِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا { لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ إلَّا مِمَّنْ تُجِيزُونَ
شَهَادَتَهُ } وَرَوَى الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ مُرْسَلًا وَقَالَ
بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ : دِينُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُطْلَبَ عَلَيْهِ
الْعُدُولُ .
وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ : كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ
نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ ، وَإِلَى
صَلَاتِهِ ، وَإِلَى حَالِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ .
وَقَالَ
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
جَابِرٍ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إلَّا عَمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِطَلَبِ
الْعِلْمِ وَقَالَ رَبِيعَةُ : مِنْ إخْوَانِنَا مَنْ نَرْجُو بَرَكَةَ
دُعَائِهِ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَنَا عَلَى شَهَادَةٍ مَا قَبِلْنَا .
وَاشْتَرَطَ
الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا إنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ ،
حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ
نَحْوُ هَذَا ، لِئَلَّا يُدْخَلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ : يُكْتَبُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا
عَنْ ثَلَاثَةٍ : صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو إلَيْهِ ، أَوْ كَذَّابٌ ، أَوْ
رَجُلٌ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ .
وَقَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لَا يُؤْخَذُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا
عَنْ الرُّؤَسَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ
الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ، وَلَا بَأْسَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ
الْمَشَايِخِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُوسَى قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ عَنْ
الصُّحُفِيِّينَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : تُكْتَبُ الْآثَارُ مِمَّنْ كَانَ عَدْلًا فِي هَوَاهُ
إلَّا الشِّيعَةَ ، فَإِنَّ أَصْلَ عَقِيدَتهمْ تَضْلِيلُ أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ
طَائِعًا حَتَّى انْقَادَتْ الْعَامَّةُ لَهُ ، فَذَاكَ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ حَرْمَلَةُ : سَمِعْت
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَوْمٌ أَشْهَدُ
بِالزُّورِ مِنْ الرَّافِضَةِ .
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا
يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ
وَعَنْ عُلَمَائِهِمْ وَأُمَنَائِهِمْ ، فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ
أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا .
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ : سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيَّ
الْحَافِظَ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُسْتَغْفِرِيَّ الْحَافِظَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ الْحَافِظَ يَقُولُ : إذَا رَأَيْت فِي إسْنَادٍ حَدَّثَنَا فُلَانٌ الزَّاهِدُ فَاغْسِلْ يَدَك مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ .
فَصْلٌ ( فِي سَمْتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالْعِلْمُ وَهَدْيِهِمْ ) .
رَوَى
الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ :
كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى
صَلَاتِهِ وَإِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ
وَقَدْ سَبَقَ .
وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ الْفَقِيهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى لِبَاسَهُ وَنَعْلَيْهِ .
وَقِيلَ
لِابْنِ الْمُبَارَكِ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : إلَى الْبَصْرَةِ ،
فَقِيلَ لَهُ مَنْ بَقِيَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ آخُذُ مِنْ أَخْلَاقِهِ
آخُذُ مِنْ آدَابِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ :
كُنَّا نَأْتِي الرَّجُلَ مَا نُرِيدُ عِلْمَهُ لَيْسَ إلَّا أَنْ
نَتَعَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ وَدَلِّهِ ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ
الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا شَيْئًا إلَّا يَنْظُرُوا
إلَى هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
سَمِعْت ابْنَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ : رَأَيْت فِي كُتُبِ
أَبِي سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مَذْهَبَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْلَاقَهُ ،
وَرَأَيْت أَحْمَدَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَفْعَلُ كَذَا وَبَلَغَنِي عَنْهُ
كَذَا وَكَذَا .
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا أَعْجَبَتْك طِبَاعُ امْرِئٍ
فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْك مَا يُعْجِبُك فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ
وَالْمَكْرُمَاتِ حِجَابٌ إذَا جِئْته يَحْجُبُك .
فَصْلٌ ( فِي الْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ عَنْ غَيْرِهَا ) .
قَالَ
الْفَرَبْرِيُّ : سَمِعْت الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : دَخَلْت بَغْدَادَ
آخِرَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ أُجَالِسُ أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ فَقَالَ لِي فِي آخِرِ مَا وَرَدَ عَنْهُ : يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ تَتْرُكُ الْعِلْمَ وَالنَّاسَ وَتَصِيرُ إلَى خُرَاسَانَ ؟ قَالَ
الْبُخَارِيُّ فَأَنَا الْآنَ أَذْكُرُ قَوْلَهُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ
بْنُ خَرَزٍ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلَفُ بْنُ
سَالِمٍ حَلَبَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِخَلَفٍ ارْحَلْ بِنَا
عَنْ هَذَا الْبَلَدِ ، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ يَضِيعُ فِيهِ الْعِلْمُ .
فَصْلٌ ( فِي خَطَرِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ التَّعْلِيمِ وَمَا قِيلَ فِي أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ) .
قَالَ
مُثَنَّى : إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي
جَاءَ { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ
نَارٍ } فَرَفَعَهُ وَلَمْ يَرَ إذَا سُئِلْت عَنْ شَيْءٍ إلَّا أَنْ
أُجِيبَ عَلِمْت ، وَلَمْ يَرَ الْجُلُوسَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ
لِمَكَانِ الشُّهْرَةِ ، وَلَمْ يَكْرَهْ أَنْ أُحَدِّثَ فِيهِ إذَا مَنْ
أَرَادَ ذَلِكَ مِنِّي وَإِنْ كُنْت مُتَعَلِّمًا .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ : سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
صَدَقَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : الْأَحَادِيثُ فِيمَنْ
كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ لَا يَصِحُّ
مِنْهَا شَيْءٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابُ كَرَاهِيَةِ مَنْعِ
الْعِلْمِ ) ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ أَنَا عَلِيُّ
بْنُ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ
فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ
عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ لَهُ طُرُقٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ،
وَعَلِيٌّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو
دَاوُد وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا بَأْسَ بِهِ صَالِحُ
الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَاهُ صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى ، وَهُوَ ضَعِيفٌ
عِنْدَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ
اللَّاعِنُونَ } .
قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ إظْهَارَ عُلُومِ
الدِّينِ مَنْصُوصَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةً ، وَتَدُلُّ عَلَى
امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ
اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يَجِبُ فِعْلُهُ ، كَذَا قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَقَدْ يُسْتَحَقُّ الْأَجْرُ عَلَى مَا
يَجِبُ فِعْلُهُ كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ مَشْهُورٍ فِيهِ .
ثُمَّ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ قَالَ : إنَّكُمْ تَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ الْمُوعِدِ
وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْت أَحَدًا
بِشَيْءٍ أَبَدًا ثُمَّ تَلَا { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا } إلَى آخِرِهَا .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا
ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ } .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا هَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ ذَكَرَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي
بَعْضِ كَلَامِهِ وَقَالَ : إنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ ، وَمُرَادُ هَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ
عُذْرٌ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ فِي كِتْمَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ
سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عِلْمٌ لَا يُقَالُ بِهِ
كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ الْعِلْمِ الصَّمْتُ ثُمَّ
اسْتِمَاعُهُ ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ ثُمَّ نَشْرُهُ .
وَعَنْ الْمَسِيحِ
مَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَاكَ يُسَمَّى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ
السَّمَاءِ ، وَعَنْ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِّمْ مَجَّانًا
كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إيَّاكُمْ وَغُلُولَ
الْكُتُبِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إذَا كَتَمَ الْعَالَمُ عِلْمَهُ
اُبْتُلِيَ إمَّا بِمَوْتِ الْقَلْبِ ، أَوْ يُنَسَّى ، أَوْ يَتْبَعُ
السُّلْطَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ وَسَبَقَ هَذَا
الْمَعْنَى بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي فَصْلِ " جَاءَ رَجُلَانِ "
وَقَبْلَهُ بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي فَصْلٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ :
وَيُشْتَرَطُ فَهْمُ الْمُتَعَلِّمِ وَالسَّائِلِ وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ
بِذَلِكَ ، عَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ إمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا ،
وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ
حِفْظَهُ وَضَبْطَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ
التَّعْلِيمُ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ فَرَائِضِهِ
وَلَا يَتَمَكَّنُ إلَّا بِالْحِفْظِ .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت
أَحْمَدَ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : رُبَّمَا جَاءَنِي مَنْ
يَسْتَأْهِلُ فَلَا أُحَدِّثُهُ ، وَيَجِيءُ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ
أُحَدِّثَهُ فَأُحَدِّثُهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
شَيْءٍ بَعْدَ مَا ضُرِبَ قَالَ : هَذَا زَمَانُ حَدِيثٍ ؟ فَقَالَ لَهُ
السَّائِلُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : يَحِلُّ لَك أَنْ تَمْنَعَنِي
حَقِّي وَتَمْنَعَ هَذَا حَقَّهُ ؟ لِرَجُلٍ آخَرَ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ ،
فَقَالَ : وَمَا حَقّكُمْ قَالَ : مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ قَالَ : فَسَكَتَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ .
وَعَنْهُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ جَمَاعَةٌ
نَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ : قَدْ قُلْتُ الْيَوْمَ لَا أُجِيبُ
فِي مَسْأَلَةٍ وَلَكِنْ تَرْجِعُونَ فَأُجِيبَكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : أَتَيْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي
عَشْرِ الْأَضْحَى فَقَالَ قَالَ أَبُو عَوَانَةَ : كُنَّا نَأْتِي
الْجَرِيرِيَّ فِي الْعَشْرِ فَيَقُولُ : هَذِهِ أَيَّامُ شُغْلٍ
وَلِلنَّاسِ حَاجَاتٌ فَابْنُ آدَمَ إلَى الْمُلَالِ مَا هُوَ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
كَأَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَحُثَّهُ عَلَى الْحَدِيثِ قَالَ : لَيْسَ لَهُمْ
إكْرَامٌ لِلشُّيُوخِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى
بَابِنَا فَقَالَ لِي أَبِي اُخْرُجْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ : لَسْتُ
أُحَدِّثُكَ وَلَا أُحَدِّثُ قَوْمًا أَنْتَ فِيهِمْ ، فَقُلْتُ : مَا
شَأْنُهُ يَا أَبَتِ ؟ قَالَ : رَأَيْتُهُ يَمْجُنُ عَلَى بَابِ عَفَّانَ .
وَعَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الْكُتَّابِ لِيُحَدِّثَ قَالَ الرَّاوِي :
فَأَخْرَجْنَا الْكُتُبَ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ صَاحِبُ هَيْئَةٍ وَلِبَاسٍ
فَنَظَرَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فَأَطْبَقَ الْكِتَابَ وَغَضِبَ وَقَامَ ،
فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا أَذْهَبُ فَحَدِّثْ الْقَوْمَ ، فَقَالَ :
لَيْسَ أُحَدِّثُ الْيَوْمَ .
وَعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ : كُنْتُ أُحَدِّثُ النَّاسَ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ ، فَأَنَا أَمْنَعُهُمْ
الْيَوْمَ
رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ ، وَعَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : وَخَرَجَ إلَيْنَا فَرَأَى جَمَاعَتَنَا فَشَكَا
ذَلِكَ إلَيْنَا ، وَأَخْبَرَنَا بِمَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ
السُّلْطَانِ قَالَ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخَفَّ عَلَيَّ أَنْ آتِيَهُمْ
فِي مَنَازِلِهِمْ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ : أَيَسَعُك
أَلَّا تُحَدِّثَ ؟ قَالَ : لِمَ لَا يَسَعُنِي ؟ ، أَنَا قَدْ حَدَّثْتُ
وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ بْنُ فَارَةَ : يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ لِمَ قَطَعْتَ الْحَدِيثَ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ فَمَنْ فَعَلَ
هَذَا ؟ فَسَمَّى رَبَاحَ بْنَ زَيْدٍ وَحِبَّانَ أَبُو حَبِيبٍ يَعْنِي
ابْنَ هِلَالٍ حَدَّثَا ثُمَّ قَطَعَا .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَأَلُونِي يَعْنِي فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي
وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ فَلَمْ أُجِبْ قُلْتُ :
فَلِأَيِّ شَيْءٍ امْتَنَعْتَ أَنْ تُجِيبَ ؟ قَالَ خِفْتُ أَنْ تَكُونَ
ذَرِيعَةً إلَى غَيْرِهَا ؛ قَالَ : وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
وَسَأَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ :
قَدْ فَقَدْتُ بَعْضَ ذِهْنِي وَسَأَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
خَاقَانَ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ : قَدْ فَقَدْتُ بَعْضَ
ذِهْنِي .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي أَوَائِلِ صَيْدِ الْخَاطِرِ
: أَنَا لَا أَرَى تَرْكَ التَّحْدِيثِ بِعِلَّةِ قَوْلِ قَائِلِهِمْ :
إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَهْوَةً لِلتَّحْدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ
مِنْ وُجُودِ شَهْوَةِ الرِّيَاسَةِ فَإِنَّهَا جِبِلَّةٌ فِي الطِّبَاعِ .
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي مُجَاهَدَتُهَا .
وَلَا يُتْرَكُ حَقٌّ لِلْبَاطِلِ .
فَصْلٌ ( مُخَاطَبَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ
الْعَدْلِ فَقَالَ : لَا تَسْأَلْ عَنْ هَذَا فَإِنَّك لَا تُدْرِكُهُ
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : حَرَامٌ عَلَى عَالِمٍ قَوِيِّ
الْجَوْهَرِ أَدْرَكَ بِجَوْهَرِيَّتِهِ وَصَفَاءِ نَحِيزَتِهِ عِلْمًا
أَطَاقَهُ فَحَمَلَهُ أَنْ يُرَشِّحَ بِهِ إلَى ضَعِيفٍ لَا يَحْمِلُهُ
وَلَا يَحْتَمِلُهُ ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ
النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا
الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنُ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
كِتَابِ الْعَقْلِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ نُخَاطِبُ النَّاسَ عَلَى
قَدْرِ عُقُولِهِمْ } .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَاكَمَدَاهُ مِنْ
مَخَافَةِ الْأَغْيَار ، وَاحَصْرَاهُ مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي
الْجَهَالَةِ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ ، وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ
عِبَادِ اللَّهِ يُتَطَلَّبُونَ لِتَرَوُّحِهِمْ رُءُوسَ الْجِبَالِ ،
وَالْبَرَارِي وَالْقِفَارَ ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الْمُنْكَرِينَ
لِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ ، وَالسَّفِيرُ الْأَكْبَرُ يَهْرُبُ مِنْ
فَرْشِ الزَّوْجَاتِ إلَى خَلْوَةٍ بِمَسْجِدٍ لِلتَّرَوُّحِ بِتِلْكَ
الْمُنَاجَاةِ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ تَكْدِيرَ
عِيشَةٍ .
وَقَالَ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا
إلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ عَيْشٌ ، وَإِنَّمَا دِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى
شَعَثِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْآخِرَةِ .
فَمَنْ طَلَبَ بِهِ الْعَاجِلَةَ أَخْطَأَهُ .
وَرَوَى
الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ
بْنِ زِيَادٍ الْعَتَكِيِّ ثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ سَالِمِ ثَنَا أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الزَّرَّادُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْنَا مَعْشَرَ
الْأَنْبِيَاءِ
أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } ثُمَّ قَالَ
الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الزَّرَّادُ : لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
وَلَا الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الْكُنَى .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْلِيَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَامّ .
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَدِّثُوا النَّاسَ
بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ
يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا أَنْتَ
بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ
فِتْنَةً لِبَعْضٍ ، رَوَاهُ مُسْلِمٍ فِي الْمُقَدِّمَة وَعَزَاهُ
بَعْضُهُمْ إلَى الْبُخَارِيِّ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ
الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ مَرْفُوعًا { إذَا حَدَّثْتُمْ النَّاسَ
عَنْ رَبِّهِمْ فَلَا تُحَدِّثُوهُمْ مَا يَعْزُبُ عَنْهُمْ وَيَشُقُّ
عَلَيْهِمْ } وَسَبَقَ بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ الْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ
وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِهَذَا .
وَرَوَى
الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ
النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ : سُئِلَ الْخَلِيلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ
فَأَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فِيهَا قَالَ : فَقُلْتُ مَا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَرِ قَالَ : فَرَغْتُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ
وَجَوَابِهَا وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجِيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ
إلَى فَهْمِكَ قَالَ أَبُو قُدَامَةَ : فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ
فَسُرَّ بِهِ .
وَفِي تَارِيخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ
السَّرَخْسِيِّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
حَامِدٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْتُ الرَّبِيعَ سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَانَ
يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ مَا فَهِمْنَا عَنْهُ لَكِنَّهُ كَانَ
يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عُقُولِنَا فَنَفْهَمُهُ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ
عَنْ { قَزَعَةَ قَالَ : أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَهُوَ
مَكْثُورٌ عِنْدَهُ ، أَيْ : عِنْدَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ ، فَلَمَّا
تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قُلْتُ : أَسْأَلُكَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا لَكَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ .
فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ } .
وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : مَعْنَاهُ أَنَّك لَا تَسْتَطِيعُ
الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَكَلَّفْتَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْكَ
وَلَمْ تُحَصِّلْهُ ، فَتَكُونُ قَدْ عَلِمْتَ السُّنَّةَ وَتَرَكْتَهَا .
وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي رَمْي الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ وَسُؤَالِ النَّاسِ لَهُ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخْبَرْتُ
الشَّافِعِيَّ يَوْمًا بِحَدِيثٍ وَأَنَا غُلَامٌ فَقَالَ مَنْ حَدَّثَكَ
؟ فَقُلْتُ : أَنْتَ قَالَ : مَا حَدَّثْتُكَ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ كَمَا
حَدَّثْتُكَ ، وَإِيَّاكَ وَالرِّوَايَةَ عَنْ الْأَحْيَاءِ .
فَصْلٌ ( فِي وَضْع الْعَالِمِ الْمِحْبَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَوَازِ اسْتِمْدَادِ الرَّجُلِ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ ) .
وَضَعَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِحْبَرَةً
فَقِيلَ لَهُ : أَسْتَمِدُّ مِنْهَا فَتَبَسَّمَ وَقَالَ : قَدْ رُوِيَ
عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ
فَقَالُوا : نَسْتَمِدُّ مِنْهَا فَقَالَ : إنَّهَا عَارِيَّةٌ .
نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ .
وَقَالَ
حَرْبٌ قُلْتُ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يَسْتَمِدُّ الرَّجُلُ مِنْ
مِحْبَرَةِ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : لَا يَسْتَمِدُّ إلَّا بِإِذْنِهِ قَالَ
الْخَلَّالُ ( كَرَاهِيَةُ أَنْ يَسْتَمِدَّ الرَّجُلُ مِنْ مِحْبَرَةِ
الرَّجُلِ إلَّا بِإِذْنِهِ ) وَذَكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِمِرْبَعٍ : كُنْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِحْبَرَةٌ فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
حَدِيثًا فَاسْتَأْذَنْتُهُ بِأَنْ أَكْتُبَ مِنْ مِحْبَرَتِهِ ، فَقَالَ
: اُكْتُبْ يَا هَذَا فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ طَارِقٍ الْبَغْدَادِيُّ : كُنْتُ جَالِسًا إلَى جَانِبِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ مِنْ
مِحْبَرَتِك ؟ فَنَظَرَ إلَيَّ وَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَرَعَك
هَذَا .
وَعَنْ وَكِيعٍ وَجَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : إنِّي
أَمُتُّ إلَيْكَ بِحُرْمَةٍ قَالَ : وَمَا حُرْمَتُكَ قَالَ : كُنْتَ
تَكْتُبُ مِنْ مِحْبَرَتِي فِي مَجْلِسِ الْأَعْمَشِ ، فَوَثَبَ فَدَخَلَ
مَنْزِلَهُ فَأَخْرَجَ صُرَّةً فِيهَا دَنَانِيرُ وَقَالَ لَهُ :
اُعْذُرْنِي فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْأَحْوَلُ جِئْتُ يَوْمًا وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ يُمْلِي فَجَلَسْتُ أَكْتُبُ فَاسْتَمْدَيْتُ مِنْ مِحْبَرَةِ
إنْسَانٍ فَنَظَرَ إلَيَّ أَحْمَدُ فَقَالَ : يَا يَحْيَى اسْتَأْذَنْتَهُ
؟ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : لَزِمْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
سِنِينَ فَكَانَ إذَا خَرَجَ لِيُحَدِّثَنَا يُخْرِجُ مَعَهُ مِحْبَرَةً
مُجَلَّدَةً بِجِلْدٍ أَحْمَرَ وَقَلَمًا .
فَإِذَا مَرَّ بِهِ سَقْطٌ أَوْ خَطَأٌ فِي كِتَابِهِ أَسْقَطَهُ بِقَلَمِهِ مِنْ مِحْبَرَتِهِ
يَتَوَرَّعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مِحْبَرَةِ أَحَدِنَا شَيْئًا .
وَحَكَى
ابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْفُصُول عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ
قَالَ : رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَنْعُ الْكَتْبِ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَهُ هَذَا مِنْ الْوَرَعِ الْمُظْلِمِ .
فَحَمَلْنَا الْأَوَّلَ عَلَى كَتْبٍ يَطُولُ .
وَالثَّانِي عَلَى غَمْسِهِ قَلَمًا لِكَتْبِ كَلِمَةٍ .
أَوْ فِي حَقِّ مَنْ يَنْبَسِطُ إلَيْهِ وَيَأْذَنُ لَهُ حُكْمًا وَعُرْفًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْأَوْلَى
أَنْ يُقَالَ : يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى كَتْبٍ يَطُولُ ، وَالثَّانِي
عَلَى كَتْبٍ قَلِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ بِهِ عَادَةً وَعُرْفًا .
أَوْ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ قَلْبُهُ وَلَا يَأْذَنُ فِيهِ .
وَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى مَنْ يَطِيبُ بِهِ وَيَأْذَنُ فِيهِ .
فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ وَالْكُتُبِ وَالْكُتَّابِ وَأَدَوَاتِهِمْ الْكِتَابِيَّةِ .
قَالَ
الْخَلَّالُ : التَّوَقِّي أَنْ لَا يُتَرَّبَ الْكِتَابُ إلَّا مِنْ
الْمُبَاحَاتِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ كَانَ يَجِيءُ مَعَهُ بِشَيْءٍ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ
الْمَسْجِدِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ
مُقَاتِلٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : رَأَيْتُهُمْ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
فِي دُورِ السَّبِيلِ ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوهُ أَرْسَلُوا
إلَى الْبَحْرِ فَأَخَذُوا الطِّينَ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ فَاتِحَةِ الْعِلْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَحْرُمُ .
وَعَنْ
جَابِرٍ مَرْفُوعًا { تَرِّبُوا صُحُفَكُمْ أَنْجَحُ لَهَا فَإِنَّ
التُّرَابَ مُبَارَكٌ } وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا { ضَعْ
الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي } رَوَاهُمَا
التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُمَا ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَوَّلَ .
قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { تَرِّبُوا الْكُتُبَ وَسَحُّوهَا مِنْ
أَسْفَلِهَا فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ } وَذَكَرَ أَيْضًا الْخَبَرَ
الْمَشْهُورَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } .
وَرُوِيَ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ
أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ ،
وَيَكْثُرَ التُّجَّارُ ، وَيَظْهَرَ الْقَلَمُ } يَعْنِي الْكِتَابَةَ ،
كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ {
يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَيَفِيضُ الْمَالُ } حَسْبُ .
قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ : لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ :
تَاجِرُ بَنِي فُلَانٍ وَكَاتِبُ بَنِي فُلَانٍ ، مَا يَكُونُ فِي
الْحَيِّ إلَّا التَّاجِرُ الْوَاحِدُ وَالْكَاتِبُ الْوَاحِدُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا : لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الْحَيَّ الْعَظِيمَ فَمَا يَجِدُ بِهِ كَاتِبًا .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا { فُشُوُّ الْقَلَمِ وَفُشُوُّ التِّجَارَةِ
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ " فُشُوُّ الْقَلَمِ " ظُهُورَ الْكِتَابَةِ وَكَثْرَةَ الْكُتَّابِ .
وَعَنْ
بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
قَالَ : كَاتِبٌ حَاسِبٌ .
وَقَدْ كَتَبَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ
وَحَنْظَلَةُ الْأَسَدِيُّ وَمُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْأَرْقَمِ ، وَكَانَ كَاتِبَهُ الْمُوَاظِبَ عَلَى الرَّسَائِلِ
وَالْأَجْوِبَةِ ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الْوَحْيَ كُلَّهُ وَأَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَلَّمَ
كِتَابَ السُّرْيَانِيَّةِ لِيُجِيبَ عَنْهُ مَنْ كَتَبَ إلَيْهِ بِهَا ،
فَتَعَلَّمَهَا فِي ثَمَانِيَةِ عَشَرَ يَوْمًا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي رَافِعٍ : إذَا كَتَبْتَ فَأَلْقِ دَوَاتَكَ .
وَأَطِلْ سِنَّ قَلَمِكَ ، وَفَرِّجْ السُّطُورَ ، وَقَارِبْ بَيْنَ الْحُرُوفِ .
وَقَالَتْ الْعَرَبُ : الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ ، وَقَالُوا : الْخَطُّ الْحَسَنُ يَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا .
وَقَالَ
الْمَأْمُونُ : الْخَطُّ لِسَانُ السَّيِّدِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَجْزَاءِ
الْيَدِ ، وَأَمَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِسَجْنِ طَائِفَةٍ مِنْ
الْكُتَّابِ عَتَبَ عَلَيْهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ طَرِيقِ
السَّجْنِ : أَطَالَ اللَّهُ عُمُرَكَ فِي صَلَاحٍ وَعِزٍّ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَا بِعَفْوِك نَسْتَجِيرُ فَإِنْ تُجِرْنَا فَإِنَّك
رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَا وَنَحْنُ الْكَاتِبُونَ وَقَدْ أَسَأْنَا
فَهَبْنَا لِلْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا قَالَ : فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَمَرَ
بِتَخْلِيَتِهِمْ .
وَاسْمُ الْكَاتِبِ بِالْفَارِسِيَّةِ دِيوَانٌ
أَيْ شَيَاطِينُ لِحِذْقِهِمْ بِالْأُمُورِ وَلُطْفِهِمْ ، فَسُمِّيَ
الدِّيوَانُ بِاسْمِهِمْ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ تُوُفِّيَ
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ قَالَ : مَعْنَى
الدِّيوَانِ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا فِيهِ
كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا سَأَلْتُمُونِي عَنْ شَيْءٍ مِنْ
غَرِيبِ الْقُرْآنِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشَّعْرِ ، فَإِنَّ الشِّعْرَ
دِيوَانُ الْعَرَبِ ، أَيْ : أَصْلُهُ وَيُقَال : دَوَّنَ هَذَا أَيْ :
أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا .
وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ
أَنَّ أَصْلَهُ عَجَمِيٌّ وَبَعْضُهُمْ يَقُول : عَرَبِيٌّ وَقَدْ
ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَتَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ
دِوَانٌ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ فِي الْجَمْعِ
دَوَاوِينُ .
وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَبْدَلُوا مِنْ أَحَدِ الْوَاوَيْنِ يَاءً .
وَنَظِيرُهُ دِينَارٌ الْأَصْلُ فِيهِ دَنَارٌ وَكَذَا قِيرَاطٌ الْأَصْلُ فِيهِ قِرَاطٌ .
فَأَمَّا
الْفَرَّاءُ فَيَزْعُمُ أَنَّك إذَا سَمَّيْتَ رَجُلًا بِدِيوَانٍ ،
وَأَنْتَ تُرِيدُ كَلَامَ الْأَعَاجِمِ لَمْ تَصْرِفْهُ ، وَهَذَا عِنْدِي
غَلَطٌ لِأَنَّك إذَا سَمَّيْتَ رَجُلًا دِيوَانًا عَلَى أَنَّهُ
أَعْجَمِيٌّ لَمْ يَجُزْ إلَّا صَرْفُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ
لَا يَدْخُلَانِ فِيهِ فَقَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ طَاوُسٍ وَرَاقُودٍ
وَمَا أَشْبَهَهُمَا ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَرَبِيًّا صَرَفْتَهُ أَيْضًا
لِأَنَّهُ فِعَالٌ ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ دَوَاوِينَ ،
وَدِيوَانَ بِالْفَتْحِ غَلَطٌ ، وَلَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ لَمْ يَجُزْ
قَلْبُ الْوَاوِ يَاءً ، فَإِنْ قِيلَ : الْيَاءُ أَصْلٌ قِيلَ هَذَا
خَطَأٌ ، وَلَوْ كَانَ كَذَا لَقِيلَ فِي الْجَمْعِ دَيَاوِينُ ،
فَدِيوَانٌ لَا يُقَالُ كَمَا لَا يُقَالُ دِينَارٌ وَلَا قِيرَاطٌ ،
وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ أَصْلَهُ أَعْجَمِيٌّ .
وَرَوَى أَنَّ
كِسْرَى أَمَرَ الْكُتَّابَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي دَارٍ فَيَعْلَمُوا
حِسَابَ السَّوَادِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَاجْتَمَعُوا فِي الدَّارِ
وَاجْتَهَدُوا فَأَشْرَفَ
عَلَيْهِمْ ، وَبَعْضُهُمْ يَعْقِدُ وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فَقَالَ : " إيشان ديواشد " أَيْ : هَؤُلَاءِ مَجَانِين ، فَلَزِمَ مَوْضِعَ الْكِتَابَةِ هَذَا الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّهْرِ ثُمَّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالَتْ : دِيوَانٌ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ .
قَالَ وَالدَّفْتَرُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ لَا
نَعْلَمُ لَهُ اشْتِقَاقًا ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ
كُلَّ اسْمٍ عَرَبِيٍّ ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا غَابَ
عَنْ الْعَالِمِ شَيْءٌ وَعَرَفَهُ غَيْرُهُ ، يُقَالُ لَهُ : دَفْتَرٌ
وَدَفْتَرٌ وَتَفْتُرُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ :
الدَّفْتَرُ وَاحِدُ الدَّفَاتِرِ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ : وَالْكُرَّاسَةُ مَعْنَاهَا الْكُتُبُ الْمَضْمُومَةُ
بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ، وَالْوَرَقُ الَّذِي أُلْصِقَ بَعْضُهُ إلَى
بَعْضٍ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ : رَسْمٌ مُكَرَّسٌ إذَا أَلْصَقَتْ
الرِّيحُ التُّرَابَ بِهِ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ : الْكُرَّاسَةُ
مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُرَّاسِ الْغَنَمِ وَهُوَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَوْضِعِ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَتَلَبَّدَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : أَصْلُ الْكُرَّاسِ وَالْكَرَارِيسُ الْعِلْمُ ،
وَمِنْهُ قِيلَ لِصَحِيفَةٍ يَكُونُ فِيهَا عِلْمٌ مَكْتُوبٌ : كُرَّاسَةٌ
.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالْكُرَّاسَةُ وَاحِدَةُ الْكُرَّاسِ
وَالصَّحِيفَةُ الْكِتَابُ وَالْجَمْعُ صُحُفٍ وَصَحَائِفُ قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَقِيلَ : مُصْحَفٌ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْوَرِقِ الَّذِي
يُصَحَّفُ فِيهِ مِنْ أَصْحَفَ كَمُكْرَمٍ ، وَمَنْ قَالَ مَصْحِفٌ
بِفَتْحِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ صَحِفْتُ مُصْحَفًا مِثْل جَلَسْتُ
مَجْلِسًا ، وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ شَبَّهَهُ بِمِنْقَلٍ .
وَأَمَّا السِّفْرُ فَمُشْتَقٌّ مِنْ أَسْفَرَ الشَّيْءُ إذَا تَبَيَّنَ فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَيَانُ ، وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا تَبَيَّنَ ، وَأَسْفَرَ وَجْهُ الْمَرْأَةِ إذَا أَضَاءَ .
وَسُمِّيَ الْقَلَمُ
قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَمُ أَيْ يُقْطَعُ مِنْهُ ، وَمِنْهُ قَلَّمْت
أَظْفَارِي ، وَقِيلَ : قَطْعُهُ لَيْسَ بِقَلَمٍ وَلَكِنَّهُ أُنْبُوبٌ ،
وَقِيلَ الْقَلَمُ مُشْتَقٌّ مِنْ القلام وَهُوَ نَبْتٌ ضَعِيفٌ وَاهِي
الْأَصْل ، فَقِيلَ قَلَمٌ لِأَنَّهُ خُفِّفَ وَأُضْعِفَ بِمَا أُخِذَ
مِنْهُ ، وَرَجُلٌ مُقَلَّمُ الْأَظْفَارِ مِنْ هَذَا ، أَيْ ضَعِيفٌ فِي
الْحَرْبِ نَاقِصٌ ، وَيُقَالُ رَعَفَ الْقَلَمُ إذَا قَطَرَ ، وَرَاعَفَ
الرَّجُلُ الْقَلَمَ إذَا أَخَذَ فِيهِ مِدَادًا كَثِيرًا حَتَّى يَقْطُرَ
وَيُقَالُ اسْتَمِدَّ وَلَا تَرْعُفْ .
أَيْ لَا تُكْثِرْ الْمِدَادَ
حَتَّى يَقْطُرَ ، وَيُقَال ذَنَبْتُ الْقَلَمَ فَهُوَ مِذْنَبٌ ،
فَأَمَّا الرُّطَبُ فَيُقَالُ فِيهِ مِذْنَبٌ مِنْ ذَنَب هُوَ وَيُقَالُ
حَفِيَ الْقَلَمُ يَحْفَى حَفْوَةً وَحُفْوَةً وَحِفْيَةً وَحَفَاوَة
وَحِفًا مَقْصُورٌ ، فَأَمَّا الْحَفَاءُ مَمْدُودٌ فَمَشْيُ الرَّجُلِ
بِلَا نَعْلٍ .
وَيُقَالُ لِلْقِطْعَةِ الَّتِي تُقْطَعُ مِنْ
الْأُنْبُوبَةِ شَظِيَّةٌ مُشْتَقٌّ مِنْ شَظِيَ الْقَوْمُ تَفَرَّقُوا ،
وَيُقَالُ : قَلَمٌ ذَنُوبٌ إذَا كَانَ طَوِيلَ الذَّنَبِ ، كَمَا يُقَالُ
: فَرَسٌ ذَنُوبٌ ، وَلِلْقَلَمِ سِنَّانِ فَإِذَا كَانَ الْأَيْمَنُ
أَرْفَعَ قِيلَ مُحَرَّفٌ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا قِيلَ قَلَمٌ مُسْتَوِي
السِّنَّيْنِ ، وَأَشْحَمْتُ الْقَلَمَ تَرَكْتُ شَحْمَهُ فَلَمْ آخُذْهُ
، فَإِنْ أَخَذْتُ شَحْمَهُ قُلْت بَطَّنْتُهُ تَبْطِينًا ، وَيُقَالُ :
بَرَيْت الْقَلَمَ بَرْيًا وَمَا سَقَطَ بُرَايَةٌ وَقَدْ يُقَالُ
لِلْقَلَمِ نَفْسِهِ بُرَايَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ فُعَالَةً
لِكُلِّ مَا نَقَصَ مِنْهُ فَيَقُولُونَ قُطَاعَةً وَقُوَارَةً ذَكَرَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ قَوَّرَهُ وَاقْتَوَرَهُ
وَاقْتَارَهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ مُدَوَّرًا ، وَمِنْهُ قُوَارَةُ
الْقَمِيصِ وَالْبِطِّيخِ وَقَالَ : وَالْقُطَاعَةُ بِالضَّمِّ مَا سَقَطَ
عَنْ الْقَطْعِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يُقَالُ : قَطِطْتُ الْقَلَمَ
أَيْ : قَطَعْت مِنْهُ وَالْقَلَمُ مَقْطُوطٌ ، وَقُطَيْطٌ ، وَالْمِقَطُّ
الَّذِي يُقَطُّ الْقَلَمُ عَلَيْهِ ، وَالْمَقَطُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ
الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَطُّ مِنْ رَأْسِ الْقَلَمِ ، وَهُوَ
مُشْتَقٌّ مِنْ قَطِطْتُ أَيْ قَطَعْت ، وَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَيْ : انْقَطَعَتْ الرُّؤْيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَالْقَطُّ الْكِتَابُ بِالْجَائِزَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَمِنْهُ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَثَائِقَ ، وَقَطُّ بِمَعْنَى حَسْبُ .
وَالدَّوَاةُ جَمْعُهَا دَوِيَّاتُ فِي
الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَفِي الْكَثِيرِ
دُوِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا وَدِوِيٌّ وَدِوَايًا ،
وَيُقَالُ : أَدْوَيْتُ دَوَاةً إذَا اتَّخَذْتَهَا ، وَقَدْ دَوِيَ
الدَّوَاةَ أَيْ عَمِلَهَا ، فَهُوَ مُدْوٍ مِثْلَ مُقْنٍ لِلَّذِي
يَعْمَلُ الْقَنَا ، وَيُقَالُ لِمَنْ يَبِيعُهَا دَوَاءٍ مِثْلَ تَبَّانٍ
لِلَّذِي يَبِيعُ التِّبْنَ ، وَاَلَّذِي يَحْمِلُهَا وَيُمْسِكُهَا دَاوٍ
وَمِثْلُهُ رَامِحٌ لِلَّذِي يَحْمِلُ الرُّمْحَ ، وَاشْتِقَاقُ
الْمِدَادِ مِنْ الْمَدَدِ لِلْكَاتِبِ ، وَهِيَ جَمْعُ مِدَادَةٍ
يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ .
قَالَ الْفَرَّاءُ وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ
زِيَادٍ الْكُوفِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ : إنْ جَعَلْت
الْمِدَادَ مَصْدَرًا لَمْ تُثَنِّهِ وَلَمْ تَجْمَعْهُ ، وَيُقَالُ
أُمِدَّتْ الدَّوَاةُ إذَا جَعَلْتَ فِيهَا الْمِدَادَ ، فَإِنْ زِدْت
عَلَى مِدَادِهَا قُلْت : مَدَدْتُهَا .
وَاسْتَمْدَدْتُ مِنْهَا أَيْ
: أَخَذْت فَإِنْ أَخَذْت مِدَادَهَا كُلَّهُ قُلْت : قَعُرَتْ الدَّوَاةُ
أَقْعَرَهَا قَعْرًا ، وَاشْتِقَاقُهُ أَنَّك بَلَغْت إلَى قَعْرِهَا ،
وَقَدْ سُمِعَ أَقْعَرْت الْإِنَاءَ إقْعَارًا إذَا جَعَلْت لَهُ قَعْرًا .
وَإِذَا
أُلْصِقَ الْقُطْنُ يَعْنِي أَوْ غَيْرُهُ بِالدَّوَاةِ ، فَهُوَ لَيْقَةٌ
، مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَا يَلِيقُ فُلَانٌ بِقَلْبِي أَيْ مَا
يَلْصَقُ بِهِ ، وَيُقَالُ : أَلَقْتُ الدَّوَاةَ إلَاقَةً ، وَلِقْتُهَا
لَيْقًا وَلُيُوقًا وَلَيَقَانًا إذَا أَلْصَقْت مِدَادَهَا ، وَقَدْ
أَنْعَمْت لِيقَةَ الدَّوَاةِ إنْعَامًا أَيْ : زِدْت فِي لَيْقِهَا
وَأَنْعَمَ الشَّيْءُ إذَا زَادَ ، وَمِنْهُ الْحَدِيث { وَإِنَّ أَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا } أَيْ : زَادَ عَلَى ذَلِكَ .
وَمِنْهُ
سَحَقْت الْمِدَادَ سَحْقًا نَعَمًا قِيلَ لِلْفَرَّاءِ لِمَ سُمِّيَ
الْمِدَادُ حِبْرًا قَالَ : يُقَالُ لِلْعَالِمِ : حَبْرٌ وَحِبْرٌ
وَإِنَّمَا أَرَادُوا مِدَادَ حَبْرٍ فَحَذَفُوا مِدَادًا ثُمَّ جَعَلُوا
مَكَانه حِبْرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ لِتَأْثِيرِهِ عَلَى
أَسْنَانِهِ حَبْرَةٌ
يُقَالُ إذَا كَثُرَتْ فِيهَا الصُّفْرَةُ حَتَّى تَضْرِبَ إلَى السَّوَادِ قَالَ مُحَمَّدُ بْن يَزِيدَ : وَأَنَا أَحْسَبُ أَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ حِبْرًا لِأَنَّهُ تُحْبَرُ بِهِ الْكُتُبُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ : مِنْ حُسْنِ
تَقْدِيرِ الْكَاتِبِ أَلَّا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ
إلَيْهِ فِي سَطْرٍ ، وَكَذَا أَعَزَّهُ اللَّهُ ، وَكَذَا أَحَدَ عَشَرَ
لِأَنَّهُ كَاسْمٍ وَاحِدٍ ، وَيُسْتَحْسَنُ الْمَشْقُ فِي الشِّينِ
وَالسِّينِ إلَّا فِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ نَحْوَ النَّاسِ ، وَأَصْلُ
الْمَشْقِ فِي اللُّغَةِ الْخِفَّةُ ، يُقَالُ : مَشَقَ بِالرُّمْحِ
وَمَشَقَ الرَّجُلُ الرَّغِيفَ إذَا أَكَلَهُ أَكْلًا خَفِيفًا ،
فَمَعْنَى مَشَقَ الْكَاتِبُ إذَا خَفَّفَ يَدَهُ ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ
مُحْدَثٌ ، وَأَمَّا رُؤَسَاءُ الْكُتَّابِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانُوا
يَكْرَهُونَ الْمَشْقَ كُلَّهُ وَإِرْسَالَ الْيَدِ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ
: هُوَ لِلْمُبْتَدِي مَفْسَدَةٌ لِخَطِّهِ وَدَلِيلٌ عَلَى تَهَاوُنِهِ
بِمَا يَكْتُبُهُ .
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللَّهِ بِغَيْرِ سِينٍ .
وَيَسْتَحْسِنُونَ إذَا تَوَالَتْ السِّينُ وَالشِّينُ فِي كَلِمَةٍ أَنْ يُقَدِّرَ الْكَاتِبُ فَصْلًا بِمَدَّةٍ .
وَيَسْتَحْسِنُونَ
فِي كِتَابَةِ نَحْوِ بَيْنَ أَنْ يَرْفَعَ الْوُسْطَى مِنْ الثَّلَاثِ
فَرْقًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ السِّينِ وَالشِّينِ ، وَيَسْتَحِبُّونَ
أَنْ تَكُونَ الْكَافُ غَيْرَ مَشْقُوقَةٍ إذَا كَانَتْ طَرَفًا عِنْدهمْ
، وَيُحِبُّونَ تَعْلِيمَهَا إذَا كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً وَلَا تُعَلَّم
إذَا كَانَتْ طَرَفًا ، وَيَسْتَحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ
سَهْلَةً سَمْحَةً غَيْرَ بَشِعَةٍ .
وَمِمَّا يَسْتَحْسِنُونَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْدِيٍّ تَوْقِيعُهُ إلَى كَاتِبِهِ : إيَّاكَ
وَالتَّتَبُّعَ لِحُوشِيِّ الْكَلَامِ طَمَعًا فِي نَيْلِ الْبَلَاغَةِ
فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِيُّ الْأَكْبَرُ ، وَعَلَيْك بِمَا يَسْهُلُ مَعَ
تَجَنُّبِك لِلْأَلْفَاظِ السُّفْلَى .
وَكَذَا مَا رُوِيَ مِنْ صِفَةِ
يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الْكَاتِبِ فَإِنَّهُ قَالَ : أَخَذَ بِذِمَامِ
الْكَلَامِ فَقَادَهُ أَسْهَلَ مُقَادٍ ، وَسَاقَهُ أَحْسَنَ مَسَاقٍ ،
فَاسْتَرْجَعَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ ، وَاسْتَصْرَفَ بِهِ
الْأَبْصَارَ الطَّامِحَةَ .
قَالَ الْجَاحِظُ : لَمْ أَرَ قَوْمًا
أَمْثَلَ طَبَقَةً فِي الْبَلَاغَةِ مِنْ الْكُتَّابِ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ الْتَمِسُوا مَا لَمْ يَكُنْ
مُتَوَعِّرًا مِنْ الْأَلْفَاظِ حُوشِيًّا ، وَلَا سَاقِطًا عَامِّيًّا .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ صَاحِبُ كِتَابِ الدِّيبَاجِ : يَجِبُ
لِلْكَاتِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِكَلَامِهِ عَنْ الْغَرِيبِ الْحُوشِيِّ ،
وَالْعَامِّيِّ السُّوقِيِّ ، وَالرَّذْلِ السَّلِيقِيِّ ، وَيُجَانِبَ
التَّقْعِيرَ ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْمِلَ نَفْسَهُ فِي تَنْزِيلِ
الْأَلْفَاظِ ، وَسُئِلَ أَعْرَابِيٌّ مَنْ أَبْلَغُ النَّاسِ ؟ قَالَ :
أَسْهَلُهُمْ لَفْظًا وَأَحْسَنُهُمْ بَدِيهَةً ، وَقَدْ سَبَقَ فِي
فُصُولِ رَدِّ السَّلَامِ رَدُّ جَوَابِ الْكُتَّابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِذَلِكَ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاجِ عَنْ عَمْرو بْنِ
عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي مُسْلِمَةَ سُلَيْمَانَ
بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ عَنْ صَالِح بْنِ يَحْيَى بْنِ
الْمِقْدَامِ عَنْ جَدِّهِ وَفِي نُسْخَةِ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ : { أَفْلَحْتَ يَا قَدِيمُ إنْ مِتَّ وَلَمْ تَكُنْ
أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا عَرِيفًا } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
حَرْبٍ الْأَبْرَشِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ صَالِحٍ عَنْ جَدِّهِ صَالِحٍ
قَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي
الثِّقَاتِ يُخْطِئ .
فَصْلٌ ( فِي نَظَرِ الرَّجُلِ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ رِضَاهُ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ كَرَاهِيَةُ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الرَّجُلِ إلَّا
بِإِذْنِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَسْكَرٍ : كُنْت عِنْد أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ ، وَعِنْدَهُ الْهَيْثَمُ بْن خَارِجَةُ فَذَهَبْت أَنْظُرُ فِي
كِتَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَكَرِهَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَنْ أَنْظُرَ
فِي كِتَابِهِ ، وَاطَّلَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فِي
كِتَابِ أَبِي عَوَانَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ
مَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ
رَهَنَ مُصْحَفًا هَلْ يَقْرَأُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ
مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ رُهِنَ لَا يَقْرَأُ إلَّا بِإِذْنِهِ .
وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ رُهِنَ عِنْدَهُ
الْمُصْحَفُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ
قَرَأَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : أَمَّا
مَنْعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ مَعَ قَوْلِنَا :
إنَّهُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ إذَا طَلَبَهُ الْغَيْرُ لِلْقِرَاءَةِ ،
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ مُصْحَفًا غَيْرَهُ .
وَإِنَّمَا
يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ عِنْدَ
مَسْأَلَةِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ : وَلَا يَقْرَأُ أَحَدٌ فِي الْمُصْحَفِ
بِلَا إذْنِ رَبِّهِ ، وَقِيلَ : بَلَى إنْ لَمْ يَضُرَّ مَالِيَّتَهُ ،
وَإِنْ طَلَبَهُ أَحَدٌ لِيَقْرَأَ فِيهِ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ وَقِيلَ
يَجِبُ ، وَقِيلَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَذَكَرَ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّظَرَ فِي كِتَابِ
الْغَيْرِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ لَا يَحْرُمُ ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ
أَخِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَأَنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ } قَالَ
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابِ
الَّذِي فِيهِ سِرٌّ وَأَمَانَةٌ يَكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يُطَّلَعَ
عَلَيْهِ ، قَالَ : وَقِيلَ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ
كِتَابٍ .
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ : بَابُ مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرَهُ وَذَكَرَ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ
أَبِي بَلْتَعَةَ وَقِصَّتَهُ .
وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ مَعَ الْعِلْمِ ،
وَمَعَ الظَّنِّ فِيهِ نَظَرٌ وَيَحْرُمُ مَعَ الشَّكِّ ، وَالْقِصَّةُ
قَضِيَّةُ عَيْنٍ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ هَتْكُ سَتْرِ
الْمُفْسِدِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ كَانَ فِي السَّتْرِ
مَفْسَدَةٌ ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ السَّتْرُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَفْسَدَةٌ وَلَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ .
فَصْلٌ فِي بَذْلِ
الْعِلْمِ وَمِنْهُ إعَارَةُ الْكُتُبِ قَالَ الْخَلَّالُ كَرَاهِيَةُ
حَبْسِ الْكِتَابِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ :
رَجُلٌ سَقَطَتْ مِنْهُ وَرَقَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ فَوَائِدُ
فَأَخَذْتهَا ، تُرَى أَنْ أَنْسَخَهَا وَأَسْمَعَهَا ؟ قَالَ : لَا إلَّا
بِإِذْنِ صَاحِبِهَا .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ لِي الزُّهْرِيُّ : إيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ قَالَ حَبْسُهَا عَنْ أَهْلِهَا .
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ .
وَقَالَ
الطَّحَاوِيَّ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ طَلَبَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ كِتَابَ السِّيَرِ فَلَمْ يُجِبْهُ إلَى الْإِعَارَةِ فَكَتَبَ
إلَيْهِ : قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْنُ مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ حَتَّى
كَأَنَّ مَنْ رَآهُ قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهُ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ
أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهُ لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ لِأَهْلِهِ لَعَلَّهُ
فَوَجَّهَ إلَيْهِ بِهِ فِي الْحَالِ هَدِيَّةً لَا عَارِيَّة ، وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : يَنْبَغِي لِمَنْ مَلَكَ كِتَابًا أَنْ لَا يَبْخَلَ
بِإِعَارَتِهِ لِمَنْ هُوَ أَهْلُهُ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إفَادَةُ
الطَّالِبِينَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَشْيَاخِ وَتَفْهِيمِ الْمُشْكِلِ
، فَإِنَّ الطَّلَبَةَ قَلِيلٌ وَقَدْ عَمَّهُمْ الْفَقْرُ فَإِذَا بُخِلَ
عَلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِفَادَةِ كَانَ سَبَبًا لِمَنْعِ الْعِلْمِ
.
قَالَ سُفْيَانُ : تَعَجَّلُوا بَرَكَةَ الْعِلْمِ ، لِيُفِدْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، فَإِنَّكُمْ لَعَلَّكُمْ لَا تَبْلُغُونَ مَا
تُؤَمِّلُونَ وَقَالَ وَكِيعٌ : أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إعَارَةُ
الْكُتُبِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ
اُبْتُلِيَ بِثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ أَوْ
يَنْسَاهُ أَوْ يَتَّبِعَ السُّلْطَانَ .
فَصْلٌ ( فِي قِيَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ اللَّيْلَ وَخُشُوعِهِمْ ) .
بَاتَ
عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَجُلٌ فَوَضَعَ عِنْدَهُ مَاءً قَالَ
الرَّجُلُ : فَلَمْ أَقُمْ بِاللَّيْلِ وَلَمْ اسْتَعْمِلْ الْمَاءَ ،
فَلَمَّا أَصْبَحْت قَالَ لِي : لِمَ لَا تَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ ؟
فَاسْتَحْيَيْت وَسَكَتُّ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ
مَا سَمِعْت بِصَاحِبِ حَدِيثٍ لَا يَقُومُ بِاللَّيْلِ .
وَجَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَعَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا مُسَافِرٌ قَالَ : وَإِنْ كُنْتَ مُسَافِرًا .
حَجَّ مَسْرُوقٌ فَمَا نَامَ إلَّا سَاجِدًا .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فِيهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ
تَرْكُ قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ .
وَقَالَ
بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ : يَنْبَغِي لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنْ
يُنْزِلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ يَعْلَمُونَ مِنْ كُلِّ
مِائَتَيْنِ خَمْسَةً .
وَقَالَ سُفْيَانُ فِي الْإِنْجِيلِ : لَا تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ .
وَصَحَّ
عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْبَابَ مِنْ أَبْوَابِ
الْعِلْمِ فَيَعْلَمُهُ فَيَعْمَلُ بِهِ ، فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، لَوْ كَانَتْ لَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْآخِرَةِ .
وَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ بَدِيلٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ
نَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَمَا يُسْمَعُ إلَّا صَوْتُ قَلَمٍ أَوْ بَاكٍ .
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ كَانَ أَبِي ، سَاعَةَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ
يَنَامُ نَوْمَةً خَفِيفَةً ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الصَّبَاحِ يُصَلِّي
وَيَدْعُو .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ شِمَاسٍ : كُنْت أَعْرِفُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ غُلَامٌ وَهُوَ يُحْيِي اللَّيْلَ .
فَصْلٌ ( فِي الْأَدَبِ مَعَ الْمُحَدِّثِ وَمِنْهُ التَّجَاهُلُ وَالْإِقْبَالُ وَالِاسْتِمَاعُ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ
الْقَاسِمَ بْنَ سَلَامٍ يَقُولُ : إنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمَ أَنْ
يَجْلِسَ مَعَ رَجُلٍ فَيُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ ، فَيَذْكُرَ
لَهُ الْحَرْفَ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَذْكُرَ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي
سَمِعْت مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ ، فَيَقُولَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا
شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْت فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا .
فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْت الْعِلْمَ وَلَا تُوهِمُهُمْ أَنَّك قُلْت هَذَا مِنْ نَفْسِك .
.
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَإِذَا رَوَى الْمُحَدِّثُ حَدِيثًا قَدْ عَرَفَهُ
السَّامِعُ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَاخِلَهُ فِيهِ قَالَ عَطَاءُ بْن
أَبِي رَبَاحٍ : إنَّ الشَّابَّ لَيُحَدِّثُنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْتَمِعُ
لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ ، وَلَقَدْ سَمِعْته قَبْلَ أَنْ يُولَدَ ،
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ : إذَا
رَأَيْت مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ حَدِيثًا قَدْ سَمِعْته أَوْ يُخْبِرُ
بِخَبَرٍ قَدْ عَلِمْتُهُ ، فَلَا تُشَارِكْهُ فِيهِ حِرْصًا عَلَى أَنْ
يَعْلَمَ مَنْ حَضَرَك أَنَّك قَدْ عَلِمْته ، فَإِنَّ ذَلِكَ خِفَّةٌ
فِيك وَسُوءُ أَدَبٍ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي
الْأَدَبِ لَهُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ : إنِّي لَأَسْمَعُ مِنْ
الرَّجُلِ الْحَدِيثَ قَدْ سَمِعْته قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ أَبَوَاهُ
فَأُنْصِتُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ ، ثُمَّ رَوَى مَا تَقَدَّمَ
عَنْ عَطَاء ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ جَلِيسَ أَبِي أَحْمَدَ الْفَقِيهَ الْبَغْدَادِيَّ يَقُولُ :
يُرْوَى عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَتَرَاهُ يَعْجَبُ
مِنْ حَدِيثٍ وَلَعَلَّةُ أَدْرَى بِهِ ، وَرَوَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ
خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّةَ .
قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ : وَمَتَى أَشْكَلَ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّالِبِ
صَبَرَ حَتَّى يَنْتَهِي الْحَدِيثُ ، ثُمَّ يَسْتَفْهِمُ الشَّيْخَ
بِأَدَبٍ وَلُطْفٍ وَلَا يَقْطَعْ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ الْحَدِيثِ قَالَ :
وَفِي أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ مِنْ يُنْزِلُ جُزْءًا فِي جُزْءٍ
وَيُوهِمُ الشَّيْخَ أَنَّهُ جُزْءٌ وَاحِدٌ ، وَمِثْلُ هَذِهِ
الْأَفْعَالِ لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا .
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ قَالَ حَكِيمٌ لِابْنِهِ : تَعَلَّمْ حُسْنَ
الِاسْتِمَاعِ كَمَا تَعْلَمُ حُسْنَ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ حُسْنَ
الِاسْتِمَاعَ إمْهَالُكَ لِلْمُتَكَلِّمِ حَتَّى يُفْضِي إلَيْك
بِحَدِيثِهِ ، وَالْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ وَالنَّظَرُ ، وَتَرْكُ
الْمُشَارَكَةِ لَهُ فِي حَدِيثٍ أَنْتَ تَعْرِفُهُ وَأَنْشَدَ : وَلَا
تُشَارِكْ فِي الْحَدِيثِ أَهْلَهُ وَإِنْ عَرَفْت فَرْعَهُ وَأَصْلَهُ
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ قَالَتْ
الْحُكَمَاءُ : مِنْ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ
مُغَالَبَةُ الرَّجُلِ عَلَى كَلَامِهِ ، وَالِاعْتِرَاضُ فِيهِ لِقَطْعِ
حَدِيثِهِ ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ :
إيَّاكَ إذَا سُئِلَ غَيْرُك أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُجِيبُ كَأَنَّك
أَصَبْت غَنِيمَةً أَوْ ظَفِرْت بِعَطِيَّةٍ ، فَإِنَّك إنْ فَعَلْت
ذَلِكَ أَزْرَيْت بِالْمَسْئُولِ ، وَعَنَّفْت السَّائِلَ ، وَدَلَلْت
السُّفَهَاءَ عَلَى سَفَاهَةِ حِلْمِك وَسُوءِ أَدَبِك ، يَا بُنَيَّ
لِيَشْتَدَّ حِرْصُك عَلَى الثَّنَاءِ مِنْ الْأَكْفَاءِ ، وَالْأَدَبِ
النَّافِعِ ، وَالْإِخْوَانِ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ بَطَّةَ : كُنْت
عِنْدَ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ فَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَبَادَرْت
أَنَا فَأَجَبْت السَّائِلَ ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ لِي : تَعْرِفُ
الْفُضُولِيَّاتِ الْمُنْتَقِبَاتِ يَعْنِي : أَنْتَ فُضُولِيٌّ
فَأَخْجَلَنِي .
وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْآدَابِ لَهُ .
فَصْلٌ
فِي طَبَقَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ
نَقَلَ عَنْ إمَامِنَا أَشْيَاءَ مِنْهَا قَالَ قُلْتُ لِأَحْمَدَ إنَّ
فُلَانًا يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ رُبَّمَا سَعَى فِي الْأُمُورِ مِثْلَ
الْمَصَانِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْآبَارِ ، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ : لَا ،
لَا ، نَفْسُهُ أَوْلَى بِهِ .
وَكَرِهَ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ
وَجْهَهُ وَنَفْسَهُ لِهَذَا ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا الْخَلَّالُ وَأَبُو
يُوسُفَ هُوَ الْغَسُّولِي .
وَقَالَ مُهَنَّا سَمِعْت بِشْرَ بْنَ
الْحَارِثِ وَذُكِرَ لَهُ أَيْضًا رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ
بِشْرٌ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ : مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ
، فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ أُرِيدُ أَرْفَعَ مِنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ،
فَسَمِعْت بِشْرًا يَقُولُ لَهُ لَا تَفْعَلْ وَلَا تَطْلُبْ مِنْ صَاحِبِ
دُنْيَا حَاجَةً ، دَعْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَطْلُبُ إلَيْكَ .
وَكَانَ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ يَبْعَثُ يَحْيَى بْنَ خَاقَانَ إلَى
الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَثِيرًا أَوْ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَدْ جَاءَنِي يَحْيَى
بْنُ خَاقَانَ وَمَعَهُ شَرًى فَجَعَلَ يُقَلِّلُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
، فَقُلْتُ لَهُ قَالُوا إنَّهَا أَلْفُ دِينَارٍ قَالَ هَكَذَا
فَرَدَدْتُهَا عَلَيْهِ فَبَلَغَ الْبَابَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إنْ
جَاءَكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِك شَيْءٌ تَقْبَلُهُ ؟ قُلْتُ لَا قَالَ :
إنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَ الْخَلِيفَةَ بِهَذَا .
قُلْتُ لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْكَ لَوْ أَخَذْتَهَا
فَقَسَمْتَهَا فَكَلَحَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ إذَا أَنَا قَسَمْتَهَا
أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُ أُرِيدُ أَكُونُ لَهُ قَهْرَمَانًا ؟ وَقَالَ أَبُو
طَالِبٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ جَاءَنِي وَمَعَهُ دَرَاهِمُ
فَقَالَ لِي خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فَتَصَدَّقْ بِهَا فِي جِيرَانِك
فَأَبَيْتُ فَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ إلَيَّ فَأَبَيْتُ فَقَالَ لَا يَحِلُّ
لَكَ وَلَا يَسَعُك أَنْ تَمْنَعَ الْمَسَاكِينَ وَالْفُقَرَاءَ ، فَلَمْ
آخُذْهَا أَكُونُ قَدغ أَثِمْت إذَا أَرَدْتُهَا ؟ قَالَ : لِمَ لَا
تَأْثَمُ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا ؟ قَدْ أَحْسَنْتَ ، لَوْ أَخَذْتَهَا
لَمْ تَسْلَمْ .
وَرَوَى يَعْقُوبُ عَنْهُ : إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ
لَهُ كَانَ أَسْلَمَ لَهُ ، وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ إلَيَّ ثَلَاثَةَ آلَافِ
دِينَارٍ فَأَتَصَدَّقُ بِهَا ، فَقِيلَ لَهُ : أَوَلَمْ تُؤْجَرْ وَلَا
تَرُدَّ شَيْئًا ؟ قَالَ : إنِّي أَخَافُ وَسَاوِسَ نَفْسِي وَعَوَاذِلَ
قَوْمِي ، فَيُحْبِطُ ذَلِكَ أَجْرِي ، وَالسَّلَامَةُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ : ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
حَاتِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ عَنْ
هَارُونَ بْنِ سُفْيَانَ الْمُسْتَمْلِي قَالَ : جِئْتُ إلَى أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي
جَاءَتْهُ مِنْ الْمُتَوَكِّلِ قَالَ فَأَعْطَانِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَقُلْتُ : لَا تَكْفِينِي قَالَ : لَيْسَ هَهُنَا غَيْرُهَا ، وَلَكِنْ
هُوَ ذَا أَعْمَلُ بِكَ شَيْئًا أُعْطِيكَ ثَلَاثَمِائَةٍ تُفَرِّقُهَا ،
قَالَ : فَلَمَّا أَخَذْتُهَا قُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ
وَاَللَّهِ أُعْطِي أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا فَتَبَسَّمَ .
وَقَالَ
صَالِحٌ لِأَبِيهِ : مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ مِسْكِينَةٍ تَكُونُ مَعِي
فِي دَارِي فَرُبَّمَا أَتَوْنِي بِشَيْءٍ لِلْمَسَاكِينِ فَأُعْطِيهَا
مِنْهُ إذَا قَسَمْتُ ، فَقَالَ لَا تَحْلِبْهَا وَأَعْطِهَا كَمَا
تُعْطِي غَيْرَهَا .
فَصْلٌ ( فِي الِاشْتِغَالِ بِالْمُذَاكَرَةِ عَنْ النَّوَافِلِ ، وَفَضْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَصْدِقَاءِ ) .
قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ لَمَّا قَدِمَ أَبُو زُرْعَةَ نَزَلَ عِنْد
أَبِي فَكَانَ كَثِيرَ الْمُذَاكَرَةِ لَهُ ، فَسَمِعْت أَبِي يَوْمًا
يَقُولُ : مَا صَلَّيْت غَيْرَ الْفَرَائِضِ اسْتَأْثَرْت بِمُذَاكَرَةِ
أَبِي زُرْعَةَ عَلَى نَوَافِلِي .
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ
أَحْمَدَ أَنَّ إِسْحَاقَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ : فَمَضَيْنَا مَعَهُ إلَى الْمُصَلَّى
يَوْمَ عِيدٍ قَالَ : فَلَمْ يُكَبِّرْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَا أَنَا
وَلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ فَقَالَ لَنَا : رَأَيْتُ مَعْمَرًا
وَالثَّوْرِيَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَبَّرَا فَكَبَّرْت ،
وَرَأَيْتُكُمَا لَا تُكَبِّرَانِ فَلَمْ أُكَبِّرْ قَالَ :
وَرَأَيْتُكُمَا لَا تُكَبِّرَانِ فَهِبْتُ .
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
فَلِمَ لَمْ تُكَبِّرَا ؟ قَالَ فَقُلْنَا : نَحْنُ نَرَى التَّكْبِيرَ
وَلَكِنْ شُغِلْنَا بِأَيِّ شَيْء نَبْتَدِئُ مِنْ الْكُتُبِ .
وَقَالَ
صَالِحُ بْنُ مُوسَى أَبُو الْوَجِيهِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ : وَمَنْ يَفْلِتُ مِنْ التَّصْحِيفِ ؟ لَا يَفْلِتُ أَحَدٌ
مِنْهُ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : أَنْبَأَنَا طَالِبُ بْنُ حَرَّةَ
الْأُذْنِيُّ قَالَ : حَضَرْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ : عَلَامَةُ
الْمُرِيدِ ، قَطِيعَةُ كُلِّ خَلِيطٍ لَا يُرِيدُ مَا تُرِيدُ .
وَفِي
طَبَقَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
الصُّفْرِ ثَنَا هِبَةُ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا أَبِي قَالَ : قُبُورُ أَهْلِ
السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ رَوْضَةٌ ، وَقُبُورُ أَهْلِ
الْبِدَعِ الزَّنَادِقَةِ حُفْرَةٌ ، فُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ، وَزُهَّادُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَعْدَاءُ اللَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سُئِلَ أَبِي لِمَ لَا تَصْحَبُ النَّاسَ ؟ قَالَ لِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ .
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ : وَحْشَةُ
الِانْفِرَادِ ، أَبْقَى لِلْعِزِّ مِنْ مُؤَانَسَةِ اللِّقَاءِ .
.
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ :
وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَيُكْثِرُ قَالَ :
يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى قَدْرِ زِيَادَتِهِ فِي
الطَّلَبِ ، ثُمَّ قَالَ : سَبِيلُ الْعِلْمِ مِثْلُ سَبِيلِ الْمَالِ
أَنَّ الْمَالَ إذَا زَادَ زَادَتْ زَكَاتُهُ .
وَفِي طَبَقَاتِ
الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَأَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَهْرَوَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
سَمِعْت الْمُطِيعَ الْخَلِيفَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ فِي يَوْمِ
عِيدٍ : سَمِعْت شَيْخِي عَبْدَ اللَّهِ الْبَغَوِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت
الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : إذَا مَاتَ أَصْدِقَاءُ
الرَّجُلِ ذَلَّ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ : قَالَ لِي أَيُّوبُ : إنَّهُ
لَيَبْلُغُنِي مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ إخْوَانِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ
عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِي .
فَصْلٌ ( فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا لَدَى الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ ) .
قَدْ سَبَقَ فِي الِاسْتِئْذَانِ كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهَا .
وَجَاءَ
رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يَسْتَشْفِعُ بِهِ فِي حَاجَةٍ
فَقَضَاهَا فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يَشْكُرُهُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ
سَهْلٍ : عَلَامَ تَشْكُرُنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ لِلْجَاهِ زَكَاةً
كَمَا أَنَّ لِلْمَالِ زَكَاةً ؟ وَفِي لَفْظٍ وَنَحْنُ نَرَى كَتْبَ
الشَّفَاعَاتِ زَكَاةَ مُرُوآتِنَا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول : فُرِضَتْ
عَلَيَّ زَكَاةُ مَا مَلَكَتْ يَدِي وَزَكَاةُ جَاهِي أَنْ أُعِينَ
وَأَشْفَعَا فَإِذَا مَلَكْتَ فَجُدْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاجْهَدْ
بِوُسْعِك كُلِّهِ أَنْ تَنْفَعَا قَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ
زَكَرِيَّا : وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ : وَإِذَا امْرُؤٌ أَهْدَى
إلَيْك صَنِيعَةً مِنْ جَاهِهِ فَكَأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ وَرَوَى ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ
عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ جَهْمَانَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْجَسَدِ
الصَّوْمُ } .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَإِذَا السَّعَادَةُ أَحْرَسَتْك
عُيُونُهَا نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ وَاصْطَدْ بِهَا
الْعَنْقَاءَ فَهْيَ حَبَائِلُ وَاقْتَدْ بِهَا الْجَوْزَاءَ فَهْيَ
عَنَانُ وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا أَتَاهُ
السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا ،
وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ } رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي لَفْظِهِ " تُؤْجَرُوا " رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَلِأَبِي دَاوُد { اشْفَعُوا إلَيَّ لِتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ
عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ } .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ
الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ فَأَمْنَعُهُ كَيْ تَشْفَعُوا
لَهُ فَتُؤْجَرُوا } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا } رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ عَنْ
هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرو بْنِ
دِينَارٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ هَمَّامٍ عَنْ
مُعَاوِيَةَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
اسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي
نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ } وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ لِقُتَيْبَةِ بْنِ
مُسْلِمٍ : إنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ رَفَعْتهَا إلَى اللَّهِ قَبْلَك
فَإِنْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِيهَا قَضَيْتهَا وَحَمِدْنَاك ، وَإِنْ لَمْ
يَأْذَنْ فِيهَا لَمْ تَقْضِهَا وَعَذَرْنَاك .
وَقَالَ يُونُسُ :
أَنْزَلْتُ بِالْحُرِّ إبْرَاهِيمَ مَسْأَلَةً أَنْزَلْتُهَا قَبْلَ
إبْرَاهِيمَ بِاَللَّهِ فَإِنْ قَضَى حَاجَتِي فَاَللَّهُ يَسَّرَهَا هُوَ
الْمُقَدِّرُهَا وَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا أَبَى اللَّهُ شَيْئًا ضَاقَ
مَذْهَبُهُ عَنْ الْكَبِيرِ الْعَرِيضِ الْقَدْرِ وَالْجَاهِ قَالَ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ : خَيْرُ الْمَذَاهِبِ فِي الْحَاجَاتِ أَنْجَحُهَا
وَأَضْيَقُ الْأَمْرِ أَدْنَاهُ إلَى الْفَرَجِ وَكَتَبَ سَوَّارُ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ الْقَاضِي إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ : لَنَا حَاجَةٌ وَالْعُذْرُ فِيهَا مُقَدَّمٌ
خَفِيفٌ وَمَعْنَاهَا مُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ فَإِنْ تَقْضِهَا فَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّنَا وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَفِي وَاسِعِ الْعُذْرِ عَلَى
أَنَّهُ الرَّحْمَنُ مُعْطٍ وَمَانِعٌ وَلِلرِّزْقِ أَسْبَابٌ إلَى قَدَرٍ
يَجْرِي فَأَجَابَهُ مُحَمَّدُ بْنِ طَاهِرٍ : فَسَلْهَا تَجِدْنِي
مُوجِبًا لِقَضَائِهَا سَرِيعًا إلَيْهَا لَا يُخَاطِبُنِي فِكْرُ شَكُورٌ
بِإِفْضَالِي عَلَيْك بِمِثْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا حَوَتْهُ
يَدِي شُكْرُ فَهَذَا قَلِيلٌ لِلَّذِي قَدْ رَأَيْته لِحَقِّك لَا مَنٌّ
لَدَيَّ وَلَا ذُخْرُ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : حَاجَةُ
الرَّجُلُ إلَى أَخِيهِ فِتْنَةٌ لَهُمَا ، إنْ أَعْطَاهُ شَكَرَ مَنْ
لَمْ يُعْطِهِ ، وَإِنْ مَنَعَهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ .
وَقَالَ
خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : لَا تَطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ غَيْرِ
أَهْلِهَا ، وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي غَيْرِ حِينِهَا ، وَلَا تَطْلُبُوا
مَا لَا
تَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ اسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ .
وَقَالَ
رَجُلٌ لِلْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ صَغِيرَةٍ قَالَ : فَاطْلُبْ لَهَا
رَجُلًا صَغِيرًا .
وَقِيلَ لِآخَرَ أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ صَغِيرَةٍ
قَالَ : اُذْكُرْهَا عِنْدَ الْحُرِّ يَقُومُ بِصَغِيرِ الْحَاجَاتِ
وَكَبِيرِهَا ، كَأَنْ يُقَالَ : لَا تَسْتَعِنْ عَلَى حَاجَةٍ بِمَنْ
هِيَ طُعْمَتُهُ ، وَلَا تَسْتَعِنْ بِكَذَّابٍ ، فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ
الْبَعِيدَ وَيُبَاعِدُ الْقَرِيبَ ، وَلَا تَسْتَعِنْ عَلَى رَجُلٍ
بِمَنْ لَهُ إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَصْلُ الْعِبَادَةِ أَنْ لَا تَسْأَلَ سِوَى اللَّهِ حَاجَةً .
فَلِكُلِّ
أَحَدٍ فِي اللَّهِ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ
اللَّهِ عِوَضٌ بِأَحَدٍ وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدُ : وَإِذَا طَلَبْتَ
إلَى كَرِيمٍ حَاجَةً فَلِقَاؤُهُ يَكْفِيك وَالتَّسْلِيمُ وَإِذَا
طَلَبْت إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً فَأَلِحَّ فِي رَقٍّ وَأَنْتَ مُدِيمُ
وَقَالَ آخَرُ : لَا تَطْلُبَنَّ إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً وَاقْعُدْ فَإِنَّك
قَائِمٌ كَالْقَاعِدِ يَا خَادِعَ الْبُخَلَاءِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ
هَيْهَاتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
اقْضِ الْحَوَائِجَ مَا اسْتَطَعْ تَ وَكُنْ لِهَمِّ أَخِيكَ فَارِجْ
فَلَخَيْرُ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ قَضَى فِيهِ الْحَوَائِجْ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ قَالُوا مَنْ صَبَرَ عَلَى حَاجَتِهِ ظَفِرَ بِهَا ، وَمَنْ
أَدْمَنَ قَرْعَ الْبَابِ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ : اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْإِدْلَاجِ فِي السَّحَرِ
وَفِي الرَّوَاحِ إلَى الْحَاجَاتِ وَالْبَكْرِ لَا تَضْجَرَنَّ وَلَا
يُعْجِزْكَ مَطْلَبُهَا فَالنُّجْحُ يَتْلَفُ بَيْنَ الْعَجْزِ
وَالْقِصَرِ إنِّي رَأَيْت وَفِي الْأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ لِلصَّبْرِ
عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الْأَثَرِ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ
تَطَلَّبَهُ وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ وَقَالَ
سُفْيَانُ : الْإِلْحَاحُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَجْمُلُ إلَّا عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ سَأَلْت رَبِّي
حَاجَةً عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا
انْقَضَتْ لِي وَلَا يَئِسْت
مِنْهَا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : فِي النَّاسِ مَنْ تَسْهُلُ
الْمَطَالِبُ أَحْ يَانًا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا صَعُبَتْ مَا كُلُّ ذِي
حَاجَةٍ بِمُدْرِكِهَا كَمْ مِنْ يَدٍ لَا تَنَالُ مَا طَلَبَتْ مَنْ لَمْ
يَسَعْهُ الْكَفَافُ مُعْتَدِلًا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنَا بِمَا
رَحُبَتْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اسْتَعِينُوا عَلَى النَّاسِ فِي
حَوَائِجكُمْ بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ نُجْحٌ لَكُمْ وَقَالَ آخَرُ : مَنْ
عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤُهُ وَأَخُو الْحَوَائِجِ وَجْهُهُ
مَمْلُولُ وَكَتَبَ أَبُو الْعَتَاهِيَة إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ
يُعَاتِبُهُ فَقَالَ : لَئِنْ عُدْت بَعْدَ الْيَوْمِ إنِّي لَظَالِمٌ
سَأَصْرِفُ نَفْسِي حِينَ تُبْغَى الْمَكَارِمُ مَتَى يَنْجَحْ الْغَادِي
إلَيْك بِحَاجَةٍ وَنِصْفُك مَحْجُوبٌ وَنِصْفُكَ نَائِمُ وَسُئِلَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ حَاجَةً فَامْتَنَعَ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَأَنْ
يَحْمَرَّ وَجْهِي مَرَّةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَصْفَرَّ مِرَارًا .
وَقَالَ
مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : مَنْ قَالَ لَا فِي حَاجَةٍ مَطْلُوبَةٍ فَمَا
ظَلَمْ وَإِنَّمَا الظَّالِمُ مَنْ قَالَ لَا بَعْدَ نَعَمْ وَقَالَ آخَرُ
: إنَّ لَا بَعْدَ نَعَمْ فَاحِشَةٌ فَبِلَا فَابْدَأْ إذَا خِفْتَ
النَّدَمْ وَإِذَا قُلْت نَعَمْ فَاصْبِرْ لَهَا بِنَجَازِ الْوَعْدِ إنَّ
الْخُلْفَ ذَمْ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي الِاسْتِئْذَانِ ،
وَقَبْلَهُ فِي فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى
وُلَاةِ الْأُمُورِ .
وَفِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ
عَبْدَانِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ
حَاجَةً إلَّا قُمْت لَهُ بِنَفْسِي ، فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا قُمْت لَهُ
بِمَالِي ، فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا اسْتَعَنَّا لَهُ بِالْإِخْوَانِ ،
فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا اسْتَعَنْت لَهُ بِالسُّلْطَانِ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ لَا يَنْدَمَ مَنْ رُدَّتْ شَفَاعَتُهُ وَلَا يَتَأَذَّى عَلَى مَنْ
لَمْ يَقْبَلْهَا ، وَيَفْتَحُ بَابَ الْعُذْرِ وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْظَمُ
حَقًّا وَأَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ بِإِجْمَاعِ
الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ :
مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ
تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ
وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدك
قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ لَا إنَّمَا أَشْفَعُ
قَالَتْ : فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ } ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْأَمْرِ
وَرَدِّ شَفَاعَتِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِهَا مُتَفَاوِتُونَ جِدًّا ، كَمَا
هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ هَارُونُ الرَّقِّيُّ قَدْ عَاهَدَ
اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ أَحَدٌ كِتَابَ شَفَاعَةٍ إلَّا فَعَلَ ،
فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَهُ قَدْ أُسِرَ بِالرُّومِ
وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى مَلِكِ الرُّوم فِي إطْلَاقِهِ ، فَقَالَ
لَهُ : وَيْحَكَ وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُنِي وَإِذَا سَأَلَ عَنِّي قِيلَ
هُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْف يَقْضِي حَقِّي ؟ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ :
اُذْكُرْ الْعَهْدَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لَهُ إلَى مَلِكِ
الرُّوم ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ
شَفَعَ إلَيْنَا ؟ قِيلَ : هَذَا رَجُلٌ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَا
يُسْأَلُ كِتَابَ شَفَاعَةٍ إلَّا كَتَبَهُ إلَى أَيِّ مَنْ كَانَ .
فَقَالَ
مَلِكُ الرُّومِ : هَذَا حَقِيقٌ بِالْإِسْعَافِ ، أَطْلِقُوا أَسِيرَهُ
وَاكْتُبُوا جَوَابَ كِتَابِهِ وَقُولُوا لَهُ : اُكْتُبْ بِكُلِّ حَاجَةٍ
تَعْرِضُ ، فَإِنَّا نُشَفِّعُك فِيهَا .
وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْكَلَامِ وَالْبُخْلِ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَامًا
اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ مَا بَذَلُوهَا ،
فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا
مِنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إلَى غَيْرِهِمْ } ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ اللَّبَّادِ أَبِي نَصْرٍ رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ .
فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ الْمَذْكُورِ عَنْ أَحْمَدَ : إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ حَاجَةً فَقُولُوا : فِي عَافِيَةٍ ، قَالَ سُلَيْمَانُ الْقَصِيرُ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْشٍ تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُمْ وَلِيمَةٌ تُرَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيُهْدِي لَهُمْ ، قَالَ : نَعَمْ رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ الشَّكْوَى مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّيْرِ وَاسْتِحْبَابِ حَمْدِ اللَّهِ قَبْلَ ذِكْرَهُمَا ) .
قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي
الْفَضْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُتَطَبِّبِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّلْتِ : سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ
الْمُتَطَبِّبَ يُعْرَفُ بِطَبِيبِ السُّنَّةِ يَقُولُ : دَخَلْت عَلَى
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَعُودُهُ فَقُلْت : كَيْف تَجِدُك ؟ فَقَالَ :
أَنَا بِعَيْنِ اللَّهِ ، ثُمَّ دَخَلْت عَلَى بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ
فَقُلْت : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَ أَحْمَدُ اللَّهَ إلَيْك ، أَجِدُ
كَذَا ، أَجِدُ كَذَا ، فَقُلْت : أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا
شَكْوَى ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ
قَالَا : سَمِعْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ الشُّكْرُ
قَبْلَ الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ } فَدَخَلْت عَلَى أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ فَحَدَّثْته فَكَانَ إذَا سَأَلْته قَالَ : أَحْمَدُ اللَّهَ
إلَيْك ، أَجِدُ كَذَا أَجِدُ كَذَا .
قَالَ الْخَلَّالُ فِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ هَذَا : كَانَ يَأْنَسُ بِهِ أَحْمَدُ وَبِشْرُ بْنُ
الْحَارِثِ وَيَخْتَلِفُ إلَيْهِمَا ، وَأَظُنُّ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ
نَقَلَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الْخَلَّالِ ، وَهَذَا الْخَبَرُ السَّابِقُ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ
الْهِدَايَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ أَلَمٍ
وَوَجَعٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، لَا لِقَصْدِ الشَّكْوَى .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ لَمَّا قَالَتْ : { وَارَأْسَاهُ .
قَالَ
: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ } وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِقَوْلِ
ابْنِ مَسْعُودٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّك
لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، فَقَالَ أَجَلْ إنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ
رَجُلَانِ مِنْكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي
الْفُنُونِ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا
نَصَبًا } .
يَدُلُّ
عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرَاحَةِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الشَّكْوَى عِنْدَ
إمْسَاس الْبَلْوَى وَنَظِيرُهُ { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } {
مَسَّنِيَ الضُّرُّ } { مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي }
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ
: كَيْفَ تَجِدُك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِخَيْرٍ فِي
عَافِيَةٍ ، فَقَالَ : حُمِّمْتُ الْبَارِحَةَ قَالَ إذَا قُلْت لَك :
أَنَا فِي عَافِيَةٍ فَحَسْبُك لَا تُخْرِجْنِي إلَى مَا أَكْرَهُ ، قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِمَّا يُمْكِنُ
كِتْمَانُهَا فَكِتْمَانُهَا مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ الْخَفِيَّةِ .
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : شَكْوَى الْمَرِيضِ مُخْرِجَةٌ
مِنْ التَّوَكُّلِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنِينَ الْمَرِيضِ
لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ الشَّكْوَى ، وَذُكِرَ هَذَا النَّصُّ عَنْ
أَحْمَدَ وَقَالَ : فَأَمَّا وَصْفُ الْمَرِيضِ لِلطَّبِيبِ مَا يَجِدُهُ
، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ إنَّ أُخْتَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَتْ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ
: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنِينُ الْمَرِيضِ شَكْوَى قَالَ : أَرْجُو
أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَكْوَى وَلَكِنَّهُ اشْتَكَى إلَى اللَّهِ ،
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي كَرَاهَةِ الْأَنِينِ فِي الْمَرَضِ
رِوَايَتَيْنِ ، وَرُوِيَتْ الْكَرَاهَةُ عَنْ طَاوُسٍ ، وَذَكَرَ
الشَّيْخُ تَقِيّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ مَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ
أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ قَالَ : وَالصَّبْرُ لَا تُنَافِيه الشَّكْوَى
وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُبُودِيَّةِ : وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ صَبْرٌ
بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ .
ثُمَّ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ
تَرْكُهُ الْأَنِينَ لِمَا حُكِيَ لَهُ عَنْ طَاوُسٍ كَرَاهَتُهُ ، ثُمَّ
قَالَ : وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تُنَافِي الصَّبْرَ
الْجَمِيلَ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَفْظُ الشَّكْوَى فَأَيْنَ
الصَّبْرُ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ شَكَا
إلَى اللَّهِ لَا مِنْهُ وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ
فَالْمَعْنَى
يَا رَبُّ ارْحَمْ أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ وَقَالَ :
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَالْحُزْنُ وَنُفُورُ النُّفُوسِ مِنْ
الْمَكْرُوهِ وَالْبَلَاءِ لَا عَيْبَ فِيهِ ، وَلَا مَأْثَمَ إذَا لَمْ
يَنْطِقْ اللِّسَانُ بِكَلَامٍ مُؤَثِّمٍ وَلَمْ يَشْكُ مِنْ رَبِّهِ .
فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ يَا أَسَفَى شَكْوَى إلَى رَبِّهِ ، كَانَ غَيْرَ مَلُومٍ .
فَصْلٌ ( فِي شُكْرِ النِّعَمِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَفَوَائِدِهِ فِي الِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ ) .
قَالَ
ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : النَّعَمُ أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الشُّكْرُ
، وَالْبَلَايَا أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الصَّبْرُ ، فَاجْتَهِدْ أَنْ
تَرْحَلَ الْأَضْيَافُ شَاكِرَةً حُسْنَ الْقِرَى ، شَاهِدَةً بِمَا
تَسْمَعُ وَتَرَى .
وَقَالَ : مِنْ أَحْسَنِ ظَنِّي بِهِ أَنَّهُ
بَلَغَ مِنْ لُطْفِهِ أَنْ وَصَّى وَلَدِي إذَا كَبِرْت فَقَالَ : { فَلَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } .
فَأَرْجُو إذَا صِرْتُ عِنْدَهُ رَمِيمًا
أَنْ لَا يَعْسِفَ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ ، تُشَاكِلُ أَقْوَالَهُ ،
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ
عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ الشِّدَّةِ
وَالضُّرِّ مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ ، فَيَدْعُونَهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ
، فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ
مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ ، وَحَلَاوَةِ
الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ
أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ ، أَوْ
الْجَدْبِ أَوْ الضُّرِّ ، وَمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ
الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ
مَقَالٌ ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ ،
وَلِهَذَا قِيلَ : يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ
أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك .
وَقَالَ بَعْضُ
الشُّيُوخِ : إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَادْعُوهُ
فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا
لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي أَوْ أَنْ يَنْصَرِفَ
عَنِّي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا وَقَدْ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ
مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ
نَبِيًّا } .
وَقَالَ أَيْضًا : { وَجَدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ } فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَذَوْقُ
طَعْمِهِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْهُ وَهَذَا الذَّوْقُ .
فَاَلَّذِي
يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ يَجْذِبُ
قُلُوبَهُمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ ،
بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لِلَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلَى
أَنْ قَالَ : وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ
الرُّسُلُ وَأُنْزِلَ بِهِ الْكُتُبُ ، وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي
تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي الصَّبْرِ وَالصَّابِرِينَ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ ) .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ .
وَصَحَّ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ فِي أَحَادِيثَ .
وَرَوَى
أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ : { مَا
مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ
لِي خَيْرًا مِنْهَا ، إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ
لَهُ خَيْرًا مِنْهَا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ { وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ
عَطَاءً خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ } وَخَيْرٌ مَرْفُوعٌ خَبَرُ
مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ خَيْرٌ .
وَرُوِيَ " خَيْرًا " قَالَ : { وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } .
فَإِذَا
عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً
؛ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ وَيُعْدِمُهُ أَيْضًا وَيَحْفَظُهُ
فِي حَالِ وُجُودِهِ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا
يُتَاحُ لَهُ وَأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى اللَّه ، وَلَا بُدَّ فَرْدًا كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } .
وَقَوْلُهُ { وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } .
وَأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ .
كَمَا قَالَهُ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنْفُسِكُمْ
إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا
آتَاكُمْ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
وَإِنَّ
اللَّهَ لَوْ شَاءَ جَعَلَ مُصِيبَتَهُ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ ، وَإِنَّهُ
إنْ صَبَرَ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ فَوَاتِ مُصِيبَتِهِ
، وَإِنَّ الْمُصِيبَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ
الْمَصَائِبِ ، وَمُصِيبَةُ بَعْضِهَا أَعْظَمُ ، وَإِنَّ سُرُورَ
الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَانْقِطَاعِهِ مُنَغِّصٌ .
وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ ، وَمَا مُلِئَ
بَيْتٌ فَرَحًا إلَّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ
اللَّهُ : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إلَّا كَانَ بَعْدَهُ بُكَاءٌ .
وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ تَغَيُّرِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ الْعَجَائِبَ .
وَقَالَتْ
هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ : لَقَدْ رَأَيْتنَا
وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا ، ثُمَّ لَمْ
تَغِبْ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ ،
وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَمْلَأَ دَارًا حِيَرَةً إلَّا
مِلْأَهَا عِبْرَةً ، وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ
يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزِّهَا فَقِيلَ : مَا يُبْكِيك لَعَلَّ أَحَدًا
آذَاك ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنْ رَأَيْت غَضَارَةً فِي أَهْلِي
وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا .
وَالْغَضَارَةُ
طَيِّبُ الْعَيْشِ يَقُولُ : بَنُو فُلَانٍ مَغْضُورُونَ وَقَدْ
غَضَرَهُمْ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَفِي غَضَارَةٍ مِنْ الْعَيْشِ ، وَفِي
غَضْرَاءَ مِنْ الْعَيْشِ أَيْ : فِي خِصْبٍ وَخَيْرٍ قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ : لَا يُقَالُ : أَبَادَ اللَّهُ غَضْرَاءَهُمْ ، وَلَكِنْ
أَبَادَ اللَّهُ غَضِرَاهُمْ ، أَيْ هَلَكَ خَيْرُهُمْ وَغَضَارَتُهُمْ .
وَقَالَتْ حُرْقَةُ أَيْضًا : مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ بِالْأَمْسِ .
إنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي حِيرَةٍ ، إلَّا سَيُعَقَّبُونَ بَعْدهَا غُبْرَةٌ .
وَإِنَّ الدَّهْرَ
لَمْ
يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ
يَكْرَهُونَهُ ، ثُمَّ قَالَتْ : فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ
أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا
يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ تَنَصَّفَ أَيْ
خَدَمَ وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْمُصِيبَةَ بَلْ
هُوَ مَرَضٌ يَزِيدُهَا ، وَإِنَّهُ يَسُرُّ عَدُوَّهُ وَيُسِيءُ
مُحِبَّهُ ، وَإِنَّ فَوَاتَ ثَوَابِهَا بِالْجَزَعِ أَعْظَمُ مِنْهَا ،
وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمْدِ الَّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى
حَمْدِهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لِعَبْدِي
الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ
الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةَ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ
وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ جَابِرَ مَرْفُوعًا : { يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي
الدُّنْيَا ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ } .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَا يُصِيبُ
الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ ، وَلَا هَمٍّ ، وَلَا حُزْنٍ ،
وَلَا أَذًى ، وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } .
وَعَنْ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ
أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، ثُمَّ
الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلِ مِنْ النَّاسِ ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى
حَسْبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ
، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ ، وَمَا يَزَالُ
الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ { بِالْمُؤْمِنِ أَوْ
الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ ، حَتَّى
يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيُّ
وَرَوَى الثَّانِيَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَرَوَيَا أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا : { مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِيبُ مِنْهُ } .
وَعَنْ
صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إنَّ أَمَرَهُ
كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ ، إنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضَاءً إلَّا كَانَ
خَيْرًا لَهُ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { أَشَدُّ النَّاسِ
بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ
لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ }
مُخْتَصَرٌ مِنْ ابْنِ مَاجَهْ .
وَعَنْ شَدَّادٍ مَرْفُوعًا { يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي
مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ
مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا } رَوَاهُ
أَحْمَدُ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
يُقَالُ لَهُ : مَنْظُورٌ عَنْ عَمِّهِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { إنَّ
الْمُؤْمِنَ إذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ ،
كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا
يَسْتَقْبِلُ ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ
كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ
عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا
، إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا
خَطِيئَةً } وَمَا كَفَى إنْ فَاتَ حَتَّى عَصَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ
أَسْخَطَ رَبَّهُ ، وَفَوَاتُ لَذَّةِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ وَاحْتِسَابُهُ
أَعْظَمُ مِمَّا أُصِيبَ بِهِ ، لَوْ بَقِيَ وَعَلِمَ أَنَّ فِي اللَّه
خَلَفًا وَدَرْكًا فَرَجَا الْخَلَفَ مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ
:
إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ
هَالِكٍ ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا ،
وَإِيَّاهُ فَارْجُوَا ، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ ،
وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ حَظَّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ
خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ مَرْفُوعًا { إنَّ
اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ
الرِّضَا ، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَهُوَ
إسْنَادُ حَدِيثِ { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا }
وَلِذَاكَ إسْنَادٌ آخَرُ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي
مَحْمُودٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْرُهُ : لَا صُحْبَةَ
لَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ { وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ
الْجَزَعُ } .
وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ
مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا
ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ
السَّخَطُ } وَعَنْهُ أَيْضًا { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا
عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ
الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى يُوَافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى ابْنُ
مَاجَهْ الْأَوَّلَ وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ ، وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ الصَّبْرَ ،
وَهُوَ مُثَابٌ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { إنَّمَا
الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ
قَيْسٍ : إنَّكَ إنْ صَبَرْتَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلَّا سَلَوْتَ
الْبَهَائِمَ ، وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ ،
وَيُخَوِّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }
وَقَالَ تَعَالَى { وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
} .
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ : يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَا
جَاءَتْ
لِتُهْلِكَ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك ، يَا
بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ،
فَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ
خَبَثًا كَمَا قِيلَ : سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى
الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ اللُّجَيْنُ الْفِضَّةُ جَاءَ مُصَغَّرًا
مِثْلَ الثُّرَيَّا وَكُمَيْتٌ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَصَائِبُ
لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ
وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ ، فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ ،
وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ : قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ
بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ
بِالنِّعَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ
وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ ، وَلِهَذَا قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ {
الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ } وَقَالَ : {
حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ احْتَمَلَ مَرَارَةَ سَاعَةٍ
لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ .
وَذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ ، هَذَا
مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ حَتَّى نَظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ ،
وَالنَّاسُ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ آثَرُوا الْعَاجِلَ لِمُشَاهَدَتِهِ
وَضَعْفِ الْإِيمَانِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ وَأَنَّ
الْمُحِبَّ وَأَنَّهُ إنْ أَسْخَطَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَحَبَّتِهِ ،
وَلِهَذَا كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ
فِي مَرَضِهِ : أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَيْهِ ، وَكَذَا أَبُو
الْعَالِيَة وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ
اللَّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّ
مَرَاتِبَ الْكَمَالِ مَنُوطَةٌ بِالصَّبْرِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ ،
وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ لَا يَتَّهِمَ رَبَّهُ فِي قَضَائِهِ لَهُ .
كَمَا
رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ
بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ جُنَادَةَ بْنَ
أَبِي أُمَيَّةَ يَقُولُ : سَمِعْت عُبَادَة بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ :
إنَّ
رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : { يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ :
الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ، قَالَ
: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : السَّمَاحَةُ
وَالصَّبْرُ قَالَ : أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ : لَا تَتَّهِمْ اللَّهَ فِي شَيْءٍ قُضِيَ لَك } ابْنُ لَهِيعَةَ
فِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ السُّلَمِيِّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ
لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ، ثُمَّ
صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ
لَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد ،
وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ
فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ
عَنْهُ أَكْثَرُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ .
فَإِذَا
عَلِمَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورَ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا صَبَرَ
وَاحْتَسَبَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا
يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا
مُتَفَاوِتُونَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَسَيَأْتِي آخِرَ فُصُولِ
التَّدَاوِي .
( فَصْلٌ فِي دَاءِ الْعِشْقِ ) لَهُ مُنَاسَبَةٌ
وَتَعَلُّقٌ بِهَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ مَا
أَنْشَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِنَفْسِهِ : يَقُولُونَ
لِي فِي الصَّبْرِ رَوْحٌ وَرَاحَةٌ وَلَا عَهْدَ لِي بِالصَّبْرِ مُذْ
خُلِقَ الْحُبُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ كَالصَّبِرِ طَعْمُهُ
وَإِنَّ سَبِيلَ الصَّبْرِ مُمْتَنِعٌ صَعْبُ وَقَدْ قَالَ أَبُو
الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ : السِّرُّ الْمَصُونُ اعْلَمْ
أَنَّ مِنْ طَلَبَ أَفْعَالَهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ ،
فَلَمْ يَجِدْ يَعْتَرِضُ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ قَدْ شَمِلَتْ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ
وَالْجُهَّالِ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ ،
فَإِنَّهُ نَظَرَ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَقَالَ : كَيْفَ يُفَضَّلُ
الطِّينُ عَلَى جَوْهَرِ النَّارِ ؟ وَفِي ضِمْنِ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ
حِكْمَتَك قَاصِرَةٌ وَأَنَّ رَأْيِي أَجْوَدُ ، فَلَوْ لَقِيت أَنَا
إبْلِيسَ كُنْت أَقُولُ لَهُ : حَدِّثْنِي عَنْ فَهْمِك هَذَا الَّذِي
رَفَعْت بِهِ أَمْرَ النَّارِ عَلَى الطِّينِ ، أَهُوَ وَهَبَهُ لَك أَمْ
حَصَلَ لَك مِنْ غَيْرِ مَوْهِبَتِهِ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ : وُهِبَ لِي ،
فَأَقُولُ : أَفِيهِ لَك كَمَالُ الْفَهْمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ
حِكْمَتُهُ فَتَرَى أَنْتَ الصَّوَابَ ، وَيَرَى هُوَ الْخَطَأَ ؟
وَتَبِعَ إبْلِيسَ فِي تَغْفِيلِهِ وَاعْتِرَاضِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِثْلَ
ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيّ وَمِنْ قَوْلِهِ : إذَا كَانَ لَا
يَحْظَى بِرِزْقِك عَاقِلٌ وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا
فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ رَأَى مِنْكَ مَا لَا
يُشْتَهَى فَتَزَنْدَقَا وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَقُول :
أَيَا رَبُّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ وَكُثْبَانَ
رَمْلِ وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرْفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ وَسَبْقٍ
بِشَكْلِ وَتَنْهَى عِبَادَك أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَاكِمَ الْعَدْلِ ذَا
حُكْمُ عَدْلِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ يَقُولُ : لَيْسَ عَلَى
الْمَخْلُوقِ أَضَرُّ مِنْ الْخَالِقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : دَخَلْت
عَلَى صَدَقَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِ وَكَانَ فَقِيهًا غَيْرَ
أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ جَرَبٌ فَقَالَ :
هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَلٍ لَا عَلَيَّ ، وَكَانَ
يَتَفَقَّدُهُ بَعْضُ الْأَكَابِرِ بِمَأْكُولٍ فَيَقُولُ : بُعِثَ لِي
هَذَا عَلَى الْكِبَرِ وَقْتَ لَا أَقْدِرُ آكُلُهُ ، وَكَانَ رَجُلٌ
يَصْحَبُنِي قَدْ قَارَبَ ثَمَانِينَ سَنَةً كَثِيرَ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَقَالَ لِي : إنْ كَانَ
يُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ ، فَيُمِيتَنِي ، فَأَمَّا هَذَا التَّعْذِيبُ فَمَا
لَهُ مَعْنًى .
وَاَللَّهُ لَوْ أَعْطَانِي الْفِرْدَوْسَ كَانَ مَكْفُورًا .
وَرَأَيْت آخَرَ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَقُولُ أَيْشٍ هَذَا التَّدْبِيرُ
؟ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ إذَا ضَاقَتْ أَرْزَاقُهُمْ اعْتَرَضُوا ، وَرُبَّمَا قَالُوا : مَا تُرِيدُ نُصَلِّي .
وَإِذَا
رَأَوْا رَجُلًا صَالِحًا يُؤْذَى قَالُوا : مَا يَسْتَحِقُّ ، قَدْ حَافَ
الْقَدَرُ ، وَكَانَ قَدْ جَرَى فِي زَمَانِنَا تَسَلُّطٌ مِنْ
الظَّلَمَةِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَتَزَيَّا بِالدِّينِ : هَذَا حُكْمٌ
بَارِدٌ ، وَمَا فَهِمَ ذَاكَ الْأَحْمَقُ أَنَّ اللَّهَ يُمْلِي
لِلظَّالِمِ .
وَفِي الْحَمْقَى مَنْ يَقُولُ : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي
خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ
أُنْمُوذَجٌ لِعُقُوبَةِ الْمُخَالِفِ وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ
يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ : اشْتَهَيْت أَنْ يَجْعَلَنِي
وَزِيرًا فَأَدْبَرَ .
وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ شَاعَ فَلِهَذَا مَدَدْت النَّفْسَ فِيهِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ ارْتَفَعَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا وَعَلَا عَلَى
الْخَالِقِ بِالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَفَرَةٌ ؛
لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ الْخَالِقِ قَاصِرَةٌ .
وَإِذَا كَانَ
تَوَقُّفُ الْقَلْبِ عَنْ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ عَنْ الْإِيمَانِ .
قَالَ تَعَالَى : {
فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
فَكَيْف يَصِحُّ الْإِيمَانُ مَعَ
الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَكَانَ فِي زَمَنِ ابْن عَقِيلٍ
رَجُلٌ رَأَى بَهِيمَةً عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّقَمِ فَقَالَ : وَا
رَحْمَتِي لَك ، وَا قِلَّةَ حِيلَتِي فِي إقَامَةِ التَّأْوِيلِ
لِمُعَذِّبِكِ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى
حَمْلِ هَذَا الْأَمْرِ لِأَجْلِ رِقَّتِكَ الْحَيَوَانِيَّةِ ،
وَمُنَاسَبَتِك الْجِنْسِيَّةِ ، فَعِنْدَك عَقْلٌ تَعْرِفُ بِهِ
تَحَكُّمَ الصَّانِعِ ، وَحِكْمَتُهُ تُوجِبُ عَلَيْك التَّأْوِيلَ ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ اسْتَطْرَحْت لِفَاطِرِ الْعَقْلِ ، حَيْثُ خَانَكَ
الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رِضَا الْعَقْلِ بِأَفْعَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدِّهَا وَأَصْعَبِهَا
.
ثُمَّ
ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ وَفِيهِ : وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى
الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى : وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ .
فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ
يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ ، وَهُوَ يُدْعَى إلَى
الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف ، فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ
الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ ، وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا
يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي .
قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ : وَمَنْ تَأَمَّلَ دَقَائِقَ حِكْمَتِهِ وَمَحَاسِنَ
صِفَاتِهِ أَخْرَجَهُ حُبُّهُ إلَى الْهَيَمَانِ فِيهِ ، فَإِنَّ
الْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ تُحَبُّ أَكْثَرَ مِنْ الصُّوَرِ ،
وَلِهَذَا تُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَعَانِيهِمْ لَا لِصُوَرِهِمْ ، فَكَيْفَ لَا تَقَعُ
الْمَحَبَّةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ نَقْصٍ ؟
فَوَا أَسَفَا لِلْغَافِلِينَ عَنْهُ ، وَوَا حَسْرَتَا لِلْجَاهِلِينَ
بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ : مَنْ نَظَرَ إلَى
أَفْعَالِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنْكَرَ ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ
أَنَّهُ مَالِكٌ وَحَكِيمٌ ، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ قَدْ تَخْفَى سَلَّمَ
لِمَا لَمْ يَعْلَمْ عِلَّتَهُ بِأَفْعَالِهِ مُسْلِمًا إلَى حِكْمَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ بِعَقْلِهِ مِنْ عَقْلِهِ هَلَكَ بِعَقْلِهِ .
وَهَذَا
كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِلْعَقْلِ هُوَ
حَكِيمٌ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنِّي قَدْ رَأَيْت عَجَائِبَ
أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ فَعَلِمْت أَنَّهُ حَكِيمٌ ، فَإِذَا رَأَيْت
مَا يُصْدَرُ مَا ظَاهِرُهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ ، نَسَبْت الْعَجْزَ
إلَيَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَسْلِيمُ
الْعُقُولِ لِمَا يُنَافِيهَا ، وَذَلِكَ عِبَادَةُ الْعُقُولِ قَالَ :
وَصَارَ هَذَا كَمَا خَفِيَ عَنْ مُوسَى حِكْمَةُ فِعْلِ الْخَضِرِ ،
وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامِّيِّ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ
فَقَدْ
قَالَ الْمُتَنَبِّي : يَدِقُّ عَنْ الْأَفْكَارِ مَا أَنْتَ فَاعِلُ
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَوَامّ إذَا
رَأَى مَرَاكِبَ مُقَلَّدَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَدُورًا
مَشِيدَةً مَمْلُوءَةً بِالْخَدَمِ وَالزِّينَةِ قَالَ : اُنْظُرْ إلَى
مَا أَعْطَاهُمْ مَعَ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ ، وَلَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمْ
وَيَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ وَيَسْقَفُ حَتَّى يَقُولَ : فُلَانٌ يُصَلِّي
الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ ، وَلَا يَذُوقُ قَطْرَةَ خَمْرٍ ، وَلَا
يُؤْذِي الذَّرَّ ، وَلَا يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ ، وَيُؤَدِّي
الزَّكَاةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ ، وَلَا
يَنَالُ خُلَّةً بِقُلَّةٍ ، وَيُظْهِرُ الْإِعْجَابَ كَأَنَّهُ يَنْطِقُ
عَنْ تَخَايُلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الشَّرَائِعُ حَقًّا لَكَانَ
الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا نَرَى ، وَكَانَ الصَّالِحُ غَنِيًّا
وَالْفَاسِقُ فَقِيرًا .
مَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ
اللَّهَ أَعْطَى هَذَا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ ، بِأَنْ
يَأْكُلَ الرِّبَا وَيُفَاسِدَ الْعُقُودَ ، وَهَذَا افْتِئَاتٌ
وَتَجَوُّزٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
فَإِنَّ لِلَّهِ
كِتَابًا قَدْ مَلَأَهُ بِالنَّهْيِ وَحِرْمَانِ أَخْذِ الْمَالِ
الْحَرَامِ وَأَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَوْ كَانَ مُنْصِفًا لَقَالَ
لَهُ تَدَبَّرْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ
، فَصَارَ الْفَرِيقَانِ مَلْعُونَيْنِ ، هَذَا بِكُفْرِهِ وَهَذَا
بِارْتِكَابِ النَّهْيِ .
وَمِنْ الْفَسَادِ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ
أَنَّهُ لَا يُبْقِي فِي الْعَقْلِ ثِقَةً إلَى دَلَالَةٍ قَامَتْ عَلَى
شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ .
فَإِنَّ يَنْبُوعَ الثِّقَةِ وَمَصْدَرَهَا
إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُؤَيِّدُ غَيْرَ
الصَّادِقِ ، وَلَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ .
فَإِذَا لَمْ
تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَلَا ثِقَةَ وَقَالَ أَيْضًا : إذَا
تَأَمَّلَ الْمُتَدَيِّنُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ إنْعَامِ
الْحَقِّ اسْتَكْثَرَ لَهُمْ شَمَّ الْهَوَاءِ ، وَاسْتَقَلَّ لَهُمْ مِنْ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْثَرَ الْبَلَاءِ ، إذَا رَأَى هَذِهِ الدَّارَ
الْمُزَخْرَفَةَ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِيفِ ،
الْمُعَدَّةَ
لِجَمِيعِ التَّصَارِيفِ وَاصْطِبَاغًا وَأَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً ،
وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْعَقَاقِيرِ ، ثُمَّ إرْخَاءَ السَّحَابِ بِالْغُيُوثِ فِي زَمَنِ
الْحَاجَاتِ ثُمَّ تَطْيِيبَ الْأَمْزِجَةِ وَإِحْيَاءَ النَّبَاتِ ،
وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى أَحْسَنِ إتْقَانٍ ، وَتَسْخِيرَ
الرِّيَاحِ وَالنَّسِيمِ الْمُعَدِّ لِلْأَنْفَاسِ ، إلَى غَيْر ذَلِكَ
مِنْ النِّعَمِ ، ثُمَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ ثُمَّ سَائِرَ
الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ ، ثُمَّ إنْزَالَ الْكُتُبِ
الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْدَعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ ،
ثُمَّ اللُّطْفَ بِالْمُكَلَّفِ ، وَإِبَاحَةَ الشِّرْكِ مَعَ
الْإِكْرَاهِ ، وَأَمَرَ بِالْجُمُعَةِ فَضَايَقُوهُ فِي سَاعَةِ السَّعْي
بِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ،
وَعَظَّمُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ وَارْتَكَبُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ
حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِحُرْمَةِ كِتَابِهِ ، فَأَنَا أَسْتَقِلُّ لَهُمْ
كُلَّ مِحْنَةً .
وَقَالَ أَيْضًا : لَا تَتِمُّ الرُّجْلَةُ فِي
الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِهِ ،
وَإِشْبَاطِ أَخْلَاطِهِ وَأَفْرَاحِهِ ، وَتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ
ثَابِتًا بِثُبُوتِ الْمُتَلَقِّي وَالْمُتَوَقِّي ، فَيَتَلَقَّى
النِّعَمَ بِالشُّكْرِ لَا بِالْبَطَرِ ، مُتَمَاسِكًا عَنْ تَحَرُّكِ
الرَّعَنِ ، وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ مُسْتَسْلِمًا نَاظِرًا إلَى
الْمُبْتَلَى بِعَيْنِ الْكَمَالِ ، وَعِنْدَ اشْتِطَاطِ الْغَضَبِ
مُتَلَقِّيًا بِالْحُكْمِ ، وَعِنْدَ الشَّهَوَاتِ مُسْتَحْضِرًا
لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ كَمَنَ جَوَاهِرَ الرِّجَالِ
فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ ، ثُمَّ أَظْهَرَهَا بِابْتِلَائِهِ لِيُعْطِيَ
عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ ، وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى بَقِيَّةِ
عِبَادِهِ .
وَقَالَ : زِنُوا أَنْفُسَكُمْ : مِنْ الْمَبَادِئِ مَاءٌ
وَطِينٌ ، وَفِي الثَّوَانِي مَاءٌ مَهِينٌ ، وَفِي الْوَسَطِ عَبِيدٌ
مَحَاوِيج لَوْ حُبِسَ عَنْكُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ لَأَصْبَحْتُمْ
جِيَفًا ، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْكُمْ الْبُقُوقُ عَنْ السِّبَاعِ
لَأَكَلَتْكُمْ ، كُونُوا مُتَعَرِّفِينَ لَا عَارِفِينَ .
وَقَالَ
لَنَا : عِنْدَك ذَخَائِرُ وَوَدَائِعُ بِاَللَّهِ لَا تَضَعْهَا فِي
التُّرَّهَاتِ ، وَدُمُوعٌ وَدِمَاءٌ وَنُفُوسٌ ، بِاَللَّهِ لَا تَجْرِي
الدُّمُوعَ إلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَيَفُوتُ ، وَلَا تُرِقْ الدِّمَاءَ ،
إلَّا فِي مُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِنَا ،
وَأَنْفَاسٌ مِنْ نَفَائِسِ الذَّخَائِرِ ، فَبِحَقِّنَا لَا تَتَنَفَّسْ
الصُّعَدَاءَ إلَّا فِي الشَّوْقِ إلَيْنَا ، وَالتَّأَسُّفِ عَلَيْنَا .
كَمْ
نَخْلَعُ عَلَيْك خِلْعَةً نَفِيسَةً تَبْذُلُهَا فِي الْأَقْذَارِ ،
وَتَخْلُقُهَا فِي خِدْمَةِ الْأَغْيَارِ ، اشْتَغَلْتَ بِالصُّوَرِ ،
شَغْلَ الْأَطْفَالِ بِاللَّعِبِ ، فَاتَتْكَ أَوْقَاتٌ لَا تَتَلَافَى
إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ كَسَرْنَا عَلَيْك لُعْبَةً مِثْلَ أَنْ
نَسْلُبَك وَلَدًا مَنَحْنَاهُ ، أَخَذْت تُضَيِّعُ الدُّمُوعَ وَتَخْرُقُ
الْجُيُوبَ ، وَا أَسَفَا عَلَى أَوْقَاتٍ فَاتَتْ ، أَمَا رَأَيْت
الْمُتَدَارِكِينَ هَذَا يَقُولُ : هَلَكْت وَأَهْلَكْت ، وَهَذَا يَقُولُ
: زَنَيْت فَطَهِّرْنِي ، زَاهِدًا فِي مُصَاحَبَةِ نَفْسٍ خَائِنَةٍ
فِيمَا عَاهَدَتْ ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُقِيمُ لَهَا التَّأْوِيلَ
وَيَقُولُ : " لَعَلَّكَ قَبِلْت " وَذَاكَ مُصِرٌّ عَلَى التَّشَفِّي
مِنْ النَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ ، أَتُرَاهُ سَلَّطَ هَذِهِ
الْبَلَاوِيَ إلَّا لِيُظْهِرَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ فِي الصَّبْرِ
عَلَيْهِ وَالْغَيْرَةِ ؟ تُرَى لَوْ دَامَ الْخَلِيلُ وَالذَّبِيحُ فِي
كَتْمِ الْعَزْمِ ، كَانَ وُجِدَ لِأَخْذِ قَدَمٍ ، إلَى أَنْ قَالَ :
فَصَارَ الْوَلَدُ كَالشَّاةِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ .
أَخْجَلَ وَاَللَّهِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَظْهَرَهُ الِامْتِحَانُ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } .
أَيْنَ
التَّسْبِيحُ مِنْ عَزْمِ الذَّبْحِ وَبَذْلِ الذَّبِيحِ ؟ لَقَدْ
تَرَكَتْ هَذِهِ الْمَكَارِمُ رُءُوسَ الْكُلِّ مُنَكَّسَةً خَجَلًا
بِبُخْلِهِمْ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ ، وَنِصْفَ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ .
وَتَعْجَبُ
مِنْ قَوْلِ الدَّبُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ : إنَّ الدُّنْيَا دَارُ جَزَاءٍ
لِحَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَأَمَّا لِحَقِّهِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ
، وَإِنَّ هَذَا
خِلَافُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ
تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ } .
وَقِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مَا بَالُ
الْعُقَلَاءِ أَزَالُوا اللَّوْمَ عَمَّنْ أَسَاءَهُمْ ، قَالَ : إنَّهُمْ
عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .
وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ .
وَلِابْنِ
مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كُلُّ بَنِي آدَمَ
خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَلِأَحْمَدَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ
هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَلِلتِّرْمِذِيِّ
وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } إنْ تَغْفِرْ
اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك إلَّا أَلَمَّا .
فَصْلٌ
( فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ ) تُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ قَالَ
بَعْضُ الْأَصْحَابِ : وَتُكْرَهُ وَسَطَ النَّهَارِ نَصَّ عَلَيْهِ
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ : لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فُلَانٌ مَرِيضٌ
وَكَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ .
فَقَالَ :
لَيْسَ هَذَا وَقْتُ عِيَادَةٍ قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ هَذَا
كَرَاهِيَةُ الْعِيَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى كَلَامُ
الْأَصْحَابِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : تُسْتَحَبُّ الْعِيَادَةُ
بُكْرَةً وَعَشِيَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ عُدْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَرِيضًا بِاللَّيْلِ
وَكَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ قَالَ لِي : فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
يُعَادُ بِاللَّيْلِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ
عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أُمِّ
الْعَلَاءِ عَمَّةِ حَزَامِ بْنِ حَكِيمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَتْ : {
عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
مَرِيضَةٌ وَقَالَ : أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ فَإِنَّ مَرَضَ
الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ ، كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ
خَبَثَ الْحَدِيدِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ :
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرِضَ الْحَبِيبُ فَعُدْتُهُ فَمَرِضْت مِنْ
حَذَرِي عَلَيْهِ فَأَتَى الْحَبِيبُ يَعُودُنِي فَشُفِيتُ مِنْ نَظَرِي
إلَيْهِ .
فَصْلٌ الْتِقَاط مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ .
قَالَ
الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ رَأَيْت أَبِي إذَا
وَقَعَتْ مِنْهُ قِطْعَةٌ فَأَكْثَرُ لَا يَأْخُذُهَا وَلَا يَأْمُرُ
أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَهَا فَقُلْت لَهُ يَوْمًا يَا أَبَتِ السَّاعَةَ
سَقَطَتْ مِنْك هَذِهِ الْقِطْعَةُ فَلِمَ لَا تَأْخُذُهَا ؟ فَقَالَ
رَأَيْتُهَا وَلَكِنِّي لَا أُعَوِّدُ نَفْسِي أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ
الْأَرْضِ كَانَ لِي أَوْ لِغَيْرِي .
وَهَذَا رَأْيٌ مِنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَوْلَى أَخْذُ مَا لَا يَجِبُ
الْتِقَاطُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ النَّفْعِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ
مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَكَذَا أَخْذُ مَا وَقَعَ مِنْهُ بَلْ يُنْهَى
عَنْ تَرْكِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
فَصْلٌ ( فِي أَدَبِ الصُّحْبَةِ وَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْمَلَلِ وَالْقَطِيعَةِ ) .
قَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنِّي
لَأُحِبُّ أَنْ أَصْحَبَكَ إلَى مَكَّةَ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ
إلَّا أَنِّي أَخَافُ أَمَلَّكَ أَوْ تَمَلَّنِي ، فَلَمَّا وَدَّعْتُهُ
قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُوصِينِي بِشَيْءٍ قَالَ نَعَمْ أَلْزِمْ
التَّقْوَى قَلْبَكَ ، وَاجْعَلْ الْآخِرَةَ أَمَامَكَ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ إنِّي
أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ قَالَ فَلَا تَصْحَبْ رَجُلًا
يَكْرُمُ عَلَيْكَ فَيَنْقَطِعَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَعَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْت لِصَدِيقٍ لِي مِنْ قُرَيْشٍ تَعَالَى أُوَاضِعُك
الرَّأْيَ فَانْظُرْ أَيْنَ رَأْيِي مِنْ رَأْيِك فَقَالَ لِي دَعْ
الْمَوَدَّةَ عَلَى حَالِهَا قَالَ فَغَلَبَنِي الْقُرَيْشِيُّ بِعَقْلِهِ
.
وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى صَاحِبٍ لَهُ مَرِضَ حَتَّى
فَاتَهُ الْحَجُّ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ قَدْ كُنْتُ رَافَقْتُ يَحْيَى وَنَحْنُ بِالْكُوفَةِ فَمَرِضَ
قَالَ فَتَرَكْتُ سَمَاعِي وَرَجَعْتُ مَعَهُ إلَى بَغْدَادَ قَالَ
فَكَانَ يَحْيَى يَشْكُرُ لِي ذَلِكَ .
فَصْلٌ ( فِي حُسْنِ
الْخُلُقِ ) قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ ، قِيلَ لَهُ
الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَلَمْ يَرَ
ذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ
لَا تَغْضَبَ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
مَنْصُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ
فَقَالَ هُوَ أَنْ يَحْتَمِلَ مِنْ النَّاسِ مَا يَكُونُ إلَيْهِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي تَفْسِيرِ حُسْنِ الْخُلُقِ فَأَنْشَدَ هَذَا الْبَيْتَ .
تَرَاهُ
إذَا مَا جِئْته مُتَهَلِّلَا كَأَنَّك مُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ
سَائِلُهْ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَاءَ
خُلُقُهُ سَاءَ دِينُهُ ، وَحَسْبُهُ مَوَدَّتُهُ .
وَقَالَ مُهَنَّا
سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ وَوَقَعَ فِي
شَيْءٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ أُعِينُ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَالَ
لَا بَلْ اشْفَعْ فِيهِ إنْ قَدَرْت قُلْت سَرَقَنِي فِي الْمِكْيَالِ
وَالْمِيزَانِ أَدُسُّ إلَيْهِ مَنْ يُوقِفُهُ عَلَى السَّرِقَةِ قَالَ
إنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ فَقَدَرْت أَنْ تَشْفَعَ لَهُ فَاشْفَعْ لَهُ
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ
بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ
الْخُلُقِ } .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا
النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ
وَحُسْنُ الْبِشْرِ } وَفِي حُسْنِ الْخُلُقِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ
أَخْلَاقًا } .
وَفِي بَعْضِ طُرُقٍ لِلْبُخَارِيِّ { إنَّ خِيَارَكُمْ
أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا } بِإِسْقَاطِ مِنْ وَقَالَ أَبُو دَاوُد
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَبُو
الْجُمَاهِرِ ثَنَا أَبُو كَعْبٍ أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيُّ
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ { أَنَا زَعِيمُ بَيْتٍ فِي رَبَضِ
الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبَيْتٍ فِي
وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا
وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ } أَيُّوبُ
تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْجُمَاهِرِ لَكِنَّهُ ثِقَةٌ .
وَعَنْ
سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ
وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ تَرَكَ
الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا ، وَمَنْ حَسُنَ
خُلُقُهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا } سَلَمَةُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَعَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقُولُ { اللَّهُمَّ أَحْسَنْت خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي } وَعَنْ
عَائِشَةَ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَصَحَّحَ
ابْنُ حِبَّانَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
كِتَابِ الدَّعَوَاتِ .
وَقَالَ فِيهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ
ذَكَرَهُ ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي كِتَابِ
الْأَدْعِيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَفِي آخِرِهِ {
وَحَرِّمْ وَجْهِي عَلَى النَّارِ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
أَيْ وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَالشُّؤْمُ
ضِدُّ الْيُمْنِ يُقَالُ تَشَاءَمْت بِالشَّيْءِ وَتَيَمَّنْت بِهِ ،
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ
هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ الْبَرَاءُ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ
خُلُقًا } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ
قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
قِيلَ دِينُ الْإِسْلَامِ .
وَقِيلَ
أَدَبُ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الطَّبْعُ الْكَرِيمُ
فَسُمِّيَ خُلُقًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْخِلْقَةِ فِي صَاحِبِهِ .
فَأَمَّا
مَا طُبِعَ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى الْخِيمَ فَيَكُونُ الْخِيمُ الطَّبْعُ
الْغَرِيزِيُّ وَالْخُلُقُ الطَّبْعُ الْمُتَكَلَّفُ .
انْتَهَى
كَلَامُهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْخُلْقُ وَالْخُلُقُ السَّجِيَّةُ
وَفُلَانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ أَيْ يَتَكَلَّفُهُ قَالَ
الشَّاعِرُ يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ إنَّ
التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ قَالَ وَالْخِيمُ بِالْكَسْرِ
السَّجِيَّةُ وَالطَّبِيعَةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ فَدَلَّ
عَلَى التَّرَادُفِ خِلَافَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ فِي
النِّهَايَةِ الْخُلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا الدِّينُ
وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ .
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ
الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا
الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ
وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا وَلَهَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ
وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ
الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ
الظَّاهِرَةِ وَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ الْأَحَادِيثُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ
وَذَمِّ سُوءِ الْخُلُقِ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا
سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ : { كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ } .
أَيْ كَانَ مُتَمَسِّكًا
بِآدَابِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ
الْمَكَارِمِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْأَلْطَافِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي
قَتَادَةَ { فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَمَّا
لَحِقَهُمْ وَقَدْ عَطِشُوا فَقَالَ لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ بِضَمِّ
الْهَاءِ الْهَلَاكُ ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا إلَيَّ غُمَرِي بِضَمِّ
الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالرَّاءِ وَهُوَ الْقَدَحُ
الصَّغِيرُ وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ فَلَمْ
يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسِنُوا
الْمَلَأَ كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا
بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْت لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ
فَشَرِبْت وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالْمَلَأُ
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ مَنْصُوبٌ مَفْعُولُ
أَحْسِنُوا وَالْمَلَأُ الْخُلُقُ وَالْعِشْرَةُ يُقَالُ مَا أَحْسَنَ
مَلَأَ فُلَانٍ أَيْ خُلُقَهُ وَعِشْرَتَهُ وَمَا أَحْسَنَ مَلَأَ بَنِي
فُلَانٍ أَيْ عِشْرَتَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ .
كَانَ يُقَالُ مَنْ سَاءَ
خُلُقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ وَمَا اكْتَسَبَ
الْمَحَامِدَ طَالِبُوهَا بِمِثْلِ الْبِشْرِ وَالْوَجْهِ الطَّلِيقِ
وَقَالَ آخَرُ : خَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ لَا تَكُنْ كَلْبًا
عَلَى النَّاسِ تَهِرُّ وَقَالَ آخَرُ وَمَا حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ
الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ أَخْلَاقًا تُذَمُّ وَتُمْدَحُ .
وَلِأَبِي
دَاوُد عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَنْطَبِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا .
{ إنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ } .
كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ وَالْمُطَّلِبُ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُ وَقَالَ
أَبُو زُرْعَةَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ .
وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ لَمْ يُدْرِكْهَا ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا {
مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ } إسْنَادٌ
جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَعْنَى حَدِيثِ
عَائِشَةَ .
وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ
النَّاسَ الْجَنَّةَ قَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ
عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ قَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ
} رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَعَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ
تَتَزَوَّجُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ ثُمَّ تَدْخُلُ
الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجُهَا قَالَ إنَّهَا
تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّ
سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فِي
إسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَعَنْ
مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ مُعَاذٍ وَأَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا {
اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ
تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ } سَنَدُهُ جَيِّدٌ إلَى
مَيْمُونٍ وَمَيْمُونٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ
وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ } وَلِمُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ