الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ
بِالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ : وَإِنَّهُ قَدِمَ مَرَّةً
مِنْ سَفَرِهِ فَسَبَقَ بِي إلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ
جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ إمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا حُسَيْنٌ
فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ قَالَ : فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى
دَابَّةٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد
( بَابٌ فِي رُكُوبِ ثَلَاثَةٍ عَلَى دَابَّةٍ ) .
وَفِي الْبُخَارِيِّ
عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ
عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ } .
وَقَدْ رَوَى
أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
عَنْ وَكِيعٍ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ عَنْ زَاذَانَ قَالَ : { رَأَى
عَلِيٌّ ثَلَاثَةً عَلَى بَغْلٍ فَقَالَ : لِيَنْزِلْ أَحَدُكُمْ فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الثَّالِثَ } .
إسْنَادٌ
جَيِّدٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ تَطُقْ
الثَّلَاثَةَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
وَمَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ
التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى
يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
خَوْلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ
وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرٍ
فَلْيُعَجِّلْ إلَى أَهْلِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، نَهْمَتُهُ
مَقْصُودُهُ .
فَصْلٌ ( مَا يَحْرُمُ مِنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ ذِي
رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا ) .
قَالَ
فِي الْمُسْتَوْعِبِ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ غَيْرِ
ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ ،
وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَأَكْثَرَ لَا فِي حَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا
نَافِلَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ وَخَوْفٍ عَلَى
نَفْسِهَا وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ : وَفِي اعْتِبَارِ الْمَحْرَمِ فِي
السَّفَرِ الْقَصِيرِ رِوَايَتَانِ وَقَدَّمَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ
وَالرِّعَايَةِ اعْتِبَارَ الْمَحْرَمِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ .
وَمَعْلُومٌ
أَنَّ السَّفَرَ الْقَصِيرَ عِنْدَنَا مَا دُونَ الْيَوْمَيْنِ ، وَعَنْ
أَحْمَدَ لَا يُعْتَبَرُ الْمَحْرَمُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ .
وَالْمَذْهَبُ
اعْتِبَارُهُ ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ
الْأَمْنِ وَعَدَمِ سُوءِ الظَّنِّ ؟ يَتَوَجَّهُ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ إرَادَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرْدِفَ أَسْمَاءً يَخْتَصُّ
بِهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ الْجَوَازَ وَاخْتَارَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَنْعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ سَفَرِ الرَّجُلِ وَمَبِيتِهِ وَحْدَهُ )
.
قَالَ
الْخَلَّالُ ( مَا يُكْرَهُ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ
يُسَافِرَ وَحْدَهُ ) أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ
لَا يُسَافِرُ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَلَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ
وَحْدَهُ وَقَالَ جَعْفَرٌ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَبِيتُ
وَحْدَهُ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَقَّى ذَلِكَ قَالَ :
وَسَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُسَافِرُ وَحْدَهُ قَالَ : لَا
يُعْجِبُنِي .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحَسَنِ : مَا أُحِبُّ ذَلِكَ يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَّا أَنْ
يُضْطَرَّ مُضْطَرٌّ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يَسِيرُ
وَحْدَهُ : مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَقَالَ : قَالَ
الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدَ إلَى رَجُلٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي
الرَّجُلِ يُسَافِرُ وَحْدَهُ ) ثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ
شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ } حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ .
فَصْلٌ ( فِيمَا يَقُولُ مَنْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ أَوْ ضَلَّ
الطَّرِيقَ ) .
وَرَوَى
ابْنُ السُّنِّيِّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ
فَلَاةٍ فَلْيَقُلْ يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا فَإِنَّ لِلَّهِ فِي
الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إمَامِنَا
أَحْمَدَ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : حَجَجْت خَمْسَ حِجَجٍ مِنْهَا
اثْنَتَيْنِ رَاكِبًا وَثَلَاثًا مَاشِيًا فَجَعَلْت أَقُولُ يَا عِبَادَ
اللَّهِ دُلُّونَا عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى
وَقَعْت عَلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبِي .
فَصْلٌ ( فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ أَخْذِ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ
لِحْيَةِ الرَّجُلِ ) .
قَالَ
الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الشَّيْءَ مِنْ لِحْيَةِ
الرَّجُلِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْخَفَّافُ : أَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مِنْ لِحْيَةِ رَجُلٍ شَيْئًا فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْشٍ
أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ : فِيهِ شَيْءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ :
لَا عَدِمْت نَافِعًا قَالَ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ
الْمَدِينِيُّ قَالَ : سَمِعْت عَبَّاسَ بْنَ صَالِحٍ يَقُولُ : وَقَدْ
أَخَذَ رَجُلٌ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عَبَّاسٌ لَا عَدِمْت
نَافِعًا قَالَ : يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ نَفَعَهُ لَا عَدِمَهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ ( بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَأُنْسِ
الْمَجَالِسِ لَهُ ) عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لَوْ أَنَّ إنْسَانًا أَخَذَ
مِنْ رَأْسِي شَيْئًا قُلْت : صَرَفَ اللَّهُ عَنْك السُّوءَ .
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ : إذَا أَخَذَ أَحَدٌ عَنْك شَيْئًا فَقُلْ أَخَذْت
بِيَدِك خَيْرًا .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ أَخَذَ عَنْهُ أَذًى :
نَزَعَ اللَّهُ عَنْك مَا تَكْرَهُ يَا أَبَا أَيُّوبَ } .
وَفِي
الْأَدَبِ لِأَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ ( مَا يُسْتَحَبُّ إذَا أَخَذَ
مِنْ لِحْيَةِ الرَّجُلِ شَيْئًا أَنْ يُرِيَهُ إيَّاهُ ) ثُمَّ رُوِيَ
أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنْ لِحْيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا
وَكَانَ لَا يَزَالُ يَفْعَل ذَلِكَ فَأَخَذَ عُمَرُ يَدَهُ ذَاتَ يَوْمٍ
فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ : أَمَا اتَّقَيْت اللَّهَ ؟ أَمَا
عَلِمْت أَنَّ الْمَلَقَ كَذِبٌ ؟ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ
عُمَرَ قَالَ : إذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ مِنْ رَأْسِ أَخِيهِ شَيْئًا
فَلْيُرِهِ إيَّاهُ قَالَ الْحَسَنُ : نَهَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ
الْمَلَقِ .
فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ السِّيَاحَةِ إلَى غَيْرِ مَكَان
مَعْلُومٍ وَلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ ) .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ لَا لِمَقْصُودٍ وَلَا
إلَى مَكَان مَعْرُوفٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تَبَتُّلَ وَلَا سِيَاحَةَ فِي
الْإِسْلَامِ } وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا السِّيَاحَةُ مِنْ
الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ ، وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا
الصَّالِحِينَ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُشَتِّتُ الْقَلْبَ فَلَا يَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ أَنْ يُسَافِرَ إلَّا فِي طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةِ
شَيْخٍ يَقْتَدِي بِهِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ قَالَ : سِيَاحَةُ
أُمَّتِي الصَّوْمُ ، وَرَهْبَانِيّتهمْ الْجِهَادُ } .
وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ : { سِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ
وَرَهْبَانِيّتهمْ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ }
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي أَنَّ { السِّيَاحَةَ الصَّوْمُ } فَرَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي أَنَّ { السِّيَاحَةَ
الْجِهَادُ } فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَبُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
وَرَوَى
ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ } .
وَعَنْ
عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { السَّائِحُونَ } قَالَ : هُمْ طَلَبَةُ
الْحَدِيثِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخَيَّاطُ : سَأَلْت أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ مَا تَقُولُ فِي السِّيَاحَةِ ؟ قَالَ : لَا ، التَّزْوِيجُ
وَلُزُومُ الْمَسْجِدِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ .
فَصْلٌ
( فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَطَاعَتِهِمَا وَوَلِيِّ الْأَمْرِ
وَالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ وَمُعَلِّمِ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ) .
قَالَ
فِي الْمُسْتَوْعِبِ : وَمِنْ الْوَاجِبِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ
كَانَا فَاسِقَيْنِ وَطَاعَتُهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ
تَعَالَى ، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَلْيُصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا ، وَلَا يُطِعْهُمَا فِي كُفْرٍ وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُعَلِّمَا وَلَدَهُمَا الْكِتَابَةَ وَمَا
يُتْقِنُ بِهِ دِينَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ ، وَالسِّبَاحَةَ
وَالرَّمْيَ وَأَنْ يُوَرِّثَهُ طَيِّبًا ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِوَالِدَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ وَأَنْ يَصِلَ
رَحِمَهُ ، وَعَلَيْهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ ،
وَفُرِضَ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ لِإِمَامِهِ ، وَطَاعَتُهُ فِي غَيْرِ
مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَالذَّبُّ عَنْهُ وَالْجِهَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ
إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ لِذَلِكَ ، وَاعْتِقَادُ إمَامَتِهِ وَإِنْ بَاتَ
لَيْلَةً لَا يَعْتَقِدُ فِيهَا إمَامَتَهُ فَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي
رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي غُلَامٍ يَصُومُ وَأَبَوَاهُ
يَنْهَيَانِهِ عَنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ : مَا يُعْجِبُنِي أَنْ
يَصُومَ إذَا نَهَيَاهُ ، لَا أُحِبُّ أَنْ يَنْهَاهُ يَعْنِي عَنْ
التَّطَوُّعِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ يَصُومُ
التَّطَوُّعَ فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفْطِرَ قَالَ
: يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : يُفْطِرُ وَلَهُ أَجْرُ
الْبِرِّ وَأَجْرُ الصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ
بْنِ مُوسَى : إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا
الْمَكْتُوبَةَ قَالَ : يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ : فَفِي الصَّوْمِ كُرِهَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ إذَا نَهَاهُ
وَاسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَالَ
يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ نَصَّ
أَحْمَدُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ إذَا سَأَلَهُ أَحَدُ
وَالِدَيْهِ ، ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ
وَالِدٌ يَكُونُ جَالِسًا فِي بَيْتٍ مَفْرُوشٍ بِالدِّيبَاجِ يَدْعُوهُ
لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ قَالَ : لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ قُلْت : يَا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ وَالِدُهُ أَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : يَلُفُّ
الْبِسَاطَ مِنْ تَحْتِ رِجْلَيْهِ وَيَدْخُلُهُ .
وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ الْمُقْرِي فِي الرَّجُلِ
يَأْمُرُهُ وَالِدُهُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِهِ قَالَ
يُؤَخِّرُهَا قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : فَلَوْ كَانَ
تَأْخِيرُهَا لَا يَجُوزُ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَنْهَاهُ أَبُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ
فِي جَمَاعَةٍ قَالَ لَيْسَ طَاعَتُهُ فِي الْفَرْضِ .
وَقَالَ
الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ فُصُولِ الْقُرُبَاتِ
عُقَيْبَ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ فَقَدْ أَمَرَ بِطَاعَةِ
أَبِيهِ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ ،
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ نُدِبَ إلَى طَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَرْكِ
صَوْمِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً
وَطَاعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ هَارُونَ الْمَذْكُورَةَ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي دَاوُد : إنْ كَانَ لَهُ
أَبَوَانِ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ ، أَوْ
كَانَ شَابًّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ
يَتَزَوَّجَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ فِي حَجِّ
التَّطَوُّعِ إنَّ لِلْوَالِدِ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ
؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ
الْكِفَايَاتِ ، وَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ ( لَا
يُجَاهِدُ مَنْ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا يَعْنِي
تَطَوُّعًا ) إنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَإِنَّهُ
قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَجَّ
بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ : وَلِأَنَّ بِرَّ
الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ
الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ سَقَطَ
إذْنُهُمَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ
مَا وَجَبَ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ وَالسَّفَرِ
لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ
الْأَبَوَيْنِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ .
وَظَاهِرُ هَذَا التَّعْلِيلِ
أَنَّ التَّطَوُّعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ الْوَالِدَيْنِ كَمَا يَقُولهُ
فِي الْجِهَادِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَالْمَعْرُوفُ اخْتِصَاصُ الْجِهَادِ
بِهَذَا الْحُكْمِ وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا
يُسَافِرُ لِمُسْتَحَبٍّ إلَّا بِإِذْنِهِ كَسَفَرِ الْجِهَادِ .
وَأَمَّا
مَا يَفْعَلُهُ فِي الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُهُ وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَعْتَبِرُهُ وَلَا
وَجْهَ لَهُ وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَتَوَجَّهُ
أَنْ يُرَادَ بِالسَّفَرِ مَا فِيهِ خَوْفٌ كَالْجِهَادِ مَعَ أَنَّ
الْجِهَادَ يُرَادُ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَمِثْلُهُ الدُّخُولُ فِيمَا
يُخَافُ فِي الْحَضَرِ كَإِطْفَاءِ حَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا
ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الْمَدِينِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ
بِغَيْرِ إذْنِ الْغَرِيمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي
الرَّجُلِ
يَغْزُو وَلَهُ وَالِدَةٌ قَالَ إذَا أَذِنَتْ لَهُ وَكَانَ لَهُ مَنْ
يَقُومُ بِأَمْرِهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد يَظْهَرُ
سُرُورُهَا قَالَ : هَلْ تَأْذَنُ لِي قَالَ إنْ أَذِنَتْ لَك مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهَا وَإِلَّا فَلَا تَغْزُ وَقَالَ
الْمَيْمُونِيُّ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَانَ الشَّافِعِيُّ
يَقُولُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضٌ قَالَ لَا أَدْرِي قُلْت : فَمَالِكٌ
قَالَ : وَلَا أَدْرِي قُلْت : فَتَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ فَرْضٌ
قَالَ : لَا أَعْلَمُهُ قُلْت : مَا تَقُولُ أَنْتَ فَرْضٌ قَالَ : فَرْضٌ
؟ هَكَذَا وَلَكِنْ أَقُولُ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً .
ثُمَّ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَلَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَقَالَ { : أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك } .
قَالَ
الْمَيْمُونِيُّ قَالَ : عَلِيٌّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ { سَأَلْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ
؟ قَالَ : الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ }
وَيَقُولُ فِي الْجِهَادِ : { الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ
رِجْلَيْهَا } وَيَقُولُ : { ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا مِنْ حَيْثُ
أَبْكَيْتَهُمَا } قُلْت : فِيهِ تَغْلِيظٌ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ قَالَ
: نَعَمْ .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ
السَّبَقِ وَالرَّمْيِ : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ
فَرْضٌ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِرَّ الْجَدِّ فَرْضٌ ، كَذَا قَالَ ،
وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَاجِبٌ .
وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي
الْجَدِّ فِيهِ نَظَرٌ ، وَلِهَذَا عِنْدَنَا يُجَاهِدُ الْوَلَدُ وَلَا
يَسْتَأْذِنُ الْجَدَّ وَإِنْ سَخِطَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
الْمَرُّوذِيِّ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ .
وَكَذَا
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَكْحُولٍ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي
الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَنْ أَغْضَبَ وَالِدَيْهِ
وَأَبْكَاهُمَا يَرْجِعُ فَيُضْحِكُهُمَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ { : جَاءَ
رَجُلٌ
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبَايَعَهُ فَقَالَ : جِئْت لِأُبَايِعَك عَلَى الْجِهَادِ وَتَرَكْت
أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ : ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا
أَبْكَيْتَهُمَا } وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ قَوْلِ
أَبِي بَكْرٍ : هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ يَبْرَأَ فِي جَمِيعِ
الْمُبَاحَاتِ فَمَا أَمَرَاهُ ائْتَمَرَ وَمَا نَهَيَاهُ انْتَهَى ،
وَهَذَا فِيمَا كَانَ مَنْفَعَةً لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ
ظَاهِرٌ مِثْلُ تَرْكِ السَّفَرِ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ عَنْهُمَا نَاحِيَةً
.
وَاَلَّذِي يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يُسْتَضَرُّ هُوَ
بِطَاعَتِهِمَا فِيهِ قِسْمَانِ : قِسْمٌ يَضُرُّهُمَا تَرْكُهُ فَهَذَا
لَا يُسْتَرَابُ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِيهِ ، بَلْ عِنْدَنَا هَذَا
يَجِبُ لِلْجَارِ .
وَقِسْمٌ يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ
أَيْضًا طَاعَتُهُمَا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ ، فَأَمَّا مَا
كَانَ يَضُرُّهُ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُمَا فِيهِ
لَكِنْ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ ، وَإِنَّمَا لَمْ
يُقَيِّدْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنْ
الطَّهَارَةِ وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ تَسْقُطُ بِالضَّرَرِ
فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا بَنَيْنَا
أَمْرَ التَّمَلُّكِ فَإِنَّا جَوَّزْنَا لَهُ أَخْذَ مَا لَهُ مَا لَمْ
يَضُرُّهُ ، فَأَخْذُ مَنَافِعِهِ كَأَخْذِ مَالِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِهِ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ
بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَبْدِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
: نُصُوصُ أَحْمَدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ
الْفَرْضِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَعَدَمِ
تَأْخِيرِ الْحَجِّ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ
تَسْأَلُهُ أُمُّهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِلْحَفَةً لِلْخُرُوجِ قَالَ :
إنْ كَانَ خُرُوجُهَا فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ كَعِيَادَةِ
مَرِيضٍ أَوْ جَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ لَا بَأْسَ ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يُعِينُهَا عَلَى الْخُرُوجِ وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ لَهُ إنْ أَمَرَنِي أَبِي
بِإِتْيَانِ السُّلْطَانِ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ قَالَ لَا .
وَذَكَرَ
أَبُو الْبَرَكَاتِ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ
مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ ، وَكَذَا الْمُكْرِي وَالزَّوْجُ
وَالسَّيِّدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ أَحْمَدَ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ ،
وَمُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا
تَأَكَّدَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ فَلَا يُطِيعُهُ
فِيهِ ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ لَا يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ
نَفْلٍ مُؤَكَّدٍ كَطَلَبِ عِلْمٍ لَا يَضُرُّهُمَا بِهِ وَتَطْلِيقِ
زَوْجَةٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ قَالَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { :
لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَطَلَاقُ زَوْجَتِهِ لِمُجَرَّدِ هَوًى
ضَرَرٌ بِهَا وَبِهِ .
وَظَاهِرُ مَا سَبَقَ وُجُوبُ طَاعَةِ
الْوَالِدِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ السَّابِقِ فِي قَوْلُهُ :
وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ لِأَنَّ الْكَافِرَيْنِ لَا تَجِبُ
طَاعَتُهُمَا وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا إذْنَ
لَهُمَا فِي الْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، وَيُعَامِلُهُمَا
بِمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ اتِّبَاعًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَتْ
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { جَاءَتْنِي
أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ
ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
فَأَمَرَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَقْبَلَ
هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةٌ
فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يَنْصِبُوا الْحَرْبَ لِلْمُسْلِمِينَ
وَجَوَازِ بِرِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً ،
وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ نَسْخُهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا آيَةُ السَّيْفِ
.
قَالَ : وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : لَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّ بِرَّ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَارِبِينَ قَرَابَةً كَانُوا أَوْ غَيْرَ قَرَابَةٍ
لَا يَحْرُمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقْوِيَةٌ عَلَى الْحَرْبِ
بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى عَوْرَةِ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ .
وَلَنَا قَوْلٌ لَا تَصِحُّ
الْوَصِيَّةُ لِحَرْبِيٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاحْتَجَّ
فِي الْمُغْنِي عَلَيْهِمْ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرَ إلَى
أَخِيهِ الْمُشْرِكِ وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ قَالَ : وَهَذَانِ فِيهِمَا
صِلَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي
حَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ
وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَةُ
الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمِ لَا سِيَّمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ
وَالطَّاعَاتِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَكِنْ يُعَامَلُ بِمَا ذَكَرَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا سَبِيلَ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إلَى
مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا وَطَاعَتُهُمَا
حِينَئِذٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ مَعُونَةٌ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ
أَنْ يَبَرَّهُمَا وَيُطِيعَهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، كَذَا
قَالَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِحْبَابِ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ : إنَّ
لِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعَ بِزَوْجَتِهِ مَا لَمْ يَشْغَلْهَا عَنْ
الْفَرَائِضِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا .
وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَصُومُ فَيَمْنَعُهَا زَوْجُهَا تَرَى لَهَا أَنْ تَصُومَ ؟ قَالَ : لَا تَصُومُ وَلَا تُحْدِثُ فِي نَفْسِهَا مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا ، إلَّا الْوَاجِبَ الْفَرْضَ ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتُطِيعُهُ ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ مَعْنَى ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ : وَتُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَهَا بِهِ مِنْ الطَّاعَةِ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَبْدِ
يُرْسِلُهُ مَوْلَاهُ فِي حَاجَةٍ فَتَحْضُرُهُ الصَّلَاةُ قَالَ : إذَا
عَلِمَ أَنَّهُ إذَا قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ أَصَابَ مَسْجِدًا يُصَلِّي
فِيهِ قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ
مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ صَلَّى ثُمَّ قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : إنْ وَجَدَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ
قَضَى حَاجَةَ مَوَالِيهِ وَإِنْ صَلَّى فَلَا بَأْسَ .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَنْ زَلَّاتِ
الْوَالِدَيْنِ يَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَنْ زَلَّاتِ الْقُرُونِ
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَإِذَا شَبَّهْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ يَجِبُ
تَوْقِيرُهُمْ وَاحْتِرَامُهُمْ كَمَا فِي الْوَالِدَيْنِ .
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ مِنْ أَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فَرْضٌ
فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالْآخَرُونَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَعَلَّ مُرَادَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مَا يَرْجِعُ إلَى
السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الطَّاعَةِ
، وَتَحْرُمُ فِي الْمَعْصِيَةِ .
وَتُسَنُّ
فِي الْمَسْنُونِ ، وَتُكْرَهُ فِي الْمَكْرُوهِ ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ طَاعَةُ سَيِّدِهِ فَلَوْ قُلْنَا لَيْسَتْ
صَلَاةُ الْجُمُعَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ لَمْ تَلْزَمْهُ وَإِنْ
أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا
يَجِبُ بِالشَّرْعِ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إجْبَارَهُ عَلَيْهِ عَلَى
وَجْهِ التَّعَبُّدِ كَالنَّوَافِلِ ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْمَعَالِي ابْنُ الْمُنَجَّا أَنَّ الْإِمَامَ
لَوْ نَذَرَ الِاسْتِسْقَاءَ مِنْ الْجَدْبِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ
انْعَقَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَهُمْ .
وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يَأْمُرُ الشُّهُودَ إذَا شَهِدُوا عَلَى
السَّارِقِ
أَنْ يَلُوا قَطْعَ يَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ بَلْ
طَاعَةُ الْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ فِي هَذَا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهُ
أَمْرٌ بِمَشْرُوعٍ وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ فِي قَوْلِ
مَرْوَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ : عَزَمْت عَلَيْك إلَّا
مَا ذَهَبْت إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْت عَلَيْهِ مَا يَقُولُ .
يَعْنِي مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ .
قَالَ
: أَيْ أَمَرْتُك أَمْرًا جَازِمًا عَزِيمَةً مُجْتَمِعَةً ، وَأَمْرُ
وُلَاةِ الْأُمُورِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَالَ فِي
قَوْلِ عَمَّارٍ لَمَّا حَدَّثَ بِتَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَقَالَ لَهُ
عُمَرُ : اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ .
قَالَ : إنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ .
مَعْنَى
قَوْلِ عُمَرَ تَثَبَّتْ فَلَعَلَّك نَسِيت أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْك ،
وَمَعْنَى قَوْلِ عَمَّارٍ إنْ رَأَيْتَ الْمَصْلَحَةَ فِي إمْسَاكِي عَنْ
التَّحْدِيثِ بِهِ رَاجِحَةً مَصْلَحَةَ تَحْدِيثِي أَمْسَكْتُ فَإِنَّ
طَاعَتَك وَاجِبَةٌ عَلَيَّ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ .
وَأَصْلُ تَبْلِيغِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ قَدْ حَصَلَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ تَحْدِيثًا
شَائِعًا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَعَنْ
ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ
الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ
فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ } .
وَعَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي
الْمَعْرُوفِ } مُخْتَصَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ أُخِذَ
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى ظَاهِرِهِ تَوَجَّهَ أَنْ تُخَرَّجَ
مَسْأَلَتُهُ بِمَا لَوْ أُمِرَ بِالصِّيَامِ لِأَجْلِ الِاسْتِسْقَاءِ
هَلْ يَجِبُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى فَلَّاحٍ أَوْ غَيْرِهِ
وَأَمَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِصَرْفِهِ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ
وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَنِعَ
مِنْ ذَلِكَ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَيَنْبَغِي احْتِرَامُ
الْمُعَلِّمِ وَالتَّوَاضُعُ لَهُ ، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ
مَعْرُوفٌ وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ كُرَّاسٍ فِي الْفُصُولِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَضَائِلَ أَحْمَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ
فِي الْعِلْمِ وَالْعَالِمِ وَبَعْدَ فُصُولِ آدَابِ الْإِنْسَانِ فِيمَنْ
مَشَى مَعَ إنْسَانٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ
قَبْلَ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ فِي الْإِجْمَاعِ : اتَّفَقُوا عَلَى
إيجَابِ تَوْقِيرِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْفَاضِلُ
وَالْعَالِمُ وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فَاتِحَةِ
الْعِلْمِ أَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ
لِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ ، وَالْوَالِدُ سَبَبٌ لِحُصُولِ
الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ وَعَلَى هَذَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَحْرُمُ
مُخَالَفَتُهُ ، وَأَظُنُّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْعِلْمِ لَا مُطْلَقًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ( فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُشْتَبَهِ فِيهِ
وَحُكْمِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ مِنْ الْحَرَامِ ) .
هَلْ
تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ وَهُوَ مَا
بَعْضُهُ حَلَالٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ ؟ يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ
تَحْرِيمِ تَنَاوُلِهِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ فِي الْمَذْهَبِ ( أَحَدُهُمَا
) التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا قَطَعَ بِهِ شَرَفُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ
الْوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ الْمُنْتَخَبِ ذَكَرَهُ قُبَيْلَ بَابِ
الصَّيْدِ .
وَعَلَّلَ الْقَاضِي وُجُوبَ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ
الْحَرْبِ بِتَحْرِيمِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِاخْتِلَاطِ
الْأَمْوَالِ لِأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَوَضْعِهِ فِي غَيْرِ
حَقِّهِ قَالَ الْأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ
كَمَا قُلْنَا فِي اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ بِالنَّجِسَةِ ،
وَقَدَّمَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ فِي مَسْأَلَةِ
اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ
يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ قَالَ : لَا ،
قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ
الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَلَالُ
بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا
يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ
فِي الْحَرَامِ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ : إذَا دَخَلْت عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ
وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ .
.
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
مَرْفُوعًا { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
( وَالثَّانِي ) إنْ زَادَ الْحَرَامُ عَلَى الثُّلُثِ حَرُمَ الْأَكْلُ
وَإِلَّا فَلَا ،
قَدَّمَهُ
فِي الرِّعَايَةِ لِأَنَّ الثُّلُثَ ضَابِطٌ فِي مَوَاضِعَ ( وَالثَّالِثُ
) إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْحَرَامَ حَرُمَ وَإِلَّا فَلَا إقَامَةَ
لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ ، قَطَعَ
بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ أَنَّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَدْ نَقَلَ الْأَثْرَمُ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَنْ وَرِثَ مَالًا
يَنْبَغِي إنْ عَرَفَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَنْ يَرُدَّهُ وَإِذَا كَانَ
الْغَالِبُ فِي مَالِهِ الْفَسَادَ تَنَزَّهَ عَنْهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا ،
وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ فِي الرَّجُلِ يَخْلُفُ مَالًا إنْ كَانَ
غَالِبُهُ نَهْبًا أَوْ رِبًا يَنْبَغِي لِوَارِثِهِ أَنْ يَتَنَزَّهَ
عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُعْرَفُ ، وَنَقَلَ عَنْهُ
أَيْضًا هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ وَرَثَةِ إنْسَانٍ مَالًا
مُضَارَبَةً يَنْفَعُهُمْ وَيَنْتَفِعُ قَالَ إنْ كَانَ غَالِبَهُ
الْحَرَامُ فَلَا .
( وَالرَّابِعُ ) عَدَمُ التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا
قَلَّ الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَطَعَ بِهِ وَقَدَّمَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ لَكِنْ يُكْرَهُ ، وَتَقْوَى الْكَرَاهَةُ وَتَضْعُفُ
بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ .
قَدَّمَهُ الْأَزَجِيُّ
وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ
عَنْهُ وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ فَلْيَشْرَبْ مِنْ
شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرَوَى
جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ : لِي جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا وَلَا يَزَالُ
يَدْعُونِي قَالَ الثَّوْرِيُّ إنْ عَرَفْته بِعَيْنِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ
: وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَلَامُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا .
وَرَوَى
جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : إذَا كَانَ لَك
صَدِيقٌ عَامِلٌ فَدَعَاك إلَى طَعَامٍ فَاقْبَلْهُ
فَإِنَّ مَهْنَأَهُ لَك وَإِثْمَهُ عَلَيْهِ .
قَالَ
مَعْمَرٌ : وَكَانَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَامِلُ الْبَصْرَةِ يَبْعَثُ
إلَى الْحَسَنِ كُلَّ يَوْمٍ بِجِفَانِ ثَرِيدٍ فَيَأْكُلُ مِنْهَا
وَيُطْعِمُ أَصْحَابَهُ .
وَبَعَثَ عَدِيٌّ إلَى الشَّعْبِيِّ وَابْنِ
سِيرِينَ وَالْحَسَنِ فَقَبِلَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَرَدَّ ابْنُ
سِيرِينَ قَالَ : وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ طَعَامِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ
: قَدْ أَخْبَرَكُمْ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ
كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا وَأَحَلَّ لَكُمْ طَعَامَهُمْ .
وَقَالَ
مَنْصُورٌ : قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَرِيفٌ لَنَا يُصِيبُ
مِنْ الظُّلْمِ وَيَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُهُ ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ :
لِلشَّيْطَانِ غَرَضٌ بِهَذَا لِيُوقِعَ عَدَاوَةً ، قَدْ كَانَ
الْعُمَّالُ يَهْمِطُونَ وَيُصِيبُونَ ، ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُجَابُونَ
قُلْت : نَزَلْتُ بِعَامِلٍ فَنَزَّلَنِي وَأَجَازَنِي قَالَ : اقْبَلْ
قُلْت : فَصَاحِبُ رِبًا قَالَ : اقْبَلْ مَا لَمْ تَرَهُ بِعَيْنِهِ .
قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ : الْهَمْطُ الظُّلْمُ وَالْخَبْطُ يُقَالُ هَمَطَ
النَّاسَ فُلَانٌ يَهْمِطُهُمْ حَقَّهُمْ ، وَالْهَمْطُ أَيْضًا الْأَخْذُ
بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَكَمَا لَوْ لَمْ
يَتَيَقَّنْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالِاحْتِمَالِ وَإِنْ
كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى ، وَقَدْ احْتَجَّ لِهَذَا بِحَدِيثِ أَنَسٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى تَمْرَةً فِي
الطَّرِيقِ فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ
الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَفِي هَذَا
الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا نَظَرٌ ، لَكِنْ إنْ قَوِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ
فَظَنَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ كَآنِيَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَثِيَابِهِمْ ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ
حُكْمُ مُعَامَلَتِهِ وَقَبُولُ ضِيَافَتِهِ وَهَدِيَّتِهِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ :
إنَّهُ يَحْرُمُ الْأَكْثَرُ وَيَجِبُ السُّؤَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
أَكْثَرَ فَالْوَرَعُ التَّفْتِيشُ وَلَا يَجِبُ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ
الْمَسْئُولَ وَعَلِمْت أَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي
حُضُورِك وَقَبُولِ هَدِيَّتِهِ فَلَا تَثِقُ بِقَوْلِهِ
وَيَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ إلَى الدَّعْوَةِ وَلَوْ
قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَنَّ
سَتْرَ الْحِيطَانِ بِسُتُورٍ لَا صُوَرَ فِيهَا أَوْ فِيهَا غَيْرُ
صُوَرِ الْحَيَوَانِ أَنْ تَكُونَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ عَلَى
رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ ، وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ فُصُولِ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ
كَرِهَ مُعَامَلَةَ الْجُنْدِيِّ وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ ، وَقَدْ قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ
طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ ؟ فَقَالَ فِي مِثْلِ الْأَكْلِ قُلْت : نَعَمْ
قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمَا عَلَيْهَا وَمَا أُحِبُّ أَنْ
يَعْصِيَهُمَا ، يُدَارِيهِمَا ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ
عَلَى الشُّبْهَةِ مَعَ وَالِدَيْهِ .
وَذَكَرَ الْمَرُّوذِيُّ لَهُ
قَوْلَ الْفُضَيْلِ : كُلْ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ
، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمَا يُدْرِيهِ أَيَّهُمَا الْحَرَامُ
؟ وَذَكَرَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ قَوْلَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَسُئِلَ
هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ ؟ فَقَالَ : لَا قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا شَدِيدٌ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ :
فَلِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ ؟ فَقَالَ : إنَّ
لِلْوَالِدَيْنِ حَقًّا قُلْت : فَلَهُمَا طَاعَةٌ فِيهَا قَالَ أُحِبُّ
أَنْ تُعْفِيَنِي ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ
أَشَدَّ مِمَّا يَأْتِي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنِّي سَأَلْت
مُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الْعَبَّادَانِيُّ عَنْهَا فَقَالَ لِي : بِرَّ
وَالِدَيْك .
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ
مُقَاتِلٍ قَدْ رَأَيْت مَا قَالَ ، وَهَذَا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ
قَالَ مَا قَالَ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَا أَحْسَنَ أَنْ
يُدَارِيَهُمْ .
وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَقَالَ أَطِعْ وَالِدَيْك ، وَسُئِلَ
عَنْهَا بِشْرُ بْنُ
الْحَارِثِ فَقَالَ لَا تُدْخِلْنِي بَيْنَك وَبَيْنَ وَالِدَيْك
.
وَذَكَرَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رِوَايَةَ الْمَرُّوذِيِّ ثُمَّ قَالَ :
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ فِيمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَتَعْرِضُ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالَ : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ
فَلَا يَأْكُلُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : مَفْهُومُ هَذِهِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا قَدْ يُطَاعَانِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ
حَرَامٌ ، وَرِوَايَةُ الْمَرُّوذِيِّ فِيهَا أَنَّهُمَا لَا يُطَاعَانِ
فِي الشُّبْهَةِ ، وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الشُّبْهَةُ
لَوَجَبَ الْأَكْلُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ يُطَيِّبُ
نَفْسَهُمَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَإِنْ أَرَادَ مَنْ مَعَهُ
حَلَالٌ وَحَرَامٌ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إثْمِ الْحَرَامِ فَنَقَلَ
الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ التَّحْرِيمَ إلَّا أَنْ يَكْثُرَ الْحَلَالُ
وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ وَعَنْ أَحْمَدَ
أَيْضًا إنَّمَا قُلْته فِي دِرْهَمٍ حَرَامٍ مَعَ آخَرَ وَعَنْهُ فِي
عَشَرَةٍ فَأَقَلَّ لَا تُجْحَفُ بِهِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
مِنْهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ : لَا يَأْكُلُ مِنْهَا
شَيْئًا حَتَّى يَعْرِفَهُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ
عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ
كَلْبًا آخَرَ فَقَالَ : لَا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَك
قَتَلَهُ .
قُلْت لَهُ : فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً فَقَالَ :
ثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوَهَا فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ أَخْرِجْ الدِّرْهَمَ
قُلْت : إنَّ بِشْرًا قَالَ تُخْرِجُ دِرْهَمًا مِنْ الثَّلَاثَةِ } ،
فَقَالَ : بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ قُلْت : لَا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ
قَالَ : مَا ظَنَنْته إلَّا قَوْلَ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ .
هَذَا
قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ فِي
مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ بِالنَّجِسَةِ : ظَاهِرُ
مَقَالَةِ أَصْحَابِنَا يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَأَبَا عَلِيٍّ النَّجَّادَ
وَأَبَا
إِسْحَاقَ يَتَحَرَّى فِي عَشَرَةٍ طَاهِرَةٍ فِيهَا إنَاءٌ نَجِسٌ
لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ فِيهَا دِرْهَمٌ
حَرَامٌ ، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ مِنْهَا ،
وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ امْتَنَعَ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ
امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا قَالَ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا حَدًّا
، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا كَثُرَ عَادَةً وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْأَصْحَابُ وَالشَّيْخُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ كَلَامَ
أَحْمَدَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ إخْرَاجُ
قَدْرِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا حَرُمَ
لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ فَإِذَا أَخْرَجَ عِوَضَهُ زَالَ
التَّحْرِيمُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا فَرَضِيَ
بِعِوَضِهِ فَظَاهِرُ هَذَا ، وَلَوْ عَلِمَ صَاحِبَهُ أَوْ اُسْتُهْلِكَ
فِيهِ كَزَيْتٍ اخْتَلَطَ بِزَيْتٍ وَقِيلَ لِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ فِي
مَسْأَلَة الْأَوَانِي قَدْ قُلْت : إذَا اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ
بِدَرَاهِمَ يَعْزِلُ قَدْرَ الْحَرَامِ وَيَتَصَرَّفُ فِي الْبَاقِي
فَقَالَ إذَا كَانَ لِلدَّرَاهِمِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا وَإِلَّا عَزَلَ قَدْرَ
الْحَرَامِ وَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا
كَانَ مَعْرُوفًا فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُ فَهُوَ يَتَوَصَّلُ إلَى
مُقَاسَمَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ
أَنَّهُ مَالٌ لِلْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ .
وَذَكَرَ
ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الصَّيْرَفِيِّ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا
اخْتَلَطَ زَيْتٌ حَرَامٌ بِمُبَاحٍ تَصَدَّقَ بِهِ ، هَذَا مُسْتَهْلَكٌ
وَالنَّقْدُ يُتَحَرَّى قَالَهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي
طَالِبٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الزَّيْتِ أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهِ هَذَا غَيْرَ الدَّرَاهِمِ .
وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ
فِي النَّقْدِ أَنَّ الْوَرَعَ تَرْكُ الْجَمِيعِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
الْوَرَعِ وَمَتَى جَهِلَ قَدْرَ الْحَرَامِ تَصَدَّقَ بِهِ بِمَا
يَرَاهُ
حَرَامًا قَالَهُ أَحْمَدُ فَدَلَّ هَذَا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالظَّنِّ
وَقَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَحْمَدُ : لَا يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ
مَا لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ خَبِيرٌ ، وَبِأَكْلِ الْحَلَالِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ وَتَلِينُ .
وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ أَوَّلَ كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَمَآلِ
بَيْتِ الْمَالِ فِي آخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ إلْزَامُ الْوَلَدِ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ لَيْسَ
لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا
يُرِيدُ ، وَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا ، وَإِذَا لَمْ
يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ مِنْهُ مَعَ
قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ
كَذَلِكَ وَأَوْلَى ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةٌ سَاعَةً
وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ تُؤْذِي
صَاحِبَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ فِرَاقُهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ
أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ فَعَلَ لَمْ آمُرْهُ أَنْ
يُفَارِقَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَالِدَانِ يَأْمُرَانِهِ
بِالتَّزْوِيجِ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ ، وَإِنْ كَانَ شَابًّا يَخَافُ
الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ إذَا قَالَ : فُلَانَةُ فَإِنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَهَذَا مَعَ مَا نَقَلَهُ
الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي
مَسَائِلَ لَهُ فِي الْعُقُودِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْوَرَعِ احْتِيَاطًا
أَنْ لَا يَأْتِيَ الشُّبُهَاتِ { فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } ، إلَّا إذَا أَمَرَهُ الشَّارِعُ
بِالتَّزَوُّجِ إمَّا لِحَاجَتِهِ أَوْ لِأَمْرِ أَبَوَيْهِ فَهُنَا إنْ
تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا فَلَا تُتْرَكُ الشُّبْهَةُ بِرُكُوبِ
مَعْصِيَةٍ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ إنَّ أَبِي مَاتَ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ
أَسْتَوْفِيَهُ قَالَ : أَتَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهَنَةً ؟ يَعْنِي
أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ فَلَا تُتَّقَى شُبْهَةٌ بِتَرْكِ
وَاجِبٍ .
فَصْلٌ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ بِطَلَاقِ
امْرَأَتِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَجِبْ ،
ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ قَالَ سِنْدِيٌّ سَأَلَ رَجُلٌ لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي
قَالَ : لَا تُطَلِّقْهَا قَالَ : أَلَيْسَ عُمَرُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ
اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ قَالَ حَتَّى يَكُونَ أَبُوك مِثْلَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ
أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ ، وَنَصِّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِالطَّلَاقِ لَا
يُعْجِبُنِي أَنْ يُطَلِّقَ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَبِ
وَنَصَّ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ
لَا يُطَلِّقُ لِأَمْرِ أُمِّهِ فَإِنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِالطَّلَاقِ
طَلَّقَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقَوْلُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا
يُعْجِبُنِي كَذَا هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَوْ الْكَرَاهَةَ فِيهِ
خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ قَالَ لَا يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يُطَلِّقَهَا ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا وَلَيْسَ تَطْلِيقُ
امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَصْلٌ ( حُكْمُ أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ بِالزَّوَاجِ
أَوْ بَيْعِ سُرِّيَّتِهِ ) .
قَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إذَا خَافَ الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ
يَتَزَوَّجَ ، وَإِذَا أَمَرَهُ وَالِدُهُ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ وَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ
لَا يَتَزَوَّجُ أَبَدًا قَالَ إنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ تَزَوَّجَ .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَأَنَّهُ أَرَادَ الطَّلَاقَ الْمُضَافَ إلَى
النِّكَاحِ ، كَذَا قَالَ ، أَوْ إنْ كَانَ مُزَوَّجًا فَحَلَفَ أَنْ لَا
يَتَزَوَّجَ أَبَدًا سِوَى امْرَأَتِهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
الْمَرُّوذِيِّ إنْ كَانَ الرَّجُلُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَالِدَاهُ
يَمْنَعَانِهِ مِنْ التَّزَوُّجِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ لِي جَارِيَةٌ وَأُمِّي تَسْأَلُنِي أَنْ أَبِيعَهَا قَالَ :
تَتَخَوَّفُ أَنْ تُتْبِعَهَا نَفْسَك قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَا
تَبِعْهَا قَالَ : إنَّهَا تَقُولُ لَا أَرْضَى عَنْك أَوْ تَبِيعَهَا
قَالَ إنْ خِفْت عَلَى نَفْسِك فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ يَبْقَى
إمْسَاكُهَا وَاجِبًا أَوْ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا .
وَمَفْهُومُ
كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ يُطَبِّعُهَا فِي
تَرْكِ التَّزَوُّجِ وَفِي بَيْعِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ
حِينَئِذٍ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا وَقَالَ
أَيْضًا قُيِّدَ أَمْرُهُ بِبَيْعِ السُّرِّيَّةِ إذَا خَافَ عَلَى
نَفْسِهِ لِأَنَّ بَيْعَ السُّرِّيَّةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرَرَ
عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّمَنَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ
فَإِنَّهُ مُضِرٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا
مُتَّهَمَةٌ فِي الطَّلَاقِ مَا لَا تُتَّهَمُ فِي بَيْعِ السُّرِّيَّةِ .
فَصْلٌ
فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمَا عَنْ الْمُنْكَرِ
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعَلِّمُهُ
بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ
وَإِلَّا تَرَكَهُ وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ
الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَخَرَجَ عَنْهُمْ .
وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ إذَا كَانَ لَهُ أَبَوَانِ
لَهُمَا كَرْمٌ يَعْصِرَانِ عِنَبَهُ وَيَجْعَلَانِهِ خَمْرًا يَسْقُونَهُ
يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِمْ وَلَا يَأْوِي مَعَهُمْ .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ .
وَذَكَرَ
الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ لَهُ كُرُومٌ يُرِيدُ أَنْ يُعَاوِنَهُ عَلَى
بَيْعِهَا قَالَ إنْ عَلِمْت أَنَّهُ يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَعْصِرُهَا
خَمْرًا فَلَا تُعَاوِنُهُ .
فَصْلٌ ( فِي اسْتِئْذَانِ الْأُمِّ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَكَانِ
الْمُنْكَرِ ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْمُنْكَرَ
وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَهُ قَالَ يَسْتَأْذِنُهَا فَإِنْ أَذِنَتْ
لَهُ خَرَجَ .
فَصْلٌ ( فِي اتِّقَاءِ غَضَبِ الْأُمِّ إذَا سَاعَدَ قَرِيبَهُ
) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَرِيبٍ لِي أَكْرَهُ
نَاحِيَتَهُ يَسْأَلُنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا أَوْ أُسَلِّمَ
لَهُ غَزْلًا ، فَقَالَ : لَا تُعِنْهُ وَلَا تَسْتُرْ لَهُ إلَّا
بِأَمْرِ وَالِدَتِك فَإِنْ أَمَرَتْك فَهُوَ أَسْهَلُ لَعَلَّهَا أَنْ
تَغْضَبَ .
فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ ضَرْبِ الْأَوْلَادِ
بِشَرْطِهِ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَحْمَدَ عَمَّا
يَجُوزُ فِيهِ ضَرْبُ الْوَلَدِ قَالَ : الْوَلَدُ يُضْرَبُ عَلَى
الْأَدَبِ قَالَ وَسَأَلْت أَحْمَدَ هَلْ يُضْرَبُ الصَّبِيُّ عَلَى
الصَّلَاةِ قَالَ إذَا بَلَغَ عَشْرًا وَقَالَ حَنْبَلٌ إنَّ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ الْيَتِيمُ يُؤَدَّبُ وَيُضْرَبُ ضَرْبًا خَفِيفًا .
وَقَالَ
الْأَثْرَمُ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ
الصِّبْيَانَ فَقَالَ : عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ وَيَتَوَقَّى بِجَهْدِهِ
الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبُهُ وَقَالَ
الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ
أَيُّوبَ قَالَ سَأَلْت أَبَا هَاشِمٍ عَنْ الْغُلَامِ يُسَلِّمُهُ
أَبُوهُ إلَى الْكُتَّابِ فَيَبْعَثُهُ الْمُعَلِّمُ فِي غَيْرِ
الْكِتَابَةِ فَمَاتَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا
يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ فِيمَنْ اسْتَقْضَى غُلَامَ الْغَيْرِ فِي حَاجَةٍ أَنَّهُ
يَضْمَنُ .
فَصْلٌ ( فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَحَدِّ مَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ
مِنْهَا ) .
قَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَيْهِ صِلَةَ رَحِمِهِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَدْخَلْت
عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الثَّغْرِ فَقَالَ لِي
قِرَابَةٌ بِالْمَرَاغَةِ فَتَرَى لِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الثَّغْرِ أَوْ
تَرَى أَنْ أَذْهَبَ فَأُسَلِّمَ عَلَى قَرَابَتِي وَإِنَّمَا جِئْت
قَاصِدًا لِأَسْأَلَك ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَدْ رُوِيَ
{ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ } اسْتَخِرْ اللَّهَ
وَاذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مُثَنَّى قُلْت لِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ : الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْقَرَابَةُ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا
يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَيْشْ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ بِرِّهِمْ
وَفِي كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ قَالَ : اللُّطْفُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ
ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ
بِالْمِلْكِ : قَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَطْعِ الْأَرْحَامِ
بِاللَّعْنِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ
يُرِدْ صِلَةَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ وَقَرَابَةٍ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ
لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ
ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا
وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ
عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا
وَأُخْتِهَا فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ
أَرْحَامَكُمْ } .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ
إلَّا صِلَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
وَنَصُّ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ مَحْرَمًا
كَانَ أَوْ لَا ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ
لَا يَكْفِي فِي صِلَةِ الرَّحِمِ مُجَرَّدُ السَّلَامِ وَكَلَامُ
أَحْمَدَ مُحْتَمَلٌ .
قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ لَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ بِأَرْضِ غَصْبٍ تَرَى
أَنْ يَزُورَهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَزُورُهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ عَلَى
الْخُرُوجِ
مِنْهَا فَإِنْ أَجَابُوا إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَقُمْ مَعَهُمْ ، وَلَا يَدَعُ زِيَارَتَهُمْ .
فَصْلٌ ( بَعْضُ النُّصُوصِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَالْإِحْسَانِ إلَى الْبَنَاتِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ
وَتَعْلِيمِهِمْ ) .
قَدْ
سَبَقَ الْكَلَامُ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَنْ اُشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْك } .
وَالْأُمُّ أَوْلَى بِالْبِرِّ وَفِي ذَلِكَ
وَصِلَةِ الرَّحِمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِيهَا شُهْرَةٌ وَمِنْ
صَحِيحِهَا { إنَّ مِنْ أَتَمِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ
وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَمَا يُوَلِّي } .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
الْخَبَر عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
أَرَادَ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ
} وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوُدُّ يُتَوَارَثُ
وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ } وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ثَلَاثٌ
يُطْفِئْنَ نُورَ الْعَبْدِ أَنْ يَقْطَعَ وُدَّ أَهْلِ أَبِيهِ
وَيُبَدِّلَ سُنَّةً صَالِحَةً وَيَرْمِيَ بِبَصَرِهِ فِي الْحُجُرَاتِ } .
وَمَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى : لَا تَقْطَعْ مَنْ
كَانَ أَبُوك يَصِلُهُ فَيُطْفَأَ نُورُك .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ : بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَيْ أُمِّي وَبَاتَ
عَمِّي يُصَلِّي لَيْلَتَهُ فَمَا سَرَّنِي لَيْلَتَهُ بِلَيْلَتِي .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّمَا رَدَّ اللَّهُ عُقُوبَةَ
سُلَيْمَانَ عَنْ الْهُدْهُدِ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ ، .
وَرَأَى
أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَمْشِي خَلْفَ رَجُلٍ فَقَالَ : مَنْ هَذَا
قَالَ : أَبِي قَالَ لَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ
وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنِهِ : يَوَدُّ
الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَلَوْ مِتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ
مَقَاتِلُهْ إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلًا غَضَّ طَرْفَهُ كَأَنَّ شُعَاعَ
الشَّمْسِ دُونِي يُقَابِلُهْ وَسَبَقَ قَرِيبًا تَأْدِيبُ الْوَلَدِ .
وَيَنْبَغِي
الصَّبْرُ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِنَّ وَأَنْ لَا
يُنَفَّلَ عَلَيْهِنَّ الذُّكُورُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ ، وَفِي
ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ دَخَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ
بِنْتٌ
لَهُ فَقَالَ لَهُ أَبْعَدَهَا اللَّهُ عَنْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت أَنَّهُنَّ يَلِدْنَ إلَّا عَدُوًّا ،
وَيُقَرِّبْنَ الْبُعَدَاءَ ، وَيُوَرِّثْنَ الضَّغَائِنَ ، فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ : لَا تَقُلْ هَذَا يَا عَمْرُو فَوَاَللَّهِ مَا مَرَّضَ
الْمَرْضَى وَلَا نَدَبَ الْمَوْتَى وَلَا أَعْوَنَ عَلَى الْأَحْزَانِ
مِنْهُنَّ ، وَلَرُبَّ ابْنِ أُخْتٍ قَدْ يَنْفَعُ خَالَهُ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ : الْبَنُونَ نِعَمٌ ، وَالْبَنَاتُ حَسَنَاتٌ
، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِب عَلَى النِّعَمِ وَيُجَازِي عَلَى
الْحَسَنَاتِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : أُحِبُّ الْبَنَاتِ وَحُبُّ
الْبَنَاتِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَرِيمَهْ لِأَنَّ شُعَيْبًا مِنْ
أَجْلِ الْبَنَاتِ أَخْدَمَهُ اللَّهُ مُوسَى كَلِيمَهْ قَالَ قَتَادَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ مِنْ غُلَامٍ قَدْ هَلَكَ
أَهْلُهُ عَلَى يَدَيْهِ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَجِّلُوا بِكُنَى أَوْلَادِكُمْ لَا تُسْرِعُ إلَيْهِمْ
الْأَلْقَابُ السُّوءُ ، .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى
أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ : عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الْعَوْمَ
وَالْفُرُوسِيَّةَ وَمَا سَارَ مِنْ الْمَثَلِ وَمَا حَسُنَ مِنْ
الشِّعْرِ وَكَانَ يُقَالُ مِنْ تَمَامِ مَا يَجِبُ لِلْأَبْنَاءِ عَلَى
الْآبَاءِ تَعْلِيمُ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ وَالسِّبَاحَةِ قَالَ
الْحَجَّاجُ لِمُعَلِّمِ وَلَدِهِ : عَلِّمْ وُلْدِي السِّبَاحَةَ قَبْلَ
أَنْ تُعَلِّمَهُمْ الْكِتَابَةَ ، فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يَكْتُبُ
عَنْهُمْ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْبَحُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ الدُّعَاءِ
عَلَيْهِمْ .
وَكَانَ يُقَالُ الدُّعَاءُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْأَهْلِ بِالْمَوْتِ
يُورِثُ الْفَقْرَ .
وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي
قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ
إلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ .
فَقَالَ إنْ كُنْت كَمَا تَقُولُ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ،
وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا
دُمْت عَلَى ذَلِكَ } وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ } قَالَ الشَّاعِرُ : وَجَدْت قَرِيبَ الْوُدِّ خَيْرًا وَإِنْ نَأَى مِنْ الْأَبْعَدِ الْوُدِّ الْقَرِيبِ الْمُنَاسِبِ وَرُبَّ أَخٍ لَمْ يُدْنِهِ مِنْك وَالِدُ أَبَرُّ مِنْ ابْنِ الْأُمِّ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَرُبَّ بَعِيدٍ حَاضِرٍ لَك نَفْعُهُ وَرُبَّ قَرِيبٍ شَاهِدٍ مِثْلِ غَائِبِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : وَلَا خَيْرَ فِي قُرْبَى لِغَيْرِك نَفْعُهَا وَلَا فِي صَدِيقٍ لَا تَزَالُ تُعَاتِبُهْ يَخُونُك ذُو الْقُرْبَى مِرَارًا وَإِنَّمَا وَفَى لَك عِنْدَ الْجَهْدِ مَنْ لَا تُنَاسِبُهْ وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ : لَا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا وَنُكْرِمَكُمْ وَأَنْ نَكُفَّ الْأَذَى عَنْكُمْ وَتُؤْذُونَا مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا لَا تَنْشُرُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا .
فَصْلٌ ( فِي حُسْنِ الْمَلَكَةِ وَسُوءِ الْمَلَكَةِ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ } وَهُوَ الَّذِي يُسِيءُ إلَى مَمَالِيكِهِ وَكَانَ يُقَالُ التَّسَلُّطُ عَلَى الْمَمْلُوكِ دَنَاءَةٌ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اُذْكُرْ عِنْدَ قُدْرَتِك وَغَضَبِك قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك ، وَعِنْدَ حُكْمِك حُكْمَ اللَّهِ فِيك وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَكْثِرُوا شِرَاءَ الرَّقِيقِ فَرُبَّ عَبْدٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مَالًا مِنْ سَيِّدِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَفْضَلُ الْمَمَالِيكِ الصِّغَارُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ طَاعَةً ، وَأَقَلُّ خِلَافًا وَأَسْرَعُ قَبُولًا ، كَانَ يُقَالُ اسْتَخْدِمْ الصَّغِيرَ حَتَّى يَكْبُرَ ، وَالْأَعْجَمِيَّ حَتَّى يُفْصِحَ ، قَالَتْ ابْنَةُ الْفَتْحِ : بَطَرْتُمْ فَطِرْتُمْ وَالْعَصَا زَجْرُ مَنْ عَصَى وَتَقْوِيمُ عَبْدِ الْهُونِ بِالْهُونِ رَادِعُ كَانَ يُقَالُ الْحُرُّ حُرٌّ وَإِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ وَإِنْ مَشَى عَلَى الدُّرِّ وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ الْعَبِيدَ إذَا ذَلَلْتَهُمْ صَلَحُوا عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا وَقَالَ الْمُتَنَبِّي : لَا تَشْتَرُوا الْعَبْدَ إلَّا وَالْعَصَا مَعَهُ إنَّ الْعَبِيدَ لَأَنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا أَبْرَمَ الْمَوْلَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ تَجَنَّى لَهُ ذَنْبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبُ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إذَا بَعَثَتْنِي أَكُونُ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ ؟ قَالَ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ .
فَصْلٌ ( فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْإِخْوَانِ وَسُؤَالِ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ) .
قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ أَنْفَقَ رَبِيعَةُ عَلَى إخْوَانِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ يَسْأَلُ إخْوَانَهُ فِي إخْوَانِهِ وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ
يَقُولُ : وَلَقَدْ جَاءَنِي صَدِيقٌ لِي وَعِنْدِي عِشْرُونَ دِرْهَمًا
فَأَعْطَيْتُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَبَقَّيْت لِنَفْسِي دِرْهَمًا
، فَفِيهِمْ الْيَوْمَ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا بِصَاحِبِهِ ؟ وَأَبْلَغُ مِنْ
هَذَا مَا قَالَ هَارُونُ الْمُسْتَمْلِي : لَقِيتُ أَحْمَدَ فَقُلْت مَا
عِنْدَنَا شَيْءٌ فَأَعْطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ عِنْدَنَا
غَيْرُهَا .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ هِلَالٍ الْوَرَّاقُ : جِئْتُ إلَى
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ فَشَكَوْت إلَيْهِ
فَأَخْرَجَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةً وَقَالَ : هَذَا نِصْفُ
مَا أَمْلِكُ ، وَجِئْت مَرَّةً إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْبَلٍ
فَأَخْرَجَ إلَيَّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ : هَذَا جَمِيعُ مَا
أَمْلِكُ .
فَصْلٌ ( فِي الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَحَظِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهَا ) .
رَوَى
الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ جَاءَ إلَى وَكِيعٍ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْكُوفِيِّينَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَدَبِهِ وَتَوَاضُعِهِ .
فَقِيلَ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ الشَّيْخَ لَيُكْرِمُك فَمَا لَك لَا
تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ : وَإِنْ كَانَ يُكْرِمُنِي فَيَنْبَغِي لِي أَنْ
أُجِلَّهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : مَا
اسْتَأْذَنْت قَطُّ عَلَى مُحَدِّثٍ كُنْت أَنْتَظِرُ ، حَتَّى يَخْرُج
إلَيَّ ، وَتَأَوَّلْتُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا
حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ : كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَجْهَلُ ، وَإِنْ
جُهِلَ عَلَيْهِ احْتَمَلَ وَحَلُمَ وَيَقُولُ : يَكْفِينِي اللَّهُ
وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَقُودِ وَلَا الْعَجُولِ ، وَلَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ
عَمِّهِ وَجِيرَانِهِ مُنَازَعَةٌ فَكَانُوا يَجِيئُونَ إلَى أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ فَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَيْلَهُ إلَى عَمِّهِ وَلَا يَغْضَبُ
لِعَمِّهِ وَيَلْقَاهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَكَانَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ يُحِبُّ الْفُقَرَاءَ ، لَمْ
أَرَ الْفَقِيرَ فِي مَجْلِسِ أَحَدٍ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ ،
مَائِلٌ إلَيْهِمْ مُقْصِرٌ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا تَعْلُوهُ
السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، إذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ
لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُسْأَلَ ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى مَجْلِسِهِ لَمْ
يَتَصَدَّرْ ، يَقْعُدُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَانَ لَا
يَقْطُنُ الْأَمَاكِنَ وَيَكْرَهُ إيطَانَهَا وَكَانَ إذَا انْتَهَى إلَى
مَجْلِسِ قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ ، وَصَحِبْتُهُ
فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ .
وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ دَائِمَ
الْبِشْرِ لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَكَانَ
يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضُ فِي اللَّهِ وَكَانَ إذَا أَحَبَّ رَجُلًا
أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَكَرِهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ
لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ حُبُّهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ
وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ
مَكْرُوهٍ إنْ كَانَ
مِنْهُ وَكَانَ إذَا بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ صَلَاحٌ أَوْ زُهْدٌ أَوْ
اتِّبَاعُ الْأَثَرِ سَأَلَ عَنْهُ وَأَحَبَّ أَنْ يُجْرِيَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةً وَكَانَ رَجُلًا وَطِيئًا إذَا كَانَ حَدِيثٌ لَا
يَرْضَاهُ اضْطَرَبَ لِذَلِكَ وَتَبَيَّنَ التَّغْيِير فِي وَجْهِهِ
غَضَبًا لِلَّهِ وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا
فَإِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ الدِّينِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ لَهُ وَكَانَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَسَنَ الْجِوَارِ يُؤْذَى فَيَصْبِرُ وَيَحْتَمِلُ
الْأَذَى مِنْ الْجِيرَانِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ
يُونُسَ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ
صَلَّى الْغَدَاةَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَقَالَ لَا تَتْبَعُونِي مَرَّةً
أُخْرَى وَكَانَ يَمْشِي وَحْدَهُ مُتَوَاضِعًا وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ
رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا لَقِيَ امْرَأَتَيْنِ فِي الطَّرِيقِ
وَكَانَ طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا وَقَفَ وَلَمْ يَمُرَّ حَتَّى يَجُوزَا .
وَعَنْ
أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدُ فَاخْتَلَطَ
الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ : اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ
لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ
الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إنَّ
ثَوْبَهَا لَيَعْلَقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ } رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَبِي عَمْرو بْنِ حِمَاشٍ تَفَرَّدَ
عَنْهُ أَبُو الْيَمَانِ الرَّحَّالُ الْمَدَنِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ
حِبَّانَ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حَقَّهَا وَهُوَ
وَسْطُهَا يُقَالُ سَقَطَ عَلَى حَاقِّ الْقَفَا وَحَقِّهِ .
وَعَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَالْخَلَّالُ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ
أَبُو زُرْعَةَ لَا أَعْرِفُهُ إلَّا بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَهُوَ مُنْكَرٌ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ
عَلَيْهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَأَنَّهُ رَجُلٌ قَدْ وُفِّقَ
لِلْأَدَبِ ، وَسُدِّدَ بِالْحِلْمِ ، وَمُلِئَ بِالْعِلْمِ ، أَتَاهُ
رَجُلٌ يَوْمًا فَقَالَ عِنْدَك كِتَابُ زَنْدَقَةٍ ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً
ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا يَحْرُزُ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ .
وَقَالَ
الْخَلَّالُ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي الْمَعْرُوفَ
بِلُؤْلُؤٍ قَالَ حَضَرَ مَجْلِسَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَبْشُ
الزَّنَادِقَةِ فَقُلْت لَهُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْتَ فِي مَجْلِسِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ ؟ فَسَمِعَنِي أَحْمَدُ فَقَالَ مَالَك
؟ فَقُلْت هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ قَدْ حَضَرَ
الْمَجْلِسَ ، فَقَالَ مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا
؟ دَعُوا النَّاسَ يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ وَيَنْصَرِفُونَ لَعَلَّ اللَّهَ
يَنْفَعُهُمْ بِهِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَالَ
أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُنَادِي سَمِعْت جَدِّي يَقُولُ : كَانَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَحْيَا النَّاسِ ، وَأَكْرَمِهِمْ نَفْسًا
وَأَحْسَنِهِمْ عِشْرَةً وَأَدَبًا كَثِيرَ الْإِطْرَاقِ وَالْغَضِّ ،
مُعْرِضًا عَنْ الْقَبِيحِ وَاللَّغْوِ ، لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا
الْمُذَاكَرَةُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالطُّرُقِ وَذِكْرِ
الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ ، فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ ،
وَإِذَا لَقِيَهُ إنْسَانٌ بَشَّ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَكَانَ
يَتَوَاضَعُ تَوَاضُعًا شَدِيدًا ، وَكَانُوا يُكْرِمُونَهُ
وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ : كُنَّا
فِي مَجْلِسِ أَبِي مُوسَى بِشْرِ بْنِ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ بْنَ
شَيْخٌ بْنَ عَمِيرَةَ الْأَسَدِيَّ وَمَعَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ
سُرَيْج الْفَقِيهُ الْقَاضِي فَخَاضُوا فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ
جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ ذِكْرَ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ .
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا
مَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ؟
حِفْظُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمَعْرِفَةُ بِسُنَّتِهِ .
وَاخْتِلَافُ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ اللَّيْثِ الرَّازِيّ كُنْت فِي مَجْلِسِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الرَّأْيِ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
عِنْدَنَا شَابٌّ بِالرَّيِّ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ نَكْتُبُ عَنْهُ
؟ فَنَظَرَ أَحْمَدُ إلَيْهِ كَالْمُنْكِرِ لِقَوْلِهِ شَابٌّ فَقَالَ :
نِعْمَ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُ ، نَصَرَهُ
اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ .
فَلَمَّا قَدِمْت الرَّيَّ أَخْبَرْت
أَبَا زُرْعَةَ فَاسْتَعْبَرَ وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكُونُ فِي
الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِنْ أَذَى الْجَهْمِيَّةِ فَأَتَوَقَّعُ الْفَرَجَ
بِدُعَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول : قَدْ جَاءَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ يَحْيَى
بْنُ خَاقَانَ فَقَالَ لِي : إنَّ كِتَابًا جَاءَ فِيهِ : إنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُتَوَكِّلَ يُقْرِئُك السَّلَامَ وَيَقُولُ
لَك لَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ لَسَلِمْت أَنْتَ ، هَهُنَا رَجُلٌ
قَدْ رَفَعَ عَلَيْك وَهُوَ فِي أَيْدِينَا مَحْبُوسٌ رَفَعَ عَلَيْك
أَنَّ عَلَوِيًّا قَدْ تَوَجَّهَ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ وَقَدْ بَعَثْت
بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِك يَتَلَقَّاهُ فَإِنْ شِئْت ضَرَبْته وَإِنْ
شِئْت حَبَسْته ، وَإِنْ شِئْت بَعَثْته إلَيْك قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ فَقُلْت لَهُ مَا أَعْرِفُ مِمَّا قَالَ شَيْئًا وَأَرَى أَنْ
تُطْلِقُوهُ وَلَا تَعَرَّضُوا لَهُ .
وَقَالَ لَمَّا سُيِّرَ عَامِرُ
بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ إلَى الشَّامِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ
بِالْمِرْبَدِ فَقَالَ : إنِّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ
مَنْ سَعَى لِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمْرَهُ
وَاجْعَلْهُ مُوَطَّأَ الْعَقِبَيْنِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ
أَخْبَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ سَفِيهٍ يَتَكَلَّمُ
وَيُؤْذِي قَالَ لَا تَعَرَّضُوا لَهُ إنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ
مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ أَقَرَّ بِالْكَثِيرِ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخِطْمِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَمْرو بْنِ
حَبِيبٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ
إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ السُّفَهَاءِ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ دَاءٌ
وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ
يُقِرّ بِالْكَثِيرِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ
السَّفَهُ نُبَاحُ الْإِنْسَانِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ يَعَضُّ
الْكَلْبَ إنْ عَضَّا وَأَنْتَ تَرَى السَّبْع إذَا مَرَّ بِهِ السِّبَاعُ
فِي السُّوقُ كَيْفَ تَنْبَحُهُ الْكِلَابُ وَتَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا
يَلْتَفِتُ وَلَا يَعُدُّهَا شَيْئًا إذْ لَوْ الْتَفَتَ كَانَ نَظِيرًا ،
وَمَتَى أَمْسَكَ عَنْ الْجَاهِلِ عَادَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَقْل
مُوَبَّخًا عَلَى قُبْحِ مَا أَتَى بِهِ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ
لَائِمِينَ لَهُ عَلَى سُوءِ أَدَبِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُجِيبُهُ
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَغْيَظُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجِيبُهُ
وَمَا نَدِمَ حَلِيمٌ وَلَا سَاكِتٌ وَإِنَّمَا يَنْدَمُ الْمُقْدِمُ
عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالنَّاطِقُ فَإِنْ شِئْت فَاحْتَسِبْ سُكُوتَك
عَنْ السَّفِيهِ أَجْرًا لَك ، وَإِنْ شِئْت فَاعْدُدْهُ احْتِرَازًا مِنْ
أَنْ تَقَعَ فِي إثْمٍ ، وَإِنْ شِئْت كَانَ احْتِقَارًا لَهُ ، وَإِنْ
شِئْت كَانَ سُكُوتُك سَبَبًا لَمُعَاوَنَةِ النَّاسِ لَك ، وَإِنْ
تَلَمَّحْتَ الْقَدَرَ عَلِمْت أَنَّهُ مَا يُسَلَّطُ إلَّا مُسَلِّطٌ
فَرَأَيْت الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِهِ إمَّا عُقُوبَةً وَإِمَّا مَثُوبَةً .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ أَنْبَأْنَا اللَّيْثُ عَنْ
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُحْرِزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رَجُلٌ فِي أَبِي
بَكْرٍ ، فَآذَاهُ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ آذَاهُ
الثَّانِيَةَ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ
فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ انْتَصَرَ
أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوْجَدْت عَلَيَّ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَزَلَ
مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ لَمَّا قَالَ لَك فَلَمَّا انْتَصَرْت
وَقَعْ الشَّيْطَانُ ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إذَا وَقَعَ الشَّيْطَانُ
} ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ ثنا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ
عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَجُلًا كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَسَاقَ نَحْوَهُ .
قَالَ أَبُو
دَاوُد وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ
كَمَا قَالَ سُفْيَانُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ
مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبَشِيرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ
الْمَقْبُرِيُّ .
ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ
بَاب الِانْتِصَارِ عَنْ عُبَيْدِ بْن مُعَاذِ وَالْقَوَارِيرِيِّ عَنْ
مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ ثنا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ : كُنْت أَسْأَلُ عَنْ
الِانْتِصَارِ : { وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .
فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ امْرَأَةِ أَبِيهِ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ :
وَزَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ
: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَجَعَلَ
يَصْنَعُ شَيْئًا بِيَدِهِ حَتَّى فَطِنْته لَهَا فَأَمْسَكَ فَأَقْبَلَتْ
زَيْنَبُ تُفْحِمُ لِعَائِشَةَ فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ فَقَالَ
لِعَائِشَةَ سُبِّيهَا فَغَلَبَتْهَا فَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ إلَى عَلِيٍّ
فَقَالَتْ : إنَّ عَائِشَةَ وَقَعَتْ بِكُمْ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ
لَهَا : إنَّهَا حِبَّةُ أَبِيك وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَانْصَرَفَ
فَقَالَتْ لَهُمْ : إنِّي قُلْت كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ لِي : كَذَا
وَكَذَا .
قَالَتْ : وَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ } أُمُّ مُحَمَّدٍ تَفَرَّدَ
عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَعَلِيٌّ ، حَدِيثُهُ حَسَنٌ وَلِأَبِي
دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ { وَإِنْ
امْرُؤٌ شَتَمَك أَوْ عَيَّرَك بِمَا يَعْلَمُ فِيك فَلَا تُعَيِّرْهُ
بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ ، يَكُنْ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ } وَلِأَحْمَدَ
هَذَا
الْمَعْنَى وَفِيهِ { فَيَكُونُ أَجْرُهُ لَك وَوِزْرُهُ
عَلَيْهِ } .
وَرَوَى
أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ
مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ
الْمَسْبُوبُ يَقُولُ : عَلَيْك السَّلَامُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا
يَذُبُّ عَنْك ، كُلَّمَا شَتَمَك هَذَا قَالَ لَهُ بِك أَنْتَ وَأَنْتَ
أَحَقُّ بِهِ ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْك السَّلَامُ قَالَ : لَا بَلْ
أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ } وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ
عَيَّاشٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ لَمْ يُدْرِكْ النُّعْمَانَ .
وَرَوَى
أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ،
وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ مَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ ، وَمَنْ
يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ .
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَبْجَرَ قَالَ انْتَهَى الشَّعْبِيُّ إلَى رَجُلَيْنِ وَهُمَا
يَغْتَابَانِهِ وَيَقَعَانِ فِيهِ فَقَالَ : هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ
دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةِ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتْ .
وَرَوَى
أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا حِلْمَ أَحَبُّ
إلَى اللَّهِ مِنْ حِلْمِ إمَامٍ وَرِفْقِهِ ، وَلَا جَهْلَ أَبْغَضُ إلَى
اللَّهِ مِنْ جَهْلِ إمَامٍ وَحِدَّتِهِ ، وَمَنْ يُنْصِفُ النَّاسَ مِنْ
نَفْسِهِ يُعْطَ الظَّفَرَ مِنْ أَمْرِهِ ، وَالذُّلُّ فِي الطَّاعَة
أَقْرَبُ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ التَّقْرِيبِ فِي الْمَعْصِيَةِ .
وَرَوَى
أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا بَلَغَنِي مِنْ أَحَدٍ مَكْرُوهٌ
إلَّا أَنْزَلْته إحْدَى ثُلَاثِ مَنَازِلَ ، إنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْت
لَهُ قَدْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ ، وَإِنْ
كَانَ دُونِي لَمْ أَحْفَلْ بِهِ ، هَذِهِ سِيرَتِي فِي نَفْسِي فَمَنْ
رَغِبَ عَنْهَا فَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي
الْفُنُونِ وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَجْنُونِ : حَلَالٌ
لِلَيْلَى
شَتْمُنَا وَانْتِقَاصُنَا هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ : الْغَالِبُ فِي الشَّرِّ
مَغْلُوبٌ ، شَتَمَ رَجُلٌ أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا لَا
تُغْرِقَنَّ فِي شَتْمِنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا ، فَإِنَّا لَا
نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ
اللَّهَ فِيهِ .
أَعْطَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا شَاعِرًا فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تُعْطِي مَنْ يَقُولُ
الْبُهْتَانَ ، وَيَعْصِي الرَّحْمَنَ ؟ فَقَالَ : إنَّ خَيْرَ مَا
بَذَلْت مِنْ مَالِكَ مَا وَقَيْت بِهِ مِنْ عِرْضِكَ ، وَمَنْ ابْتَغَى
الْخَيْرَ اتَّقَى الشَّرَّ .
قَالَ الشَّاعِرُ : مَا بَقِيَ عَنْك
قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ كَمِثْلِ دَفْعِك جُهَّالًا بِجُهَّالِ
قَعِّسْ إذَا حَدِبُوا وَاَحْدُبْ إذَا قَعَسُوا وَوَازِنْ الشَّرَّ
مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ الْقَعَسُ خُرُوجُ الصَّدْرِ وَدُخُولُ الظَّهْرِ
وَهُوَ ضِدُّ الْحَدَبِ ، يُقَالُ رَجُلٌ قَعْسٌ وَقَعِيسٌ وَمُتَقَاعِسٌ
وَقَالَ آخَرُ : لَعَمْرُكَ مَا سَبَّ الْأَمِيرَ عَدُوُّهُ وَلَكِنَّمَا
سَبَّ الْأَمِيرَ الْمُبَلِّغُ وَقَالَ آخَرُ حَلَالٌ لِلَيْلَى شَتْمُنَا
وَانْتِقَاصُنَا هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا وَيَأْتِي
مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَبْلَ ذِكْرِهِ الزَّهْدَ وَقَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ الْوَزِيرُ لِيَكُنْ غَايَةُ أَمَلِكَ
مِنْ عَدُوِّك الْإِنْصَافَ فَمَتَى طَلَبْته مِنْهُ كَانَ سَائِرُ
الْخَلْقِ عَوْنًا لَك ، فَأَمَّا أَخُوك وَصَدِيقُك فَعَامِلْهُمَا
بِالْفَضْلِ وَالْمُسَامَحَةِ لَا بِالْعَدْلِ .
وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَثْنَاءِ
كَلَامٍ لَهُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْحِلْمِ
وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَإِنَّهُ لَكَمَا قَالَ مُطْرِيهِ : يَرِينُكَ
إمَّا غَابَ عَنْك فَإِنْ دَنَا رَأَيْت لَهُ وَجْهًا يَسُرُّك مُقْبِلَا
يُعَلِّمُ هَذَا الْخَلْقَ مَا شَذَّ عَنْهُمْ مِنْ الْأَدَبِ
الْمَجْهُولِ كَهْفًا وَمَعْقِلَا وَيَحْسُرُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ إذَا
رَأَى مُضِيمًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا
يَسْأَمُ الْبِلَى
وَإِخْوَانُهُ الْأَدْنَوْنَ كُلٌّ مُوَفَّقٌ بَصِيرٌ بِأَمْرِ اللَّهِ
يَسْمُو إلَى الْعُلَى وَقَالَ الْخَلَّالُ ثنا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ :
قَالَ لِي أَحْمَدُ مَا كَتَبْت حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِي فِي
الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا } ، فَأَعْطَيْت
الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ .
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ
أَحْمَدَ زُهَاءُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ ، أَوْ يَزِيدُونَ ، أَقَلُّ مِنْ
خَمْسِمِائَةٍ يَكْتُبُونَ ، وَالْبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ
الْأَدَبِ وَحُسْنَ السَّمْتِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ
كُنَّا نَهَابُ أَنْ نُرَادَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي الشَّيْءِ أَوْ
نُحَاجَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ ، يَعْنِي لِجَلَالَتِهِ
وَلِهَيْبَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي رُزِقَهُ .
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا
لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَشَعْرِ بَدَنِهِ وَلَا
أَنْقَى ثَوْبًا وَأَشَدَّ بَيَانًا مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ .
وَقَالَتْ
فَاطِمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ
أَخِي صَالِحٍ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ إلَى قَوْمٍ مَيَاسِيرَ فَحَمَلُوا
إلَيْهِ جِهَازًا شَبِيهًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَأَكَلَتْهُ
النَّارُ فَجَعَلَ صَالِحٌ يَقُولُ مَا غَمَّنِي مَا ذَهَبَ مِنِّي إلَّا
ثَوْبُ أَبِي كَانَ يُصَلَّى فِيهِ أَتَبَرَّكُ بِهِ وَأُصَلِّي فِيهِ ،
قَالَتْ فَطُفِئَ الْحَرِيقُ وَدَخَلُوا فَوَجَدُوا الثَّوْبَ عَلَى
سَرِيرٍ قَدْ أَكَلَتْ النَّارُ مَا حَوْلَهُ وَالثَّوْبُ سَالِمٌ قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيّ : وَهَكَذَا بَلَغَنِي عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّيْنَبِيِّ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ الْحَرِيقَ وَقَعَ
فِي دَارِهِمْ فَاحْتَرَقَ مَا فِيهَا إلَّا كِتَابٌ فِيهِ شَيْءٌ بِخَطِّ
أَحْمَدَ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَلَمَّا وَقَعَ الْغَرَقُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَغَرِقَتْ
كُتُبِي
سَلِمَ لِي مُجَلَّدٌ فِيهِ وَرَقَتَانِ مِنْ خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَفِي قَصِيدَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
فُلَانٍ التِّرْمِذِيّ الَّذِي أَنْشَدَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْن
حَنْبَلٍ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ فِيهَا : إذَا
مُيِّزَ الْأَشْيَاخُ يَوْمًا وَحَصَّلُوا فَأَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ
الْمَشَايِخِ جَوْهَرُ فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ
رُوَيْدَك عَنْ إدْرَاكِهِ سَتُقَصِّرُ حَمَى نَفْسَهُ الدُّنْيَا وَقَدْ
سَنَحَتْ لَهُ فَمَنْزِلُهُ إلَّا مِنْ الْقُوتِ مُقْفِرُ فَإِنْ يَكُ فِي
الدُّنْيَا مُقِلًّا فَإِنَّهُ مِنْ الْأَدَبِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ
مُكْثِرُ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ مِنْ مِصْرَ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ لِلرَّبِيعِ بْنِ
سَلْمَانَ وَقَالَ : اذْهَبْ بِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ وَأْتِنِي بِالْجَوَابِ فَجَاءَ بِهِ إلَيْهِ فَلَمَّا
قَرَأَهُ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ
ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ إنَّك
سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَلَا تُجِبْهُمْ يَرْفَعْ
اللَّهُ لَك عَلَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ
الْبِشَارَةَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ وَجَوَابَ
الْكِتَابِ ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَيُّ شَيْءٍ رُفِعَ إلَيْكَ
قَالَ : الْقَمِيصُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ قَالَ لَيْسَ نَفْجَعُكَ بِهِ
، وَلَكِنْ بُلَّهُ وَادْفَعْ إلَيْنَا الْمَاءَ حَتَّى نُشْرِكَك فِيهِ .
وَفِي
بَعْضِ الطُّرُقِ قَالَ الرَّبِيعُ فَغَسَلْتَهُ وَحَمَلْت مَاءَهُ
إلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي قِنِّينَةٍ وَكُنْتُ أَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدَّيْنِ كَذَبُوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ حِكَايَاتٍ فِي السُّنَّةِ
وَالْوَرِعِ وَذِكْرُهُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَحِكَايَةَ
امْتِنَاعِهِ مِنْ الْخُبْزِ الَّذِي خُبِزَ فِي بَيْتِ ابْنِهِ صَالِحٍ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ ؟ وَدُفِعَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ كِتَابٌ مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ فَإِذَا دَعَوْنَا لِهَذَا فَنَحْنُ مَنْ يَدْعُو لَنَا ؟ .
فَصْلٌ ( فِي حُسْنِ الْجِوَارِ )
وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الْحَسَنِ لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ
الْأَذَى ، حُسْنُ الْجِوَارِ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى .
وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ
الشَّعْبِيِّ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { مَا
زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ
سَيُوَرِّثُهُ } وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } .
وَلِمُسْلِمِ
أَيْضًا { فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ } رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ وَلِأَحْمَدَ { فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ }
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { فَلْيَحْفَظْ
جَارَهُ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ {
وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ
مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا { لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثنا الرَّبِيعُ بْنُ
نَافِعٍ بْنِ تَوْبَةَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ
اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَآتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ اذْهَبْ
فَاطْرَحْ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ
فَجَعَلَ النَّاسَ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ
النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ ، فَجَاءَ إلَيْهِ
جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ } .
إسْنَادُهُ
جَيِّدٌ وَمُحَمَّدُ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَلَهُ أَيْضًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ
وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو أَنَّهُ ذَبَحَ
شَاةً فَقَالَ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ ؟ فَإِنِّي سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا زَالَ
جِبْرِيلُ } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي الْكُنَى :
أَبُو
عُمَرَ هُوَ الْبَجَلِيُّ قَالَ عَلِيُّ بْنَ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ ثَنَا
شَرِيكٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ { شَكَا رَجُلٌ
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارَهُ فَقَالَ
احْمِلْ مَتَاعَك فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَمَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ
فَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
مَا لَقِيت مِنْ النَّاسِ قَالَ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ }
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ سَوْءٍ عَيْنُهُ تَرَانِي
وَقَلْبُهُ لَا يَنْسَانِي .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَكْتُوبٌ فِي
التَّوْرَاةِ : إنَّ أَحَسَدَ النَّاسِ لِلْعَالِمِ وَأَبْغَاهُمْ
عَلَيْهِ قَرَابَتُهُ وَجِيرَانُهُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَزْهَدُ النَّاسِ
فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ : فِي الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ الْأَوَّلِ أَزْهَدُ النَّاسِ
فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَرُوِيَ
مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ رَجُلٌ
لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَاَللَّهِ إنِّي أُحِبُّك : فَقَالَ وَلِمَ لَا
تُحِبُّنِي وَلَسْت لِي بِجَارٍ وَلَا ابْنِ عَمٍّ ؟ كَانَ يُقَال
الْحَسَدُ فِي الْجِيرَانِ وَالْعَدَاوَةُ فِي الْأَقَارِبِ .
قَالَ
الشَّاعِرُ : أَنْتَ حِلِّي وَأَنْتَ حُرْمَةُ جَارِي وَحَقِيقٌ عَلَيَّ
حِفْظُ الْجِوَارِ إنَّ لِلْجَارِ إنْ تَغَيَّبَ عَيْنًا حَافِظًا
لِلْمَغِيبِ وَالْأَسْرَارِ مَا أُبَالِي إنْ كَانَ لِلْبَابِ سِتْرٌ
مُسْبَلٌ أَمْ بَقِيَ بِغَيْرِ سِتَارِ وَقَالَ آخَرُ : نَارِي وَنَارُ
الْجَارِ وَاحِدَةٌ وَإِلَيْهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ مَا ضَرَّ
جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ أَعْمَى إذَا
مَا جَارَتِي بَرَزَتْ حَتَّى تُوَارِي جَارَتِي الْجُدْرُ وَقَالَ آخَرُ
: أَقُول لِجَارِي إذْ أَتَأْنِي مُعَاتِبًا مُدِلًّا بِحَقٍّ أَوْ
مُدِلًّا بِبَاطِلِ إذَا لَمْ يَصِلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرٌ إلَيْكَ
فَمَا شَرِّي إلَيْكَ بِوَاصِلِ وَمِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَارُ قَبْلَ الدَّارِ وَالرَّفِيقُ
قَبْلَ
الطَّرِيقِ .
أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَقَالَ : يَقُولُونَ
قَبْلَ الدَّارِ جَارٌ مُوَافِقٌ وَقَبْلَ الطَّرِيقِ النَّهْجِ أُنْسُ
رَفِيقِ وَقَالَ آخَرُ : اُطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُجَاوِرُهُمْ لَا
تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ وَقَالَ آخَرُ :
يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلًا وَلَمْ يَعْرِفُوا جَارًا
هُنَاكَ يُنَغِّصُ فَقُلْت لَهُمْ كُفُّوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَا
بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إلَى جَنْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُنَافِقٌ
يُؤْذِيه وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ
حَقِّ الْجَارِ أَنْ تَبْسُطَ إلَيْهِ مَعْرُوفَك وَتَكُفَّ عَنْهُ آذَاك
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلْعَبَّاسِ مَا بَقِيَ مِنْ كَرَمِ
إخْوَانِك ؟ قَالَ الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ ، وَتَرْكُ أَذَى
الْجِيرَانِ قَالَ الشَّاعِرُ : سُقْيًا وَرَعْيًا لِأَقْوَامٍ نَزَلْتُ
بِهِمْ كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي إذَا تَأَمَّلْت
مِنْ أَخْلَاقِهِمْ خُلُقًا عَلِمْت أَنَّهُمْ مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ
وَقَالَ آخَرُ : إذَا مَا رَفِيقِي لَمْ يَكُنْ خَلْفَ نَاقَتِي لَهُ
مَرْكَبُ فَضْلٍ فَلَا حَمَلَتْ رَحْلِي وَلَمْ يَكُ مِنْ زَادِي لَهُ
نِصْفَ مِزْوَدِي فَلَا كُنْت ذَا زَادٍ وَلَا كُنْت ذَا رَحْلِ
شَرِيكَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ أَرَى عَلَيَّ لَهُ فَضْلًا بِمَا
نَالَ مِنْ فَضْلِي وَقَالَ آخَرُ : نَزَلْتُ عَلَى آلِ الْمُهَلَّبِ
شَائِنًا غَرِيبًا عَنْ الْأَوْطَانِ فِي بَلَدٍ مَحْلِ فَمَا زَالَ بِي
إكْرَامُهُمْ وَافْتِقَادُهُمْ وَبِرُّهُمُو حَتَّى حَسِبْتُهُمُو أَهْلِي
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ثَلَاثٌ إذَا كُنَّ فِي الرَّجُلِ لَمْ
يُشَكَّ فِي عَقْلِهِ وَفَضْلِهِ : إذَا حَمِدَهُ جَارُهُ وَقَرَابَتُهُ
وَرَفِيقُهُ .
كَدُرَ الْعَيْشِ فِي ثَلَاثٍ : الْجَارِ السَّوْءِ ، وَالْوَلَدِ
الْعَاقِّ ، وَالْمَرْأَةِ السَّيِّئَةِ الْخُلُقِ .
ثَلَاثَةٌ
لَا يَأْنَفُ الْكَرِيمُ مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ : أَبُوهُ
وَضَيْفُهُ وَدَابَّتُهُ وَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مُخَالَطَةِ
السُّلْطَانِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ تُقَبَّحُ فِي
خَمْسَةِ أَصْنَافٍ : الْحِدَّةُ فِي
السُّلْطَانِ ، وَقِلَّةُ
الْحَيَاءِ فِي ذَوِي الْأَحْسَابِ ، وَالْبُخْلُ فِي ذَوِي الْأَمْوَالِ
، وَالْفُتُوَّةُ فِي الشُّيُوخِ ، وَالْحِرْصُ فِي الْعُلَمَاءِ
وَالْقُرَّاءِ .
وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ { يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا
تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ } .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ
{ تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ ، وَلَا
تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ } .
الْفِرْسِنُ
الْعَظْمُ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ خُفُّ الْبَعِيرِ أَيْضًا
كَالْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ وَهُوَ الظِّلْفُ
.
وَنُونُهُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ أَصْلِيَّةٌ ، وَوَحَرُ الصَّدْرِ
بِالتَّحْرِيكِ غِشُّهُ وَوَسْوَاسُهُ .
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ : لَا يَشْبَعُ الرَّجُلُ دُونَ جَارِهِ
.
قَالَ
فِي الْمُسْتَوْعِبِ : وَحُسْنُ الْجِوَارِ مَأْمُورٌ بِهِ فَإِنَّ
لِلْجَارِ حَقًّا وَحُرْمَةً ثُمَّ ذَكَرَ كَمَا ذَكَرَ الْحَسَنُ وَزَادَ
فِي آخِرِهِ مَا لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى .
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى
أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ يُشَاوِرُهُ فِي
الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِتَأَذِّي الْجِوَارِ ،
فَقَالَ الْعَرَبُ تَقُولُ صَبْرُكَ عَلَى أَذَى مَنْ تَعْرِفُهُ خَيْرٌ
لَك مِنْ اسْتِحْدَاثِ مَنْ لَا تَعْرِفُهُ وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ يَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ
الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ .
فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ
أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ .
وَرَوَى
أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ مَا
كَثُرَتْ النِّعَمُ عَلَى قَوْمٍ قَطُّ إلَّا كَثُرَ أَعْدَاؤُهَا .
وَقَدْ
ذَكَرْتُ خَبَرَ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ ؟ قَالَ
يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ
الْهَوَانَ
حِمَارُ الْمَوْتِ يَأْلَفُهُ وَالْحُرُّ يُنْكِرُهُ وَالْفِيلُ وَالْأَسَدُ وَلَا يُقِيمُ بِدَارِ الذُّلِّ يَأْلَفُهَا إلَّا الذَّلِيلَانِ عَبْدُ السَّوْءِ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا كُنْتَ فِي دَارٍ يُهِينُكَ أَهْلُهَا وَلَمْ تَكُ مَكْبُولًا بِهَا فَتَحَوَّلْ وَقَالَ آخَرُ : لَا تَأْسَفَنَّ عَلَى خِلٍّ تُفَارِقُهُ إنَّ الْأَقَاصِيَ قَدْ تَدْنُو فَتَأْتَلِفُ فَالنَّاسُ مُبْتَذَلٌ وَالْأَرْضُ وَاسِعَةٌ فِيهَا مَجَالٌ لِذِي لُبٍّ وَمُنْصَرَفُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا مَا الْحُرُّ هَانَ بِأَرْضِ قَوْمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَرَبٍ جُنَاحُ وَقَدْ هُنَّا بِأَرْضِكُمْ وَصِرْنَا كَقَيْءِ الْأَرْضِ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَقَالَ آخَرُ : وَإِذَا الدِّيَارُ تَنَكَّرَتْ عَنْ حَالِهَا فَدَعِ الدِّيَارَ وَأَسْرِعْ التَّحْوِيلَا لَيْسَ الْمُقَامُ عَلَيْك حَقًّا وَاجِبًا فِي مَنْزِلٍ يَدَعُ الْعَزِيزَ ذَلِيلَا وَقَالَ آخَرُ : وَكُنْتُ إذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَحَلَّةٌ تَيَمَّمْتُ أُخْرَى مَا عَلَيَّ تَضِيقُ وَمَا خَابَ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ عَامِلٌ لَهُ فِي التُّقَى أَوْ فِي الْمَحَامِدِ سُوقُ وَلَا ضَاقَ فَضْلُ اللَّهِ عَنْ مُتَعَفِّفٍ وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا كُنْتَ فِي دَارٍ فَحَاوَلْتَ رِحْلَةً فَدَعْهَا وَفِيهَا إنْ أَرَدْتَ مَعَادُ وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرْ عَلَى حَدَثِ الزَّمَانِ فَإِنَّمَا فَرَجُ الشَّدَائِدِ مِثْلُ حَلِّ عِقَالِ فَإِذَا خَشِيتَ تَعَذُّرًا فِي بَلْدَةٍ فَاشْدُدْ عَلَيْك بِعَاجِلِ التَّرْحَالِ إنَّ الْمُقَامَ عَلَى الْهَوَانِ مَذَلَّةٌ وَالْعَجْزُ آفَةُ حِيلَةِ الْمُحْتَالِ وَقِيلَ : لَا يَمْنَعَنَّك خَفْضُ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ نُزُوعَ نَفْسٍ إلَى أَهْلٍ وَأَوْطَانِ تَلْقَى بِكُلِّ بِلَادٍ إنْ نَزَلْتَ بِهَا أَهْلًا بِأَهْلٍ وَجِيرَانًا بِجِيرَانِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حِينَ رَحَلَ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ : وَقَائِلَةٍ مَالِي أَرَاك مُرَحَّلَا فَقُلْتُ لَهَا صَبْرًا وَاسْمَعِي الْقَوْلَ مُجْمَلَا تَنَكَّرَ مَنْ كُنَّا نُسَرُّ بِقُرْبِهِ وَعَادَ زُعَاقًا بَعْد مَا كَانَ سَلْسَلَا وَحُقَّ لِجَارٍ لَمْ يُوَافِقْهُ جَارُهُ وَلَا لَايَمَتْهُ
الدَّارُ أَنْ
يَتَرَحَّلَا أَلَيْسَ بِحَزْمٍ مَنْ لَهُ الظِّلُّ مَقْعَدٌ إذَا
أَدْرَكَتْهُ الشَّمْسُ أَنْ يَتَحَوَّلَا بُلِيت بِحِمْصٍ وَالْمُقَامُ
بِبَلْدَةٍ طَوِيلًا لَعَمْرِي مُخْلِقٌ يُورِثُ الْبِلَا إذَا هَانَ
حُرٌّ عِنْدَ قَوْمٍ أَتَاهُمْ وَلَمْ يَنْأَ عَنْهُمْ كَانَ أَعْمَى
وَأَجْهَلَا وَلَمْ تُضْرَبْ الْأَمْثَالُ إلَّا لِعَالِمٍ وَلَا غُرِّبَ
الْإِنْسَانُ إلَّا لِيَعْقِلَا قَالَ ابْنُ عَبْدٍ الْبَرِّ قِيلَ
لِلْأَوْزَاعِيِّ رَجُلٌ قَدَّمَ إلَى ضَيْفِهِ الْكَامِخَ وَالزَّيْتُونَ
وَعِنْدَهُمْ اللَّحْمُ وَالْعَسَلُ وَالسَّمْنُ ؟ فَقَالَ لَا يُؤْمِنُ
هَذَا بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر .
قَالَ الشَّاعِرُ :
طَعَامِي طَعَامُ الضَّيْفِ وَالرَّحْلُ رَحْلُهُ وَلَمْ يُلْهِنِي عَنْهُ
غَزَالٌ مُقَنَّعُ أُحَدِّثُهُ إنَّ الْحَدِيثَ مِنْ الْقِرَى وَتَعْلَمُ
نَفْسِي أَنَّهُ سَوْفَ يَهْجَعُ وَقَالَ آخَرُ : يَسْتَأْنِسُ الضَّيْفُ
فِي أَبْيَاتِنَا أَبَدًا فَلَيْسَ يَعْلَمُ خَلْقٌ أَيُّنَا الضَّيْفُ
وَقَالَ حَسَّانُ : يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ لَا
يَسْأَلُونَ عَنْ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ وَقَدْ عَرَفَتْ كِلَابُهُمْ
ثِيَابِي كَأَنِّي مِنْهُمْ وَنَسِيت أَهْلِي وَقَالَ آخَرُ : أُضَاحِكُ
ضَيْفِي قَبْلَ إنْزَالِ رَحْلِهِ وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ
جَدِيبُ وَمَا الْخِصْبُ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى
وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ وَقِيلَ : ضَيْفُكَ قَابِلْهُ
بِبِشْرِك وَلْيَكُنْ لَهُ مِنْك أَبْكَارُ الْحَدِيثِ وَعُونُهُ وَقِيلَ
: تَرَاهُمْ خَشْيَةَ الْأَضْيَافِ خُرْسًا يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ بِلَا
أَذَانِ وَقِيلَ : ذَرِينِي فَإِنَّ الشُّحَّ يَا أُمَّ مَالِكٍ لِصَالِحِ
أَخْلَاقِ الرِّجَالِ سَرُوقُ ذَرِينِي وَحَظِّي فِي هَوَانِي إنَّنِي
عَلَى الْحَسَبِ الْعَالِي الرَّفِيعِ شَفِيقُ .
فَصْلُ ( فِي حُبِّ الْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَالْحَذَرِ مِنْ
الدُّنْيَا ) .
قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : كَأَنَّك بِالْمَوْتِ وَقَدْ
فَرَّقَ بَيْنَنَا أَنَا لَا أَعْدِلُ بِالْفَقْرِ شَيْئًا أَنَا أَفْرَحُ
إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ ، إنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ صَبَاحًا
وَمَسَاءً أَخَافُ أَنْ أُفْتَنَ فِي الدُّنْيَا .
قَالَ مَسْرُوقٌ
إنَّمَا تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ قَبْرُهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ :
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ الْحَسَنُ أَهِينُوا الدُّنْيَا
فَوَاَللَّهِ لَأَهْنَأُ مَا تَكُونُ حِينَ تُهَانُ وَقَالَ أَحْمَدُ
أَيْضًا الْغِنَى مِنْ الْعَافِيَةِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَوْصِنِي قَالَ
أَعِزَّ أَمْرَ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْت يُعِزّكَ اللَّهُ .
وَقَالَ
يَحْيَى الْجَلَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَزِيزٌ
عَلَيَّ أَنْ تُذِيبَ الدُّنْيَا أَكْبَادَ رِجَالٍ وَعَتْ صُدُورُهُمْ
الْقُرْآنَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ اخْتَفَى عِنْدِي
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ قَالَ لِي اُطْلُبْ لِي
مَوْضِعًا حَتَّى أَدُورَ ، قُلْت إنِّي لَا آمَنُ عَلَيْك يَا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اخْتَفَى فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ
تَتَّبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الرَّخَاءِ وَتَتْرُكَ فِي الشِّدَّةِ .
وَطَلَبَهُ الْمَأْمُونُ
فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ قَالَ صَالِحٌ قَالَ أَبِي وَكُنْت
أَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا أَرَاهُ فَحَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا مَعْمَرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ
مِهْرَانَ قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا تَبْلُوَنَّ نَفْسَك بِهِنَّ : لَا
تَدْخُلَنَّ عَلَى سُلْطَانٍ وَإِنْ قُلْت آمُرُهُ بِطَاعَةٍ ، وَلَا
تَدْخُلَنَّ عَلَى امْرَأَةٍ وَإِنْ قُلْت أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ ،
وَلَا تُصْغِيَنَّ سَمْعَك لِذِي هَوًى فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا
تَعَلَّقَ قَلْبُك مِنْهُ قَالَ صَالِحٌ سَمِعْت أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَعْطَيْتُ الْمَجْهُودَ مِنْ نَفْسِي
وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ
وَلَا لِي .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَحْمَدَ
فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ جَزَاك اللَّهُ عَنْ
الْإِسْلَامِ خَيْرًا ، فَغَضِبَ وَقَالَ لَهُ مَنْ أَنَا حَتَّى
يُجْزِيَنِي اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ؟ أَنْتَ فِي غَيْرِ حِلٍّ
مِنْ جُلُوسِك قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَزَاك
اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ مَا سَمِعْت كَلِمَةً كَانَتْ أَقْوَى لِقَلْبِي
وَأَقَرَّ لِعَيْنِي فِي الْمِحْنَةِ مِنْ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ
فَقِيرٍ أَعْمَى فِي رَحْبَة طُرُقٍ قَالَ لِي يَا أَحْمَدُ إنْ تَهْلِكْ
فِي الْحَقِّ مِتَّ شَهِيدًا ، وَإِنْ عِشْت عِشْت حَمِيدًا .
وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمُّ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ
أَعْذَرْت فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أَجَابَ
أَصْحَابُكَ وَالْيَوْمَ بَقِيت فِي الْحَبْسِ وَالشَّرِّ ، فَقَالَ لِي
يَا عَمُّ إذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلٍ
فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقّ ؟ فَأَمْسَكَتْ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ
الْمُنَادِي دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد الْحَدَّادُ عَلَى أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ الْحَبْسَ قَبْلَ الضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْك رِجَالٌ وَلَك صِبْيَانٌ وَأَنْتَ
مَعْذُورٌ كَأَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةَ فَقَالَ لَهُ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ كَانَ هَذَا عَقْلَك فَقَدْ اسْتَرَحْت
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
يَقُولُ أَنَا وَاَللَّهِ رَأَيْت يَوْمَ ضُرِبَ أَحْمَدُ وَقَدْ
ارْتَفَعَ مِنْ بَعْدِ انْخِفَاضِهِ ، وَانْعَقَدَ مِنْ بَعْد
انْحِلَالِهِ وَلَمْ يَفْطُنْ لِذَلِكَ لِذُهُولِ عَقْلِ مَنْ حَضَرَهُ
وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ
ثنا سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ قَدْ كَانَ
هَهُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكُنَّا
نَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا ، إنَّهُمَا
مَاتَا وَبَقِيَ سِرِّي ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا
اللَّهُ بِسِرِّي .
وَقَدْ
قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ سَمِعْت
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَوْلَا بِشْرٌ يَعْنِي الْحَافِيَّ وَمَا
نَرْجُو مِنْ اسْتِغْفَارِهِ لَنَا لَكِنَّا فِي عُطْلَةٍ .
وَقَالَ
أَبُو زُرْعَةَ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَيْفَ تَخَلَّصْت مِنْ
سَيْفِ الْمُعْتَصِمِ وَسَوْطِ الْوَاثِقِ ؟ فَقَالَ لَوْ وُضِعَ
الصِّدْقُ عَلَى جُرْحٍ لَبَرِيءَ وَقَالَ خَلَفٌ : جَاءَنِي أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ يَسْمَعُ حَدِيثَ أَبِي عَوَانَةَ فَاجْتَهَدْت أَنْ
أَرْفَعَهُ فَأَبَى وَقَالَ لَا أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْك ، أُمِرْنَا أَنْ
نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَطَّارُ أَنَّهُ رَأَى أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ أَخَذَ لِدَاوُدَ بْنِ عُمَرَ بِالرِّكَابِ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ
تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ .
وَذَكَرَ
أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الرِّبَاطَيَّ لِأَنَّهُ تَوَلَّى
الرِّبَاطَاتِ فَنُسِبَ إلَيْهَا قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل
يَقُول أَخَذْنَا هَذَا الْعَالَمَ بِالذُّلِّ فَلَا نَدْفَعُهُ إلَّا
بِالذُّلِّ .
وَقَالَ الرِّبَاطِيُّ قَدِمْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ فَجَعَلَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَيَّ ، فَقُلْت يَا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ يُكْتَبُ عَنِّي بِخُرَاسَانَ وَإِنْ عَامَلْتَنِي
بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ رَمَوْا بِحَدِيثِي ، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ
وَهَلْ بُدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ طَاهِرٍ وَأَتْبَاعُهُ ؟ اُنْظُرْ أَيْنَ تَكُونُ مِنْهُمْ ؟ فَقُلْت
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا وَلَّانِي أَمْرَ الرِّبَاطِ لِذَلِكَ
دَخَلْت قَالَ فَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيَّ .
وَيَنْبَغِي أَنْ
يَخْفِضَ صَوْتَهُ عِنْدَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْ رَفَعَ
صَوْتَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ قِلَّةُ احْتِرَامٍ
لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَمَّا رَفَعَ صَوْتُهُ سَعْدٌ عَلَى أَبِي
جَهْلٍ قَالَ لَهُ بَعْضُ قُرَيْشٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك عَلَى أَبِي
الْحَكَمِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِك } .
أَيْ
اُنْقُصْ مِنْهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ غَضَضْت بَصَرِي وَفُلَانٌ يَغُضُّ
بَصَرَهُ مِنْ فُلَانٍ { إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أَيْ أَقْبَحَ
يَقُولُ أَتَانَا فُلَانٌ بِوَجْهٍ مُنْكَرٍ أَيْ قَبِيحٍ وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ : تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْجَهْرَ بِالصَّوْتِ لَيْسَ
بِمَحْمُودٍ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الصَّوْتِ الْمُنْكَرِ وَقَالَ
ابْنُ قُتَيْبَةَ : عَرَّفَهُ قُبْحَ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِي
الْمُخَاطَبَةِ بِقُبْحِ أَصْوَاتِ الْحَمِيرِ لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ لَوْ كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ خَيْرًا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ
لِلْحَمِيرِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ
تَسْبِيحُ لِلَّهِ إلَّا الْحِمَارَ فَإِنَّهُ يَنْهَقُ بِلَا فَائِدَةٍ
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
فِي الْفُنُونِ مِمَّا وَجَدْته فِي آدَابِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَنِدًا وَذُكِرَ عِنْدَهُ ابْنُ طَهْمَانَ
فَأَزَالَ ظَهْرَهُ عَنْ الِاسْتِنَادِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يَجْرِيَ ذِكْرُ الصَّالِحِينَ وَنَحْنُ مُسْتَنِدُونَ قَالَ ابْنُ
عَقِيلٍ فَأَخَذْتُ مِنْ هَذَا حُسْنَ الْأَدَبِ فِيمَا يَفْعَلُهُ
النَّاسُ عِنْدَ إمَامِ الْعَصْرِ مِنْ النُّهُوضِ لِسَمَاعِ
تَوْقِيعَاتِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَافِظُ ابْنُ الْأَخْضَرِ
فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ
قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَذُكِرَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ
بْنُ طَهْمَانَ وَكَانَ مُتَّكِئًا مِنْ عِلَّةٍ فَاسْتَوَى جَالِسًا
وَقَالَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ الصَّالِحُونَ فَنَتَّكِئُ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالْمُلْكِ وَعِزَّةِ
النَّفْسِ فَيُفْلِحُ لَكِنَّ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ
الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ وَتَوَاضُعِ النَّفْسِ أَفْلَحَ وَقَالَ
أَبُو تَوْبَةَ الْبَغْدَادِيُّ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ هَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ
يُحَدِّثُ فَقَالَ هَذَا يَفُوتُ وَذَاكَ لَا يَفُوتُ .
وَرَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قُلْت لِرِجْلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ
الْيَوْمَ كَثِيرٌ قَالَ : وَاعَجَبًا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى
النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إلَيْك وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابٍ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِيهِمْ قَالَ : فَتَرَكَ
ذَلِكَ وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَدِيثِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي
الْحَدِيثُ عَنْ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ
رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ
فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِك ؟ أَلَا أَرْسَلْت إلَى فَآتِيك ؟
فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيك ، فَاسْأَلْهُ عَنْ الْحَدِيثِ قَالَ
فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ
النَّاسُ حَوْلِي فَيَقُولُ هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَأَنَّ
اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ قَرَأَ عَلَيْهِ
لِتَعْلِيمِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِيُسِنَّ التَّوَاضُعَ فِي أَخْذِ
الْإِنْسَان مِنْ الْعُلُومِ عَنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي
النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ وَالشُّهْرَةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلِيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيٍّ
وَتَقْدِيمِهِ فَيَجْتَهِدُونَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ وَإِنَّمَا خَصَّ
هَذِهِ السُّورَةَ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الِاخْتِصَارَ مَعَ أَنَّهَا
جَامِعَةٌ .
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ
يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَشُقُّ النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلَقَةِ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : إنَّ الْعِلْمَ
يُبْتَغَى وَيُؤْتَى وَيُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ كَانَ .
كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِبَنِيهِ : إنَّا كُنَّا
صِغَارَ قَوْمٍ
وَإِنَّا
الْيَوْمَ كِبَارٌ وَإِنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِثْلَنَا إنْ بَقِيتُمْ ،
وَلَا خَيْرَ فِي كَبِيرٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ عُمَيْرٍ لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى فِي
حَلَقَةٍ فِيهَا نَفَرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَسْتَمِعُونَ لِحَدِيثِهِ
وَيُنْصِتُونَ لَهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ .
وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْمِلْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ
سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا .
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْمُتَوَاضِعُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ
الْبِقَاعِ مَاءً .
وَقَدْ نَظَمَ هَذَا أَبُو عَامِرٍ النَّسَوِيُّ
فَقَالَ : الْعِلْمُ يَأْتِي كُلَّ ذِي خَفْضٍ وَيَأْبَى كُلَّ آبِي
كَالْمَاءِ يَنْزِلُ فِي الْوِهَادِ وَلَيْسَ يَصْعَدُ فِي الرَّوَابِي
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَمِلَ الطَّالِبُ مَا يَكُونُ مِنْ
الشَّيْخِ أَوْ مِنْ بَقِيَّةِ الطَّلَبَةِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ الْعِلْمِ
فَتَفُوتَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ مَعَ حُصُولِ الْعَدُوِّ طَلَبِهِ ،
وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَأْمُورِ
بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ
الشَّقَاءِ ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ } .
وَقَدْ
قِيلَ : لَمَحْبَرَةٌ تُجَالِسُنِي نَهَارِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أُنْسِ
الصَّدِيقِ وَرِزْمَةُ كَاغِدٍ فِي الْبَيْتِ عِنْدِي أَعَزُّ إلَيَّ مِنْ
عَدْلِ الدَّقِيقِ وَلَطْمَةُ عَالِمٍ فِي الْخَدِّ مِنِّي أَلَذُّ
عَلَيَّ مِنْ شُرْبِ الرَّحِيقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ غَضِبَ الْأَعْمَشُ
يَوْمًا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الطَّلَبَةِ فَقَالَ آخَرُ لَوْ غَضِبَ عَلَيَّ
مِثْلُك لَمْ أَعُدْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ : إذًا هُوَ
أَحْمَقُ مِثْلُك يَتْرُكُ مَا يَنْفَعُهُ لِسُوءِ خُلُقِي .
ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ .
فَصْلٌ ( فِي الْوَحْدَةِ وَالْعُزْلَةِ وَالتَّوَاضُعِ فِي
سِيرَةِ أَحْمَدَ ) .
قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ كَانَ أَبِي أَصْبَرَ النَّاسِ عَلَى الْوَحْدَةِ وَقَالَ
لَمْ يَرَ أَحَدٌ أَبِي إلَّا فِي مَسْجِدٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ أَوْ
عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَكَانَ يَكْرَهُ الْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَالَ
الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ : رَأَيْتُ الْوَحْدَةَ أَرْوَحَ لِقَلْبِي .
وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى
أَنْ يَلْتَقِيَا فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ
وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ ، وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ
عِلْمًا ، وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ قُلْ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ أُخْمِلَ ذِكْرُكَ ، فَإِنِّي أَنَا
قَدْ بُلِيت بِالشُّهْرَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ
: أَشْتَهِي مَا لَا يَكُونُ ، أَشْتَهِي مَكَانًا لَا يَكُونُ فِيهِ
أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ
أَنْ آتِيَك فَأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْرَهَ
الرَّحْلَ ، فَقَالَ : إنَّا لَنَكْرَهُ ذَلِكَ وَقَالَ الْأَثْرَمُ :
سَمِعْت الْهَيْثَمَ بْنَ خَارِجَةَ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ
عَرُوسٌ تُزَارُ وَلَا تَزُورُ .
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ أَبِي
عَبْدِ اللَّه وَتَرْجَمَةِ مَا سَبَقَ وَمَا يَأْتِي وَمَا لَمْ
نَذْكُرْهُ وَجَدَ هِمَّتَهُ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ أَعْلَى
الْهِمَمِ ، وَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
تَارِيخِهِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ دَغْفَلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ لَهُ أَيُّ بَيْتٍ أَفْخَرُ ، قَالَ : قَوْلُ الشَّاعِرِ : لَهُ
هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنْ
الدَّهْرِ لَهُ رَاحَةٌ لَوْ أَنَّ مِعْشَارَ جُودِهَا عَلَى الْبَرِّ
كَانَ الْبَرُّ أَنْدَى مِنْ الْبَحْرِ وَقَالَ صَالِحٌ : كَانَ أَبِي
إذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ يَقُولُ الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَقَالَ
عَامِرٌ : لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بَلَغَنِي
أَنَّك رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَمِنْ أَيِّ الْعَرَبِ أَنْتَ
؟
فَقَالَ لِي يَا أَبَا النُّعْمَانِ نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ وَمَا
نَصْنَعُ بِهَذَا ؟ فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَنِي أُرِيدُهُ عَلَى أَنْ
يُخْبِرَنِي فَيُعِيدُ عَلَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَا
يُخْبِرُنِي بِشَيْءٍ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الرُّومِيِّ :
كُنْت كَثِيرًا مَا أَرَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
يَعْنِي وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يَأْتِي إلَى مَسْجِدِ بَنِي مَازِنٍ
فَيُصَلِّي فِيهِ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أَرَاك كَثِيرًا
تُصَلِّي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ : إنَّهُ مَسْجِدُ آبَائِي وَقَالَ
الْخَلَّالُ : حَدَّثَنَا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ : حَضَرْت أَبَا ثَوْرٍ
سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إمَامُنَا
، أَوْ قَالَ شَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ،
فَجَعَلَ السَّائِلُ يَدْعُو لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ رَأْيِهِ ،
فَلَمَّا مَضَى الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ : هَذَا لَوْ أَخْبَرْته عَنْ
رَأْيِي لَكَانَ يَعْنِي يَطُولُ فَحَيْثُ قُلْت لَهُ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ مَرَّ وَسَكَتَ ، وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فَقَالَ : إنَّ لِي وَالِدَةً مُقْعَدَةً تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا
قَالَ : فَغَضِبَ وَقَالَ : كَيْف قَصَدَتْنِي ؟ قُلْ لِوَالِدَتِك
تَدْعُو لِي ، هَذِهِ مُبْتَلَاةٌ ، وَأَنَا مُعَافًى .
ثُمَّ دَعَا لَهَا وَعُوفِيَتْ .
وَجَاءَ
رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ بِكِتَابِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجْعَلُ لَهُ
مَجْلِسًا فَأَهْدَى إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَوْمًا ثَوْبًا
فَأَعْطَاهُ رَجُلًا ، فَقَالَ : اذْهَبْ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَوِّمْهُ
، فَذَهَبَ فَجَاءَ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَحَجَبَهُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى اشْتَرَى لَهُ ثَوْبَيْنِ وَمِقْنَعَةً أَوْ
ثَوْبًا وَمِقْنَعَةً وَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ
فَحَدَّثَهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : رَأَيْت أَبِي إذَا اخْتَفَى ،
أَكْثَرُ ذَلِكَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ رُبَّمَا
يَتْرُكُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا
تَبِعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَيَّرُوا بِأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ
التِّرْمِذِيُّ رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَشْتَرِي مِنْ السُّوقِ
الْخُبْزَ وَيَحْمِلُ بِنَفْسِهِ فِي الزِّنْبِيلِ ، وَرَأَيْتَهُ
يَشْتَرِي الْبَاقِلَّا غَيْرَ مَرَّةً وَيَجْعَلُهُ فِي زُبْدِيَّةٍ أَوْ
شَيْءٍ آخَرَ فَيَحْمِلُهُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ
وَقَالَ صَالِحٌ كَانَ أَبِي رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الْبَقَّالِ
فَيَشْتَرِي جِرْزَةَ حَطَبٍ فَيَحْمِلُهَا .
وَقَالَ الْخَلَّالُ :
أَخْبَرَنَا الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ :
كَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَدْ أُوصِي لِي بِجُبَّةٍ قَالَ : فَفَرِحْتُ
بِهَا وَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَهَا قَالَ : وَكَانَتْ أَعْجَبَتْنِي
الْجُبَّةُ فَقُلْتُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهَا قَالَ
فَجَاءُوا بِهَا وَمَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ فَرَدَدْته كُلَّهُ وَقَالَ
الْفَضْلُ بْنُ زِيَادَةَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : مَا أَعْظَمَ
بَرَكَةِ الْمِغْزَلِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ : الْخَوْفُ مَنَعَنِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
فَمَا اشْتَهَيْتُهُ وَقَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
صَدَقَةَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّيْرَفِيَّ
قَالَ : أَتَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعِيدٍ الْحَمَّالُ وَذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ الْمِائَتَيْنِ فَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ : يَا أَبَا
مُحَمَّدٍ إنَّ أَقْوَامًا يَسْأَلُونِي أَنْ أُحَدِّثَ فَهَلْ تَرَى
ذَلِكَ ؟ قَالَ فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَطَالَ السُّكُوتَ
قَالَ : فَقُلْتُ أَنَا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أُجِيبُكَ أَنَا ؟ قَالَ
تَكَلَّمْ قَالَ قُلْتُ لَهُ إنْ كُنْتَ تَشْتَهِي أَنْ تُحَدِّثَ فَلَا
تُحَدِّثْ ، وَإِنْ كُنْت تَشْتَهِي أَنْ لَا تُحَدِّثَ فَحَدِّثْ قَالَ
فَكَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ قَالَ فَلَمَّا
انْبَسَطَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ : فَظَنَنْتُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْتَهِي
أَنْ يُحَدِّثَ .
وَقِيلَ لَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَا أَبَا نَصْرٍ
الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَتَرَى لَهُ أَنْ
يَجْلِسَ فَيُعَلِّمَ النَّاسَ قَالَ إنْ كَانَ يُحِبُّ
ذَلِكَ فَلَا يَجْلِسُ .
فَصْلٌ ( الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا قِيلَ فِي تَسَاوِيهَا
وَعَدَمِهِ ) .
قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سُبْحَانَك مَا أَغْفَلَ
هَذَا الْخَلْقَ عَمَّا أَمَامَهُمْ ، الْخَائِفُ مِنْهُمْ مُقَصِّرٌ ،
وَالرَّاجِي مُتَوَانٍ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْتُ الْإِمَامَ
أَحْمَدَ قَالَ : الْخَوْفُ مَنَعَنِي عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فَمَا
أَشْتَهِيهِ فَإِذَا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ هَانَ عَلَيَّ كُلُّ شَيْءٍ
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ سَمِعْتُ أَحْمَدَ
يَقُولُ : إنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُدَوِّمَ اللَّهُ لَك عَلَى مَا تُحِبُّ
فَدُمْ لَهُ عَلَى مَا يُحِبُّ ، وَالْخَيْرُ فِيمَنْ لَا يَرَى
لِنَفْسِهِ خَيْرًا .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ وَكِيعٍ
سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ : لَا يَتَّقِي اللَّهَ أَحَدٌ إلَّا
اتَّقَاهُ النَّاسُ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ الْعَالِمِ ابْنِ الْعَالِمِ ابْنِ الْعَالِمِ
قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : مَنْ اسْتَغْنَى
بِاَللَّهِ أَحْوَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ النَّاسَ .
وَقَالَ
ابْنُ هَانِئٍ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ
أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاحِدًا وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْهُ :
فَأَيَّهمَا رَجَّحَ صَاحِبُهُ هَلَكَ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ رَجَاءُ الْمَرِيضِ أَكْثَرَ ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ
النَّظْمِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ لِرَجُلٍ : لَوْ صَحَحْتَ مَا خِفْتَ
أَحَدًا .
وَقَدْ قِيلَ : فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِيءٍ
وَلَا فِي الْأَرْضِ أَخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ : كَانَ يُقَالُ مَنْ خَافَ اللَّهَ
وَرَجَاهُ أَمَّنَهُ خَوْفَهُ وَلَمْ يُحْرِمْهُ رَجَاءَهُ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَنْ
خَافَ اللَّهَ أَخَافَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ
اللَّهَ أَخَافَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلِلْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ
وَيُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
: خَفْ اللَّهَ وَارْجُهُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ وَلَا تُطِعْ النَّفْسَ
اللَّجُوجَ
فَتَنْدَمَا وَكُنْ بَيْنَ هَاتَيْنِ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَا وَأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مُسْلِمَا فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِك سُلَّمَا وَقَالَ آخَرُ : وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّمَا أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَقَالَ مَنْصُورُ الْفَقِيهُ : قَطَعْتُ رَجَائِي مِنْ بَنِي آدَمَ طُرَّا فَأَصْبَحْتُ مِنْ رِقِّ الرَّجَاءِ لَهُمْ حُرَّا وَعَدْلُ يَأْسِي بَيْنَهُمْ فَأَجَلُّهُمْ إذَا ذُكِرُوا قَدْرًا كَأَدْنَاهُمْ قَدْرَا غِنًى عَنْهُمْ بِاَللَّهِ لَا مُتَطَاوِلًا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا قَائِلًا هُجْرَا وَكَيْفَ يَعِيبُ النَّاسَ بِالْمَنْعِ مُؤْمِنٌ يَرَى النَّفْعَ مِمَّنْ يَمْلِكُ النَّفْعَ وَالضَّرَّا عَلَيْهِ اتِّكَالِي فِي الشَّدَائِدِ كُلِّهَا وَحَسْبِي بِهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِي ذُخْرَا وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ : أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِك وَاقِفُ عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْك غَيْبُهَا وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ وَخَائِفُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ فَيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي إذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا يَصْعَدُ ذَوُو الْقُرْبَى وَيَجْفُو الْمُوَالِفُ لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي أُرَجِّي لِإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ .
فَصْلٌ ( فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَمَا يُبْدَأُ بِهِ مِنْهُ وَمَا
هُوَ فَرِيضَةٌ مِنْهُ ، وَفَضْلِ أَهْلِهِ ) .
قَالَ
الْمَيْمُونِيُّ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه أَيُّهُمَا أَحَبُّ
إلَيْك أَبْدَأُ ابْنِي بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْحَدِيثِ قَالَ : لَا
بِالْقُرْآنِ قُلْتُ : أُعَلِّمُهُ كُلَّهُ قَالَ : إلَّا أَنْ يَعْسُرَ
فَتُعَلِّمَهُ مِنْهُ .
ثُمَّ قَالَ لِي : إذَا قَرَأَ أَوَّلًا
تَعَوَّدَ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ لَزِمَهَا وَعَلَى هَذَا أَتْبَاعُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ إلَى زَمَنِنَا هَذَا .
وَسَيَأْتِي قَرِيبًا
قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ إنَّ الْعِلْمَ يُقَدَّمُ عَلَى نَفْلِ
الْقُرْآنِ وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا لِأَنَّهُ فَرْضٌ
فَيُقَدَّمُ عَلَى النَّفْلِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ وَاَلَّذِي
سَأَلَ ابْنَ الْمُبَارَكِ كَانَ رَجُلًا فَلَا تَعَارُضَ ، وَأَمَّا
الصَّغِيرُ فَيُقَدِّمُ حِفْظَ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ
الْمَعْنَى .
وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُمْكِنُ إدْرَاكُهَا وَالْفَرَاغُ
مِنْهَا فِي الصِّغَرِ غَالِبًا ، وَالْعِلْمُ عِبَادَةُ الْعُمُرِ لَا
يُفْرَغُ مِنْهُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الْإِمْكَانِ ، وَهَذَا
وَاضِحٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ أَوْلَى لِمَسِيسِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِصُعُوبَتِهِ وَقِلَّةِ مَنْ يَعْتَنِي بِهِ
بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَلِهَذَا يُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ مَنْ يَجِبُ
عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَلَا يُقَصِّرُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ حَتَّى
يَشْتَغِلَ بِحِفْظِهِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ فِي الْعِلْمِ
كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
وَقَالَ ابْنُ
هَانِئٍ : لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إهَابٍ مَا
مَسَّتْهُ النَّارُ قَالَ : " هَذَا يُرْجَى لِمَنْ الْقُرْآنُ فِي
قَلْبِهِ أَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ " فِي إهَابٍ يَعْنِي فِي قَلْبِ
رَجُلٍ وَقَالَ : أَيْضًا فِي جِلْدٍ وَقَالَ إسْمَاعِيلُ الشَّالَنْجِيُّ
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ
مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي
صَلَاتِهِ وَإِقَامَةِ عَيْنِهِ ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ
مِنْ
تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَسُورَتَانِ كَذَا وَجَدْتُهُ
، وَلَعَلَّهُ وَسُورَةٌ ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ ؟ مَعَ
أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ حِفْظُهُ مَا بَلَغَ أَنْ يُجْزِئَهُ فِي
صَلَاتِهِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ خَاصَّةً فِي الْأَشْهَرِ عَنْ أَحْمَدَ
وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ : اتَّفَقُوا أَنَّ
حِفْظَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَا
هِيَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا كَمِّيَّتِهِ بِمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ
إجْمَاعٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَفِظَ
أُمَّ الْقُرْآنِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسُورَةً
أُخْرَى مَعَهَا فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحِفْظِ ، وَأَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ حِفْظِ جَمِيعِهِ وَأَنَّ ضَبْطَ
جَمِيعِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا مُتَعَيِّنٌ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَهُوَ
يَكْتُبُ الْحَدِيثَ يَخْتَلِفُ إلَى مَسْجِدٍ يَقْرَأُ وَيُقْرِئُ
وَيَفُوتُهُ الْحَدِيثُ أَنْ يَطْلُبَهُ فَإِنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ فَاتَهُ
الْمَسْجِدُ وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْجِدَ فَاتَهُ الْحَدِيثُ فَمَا
تَأْمُرهُ قَالَ : بِذَا وَبِذَا فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ مِرَارًا
كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُنِي جَوَابًا وَاحِدًا بِذَا وَبِذَا .
وَسَأَلَ
رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَيِّ شَيْءٍ
أَجْعَلُ فَضْلَ يَوْمِي فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي تَعَلُّمِ
الْعِلْمِ ؟ فَقَالَ هَلْ تُحْسِنُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَقُومُ بِهِ
صَلَاتُك : قَالَ نَعَمْ قَالَ : عَلَيْك بِالْعِلْمِ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ وَقِيلَ لَهُ طَلَبُ
الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ قَالَ نَعَمْ لِأَمْرِ دِينِك وَمَا تَحْتَاجُ
إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
أَبِي الْحَارِثِ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْعِلْمِ مَا
يَقُومُ بِهِ دِينُهُ وَلَا يُفَرِّطُ فِي ذَلِكَ قُلْتُ : فَكُلُّ
الْعِلْمِ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ قَالَ : الْفَرْضُ الَّذِي يَجِبُ
عَلَيْهِ فِي
نَفْسِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَلَبِهِ .
قُلْت :
مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ قَالَ الَّذِي لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ صَلَاتُهُ
وَصِيَامُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ
الرَّجُلِ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعِلْمِ قَالَ أَمَّا مَا يُقِيمُ
بِهِ دِينَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَذَكَرَ شَرَائِعَ
الْإِسْلَامِ فَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ .
وَقَالَ
ابْنُ مَنْصُور لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَذَاكَرَ بَعْضِ لَيْلَةٍ أَحَبُّ
إلَيْك مِنْ إحْيَائِهَا قَالَ : الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ
النَّاسُ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ قُلْت الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ
وَالطَّلَاقُ وَنَحْوُ هَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ : قَالَ
لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : { طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبٌ } لَمْ
يَصِحَّ الْخَبَرُ فِيهِ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ قَائِمٌ يَلْزَمُهُ طَلَبُ
مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ وَزَكَاتِهِ إذَا
وَقَعَتْ فَلَا حَاجَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَنْ
خَرَجَ يَبْتَغِي عِلْمًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ بِإِذْنِ
الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ فَضِيلَةٌ فَالنَّوَافِلُ لَا تُبْتَغَيْ إلَّا
بِإِذْنِ الْآبَاءِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَيَسْتَأْذِنُ وَالِدَتَهُ فَتَأْذَنُ لَهُ
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقَامَ أَحَبُّ إلَيْهَا قَالَ : إذَا كَانَ
جَاهِلًا لَا يَدْرِي كَيْفَ يُطَلِّقُ وَلَا يُصَلَّى فَطَلَبُ الْعِلْمِ
أَحَبُّ إلَيَّ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ فَالْمُقَامُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ : إنِّي أَطْلُبُ الْعِلْمَ
وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ تُرِيدُ حَتَّى أَشْتَغِلَ فِي
التِّجَارَةِ ، قَالَ لِي دَارِهَا وَأَرْضِهَا وَلَا تَدَعْ الطَّلَبَ
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ عَنْ بَلَدِهِ طَلَبُ الْعِلْمِ أَحَبُّ
إلَيْك أَمْ أَرْجِعُ إلَى أُمِّي ؟ فَقَالَ لَهُ إذَا كَانَ طَلَبُ
الْعِلْمِ مِمَّا لَا بُدَّ أَنْ تَطْلُبَهُ فَلَا بَأْسَ ، وَسَأَلَهُ
رَجُلٌ قَدِمَتْ السَّاعَةُ وَلَيْسَ أَدْرِي شَيْئًا مَا تَأْمُرُنِي ؟
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عَلَيْك بِالْعِلْمِ وَقَالَ إِسْحَاقُ
بْنُ
إبْرَاهِيمَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ
يَكُونُ لَهُ أَبَوَانِ مُوسِرَانِ يُرِيدُ طَلَبَ الْحَدِيثِ وَلَا
يَأْذَنَانِ لَهُ قَالَ : يَطْلُبُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَنْفَعُهُ ،
الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ } وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا
الْعِلْمِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا { مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ
اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودِ : إنَّ أَحَدَكُمْ لَمْ يُولَدْ عَالِمًا وَإِنَّمَا
الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَقَالَ أَيْضًا : اُغْدُ عَالِمًا ، أَوْ
مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إمَّعَةً بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ أَيْضًا :
اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا ، أَوْ مُسْتَمِعًا وَلَا تَكُنْ
الرَّابِعَ فَتَهْلَكَ وَقَالَ حَمَّادُ بْن حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كُنَّ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُحِبًّا
، أَوْ مُتَّبِعًا وَلَا تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلَكَ قَالَ الْحَسَنُ
هُوَ الْمُبْتَدِعُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ : الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ
وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْن مَسْعُودِ تَعَلَّمُوا
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ .
وَقَبْضُهُ
ذَهَابُ أَهْلِهِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ
وَالتَّعَمُّقَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَنْبِذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
وَقَالَ
الْحَسَنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّمَا مَثَلُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مَثَلُ النُّجُومِ فِي
السَّمَاءِ إذَا رَآهَا النَّاسُ اقْتَدَوْا
بِهَا ، وَإِذَا
عَمِيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا } وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا {
فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ، إنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى
النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى
مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : صَحِيحٌ
غَرِيبٌ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا { إنَّ الْعَالِمَ
لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ
الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إنَّمَا
وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ .
وَأَمَّا
مَا يَذْكُرهُ بَعْضُ النَّاسِ " عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي
إسْرَائِيلَ " فَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي
الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَا يَصِحُّ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ " طَلَبُ
الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ " وَرَوَى ابْنُ شَاهِين ثَنَا سُلَيْمَانُ
الْأَشْعَثُ ثَنَا حَفْصُ بْنُ مُسَافِرٍ الشِّيشِيُّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ
حَسَّانَ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ }
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَّا سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ
أَحْمَدُ لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا لَكِنَّهُ يُفْرِطُ فِي التَّشَيُّعِ
وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَيْسَ بِذَاكَ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَيْسَ بِالْمَتِينِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ :
لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَحَادِيثُهُ حِسَانٌ .
وَرَوَاهُ
حَسَّانُ ابْنُ سَارَةَ عَنْ ثَابِتٍ لَكِنَّ حَسَّانَ ضَعِيفٌ قَالَ
ابْنُ شَاهِينَ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ فِي هَذَا
الْبَابُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْقَارِئِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عِنْدَهُمْ وَفِيهِ { وَوَاضِعُ
الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ
وَالذَّهَبَ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ
يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا مَعْلُولَةٌ لَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ .
وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبُ ثَنَا عَلِيُّ
بْنُ ثَابِتٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ
سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ فَرْوَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعَتْ أَبَا
هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا ذِكْرُ
اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدِيثُهُ حَسَنٌ قَوَّاهُ الْأَكْثَرُ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ
وَرَأَى ابْنُ الشِّخِّيرِ ابْنَ أَخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فَقَالَ : أَيْ
بُنَيَّ ، الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَقَالَ
مُهَنًّا : قُلْتُ لِأَحْمَدَ : حَدِّثْنَا مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ
قَالَ : طَلَبُ الْعِلْمِ قُلْتُ : لِمَنْ ، قَالَ : لِمَنْ صَحَّتْ
نِيَّتُهُ قُلْتُ : وَأَيُّ شَيْءٍ يُصَحِّحُ النِّيَّةَ قَالَ يَنْوِي
يَتَوَاضَعُ فِيهِ وَيَنْفِي عَنْهُ الْجَهْلَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
ثَوَّابٍ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَا أَعْلَمُ النَّاسَ فِي
زَمَانٍ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ
قُلْتُ وَلِمَ ؟ قَالَ : ظَهَرَتْ بِدَعٌ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ
حَدِيثٌ وَقَعَ فِيهَا .
وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي : لَا أَعْلَمُ
عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ
وَالْحَدِيثِ لِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَحَسُنَتْ نِيَّتُهُ وَقَالَ
سُفْيَانُ : مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُرَادُ اللَّهُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ
طَلَبِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : طَلَبْنَا
هَذَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ
النِّيَّةَ بَعْدُ وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ
حَبِيبٌ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ : طَلَبنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَرُدَّنَا
إلَّا إلَى اللَّهِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إنَّ مَعْمَرًا قَالَ :
كَانَ يُقَالُ إنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ
فَيَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي
حَرْبٌ
ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ قَالَ
: قَالُوا لِسُفْيَانَ إنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيث يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ
بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، قَالَ طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ إسْنَادٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ سُفْيَانَ قَالَ : إنَّمَا فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ
لِأَنَّهُ يَتَّقِي رَبَّهُ .
وَعَنْ
الْحَسَنِ قَالَ يُبْقِي اللَّهُ لِهَذَا الْعِلْمِ قَوْمًا يَطْلُبُونَهُ
وَلَا يَطْلُبُونَهُ خَشْيَةً وَلَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّةٌ يَبْعَثُهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى كَيْ لَا يَضِيعَ الْعِلْمُ فَيَبْقَى عَلَيْهِمْ
حُجَّةً .
وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْضَلُ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : ثَنَا
يُونُس وَشُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي طُوَالَةَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى
بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ
الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شُرَيْحٍ .
فُلَيْحٌ وَإِنْ
كَانَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ
وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَفِي مَعْنَاهُ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ ،
أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ
جَابِرِ مَرْفُوعًا { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ
الْعُلَمَاءَ وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلَا لِتُحَدِّثُوا
بِهِ فِي الْمَجَالِسِ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ }
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيّ ، وَانْفَرَدَ بِهِ ابْنُ
مَاجَهْ عَنْ الْكُتُبِ السِّتَّةِ فَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ
.
وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ مُرْسَلًا .
وَيَحْيَى
بْنِ أَيُّوبَ هُوَ الْمَغَافِقِيُّ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ
فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُمْ ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ هَذَا الْخَبَرَ
مِنْ مَنَاكِيرِهِ .
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا { مَنْ
طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ
السُّفَهَاءَ وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ
اللَّهُ النَّارَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ عِنْدَهُمْ .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا حَدِيثُ { الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يُؤْمَرُ بِهِمْ إلَى
النَّارِ وَهُمْ الْمُجَاهِدُ الْمُرَائِي لِيُقَالَ إنَّهُ جَرِيءٌ ،
وَالْمُنْفِقُ الْمُبَاهِي لِيُقَالَ إنَّهُ جَوَادٌ ، وَالرَّجُلُ
الَّذِي يَقُولُ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ ، فَيَقُولُ
اللَّهُ كَذَبْتَ إنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانُ جَرِيءٌ وَفُلَان
قَارِئٌ وَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي
النَّارِ .
} .
وَعَنْ زَيْدٍ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا كَانَ
يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ،
وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَدَعْوَةٍ لَا
يُسْتَجَابُ لَهَا } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ عَنْ
حَمَّادٍ بْنِ سَلِمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ {
وَعَمَلٍ لَا يُرْفَعُ } بَدَلَ { نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ } وَكَانَ ابْنُ
مَسْعُودٍ يَقُولُ تَعَلَّمُوا فَمَنْ عَلِمَ فَلْيَعْمَلْ وَكَانَ
يَقُولُ إنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ
لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا .
وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مَرْفُوعًا { لَا
تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ
أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ
بِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟
وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ } ؟ إسْنَاده جَيِّدٌ ،
وَسَعِيدٌ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ
حِبَّانَ وَلَا وَجْهُ لِقَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ مَجْهُولٌ .
وَرَوَى حَدِيثَهُ هَذَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى
الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ .
وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ وَفِي نُسْخَةٍ
سَلَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ
عِنْدَهُمْ ، وَعَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ
بِعِلْمِهِ } وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ
سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ :
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنِّي لَمْ أَجْعَلْ حُكْمِي
وَعِلْمِي فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا
كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي } فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ
وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ ، وَلَوْ صَحَّ
فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْأَخْيَارُ ، وَقَدْ قَالَ
الْبَيْهَقِيّ : وَلَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا .
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رُوَاةِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ
بِالِاتِّفَاقِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْعُلَمَاءِ : إنِّي أَضَعُ عِلْمِي
فِيكُمْ إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ
لِأُعَذِّبَكُمْ ، انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ } وَقَالَ : {
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لَا تُحَقِّرُوا عَبْدًا آتَيْتُهُ
عِلْمًا فَإِنِّي لَمْ أُحَقِّرْهُ حِينَ عَلَّمْتُهُ } قَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ : هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَاطِلٌ ، وَذَكَرَهُ
فِي تَرْجَمَةِ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَإِنَّمَا
يُعْرَفُ بَعْضُ هَذَا عَنْ أَبِي
عَمْرٍو الصَّنْعَانِيِّ قَالَ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ الْعُلَمَاءَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْحِسَابِ قَالَ لَمْ أَجْعَلْ حُكْمِي فِيكُمْ إلَّا خَيْرًا أُرِيدُهُ فِيكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا فِيكُمْ } .
وَقَالَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرَّجُلِ مَالٌ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ وَاجِبًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ
مِائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُخْرِجُ
وَأَيْنَ يَضَعُ ، وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذَا .
وَعَنْ
عَطَاءٍ قَالَ مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ كَفَّرَ سَبْعِينَ
مَجْلِسًا مِنْ مَجَالِسِ الْبَاطِلِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ مَجَالِسِ
الْبَاطِلِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَجَالِسُ الذِّكْرِ كَيْفَ أُصَلِّي كَيْفَ
أُزَكِّي كَيْفَ أَحُجُّ كَيْفَ أَنْكِحُ كَيْفَ أُطَلِّقُ كَيْفَ أَبِيعُ
كَيْفَ أَشْتَرِي .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ : إنَّ قَوْمًا يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَا أَرَى أَثَرَهُ
عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَى لَهُمْ وَقْرٌ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
يُؤَوِّلُونَ فِي الْحَدِيثِ إلَى خَيْرٍ وَقَالَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ
يَوْمًا وَمَعِي كِتَابٌ لَهُ فَرَمَيْت بِهِ مِنْ قَامَتِي
فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ تَرْمِي بِكَلَامِ الْأَبْرَارِ .
وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ : زَيْنُ الْعِلْمِ حِلْمُ أَهْلِهِ وَقَالَ أَيْضًا إنَّ
هَذَا الْعِلْمَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ عَقْلٌ وَنُسُكٌ ،
فَالْيَوْمَ يَطْلُبُهُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا نُسُكَ فِيهِ وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ زَيْدِ بْن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ قَالَ : لَمْ نَرَ شَيْئًا إلَى شَيْءٍ أَزْيَنَ مِنْ حِلْمٍ
إلَى عِلْمٍ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد لِأَحْمَدَ كَتَبْتَ الْحَدِيثَ
بِنِيَّةٍ قَالَ : شَرْطُ النِّيَّةِ شَدِيدٌ وَلَكِنْ حُبِّبَ إلَيَّ
فَجَمَعْتُهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَلَكَ
خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهُوَ رَجُلٌ جَاهِلٌ أَيَحُجُّ بِهَا ، أَوْ
يَطْلُبُ الْعِلْمَ ، قَالَ : يَحُجُّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قِيلَ :
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ لَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ تَرَى أَنْ
يَصْرِفَهُ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ أَوْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ قَالَ :
إذَا كَانَ جَاهِلًا يَطْلُبُ الْعِلْمَ أَحَبَّ إلَيَّ وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى
عَجِبْت لِمَنْ يَتَثَبَّطُ عَنْ
طَلَبِ الْعِلْمِ وَيَحْتَجُّونَ بِالْفُضَيْلِ وَلَعَلَّ الْفُضَيْلَ
قَدْ اكْتَفَى لَيْسَ يَتَثَبَّطُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا جَاهِلٌ
وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : طَلَبُ الْعِلْمِ
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ
مُطَرِّفٌ بْنُ الشِّخِّيرِ : فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ
الْعِبَادَةِ وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا
بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْ مُطَرِّفٍ ذَكَرَهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ : حَظٌّ مَنْ عِلْمٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حَظِّ
عِبَادَةٍ ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ
سَاعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةٍ ، وَرُوِيَ مَنْ طَرِيقٍ
أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي عُتْبَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ ابْنَ
مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ لَئِنْ أَجْلِسَ مَجْلِسَ فِقْهٍ سَاعَةً أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ صِيَامِ يَوْمٍ وَقِيَامِ لَيْلَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ :
الْعِلْمُ ، فَكَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ الْعِلْمَ
، ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ إنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ يَنْفَعُكَ
قَلِيلُ الْعِلْمِ وَكَثِيرُهُ ، وَمَعَ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ لَا
يَنْفَعُكَ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَلَا كَثِيرُهُ وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : مُذَاكَرَةُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ .
.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بِمِثْلِ الْفِقْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ
الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي تَرْجَمَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ : قَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ حَدَّثَنِي عَمْرو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ
أَبَا عُبَيْدَةَ قَالَ : قَالَ أَبُو مُوسَى لَمَقْعَدٌ كُنْتُ
أَقْعُدُهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ فِي
نَفْسِي وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ فِيهِ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى فَلَمْ
يَقُلْهُ لَنَا
يَعْلَى عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ لِمَا
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عِلْمِهِ وَهَدْيِهِ وَسَمْتِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ :
الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ لِمَنْ جَهِلَ ، وَالْعَمَلُ أَفْضَلُ
مِنْ الْعِلْمِ لِمَنْ عَلِمَ وَقَالَ حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ :
النَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَى الْعِلْمِ قَبْلَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ
لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي كُلّ سَاعَةٍ
وَالْخُبْزُ وَالْمَاءُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ
ابْنُ هَانِئٍ قِيلَ لَهُ يَطْلُبُ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ بِقَدْرِ مَا
يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِهِ ؟ قَالَ : الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ
شَيْءٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيُّ لَيْسَ قَوْمٌ عِنْدِي
خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ يَعْرِفُونَ إلَّا الْحَدِيثَ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : أَهْلُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ
مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ وَقَالَ أَبُو إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ
سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّ رَجُلًا قَالَ إنَّ
أَصْحَابَ الْحَدِيثِ قَوْمُ سُوءٍ ، فَقَالَ هَذَا زِنْدِيقٌ .
وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ أَكْثِرُوا مِنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ وَقَالَ ابْنُ
الْمُبَارَكِ إنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَ
بِهِ وَلَا أَعْمَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِأُعِدَّهُ لِأَخٍ مِنْ إخْوَانِي
يَقَعُ فِي الشَّيْءِ فَأَجِدُ لَهُ مَخْرَجًا ، وَقِيلَ لِأَحْمَدَ إلَى
مَتَى يَكْتُبُ الرَّجُلُ قَالَ حَتَّى يَمُوتَ وَقَالَ نَحْنُ إلَى
السَّاعَةِ نَتَعَلَّمُ .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ
وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ { لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَبَرٍ
يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةَ } .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ تَفَقَّهُوا
قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا .
وَذَكَرَهُ
الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي
كِتَابِ الْعُزْلَةِ : يُرِيدُ مَنْ لَمْ يَخْدِمْ الْعِلْمَ فِي صِغَرِهِ
يَسْتَحِي أَنْ يَخْدِمَهُ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَإِدْرَاكِ
السُّؤْدُدِ قَالَ : وَبَلَغَنِي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ
مَنْ تَرَأَّسَ فِي حَدَاثَتِهِ كَانَ أَدْنَى عُقُوبَتِهِ أَنْ
يَفُوتَهُ حَظٌّ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ .
وَعَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مَنْ طَلَب الرِّيَاسَةَ
بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَمْ يَزَلْ فِي ذُلٍّ مَا بَقِيَ ، وَقِيلَ
لِلْمُبَرِّدِ لِمَ صَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَعْنِي ثَعْلَبَ أَحْفَظَ
مِنْكَ لِلْغَرِيبِ وَالشِّعْرِ ؟ قَالَ لِأَنِّي تَرَأَّسْتُ وَأَنَا
حَدَثٌ وَتَرَأَّسَ وَهُوَ شَيْخٌ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ قَوْلَ عُمَرَ الْمَذْكُورَ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ
عَنْ ابْن عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ
قِيسٍ عَنْهُ قِيلَ مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجُوا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا تَرَأَّسْتَ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّفَقُّهِ .
وَرَوَى
الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ زُفَرَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَا
زُفَرُ لَا تُحَدِّثْ قَبْلَ وَقْتِكَ فَيُسْتَخَفَّ بِكَ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَضَعَ
التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ كَيْفَ تَعْرِفُ
الْعَالِمَ الصَّادِقَ قَالَ الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَيُقْبِلُ
عَلَى آخِرَتِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَعَمْ هَكَذَا يُرِيدُ
أَنْ يَكُونَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ : يُغْفَرُ لِسَبْعَيْنِ جَاهِلًا
قَبْل أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ يُغْفَرُ لِجَاهِلٍ
سَبْعِينَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا : ثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ ثَنَا جَعْفَرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُعَافِي
الْأُمِّيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ } .
وَذَكَرَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْخَبَرَ فِي تَرْجَمَةِ
جَعْفَرٍ مِنْ الْمَنَاكِيرِ .
قَالَ : وَقِيلَ أَخْطَأَ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ جَعْفَرٍ .
وَسَيَّارٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْأَزْدِيُّ :
عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : مَحْمُولٌ إنْ صَحَّ عَلَى الْعَالِمِ الْفَاجِرِ .
وَنَقَلَ
الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ : الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ ، لَيْسَ
الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا إنَّهُ
قِيلَ لَهُ : لِمَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ ؟ فَقَالَ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ
يَعْنِي الْوَرَّاقَ فَقِيلَ إنَّهُ ضَيِّقُ الْعِلْمِ فَقَالَ : رَجُلٌ
صَالِحٌ مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ .
وَقَالَ ابْنُ
عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ
إلَّا فِي الْحَرَامِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَرَكَ الْكَعْبَةَ وَقَالَ { لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ
الْجَاهِلِيَّةَ } وَقَالَ عُمَرُ لَوْلَا أَنْ يُقَالَ عُمَرُ زَادَ فِي
الْقُرْآنِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ .
وَتَرَكَ أَحْمَدُ
الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ لِإِنْكَارِ النَّاسِ لَهَا ،
وَذَكَرَ فِي الْفُصُولِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ
وَفَعَلَ ذَلِكَ إمَامُنَا أَحْمَدُ ثُمَّ تَرَكَهُ بِأَنْ قَالَ رَأَيْت
النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَهُ ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ فِي
مُصَلَّى الْعِيدِ وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ
يَرَاهُ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبًا
مَصْبُوغًا فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَ : إنَّهُ يَمْدُرُ ، فَقَالَ
إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ ،
وَإِنَّ جَاهِلًا لَوْ رَأَى هَذَا لَقَالَ عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبٌ
مَصْبُوغٌ فَلَا يَلْبَسُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ شَيْئًا
إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُنَّا نَمْزَحُ وَنَضْحَكُ
فَلَمَّا صِرْنَا يُقْتَدَى بِنَا خَشِيتُ أَنْ لَا يَسْعَنَا
التَّبَسُّمُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَوْ صَلَحَ الْقُرَّاءُ لَصَلَحَ
النَّاسُ وَقَالَ أَيْضًا يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ
مَكْفِيًّا لِأَنَّ الْآفَاتِ أَسْرَعُ إلَيْهِمْ وَأَلْسِنَةَ النَّاسِ
إلَيْهِمْ أَسْرَعُ وَإِذَا احْتَالَ ذُلَّ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد
السِّجِسْتَانِيُّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى لِبَاسٍ وَمَطْعَمٍ دُونٍ أَرَاحَ
جَسَدَهُ وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ
بْنِ وَهْبٍ رَأَيْتُ
بَيْنَ كَتِفَيْ عُمَرَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ أَدَمٍ
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
قَدْ رَقَّعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثَلَاثَ رِقَاعٍ لُبِّدَ بَعْضُهَا فَوْقَ
بَعْضٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ : لَوْ نَظَرْتَ إلَى ثِيَابِ
شُعْبَةَ لَمْ تَكُنْ تَسْوَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
إزَارُهُ
وَرِدَاؤُهُ وَقَمِيصُهُ ، كَانَ شَيْخًا كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ رَأَيْتُ الثَّوْرِيَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ
فَقَوَّمْتُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ حَتَّى نَعْلَهُ دِرْهَمًا
وَأَرْبَعَةَ دَوَانِقَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يَنْبَغِي لِحَامِلِ
الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذْ النَّاسُ نَائِمُونَ ،
وَنَهَارِهِ إذْ النَّاسُ مُفْطِرُونَ ، وَبُكَائِهِ إذْ النَّاسُ
يَضْحَكُونَ ، وَبِحُزْنِهِ إذْ النَّاسُ يَفْرَحُونَ وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ الْعَالِمُ طَبِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَالْمَالُ الدَّاءُ
فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ كَيْفَ
يُعَالِجُ غَيْرَهُ ؟ وَعَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ ارْضَوْا بِدَنِيِّ
الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا
بِدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا .
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ
عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ
بِسِعَةِ الْهَذَرِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا الْفِقْهُ خَشْيَةُ
اللَّهِ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ : لَا يَكُونُ
الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ : لَا
يُحَقِّرُ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا يَحْسُدُ مَنْ فَوْقَهُ ،
وَلَا يَأْخُذُ دُنْيَا .
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ قَالَ :
الْفَقِيهُ الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الْمُقِيمُ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَسْخَرُ بِمَنْ أَسْفَلَ
مِنْهُ وَلَا يَهْزَأُ بِمَنْ فَوْقَهُ وَلَا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ
عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُطَامًا وَقَالَ أَيْضًا مَا رَأَيْتُ
فَقِيهًا قَطُّ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
عَنْهُ كَانَ الرَّجُلُ
يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ
وَهَدْيِهِ وَلِسَانِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
عَنْ مَالكِ بْنِ دِينَارٍ سَأَلْت الْحَسَنَ مَا عُقُوبَةُ الْعَالِمِ
قَالَ : مَوْتُ الْقَلْبِ قُلْتُ وَمَا مَوْتُ الْقَلْبِ قَالَ : طَلَبُ
الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : بَلَغَنِي
أَنَّهُ يُقَالُ وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ ،
وَالْمُسْتَحَلِّينَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ وَقَالَ مَالِكُ إنَّ
حَقًّا عَلَى مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقَارٌ
وَسَكِينَةٌ وَخَشْيَةٌ ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِأَثَرِ مَنْ مَضَى
قَبْلَهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : أَخْشَى
أَنْ أَطْلُبَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : زِينَةُ الْعِلْمِ
الْوَرَعُ وَالْحِلْمُ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَجْمُلُ الْعِلْمُ وَلَا
يَحْسُنُ إلَّا بِثَلَاثِ خِلَالٍ : تَقْوَى اللَّهِ ، وَإِصَابَةِ
السُّنَّةِ ، وَالْخَشْيَةِ .
وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ الْعِلْمُ مَا
حُفِظَ ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ لِأَيُّوبَ إذَا
حَدَثَ لَك عِلْمٌ فَأَحْدِثْ فِيهِ عِبَادَةً وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ أَنْ
تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ
وَكِيعًا يَقُول : قَالَتْ أُمُّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : اذْهَبْ
فَاطْلُبْ الْعِلْمَ حَتَّى أَعُولَكَ أَنَا بِمِغْزَلِي ، فَإِذَا
كَتَبْتَ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ فَانْظُرْ هَلْ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةٌ
فَابْتَغِهِ وَإِلَّا فَلَا تَتَعَنَّى .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِيمَا
مَضَى كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا عَمِلُوا .
وَإِذَا عَمِلُوا ، شُغِلُوا ، وَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا ، وَإِذَا
فُقِدُوا طُلِبُوا .
وَإِذَا
طُلِبُوا هَرَبُوا وَقَالَ عُمَرُ : تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا
لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ يُعْلِمُكُمْ
وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي
الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عَمَلُكُمْ مَعَ جَهْلِكُمْ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : تَغْفُلُونَ عَنْ أَعْظَمِ
الْعِبَادَةِ .
التَّوَاضُعِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : اتَّقُوا الْفَاجِرَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ،
وَالْجَاهِلَ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ ، فَإِنَّهُ آفَةُ كُلِّ مَفْتُونٍ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ
الْفَاجِرِ ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ
لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ .
وَقَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعَالِمَ الْمُتَوَاضِعَ وَيُبْغِضُ الْعَالِمَ الْجَبَّارَ .
وَيَأْتِي الْخَبَرُ فِي فُصُولِ كَسْبِ الْمَالِ فِي الْأَئِمَّةِ
الْمُضِلِّينَ .
وَعَنْ
كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ
بَعْدِي زَلَّةَ الْعَالِمِ ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ ، وَهُوًى مُتَّبَعٍ
} .
وَفِي لَفْظٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ { اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ
وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ } كَثِيرٌ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ ، وَهَذَا
مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ ، وَقَدْ صَحَّحَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَنْ
زَيْدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا
إنَّ { أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ : زَلَّةُ عَالِمٍ
، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ ،
فَاتَّهِمُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } يَزِيدُ ضَعِيفٌ وَلَمْ يُتْرَكْ
وَقَالَ دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُفْسِدُ
النَّاسَ ثَلَاثَةٌ : أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ
بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ حَقٌّ ، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ .
وَقَدْ
قَالَ مَنْصُورٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنِّي لَآمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَمَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنْ
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْجُرَنِي فِيهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَحْمُولٌ
عَلَى الْمُسْتَحَبَّاتِ أَوْ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ثَنَا الصَّعْقُ بْنُ حَزَنٍ عَنْ
عَقِيلٍ الْجَعْدِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْرِي أَيُّ
النَّاسِ
أَعْلَمُ ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : فَإِنَّ
أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ
وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى
اسْتِهِ } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي عَقِيلٍ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ
يَرْوِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : غَيْرُ مَعْرُوفٍ قَالَ وَيُمْكِنُ إجْرَاءُ الْخَبَرِ
عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ تَرْكُهُ الْعَمَلَ زَلَّةً مِنْهُ تَنْتَظِرُ
فَيْئَتَهُ .
وَلَمَّا حَجَّ سَالِمٌ الْخَوَّاصُ لَقِيَ ابْنَ
عُيَيْنَةَ فِي السُّوقِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهُ فِي السُّوقِ
فَأَنْشَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : خُذْ بِعِلْمِي وَإِنْ قَصَّرْتُ فِي
عَمَلِي يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَأَمَّا قَوْلُ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : خُذْ مِنْ عُلُومِي وَلَا تَنْظُرْ إلَى
عَمَلِي وَاقْصِدْ بِذَلِكَ وَجْهَ الْوَاحِدِ الْبَارِي وَإِنْ مَرَرْتَ
بِأَشْجَارٍ لَهَا ثَمَرٌ فَاجْنِ الثِّمَارَ وَخَلِّ الْعُودَ لِلنَّارِ
فَالْمُرَادُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ
مُقَصِّرٌ فِي الْعَمَلِ وَإِلَّا كَانَ مَرْدُودًا عَلَى قَائِلِهِ .
وَقَالَ
فِي الرِّعَايَةِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ لَزِمَهُ تَعَلُّمُ
شَيْءٍ وَقِيلَ أَوْ كَانَ فِي حَقِّهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَقِيلَ أَوْ
نَفْلًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِي بَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ فِي طَلَبِهِ
بِغَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ وَبَقِيَّةِ أَقَارِبِهِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَكَلَامُ
أَحْمَدَ السَّابِقُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ يَدُلُّ
لِهَذَا الْقَوْلِ ، وَغَيْرُهَا عَنْ أَحْمَدَ يُخَالِفُهَا قَالَ
الْقَاضِي وَمِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ تَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ
لِمَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ نَحْوُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَعْرِفَةِ الصَّلَوَاتِ وَجُمْلَةِ
الشَّرَائِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ وَيَلْزَمُ النِّسَاءَ
الْخُرُوجُ لِتَعَلُّمِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الصِّبْيَانِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا
لِعَشْرٍ } فَأَوْلَى أَنْ يُضْرَبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَعَلُّمِ
ذَلِكَ .
وَوَاجِبٌ
عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ
كَذَلِكَ وَيَرْزُقُهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ
قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا
نَشَأَ الْوَلَدُ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَعَذَّرُ زَوَالُهُ مِنْ
قَلْبِهِ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا } قَالَ : عَلِّمُوهُمْ الْخَيْرَ .
وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ
فِي أَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ إلَى
الْكُوفَةِ فَكُنْتُ فِي بَيْتٍ تَحْتَ رَأْسِي لَبِنَةٌ فَحُمِمْتُ
فَرَجَعْتُ إلَى أُمِّي وَلَمْ أَكُنْ اسْتَأْذَنْتُهَا .
وَقَالَ
الْفُضَيْلُ : الْعُلَمَاءُ رَبِيعُ النَّاسِ إذَا رَآهُمْ الْمَرِيضُ لَا
يَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ، وَإِذَا رَآهُمْ الْفَقِيرُ لَا
يَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ شِرَارُ
كُلِّ ذِي دِينٍ عُلَمَاؤُهُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ أَنْبَأْنَا مُحَمَّدٌ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ
عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ : كَفَى بِخَشْيَةِ
اللَّهِ عِلْمًا ، وَبِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى
يَكُونَ بِهِ عَامِلًا .
وَقَالَتْ
: عَائِشَةُ { مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَنْسِبُ أَحَدًا إلَّا إلَى الدِّينِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ
لَسَادُوا أَهْلَ زَمَانِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِ
الدُّنْيَا لِيَنَالُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَهَانُوا عَلَيْهِمْ رَوَاهُ
الْخَلَّالُ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَمَةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ نَهْشَلٍ
وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ عِنْدَهُمْ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ الْأَسْوَدِ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا
الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا أَهْلَ زَمَانِهِمْ
وَلَكِنَّهُمْ
أَتَوْا بِهِ أَهْلَ الدُّنْيَا فَاسْتَخَفُّوا بِهِمْ .
سَمِعْتُ
نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ جَعَلَ
هُمُومَهُ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ سَائِرَ هُمُومِهِ .
وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ
اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ } .
وَفِي
حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلِي ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ فِي
كِتَابِ السُّلْطَانُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ
أَنَّ حَمَلَةَ الْعِلْمِ حَمَلُوهُ بِحَقِّهِ لَأَحَبَّهُمْ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ .
وَلَكِنْ حَمَلُوهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا فَمَقَتَهُمْ اللَّهُ وَهَانُوا
عَلَى النَّاسِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ وَجَّهَ إلَيَّ الرَّشِيدُ أَنْ أُحَدِّثَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي .
فَصَارَ إلَى
مَنْزِلِي فَاسْتَنَدَ مَعِي عَلَى الْجِدَارِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ
الْمُسْلِمِ ، فَقَامَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ قَالَ فَقَالَ بَعْدَ
مُدَّةٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَوَاضَعْنَا لِعِلْمِكِ
فَانْتَفَعْنَا بِهِ ، وَتَوَاضَعَ لَنَا عِلْمُ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ .
وَرُوِيَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ مَعَ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ،
وَرُوِيَ أَنَّ طَاهِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ بِبَغْدَادَ فَطَمِعَ
أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَطَمِعَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي
مَنْزِلِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ
الْمَدِينِيُّ وَعَبَّاسُ الْعَنْبَرِيُّ فَأَرَادَا أَنْ يَسْمَعَا
غَرِيبَ الْحَدِيثِ فَكَانَ يَحْمِل كُلَّ يَوْمٍ كِتَابَهُ
وَيَأْتِيهِمَا فِي مَنْزِلِهِمَا فَيُحَدِّثَهُمَا فِيهِ .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ
حَاجًّا جَاءَهُ مَالِكُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ
ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدَ أَنْ يَسْمَعَا مِنْهُ
فَطَلَبَاهُ إلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ
لِلْعِلْمِ نَضَارَةً يُؤْتَى أَهْلُهُ .
وَفِي
رِوَايَةٍ : الْعِلْمُ أَهْلٌ أَنْ يُوَقَّرَ وَيُؤْتَى أَهْلُهُ ،
فَأَمَرَهُمَا وَالِدُهُمَا بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ
مُؤَدِّبُهُمَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ : إنَّ أَهْلَ هَذِهِ
الْبَلْدَةِ يَقْرَءُونَ عَلَى الْعَالِمِ كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانُ
عَلَى الْمُعَلِّمِ ، فَإِذَا أَخْطَئُوا أَفْتَاهُمْ ، فَرَجَعُوا إلَى
الْخَلِيفَةِ فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْنَا هَذَا الْعِلْمَ
مِنْ رِجَالٍ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ
هُرْمُزَ ، وَمِنْ بَعْدِهِمْ أَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَيَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ شِهَابٍ كُلُّ هَؤُلَاءِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ وَلَا
يَقْرَءُونَ ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ : فِي هَؤُلَاءِ قُدْوَةٌ ، صِيرُوا
إلَيْهِ فَاقْرَءُوا عَلَيْهِ ، فَفَعَلُوا .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ طَلَبُوهُ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ
لَهَابَهُمْ النَّاسُ وَلَكِنْ طَلَبُوا بِهِ الدُّنْيَا فَهَانُوا عَلَى
النَّاسِ وَقَالَ سُفْيَانُ : مَا زَالَ الْعِلْمُ عَزِيزًا حَتَّى حُمِلَ
إلَى أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَأَخَذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا فَنَزَعَ اللَّهُ
الْحَلَاوَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ بِهِ .
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَلَا
يَبْذُلُهُ وَلَا يَحْمِلُهُ إلَى النَّاسِ خُصُوصًا إلَى الْأُمَرَاءِ ،
وَرُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ : يَقُولُونَ لِي فِيكَ
انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ لَزِمَتْهُ
عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ
كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ
لِي يَسْتَفِزُّنِي وَلَا
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَرْضَاهُ
مُنْعِمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى وَلَكِنَّ نَفْسَ
الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ
مُهْجَتِي لِأَخْدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ
غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ
أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ
عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهَانَ
وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا وَأَرْسَلَ
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إلَى حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحُضُورَ إلَيْهِ لِأَجْلِ مَسْأَلَةٍ
وَقَعَتْ لَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ حَمَّادُ إنَّا أَدْرَكْنَا
الْعُلَمَاءَ وَهُمْ لَا يَأْتُونَ أَحَدًا ، فَإِنْ وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ
فَأْتِنَا فَاسْأَلْنَا عَمَّا بَدَا لَكَ .
وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ
وَفِيهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ جَاءَ فَجَلَسَ بَيْنَ
يَدَيْهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ : مَالِي إذَا نَظَرْتُ إلَيْكَ
امْتَلَأْتُ رُعْبًا ؟ فَقَالَ حَمَّادُ : سَمِعْتُ ثَابِتًا
الْبُنَانِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : { إنَّ
الْعَالِمَ إذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ هَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ
، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكْثِرَ بِهِ الْكُنُوزَ هَابَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
} وَالْقِصَّةُ طَوِيلَةٌ وَفِيهَا أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِيُقَسِّمَهَا
وَيُفَرِّقَهَا .
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : إذَا شِئْتَ أَنْ
تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ
الْعُسْرِ فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا عَلَيْكَ
وَإِرْفَاقًا إلَى زَمَنِ الْيُسْرِ فَإِنْ فَعَلَتْ كُنْتَ الْغَنِيَّ
وَإِنْ أَبَتْ فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ وَقَالَ أَبُو
الْحَارِثِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَرَى الرَّجُلَ أَنْ يَرْحَلَ
لِطَلَبِ الْعِلْمِ قَالَ نَعَمْ قَدْ رَحَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَرَوَى عَنْهُ الْخَلَّالُ
أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُقِيمُ بِبَلْدَةٍ وَيَنْزِلُ فِي الْحَدِيثِ
دَرَجَةً قَالَ لَيْسَ طَلَبُ الْعِلْمِ هَكَذَا لَوْ طَلَبَ الْعِلْمَ
هَكَذَا مَاتَ آثِمًا ، يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ الْأَكَابِرِ .
وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ إنْ كُنْتُ لَأُسَافِرُ مَسِيرَةَ
اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَقَالَ أَبُو
قِلَابَةَ لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا لِي
حَاجَةٌ إلَّا رَجُلٌ يَقْدَمُ عِنْدَهُ حَدِيثٌ فَأَسْمَعُهُ .
وَعَنْ
الشَّعْبِيِّ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ
إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ
مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفْرَهُ ضَاعَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ
النَّبِيِّ { ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ، عَبْدٌ
مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ
فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا }
ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ : خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ
الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي مِثْلِهَا إلَى الْمَدِينَةِ يَعْنِي مِنْ
الْكُوفَةِ .
وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ
وَإِنَّ جَابِرًا رَحَلَ إلَيْهِ شَهْرًا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ .
وَهَذَا
الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ ابْتَاعَ بَعِيرًا وَسَارَ شَهْرًا إلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ ، وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
أَنَا اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَقَدْ رَحَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا تَقَبَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ .
وَعَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَتَاهَتْ
فَآتَاهُ
نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : اقْبَلُوا الْبُشْرَى
يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا : بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا ، مَرَّتَيْنِ ،
فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إذْ لَمْ
يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا : قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
قَالُوا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلكَ عَنْ أَوَّلِ
هَذَا الْأَمْرِ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا
عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ ، فَانْطَلَقْتُ
أَطْلُبُهَا فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا وَأَيْمُ اللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ .
} قَالَ ابْنُ
هُبَيْرَةَ : فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَجَوَازُ
السُّؤَالِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ ، وَجَوَازُ الْعُدُولِ عَنْ
سَمَاعِ الْعِلْمِ إلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ قَامَ
عَنْ الْمَجْلِسِ لِأَجْلِ نَاقَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ،
وَجَوَازُ إيثَارُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِ عِمْرَانَ وَدِدْتُ
أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ .
وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ
عَنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيُّ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ
عُدُولَهُ ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْجَاهِلِينَ وَإِبْطَالَ
الْبَطَّالِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْغَالِينَ } فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ هُوَ
كَلَامٌ مَوْضُوعٌ ؟ قَالَ لَا ، هُوَ صَحِيحٌ ، فَقُلْتُ لَهُ سَمِعْتَهُ
أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، قُلْت مَنْ ؟ قَالَ حَدَّثَنِي
بِهِ مِسْكِينٌ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
ثُمَّ رَوَاهُ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ
عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَغَوِيِّ ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ
الزَّهْرَانِيُّ ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا مُعَاذُ
بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرَهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَتَابَعَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ
عَنْ مُعَاذٍ .
وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الثِّقَةِ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ عَنْ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ
أُخَرَ ضَعِيفَةٍ ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَنَى ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَاوَلَ تَصْحِيحَهُ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي
أَنَّ كُلَّ مَنْ حَمَلَ الْعِلْمَ فَهُوَ عَدْلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمُعَاذُ
بْنُ رِفَاعَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ
وَأَبُو دَاوُد لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَنُعَيْمٌ
ثِقَةٌ وَقَالَ النَّسَوِيُّ لَيِّنُ الْحَدِيثِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ
مَعِينٍ .
وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ : لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْن حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَنَقَلَ
الْمَرْوَزِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ :
رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا تَطَوُّعًا فَأَفْطَرَ لِطَلَبِ
الْعِلْم ؟ فَقَالَ إذَا احْتَاجَ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَحَبُّ
إلَيَّ .
فَقِيلَ لَهُ لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَفْضَلُ ؟ فَسَكَتَ .
وَقَالَ
الْمَرْوَزِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَصِفُ كَيْفَ يُؤْخَذُ
الْعِلْمُ قَالَ : نَنْظُرُ مَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَصْحَابِهِ ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ التَّابِعِينَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ إذَا جَاءَ الشَّيْءُ عَنْ الرَّجُلِ مِنْ
التَّابِعِينَ لَا يُوجَدُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ .
قَالَ لَا ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَجِيءُ شَيْءٌ عَنْ التَّابِعِينَ
إلَّا وَيُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ
أَحْمَدَ
: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْن حَنْبَلٍ وَقَدْ أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ
بِأَيْدِيهِمْ الْمَحَابِرُ ، فَأَوْمَأَ إلَيْهَا ، وَقَالَ : هَذِهِ
سُرُجُ الْإِسْلَامِ ، يَعْنِي الْمَحَابِرَ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْلَا الْمَحَابِرُ ،
لَخَطَبَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْمَنَابِرِ .
وَرَوَى
بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : رَآنِي الشَّافِعِيُّ وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ
وَعَلَى قَمِيصِي حِبْرٌ وَأَنَا أُخْفِيهِ ، فَقَالَ : لِمَا تُخْفِيهِ
وَتَسْتُرهُ ؟ فَإِنَّ الْحِبْرَ عَلَى الثَّوْبِ مِنْ الْمُرُوءَةِ ؛
لِأَنَّ صُورَتَهُ فِي الْأَبْصَارِ سَوَادٌ وَفِي الْبَصَائِرِ بَيَاضٌ .
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَيَنْبَغِي تَجْوِيدُ الْخَطِّ وَتَحْقِيقُهُ دُونَ
الْمَشْقِ وَالتَّعْلِيقِ ، وَيُكْرَهُ تَضْيِيقُ السُّطُورِ ،
وَتَدْقِيقُ الْقَلَمِ فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى الْخَطِّ الدَّقِيقِ
يُؤْذِي قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ رَآنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَأَنَا أَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ أَحْوَجُ مَا
تَكُونُ إلَيْهِ يَخُونُك قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ كَانَ
بَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ السُّطُورَ لِعَدَمِ الْكَاغِدِ .
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وِجْهَةٍ مِنْ خَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الصُّورِيِّ أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَطْرًا .
وَقَالَ
الْبَغَوِيّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ إلَى أَنْ أَدْخُلَ
الْقَبْرَ وَقَالَ صَالِحٌ رَأَى رَجُلٌ مَعَ أَبِي مِحْبَرَةً فَقَالَ
لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ هَذَا الْمَبْلَغَ
وَأَنْتَ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ مَعِي الْمِحْبَرَةُ إلَى
الْمَقْبَرَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إظْهَارُ الْمِحْبَرَةِ مِنْ
الرِّيَاءِ .
وَذَكَرَ لَهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ فَقَالَ بِهَذَا ارْتَفَعَ
الْقَوْمُ .
وَرَوَى
ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ
قَالَ كَانَ الرَّجُلُ إذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ
كَانَ يَوْمَ غَنِيمَةٍ .
وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ دَارَسَهُ وَتَعَلَّمَ مِنْهُ ،
وَإِذَا لَقِيَ مَنْ دُونَهُ تَوَاضَعَ لَهُ وَعَلَّمَهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَقَالَ الْأَحْنَفُ :
مُذَاكَرَةُ الرِّجَالِ تَلْقِيحٌ لِعُقُولِهَا .
وَيَأْتِي بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا .
فَصْلٌ ( مَوْعِظَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ بِالشِّعْرِ ) .
قَالَ
أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ :
خَرَجْتُ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُسْبِلٍ
مِنْدِيلَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَنَاوَلَنِي رُقْعَةً ، فَلَمَّا أَضَاءَ
الصُّبْحُ قَرَأْتُهَا فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ عِشْ مُوسِرًا إنْ شِئْتَ
أَوْ مُعْسِرًا لَا بُدَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْغَمِّ وَكُلَّمَا
زَادَكَ مِنْ نِعْمَةٍ زَادَ الَّذِي زَادَكَ فِي الْهَمِّ إنِّي رَأَيْتُ
النَّاسَ فِي عَصْرِنَا لَا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ لِلْعِلْمِ إلَّا
مُبَاهَاةً لِأَصْحَابِهِمْ وَعُدَّةً لِلْخَصْمِ وَالظُّلْمِ قَالَ
فَظَنَنْتُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ نَاوَلَنِي
فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لَهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي نَاوَلْتنِي ، فَقَالَ :
مَا رَأَيْتُكَ مَا نَاوَلْتُكَ رُقْعَةً ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا عِظَةٌ
لِي وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ قَاضِي تِكْرِيتَ قَالَ : كَتَبَ رَجُلٌ
مِنْ إخْوَانِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَيْهِ
أَيَّامَ الْمِحْنَةِ : هَذِي الْخُطُوبُ سَتَنْتَهِي يَا أَحْمَدُ
فَإِذَا جَزِعْتَ مِنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا الصَّبْرُ يَقْطَعُ مَا
تَرَى فَاصْبِرْ لَهَا فَعَسَى بِهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا
فَأَجَابَهُ أَحْمَدُ : صَبَّرْتَنِي وَوَعَظَتْنِي فَأَنَا لَهَا
فَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ
يَمْلِكُ عَقْدَهَا ثِقَةً بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا .
فَصْلٌ
الْعِلْمُ مَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ يُنَالُ
بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ لَا بِالْحَسَبِ وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ إنَّمَا الْعِلْمُ مَوَاهِبُ
يُؤْتِيهِ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ وَلَيْسَ يَنَالُهُ أَحَدٌ
بِالْحَسَبِ وَلَوْ كَانَ بِالْحَسَبِ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ أَهْلَ
بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَا
أَحْمَدُ حَدِّثْنَا بِحِكَايَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ أُسْتَاذِكَ أَبِي
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : سُبْحَانَ اللَّهِ بِلَا
عَجَبٍ ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَطُولُهَا
بِلَا عَجَبٍ ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْن أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْتُ أَبَا
سُلَيْمَانَ يَقُولُ : إذَا عَقَدَتْ النُّفُوسُ عَلَى تَرْكِ الْآثَامِ ،
جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ وَعَادَتْ إلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِطَرَائِفِ
الْحِكْمَةِ مِنْ غَيْر أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا عَالِمٌ عِلْمًا فَقَامَ
أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ ثَلَاثًا وَقَعَدَ ثَلَاثًا وَقَالَ سَمِعْتُ فِي
الْإِسْلَامِ بِحِكَايَةٍ أَعْجَبَ مِنْ هَذِهِ إلَيَّ .
ثُمَّ ذَكَرَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ
الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ صَدَقْت يَا أَحْمَدُ وَصَدَقَ
شَيْخُكَ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَقِبَ ذَلِكَ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ عَنْ عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ
ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ
هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَيْهِ لِسُهُولَتِهِ وَقُرْبِهِ ، وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَا يُحْتَمَلُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرَ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي
تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ .
فَصْلٌ ( الْحَذَرُ مِنْ الْقَوْلِ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّنِّ ) .
نَقَلَ
الْمَيْمُونِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ : سَلُوا أَصْحَابَ الْغَرِيبِ فَإِنِّي
أَخَافُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّنِّ فَأُخْطِئَ وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ
الطَّيَالِسِيُّ سَمِعْتُ شُعْبَةَ قَالَ : سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ
حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيُغَانُ
عَلَى قَلْبِي } مَا مَعْنَى يُغَانُ قَالَ : فَقَالَ لِي هَذَا
الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَقُلْتُ : نَعَمْ .
فَقَالَ لَوْ كَانَ عَنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَسَّرْتُ ذَلِكَ وَلَكِنْ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ .
وَعَنْ
الْأَصْمَعِيِّ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
كَانُوا يَتَّقُونَ حَدِيثَ النَّبِيِّ كَمَا يَتَّقُونَ تَفْسِيرَ
الْقُرْآنِ وَكَانَ أَحْمَدُ يَجِيءُ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ يَسْأَلُهُ فِي
الْغَرِيبِ ، رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَقَالَ أَبُو دَاوُد قُلْتُ
لِأَحْمَدَ كِتَابَةُ كِتَابِ الْغَرِيبِ الَّذِي وَضَعَهُ الْقَاسِمُ
بْنُ سَلَّامٍ قَالَ : قَدْ كَثُرَتْ جِدًّا يُشْغَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ
مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ لَوْ كَانَ تَرَكَهُ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا .
فَصْلٌ ( فِي قَوْلِ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي وَاتِّقَاءِ
التَّهَجُّمِ عَلَى الْفَتْوَى ) .
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا
أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ
وَقَالَ مَالِكٌ كَانَ يُقَالُ إذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي
أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَقَالَ أَيْضًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيِّدَ
الْعَالَمِينَ يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ
الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا أَدْرِي نِصْفَ
الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ كَانَ
مَالِكٌ يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ يَثْهَتُ
وَهَؤُلَاءِ يَقِيسُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ قَالَ مَالِكٌ .
وَبِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مِنْ
عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ " اللَّهُ أَعْلَمُ "
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ كِتَابٌ نَاطِقٌ ، وَسُنَّةٌ
مَاضِيَةٌ ، وَلَا أَدْرِي وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ
لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهِ وَذَكَرَ
أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ
يُسْأَلُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ } وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : كَانَ سُفْيَانُ لَا يَكَادُ
يُفْتِي فِي الطَّلَاقِ وَيَقُولُ مَنْ يُحْسِنُ ذَا ؟ مَنْ يُحْسِنُ ذَا
؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَا
يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، أَوْ مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ
مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
الْبَلَاءِ يُخْرِجُهُ
الرَّجُلُ عَنْ عُنُقِهِ وَيُقَلِّدُكَ ، وَخَاصَّةً مَسَائِلَ الطَّلَاقِ
وَالْفُرُوجِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ أَنَّهُ
سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَقُلْتُ كَيْفَ هُوَ عِنْدَكَ ؟ فَقَالَ
وَمَا عِنْدِي أَنَا ؟ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إنَّمَا هُوَ
يَعْنِي الْعِلْمَ مَا جَاءَ مِنْ فَوْقٍ .
وَقَالَ
سُفْيَانُ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُسْتَفْتَى فَيُفْتِي وَهُوَ يَرْعُدُ
وَقَالَ سُفْيَانُ مِنْ فِتْنَةِ الرَّجُلِ إذَا كَانَ فَقِيهًا أَنْ
يَكُونَ الْكَلَامُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ السُّكُوتِ وَقَالَ
الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ الْعَالِمَ يَظُنُّونَهُ
عِنْدَهُ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا
يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ وَأَنْكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَنْ
يَتَهَجَّمُ فِي الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ : لِيَتَّقِ اللَّهَ عَبْدٌ وَلِيَنْظُرْ مَا يَقُولُ
وَمَا يَتَكَلَّمُ ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ وَقَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ
لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَيُشَدِّدَ
عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : إنَّمَا يَنْبَغِي
أَنْ يُؤْمَرَ النَّاسُ بِالْأَمْرِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ
وَلَيْتَ النَّاسَ إذَا أُمِرُوا بِالشَّيْءِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا
يُجَاوِزُوهُ وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ عَنْهُ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ سَلْ غَيْرِي لَيْسَ لِي
أَنْ أُفْتِيَ فِي الطَّلَاقِ بِشَيْءٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ
مَنْصُورٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى .
وَصَحَّ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ لِلْعِلْمِ أَنْ تُجِيبَ
كُلَّ مَنْ سَأَلَك وَقَالَ أَيْضًا كُلُّ مَنْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِكُلِّ
مَا يَسْمَعُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ
بْنِ عَلِيٍّ الْأَبَّارِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ حَلَفْتُ بِيَمِينٍ لَا
أَرَى أَيْشٍ هِيَ ؟ قَالَ لَيْتَ أَنَّك إذَا دَرَيْتُ أَنَا وَقَالَ فِي
رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ إذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَحْمِلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ .
وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ قَالَ
عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْتُمْ الْقَارِئَ يَغْشَى
السُّلْطَانَ فَهُوَ لِصٌّ .
وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ يُخَالِطُ الْأَغْنِيَاءَ فَهُوَ مُرَاءٍ .
وَقَالَ
الْمَيْمُونِيُّ
: جَلَسْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَكُنَّا
نَتَحَدَّثُ وَكُنْتُ أُسَائِلُهُ وَيُجِيبُنِي قَالَ الْخَلَّالُ :
وَكُنْتُ أَمْضِي مَعَ الْمَرُّوذِيِّ إلَى الْمَقَابِرِ وَيُصَلِّي عَلَى
الْجَنَائِزِ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ قُعُودٌ بَيْنَ الْقُبُورِ
إلَى أَنْ يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
الْمَرُّوذِيِّ إنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا
عَظِيمًا ، أَوْ قَالَ يُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، يَنْبَغِي لِمَنْ
أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَلَا
يُفْتِي وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ
لَيْسَ لَهُ فِيهِ إمَامٌ أَخَافُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ .
وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ لَا نَزَالُ نَتَعَلَّمُ مَا وَجَدْنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا
وَقَالَ أَحْمَدُ نَحْنُ إلَى السَّاعَةِ نَتَعَلَّمُ .
وَسَأَلَهُ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { أَجْرَؤُكُمْ
عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ } مَا مَعْنَاهُ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي حَرْبٍ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ
الرَّجُلِ يُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ يُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ
: يَمْرُقُ مِنْ دِينِهِ .
وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ رَجُلًا
تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :
هَذَا مِنْ حُبِّهِ الدُّنْيَا يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي لَا
يُحْسِنُ فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْجَوَابِ ، وَنَحْوُ هَذَا عَنْ
حَمَّادٍ وَقَالَ كُنْتُ أُسَائِلُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الشَّيْءِ فَيَعْرِفُ
فِي وَجْهِي أَنِّي لَمْ أَفْهَمْ فَيُعِيدُهُ حَتَّى أَفْهَمَ .
رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَ رَجُلًا بِحَدِيثٍ
فَاسْتَفْهَمَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ الصِّدِّيقُ ؟ هُوَ كَمَا حَدَّثْتُكَ
أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ بِمَا لَا أَعْلَمُ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {
مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبْتٍ فِيهَا فَإِنَّمَا
إثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ } .
وَفِي
لَفْظٍ { مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُ ذَلِكَ
عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ } رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَرَوَى الثَّانِيَ أَبُو
دَاوُد وَالْأَوَّلَ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ لَهُ طُرُقٌ
مَذْكُورَةٌ فِي حَوَاشِي الْمُنْتَقَى .
وَقَالَ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ
عَنْ عُزْرَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : وَأَبْرَدُهَا عَلَى
الْكَبِدِ ثَلَاثًا أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ
فَيَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا خَمْسٌ لَوْ
سَافَرَ الرَّجُلُ فِيهِنَّ إلَى الْيَمَنِ لَكُنَّ عِوَضًا مِنْ سَفَرِهِ
: لَا يَخْشَى عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ ، وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ ،
وَلَا يَسْتَحِي مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ يَتَعَلَّمَ ، وَلَا يَسْتَحِي
مَنْ تَعَلَّمَ إذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ
أَعْلَمُ ، وَالصَّبْرُ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ
الْجَسَدِ وَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ تَوَى الْجَسَدُ .
وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ فَهُوَ
مَجْنُونٌ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلَهُ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَخِي
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : كُنَّا مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ
أَعْرَابِيٌّ أَتَرِثُ الْعَمَّةُ ، فَقَالَ لَا أَدْرِي .
قَالَ أَنْتَ لَا تَدْرِي قَالَ نَعَمْ .
اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ فَاسْأَلْهُمْ .
فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ قَبَّلَ ابْنُ عُمَرَ يَدَهُ .
فَقَالَ
: نِعِمَّا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : سُئِلَ عَنْ مَا لَا يَدْرِي
، فَقَالَ لَا أَدْرِي وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيُّ
: عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ
كَفَاهُ إيَّاهُ ، وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ
أَخَاهُ كَفَاهُ الْفَتْوَى ، هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ
الثَّوْرِيِّ
وَلَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ إذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ
رَدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا ، وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى
الْأَوَّلِ وَقَالَ أَبُو حُصَيْنٍ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ التَّابِعِيُّ
الْجَلِيلُ إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ
عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ وَقَالَ الْقَاسِمُ وَابْنُ
سِيرِينَ لَأَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ جَاهِلًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
إنَّ مِنْ إكْرَامِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا مَا
أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيْلٌ لِمَنْ
يَقُولُ لِمَا لَا يَعْلَمُ إنِّي أَعْلَمُ وَقَالَ مَالِكٌ : مِنْ فِقْهِ
الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ
لَهُ الْخَيْرُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْت مَالِكًا سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ : إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ " لَا أَدْرِي
" أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ ابْنِ
عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد عَنْ أَبِي زُبَيْرٍ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ
بْنِ عَجْلَانَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ
عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ
: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي فَقَالَ إنْ يَكُنْ فِي
نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي
نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ .
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ سَأَلَ
رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ
فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي
لَمْ أَتَكَلَّمْ إلَّا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ
أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا
يَقُولُ الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ
وَكَانَ يُقَالُ التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ
الشَّيْطَانِ .
كَذَا وُجِدْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ ( الْخُرْقِ ) فَإِنْ
كَانَتْ
كَذَلِكَ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْخَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ الدَّهَشُ مِنْ
الْخَوْفِ أَوْ الْحَيَاءِ وَقَدْ خَرِقَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ خَرِقٌ
وَأَخْرَقْتُهُ أَنَا أَيْ أَدْهَشْتُهُ ، وَالْخَرَقُ أَيْضًا مَصْدَرُ
الْأَخْرَقِ وَهُوَ ضِدُّ الرَّفِيقِ وَقَدْ خَرِقَ بِالْكَسْرِ يَخْرَقُ
خَرَقًا وَالِاسْمُ الْخِرْقُ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ
التَّخَرُّقَ فَالتَّخَرُّقُ لُغَةٌ فِي التَّخَلُّقِ مِنْ الْكَذِبِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ
اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ
وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ
مَرْفُوعًا { التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ }
.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ " الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ
وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَلِيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ " وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَكَادُ
يُفْتِي فُتْيَا وَلَا يَقُولُ شَيْئًا إلَّا قَالَ اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي
وَسَلِّمْ مِنِّي ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا
إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا
لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلَا يَعْلَمُ
النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ
فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلَا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ
لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ غَرَضَ الدُّنْيَا
وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ
غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى
مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا
مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ وَقَالَ أَيْضًا
إذَا رَأَيْتَنِي أُحَدِّثُ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ
مُسْهِرٍ فَيَنْبَغِي لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى
عَارِضَيْهِ وَيَأْتِي بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ
فَصْلٍ قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ دُرُسْتَوَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي
أَهْلٌ لِذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ
وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا
قَالَ سَحْنُونٌ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا
غَيْرِهِ وَقَالَ فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ
الْمَالِ وَقَالَ سُفْيَانُ : أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ
أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لَا يَجِدُوا بُدًّا
مِنْ أَنْ يُفْتُوا وَقَالَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ
عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا .
وَبَكَى رَبِيعَةُ
فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ : اُسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ
وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَقَالَ وَلَبَعْضُ مَنْ
يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { إنَّ
اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ
وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ
يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا
فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا } وَفِيهِمَا أَيْضًا
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ
أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُتْرَكُ فِيهَا الْعِلْمُ ،
يَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ } وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ .
وَفِيهِمَا عَنْ
أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ
الْعِلْمُ ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ ،
وَيَقِلَّ الرِّجَالُ ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ
امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {
يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ } .
وَفِي لَفْظٍ {
وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ ، وَيُلْقَى الشُّحُّ ،
وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ : الْقَتْلُ } وَعَنْ
عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : هَذَا أَوَانُ يُرْفَعُ
الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَكَيْفَ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَاَللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ
وَلَنُقْرِأَنَّهُ أَبْنَاءَنَا
وَنِسَاءَنَا ؟ فَقَالَ :
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ ، إنْ كُنْتُ لَأَعُدّكَ مِنْ أَفْقَهِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ
الْيَهُودِ فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ } وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا
الْمَعْنَى وَفِيهِ { هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ } حَدِيثَانِ
جَيِّدَا الْإِسْنَادِ .
وَرَوَى الْأَوَّلَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَرَوَى الثَّانِيَ
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَقَالَ
شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ : مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ .
وَلَا
أَرَى جُهَّالَكُمْ يَتَعَلَّمُونَ ، مَا لِي أَرَاكُمْ تَحْرِصُونَ عَلَى
مَا قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ ، وَتَدَعُونَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ ،
تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ ، وَرَفْعُ الْعِلْمِ ذَهَابُ
الْعُلَمَاءِ ، لَأَنَا أَعْلَمُ بِشِرَارِكُمْ مِنْ الْبَيْطَارِ
بِالْفَرَسِ هُمْ الَّذِينَ لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا دَبْرًا ،
وَلَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ إلَّا هَجْرًا ، وَلَا يَعْتِقُ
مُحَرَّرُوهُمْ وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ : كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ
فِيهَا الْكَبِيرُ ، وَيَرْبُوا فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَتَّخِذُهَا
النَّاسُ سُنَّةً ، فَإِذَا غُيِّرَتْ قَالُوا غُيِّرَتْ السُّنَّةُ .
قَالُوا مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : إذَا كَثُرَتْ
قُرَّاؤُكُمْ .
وَقَلَّتْ
فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ ،
وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ
الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا
سَرِيعًا وَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ ، وَالدُّنْيَا فِي ذَهَابِ
الْعِلْمِ ذَلِكَ كُلُّهُ ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَقَالَ
نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ
عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى
بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، أَعْظَمُهَا
فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي
قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ
وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ تَفَرَّدَ
بِهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَقَدْ سَرَقَهُ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
الضُّعَفَاءِ وَهُوَ مُنْكَرٌ ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ
الصِّحَاحِ كِفَايَةٌ وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ
الْمَرْوَزِيُّ : سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا فَقَالَ :
لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ قُلْتُ : فَنُعَيْمٌ قَالَ : ثِقَةٌ قُلْتُ : كَيْفَ
يُحَدِّثُ ثِقَةٌ بِبَاطِلٍ قَالَ : شُبِّهَ لَهُ .
وَقَالَ الْخَطِيبُ
وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ سُوَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
عَنْ عِيسَى وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ رَوَاهُ الْحَاكِمُ بْنُ الْمُبَارَكِ
الْخَوَاشِنِيُّ وَيُقَالُ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عِيسَى قَالَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لَمْ يَتَّفِقُوا عَادَةً عَلَى
بَاطِلٍ فَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فَمِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ .
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ ثَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو مَرْفُوعًا { لَنْ يَسْتَكْمِلَ مُؤْمِنٌ إيمَانَهُ حَتَّى
يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ } قَالَ النَّوَوِيُّ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : اتَّقُوا الرَّأْيَ
فِي دِينِكُمْ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُكَايَلَةِ يَعْنِي
الْمُقَايَسَةَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النَّاسُ
اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي
جَنْدَلٍ وَلَوْ اسْتَطَعْتُ لَرَدَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ
مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَعْلَاهُ ، { وَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَمْسَحُ
أَعْلَى الْخُفِّ } وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ
تَرَكْتُمْ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ
إنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُدَّخَرْ عَنْهُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ لَكُمْ لِفَضْلٍ
عِنْدَكُمْ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إنَّمَا الْعِلْمُ كُلُّهُ بِالْآثَارِ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ
وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ فَإِنَّ
الْأَمْرَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ فِيهِ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ إذَا بَلَغَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِهِ
فَإِنَّهُ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ ثَنَا حَجَّاجٌ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْفُضَيْلِ
بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَرَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ } فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : نَهَى أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَرَاهُمْ
سَيَهْلِكُونَ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَرَوَاهُ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ طَرِيقِهِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ {
أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا
فَلَبَّى عَلِيٌّ بِهِمَا وَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ } { وَقَالَ
رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ أَبَاكَ نَهَى عَنْهَا ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ
أَمْرُ أَبِي يُتَّبَعُ أَمْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
فَصْلٌ ( فِي الْوَصِيَّةِ بِالْفَهْمِ فِي الْفِقْهِ
وَالتَّثَبُّتِ وَعِلْمِ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ) .
قَالَ
الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ
الرَّجُلُ فَهِمًا فِي الْفِقْهِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ : عَلَيْكَ
بِالْفَهْمِ فِي الْفِقْهِ مَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُسْتَمْلِي : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ : كَانَ لَهُ فِقْهٌ ؟ فَقَالَ : مَا أَقَلَّ الْفِقْهَ فِي
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ لِي أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ تَرَكَ النَّاسُ فَهْمَ الْقُرْآنِ
وَقَالَ مَالِكٌ رُبَّمَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ ، أَوْ نَزَلَتْ
الْمَسْأَلَةُ فَلَعَلِّي أَسْهَرُ فِيهَا عَامَّةَ لَيْلِي وَقَالَ
صَالِحٌ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ فِي الْقَرْيَةِ وَقَدْ
رَوَى الْحَدِيثَ وَوَرَدَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ
مُخْتَلِفَةٌ كَيْفَ يَصْنَعَ قَالَ لَا يَقُلْ فِيهَا شَيْئًا .
وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَكُونُ
الرَّجُلُ فِي الْقَرْيَةِ فَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي فِيهِ
اخْتِلَافٌ قَالَ يُفْتِي بِمَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا
لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمْسَكَ عَنْهُ قِيلَ لَهُ
فَيُخَافُ عَلَيْهِ قَالَ لَا ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ مَنْ عَلَّمَهُ
اللَّهُ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ وَإِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ مَا
لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وَيَمْرُقُ مِنْ
الدِّينِ .
وَقَالَ مُهَنَّا قُلْتُ لِأَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةٍ فَقَالَ
لِي : قَدْ تَرَكَ هَذَا النَّاسُ الْيَوْمَ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهَذَا
الْيَوْمَ قُلْتُ لَهُ : وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ هَذَا فَلَا يُتْرَكُ
مَعْرِفَةُ عِلْمِهِ يَعْرِفُهُ النَّاسُ حَتَّى لَا يَمُوتَ قَالَ نَعَمْ
، حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
تَعَلَّمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ كَمَا تَعَلَّمُ مَا
يُؤْخَذُ بِهِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ نَعْرِفُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ :
ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَنْ
عَلِمَ اخْتِلَافَ النَّاسِ
فَقَدْ فَقِهَ ، وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْأَلَ عَمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْك قَالَ
قُلْتُ إنَّمَا يُسْأَلُ مَنْ يَعْقِلُ عَمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَأَمَّا
مَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَمْ نَسْأَلْ عَنْهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : أَعْلَمُ النَّاسِ أَعْلَمُهُمْ
بِالِاخْتِلَافِ ، وَعَنْ ابْن عُمَرَ قَالَ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ
عِلْمُهُ ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ذَلِكَ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا
يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَا تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتُمَارِيَ بِهِ وَلَا
لِتُبَاهِيَ بِهِ وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً مِنْ طَلَبَةٍ ، وَلَا
زَهَادَةً فِيهِ وَلَا رِضًا بِالْجَهَالَةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ
الْبَيْهَقِيّ .
فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الْغَرَائِبِ
وَعَمَّا لَا يُنْتَفَعُ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ ) قَالَ
الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : سَأَلَنِي رَجُلٌ مَرَّةً
عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَمُسْلِمُونَ هُمْ ؟ فَقُلْتُ لَهُ
أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ ذَا وَقَالَ أَيْضًا قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيَّ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَصَاحَ بِهِ وَقَالَ يَا
صَبِيُّ أَنْتَ تَسْأَلُ عَنْ ذَا وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ الشَّافِعِيِّ الَّذِي وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ
قَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ أَوْ
الْمُسْلِمِينَ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا سَأَلَ عَنْهُ ، فَصَاحَ بِهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ : هَذِهِ مَسَائِلُ أَهْلِ الزَّيْغِ
مَا لَكَ وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ ؟ فَسَكَتَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعُدْ
إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجَ .
وَنَقَلَ
أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي
اللِّعَانِ فَقَالَ سَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ عَمَّا اُبْتُلِيتَ بِهِ ،
وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ
لَهُ دَعْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ
أُخْرَى فَغَضِبَ وَقَالَ : خُذْ وَيْحَكَ فِيمَا تَنْتَفِعُ بِهِ
وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ الْمُحْدَثَةَ وَخُذْ فِي شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثٌ
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ
دَعْنَا لَيْتَ أَنَّا نُحْسِنُ مَا جَاءَ فِيهِ الْأَثَرُ وَقَالَ
مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارِهِ
سَنَةً بِعَبْدٍ فَلَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ وَأَبَقَ الْعَبْدُ ، فَقَالَ
لِي اعْفِنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ
الْمَرِيضِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَضْعُفُ عَنْ الصَّوْمِ قَالَ :
يُفْطِرُ قُلْتُ : يَأْكُلُ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَيُجَامِعُ امْرَأَتَهُ
قَالَ : لَا أَدْرِي فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَحَوَّلَ وَجْهَهُ عَنِّي .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ جَيَّانَ الْقَطِيعِيُّ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ : أَتَوَضَّأُ بِمَاءِ
النُّورَةِ
؟ فَقَالَ مَا أُحِبُّ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَتَوَضَّأُ بِمَاءِ
الْبَاقِلَّا قَالَ : مَا أُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ : ثُمَّ قُمْتُ
فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِي وَقَالَ : أَيْشٍ تَقُولُ إذَا دَخَلْتَ
الْمَسْجِدَ ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ : أَيْشٍ تَقُولُ إذَا خَرَجْتُ مِنْ
الْمَسْجِدِ ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ : اذْهَبْ فَتَعَلَّمْ هَذَا .
وَعَنْ
شُبْرُمَةَ قَالَ قَالَ لِي إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إيَّاكَ وَمَا
يَسْتَشْنِعُ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَعَلَيْكَ بِمَا يَعْرِفُ
النَّاسُ مِنْ الْقَضَاءِ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِرَأْيِهِ أَوْ فِي أَمْرِ
خُصُومَةٍ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسِ عَنْ
ابْن عُمَرَ قَالَ : لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنِّي سَمِعْتُ
عُمَرَ يَنْهَى أَنْ يُسْأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ .
وَرَوَى أَيْضًا
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا رَأَيْتُ قَوْمًا
كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوا إلَّا عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةً حَتَّى
قُبِضَ ، كُلُّهُنَّ فِي الْقُرْآنِ وَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا
عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ
عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ مَا أَنْزَلَ الْبَلَاءَ إلَّا
كَثْرَةُ السُّؤَالِ .
وَرَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ .
وَقَدْ
تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا
يَنْفَعُ السَّائِلَ وَيَتْرُكُ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْتَاجُهُ ، وَإِنَّ
الْعَامِّيَّ يَسْأَلُ عَمَّا يَعْلَمُ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ
إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ
الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاَللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ } .
وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْءِ
قَبْلَ وُقُوعِهِ .
وَفِي حَدِيثِ اللِّعَانِ { فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا { كَانَ
يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَفِي لَفْظٍ إنَّ
اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ذَلِكَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِيهِمَا
عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا قَالَ : { أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ
سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } .
قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ : هَذَا الْحَدِيثُ
فِيمَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا أَوْ تَعَنُّتًا عَمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ
إلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ لِضَرُورَةٍ بِأَنْ وَقَعَتْ لَهُ
مَسْأَلَةٌ فَسَأَلَ عَنْهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْنَثُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } .
وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ كَرِهَ السَّلَفُ السُّؤَالَ عَنْ
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ وَلَا
سُنَّةٌ ، وَإِنَّمَا سَأَلَ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ
لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ الْوَاقِعَةِ وَقَدْ يَتَغَيَّرُ
اجْتِهَادُهُ عِنْدَهَا .
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ
الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } وَقَالَ طَاوُسِ عَنْ عُمَرَ لَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي الْفَتْحُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ
أَنَّ عُمَرَ قَالَ : وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْعَضْلَ فَإِنَّهَا إذَا
نَزَلَتْ بَعَثَ اللَّهُ لَهَا مِنْ يُقِيمُهَا أَوْ يُفَسِّرُهَا ،
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ
: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ :
سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ : أَكَانَ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ .
فَحَلَّفَنِي فَحَلَفْت لَهُ .
فَقَالَ
: إنَّ أَصْحَابَنَا حَدَّثُونَا عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ : " أَيُّهَا
النَّاسُ لَا تَعَجَّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيَذْهَبَ
بِكُمْ هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَعَجَّلُوا لَمْ
يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إذَا سُئِلَ سُدِّدَ
، أَوْ قَالَ وُفِّقَ " وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعْنَى هَذَا
الْكَلَامِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلْمُتَفَقِّهَةِ لِيُرْشِدُوا
إلَى طَرِيقِ النَّظَرِ قَالَ : وَالرَّأْيِ ، قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ
وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ وَأَخْبَرُوا بِآرَائِهِمْ
فِيهَا .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ انْطَلِقْ
فَأَفْتِ النَّاسَ فَمَنْ سَأَلَكَ عَمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ ، وَمَنْ
سَأَلَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ فَإِنَّك تَطْرَحُ عَنْ
نَفْسِك ثُلْثَيْ مُؤْنَةِ النَّاسِ .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
تَارِيخِهِ وَفِيهِ انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ وَأَنَا لَكَ عَوْنٌ
قَالَ قُلْتُ لَوْ أَنَّ هَذَا النَّاسَ مِثْلَهُمْ مَرَّتَيْنِ
لَأَفْتَيْتُهُمْ .
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ { لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ
الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا
حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنْ النَّارِ } وَقَدْ أَذِنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْكِتَابَةِ .
فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ } وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَوَمَأَ بِإِصْبَعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ : اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ } وَأَمَرَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي الْكِتَابَةِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ .
فَأَمَّا قَوْلُ
الْعَالِمِ لِلنَّاسِ سَلُونِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { سَلُونِي فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ
عِنْدَ رُكْبَتِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ }
الْحَدِيثَ .
أَيْ سَلُونِي عَمَّا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، فَلَا
تَعَارَضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :
{ نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ
الْبَادِيَةِ الْعَاقِلَ فَيَسْأَلُهُ }
الْحَدِيثُ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : سَلُونِي .
وَأَمَّا
جُلُوسُ الْعَالِمِ فِي حَلْقَةٍ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيثِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا وَخَشِينَا أَنْ يَنْقَطِعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا
فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ } .
الْحَدِيثَ يُقَالُ قَعَدْنَا
حَوْلَهُ وَحَوَلَيْهِ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَلَهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ
وَاللَّامِ فِي جَمِيعِهَا أَيْ جَوَانِبُهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ :
وَلَا يُقَالُ حَوَالِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَيُقَالُ نَحْنُ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ وَظَهْرَيْكُمْ وَظَهْرَانِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ :
بَيْنكُمْ ، وَالْفَزَعُ يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّوْعِ وَبِمَعْنَى
الْهُبُوبِ لِلشَّيْءِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَبِمَعْنَى الْإِغَاثَةِ .
قَالُوا
: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامُ الْأَتْبَاعِ بِحُقُوقِ مَتْبُوعِهِمْ
وَالِاعْتِنَاءُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ
عَنْهُمْ ، وَفِيهِ { أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ وَهُوَ
الْبُسْتَانُ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْطَاهُ نَعْلَيْهِ وَقَالَ
: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ أَيْ عَلَامَةً فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا
الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا
قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ وَأَنَّهُ لَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ
قَالَ : فَضَرَبَ عُمَرُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي ، فَقَالَ
: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ .
وَقَوْلُهُ فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً ،
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَجَهَشْتُ أَيْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَتَهَيَّأَ
لِلْبُكَاءِ وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا حَمَلَكَ يَا عُمَرُ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَبَعَثْتَ أَبَا
هُرَيْرَةَ أَيْ
بِكَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلِّهِمْ } وَفِي هَذَا الْخَبَرِ فَوَائِدُ .
فَصْلٌ ( فِي النَّهْيِ عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ وَالْمُغَالَطَةِ
وَسُوءِ الْقَصْدِ بِالْأَسْئِلَةِ ) .
رَوَى
الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ
غَيْرُ الْأَوْزَاعِيِّ فَلِهَذَا قِيلَ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ
فِي الثِّقَاتِ يُخْطِئُ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ
مَرْفُوعًا عَنْهُ { نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْغُلُوطَاتِ }
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ شِذَاذُ الْمَسَائِلِ وَصِعَابُهَا ، وَاحِدَةُ
الْأُغْلُوطَاتِ أُغْلُوطَةٌ وَهِيَ الَّتِي يُغَالَطُ بِهَا وَتُجْمَعُ
أَيْضًا عَلَى أَغَالِيطَ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ عَنْ عُمَرَ حَدَّثْتُهُ
حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ :
شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ يَنْتَقُونَ شِرَارَ الْمَسَائِلِ يُعْمُونَ
بِهَا عِبَادَ اللَّهِ وَقَالَ مَالِكٌ قَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ إنِّي
خَبَّأْتُ لَكَ مَسَائِلَ ، فَقَالَ : أَخْبِئْهَا لِإِبْلِيسَ حَتَّى
تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ عَنْهَا وَقَالَ مَالِكٌ : الْعِلْمُ
وَالْحِكْمَةُ نُورٌ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَيْسَ
بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ وَقَالَ مَالِكٌ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا
تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ إلَّا لِنَفْسِي مَا تَعَلَّمْتُهُ لِيَحْتَاجَ
إلَيَّ النَّاسُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ صَاحِبَ
الرُّومِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَفْضَلِ الْكَلَامِ
وَمَا هُوَ ؟ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ ، وَكَتَبَ إلَيْهِ
يَسْأَلُهُ عَنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَعَنْ
أَكْرَمِ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ ، وَعَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْخَلْقِ
لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ .
وَعَنْ قَبْرٍ سَارَ بِصَاحِبِهِ ،
وَعَنْ الْمِجَرَّةِ وَعَنْ الْقَوْسِ ، وَعَنْ مَكَان طَلَعَتْ فِيهِ
الشَّمْس لَمْ تَطْلُعْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ .
فَلَمَّا
قَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ قَالَ : أَخْزَاهُ اللَّهُ وَمَا عِلْمِي
بِمَا هَهُنَا ؟ قِيلَ اُكْتُبْ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ
يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ
الْكَلَامِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لَا عَمَلَ
إلَّا بِهَا ، وَاَلَّتِي
تَلِيهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ صَلَاةُ الْخَلْقِ .
وَاَلَّتِي
تَلِيهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ ، وَاَلَّتِي تَلِيهَا
اللَّهُ أَكْبَرُ فَاتِحَةُ الصَّلَوَاتِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ،
وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَكْرَمُ
الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ ، وَأَمَّا
الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ فَآدَمُ وَحَوَّاءُ
وَالْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إسْمَاعِيلُ وَعَصَا مُوسَى حَيْثُ
أَلْقَاهَا فَصَارَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا ، وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي
سَارَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ الْحُوتُ الَّذِي الْتَقَمَ يُونُسَ ، وَأَمَّا
الْمِجَرَّةُ فَبَابُ السَّمَاءِ ، وَأَمَّا الْقَوْسُ فَإِنَّهَا أَمَانٌ
لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْغَرَقِ بَعْدَ نُوحٍ ، وَأَمَّا الْمَكَانُ
الَّذِي طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَطْلُعْ فِيهِ قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ فَالْمَكَانُ الَّذِي انْفَجَرَ مِنْ الْبَحْرِ لِبَنِي
إسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ إلَى مَلِكِ الرُّومِ فَقَالَ : لَقَدْ
عَلِمْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَذَا عِلْمٌ وَمَا
أَصَابَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ .
كَذَا
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْأَثَرَ ، وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ
وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي آدَمَ وَمَرْيَمَ فَبَعْضُهُ
اللَّهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَعْلَمُ .
وَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إلَى
مُعَاوِيَةَ بِقَارُورَةٍ فَقَالَ ابْعَثْ لِي فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
فَبَعَثَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : تُمْلَأُ مَاءً ، فَلَمَّا وَرَدَ
بِهِ عَلَى مَلَكِ الرُّومِ قَالَ لَهُ أَخُوهُ : مَا أَهْدَاهُ فَقِيلَ
لِابْنِ عَبَّاسٍ : كَيْفَ اخْتَرْتَ ذَلِكَ قَالَ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ
يَحْيَى بْن أَكْثَمَ قَالَ قَالَ لِي الْمَأْمُونُ مَنْ تَرَكْتَ
بِالْبَصْرَةِ ؟ فَوَصَفَ لَهُ مَشَايِخَ مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ فَقُلْتُ هُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ لِلْحَدِيثِ عَاقِلٌ فِي نِهَايَةِ
السِّتْرِ وَالصِّيَانَةِ فَأَمَرَنِي بِحَمْلِهِ إلَيْهِ فَكَتَبْتُ
إلَيْهِ
فَقَدِمَ فَأَدْخَلْتُهُ إلَيْهِ وَفِي الْمَجْلِسِ ابْنُ
أَبِي دَاوُد وَثُمَامَةُ وَأَشْبَاهٌ لَهُمَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَدْخُلَ
مِثْلُهُ بِحَضْرَتِهِمْ ، فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ فَأَجَابَهُ
الْمَأْمُونُ وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ وَدَعَا لَهُ سُلَيْمَانُ بِالْعِزِّ
وَالتَّوْفِيقِ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
نَسْأَلُ الشَّيْخَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْمَأْمُونُ
نَظْرَةَ تَخْيِيرٍ لَهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ شُبْرُمَةَ :
أَسْأَلُكَ ؟ قَالَ : إنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ لَا تُضْحِكُ الْجَلِيسَ
وَلَا تُزْرِي بِالْمَسْئُولِ فَسَلْ ، وَثَنَا وَهْبٌ قَالَ : قَالَ
إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : مِنْ الْمَسَائِلِ مَا لَا يَنْبَغِي
لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَلَا لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ
عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا فَلِيَسْأَلْ
قَالَ فَهَابُوهُ فَمَا نَطَقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ وَوَلَّاهُ
قَضَاءَ مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهَا .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا
الْحَرْفَ أَلِفًا أَمْ يَاءً مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ أَوْ يَاسِنٍ ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَكُلُّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا
الْحَرْفِ قَالَ : إنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ :
هَذَا كَهَذَا الشِّعْرِ إنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ
فِيهِ نَفَعَ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ
فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَرْشِدٍ فِي سُؤَالِهِ ، إذْ لَوْ
كَانَ مُسْتَرْشِدًا لَوَجَبَ جَوَابُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ .
وَفِي
الْبُخَارِيِّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّ رَجُلًا عِرَاقِيًّا قَالَ
لِعَائِشَةَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ ؟ قَالَتْ : وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ
؟ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ ، قَالَتْ : لِمَ ؟
قَالَ لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ
مُؤَلَّفٍ ، قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ آيَةً آيَةً قَرَأْتَ قَبْلُ إلَى
أَنْ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ
الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ .
فَأَمَّا
رَمْيُ الشَّيْخِ الْمَسْأَلَةَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَمَنْ يَحْضُرُهُ
مِنْ الطَّلَبَةِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ فَحَسَنٌ لِحَدِيثٍ {
طَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَجَرَةً لَا
تَرْمِي وَرَقَهَا هِيَ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا النَّخْلَةُ وَلَمْ
يَتَكَلَّمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ
النَّخْلَةُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
ثُمَّ إنْ أَصَابَ وَاحِدٌ
وَأَخْطَأَ غَيْرُهُ جَازَ مَدْحُ الْمُصِيبِ لِتَزْدَادَ رَغْبَتُهُ
وَحِرْصُهُ وَيَجْتَهِدَ أَيْضًا الْمُخْطِئُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى
تَرْكَهُ .
وَيُكْرَهُ عَيْبُ الْمُخْطِئِ لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِهِ مَعَ
مَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَذَى .
وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَدْحَ الْأَمِينِ وَالشُّهُودَ لِلْمُصِيبِ فِي
السَّبْقِ وَعَيْبَ الْمُخْطِئِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
لَا يَجُوزُ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي عَتِيقٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ قَالَ : تَحَدَّثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ وَهُوَ ابْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ عَائِشَةَ حَدِيثًا
وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلًا لَحَّانًا وَرُوِيَ لَحَّانَةً بِفَتْحِ
اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ كَثِيرَ اللَّحْنِ فِي كَلَامِهِ ،
وَرُوِيَ لُحْنَةً بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ ، وَرُوِيَ
بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا وَهُوَ بِمَعْنَى التَّسْكِينِ وَقِيلَ بَلْ
هُوَ الَّذِي يُخَطِّئُ النَّاسَ قَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ : وَكَانَ
الْقَاسِمُ لِأُمِّ وَلَدٍ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ مَا لَكَ لَا
تُحَدِّثَ كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا ؟ أَمَا إنِّي قَدْ
عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ ؟ هَذَا أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ ، وَأَنْتَ
أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ قَالَ فَغَضِبَ الْقَاسِمُ وَأَضَبَّ عَلَيْهِ .
وَهُوَ
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ
الْبَاءِ أَيْ حَقَدَ فَلَمَّا رَأَى مَائِدَةَ عَائِشَةَ قَدْ أُتِيَ
بِهَا قَامَ ، قَالَتْ أَيْنَ ؟ قَالَ : أُصَلِّي .
قَالَتْ :
اجْلِسْ
قَالَ : إنِّي أُصَلِّي ، قَالَتْ : اجْلِسْ غُدَرُ إنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا
صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ }
غُدَرُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ .
أَيْ يَا
غَادِرُ وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ ، وَيُقَالُ لِمَنْ غَدَرَ غَادِرٌ
وَغُدَرُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النِّدَاءِ بِالشَّتْمِ قَالَ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَإِنَّمَا قَالَتْ لَهُ غُدَرُ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِاحْتِرَامِهَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَّتُهُ
وَأَكْبَرُ مِنْهُ وَنَاصِحَةٌ لَهُ وَمُؤَدِّبَةٌ فَكَانَ حَقَّهُ أَنْ
يَحْتَمِلَهَا وَلَا يَغْضَبَ عَلَيْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ وَعَلَى هَذَا
يَنْبَغِي لِلْمُسْتَفِيدِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَحْتَمِلَ وَلَا يَغْضَبَ
لِئَلَّا يَفُوتَهُ الْعِلْمُ وَلَا يُكْثِرَ مُخَالَفَتَهُ .
قَالَ
الزُّهْرِيُّ : كَانَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَحْرًا
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحُرِمَ لِذَلِكَ مِنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ عِلْمًا كَثِيرًا ، وَسَأَلَ ابْنُ سِيرِينَ ابْنَ عُمَرَ
عَنْ إطَالَةِ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ ، فَقَالَ : { كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ
اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ } قُلْتُ : لَسْتُ عَنْ
هَذَا أَسْأَلُكَ .
فَقَالَ : إنَّك لَضَخْمٌ أَلَا تَدَعُنِي
أَسْتَقْرِئُ لَكَ الْحَدِيثَ ؟ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِيهِ تَأْدِيبُ
السَّائِلِ وَالتِّلْمِيذِ .
وَقَوْلُهُ بِهِ بِهِ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ، وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ
مُكَرَّرٍ ، قِيلَ مَعْنَاهُ : مَهْ مَهْ زَجْرٌ وَكَفٌّ .
قَالَ
ابْنُ السِّكِّيتِ : هِيَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ بَخٍ بَخٍ ،
وَقَوْلُهُ إنَّك لَضَخْمٌ إشَارَةٌ إلَى الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ
الْأَدَبِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَكُونُ غَالِبًا وَإِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَطَعَ كَلَامَهُ وَعَاجَلَهُ ، وَقَوْلُهُ أَسْتَقْرِئُ
بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهُ أَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِهِ
بِكَمَالِهِ { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ
مَعَكَ أَعْظَمُ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
قَالَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
مَعَكَ أَعْظَمَ قُلْتُ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ } .
فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا
الْمُنْذِرِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَصْلٌ ( هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي التَّنْبِيهِ وَصَرَاحَتُهُ فِي التَّعْلِيمِ ) .
ذَكَرَ
أَبُو الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ كَانَ
يَبْرِي النَّبْلَ تَأْخِيرَ ابْنِ زِيَادٍ الصَّلَاةَ ذَكَرَ ذَلِكَ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ فَعَضَّ عَلَى شَفَتَيْهِ فَضَرَبَ
فَخِذِي وَقَالَ : سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِي فَضَرَبَ
فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ { : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَضَرَبَ فَخِذِي
كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ
أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ إنِّي قَدْ
صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : قَوْلُهُ
فَضَرَبَ فَخِذِي أَيْ لِلتَّنْبِيهِ وَجَمْعِ الذِّهْنِ عَلَى مَا
يَقُولُهُ لَهُ .
وَفِي قِصَّةِ { تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ لَمَّا بَدَأَ بِعَائِشَةَ وَقَالَتْ :
أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَأَسْأَلُكَ
أَلَّا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِاَلَّذِي قُلْتُ قَالَ : لَا
تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إلَّا أَخْبَرْتُهَا ، أَنَّ اللَّهَ
لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا بَعَثَنِي مُعَلِّمًا
مُيَسِّرًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ .
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { : لَا تُخْبِرْ
نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا
وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا } .
فَصْلٌ ( كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فِي الْوَسَاوِسِ وَخَطَرَاتِ
الْمُتَصَوِّفَةِ ) .
قَالَ
الْمَرْوَزِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ تَكَلَّمَ فِي
الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَقَالَ
لِلسَّائِلِ : احْذَرْهُمْ وَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ
: جَاءَنِي الْأَرْمِينِيُّونَ بِكِتَابٍ ذَكَرَ الْوَسْوَاسَ
وَالْخَطَرَاتِ وَغَيْرَهُ قُلْتُ فَأَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ لَهُمْ قَالَ
قُلْتُ هَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
لِلْمَرُّوذِيِّ : عَلَيْكَ بِالْعِلْمِ عَلَيْكَ بِالْفِقْهِ .
وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ مَنْ
تَكَلَّمَ فِي الْخَطَرَاتِ التَّابِعُونَ تَابَعُوا التَّابِعِينَ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَرَجُلٌ
يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ رَجُلٌ غَرِيبٌ : فَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ
أَبِي الْحَوَارِيِّ .
وَقَوْمًا مَعَهُ هُنَاكَ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ قَدْ وَضَعُوهُ فِي
كِتَابٍ وَيَتَذَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ .
فَقَالَ
: مَا هُوَ قَالَ : يَقُولُونَ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ أَفْضَلُ مِنْ
الطَّاعَةِ ، وَمَوْضِعُ الْحُبِّ دَرَجَةُ كَذَا فَلَمْ يَدَعْهُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَتِمُّ كَلَامَهُ وَقَالَ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ
الْعُلَمَاءِ ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ قَالَ هَذَا ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ
وَكَرِهَهُ .
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ : وَسُئِلَ عَنْ
الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَكُتُبِهِ فَقَالَ لِلسَّائِلِ : إيَّاكَ
وَهَذِهِ الْكُتُبَ ، هَذِهِ كُتُبُ بِدَعٍ وَضَلَالَاتٍ ، عَلَيْكَ
بِالْأَثَرِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ مَا يُغْنِيكَ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ
الْكُتُبِ عِبْرَةٌ ، فَقَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
عِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عِبْرَةٌ .
بَلَغَكُمْ
أَنَّ سُفْيَانَ وَمَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ صَنَّفُوا هَذِهِ الْكُتُبَ
فِي الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ ، مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إلَى الْبِدَعِ
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمَحْفُوظٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ النَّهْيُ عَنْ كُتُبِ كَلَامِ
مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْقَاصِّ بِهِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ إنَّمَا رَأَى إمَامُنَا
أَحْمَدُ النَّاسَ لَهِجِينَ بِكَلَامِهِ وَقَدْ اشْتَهَرُوا بِهِ حَتَّى دَوَّنُوهُ وَفَصَّلُوهُ مَجَالِسَ يَحْفَظُونَهَا وَيُلْقُونَهَا وَيُكْثِرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دِرَاسَتَهَا ، فَكُرِهَ لَهُمْ أَنْ يُلْهَوْا بِذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيَشْتَغِلُوا بِهِ عَنْ كُتُبِ السُّنَّةِ وَأَحْكَامِ الْمِلَّةِ لَا غَيْرُ .
فَصْلٌ فِي وَعْظِ
الْقُصَّاصِ وَنَفْعِهِمْ وَضَرَرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ ( فِي وَعْظِ
الْقُصَّاصِ وَنَفْعِهِمْ وَضَرَرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ ) .
قَالَ
الْمَرْوَزِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يُعْجِبُنِي
الْقُصَّاصُ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ
قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَرَى الذَّهَابَ إلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ
أَيْ لَعَمْرِي إذَا كَانَ صَدُوقًا لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ
وَعَذَابَ الْقَبْرِ قُلْتُ لَهُ كُنْتَ تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ أَوْ
تَأْتِيهِمْ قَالَ : لَا قَالَ : وَشَكَا رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ عَلَيْكَ بِالْقُصَّاصِ ، مَا أَنْفَعَ
مَجَالِسِهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مَا
أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ
بْنِ زَكَرِيَّا التَّمَّارِ وَسُئِلَ عَنْ الْقُصَّاصِ وَالْمُعَبِّرِ
فَقَالَ : يَخْرُجَ الْمُعَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ الْقُصَّاصُ وَقَالَ
لَنَا يُعْجِبُنِي الْقَصَّاصُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ
الشَّفَاعَةَ وَالصِّرَاطَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ
إبْرَاهِيمَ مَا أَنْفَعَهُمْ لِلْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ مَا
يَتَحَدَّثُونَ بِهِ كَذِبًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ
أَكْذَبُ النَّاسِ الْقُصَّاصُ وَالسُّؤَالُ .
وَسُئِلَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْقُصَّاصِ فَقَالَ : إذَا كَانَ الْقَاصُّ
صَدُوقًا فَلَا أَرَى بِمُجَالَسَتِهِ بَأْسًا .
وَرَوَى
الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَخْرِجُوهُ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا
يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ مُهَنَّا إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَأَلُوهُ عَنْ الْقَصَصِ
فَرَخَّصَ فِيهِ ، فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ يَقُولُ مَا أَخْرَجَنِي إلَّا الْقُصَّاصُ
وَلَوْلَاهُمْ مَا خَرَجْتُ ، فَقَالَ لِي يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ
الْيَوْمَ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيُخَوِّفُونَ
النَّاسَ ، فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ قَالَ : جَاءَنَا
سُفْيَانُ
هَهُنَا فَقُلْنَا نَسْتَقْبِلُ الْقُصَّاصَ بِوُجُوهِنَا ؟ فَقَالَ
وَلَّوْا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : نَعَمْ هَذَا
مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا هِشَامٌ ثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ كُرْدُوسَ بْنَ
قَيْسٍ وَكَانَ قَاصَّ الْعَامَّةِ بِالْكُوفَةِ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَأَنْ أَقْعُدَ فِي مِثْلِ هَذَا
الْمَجْلِسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ } قَالَ
شُعْبَةُ .
فَقُلْتُ أَيُّ مَجْلِسٍ قَالَ : كَانَ قَاصًّا .
لَمْ
أَجِدْ فِي كُرْدُوسٍ كَلَامًا وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ الثِّقَاتِ
الْكِبَارِ وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا
صَفْوَانُ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنُ نَفِيرٍ عَنْ
الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ رَكِبَ إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ
فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَهُ عُمَرُ مَا أَقْدَمَكَ قَالَ
لِأَسْأَلكَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَأَلَهُ الثَّالِثَةَ عَنْ الْقَصَصِ
فَإِنَّهُمْ أَرَادُونِي عَلَى الْقَصَصِ ، فَقَالَ : مَا شِئْتَ
كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَمْنَعَهُ قَالَ إنَّمَا أَرَدْتُ ، أَنْ
أَنْتَهِيَ إلَى قَوْلِكَ قَالَ : أَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تَقُصَّ
فَتَرْتَفِعَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِكَ ثُمَّ تَقُصَّ فَتَرْتَفِعَ حَتَّى
يُخَيَّلَ إلَيْكَ أَنَّكَ فَوْقَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الثُّرَيَّا
فَيَضَعَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ
عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي حَلْقَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ : تَعَالَ ، فَقَالَ فَجِئْتُ .
فَقَالَ : إنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَعَلَيْكَ بِحَلْقَةِ
الْقُصَّاصِ .
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَنَّهُ
أَتَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : فَقَالَ لِي قُصَّ .
فَقُلْتُ
: كَيْفَ وَالنَّاسُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ ، فَقَالَ لَوْ كَانَ
بِدْعَةً مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ
بِدْعَةً قَالَ : فَقَصَصْتُ فَجَعَلْتُ أَكْثَرَ قِصَصِي
دُعَاءً رَجَاءَ أَنْ يُؤَمِّنَ قَالَ : فَجَعَلْتُ أَقُصُّ وَهُوَ
يُؤَمِّنُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كَانَ الْحَسَنُ إذَا قَصَّ
الْقَاصُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إجْلَالًا
لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مَحْمُودِ
بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ
الْخَوَّاصِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ
الْأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا { لَا يَقُصُّ إلَّا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ
أَوْ مُخْتَالٌ } عَمْرٌو تَفَرَّدَ عَنْهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ
وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ تَابَعَهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي عَرِيبٍ عَنْ كَثِيرِ
بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَوْفٍ وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ
وَيُقَالُ ابْنُ زَيْدٍ وَيُقَالُ ابْنُ يَزِيدَ قَاصُّ مَسْلَمَةَ
بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَنْ عَوْفٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا
يَنْبَغِي ذَلِكَ إلَّا لِأَمِيرٍ يَعِظُ النَّاسَ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا
مَضَى لِيَعْتَبِرُوا أَوْ مَأْمُورٍ بِذَلِكَ فَحُكْمُهُ كَالْأَمِيرِ ،
وَلَا يَقُصُّ تَكَسُّبًا ، أَوْ يَكُونُ الْقَاصُّ مُخْتَالًا يَفْعَلُ
ذَلِكَ تَكَبُّرًا عَلَى النَّاسِ أَوْ مُرَائِيًا ، وَقِيلَ أَرَادَ
الْخُطْبَةَ لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ كَانُوا يَلُونَهَا وَيَعِظُونَ
النَّاسَ فِيهَا وَيَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ أَخْبَارَ الْأُمَمِ
السَّالِفَةِ قَالَ : وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { الْقَاصُّ يَنْتَظِرُ
الْمَقْتَ } لِمَا يَعْرِضُ فِي قَصَصِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ قَالَ : وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ
لَمَّا قَصُّوا هَلَكُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا هَلَكُوا قَصُّوا }
أَيْ اتَّكَلُوا عَلَى الْقَوْلِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ فَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ هَلَاكِهِمْ ، أَوْ بِالْعَكْسِ لَمَّا هَلَكُوا فَتَرَكُوا
الْعَمَلَ أَخْلَدُوا إلَى الْقَصَصِ .
وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ
الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْمُرُونَ رَجُلًا فَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ
فَقَالَ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ الْأَيَّامِ فَلَيْسَ بِهِ
بَأْسٌ وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ قَالَ إنْسَانٌ لِابْنِ سِيرِينَ
إنَّ
أَبَا مِجْلَزٍ كَانَ لَا يَقْعُدُ إلَى الْقَاصِّ قَالَ
قَعَدَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ
الْقَصَصُ بِدْعَةٌ وَنِعْمَ الْبِدْعَةُ ، كَمْ مِنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ
وَأَخٍ مُسْتَفَادٍ وَقَالَ حَنْبَلٌ قُلْتُ لِعَمِّي فِي الْقُصَّاصِ
قَالَ : الْقَصَّاصُ الَّذِي يَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ
وَالتَّخْوِيفَ وَلَهُمْ نِيَّةٌ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ، فَأَمَّا
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ وَضْعِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ
فَلَا أَرَاهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَلَوْ قُلْتُ أَيْضًا إنَّ
هَؤُلَاءِ يَسْمَعُهُمْ الْجَاهِلُ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَلَعَلَّهُ
يَنْتَفِعُ بِكَلِمَةٍ أَوْ يَرْجِعُ عَنْ أَمْرٍ ، كَانَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ يَكْرَهُ أَنْ يُمْنَعُوا أَوْ قَالَ رُبَّمَا جَاءُوا
بِالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ
الْحَارِثِ قَالَ بَعَثَ إلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَالَ
يَا أَبَا أَسْمَاءَ إنَّا جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى أَمْرَيْنِ فَقَالَ
وَمَا هُمَا قَالَ رَفْعُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَالْقَصَصُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ؟ فَقَالَ أَمَا
إنَّهُمَا أَفْضَلُ بِدْعَتِكُمْ وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إلَى شَيْءٍ
مِنْهَا قَالَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا رُفِعَ مِنْ السُّنَّةِ
مِثْلُهَا ، فَتَمَسَّكْ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إحْدَاثِ بِدْعَةٍ }
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا أُحِبُّ أَنْ يُمِلَّ النَّاسَ وَلَا
يُطِيلَ الْمَوْعِظَةَ إذْ وَعَظَ .
وَرَوَى حَنْبَلٌ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ مَاهَانَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ
مَرَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَاصٍّ فَقَامَ إلَيْهِ
فَقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ ؟ قَالَ : لَا
قَالَ هَلْ تَعْرِفُ الْمُحْكَمَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ
: هَلْ تَعْرِفُ الزَّجْرَ مِنْ الْأَمْرِ ؟ قَالَ : لَا .
فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا وَقَالَ إنَّ هَذَا يَقُولُ اعْرِفُونِي
اعْرِفُونِي .
وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ
انْتَهَى عَلِيٌّ إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُصُّ فَقَالَ
عَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ :
هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ .
وَعَنْ
عَابِدِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِقَاصٍّ هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ
مِنْ الْمَنْسُوخِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ فَعَلَامَ تَقُصُّ عَلَى النَّاسِ
وَتَغُرُّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَلَالَ اللَّهِ مِنْ
حَرَامِهِ ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ إذَا سَمِعْتُمْ السَّائِلَ يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الْجَاهِلِيَّةِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاضْرِبُوهُ بِالْحَصَى .
وَرَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ .
قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَكْذَبُ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السُّؤَالُ وَالْقُصَّاصُ فَيَجِبُ مَنْعُ مَنْ يَكْذِبُ
مُطْلَقًا ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ يَكْذِبُ وَيَسْأَلُ وَيَتَخَطَّى ؟
وَكَيْفَ مَنْ يَكْذِبُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فِي مِثْلِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ ؟ فَنَهْيُ مَنْ يَكْذِبُ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ بَلْ
وَيُنْهَى مَنْ رَوَى مَا لَا يَعْرِفُ أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كَذِبٌ
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَلَا
يَصْلُحُ لِلْكَلَامِ عَلَى الْعَوَامّ مُلْحِدٌ وَلَا أَبْلَهُ ،
وَكِلَاهُمَا يُفْسِدُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالَ :
الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْكَشِفَ
قَصْدُهُ مِنْ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ وَقَالَ مَا
أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هِمِّهِ أَنْ تَكُونَ
غَايَةَ حَظِّهِ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ رَجُلٍ
يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَحَادِيثَ وَهُوَ غَيْرُ فَقِيهٍ ؟ فَقَالَ هَذَا
وَبَالٌ عَلَى الشَّرْعِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ
الْعَوَامّ تَفَرَّقُوا عَنْ مَجْلِسٍ مِثْلِ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ
لِبَعْضٍ اسْتَغْفِرْ مِمَّا فَعَلْتَ كَثِيرًا وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ
الشَّرْعَ قَدْ نَهَى عَنْهُ قِيلَ لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ أَبَذْلُ
مَاءَ قِرَاحِي وَأَبْذُلُ حَقِّي مِنْ الْمَاءِ وَإِذَا هُوَ قَدْ نَهَى
الشَّرْعُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى لَنَا الشَّيْخُ عَنْ النَّبِيِّ