الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيّ


{ لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ } رُوِيَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَبِزِيَادَةِ يَاءِ طَلِيقٍ ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { : أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } .
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ فَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ الْحَدِيثَ ، وَفِي آخِرِهِ قَالُوا مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُلُقٌ حَسَنٌ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ } .

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَحَكَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ كَثْرَةِ حَيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ حَكَى الطَّبَرِيُّ خِلَافًا لِلسَّلَفِ هَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ أَمْ مُكْتَسَبٌ .
وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ فَيَكُونُ هَذَا وَهَذَا كَمَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ .
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا { إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ سَيَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ } مُنْقَطِعٌ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَى الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تُغَيِّرُوا خُلُقَهُ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ : لِيَكُنْ وَجْهُك بَسْطًا وَكَلِمَتُك طَيِّبَةً تَكُنْ أَحَبَّ إلَى النَّاسِ مِنْ الَّذِي يُعْطِيهِمْ الْعَطَاءَ .

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ سَاءَ خُلُقُ خَادِمِهِ وَكَانَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُنَازَعَةٌ فَلَمَّا وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ وَقَالَ لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي وَأَنَا وَالٍ عَلَيْهِمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ هَذِهِ وَاَللَّهِ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ وَمَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا } وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا } السَّفْسَافُ الْأَمْرُ الْحَقِيرُ ، وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضِدُّ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ وَقَدْ قِيلَ : إذَا أَنْتَ جَازَيْت الْمُسِيءَ بِفِعْلِهِ فَفِعْلُك مِنْ فِعْلِ الْمُسِيءِ قَرِيبُ وَقِيلَ أَيْضًا : وَإِذَا أَرَدْت مَنَازِلَ الْأَشْرَافِ فَعَلَيْك بِالْإِسْعَافِ وَالْإِنْصَافِ وَإِذَا بَغَى بَاغٍ عَلَيْك فَخَلِّهِ وَالدَّهْرَ فَهْوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ عُيَيْنَةَ وَوَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا ، وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ .
وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ إنْ اسْتَطَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ

الْمُفْتَخِرُ ، وَإِنْ اسْتَطَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ الْبَاغِي .
فَلَا يَحِلُّ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } وَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ اللِّبَاسِ أَوَاخِرَ الْكِتَابِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ يَا عَجَبًا مِنْ الْمُخْتَالِ الْفَخُورِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ جِيفَةً لَا يَدْرِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَقِيلَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طُوبَى لِبَطْنٍ حَمَلَك ، فَقَالَ طُوبَى لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ كِتَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ كَيْفَ يَتِيهُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يَحْمِلُ الْعَذِرَةَ .
وَقَالَ مَنْصُورُ : تَتِيهُ وَجِسْمُك مِنْ نُطْفَةٍ وَأَنْتَ وِعَاءٌ لِمَا تَعْلَمُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْلَا ثَلَاثٌ سَلِمَ النَّاسُ ، شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعُجْبِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اُبْتُلِيَ مُؤْمِنٌ بِذَنْبٍ وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَمَنْ أَمِنَ الْآفَاتِ عَجَبًا بِرَأْيِهِ أَحَاطَتْ بِهِ الْآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا حَسَبَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ ، وَلَا نَسَبَ إلَّا بِالتَّقْوَى ، وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالْيَقِينِ } وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلْيَطْلُبْ بِالتَّوَاضُعِ شُكْرَهَا } وَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَكُورًا حَتَّى يَكُونَ مُتَوَاضِعًا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجْلِسِ ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيت وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ

التَّعَزُّزُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ تَوَاضُعٌ .
كَانَ يُقَالُ الْغِنَى فِي النَّفْسِ ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى ، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَجِيءُ إلَى أَوْضَعِ مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَقُولُ مِسْكِينٌ بَيْنَ ظَهْرَانِي مَسَاكِينَ وَكَانَ يُقَالُ ثَمَرَةُ الْقَنَاعَةِ الرَّاحَةُ ، وَثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ الْحَقَّ وَيَفْعَلُهُ بِأَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يَسْمَعُهُ فَيَقْبَلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ إذَا نَسُكَ الشَّرِيفُ تَوَاضَعَ ، وَإِذَا نَسُكَ الْوَضِيعُ تَكَبَّرَ وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَظْلَمُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يُكْرِمُهُ ، وَرَغِبَ فِيمَنْ يُبْعِدُهُ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ : وَجَدْنَا التَّوَاضُعَ مَعَ الْجَهْلِ وَالْبُخْلِ أَحْمَدَ مِنْ الْكِبْرِ مَعَ الْأَدَبِ وَالسَّخَاءِ وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِلرَّشِيدِ تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ مِنْ شَرَفِك .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُعْجِبَنَّكُمْ إيمَانُ الرَّجُلِ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ } وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي صُحُفِ مُوسَى وَحِكْمَةِ دَاوُد حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ ، سَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يَقْضِي فِيهَا إلَى إخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُصَدِّقُونَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَلَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ قَالَ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مَالِكًا لِلِسَانِهِ ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى

مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ رَزَقْت الْأَحْمَقَ قَالَ : لَا قَالَ : لِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِاحْتِيَالٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ مَنْ حُرِمَهُنَّ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَقْلٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ ، وَحِلْمٌ يُدَارِي بِهِ السَّفِيهَ ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ الْمَحَارِمِ } .
افْتَخَرَ رَجُلَانِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَتَفْتَخِرَانِ بِأَجْسَادٍ بَالِيَةٍ ، وَأَرْوَاحٍ فِي النَّارِ ؟ إنْ يَكُنْ لَكُمَا عَمَلٌ فَلَكُمَا أَصْلٌ ، وَإِنْ يَكُنْ لَكُمَا خُلُقٌ فَلَكُمَا شَرَفٌ ، وَإِنْ يَكُنْ لَكُمَا تَقْوَى فَلَكُمَا كَرَمٌ وَإِلَّا فَالْحِمَارُ خَيْرٌ مِنْكُمَا وَلَسْتُمَا خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ .
وَقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْرِمْهُ نَصِيبُهُ مِنْ الدُّنْيَا حَظَّهُ مِنْ الْآخِرَةِ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ : لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنْ الْعَقْلِ ، وَلَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنْ الْجَهْلِ ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنْ الْعُجْبِ ، وَلَا مُظَاهَرَةَ كَالْمُشَاوَرَةِ ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَانَ يُقَالُ إذَا كَانَ عِلْمُ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ عَقْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ يَضُرَّهُ عِلْمُهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا خَيْرَ فِي حُسْنِ الْجُسُومِ وَطُولِهَا إذَا لَمْ يَزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ عُقُولُ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ ، كَانَ يُقَالُ خِصَالٌ سِتٌّ تُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِ : الْغَضَبُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ ، وَالْعَطِيَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ ، وَالثِّقَةُ بِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يَعْرِفُ صَدِيقَهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى عُقُولِ أَرْبَابِهَا الْكِتَابُ عَلَى مِقْدَارِ كَاتِبِهِ ، وَالرَّسُولُ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِ مُرْسِلِهِ ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِ مُهْدِيهَا .

وَقِيلَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ مَا حَدُّ الْحُمْقِ قَالَ لَا حَدَّ لَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُمْقُ الْكَسَادُ ، يُقَالُ انْحَمَقَتْ السُّوقُ إذَا كَسَدَتْ ، وَمِنْهُ الرَّجُلُ الْأَحْمَقُ لِأَنَّهُ كَاسِدُ الْعَقْلِ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ ، وَالْحُمْقُ أَيْضًا الْغُرُورُ ، يُقَالُ سِرْنَا فِي لَيَالٍ مُحْمِقَاتٍ : إذَا كَانَ الْقَمَرُ فِيهِنَّ يَسِيرُ بِغَيْمٍ أَبْيَضَ دَقِيقٍ فَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْ قَدْ أَصْبَحُوا فَيَسِيرُونَ حَتَّى يَمَلُّوا قَالَ : وَمِنْهُ أُخِذَ الِاسْمُ الْأَحْمَقُ ؛ لِأَنَّهُ يَغُرُّك فِي أَوَّلِ مَجْلِسِهِ بِتَغَافُلِهِ فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ كَلَامِهِ تَبَيَّنَ حُمْقُهُ .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْحُمْقُ وَالْحُمُقُ قِلَّةُ الْعَقْلِ ، وَقَدْ حَمُقَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ حَمَاقَةً فَهُوَ أَحْمَقُ وَحَمِقَ أَيْضًا بِالْكَسْرِ يَحْمَقُ حُمْقًا مِثْلُ غَنِمَ غُنْمًا فَهُوَ حَمِقٌ وَامْرَأَةٌ حَمْقَاءُ وَقَوْمٌ وَنِسْوَةٌ حُمْقٌ وَحَمْقَى وَحَمَاقَى ، وَحَمُقَتْ السُّوقُ بِالضَّمِّ أَيْ كَسَدَتْ ، أَحْمَقَتْ الْمَرْأَةُ أَيْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَحْمَقَ فَهِيَ مَحْمُوقٌ وَمُحْمِقَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَلِدَ الْحَمْقَى فَهِيَ مِحْمَاقٌ ، وَيُقَالُ أَحْمَقْت الرَّجُلَ إذَا وَجَدْته أَحْمَقَ ، وَحَمَّقْتُهُ تَحْمِيقًا نَسَبْته إلَى الْحُمْقِ ، وَحَامَقْتُهُ إذَا سَاعَدْته عَلَى حُمْقِهِ ، وَاسْتَحْمَقْته أَيْ عَدَدْته أَحْمَقَ ، وَتَحَامَقَ فُلَانٌ إذَا تَكَلَّفَ الْحَمَاقَةَ ، وَيُقَالُ حَمِقَتْ السُّوقُ بِالْكَسْرِ وَانْحَمَقَتْ أَيْ كَسَدَتْ ، وَانْحَمَقَ الثَّوْبُ أَيْ أَخْلَقَ .
ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمًا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ : كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ وَقَالَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا : الْعَاقِلُ مَنْ يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَمَا عَيْبُك قَالَ أَنَا حَسُودٌ حَقُودٌ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا فِي إبْلِيسَ شَرٌّ مِنْ هَاتَيْنِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ صِلَةُ الْعَاقِلِ إقَامَةُ دِينِ اللَّهِ ، وَهِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ ، وَإِكْرَامُ

الْمُؤْمِنِ خِدْمَةٌ لِلَّهِ وَتَوَاضُعٌ لَهُ ، كَانَ يُقَالُ : إذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلَا إنَّمَا الْإِنْسَانُ غِمْدٌ لِعَقْلِهِ وَلَا خَيْرَ فِي غِمْدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ نَصْلُ فَإِنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ فَإِنَّهُ هُوَ النَّصْلُ وَالْإِنْسَانُ مِنْ بَعْدِهِ فَضْلُ وَقَالَ آخَرُ : وَلَيْسَ عِتَابُ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ نَافِعًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يُعَاتِبُهْ وَقَالَ آخَرُ : تَحَامَقْ مَعَ الْحَمْقَى إذَا مَا لَقِيتهمْ وَلَا تَلْقَهُمْ بِالْعَقْلِ إذَا كُنْت ذَا عَقْلِ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَرْءَ يَشْقَى بِعَقْلِهِ كَمَا كَانَ دُونَ الْيَوْمِ يَسْعَدُ بِالْعَقْلِ وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذَا أُخْبِرَ عَنْ أَحَدٍ بِصَلَاحٍ قَالَ كَيْفَ عَقْلُهُ ؟ مَا يَتِمُّ دِينُ امْرِئٍ حَتَّى يَتِمَّ عَقْلُهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قِيلَ لِعِيسَى يَا رُوحَ اللَّهِ أَنْتَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ فَمَا دَوَاءُ الْأَحْمَقِ ؟ قَالَ : ذَلِكَ أَعْيَانِي .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَأَنْ يَضْرِبَك الْحَلِيمُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُدَاهِنَكَ الْأَحْمَقُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَصْلَتَانِ لَا تَعْدِمُك مِنْ الْأَحْمَقِ ، أَوْ قَالَ مِنْ الْجَاهِلِ : كَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ وَسُرْعَةُ الْجَوَابِ .
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَجَانِينِ وَإِنْ كَانُوا عُقَلَاءَ الْغَضْبَانُ ، وَالْعُرْيَانُ ، وَالسَّكْرَانُ .
سَمِعَ الْأَحْنَفُ رَجُلًا يَقُولُ مَا أُبَالِي أَمُدِحْت أَمْ هُجِيت ، فَقَالَ اسْتَرَحْت مِنْ حَيْثُ تَعِبَ الْكِرَامُ .
وَقَالَتْ الْعَرَبُ : اسْتَرَاحَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ .
وَقَالَتْ الْفُرْسُ : مَاتَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ : كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ أَمْوَالُهُ تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا يَمُدُّ رِجْلَيْهِ عَلَى قَدْرِهِ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقِيلَ لَهُ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ قَالَ غَرِيزَةُ عَقْلٍ قُلْت : فَإِنْ

لَمْ يَكُنْ قَالَ حُسْنُ أَدَبٍ قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَخٌ شَفِيقٌ يَسْتَشِيرُهُ فَيُشِيرُ عَلَيْهِ قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ صَمْتٌ طَوِيلٌ قُلْت فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ مَوْتٌ عَاجِلٌ .
وَمِنْ كَلَامِ الْحَمْقَى : اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذَكَرَ الْمَجُوسَ يَوْمًا فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيت عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت أُمِّي ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ قَالَ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَتَرَوْنَهُ لَوْ زِيدَ فَعَلَ قِيلَ لِبَرْدَعَةِ الْمُوَسْوَسِ أَيُّمَا أَفْضَلُ غَيْلَانُ أَمْ مُعَلَّى قَالَ مُعَلَّى قَالَ : وَمِنْ أَيْنَ ؟ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ غَيْلَانُ ذَهَبَ مُعَلَّى إلَى جِنَازَتِهِ ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَلَّى لَمْ يَذْهَبْ غَيْلَانُ إلَى جِنَازَتِهِ .
رَفَعَ رَجُلٌ مِنْ الْعَامَّةِ بِبَغْدَادَ إلَى بَعْضِ وُلَاتِهَا عَلَى جَارٍ لَهُ أَنَّهُ يَتَزَنْدَقَ ، فَسَأَلَهُ الْوَالِي عَنْ قَوْلِهِ الَّذِي نَسَبَهُ بِهِ إلَى الزَّنْدَقَةِ ؟ فَقَالَ : هُوَ مُرْجِئٌ نَاصِبِيٌّ ، رَافِضِيٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ يُبْغِضُ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ الْعَاصِ .
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الْوَالِي : مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَحْسُدُك ؟ أَعَلَى عِلْمِك بِالْمَقَالَاتِ أَمْ عَلَى بَصَرِك بِالْأَنْسَابِ ؟ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَامَّةِ الْجَهَلَةِ الْحَمْقَى عَلَى شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ : أَصْلَحَ اللَّهُ الشَّيْخَ قَدْ سَمِعْت فِي السُّوقِ السَّاعَةَ شَيْئًا مُنْكَرًا وَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ قَالَ وَمَا سَمِعْت قَالَ : سَمِعْتهمْ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ قَالَ الشَّيْخُ : وَمَنْ الْمَشْتُومُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ : سَمِعْتهمْ يَشْتُمُونَ مُعَاوِيَةَ قَالَ يَا أَخِي لَيْسَ مُعَاوِيَةُ بِنَبِيٍّ قَالَ : فَهَبْهُ نِصْفَ نَبِيٍّ لِمَ يُشْتَمُ ؟ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ ذَكَرَ لِي بَعْضُ الْإِبَاضِيَّةِ أَنَّهُ جَرَى عِنْدَهُ ذِكْرُ الشِّيعَةِ يَوْمًا فَغَضِبَ وَشَتَمَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ كَالْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ نِحْلَتَهُمْ إنْكَارًا شَدِيدًا قَالَ : فَسَأَلْته يَوْمًا عَنْ سَبَبِ إنْكَارِهِ عَلَى الشِّيعَةِ

وَلَعْنِهِ لَهُمْ ؟ فَقَالَ : لِمَكَانِ الشِّينِ فِي أَوَّلِ كَلِمَةٍ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ ذَلِكَ قَطُّ إلَّا فِي مَسْخُوطَةٍ مِثْلُ شُؤْمٍ وَشَرٍّ وَشَيْطَانٍ وَشَيْخٍ وَشُعْثٍ وَشِعْبٍ وَشِرْكٍ وَشَتْمٍ وَشِقَاقٍ وَشِطْرَنْجَ وَشَيْنٍ وَشَنٍّ وَشَانِئٍ وَشُوصَةٍ وَشَوْكٍ وَشَكْوَى وَشِنَانٍ ، فَقُلْت لَهُ : إنَّ هَذَا كَثِيرٌ مَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْمَ يُقِيمُ اللَّهُ لَهُمْ عِلْمًا مَعَ هَذَا أَبَدًا .
سَلَّمَ فَزَارَةُ صَاحِبُ الْمَظَالِمِ بِالْبَصْرَةِ عَلَى يَسَارِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَانَ عَلَى يَمِينِي إنْسَانٌ لَا أُكَلِّمُهُ .
قَالَ فَزَارَةُ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ : لَوْ غَسَلْت يَدَيَّ مِائَتَيْ مَرَّةٍ مَا تَنَظَّفَتْ حَتَّى أَغْلِيَهَا مَرَّتَيْنِ ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : وَمِنْ الْمَظَالِمِ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَظَالِمِ يَا فَزَارَهْ وُلِّيَ رَجُلٌ مُقِلٌّ قَضَاءَ الْأَهْوَازِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَحَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُضَحِّي بِهِ وَلَا مَا يُنْفِقُ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى زَوْجَتِهِ فَقَالَتْ : لَا تَغْتَمَّ فَإِنَّ عِنْدِي دِيكًا جَلِيلًا قَدْ سَمَّنْته فَإِذَا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى ذَبَحْنَاهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَأَرَادُوا الدِّيكَ لِلذَّبْحِ طَارَ عَلَى سُقُوفِ الْجِيرَانِ فَطَلَبُوهُ وَفَشَا الْخَبَرُ فِي الْجِيرَانِ وَكَانُوا مَيَاسِيرَ فَرَقُّوا لِلْقَاضِي وَرَقُّوا لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ فَأَهْدَى إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَبْشًا فَاجْتَمَعَتْ فِي دَارِهِ أَكْبُشٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ فِي الْمُصَلَّى لَا يَعْلَمُ ، فَلَمَّا صَارَ إلَى مَنْزِلِهِ وَرَأَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَضَاحِيِّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ فَقَالَتْ : أَهْدَى إلَيْنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ حَتَّى سَمَّتْ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَرَى قَالَ : وَيْحَكِ احْتَفِظِي بِدِيكِنَا هَذَا فَمَا فُدِيَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ إلَّا بِكَبْشٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ فُدِيَ دِيكُنَا بِهَذَا الْعَدَدِ .

قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْأَخْلَاقُ لِلْمُؤْمِنِ قُوَّةٌ فِي لِينٍ ، وَحَزْمٌ فِي دِينٍ ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ ، وَحِرْصٌ عَلَى الْعِلْمِ ، وَاقْتِصَادٌ فِي النَّفَقَةِ ، وَبَذْلٌ فِي السَّعَةِ ، وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ ، وَرَحْمَةٌ لِلْجُمْهُورِ ، وَإِعْطَاءٌ فِي كَرَمٍ وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمًا لِقَوْمِهِ : إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ لَيْسَ فِي فَضْلٌ عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَبْسُطُ لَكُمْ وَجْهِي ، وَأَبْذُلُ لَكُمْ مَالِي ، وَأَقْضِي حُقُوقَكُمْ ، وَأَحُوطُ حَرِيمَكُمْ فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَمَنْ زِدْت عَلَيْهِ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قِيلَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا يَدْعُوَك إلَى هَذَا الْكَلَامِ قَالَ : أَحُضُّهُمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ السُّؤْدُدِ فَقَالَ : الْحِلْمُ السُّؤْدُدُ وَقَالَ أَيْضًا : نَحْنُ مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَعُدُّ الْحِلْمَ وَالْجُودَ السُّؤْدُدَ ، وَنَعُدُّ الْعَفَافَ وَإِصْلَاحَ الْمَالِ الْمُرُوءَةَ وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُسَوِّدُونَ إلَّا مَنْ كَانَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ وَتَمَامُهَا فِي الْإِسْلَامِ سَابِعَةٌ : السَّخَاءُ وَالنَّجْدَةُ وَالصَّبْرُ وَالْحِلْمُ وَالْبَيَانُ وَالْحَسَبُ ، وَفِي الْإِسْلَامِ زِيَادَةُ الْعَفَافِ .
ذُكِرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَسْوَدَ مِنْهُمْ وَكَانُوا خَيْرًا مِنْهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَبَذَلَ مَعْرُوفَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ فَذَلِكَ السَّيِّدُ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا لِلْأَنْصَارِ مَنْ سَيِّدُكُمْ ؟ قَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ } فَقَالَ شَاعِرُهُمْ فِي ذَلِكَ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَقُّ

قَوْلُهُ لِمَنْ قَالَ مِنَّا مَنْ تُسَمُّونَ سَيِّدَا فَقَالُوا لَهُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الَّتِي نُبَخِّلُهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَا فَتًى مَا تَخَطَّى خُطْوَةً لِدَنِيَّةٍ وَلَا مَدَّ فِي يَوْمٍ إلَى سَوْأَةٍ يَدَا فَسَوَّدَ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ بِجُودِهِ وَحُقَّ لِعَمْرٍو بِالنَّدَى أَنْ يُسَوَّدَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ السُّؤْدُدُ بِالْبَخْتِ ، كَمْ مِنْ فَقِيرٍ سَادَ وَلَيْسَ لَهُ بَذْلٌ بِالْمَالِ إلَى غَيْرِهِ كَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ سَبَّ الشَّعْبِيَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : شَهِدْت عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَرَجُلٌ يَشْتِمُهُ فَقَالَ لَهُ : آجَرَك اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ خَطَأٍ قَالَ : فَمَا حَسَدْت أَحَدًا حَسَدِي عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : مَا نَازَعَنِي أَحَدٌ إلَّا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : إنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ دُونِي كَرَّمْت نَفْسِي عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ .
أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ فَقَالَ : سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّبْرَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ عَلَيَّ الْجَرَائِمُ وَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ فَضْلَهُ وَأَلْزَمُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْت عَنْ إجَابَتِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْعِزِّ حَاكِمُ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِرَأْيٍ وَلَمْ تُطِعْ أُولِي الرَّأْيِ لَمْ تَرْكَنْ إلَى أَمْرِ مُرْشِدِ وَلَمْ تَجْتَنِبْ ذَمَّ الْعَشِيرَةِ كُلِّهَا وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَتَحْلُمُ عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا وَتَقْمَعُ عَنْهَا نَخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ فَلَسْت وَلَوْ عَلَّلْت نَفْسَك بِالْمُنَى بِذِي سُؤْدُدٍ بَادٍ وَلَا قُرْبِ سُؤْدُدِ وَقَالَ آخَرُ : إذَا

هَلَكَتْ أُسْدُ الْعَرِينِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَلَفٌ فِي الْغِيلِ سَادَ الثَّعَالِبُ كَذَا الْقَمَرُ السَّارِي إذَا غَابَ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَلَفٌ فِي الْجَوِّ إلَّا الْكَوَاكِبُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ ابْتَغَى الْمَكَارِمَ ، فَلْيَجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ { فِيك خَلَّتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يَرْضَاهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَشَيْءٌ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْ شَيْءٌ اخْتَرَعْته مِنْ نَفْسِي قَالَ بَلْ شَيْءٌ جَبَلَك اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى شَيْءٍ أَوْ عَلَى خُلُقٍ يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ قَالَ الشَّعْبِيُّ زَيَّنَ الْعِلْمُ حِلْمُ أَهْلِهِ وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْحِلْمُ أَرْفَعُ مِنْ الْعَقْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَسَمَّى بِهِ ، كَانَ الْأَحْنَفُ إذَا عَجِبُوا مِنْ حِلْمِهِ قَالَ : إنِّي لَأَجِدُ مَا تَجِدُونَ وَلَكِنِّي صَبُورٌ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ إنِّي لَأَرْفَعُ نَفْسِي أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَرْجَحَ مِنْ حِلْمِي .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ وَمِنْ عَفْوٍ إلَى قُدْرَةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : فَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْك حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ وَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْك عَزْمًا عَلَى التُّقَى أُقِيمُ بِهِ مَا عِشْت حَيْثُ أُقِيمُ أَلَا إنَّ تَقْوَى اللَّهِ أَكْرَمُ نِسْبَةً تَسَامَى بِهَا عِنْدَ الْفَخَارِ كَرِيمُ وَقَالَ آخَرُ : أَرَى الْحِلْمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ذِلَّةً وَفِي بَعْضِهَا عِزًّا يُسَوَّدُ فَاعِلُهْ وَقَالَ آخَرُ : وَإِنَّك تَلْقَى صَاحِبَ الْجَهْلِ نَادِمًا عَلَيْهِ وَلَا يَأْسَى عَلَى الْحِلْمِ صَاحِبُهْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا سَافَرَ سَافَرَ مَعَهُ بِسَفِيهٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : إنْ جَاءَنَا سَفِيهٌ لِأَنَّا مَا نَدْرِي مَا يُقَابَلُ بِهِ السُّفَهَاءُ قَالَ عَمْرُو بْنُ

أُمِّ كُلْثُومٍ : أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَرُبَّمَا اعْتَضَدَ الْحَلِيمُ بِجَاهِلٍ لَا خَيْرَ فِي الْيُمْنَى بِغَيْرِ يَسَارِ وَمَرَّ قَوْمٌ بِدَيْرِ رَاهِبٍ وَفِيهِمْ عَالِمٌ كَبِيرٌ مُشَارٌ إلَيْهِ فَأَنْزَلَهُمْ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَةٍ وَرَحَّبَ بِهِمْ وَتَلَقَّاهُمْ بِالْبِشْرِ وَالْكَرَامَةِ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ كُلَّ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِمْ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِيءَ لَهُمْ جَاءَ بِالْقَدَّاحِ فَقَدَحَ لَهُمْ ، فَلَمَّا أَضَاءَ الضَّوْءُ الْتَفَتَ إلَى أَحَدِهِمْ فَقَالَ أَيُّكُمْ الشَّيْخُ الْمُشَارُ إلَيْهِ ؟ فَأَشَارَ أَحَدُهُمْ إلَى الشَّيْخِ فَتَكَلَّمَ حِينَئِذٍ الرَّاهِبُ بِكَلَامٍ فَصِيحٍ ثُمَّ قَالَ لِلشَّيْخِ يَا سَيِّدِي هَذِهِ النَّارُ الَّتِي طَلَعَتْ وَأَشْعَلْت مِنْهَا أَهِيَ مِنْ الصَّوَّانَةِ أَمْ مِنْ الْحَرَّاقَةِ أَمْ مِنْ الْحَدِيدَةِ ؟ فَسَكَتَ الشَّيْخُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَكَانَ فِي جَمْعِ الشَّيْخِ رَجُلٌ سَفِيهٌ فَتَكَلَّمَ وَأَبْلَغَ وَقَالَ أَيُّهَا الرَّاهِبُ : لَقَدْ تَهَجَّمْت عَلَى مَقَامٍ لَمْ يَكُنْ لَك ، أَلَا سَأَلْتنِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ؟ فَقَالَ لَمْ أَعْرِفْ أَنَّ عِنْدَك عِلْمًا مِنْ ذَلِكَ .
فَقَالَ بَلَى ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكَلَّمَ الرَّاهِبُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهُ السَّفِيهُ وَكَانُوا فِي قُبَّةٍ : مَا هَذَا الَّذِي عَلَى صَدْرِك ؟ فَطَأْطَأَ الرَّاهِبُ رَأْسَهُ يَنْظُرُ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّفِيهُ فَصَفَعَهُ صَفْعَةً عَلَا حِسُّهَا عُلُوًّا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لِلرَّاهِبِ : أَهَذَا الْحِسُّ مِنْ سَاحِلِك أَمْ مِنْ يَدِي أَمْ مِنْ الْقُبَّةِ قَالَ : فَأُفْحِمَ الرَّاهِبُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ جَوَابًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُلْمَ بِضَمِّ الْحَاءِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ تَقُولُ مِنْهُ حَلَمَ وَاحْتَلَمَ وَتَقُولُ حَلَمْت بِكَذَا وَحَلَمْته أَيْضًا ، وَالْحِلْمُ بِالْكَسْرِ الْأَنَاةُ تَقُولُ مِنْهُ حَلُمَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ ، وَتَحَلَّمَ تَكَلَّفَ الْحِلْمَ قَالَ الشَّاعِرُ : تَحَلَّمْ عَنْ الْأَدْنَيْنِ وَاسْتَبِقْ وُدَّهُمْ وَلَنْ

تَسْتَطِيعَ الْحِلْمَ حَتَّى تَحَلَّمَا وَتَحَالَمَ أَيْ رَأَى مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِهِ .
وَحَلَّمْت الرَّجُلَ تَحْلِيمًا جَعَلْته حَلِيمًا .
وَالْمُحَلِّمُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْحِلْمِ .
وَالْحَلَمُ بِالتَّحْرِيكِ يَدَانِ تُفْسِدُ الْإِهَابَ تَقُولُ مِنْهُ حَلِمَ الْأَدِيمُ بِالْكَسْرِ .
وَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَعَانَ بِسَيْفِهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَا يُطْلِقُ عِنَانَهُ وَيُسَلِّطَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ وَرُبَّمَا انْتَشَرَ الْفَسَادُ وَعَظُمَ وَتَعِبَ الْكَبِيرُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَقَطْعُ هَذَا مِنْ الِابْتِدَاءِ هُوَ الْوَاجِبُ وَهَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ مَعْلُومٌ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ نَظَرَ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ جَرِيرُ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ : أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِكَرَارِيسَ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَعْدُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الْوَالِي وَغَيْرِهِ وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { حَسْبُ الْمَرْءِ دِينُهُ وَكَرَمُهُ تَقْوَاهُ وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ } وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَعَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ : مَا الْمُرُوءَةُ قَالَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ وَسَخَاءُ النَّفْسِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ .
فَقَالَ هَكَذَا هِيَ عِنْدَنَا فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد } تَذَاكَرُوا الْمُرُوءَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : أَمَّا مُرُوءَتُنَا فَأَنْ نَغْفِرَ لِمَنْ ظَلَمَنَا ، وَنُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنَا .
وَنَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا ، وَنُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنَا } سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ : الْعَفَافُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ .
سَأَلَ مُعَاوِيَةُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ وَالنَّجْدَةِ ، فَقَالَ : أَمَّا

الْمُرُوءَةُ فَحِفْظُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ، وَإِحْرَازُهُ دِينَهُ وَحُسْنُ قِيَامِهِ بِصَنْعَتِهِ ، وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ .
وَأَمَّا الْكَرَمُ فَالتَّبَرُّعُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِعْطَاؤُك قَبْلَ السُّؤَالِ ، وَإِطْعَامٌ فِي الْمَحَلِّ ، وَأَمَّا النَّجْدَةُ فَالذَّبُّ عَنْ الْجَارِ ، وَالصَّبْرُ فِي الْمَوَاطِنِ ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَرِيهَةِ قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ جُلُوسُ الرَّجُلِ بِبَابِهِ مِنْ الْمُرُوءَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْمُرُوءَةِ حَمْلُ الْكِيسِ فِي الْكُمِّ .
وَسُئِلَ الْأَحْنَفُ ، عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ ، وَيُرْوَى عَنْ الْأَحْنَفِ قَالَ : لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ ، وَلَا إخَاءَ لِمَلُولٍ ، وَلَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ .
سُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ اجْتِنَابُ الرَّيْبِ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ وَالْقِيَامُ بِحَوَائِجِ الْأَهْلِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا : الْفَصَاحَةُ مِنْ الْمُرُوءَةِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَيْسَ مِنْ الْمُرُوءَةِ كَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَصُونَ عِرْضَكَ ، وَتُكْرِمَ إخْوَانَك ، وَتُقِيلَ فِي مَنْزِلِك .
وَذُكِرَتْ الْفُتُوَّةُ عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ : لَيْسَتْ الْفُتُوَّةُ بِالْفِسْقِ وَلَا الْفُجُورِ ، وَلَكِنْ الْفُتُوَّةُ كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ طَعَامٌ مَوْضُوعٌ ، وَحِجَابٌ مَرْفُوعٌ وَنَائِلٌ مَبْذُولٌ وَبِشْرٌ مَقْبُولٌ ، وَعَفَافٌ مَعْرُوفٌ ، وَأَذًى مَكْفُوفٌ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد مَنْ كَانَ ظَرِيفًا فَلْيَكُنْ عَفِيفًا قَالَ مَنْصُورُ الْفَقِيهُ : فَضْلُ التُّقَى أَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ اللِّسَانِ وَالْحَسَبْ إذَا هُمَا لَمْ يُجْمَعَا إلَى الْعَفَافِ وَالْأَدَبْ وَقَالَ آخَرُ : وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى لِشُرْبِ صَبُوحٍ أَوْ لِشُرْبِ غَبُوقِ وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى لِضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صَدِيقِ .

وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْمُمَازَحَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنِّي لَأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَإِنَّك تُدَاعِبُنَا قَالَ { إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } هُوَ حَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُسَامَةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ .
وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْمَلَهُ فَقَالَ : إنَّا حَامِلُوك عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إلَّا النُّوقُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ يَعْنِي يُمَازِحُهُ } { وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسْمُهُ زَاهِرٌ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ ، فَقَالَ : إنَّ زَاهِرَ بَادِيًا وَنَحْنُ حَاضِرَتُهُ وَكَانَ دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ لَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ فَقَالَ : أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا ؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا ؟ فَقَالَ : لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْت بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الدَّمِيمُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي

الْخَلْقِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْقِصَرُ وَالْقُبْحُ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْخُلُقِ بِضَمِّهَا .
وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ { إنِّي لَأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِي } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَزَادَ فِي وَجْهِي قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمَجُّ طَرُّ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ بِالتَّزْرِيقِ وَهَذَا فِي مُلَاطَفَةِ الصِّبْيَانِ وَتَأْنِيسِهِمْ وَإِكْرَامِ آبَائِهِمْ بِذَلِكَ وَجَوَازِ الْمَزْحِ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { لَا تُمَارِ أَخَاك وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ } عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِكْرِمَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فُصُولِ الْكَذِبِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْمُزَاحُ بِمَا يَحْسُنُ مُبَاحٌ ، وَقَدْ { مَزَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُلْ إلَّا حَقًّا } قَالَ غَالِبٌ الْقَطَّانُ أَتَيْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ وَكَانَ مَزَّاحًا فَسَأَلْته عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ فَقَالَ تُوُفِّيَ الْبَارِحَةَ أَمَا شَعُرْت ؟ { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَقَالَ { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْكِي وَيَضْحَكُ وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَبْكِي وَلَا يَضْحَكُ ، فَكَانَ خَيْرُهُمَا الْمَسِيحُ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ النَّاسُ فِي سِجْنٍ مَا لَمْ يَتَمَازَحُوا .
مَزَحَ الشَّعْبِيُّ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا عَمْرٍو أَتَمْزَحُ قَالَ : إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُتْنَا مِنْ الْغَمِّ ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُدْعَبُ وَيَضْحَكُ حَتَّى يَسِيلَ لُعَابُهُ فَإِذَا أَرَدْته عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ كَانَتْ الثُّرَيَّا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ

عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْخَوْضَ فِي الْمُزَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْعَاقِبَةِ .
وَمِنْ التَّوَصُّلِ إلَى الْأَعْرَاضِ وَاسْتِجْلَابِ الضَّغَائِنِ وَإِفْسَادِ الْإِخَاءِ .
كَانَ يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ بَدْءٌ وَبَدْءُ الْعَدَاوَةِ الْمُزَاحُ وَكَانَ يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمُزَاحُ فَحْلًا مَا أَلَقَحَ إلَّا الشَّرَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لَا تُمَازِحْ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ ، وَلَا الدَّنِيَّ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْك .
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانُ إذَا كَانَ الْمُزَاحُ أَمَامَ الْكَلَامِ ، فَآخِرُهُ الشَّتْمُ وَاللِّطَامُ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ إيَّاكُمْ وَالْمُزَاحَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ ، كَانَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ يَكْرَهُ الْمُزَاحَ وَيَقُولُ يُسْعِطُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ بِأَحَرَّ مِنْ الْخَرْدَلِ ، وَيُفْرِغُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ غَلْيِ الْمِرْجَلِ ، وَيَقُولُ مَازَحْته .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَا يَكُونُ الْمُزَاحُ إلَّا فِي سُخْفٍ أَوْ بَطَرٍ السُّخْفُ بِضَمِّ السِّينِ رِقَّةُ الْعَقْلِ ، وَقَدْ سَخُفَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ سَخَافَةً فَهُوَ سَخِيفٌ مِثْلُ حَامَقْتُهُ .
قَالَ أَبُو هَفَّانَ : مَازِحْ صَدِيقَك مَا أَحَبَّ مُزَاحَا وَتَوَقَّ مِنْهُ فِي الْمُزَاحِ مُزَاحَا فَلَرُبَّمَا مَزَحَ الصَّدِيقُ بِمَزْحَةٍ كَانَتْ لِبَابِ عَدَاوَةٍ مِفْتَاحَا وَقَالَ آخَرُ : لَا تَمْزَحَنْ فَإِذَا مَزَحْت فَلَا يَكُنْ مَزْحًا تُضَافُ بِهِ إلَى سُوءِ الْأَدَبْ وَاحْذَرْ مُمَازَحَةً تَعُودُ عَدَاوَةً إنَّ الْمُزَاحَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْغَضَبْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ } قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ اُسْتُخِفَّ بِهِ وَذَهَبَ بَهَاؤُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إيَّاكَ وَالْمَشْيَ فِي غَيْرِ أَدَبٍ ، وَالضَّحِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : الْكِبْرُ ذُلٌّ وَالتَّوَاضُعُ رِفْعَةٌ وَالْمَزْحُ وَالضَّحِكُ الْكَثِيرُ سُقُوطُ وَالْحِرْصُ فَقْرٌ وَالْقَنَاعَةُ عِزَّةٌ وَالْيَأْسُ مِنْ صُنْعِ الْإِلَهِ قُنُوطُ وَقَالَ آخَرُ :

فَإِيَّاكَ إيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ يُجَرِّئُ عَلَيْك الطِّفْلَ وَالدَّنِسَ النَّذْلَا وَيُذْهِبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ وَيُورِثُهُ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ذُلَّا وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ : تَلَقَّى الْفَتَى أَخَاهُ وَخِدْنَهُ فِي لَحْنِ مَنْطِقِهِ بِمَا لَا يُغْفَرُ وَيَقُولُ كُنْت مُمَازِحًا وَمُلَاعِبًا هَيْهَاتَ نَارُك فِي الْحَشَا تَتَسَعَّرُ أَلْهَبْتهَا وَطَفِقْت تَضْحَكُ لَاهِيًا مِمَّا بِهِ وَفُؤَادُهُ يَتَفَطَّرُ أَوَمَا عَلِمْت وَمِثْلُ جَهْلِك غَالِبٌ أَنَّ الْمُزَاحَ هُوَ السِّبَابُ الْأَكْبَرُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْمُزَاحُ الدُّعَابَةُ وَقَدْ مَزَحَ يَمْزَحُ وَالِاسْمُ الْمُزَاحُ وَالْمُزَاحَةُ أَيْضًا ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ .
وَهُمَا يَتَمَازَحَانِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالُوا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدُومَ لَهُ وُدُّ أَخِيهِ فَلَا يُمَازِحْهُ وَلَا يَعِدْهُ مَوْعِدًا فَيُخْلِفَهُ .
وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي ضَحِكِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي فُصُولِ التَّوْبَةِ فِي أَنَّ سَيِّئَةَ التَّائِبِ هَلْ تُبَدَّلُ حَسَنَةً ، { وَقَدْ ضَحِكَ الْمِقْدَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُلْقِيَ إلَى الْأَرْضِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ فِي آدَابِ الْأَطْعِمَةِ .
وَرَوَى ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيِّ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ قَالَ كُنَّا نَتَذَاكَرُ الْأَبْوَابَ فَخَاضُوا فِي بَابٍ فَجَاءُوا فِيهِ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ قَالَ فَجِئْتهمْ بِسَادِسٍ فَنَخَسَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي صَدْرِي لِإِعْجَابِهِ بِهِ .

وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ فِي أَوَائِلِ صَيْدِ الْخَاطِرِ مَا أَعْرِفُ لِلْعَالِمِ قَطُّ لَذَّةً وَلَا عِزًّا وَلَا شَرَفًا وَلَا رَاحَةً وَسَلَامَةً أَفْضَلَ مِنْ الْعُزْلَةِ فَإِنَّهُ يَنَالُ بِهَا سَلَامَةَ بَدَنِهِ وَدِينِهِ وَجَاهِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِنْدَ الْخَلْقِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُخَالِطُهُمْ وَلَا يُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْمُخَالِطِ لَهُمْ ، وَلِهَذَا عَظُمَ عَلَيْهِمْ قَدْرُ الْخُلَفَاءِ لِاحْتِجَابِهِمْ .
وَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ مُتَرَخِّصًا فِي أَمْرٍ هَانَ عِنْدَهُمْ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صِيَانَةُ عِلْمِهِ وَإِقَامَةُ قَدْرِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كُنَّا نَمْزَحُ وَنَضْحَكُ فَإِذَا صِرْنَا يُقْتَدَى بِنَا فَمَا أُرَاهُ يَسَعُنَا وَقَالَ سُفْيَانُ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ وَاكْظِمُوا عَلَيْهِ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِهَزْلٍ فَتَمُجَّهُ الْقُلُوبُ ، فَمُرَاعَاةُ النَّاسِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكَرَ فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك بِكُفْرٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ } .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَأَيْت النَّاسَ يَكْرَهُونَهَا فَتَرَكْتهَا فَلَا نَسْمَعُ مِنْ جَاهِلٍ يَرَى مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رِيَاءً ، إنَّمَا هَذِهِ صِيَانَةٌ لِلْعِلْمِ ، إلَى أَنْ قَالَ فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ تَخْلِيطِ الطَّبِيبِ الْأَمْرِ بِالْحَمِيَّةِ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَبَسَّطَ عِنْدَ الْعَوَامّ حِفْظًا لَهُمْ ، وَمَتَى أَرَادَ مُبَاحًا فَلْيَسْتَتِرْ بِهِ عَنْهُمْ .
وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي لَاحَظَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَرِجْلَاهُ مِنْ جَانِبٍ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَلْقَاك عُظَمَاءُ النَّاسِ ، فَمَا أَحْسَنَ مَا لَاحَظَ ، إلَّا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِهِ تَأْدِيبَ أَبِي عُبَيْدَةَ بِحِفْظِ الْأَصْلِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ أَعَزَّكُمْ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا طَلَبْتُمْ الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ أَذَلَّكُمْ .
وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ

طَلَبَكُمْ الْعِزُّ بِالدِّينِ لَا بِصُوَرِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ الصُّوَرُ تُلَاحَظُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ ثَلَاثِ كَرَارِيسَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ .

فَصْلٌ عَنْ عِمْرَانَ مَرْفُوعًا { الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ ، الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ : حَتَّى إنَّك تَسْتَحْيِي كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ } رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عِمْرَانَ لَمَّا حَدَّثَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ .
بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ كَعْبٍ إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً ، فَقَالَ عِمْرَانُ أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِك ؟ وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ بَشِيرًا قَالَ إنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ ، بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ احْمَرَّتْ وَقَالَ أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ ، فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ ، فَأَعَادَ بَشِيرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ إنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ } ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِابْنِ

مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مِثْلُهُ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا { إنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .
وَالْحَيَاءُ مَمْدُودٌ الِاسْتِحْيَاءُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ الْحَيَاءِ ، وَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ مِنْ قُرَّةِ الْحَيَاءِ فِيهِ لِشِدَّةِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الْعَيْبِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ الْحَيَاءُ تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبَرِّ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً ، وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَنِيَّةٍ وَعِلْمٍ وَإِنْ حَلَّ شَيْءٌ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَالِ بِحَقٍّ فَهُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ ، وَتَسْمِيَتُهُ حَيَاءً مَجَازٌ .
وَحَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ فَإِذَا انْحَلَّ النِّظَامُ ذَهَبَ مَا فِيهِ ، وَفِي التَّفْسِيرِ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } .
قَالُوا الْحَيَاءُ وَقَالُوا الْوَقَارُ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْوَقَارَ فَقَدْ وَسَمَهُ بِسِيمَا الْخَيْرِ وَقَالُوا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْحِكْمَةِ لَاحَظَتْهُ الْعُيُونُ بِالْوَقَارِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ كَامِلًا ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ دِينٌ يُرْشِدُهُ ، وَعَقْلٌ يُسَدِّدُهُ ، وَحَسَبٌ يَصُونُهُ ، وَحَيَاءٌ يَقُودُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ ، وَأَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ ، وَقَالَتْ أَيْضًا رَأْسُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَاءُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت } .
وَقَالَ حَبِيبٌ : إذَا لَمْ

تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي وَلَمْ تَسْتَحِي فَافْعَلْ مَا تَشَاءُ فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ وَقَالَ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ : إذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا وَلَمْ تَرْعَ مَخْلُوقًا فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ جَنَاحٍ : إذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا تَقَلَّبَ فِي الْوُجُوهِ كَمَا يَشَاءُ وَقَالَ آخَرُ كَأَنَّهُ الْفَرَزْدَقُ : يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ فَلَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ .

فَصْلٌ ( فِي الْبَصِيرَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ ) .
كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ يَعْتَبِرُونَ أَحْوَالَ الْحَوَاشِي بِإِيفَادِ التُّحَفِ عَلَى أَيْدِي مُسْتَحْسَنَاتِ الْجَوَارِي وَيَأْمُرُونَهُنَّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى إذَا أَطَالُوا الْجُلُوسَ فَتَدِبُّ بِوَادِي الشَّهْوَةِ قَتَلُوا أُولَئِكَ ، وَإِذَا أَرَادُوا مُطَالَعَةَ عَقَائِدِ الْفُسَّادِ دَسُّوا مَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَمِّ الدَّوْلَةِ فَإِذَا أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ اسْتَأْصَلُوهُمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : فَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَمَنْ مَخَّضَ الرَّأْيَ كَانَتْ زُبْدَتُهُ الصَّوَابَ .
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ حِكَايَاتٍ وَقَالَ لِيَحْذَرْ الْحَازِمُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ عَمِلَ بِالْحَزْمِ وَحَذِرَ الْجَائِزَاتِ ، وَالْأَبْلَهُ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَيَثِقُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ .
وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَصُون ( فَصْلٌ مُهِمٌّ ) إنَّمَا فُضِّلَ الْعَقْلُ عَلَى الْحِسِّ بِالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ ، فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يَرَى الْحَاضِرَ ، وَالْعَقْلُ يُلَاحِظُ الْآخِرَةَ وَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ تَلَمُّحِ الْعَوَاقِبِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّكَاسُلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَإِيثَارَ عَاجِلِ الرَّاحَةِ يُوجِبُ حَسَرَاتٍ دَائِمَةً لَا تَفِي لَذَّةُ الْبَطَالَةِ بِمِعْشَارِ تِلْكَ الْحَسْرَةِ ، وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ إلَيَّ أَخِي وَهُوَ عَامِّيٌّ فَقِيرٌ ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي قَدْ تَسَاوَيْنَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ فَأَيْنَ تَعَبِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ؟ وَأَيْنَ لَذَّةُ بَطَالَتِهِ ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْهَلُ بَعْضَ الْعِلْمِ فَيَسْتَحِي مِنْ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَلِئَلَّا يُرَى بِعَيْنِ الْجَهْلِ فَيَلْقَى مِنْ الْفَضِيحَةِ إنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَضْعَافَ مَا آثَرَ مِنْ الْحَيَاءِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الطَّبْعُ يُطَالِبُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ مِثْلُ جَوَابِ جَاهِلٍ وَقْتَ الْغَضَبِ ، ثُمَّ يَقَعُ

النَّدَمُ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى أَنَّ لَذَّةَ الْحِلْمِ أَوْفَى مِنْ الِانْتِقَامِ ، وَرُبَّمَا أَثَّرَ ذَلِكَ الْحِقْدُ مِنْ الْجَاهِلِ فَتَمَكَّنَ فَبَالَغَ فِي الْأَذَى لَهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَادِيَ النَّاسَ وَمَا يَأْمَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمُعَادَى فَيُؤْذِيَهُ .
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْمِرَ عَدَاوَةَ الْعَدُوِّ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّ شَخْصًا فَيُفْشِيَ إلَيْهِ أَسْرَارَهُ ثُمَّ تَقَعُ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى الْمَالَ الْكَثِيرَ فَيُنْفِقُ نَاسِيًا أَنَّ ذَلِكَ يَفْنَى فَيَقَعُ لَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ حَوَائِجُ فَيَلْقَى مِنْ النَّدَمِ أَضْعَافَ مَا الْتَذَّ بِهِ فِي النَّفَقَةِ ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ رُزِقَ مَالًا أَنْ يُصَوِّرَ السِّنَّ وَالْعَجْزَ عَنْ الْكَسْبِ ، وَيُمَثِّلَ ذَهَابَ الْجَاهِ فِي الطَّلَبِ مِنْ النَّاسِ ، لِيَحْفَظَ مَا مَعَهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْبَسِطَ ذُو دَوْلَةٍ فِي دَوْلَتِهِ فَإِذَا عُزِلَ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَوِّرَ الْعَزْلَ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْثِرَ لَذَّةَ مَطْعَمٍ فَيَشْبَعَ فَيَفُوتَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ ، أَوْ يُؤْثِرُ لَذَّةَ النَّوْمِ فَيَفُوتُهُ التَّهَجُّدُ ، أَوْ يَأْكُلُ أَوْ يُجَامِعُ بِشَرَهٍ فَيَمْرَضُ ، أَوْ يَشْتَهِي جِمَاعَ سَوْدَاءَ وَيَنْسَى أَنَّهَا رُبَّمَا حَمَلَتْ فَجَاءَتْ بِبِنْتٍ سَوْدَاءَ ، فَكَمْ مِنْ حَسْرَةٍ تَقَعُ لَهُ عَلَى مَدَى الزَّمَانِ كُلَّمَا رَأَى تِلْكَ الْبِنْتَ ، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِنَا مَنْ جَامَعَ سَوْدَاءَ فَجَاءَتْ لَهُ بِوَلَدٍ فَافْتُضِحَ بِهِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيُّ وَكَانَ تَاجِرًا قَدْ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَسْوَدُ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ شَهْوَتِي .
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِغَالُ الْعَالِمِ بِصُورَةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْإِخْلَاصُ فِي طَلَبِهِ فَيَذْهَبُ الزَّمَانُ فِي حُبِّ الصِّيتِ وَطَلَبِ مَدْحِ النَّاسِ فَيَقَعُ الْخُسْرَانُ إذَا حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ .
وَمِنْ ذَلِكَ اقْتِنَاعُ الْعَالِمِ بِطَرَفٍ مِنْ الْعِلْمِ ، فَأَيْنَ مُزَاحَمَةُ الْكَامِلِينَ

وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ أَحْوَالِهِمْ ؟ وَقَدْ يُؤْثِرُ الْأَسْهَلَ كَإِيثَارِ عِلْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْفِقْهِ وَمُعَانَاةُ الدَّرَجِ تَسْهُلُ عِنْدَ الْعُلُوِّ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارُ مِنْ الْجِمَاعِ نَاسِيًا مَغَبَّتَهُ وَأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُؤْذِي فَالطَّبْعُ يَرَى اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ وَالْعَقْلُ يَتَأَمَّلُ ، وَشَرْحُ هَذَا يَطُولُ لَكِنْ قَدْ نَبَّهْت عَلَى أُصُولِهِ ، لَقَدْ جِئْت يَوْمًا مِنْ حَرٍّ شَدِيدٍ فَتَعَجَّلْت رَاحَةَ الْبُرُودَةِ فَنَزَعْت ثَوْبِي فَأَصَابَنِي زُكَامٌ أَشْرَفْت مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَلَوْ صَبَرْت سَاعَةً رَبِحْت مَا لَقِيت ، فَقِسْ كُلَّ لَذَّةٍ عَاجِلَةٍ وَدَعْ الْعَقْلَ يَتَلَمَّحُ عَوَاقِبَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَيْضًا تَأَمَّلْت اللَّذَّاتِ فَرَأَيْتهَا بَيْنَ حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ فَأَمَّا الْحِسِّيَّاتُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ ، إنَّمَا تُرَادُ لِغَيْرِهَا كَالنِّكَاحِ لِلْوَلَدِ وَلِزَوَالِ الْفُضُولِ الْمُؤْذِيَةِ ، وَالطَّعَامِ لِلتَّغَذِّي وَالتَّدَاوِي ، وَالْمَالِ لِلْإِعْدَادِ وَلِلْحَوَائِجِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخَلْقِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ اللَّذَّاتُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبِرْطِيلِ حَتَّى يُحَصِّلَهَا وَإِنْ طُلِبَ مِنْهَا شَيْءٌ لِنَفْسِ الِالْتِذَاذِ فَإِنَّ لِلطَّبْعِ حَظًّا ، إلَّا أَنَّ كُلَّ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ تُلَازِمُهَا آفَاتٌ لَا تَكَادُ تَفِي بِاللَّذَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَذَّةُ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ عَاجِلًا ذَهَابُ الْقُوَّةِ وَتَكَلُّفُ الْغُسْلِ وَمُدَارَاةُ الْمَرْأَةِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَوْلَادِ ، فَاللَّذَّةُ خُطِفَتْ خَطْفَ بَرْقٍ وَمَا لَازَمَهَا صَوَاعِقُ وَمَا يُلَازِمُ الْمَطْعَمَ مَعْلُومٌ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ مَا يُلَازِمُ حُبَّ الْمَالِ مِنْ مُعَانَاةِ الْكَسْبِ وَالْخَوْضِ فِي الشُّبُهَاتِ وَصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ الْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ شُغْلًا بِالِاكْتِسَابِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا الضَّرُورِيَّ فَتَقَعَ مُعَانَاةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتَحْصُلَ قَنَاعَةٌ بِمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ وَالْعِفَّةِ عَنْ

فُضُولِ الشَّهَوَاتِ .
وَإِنَّمَا اللَّذَّةُ الْكَامِلَةُ الْأُمُورُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِدْرَاكُ لِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِارْتِفَاعُ بِالْكَمَالِ عَلَى النَّاقِصِينَ ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الْأَعْدَاءِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ لَذَّةُ الْعَفْوِ أَطْيَبَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا فِي حَقِّ ذَلِيلٍ قَدْ قُهِرَ ، وَالصَّبْرُ عَلَى نَيْلِ كُلِّ فَضِيلَةٍ وَعَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ ، وَالْمُلَاحَظَةُ لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ فَلَا تَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ غَايَةٍ تُرَادُ بِهِ فَضِيلَةٌ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ ، وَأَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، نَافَسَ أُولَئِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى هُنَاكَ لِيَقْدَمَ عَلَى مَفْضُولِينَ لَهُ .
وَمَنْ تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي نَقْصٍ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِنَقْصِهِمْ وَقَدْ رَضُوا بِحَالِهِمْ وَإِنَّمَا الْيَوْمَ نَعْلَمُ ذَلِكَ ، فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ إلَى تَحْصِيلِ أَفْضَلِ الْفَضَائِلِ ، وَاغْتِنَامِ الزَّمَنِ السَّرِيعِ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تُجَرَّعَ شَرَابَ النَّدَمِ الْفَظِيعِ مَرَّةً ، وَقُلْ لِنَفْسِك أَيُّ شَيْءٍ إلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ مِنْ الْمَوْتَى فَلَهُمْ فَنَافِسْ : إذَا أَعْجَبَتْك خِصَالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُك فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ إذَا جِئْتهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُك وَقَالَ أَيْضًا لَذَّاتُ الْحِسِّ شَهْوَانِيَّةٌ وَكُلُّهَا مَعْجُونٌ بِالْكَدَرِ ، وَأَمَّا اللَّذَّاتُ النَّفْسَانِيَّةُ فَلَا كَدَرَ فِيهَا كَالْأَرَايِحِ الطَّيِّبَةِ وَالصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالْعِلْمِ ، وَأَعْلَاهُ مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَهَوَاتُ الْحِسِّ شَارَكَ الْبَهَائِمَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَهَوَاتُ النَّفْسِ زَاحَمَ الْمَلَائِكَةَ .
وَقَالَ أَيْضًا : تَفَكَّرْت يَوْمًا فَرَأَيْت أَنَّنَا فِي دَارِ الْمُعَامَلَةِ وَالْأَرْبَاحِ وَالْفَضَائِلِ فَمِثْلُنَا كَمِثْلِ مَزْرَعَةٍ مَنْ أَحْسَنَ بَذْرَهَا وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ زَكِيَّةً وَالشُّرْبُ

مُتَوَفِّرًا كَثُرَ الرِّيعُ ، وَمَتَى اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَثَّرَ يَوْمَ الْحَصَادِ ، فَالْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا فَرْضٌ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَمِنْهَا فَضِيلَةٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ مُتَكَاسِلٌ عَنْ طَلَبِ الْفَضَائِلِ ، وَالنَّاسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَالِمٌ يَغْلِبُهُ هَوَاهُ فَيَتَوَانَى عَنْ الْعَمَلِ ، وَجَاهِلٌ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ ، وَهَذَا الْأَغْلَبُ عَلَى الْخَلْقِ ، فَالْأَمِيرُ يُرَاعِي سَلْطَنَتَهُ وَلَا يُبَالِي بِمُخَالِفَةِ الشَّرْعِ ، أَوْ يَرَى بِجَهْلِهِ جَوَازَ مَا يَفْعَلُهُ ، وَالْفَقِيهُ هِمَّتُهُ تَرْتِيبُ الْأَسْئِلَةِ لِيَقْهَرَ الْخَصْمَ ، وَالْقَاصُّ هِمَّتُهُ تَزْوِيقُ الْكَلَامِ لِيُعْجِبَ السَّامِعِينَ ، وَالزَّاهِدُ مَقْصُودُهُ تَزْيِينُ ظَاهِرِهِ بِالْخُشُوعِ لِتُقَبَّلَ يَدُهُ وَيُتَبَرَّكَ بِهِ ، وَالتَّاجِرُ يُمْضِي عُمْرَهُ فِي جَمْعِ الْمَالِ كَيْفَ اتَّفَقَ فَفِكْرُهُ مَصْرُوفٌ إلَى ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ إلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ ، وَالْمُغْرَى بِالشَّهَوَاتِ مُنْهَمِكٌ عَلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ تَارَةً بِالْمَطْعَمِ وَتَارَةً بِالْوَطْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا ذَهَبَ الْعُمْرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِالْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِهَا .
فَمَتَى تَتَفَرَّغُ لِإِخْرَاجِ زَيْفِ الْقَصْدِ مِنْ خَالِصِهِ ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ فِي أَفْعَالِهَا ، وَدَفْعِ الْكَدَرِ عَنْ بَاطِنِ السِّرِّ وَجَمْعِ الزَّادِ لِلرَّحِيلِ ، وَالْبِدَارِ إلَى تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَالِي ؟ فَالظَّاهِرُ قُدُومُ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْحَسَرَاتِ .
إمَّا فِي التَّفْرِيطِ لِلْوَاجِبِ أَوْ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ الْفَضَائِلِ ، فَاَللَّهَ اللَّهَ يَا أَهْلَ الْفَهْمِ اقْطَعُوا الْقَوَاطِعَ عَنْ الْمُهِمِّ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الِاسْتِلَابُ بَغْتَةً عَلَى شَتَاتِ الْقَلْبِ وَضَيَاعِ الْأَمْرِ .
( فَصْلٌ ) : لَمَّا صَعِدَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَاسِطَ إلَى بَغْدَادَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ خُلِعَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحْسَنَ الْكَلَامَ وَكَانَ مِمَّا أَنْشَدَهُ قَوْلُ الرَّضِيِّ الْمُوسَوِيِّ : لَا

تُعْطِشْ الرَّوْضَ الَّذِي نَبْتُهُ بِصَوْبِ إنْعَامِك قَدْ رُوِّضَا لَا تَبْرِ عُودًا أَنْتَ رَشَيْتَهُ حَاشَا لِبَانِي الْمَجْدِ أَنْ يَنْقُضَا إنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ تَجَرَّمْته فَاسْتَأْنِفْ الْعَفْوَ وَهَبْ مَا مَضَى قَدْ كُنْت أَرْجُوك لِنَيْلِ الْمُنَى فَالْيَوْمَ لَا أَطْلُبُ إلَّا الرِّضَا ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا : شَقِينَا بِالنَّوَى زَمَنًا فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا كَأَنَّا مَا شَقِينَا سَخِطْنَا عِنْدَمَا جَنَتْ اللَّيَالِي وَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى رَضِينَا وَمَنْ لَمْ يَحْيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَوْمًا فَإِنَّا بَعْدَمَا مِتْنَا حَيِينَا .

فَصْلٌ ( إنْكَارُ أَحْمَدَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَتَوَاضُعُهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَى مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ ) .
رَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ مَسَحْت يَدِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثُمَّ مَسَحْت يَدِي عَلَى بَدَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَنْفُضُ يَدَهُ وَيَقُولُ عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا ؟ وَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَوْصَى لِي بِجُبَّتِهِ فَجَاءَنِي بِهَا ابْنُهُ فَقَالَ لِي فَقُلْت رَجُلٌ صَالِحٌ قَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيهَا أَتَبَرَّكُ بِهَا قَالَ فَذَهَبَ فَجَاءَنِي بِمِنْدِيلٍ ثِيَابٍ فَرَدَدْتهَا مَعَ الثِّيَابِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا مَشَى فِي طَرِيقٍ يَكْرَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ أَحَدٌ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ .
قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو يَحْيَى الْقَطَّانُ الْعَاقُولِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ جَلِيلُ الْقَدْرِ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَالَ كُنْت مَعَ أَحْمَدَ فَجَعَلْت أَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الصَّفِّ إجْلَالًا لَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِي فَقَدَّمَنِي إلَى الصَّفِّ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ حَدِيثًا فِيهِ ضَعْفٌ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ لَا تَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا ، فَكَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى دَخَلَهُ خَجْلَةً فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ إنَّمَا قُلْت هَذَا إجْلَالًا لَك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْأَبْدَالِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَذُكِرَ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ هُوَ قَصِيرُ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ أَمْسِكْ عَافَاك اللَّهُ وَهَلْ يُرَادُ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا مَا وَصَلَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ قُلْت لِأَبِي هَلْ كَانَ مَعَ مَعْرُوفٍ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ ؟ فَقَالَ لِي يَا بُنَيَّ كَانَ مَعَهُ رَأْسُ الْعِلْمِ

خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ أَثْنَى مَعْرُوفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَ سَمِعْت مِنْهُ إذًا كَلِمَتَيْنِ أَزْعَجَتَانِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ نُسِيَ ، فَلْيُحْسِنْ وَلَا يُسِئْ .

فَصْلٌ ( فِي دُعَاءِ الْمَظْلُومِ عَلَى ظَالِمِهِ وَشَيْءٍ مِنْ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ ) .
قَالَ هِشَامُ بْنُ مَنْصُورٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُول تَدْرِي مَا قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ قُلْت : لَا قَالَ : يَجِيئُنِي الرَّجُلُ مِمَّنْ أُبْغِضُهُ وَأَكْرَهُ مَجِيئَهُ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ مَعَهُ حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُ ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ الَّذِي أَوَدُّهُ فَأَرُدُّهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيَّ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمٍ : لَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى الْمُعْتَصِمِ يَوْمَ ضُرِبَ قَالَ لَهُ الْعَوْنُ الْمُوَكَّلُ بِهِ اُدْعُ عَلَى ظَالِمِك قَالَ لَيْسَ بِصَابِرٍ مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ يَعْنِي الْإِمَامُ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَظْلُومَ إذَا دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ مَيْمُونٌ الْأَعْوَرُ ، ضَعَّفُوهُ لَا سِيَّمَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَإِذَا انْتَصَرَ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَفَاتَهُ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ : رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَمْضِي إلَى قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِذَا بِهِ جَالِسٌ عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرُ السِّنِّ فَقَالَ لِي يَا فُلَانُ قَلَّ أَنْصَارُنَا ، وَمَاتَ أَصْحَابُنَا ، ثُمَّ قَالَ لِي إذَا أَرَدْت أَنْ تُنْصَرَ فَإِذَا دَعَوْت فَقُلْ يَا عَظِيمُ يَا عَظِيمُ كُلِّ عَظِيمٍ وَادْعُ بِمَا شِئْت تُنْصَرُ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ ذَكَرْت لِأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَوْمًا بَعْضَ إخْوَانِنَا وَتَغَيَّرَ عَلَيْنَا فَأَنْشَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : وَلَيْسَ خَلِيلِي بِالْمَلُولِ وَلَا الَّذِي إذَا غِبْت عَنْهُ بَاعَنِي بِخَلِيلِ وَلَكِنْ خَلِيلِي مَنْ يَدُومُ

وِصَالُهُ وَيَحْفَظُ سِرِّي عِنْدَ كُلِّ خَلِيلِ وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا مِنْ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ وَقَدْ رَأَيْت هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَة الْمَجَالِسِ كَانَ الْمُتَمَنِّي بِالْكُوفَةِ إذَا تَمَنَّى يَقُولُ أَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لِي فِقْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحِفْظُ سُفْيَانَ وَوَرَعُ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ وَجَوَابُ شَرِيكٍ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي هِشَامٍ يَوْمًا عِنْدَ أَحْمَدَ فَذَ كَرُوا الْكُتَّابَ وَدِقَّةَ ذِهْنِهِمْ فَقَالَ إنَّمَا هُوَ التَّوْفِيقُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وُلِدَ لِأَبِي مَوْلُودٌ فَأَعْطَانِي عَبْدُ الْأَعْلَى رُقْعَةً إلَى أَبِي يُهَنِّئُهُ فَرَمَى بِالرُّقْعَةِ إلَيَّ وَقَالَ لَيْسَ هَذَا كِتَابَ عَالِمٍ وَلَا مُحَدِّثٍ هَذَا كِتَابُ كَاتِبٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَقَامَتْ أُمُّ صَالِحٍ مَعِي عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا اخْتَلَفْت أَنَا وَهِيَ فِي كَلِمَةٍ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ دَخَلْت يَوْمًا عَلَى أَحْمَدَ فَقُلْت كَيْفَ أَصْبَحْت قَالَ : كَيْفَ أَصْبَحَ مَنْ رَبُّهُ يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَنَبِيُّهُ يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ السُّنَّةِ ، وَالْمَلَكَانِ يُطَالِبَانِهِ بِتَصْحِيحِ الْعَمَلِ ، وَنَفْسُهُ تُطَالِبُهُ بِهَوَاهَا ، وَإِبْلِيسُ يُطَالِبُهُ بِالْفَحْشَاءِ ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ يُطَالِبُهُ بِقَبْضِ رُوحِهِ ، وَعِيَالُهُ يُطَالِبُونَهُ بِنَفَقَتِهِمْ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَبَا نَصْرٍ إنِّي وَاَللَّهِ أُحِبُّك ، فَقَالَ وَكَيْفَ لَا تُحِبُّنِي وَلَسْت لِي بِجَارٍ وَلَا قَرَابَةٍ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الرَّجُلُ يَبْلُغُنِي عَنْهُ صَلَاحٌ أَفَأَذْهَبُ أُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ لِي أَحْمَدُ اُنْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِقَلْبِك فَافْعَلْهُ .

فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِخَارَة وَهَلْ هِيَ فِيمَا يَخْفَى أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ) .
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ بِهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْعَابِدُ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ فِيهِ قَالَ وَشَاوَرْته فِي الْخُرُوجِ إلَى الثَّغْرِ فَقَالَ لِي بَادِرْ بَادِرْ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا اسْتِخَارَةَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ بَعْدَ فِعْلِ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ جَابِرٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا } حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، { وَقَدْ اسْتَخَارَتْ زَيْنَبُ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ لِمَنْ هَمَّ بِأَمْرٍ سَوَاءَ كَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرَ الْخَيْرِ أَمْ لَا قَالَ وَلَعَلَّهَا اسْتَخَارَتْ لِخَوْفِهَا مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ أَحْفَظُ مَنْ رَأَيْت مِنْ الْبَشَرِ ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ ثنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الصَّنْعَانِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْت وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَبْغَضُ إلَيْك قَالَ عَبْدٌ اسْتَخَارَنِي فِي أَمْرٍ فَخِرْت لَهُ فَلَمْ يَرْضَ .
الظَّاهِرُ أَنَّهُ إسْنَادٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ كَرَاهَةُ الْعَجَلَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي ثنا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَابَ الْعَجَلَةَ فِي الْأُمُورِ ، ثُمَّ

قَالَ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ الْبَقَرَةَ فِي ثَمَانِ سِنِينَ وَظَاهِرُ هَذَا مِنْ الْخَلَّالِ مُخَالَفَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ ثنا عَفَّانَ ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ ثنا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَقَدْ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ } كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَاتَّأَدَ فِي مَشْيِهِ وَتَوَأَّدَ فِي مَشْيِهِ وَهُوَ افْتَعَلَ وَتَفَعَّلَ مِنْ التُّؤَدَةِ وَأَصْلُ التَّاءِ فِي " اتَّئِدْ " وَاوٌ ، يُقَالُ اتَّئِدْ فِي أَمْرِكَ .
وَقَدْ سَبَقَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَنِّي فِي الْفُتْيَا فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ } وَذَكَرْت فِي مَكَان آخَرَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ } وَقَوْلُهُ { مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ } .

فَصْلٌ ( فِي حَقِيقَةِ الزُّهْدِ ) .
قَالَ الْخَلَّالُ مَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّاهِدِ يَكُونُ زَاهِدًا وَمَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ قَالَ نَعَمْ عَلَى شَرِيطَةٍ إذَا زَادَتْ لَمْ يَفْرَحْ ، وَإِذَا نَقَصَتْ لَمْ يَحْزَنْ قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِسُفْيَانَ : حُبُّ الرِّيَاسَةِ أَعْجَبُ إلَى الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَمَنْ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ طَلَبَ عُيُوبَ النَّاسِ أَوْ عَابَ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ سُئِلَ أَحْمَدُ وَأَنَا شَاهِدٌ : مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالْإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ } وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنْ الزُّهْدُ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أُصِبْت بِهَا أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا نُفِيَتْ عَنْك ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَعْنِي الَّذِي فِي إسْنَادِهِ وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمْ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا سَلِمَ فِيهِ الْقَلْبُ مِنْ الْهَلَعِ وَالْيَدُ مِنْ الْعُدْوَانِ كَانَ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ عَظِيمٌ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَاهِدًا أَزْهَدُ مِنْ فَقِيرٍ هَلُوعٍ كَمَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ وَذَكَرَ الْخَبَرَيْنِ السَّابِقَيْنِ

وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ } وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا وَلَهُ مَالٌ قَالَ نَعَمْ ، إنْ اُبْتُلِيَ صَبَرَ ، وَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ .
وَقَالَ سُفْيَانُ إذَا بَلَغَك عَنْ رَجُلٍ بِالْمَشْرِقِ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ وَبِالْمَغْرِبِ صَاحِبُ سُنَّةٍ فَابْعَثْ إلَيْهِمَا بِالسَّلَامِ وَادْعُ اللَّهَ لَهُمَا فَمَا أَقَلَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةُ إلَى الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَرْكُ الْحَرَامِ وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامّ ( وَالثَّانِي ) تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْحَلَالِ وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ ( وَالثَّالِثُ ) تَرْكُ مَا يُشْغِلُ الْعَبْدَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ قَالَ وَسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ الْحَافِظَ سَمِعْت أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ يَقُولُ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ : سُئِلَ أَبِي مَا الْفُتُوَّةُ ؟ فَقَالَ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ قَدْ قُلْت عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ فِي الزُّهْدِ وَوَدِدْت أَنَّ لِي مِنْهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي لِأَبِي نُوَاسٍ يَا نُوَاسُ تَوَقَّرْ وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ إنْ يَكُنْ سَاءَك دَهْرٌ فَلَمَا سَرَّك أَكْثَرْ يَا كَثِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ الـ لَّهِ مِنْ ذَنْبِك أَكْبَرْ وَرَأَى بَعْضُ إخْوَانِ أَبِي نُوَاسٍ لَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ : غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتهَا وَهِيَ الْآنَ تَحْتَ وِسَادَتِي فَنَظَرُوا فَإِذَا بِرُقْعَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِهِ فِي بَيْتِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا : يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ عَفْوَك أَعْظَمُ إنْ كَانَ لَا يَرْجُوك إلَّا مُحْسِنٌ فَمَنْ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ الْمُجْرِمُ أَدْعُوك رَبِّ كَمَا أَمَرْت تَضَرُّعًا فَإِذَا

رَدَدْت يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ مَا لِي إلَيْك وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا وَجَمِيلُ ظَنِّي ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الزُّهْدِ قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ .
وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ مَا ازْدَادَ رَجُلٌ عِلْمًا فَازْدَادَ مِنْ الدُّنْيَا قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَاهَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَسَدٍ : سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْوَرَعِ فَقَالَ أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي الْوَرَعِ ، وَأَنَا آكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ لَوْ كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَلُحَ أَنْ يُجِيبَك عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ وَلَا مِنْ طَعَامِ السَّوَادِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَخْزَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَذُكِرَ آخَرُ بِرِعَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ شَيْءٌ } ابْنُ نُبَيْهٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمَخْرَمِيُّ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ عَلَامَةُ الزُّهْدِ فِي النَّاسِ إذَا لَمْ يُحِبَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَذَمَّتِهِمْ وَإِنْ قَدَرْت أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ وَمَا عَلَيْك أَلَّا يُثْنَى عَلَيْك وَمَا عَلَيْك أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إذَا كُنْت مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ لَمْ يُذْكَرْ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بَنَانَ قَالَ أَحْمَدُ : سَمِعْته يَقُولُ

يَعْنِي بِشْرًا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مَنْ بُلِيَ بِالشُّهْرَةِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ لِأَنِّي لَا أُفَكِّرُ فِي بَدْءِ أَمْرِي ، طَلَبْت الْحَدِيثَ وَأَنَا ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ هِجْرَانُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِنَا هَذَا لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ ، إنَّمَا الْمُنْقَطِعُ أَنِفَ مِنْ الذُّلِّ فَإِنَّ مُخَالَطَةَ الْقَدَرِيِّ وَالتَّخَلِّي عَنْهُمْ تَرَّاعَة وَمَنْ طَلَّقَ عَجُوزًا مُنَاقِرَةً فَلَا عَجَبَ وَقَالَ مَا قَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَمَلَ النَّفْسَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ فَهُوَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةُ وَإِنْ كَانَ إمْلَاقًا وَفَقْرًا وَمَا أَوْصَلَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَذَاكَ لَيْسَ بِالدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ وَإِنْ كَانَ إكْثَارًا وَقَالَ الْوَاجِبُ شُكْرُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ وَطَرِيقٌ إلَى الْآخِرَةِ وَذَرِيعَةٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَعُودُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ شَرٌّ ، كَالسَّخَاءِ يَعُودُ إسْرَافًا ، وَالتَّوَاضُعُ يَعُودُ ذُلًّا ، وَالشَّجَاعَةُ تَعُودُ تَهَوُّرًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قَالَ : الْقَنَاعَةُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَوْ عَلِمْت قَدْرَ الرَّاحَةِ فِي الْقَنَاعَةِ وَالْعِزِّ الَّذِي فِي مَدَارِجِهَا عَلِمْت أَنَّهَا الْعِيشَةُ الطَّيِّبَةُ لِأَنَّ الْقَنُوعَ قَدْ كُفِيَ تَكَلُّبَ طِبَاعِهِ ، وَالطَّبْعُ كَالصِّبْيَانِ الرُّعَّنِ وَمَنْ بُلِيَ بِذَلِكَ أَذْهَبَ وَقْتَهُ فِي أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَفَاتَتْهُ الْفَضَائِلُ فَأَصْبَحَ كَمُرَبِّي طِفْلٍ يَتَصَابَى لَهُ وَيَجْتَهِدُ فِي تَسْكِينِ طِبَاعِهِ تَارَةً بِلُعْبَةٍ تُلْهِيهِ وَتَارَةً بِشَهْوَةٍ ، وَتَارَةً بِكَلَامِ الْأَطْفَالِ ، وَمَنْ كَانَ دَأْبهُ التَّصَابِي مَتَى يَذُوقُ طَعْمَ الرَّاحَةِ ، وَمَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ كَذَا فَمَتَى يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ التَّفْوِيضُ إلَى اللَّهِ كَالصَّبِيِّ حَالَ التَّرْبِيَةِ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى وَالِدَيْهِ وَيَثِقُ بِهِمَا

مُسْتَرِيحًا مِنْ كَدِّ التَّخَيُّرِ ، فَلَا يَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ مَعَ تَفْوِيضِهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُ لَهُ .
الْمُفَوِّضُ وَثِقَ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَعِنْدِي أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَعْنِي الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَنَّ الطَّيِّبَ الصَّافِي وَالصَّفَاءُ فِي الْجَنَّةِ .
وَقَالَ أَيْضًا مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت أَحْوَالَ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلَافِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ ، وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ ، وَتَشَعُّثِ الْأَدْيَانِ ، وَمَوْتِ السُّنَنِ ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَتَقَضِّي الْعُمْرِ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لَا يُجْدِي ، فَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمْرِهِ وَلَا تَأَسَّى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ ، وَلَا أَرَى لِذَلِكَ سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ : يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ فُصُولِ طَلَبِ الْعِلْمِ حَدِيثُ { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ } وَأَخَذَ ابْنٌ لِعُمَرَ خَاتَمًا فَأَدْخَلَهُ فِي فِيهِ فَانْتَزَعَهُ عُمَرُ مِنْهُ ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَالُوا لَهُ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لَك وَأَظْهَرَك عَلَى عَدُوِّك وَأَقَرَّ عَيْنَك ؟ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تُفْتَحُ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَأَنَا مُشْفِقٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُك ؟ قَالَ اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ قَالَ : ثُمَّ يَصِيرُ إلَى مَاذَا قَالَ إلَى مَا قَدْ عَلِمْت قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا } .
وَعَنْ أَبِي كَعْبٍ مَرْفُوعًا { إنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا ، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرْ إلَى مَاذَا يَصِيرُ ؟ } وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ { كَانَ بِالْكُوفَةِ أَمِيرٌ فَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ : إنَّ إعْطَاءَ هَذَا الْمَالِ فِتْنَةٌ ، وَإِنَّ إمْسَاكَهُ فِتْنَةٌ ، وَبِذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ نَزَلَ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى } .
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا { حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ } .
وَعَنْ مُعَاذٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ : وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ } وَعَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا { إنَّمَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّبَقُّرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ } ، التَّبَقُّرُ التَّوَسُّعُ وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَقْرِ الشَّقُّ .
وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ مَرْفُوعًا { لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ يَمُوتُ وَمَا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَأَنْشَدَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ لِنَفْسِهِ : يَلِذُّ نَدَى الدُّنْيَا الْغَنِيُّ وَيَطْرَبُ وَيَزْهَدُ فِيهَا الْأَلْمَعِيُّ الْمُجَرِّبُ وَمَا عَرَفَ الْأَيَّامَ وَالنَّاسَ عَاقِلٌ وَوُفِّقَ إلَّا كَانَ فِي الْمَوْتِ يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ أَشْكُو هِمَّةً لَعِبَتْ بِهَا أَبَاطِيلُ آمَالٍ تَغُرُّ وَتَخْلُبُ فَوَا

عَجَبًا مِنْ عَاقِلٍ يَعْرِفُ الدُّنَا فَيُصْبِحُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَرْغَبُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا : الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِي الْعَيْنُ وَالْأَثَرُ فَمَا الَّذِي بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ يُنْتَظَرُ وَقْتٌ يَفُوتُ وَأَشْغَالٌ مُعَوِّقَةٌ وَضَعْفُ عَزْمٍ وَدَارٌ شَأْنُهَا الْغِيَرُ وَالنَّاسُ رَكْضًا إلَى مَأْوَى مَصَارِعِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ رَكْضِهِمْ خَبَرُ تَسْعَى بِهِمْ حَادِثَاتٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيَبْلُغُونَ إلَى الْمَهْوَى وَمَا شَعَرُوا وَالْجَهْلُ أَصْلُ فَسَادِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَالْجَهْلُ أَصْلٌ عَلَيْهِ يُخْلَقُ الْبَشَرُ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا وَأَنْشَدَ أَيْضًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي نَاصِحٌ لَكُمْ فَعُوا كَلَامِي فَإِنِّي ذُو تَجَارِيبِ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ الدُّنْيَا بِزَهْرَتِهَا فَمَا تَدُومُ عَلَى حُسْنٍ وَلَا طِيبِ وَأَنْشَدَ أَيْضًا : إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ قَلَّ صَدِيقُهُ وَقَبُحَ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ يَجْمُلُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا : وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْك يَضِيعُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ هَانِئٍ الشَّاعِرُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَرْثِي فِيهَا وَلَدَهُ حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ بَيْنَمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِرًا حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِنْ الْأَخْبَارِ طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جِذْوَةَ نَارِ الْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِ لَيْسَ الزَّمَانُ وَإِنْ حَرَصْت مُسَاعِدًا خُلُقُ الزَّمَانِ عَدَاوَةُ الْأَحْرَارِ وَمِنْهَا : وَتَلَهُّبُ الْأَحْشَاءِ شَيَّبَ مَفْرِقِي هَذَا الضِّيَاءُ شُوَاظُ تِلْكَ النَّارِ لَا حَبَّذَا الشَّيْبُ الْوَفِيُّ وَحَبَّذَا شَرْخُ الشَّبَابِ الْخَائِنِ الْغَدَّارِ وَطَرِي مِنْ الدُّنْيَا الشَّبَابُ وَرَوْقُهُ فَإِذَا انْقَضَى فَقَدْ انْقَضَتْ أَوْطَارِي وَمِنْهَا : ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى وَتَصَرَّمَا إلَّا مِنْ الْأَشْعَارِ وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَذَكَرَهُمَا السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِهِ فِي الْجَنَائِزِ فِي الْمُصَابِ وَلِابْنِ هَانِئٍ أَيْضًا مِمَّا قَدْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ : لَا أَنْتَ عِنْدَ الْيُسْرِ مِنْ زُوَّارِهِ يَوْمًا وَلَا فِي الْعُسْرِ مِنْ عُوَّادِهِ وَلَهُ مِنْهَا : أَفْدِي الْكِتَابَ بِنَاظِرِي فَبَيَاضُهُ بِبَيَاضِهِ وَسَوَادُهُ بِسَوَادِهِ وَلَهُ : قَدْ كَانَ يَرْجُفُ فِي لَيَالِي وَصْلِهِ قَلْبِي فَكَيْفَ يَكُونُ يَوْمَ صُدُودِهِ وَلَهُ : كَمْ عَاهَدَ الدَّمْعُ لَا يُغْرِي بِجِرْيَتِهَا الـ وَاشِي فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ ظَعْنُهُمْ غَدَرَا وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ { اُبْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ، ثُمَّ اُبْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ } .

فَصْلٌ ( فِي أَخْبَارِ الْعَابِدَاتِ وَالْعَابِدِينَ وَالزُّهَّادِ ) .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ اللَّيْثِ الرَّازِيّ قِيلَ لِأَحْمَدَ يَجِيئُك بِشْرٌ يَعْنُونَ ابْنَ الْحَارِثِ قَالَ لَا ، تَعْنُونَ الشَّيْخَ نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَذْهَبَ إلَيْهِ قِيلَ لَهُ نَجِيءُ بِك قَالَ لَا أَكْرَهُ أَنْ يَجِيءَ إلَيَّ أَوْ أَذْهَبَ إلَيْهِ فَيَتَصَنَّعُ لِي وَأَتَصَنَّعُ لَهُ فَنَهْلِك .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذُكِرَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ فِيهِ أُنْسٌ ، وَقَالَ مَا كَلَّمْته قَطُّ نَقَلْته مِنْ الْوَرَعِ .
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دِرَامٍ الْحَافِظُ بِالْكُوفَةِ حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي الْبَغْدَادِيُّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ بِشْرٍ قَالَ : اعْتَلَّ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَعَادَتْهُ آمِنَةُ الرَّمْلِيَّةُ مِنْ الرَّمْلَةِ فَإِنَّهَا لَعِنْدَهُ إذْ دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَعُودُهُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ آمِنَةُ الرَّمْلِيَّةُ بَلَغَهَا عِلَّتِي فَجَاءَتْ مِنْ الرَّمْلَةِ تَعُودُنِي ، فَقَالَ : فَسَلْهَا تَدْعُو لَنَا .
فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ إنَّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَسْتَجِيرَانِك مِنْ النَّارِ فَأَجِرْهُمَا قَالَ أَحْمَدُ : فَانْصَرَفْت فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ طُرِحَتْ إلَيَّ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ : بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَدْ فَعَلْنَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَبِّدَاتِ فَأَخْبَرَتْنِي عَنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا عَمَدَتْ إلَى بَيْتِهَا فَفَوَّتَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَاقْتَصَرَتْ عَلَى قُرْصَيْنِ وَتَرَكَتْ الدُّنْيَا وَهِيَ تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا قَالَ : فَقُلْت لَهَا قُولِي لِصَاحِبَةِ الْقُرْصَيْنِ تَدْعُو لِي .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَا أَعْدِلُ بِفَضْلِ الْفَقْرِ شَيْئًا أَتَدْرِي إذَا سَأَلَك أَهْلُك حَاجَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهَا أَيُّ شَيْءٍ لَك مِنْ الْأَجْرِ ؟ مَا

قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا كَانَ أَقَلَّ لِلْحِسَابِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ كَرَمًا وَكَرَمُ الْقَلْبِ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِشُجَاعِ بْنِ مَخْلَدٍ يَا أَبَا الْفَضْلِ إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُونَ طَعَامٍ وَلِبَاسٌ دُونَ لِبَاسٍ ، وَإِنَّهَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ .
وَقَالَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ مَا أَعْدِلُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ شَيْئًا ، كَمْ بَيْنَ مَنْ يُعْطَى مِنْ الدُّنْيَا لِيُفْتَتَنَ إلَى آخَرَ تُزْوَى عَنْهُ قَالَ : وَذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ شَيْئًا فِي الْوَرَعِ فَشَدَّدَ عَلَى السَّائِلِ وَهُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَا يَفْعَلُ أَوْ كَلَامًا ذَا مَعْنَاهُ إذَا كَانَ يُفْتِي وَقَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ قَوْمًا مِنْ الْمُتْرَفِينَ فَقَالَ الدُّنُوُّ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ وَالْجُلُوسُ مَعَهُمْ فِتْنَةٌ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنْ أَرَدْت اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِك مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ رَاكِبٍ ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَلَا تَسْتَخْلِفِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ } وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ قَالَ : إيَّاكَ أَنْ تَصْحَبَ رَجُلًا يَكْرُمُ عَلَيْك فَيَفْسُدُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَك .
وَقَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا قَوِيَ بِشْرٌ لِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ ، لَيْسَ مَنْ كَانَ مُعِيلًا كَمَنْ كَانَ وَحْدَهُ لَوْ كَانَ إلَيَّ مَا بَالَيْت مَا أَكَلْت .
وَقَالَ أَيْضًا لَوْ تَرَكَ النَّاسُ التَّزْوِيجَ مَنْ كَانَ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ ؟ لِبُكَاءِ الصَّبِيِّ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ مُتَسَخِّطًا يَطْلُبُ مِنْهُ خُبْزًا أَفْضَلَ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَرَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يَلْحَقَ الْمُتَعَبِّدَ الْأَعْزَبُ وَقَالَ فِي الْفُنُونِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا طَلَبَ إلَى ذِي الْعَيْلَةِ عَيْلَتُهُ شَهْوَةً

فَأَيْنَ يَلْحَقُهُ الْقَائِمُ الصَّائِمُ } .
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرَهُ تَمَتَّعُوا مِنْ الدُّنْيَا : إنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ حِرْصَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَذَكَرْت رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ أَنَا أَشَرْت بِهِ أَنْ يُكْتَبَ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ حُبَّهُ الدُّنْيَا .
وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى هَذَا فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَأَنَّ الْعَالِمَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُقْتَدَى بِهِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَدْ تَفَكَّرْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
ثُمَّ قَالَ تَفَكَّرْت فِي وَفِيهِمْ وَأَشَارَ نَحْوَ الْعَسْكَرِ وَقَالَ : { وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } قَالَ رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ خَيْرٌ قَالَ وَلَا يَهْتَمُّ لِرِزْقِ غَدٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُد كَانَتْ مُجَالَسَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُجَالَسَةَ الْآخِرَةِ لَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا رَأَيْته ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ وَقَالَ أَحْمَدُ لِرَجُلٍ لَوْ صَحَحْت مَا خِفْت أَحَدًا وَسَبَقَ بِنَحْوِ أَرْبَعَةِ كَرَارِيسَ فِي فَضَائِلِهِ .

وَسُئِلَ عَنْ الْحُبِّ فِي اللَّهِ فَقَالَ : هُوَ أَنْ لَا يُحِبَّهُ لِطَمَعِ الدُّنْيَا .
وَفِيهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي } وَلِلتِّرْمِذِيِّ .
وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا قَالَ اللَّهُ { الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ } وَلِأَبِي دَاوُد هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَفِيهِ { قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا } وَلِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { : وَجَبَتْ جَنَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ لِلَّذِي زَارَ أَخَاهُ : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْك إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّك كَمَا أَحْبَبْته فِيهِ } وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ { مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا إلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقُ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } وَذَكَرَ أَحْمَدُ الدُّنْيَا فَقَالَ قَلِيلُهَا يُجْزِي وَكَثِيرُهَا لَا يُجْزِي وَقَالَ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ فِي مِقْدَارِ لُقْمَةٍ ثُمَّ أَخَذَهَا امْرُؤٌ مُسْلِمٌ فَوَضَعَهَا فِي فَمِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمَا كَانَ مُسْرِفًا .

فَصْلٌ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَيَّاطُ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ أَخِي مَنْصُورِ بْنِ عِمْرَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ قَدْ أَحَاطَتْ بِنَا الشَّدَائِدُ وَأَنْتَ ذُخْرٌ لَهَا فَلَا تُعَذِّبْنَا وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى الْعَفْوِ سَيِّدِي قَدْ أَرَيْتنَا قُدْرَتَك وَلَمْ تَزَلْ قَادِرًا فَأَرِنَا عَفْوَك فَلَمْ تَزَلْ عَفُوًّا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُنَادِي فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي مَنْصُورٍ ، أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ التُّهَمَةِ فِي الْبِدْعَةِ لَمَا حَكَى عَنْهُ شَيْئًا وَلَا خَصَّهُ بِالْأُخُوَّةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّوَاوِيَّ قَالَ قُلْت لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ إنَّ مَنْصُورَ بْنَ عَمَّارٍ يَقُولُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ يَا عَبِيدَ مَا يَفْنَى ، كَيْفَ رَأَيْتُمْ ذُلَّ مَلَكَةِ الدُّنْيَا ؟ أَلَمْ تَصْحَبُوهَا بِالِائْتِمَانِ لَهَا فَأَذَاقَتْكُمْ الْغِشَّ مِنْ مَكْرُوهِهَا قَالَ فَوَجَمَ لِذَلِكَ بِشْرٌ وَسَكَتَ ، فَأَرَدْت أَنْ أَزِيدَهُ فَقَالَ قَدْ أَشْغَلْت عَلَيَّ قَلْبِي .

فَصْلٌ ( فِي تَعَبُّدِ الْجَهْلِ وَتَقَشُّفِ الرِّيَاءِ وَتَزَهُّدِ الشُّهْرَةِ وَعُبُودِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنِ سَمْعُونٍ وَسَأَلَهُ الْبَرْقَانِيِّ : أَيُّهَا الشَّيْخُ تَدْعُو النَّاسَ إلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرْكِ لَهَا وَتَلْبَسُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَتَأْكُلُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ فَكَيْفَ هَذَا قَالَ كُلُّ مَا يُصْلِحُك مَعَ اللَّهِ فَافْعَلْهُ ، إذَا صَلُحَ حَالُك مَعَ اللَّهِ تَلْبَسُ لَيِّنَ الثِّيَابِ وَتَأْكُلُ طَيِّبَ الطَّعَامِ فَلَا يَضُرُّك .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدْ تَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ يَقَظَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ وَأَخْبَارِ الزُّهَّادِ وَالصَّالِحِينَ فَيَقُومُونَ عَلَى أَقْدَامِ الْعَزَائِمِ عَلَى الزُّهْدِ وَانْتِظَارِ الْمَوْتِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ ، فَفِيهِمْ مَنْ يَقْتَدِي بِجَاهِلٍ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ أَوْ يَعْمَلُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ بَعْضِ الزُّهَّادِ فَيَرَى فِيهِ التَّقَلُّلَ مِنْ الطَّعَامِ بِالتَّدْرِيجِ وَتَرْكَ الشَّهَوَاتِ وَأَشْيَاءَ قَدْ وَضَعَهَا عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ فَيُدِيمُ الصَّوْمَ وَالسَّهَرَ وَالتَّقَلُّلَ ، وَيَدُومُ عَلَى الْمَآكِلِ الرَّدِيَّةِ ، فَتَجِفُّ الْمَعِدَةُ وَتَضِيقُ ، وَتَقْوَى السَّوْدَاءُ ، وَتَنْصَبُّ الْأَخْلَاطُ إلَى الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَرُبَّمَا تَصَاعَدَتْ إلَى الدِّمَاغِ فَيَبِسَ أَوْ فَسَدَ الطَّبْعُ وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ ذِهْنُهُ فَاسْتَوْحَشَ مِنْ الْخَلْقِ وَحْشَةً يَعْتَقِدُهَا أُنْسًا بِالْحَقِّ ، فَأَعْرَضَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ ظَنًّا مِنْهُ أَنْ قَدْ بَلَغَ الْمَقْصُودَ ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُعَكِّرُ أَوَّلًا الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّعَبُّدِ فَيَنْقَطِعُ الْإِنْسَانُ بِضَعْفِ الْقُوَّةِ وَيَبْقَى ، مُعَالِجًا لِلْأَمْرَاضِ فَيَشْتَغِلُ الْفِكْرُ فِيهَا عَمَّا هُوَ أَهَمُّ ، وَلَقَدْ تَخَبَّطَ فِي هَذَا الْأَمْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ صَحَّتْ مَقَاصِدُهُمْ وَجَهِلُوا الْجَادَّةَ فَمَشَوْا فِي غَيْرِهَا ، وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَاجِلَةِ الْمَرَضِ وَالْمَوْتَ ، وَفِيهِمْ مَنْ رَجَعَ

الْقَهْقَرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَبَّطَ فَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ .
فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ سَبِيلِ الْعِلْمِ ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُعْرِضَ عَنْ الْجَادَّةِ السَّلِيمَةِ ، وَاحْذَرْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَزَهَّدِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدُّنْيَا عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَالصَّادِقُ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهَا عَامِلٌ بِوَاقِعِهِ لَا بِالْعِلْمِ وَالْمُبَهْرَجُ مِنْهُمْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .
وَمَنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا عَامِلًا يَرْفُقُ بِنَفْسِهِ عَابُوهُ ، وَلَوْ رَأَوْا عَلَيْهِ قَمِيصَ كَتَّانٍ قَالَ زَاهِدُهُمْ هَذَا مَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ ؟ وَلَوْ رَأَوْهُ رَاكِبًا فَرَسًا قَالُوا هَذَا جَبَّارٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَحْمِلَك وَثْبَةُ عَزْمٍ عَلَى أَنْ تَرُومَ مَا لَا تَنَالُهُ فَتَزْلَقْ ، وَإِنْ نِلْته أَثْمَرَ تَلَفًا أَوْ رَدَّ إلَى وَرَاءٍ ، وَاسْتَضِئْ بِمِصْبَاحِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ قَلَّ عِلْمُك فَاقْتَدِ بِعَالِمٍ مُحَكَّمٍ وَرَاعِ بَدَنَك مُرَاعَاةَ الْمَطِيَّةِ ، وَلْيَكُنْ هَمُّك تَقْوِيمَ أَخْلَاقِك ، وَالْمَقْصُودُ صِدْقُ النِّيَّةِ لَا تَعْذِيبُ الْأَبْدَانِ .
وَأَكْثَرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَأَنَّ الْجَادَّةَ طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَيْضًا أَمَا تَرَى زُهَّادَ زَمَانِنَا إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ يَغْشَاهُمْ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا وَالظَّلَمَةُ فَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا بِطَرَفِ اللِّسَانِ ؟ أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ سُفْيَانَ حَيْثُ كَانَ لَا يُكَلِّمُ مَنْ يُكَلِّمُ ظَالِمًا ؟ وَلَوْ قِيلَ لِزُهَّادِنَا اُخْرُجُوا فَاشْتَرُوا حَاجَةً مِنْ السُّوقِ صَعُبَ عَلَيْهِمْ حِفْظًا لِرِيَاسَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْتَرِي حَاجَتَهُ وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ } ، وَلَوْ قِيلَ لِزُهَّادِ زَمَانِنَا كُلُوا مَعَنَا لُقْمَةً لَخَافُوا مِنْ انْكِسَارِ الْجَاهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ دَوَامَ الصَّوْمِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ مَعْرُوفٍ ، أَصْبَحَ يَوْمًا

صَائِمًا فَسَمِعَ سَاقِيًا يَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ ، فَشَرِبَ .
فَقِيلَ لَهُ : أَمَا كُنْت صَائِمًا ؟ فَقَالَ بَلَى ، وَلَكِنْ رَجَوْت دَعْوَتَهُ : أَفْدِي ظِبَاءَ فَلَاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا مَضْغَ الْكَلَامِ وَلَا صَبْغَ الْحَوَاجِيبِ وَلَا خَرَجْنَ مِنْ الْحَمَّامِ مَائِلَةً أَوْرَاكُهُنَّ صَقِيلَاتِ الْعَرَاقِيبِ حُسْنُ الْحَضَارَةِ مَجْلُوبٌ بِتَطْرِيَةٍ وَفِي الْبَدَاوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجْلُوبِ وَاَللَّهِ لَا يَبْقَى فِي الْقِيَامَةِ إلَّا الْإِخْلَاصُ ، وَقَبْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَبْقَى إلَّا ذِكْرُ الْمُخْلِصِينَ ، كَمْ حَوْلَ مَعْرُوفٍ مِنْ عَالِمٍ لَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ ، وَمِنْ زَاهِدٍ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ ؟ وَمَعْرُوفٌ مَعْرُوفُ بِاَللَّهِ عَلَيْكُمْ اقْبَلُوا نُصْحِي يَا إخْوَانِي عَامِلُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْبَاطِنِ حَتَّى لَا يُدْرَى أَنَّكُمْ أَهْلُ مُعَامَلَةٍ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ يُبْسُ الزُّهَّادِ وَحْدَهُ ، وَلَا الِانْبِسَاطُ فِي الدُّنْيَا وَحْدَهُ بَلْ حَالُهُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ صَالِحٍ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ الرِّبَا يَكُونُ فِي التَّعَبُّدَاتِ فَالْعِلْمُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ ، وَمَعْدِنُهُ أَخْلَاقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآدَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَيْضًا أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سِيَرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُعَاشِرُهُمْ لَا نَرَى فِيهِمْ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ فَيَقْتَدِيَ بِهَا الْمُبْتَدِئُ ، وَلَا صَاحِبَ وَرَعٍ فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ الْمُتَزَهِّدُ ، فَاَللَّهَ اللَّهَ ، عَلَيْكُمْ بِمُلَاحَظَةِ سِيَرِ الْقَوْمِ وَمُطَالَعَةِ تَصَانِيفِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ رُؤْيَةً لَهُمْ كَمَا قَالَ : فَاتَنِي أَنْ أَرَى الدِّيَارَ بِطَرْفِي فَلَعَلِّي أَرَى الدِّيَارَ بِسَمْعِي وَإِنِّي أُخْبِرُ عَنْ حَالِي ، مَا أَشْبَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ ، وَإِذَا رَأَيْت كِتَابًا لَمْ أَرَهُ فَكَأَنِّي وَقَعْت عَلَى كَنْزٍ ، فَلَوْ قُلْت إنِّي قَدْ طَالَعْت عِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ كَانَ أَكْثَرَ ، وَأَنَا بَعْدُ فِي طَلَبِ الْكُتُبِ فَاسْتَفَدْت بِالنَّظَرِ فِيهَا

مُلَاحَظَةَ سِيَرِ الْقَوْمِ وَقَدْرَ هِمَمِهِمْ وَحِفْظِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَغَرَائِبَ عُلُومٍ لَا يَعْرِفُهَا مَنْ لَمْ يُطَالِعْ .

فَصْلٌ : رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ بِإِسْنَادٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ مَنْ خَافَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ ، وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ ، وَلَوْلَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ .

فَصْلٌ : قَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ مَلِيحٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُزَوِّجَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ فَلْيَبْدَأْ فَيَسْأَلْ عَنْ الدُّنْيَا ، فَإِنْ حُمِدَتْ سَأَلَ عَنْ الدِّينِ فَإِنْ حُمِدَ فَقَدْ اجْتَمَعَا ، وَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ كَانَ فِيهِ رَدُّ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ الدِّينِ ، وَلَا يَبْدَأُ فَيَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَإِنْ حُمِدَ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُحْمَدْ .
كَانَ فِيهِ رَدُّ الدِّينِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ حَسَّانَ كَتَبْت إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أُشَاوِرُهُ فِي التَّزْوِيجِ فَكَتَبَ إلَيَّ تَزَوَّجْ بِبِكْرٍ وَاحْرِصْ عَلَى .
أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أُمٌّ .

فَصْلٌ ( فِي سُنَّةِ الْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَا قِيلَ فِي التَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ ) وَتُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ فِي اللِّقَاءِ لِلْخَبَرِ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادَةَ صَافَحْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَابْتَدَأَنِي بِالْمُصَافَحَةِ ، وَرَأَيْتُهُ يُصَافِحُ النَّاسَ كَثِيرًا .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَمَدَدْتُ يَدِي إلَيْهِ فَصَافَحَنِي .
فَلَمَّا خَرَجْتُ قَالَ : مَا أَحْسَنَ أَدَبَ هَذَا الْفَتَى لَوْ انْكَبَّ عَلَيْنَا كُنَّا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُومَ ، وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ .
وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ ، فَتُصَافِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلُ الرَّجُلَ ، وَالْعَجُوزُ وَالْبَرْزَةُ غَيْرُ الشَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مُصَافَحَتُهَا لِلرَّجُلِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَكْرَهُ مُصَافَحَةَ النِّسَاءِ قَالَ أَكْرَهُهُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَافِحُ الْمَرْأَةَ قَالَ : لَا وَشَدَّدَ فِيهِ جِدًّا قُلْت : فَيُصَافِحُهَا بِثَوْبِهِ قَالَ : لَا ، قَالَ رَجُلٌ : فَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ قَالَ : لَا قُلْت : ابْنَتُهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ ابْنَتَهُ فَلَا بَأْسَ ، فَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَافَحَةِ وَكَرَاهَتِهَا لِلنِّسَاءِ ، وَالتَّحْرِيمُ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمُلَامَسَةَ أَبْلَغُ مِنْ النَّظَرِ وَيَتَوَجَّهُ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْوَالِدُ فَيَجُوزُ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلَهُ مَعَهُ ابْنُهُ الْبَرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ الْبَرَاءُ : فَدَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا

عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْتُ أَبَاهَا يُقَبِّلُ خَدَّهَا وَقَالَ : كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ تُكْرَهُ مُصَافَحَةُ الْعَجُوزِ وَتَجُوزُ مُصَافَحَةُ الصَّبِيِّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الثِّقَةَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيمَهُ حُسْنَ الْخُلُقِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامُ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ ، وَالْمُصَافَحَةُ شَرٌّ مِنْ النَّظَرِ .

وَتُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ ، وَظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إبَاحَتِهِ لِأَمْرِ الدُّنْيَا ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْكَرَاهَةُ أَوْلَى .
وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْبِيلُ رِجْلِهِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبْلَةِ الْيَدِ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّدَيُّنِ فَلَا بَأْسَ قَدْ قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا فَلَا ، إلَّا رَجُلًا يُخَافُ سَيْفُهُ أَوْ سَوْطُهُ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَيْضًا : وَكَرِهَهَا عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ التَّابِعِيُّ الْقُبْلَةُ سُنَّةٌ .
وَقَالَ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرًا يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَخَدَّهُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا ، وَرَأَيْته لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَه ، وَرَأَيْت سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ يُقَبِّلُ جَبْهَتَهُ وَرَأْسَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَهُهُ وَرَأَيْت يَعْقُوبَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَجَبْهَتَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ يُقَبِّلُونَهُ يَعْنِي أَبَاهُ بَعْضُهُمْ يَدَيْهِ وَبَعْضُهُمْ رَأْسَهُ ، وَيُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ غَيْرَهُ ، لَمْ أَرَهُ يَشْتَهِي أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ مَا رَأَيْته يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَك قَالَ : لَمْ أَبْلُغْ أَنَا ذَاكَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تُقَبَّلُ يَدُ الرَّجُلِ قَالَ : عَلَى الْإِخَاءِ .
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت : تَرَى أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ

الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَقْبِيلُ الْيَدِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَهُ إلَّا قَلِيلًا .
وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ مَوْتِهِ قَبَّلُوا يَدَهُ } ، وَرَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الدِّينِ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ : هِيَ السَّجْدَةُ الصُّغْرَى ، وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِمَدِّ يَدِهِ لِلنَّاسِ لِيُقَبِّلُوهَا وَقَصْدُهُ لِذَلِكَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ هُوَ الْمُبْتَدِئ بِذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كَانَ يُقَالُ تَقْبِيلُ الْيَدِ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ ، وَتَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِيُقَبِّلَهَا فَقَبَضَهَا ، فَتَنَاوَلَ رِجْلَهُ فَقَالَ مَا رَضِيت مِنْك بِتِلْكَ فَكَيْفَ بِهَذِهِ ؟ وَقَبَضَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَقَالَ مَهْ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا مِنْ الْعَرَبِ إلَّا هَلُوعٌ ، وَمِنْ الْعَجْمِ إلَّا خَضُوعٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قُبْلَةُ يَدِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ طَاعَةٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُبْلَةُ الْوَالِدِ عِبَادَةٌ وَقُبْلَةُ الْوَلَدِ رَحْمَةٌ ، وَقُبْلَةُ الْمَرْأَةِ شَهْوَةٌ ، وَقُبْلَةُ الرَّجُلِ إخَاءُ دِينٍ .
وَفِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْمَنْصُورِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ نُكْرِمُك عَنْهَا وَنُكْرِمُهَا عَنْ غَيْرِك .
وَصَرَّحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الظَّالِمِ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ وَقَالَ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ وَيُذِلَّ نَفْسَهُ لَهُ قَالَ وَمِنْ التَّوَاضُعِ لِلْعَالَمِ تَقْبِيلُ يَدِهِ ، وَقَبَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ أَحَدُهُمَا يَدَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ

وَالْآخَرُ رِجْلَهُ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ احْتَجَّ فِي الْمُعَانَقَةِ بِحَدِيثِ { أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَهُ } قَالَ : وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَى الرَّجُلَ يُعَانِقُهُ قَالَ نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ .
وَقَالَ فِي الْإِرْشَادِ الْمُعَانَقَةُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ حَسَنَةٌ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَيَّدَهَا بِالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ وَقَالَ الْقَاضِي أُطْلِقَ وَالْمَنْصُوصُ فِي السَّفَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّرَّاجُ ثنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا شُعْبَةُ عَنْ غَالِبٍ التَّمَّارِ قَالَ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ الْمُصَافَحَةَ وَذَكَرْت ذَلِكَ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا الْتَقَوْا صَافَحُوا ، فَإِذَا قَدِمُوا مِنْ السَّفَرِ عَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إسْنَادٌ جَيِّدٌ .

وَتُكْرَهُ مُصَافَحَةُ الْكَافِرِ وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ مُعَانَقَةَ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَنَّ الِانْحِنَاءَ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مُسْتَحَبٌّ .
وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ قَالَ وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافُ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي قِيَام النَّاسِ لَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ النَّاسُ لَهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ " صُفُوفًا " كَذَا قَالَ وَسَبَقَ فِي الْقِيَامِ مَا ظَاهِرُهُ أَوْ صَرِيحُهُ التَّحْرِيمُ لِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ مِنْ اسْتِدَامَةِ قِيَامِ النَّاسِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يُرَاوِحُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ كَمَا تَقِفُ الدَّابَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَتُرِيحُ وَاحِدَةً قَالَ : فَأَمَّا تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ لِرِفْدِهِ وَالسَّيِّدِ لِسُلْطَانِهِ فَجَائِزٌ ، فَأَمَّا إنْ قَبَّلَ يَدَهُ لِغِنَاهُ فَقَدْ رُوِيَ مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ وَقَالَ التَّحِيَّةُ بِانْحِنَاءِ الظَّهْرِ جَائِزٌ وَقِيلَ هُوَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ ، وَقِيلَ السُّجُودُ حَقِيقَةً .
وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الشَّامَ حَيَّاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَقَالَ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ .
وَأَمَّا السُّجُودُ إكْرَامًا وَإِعْظَامًا فَلَا يَجُوزُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْمَشْهُورَةُ .
وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ : يُكْرَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسُجُودٍ لِأَنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ عَلَى طَهَارَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ إلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَهَذَا إنَّمَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ فَمُهُ وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ فِي السُّجُودِ انْتَهَى

كَلَامُهُ وَهَذَا لَا يُفْعَلُ غَالِبًا إلَّا لِلدُّنْيَا ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَشْهُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } .
أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِيُوسُفَ إكْرَامًا وَتَحِيَّةً ، وَأَنَّهُ { كَانَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ وَبِالِانْحِنَاءِ فَحَظَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْخَبَرَ الْآتِي أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ : لَا } ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فَدَلَّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَقْوَالٍ .
وَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْهَدْي بِتَحْرِيمِ السُّجُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَالْقِيَامِ عَلَى الرَّأْسِ وَهُوَ جَالِسٌ ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا .
فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : إنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ ، فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إنْ صَلَّوْا قِيَامًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا } ؛ فَهَذَا نَهْيٌ ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ لَا سِيَّمَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا خَلْفَ قَاعِدٍ ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا النَّهْي .
وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُثَنَّى أَبُو جَعْفَرٍ الْبَزَّارُ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ حَنْبَلٍ فَجَلَسْت عَلَى بَابِهِ أَنْتَظِرُ خُرُوجَهُ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْت إلَيْهِ فَقَالَ لِي أَمَا عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } فَقُلْت : إنَّمَا قُمْت إلَيْك ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَمَدْلُولُ هَذَا وَاضِحٌ فَإِنَّ

النَّهْيَ دَلَّ عَلَى الْقِيَامِ لَهُ ، وَمَنْ قَامَ إلَيْهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْقِيَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْدَ فُصُولِ السَّلَامِ ( فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْقِيَامِ ) .
وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً ، وَنَزْعُ يَدِهِ مِنْ يَدِ مَنْ صَافَحَهُ قَبْلَ نَزْعِهِ هُوَ ، إلَّا مَعَ حَيَاءٍ أَوْ مَضَرَّةِ التَّأْخِيرِ ، ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَلَا يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَنْزِعَ الْآخَرُ يَدَهُ إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الضَّابِطُ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ يَنْزِعُ أَمْسَكَ ، وَإِلَّا فَلَوْ اُسْتُحِبَّ الْإِمْسَاكُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَى إلَى دَوَامِ الْمُعَاقَدَةِ ، لَكِنَّ تَقْيِيدَ عَبْدِ الْقَادِرِ حَسَنٌ أَنَّ النَّازِعَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ ثنا أَبُو قَطَنٍ أَنْبَأَنَا مُبَارَكٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يُنَحِّي رَأْسَهُ وَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَك يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ .
} مُبَارَكٌ هُوَ ابْنُ فُضَالَةَ ثِقَةٌ مُدَلِّسٌ .
وَقَالَ أَيْضًا بَابٌ ( فِي الْمُعَانَقَةِ ) ثُمَّ رَوَى مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ بِشْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ قَالَ مَا لَقِيته قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي ، وَبَعَثَ إلَيَّ يَوْمًا فَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَلَمَّا جِئْت أُخْبِرْت أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ هَذَا الرَّجُلُ مَجْهُولٌ وَأَيُّوبُ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ مَجْهُولٌ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { قَالَ

رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَاهُ أَخُوهُ أَوْ صَدِيقُهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ : لَا قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ : لَا قَالَ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ } وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ { قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إلَى هَذَا النَّبِيِّ قَالَ : فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ : فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَالَا : نَشْهَدُ إنَّك نَبِيٌّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ثنا مَطَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْنَقُ حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَبَانَ بِنْتُ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ كَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقِيسِ قَالَ { لَمَّا جِئْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَيْهِ قَالَ : وَانْتَظَرْنَا الْمُنْذِرَ الْأَشَجَّ حَتَّى أَتَى مِنْ غَيْبَتِهِ فَلَبِسَ ثَوْبَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ فِيك خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ } الْحَدِيثَ أُمُّ أَبَانَ تَفَرَّدَ عَنْهَا مَطَرٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ أَنْبَأَنَا خَالِدٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ : { بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ : اصْبِرْنِي .
فَقَالَ : اصْطَبِرْ قَالَ : إنَّ عَلَيْك قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ : إنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ

اللَّهِ } .
إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ ، وَمَاتَ أُسَيْدٌ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُ ثَلَاثِ سِنِينَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد بَابٌ ( فِي قُبْلَةِ الْجَسَدِ ) أَيْ أَقِدْنِي مِنْ نَفْسِك قَالَ اسْتَقِدْ يُقَالُ صَبَرَ فُلَانٌ مِنْ خَصْمِهِ وَاصْطَبَرَ أَيْ اقْتَصَّ مِنْهُ ، وَأَصْبَرَهُ الْحَاكِمُ أَيْ قَصَّهُ مِنْ خَصْمِهِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَآتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إنَّ لِي عَشْرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْت مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَعَنْ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَغْفَرَا غُفِرَ لَهُمَا } إسْنَادُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { لَمَّا جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَأَلَهُ قَتَادَةَ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا

تَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ : الْمُصَافَحَةُ تَجْلِبُ الْمَوَدَّةَ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرَّازِيّ فِيمَا أَلَّفَهُ فِي ابْتِدَاءِ الشَّافِعِيِّ وَلَقِيَهُ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ أُسَامَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الِاعْتِنَاقِ فِي الْحَمَّامِ لِلْغَائِبِ ، فَقَالَ : لَا يَجُوزُ لَا دَاخِلَ وَلَا خَارِجَ قَالَ وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمُصَافَحَةَ فَكَيْفَ الِاعْتِنَاقُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا أَنَّ مُصَافَحَةَ الرَّجُلِ حَلَالٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ : أَثَمَّ لُكَعُ ؟ أَثَمَّ لُكَعُ يَعْنِي حَسَنًا فَظَنَنَّا أَنَّهُ إنَّمَا تَحْبِسُهُ أَمَةٌ لَأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ } قَوْلُهُ فِي طَائِفَةٍ : أَيْ قِطْعَةٍ مِنْهُ وَقَيْنُقَاعَ مُثَلَّثُ النُّونِ ، وَلُكَعُ هُنَا الصَّغِيرُ ، وَالْخِبَاءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ بَيْتُهَا .
وَالسِّخَابُ بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُهُ سُخُبُ الْقِلَادَةِ مِنْ الْقُرُنْفُلِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَخْلَاطِ الطِّيبِ يُعْمَلُ عَلَى هَيْئَةِ السُّبْحَةِ وَيُجْعَلُ قِلَادَةً لَلصِّبْيَانِ وَالْجَوَارِي .
وَقِيلَ هُوَ خَيْطٌ سُمِّيَ سِخَابًا لِصَوْتِ خَرَزِهِ عِنْدَ حَرَكَتِهِ مِنْ السَّخَبِ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْخَاءِ وَيُقَالُ الصَّخَبُ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ .
وَفِيهِ جَوَازُ لِبَاسِ الصِّبْيَانِ الْقَلَائِدَ وَالسُّخُبَ مِنْ الزِّينَةِ ، وَتَنْظِيفِهِمْ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ لِقَاءَ أَهْلِ الْفَضْلِ ، وَمُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ وَالتَّوَاضُعِ

.
وَكَرِهَ مَالِكٌ مُعَانَقَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَقَالَ بِدْعَةٌ ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِجَعْفَرٍ حِين قَدِمَ بِأَنَّهُ خَاصٌّ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ مَا تَخُصُّهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَسَكَتَ مَالِكٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَسُكُوتُهُ دَلِيلٌ لِتَسْلِيمِ قَوْلِ سُفْيَانَ وَمُوَافَقَتِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ .

فَصْلٌ فِي تَقْبِيلِ الْمَحَارِمِ مِنْ النِّسَاءِ فِي الْجَبْهَةِ وَالرَّأْسِ ) قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُقَبِّلُ الرَّجُلُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ ؟ قَالَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَكَرَ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْغَزْوِ فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ } وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْفَمِ أَبَدًا ، الْجَبْهَةِ أَوْ الرَّأْسِ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَبِّلُ أُخْتَهُ ؟ قَالَ قَدْ قَبَّلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أُخْتَهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُصَافَحَةِ لِذِي مَحْرَمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِيَامِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَقْبِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ .

فَصْلٌ ( فِي التَّنَاجِي وَكَلَامِ السِّرِّ وَأَمَانَةِ الْمَجَالِسِ ) .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثِهِمَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّهْي عَامٌّ وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالسَّفَرِ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، وَمُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ ، وَأَنَّهُ إنْ أَذِنَ فَلَا نَهْيَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ يُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى الْجَمِيعُ دُونَ مُفْرَدٍ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَأَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي سِرِّ قَوْمٍ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِيهِ وَالْجُلُوسُ وَالْإِصْغَاءُ إلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ سِرًّا بِدُونِ إذْنِهِ ، وَقِيلَ يَحْرُمُ وَظَاهِرُهُ عَوْدُهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ وَعُيُونِ الْمَسَائِلِ ، وَإِنْ كَانَ إذْنُهُ اسْتِحْيَاءً فَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ يُكْرَهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ مَنْ أَعْطَى مَالًا حَيَاءً لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى الْفُصُولِ .
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِمَاعُ إلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُونَ وَيَجِبُ حِفْظُ سِرِّ مَنْ يَلْتَفِتُ فِي حَدِيثِهِ حَذَرًا مِنْ إشَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَوْدَعِ لِحَدِيثِهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ وَهُوَ ثِقَةٌ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا { إذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذًا هِيَ أَمَانَةٌ } ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَرَأْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي

ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ أَخِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إلَّا ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ : سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ وَفَرْجٌ حَرَامٌ ، وَاقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ { مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لَا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ } وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيِّ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ .
وَلَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : مَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } .
وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ : إذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ } .
وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ أَنَّهُ يَحْرُمُ إفْشَاءُ السِّرِّ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ : الْمُصَرِّ .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالصَّحِيحَيْنِ أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْمَرْأَةِ الْأَنْصَارِيَّةِ لَمَّا سَأَلَهُ " مَنْ هُمَا ؟ " بَعْدَ قَوْلِهِمَا لَا تُخْبِرْهُ مَنْ ، نَحْنُ ، وَكَانَتَا تَسْتَفْتِيَانِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ بُدِئَ بِأَهَمِّهَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسَرَّ إلَى أَخِيهِ سِرًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ } وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا بُنَيَّ إنَّ أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيك يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا : لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا ، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا ، وَلَا يَطَّلِعَنَّ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : إنَّ سِرَّك مِنْ دَمِك فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيقُهُ وَكَانَ يُقَالُ أَكْثَرُ مَا يُتِمُّ التَّدْبِيرَ الْكِتْمَانُ وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ وَقَالَ آخَرُ : فَلَا تُخْبِرْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ السِّرَّ مَا أَسْرَرْته فِي نَفْسِك وَلَمْ تُبْدِهِ إلَى أَحَدٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَا اسْتَوْدَعْت رَجُلًا سِرًّا فَأَفْشَاهُ فَلُمْته لِأَنِّي كُنْت أَضْيَقَ صَدْرًا مِنْهُ حَيْثُ اسْتَوْدَعْته إيَّاهُ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَائِلُ : إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ : وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أَبُثُّهَا وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَقْتُلُنِي غَمَّا وَإِنَّ سَخِيفَ الرَّأْيِ مَنْ بَاتَ لَيْلَةً حَزِينًا بِكِتْمَانٍ كَأَنَّ بِهِ حُمَّى وَفِي بَثِّك الْأَسْرَارَ لِلْقَلْبِ رَاحَةٌ وَتَكْشِفُ بِالْإِفْشَاءِ عَنْ قَلْبِك الْهَمَّا وَقَالَ آخَرُ : وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أُذِيعُهَا وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَغْلِي عَلَى قَلْبِي وَإِنَّ ضَعِيفَ الْقَلْبِ مَنْ بَاتَ لَيْلَةً تُقَلِّبُهُ الْأَسْرَارُ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ وَكَانَ يُقَالُ لَا تُطْلِعُوا النِّسَاءَ عَلَى سِرِّكُمْ ، يَصْلُحُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ وَكَانَ يُقَالُ كُلُّ شَيْءٍ تَكْتُمُهُ عَنْ عَدُوِّك فَلَا تُظْهِرْ عَلَيْهِ صَدِيقَك .
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا كَتَمَ الصَّدِيقُ أَخَاهُ سِرًّا فَمَا فَضْلُ الْعَدُوِّ عَلَى الصَّدِيقِ وَقَالَ آخَرُ : أُدَارِي خَلِيلِي مَا اسْتَقَامَ بِوُدِّهِ وَأَمْنَحُهُ وُدِّي إذَا يَتَجَنَّبُ وَلَسْت بِبَادٍ صَاحِبِي بِقَطِيعَةٍ وَلَا أَنَا مُبْدٍ سِرَّهُ حِينَ يَغْضَبُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا مَا ضَاقَ صَدْرُك عَنْ

حَدِيثٍ فَأَفْشَتْهُ الرِّجَالُ فَمَنْ تَلُومُ إذَا عَاتَبْتُ مَنْ أَفْشَى حَدِيثِي وَسِرِّي عِنْدَهُ فَأَنَا الظَّلُومُ وَإِنِّي حِينَ أَسْأَمُ حَمْلَ سِرِّي وَقَدْ ضَمَّنْته صَدْرِي سَئُومُ وَلَسْت مُحَدِّثًا سِرِّي خَلِيلًا وَلَا عِرْسِي إذَا خَطَرَتْ هُمُومُ وَأَطْوِي السِّرَّ دُونَ النَّاسِ إنِّي لِمَا اسْتَوْدَعْت مِنْ سِرِّي كَتُومُ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ، } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .

فَصْلٌ ( مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِإِسْكَاتِ الْغَضَبِ ) .
قَالَ الْقَاضِي وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ غَضِبَ إنْ كَانَ قَائِمًا جَلَسَ ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا اضْطَجَعَ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ غَضِبَ أَنْ يُغَيِّرَ ، فَإِنْ كَانَ جَالِسًا قَامَ وَاضْطَجَعَ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا مَشَى ، وَقَوْلُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ } إسْنَادُهُ صَحِيحٌ { وَقَدْ اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ غَضَبُ أَحَدِهِمَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فَفِي خَبَرِ مُعَاذٍ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَفِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ فِي خَبَرِ مُعَاذٍ فَأَبَى وَمَحِكَ وَجَعَلَ يَزْدَادُ غَضَبًا .
وَفِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ الرَّجُلُ هَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ } رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ خَبَرَ سُلَيْمَانَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ خَبَرَ مُعَاذٍ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِخَبَرِ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .

فَصْلٌ ( فِي الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ وَالْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ بِهِ ) .
يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ مُطْلَقًا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : يَنْبَغِي أَنْ يُسِرَّ دُعَاءَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
قَالَ هَذَا الدُّعَاءُ قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ وَكَانَ يُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَا سِيَّمَا عِنْد شِدَّةِ الْحَرْبِ وَحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيِ بِهَا وَقِيلَ يُسَنُّ أَنْ يَسْمَعَ الْمَأْمُومُ الدُّعَاءَ .
قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ ، وَقِيلَ مَعَ قَصْدِ تَعْلِيمِهِ وَلَا يَجِبُ لَهُ الْإِنْصَاتُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ ، وَقِيلَ خَفْضُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَوْلَى قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْفِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } .
فَأَمَرَ بِذَلِكَ .
وَعَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي } وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ { أَنَا مَعَ عَبْدِي إذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } وَلِأَحْمَدَ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ بِي شَرًّا فَلَهُ } قَوْلُهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَانِي } وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ الْجَوْزِيِّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي الْمَلِيحِ الْفَارِسِيِّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ } وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا { لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ } وَفِيهِ عِمْرَانُ الْقَطَّانُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ ، رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ .
وَرَوَى أَبُو

يَعْلَى الْمُوصِلِيِّ ثنا مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجِزَ بِالدُّعَاءِ ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَسْرُوقٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ ، وَلَا يُكْرَهُ الْإِلْحَاحُ بِهِ لِلْأَثَرِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَدُعَاءُ الرَّغْبَةِ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَدُعَاءُ الرَّهْبَةِ بِظَهْرِهِ مَعَ قِيَامِ السَّبَّابَةِ كَدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى تُسْتَحَبُّ الْإِشَارَةُ إلَى نَحْوِ السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ صَالِحٌ فِي مَسَائِلِهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ : يَدْعُو بِدُعَاءٍ مَعْرُوفٍ .

فَصْلٌ ( فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَمُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ وَسُؤَالِ الْمَخْلُوقِ ) .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا ، فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ ، بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ ، وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ أَنْ يَدْعُوَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَالْأَدْنَى لِلْأَعْلَى .
وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ وَالدُّعَاءُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ : فَالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ ، فَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُدْعُ لِي قَصَدَ انْتِفَاعَهُمَا جَمِيعًا بِذَلِكَ كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، فَهُوَ نَبَّهَ الْمَسْئُولَ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِمَا يَنْفَعُهُمَا ، وَالْمَسْئُولُ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُمَا ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبِرٍّ وَتَقْوَى فَيُثَابُ الْمَأْمُورُ عَلَى فِعْلِهِ وَالْآمِرُ أَيْضًا يُثَابُ مِثْلَ ثَوَابِهِ لِكَوْنِهِ دَعَاهُ إلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ الْمَسْئُولَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ إلَى أَنْ قَالَ : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ الْمَسْئُولِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ ، بَلْ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدَ مَسْأَلَةً إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِنْ

كَانَ إعْطَاءُ الْمَالِ مُسْتَحَبًّا ، ثُمَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إنْ كَانَ قَصْدُهُ مَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ أَيْضًا فَهَذَا مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولُ مَطْلُوبِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مِنْ نَفْسِهِ أَتَى .
وَمِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَأْمُرُ اللَّهِ بِهِ قَطُّ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ ؛ إذْ هَذَا سُؤَالٌ مَحْضٌ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لِنَفْعِهِ وَلَا لِمَصْلَحَتِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحْسِنَ إلَى عِبَادِهِ ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ هَذَا وَلَا هَذَا إلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَأْثَمُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِهِ وَمَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ " إنَّهُمْ لَا يَسْتَرْقُونَ " وَإِنْ كَانَ الِاسْتِرْقَاءُ جَائِزًا ، إلَى أَنْ قَالَ : الْأَصْلُ فِي سُؤَالِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّ فِيهِ الظُّلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَظُلْمَ الْعِبَادِ ، وَظُلْمَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ إلَى أَنْ قَالَ الطَّاعَةُ وَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّحَسُّبُ لِلَّهِ وَحْدَهُ إلَى أَنْ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابٍ أُخْرَى ، وَمَعَ هَذَا فَلَهَا مَوَانِعُ ، فَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَدْفَعْ الْمَوَانِعَ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ الشَّيْءَ سَبَبٌ إلَّا بِعِلْمٍ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ ( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْأَعْمَالَ الدِّينِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ سَبَبًا

إلَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي كَوْنِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ نَافِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا لَا عِبَادَتَيْنِ لِنَفْعِ الْآخِرَةِ وَحْدَهُ ) قَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ ، بَلْ كَانَ مَقْدُورًا بِدُونِ التَّوَكُّلِ فَهُوَ مَقْدُورٌ مَعَهُ وَلَكِنَّ التَّوَكُّلَ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الدُّعَاءَ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ وَالدَّاعِيَ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَعَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عِنْدَ مَنْ يَنْفِي الْأَسْبَابَ وَيَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا وَيَقُولُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا ، احْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْمَشْهُورَةِ .
وَذُكِرَ فِي التُّحْفَةِ الْعِرَاقِيَّةِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِعَاذَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِتَكْمُلَ صِفَاتُهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ ، وَشَرَعَهُ أَيْضًا تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحِ وَاَلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَارِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الزُّهَّادِ وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ إلَى أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ دَعَا لِنَفْسِهِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا لِلدُّعَاءِ اُسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ

وَالسُّنَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَفِعْلِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ بِفِعْلِهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوَاضِعَ : أَعْمَالُ الْقُلُوبِ كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَأْمُورُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ لَا يَكُونُ تَرْكُهَا مَحْمُودًا فِي حَالِ أَحَدٍ وَإِنْ ارْتَقَى مَقَامُهُ وَاَلَّذِي ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْعَامَّةِ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا حُظُوظُ الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَطٌ ، بَلْ التَّوَكُّلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ .

قَالَ وَأَمَّا الْحُزْنُ فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا } { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } { فَلَا يَحْزُنْك قَوْلُهُمْ } { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ ، نَعَمْ وَلَا يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُزْنِهِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ يَقْتَرِنُ الْحُزْنُ بِمَا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ ، كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا ، فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْحُزْنَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَفْضَى إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ وَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ حَسْبَ صَاحِبِهِ رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ ، وَأَمَّا إذَا أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ مَذْمُومًا وَمَرْدُودًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .

وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فَهَذِهِ كُلُّهَا خَيْرٌ مَحْضٌ وَهِيَ مَحْبُوبَةٌ .
وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَكُونُ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ فَقَدْ غَلِطَ إنْ أَرَادَ خُرُوجَ الْخَاصَّةِ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُؤْمِنٌ قَطُّ ، إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهَا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ ، وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ وَأَنَّ دَقِيقَ الْحِيَلِ مِنْ الْأَعْدَاءِ يُدْفَعُ بِلَطِيفِ التَّحَرُّزِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّحَفُّظِ ، وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنْ لَقِيت رَبَّك فَأَخْبَرَنِي مَا لَقِيت وَإِنْ لَقِيته قَبْلَك أَخْبَرْتُك ، فَذَكَرَ سَعِيدٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا تُوُفِّيَ فَلَقِيَ صَاحِبَهُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَيِّتُ تَوَكَّلْ وَأَبْشِرْ فَإِنِّي مَا رَأَيْت مِثْلَ التَّوَكُّلِ .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا فِي التِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ : سَأَلَ الْمَازِنِيُّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لِيُكْفَى وَلَوْ حَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَوَكِّلَةِ لَضَجُّوا إلَى اللَّهِ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ ، وَلَكِنَّ التَّوَكُّلَ يُحِلُّ بِقَلْبِهِ الْكِفَايَةَ مِنْ اللَّهِ فَيَصْدُقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ضَمِنَ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَلَّالُ مَا يُخَالِفُ كَلَامَ بِشْرٍ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَلَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ ، فَبِشْرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَنْ تَوَكَّلَ لِيُكْفَى لَمْ يَخْلُصْ التَّوَكُّلُ لِلَّهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ وَيَكُونُ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَنَظِيرُهُ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا ، وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لِيَجْعَلَ لَهُ فُرْقَانًا ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِيَرْتَفِعَ .
وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ

لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ تَوَاضَعَ لِيَرْتَفِعَ : لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوَاضُعِ أَيْ لَا يَقْصِدُ هَذَا وَهُوَ نَظِيرُ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ .
وَفَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ لَهُ لِيَنْطِقَ بِالْحِكْمَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا ، وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْ هَذَا فَقَالَ لَهُ : لَمْ تُخْلِصْ إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِأَجَلِ هَذَا ، وَهَذَا الْكَلَامُ " مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ " يُرْوَى عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَسَبَقَ فِي فُصُولِ التَّوْبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ .

فَصْلٌ ( التَّسْلِيمُ لِلَّهِ فِي اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ ) .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : قَدْ نَدَبَ اللَّهُ إلَى الدُّعَاءِ وَفِيهِ مَعَانٍ : الْوُجُودُ وَالْغِنَى وَالسَّمْعُ وَالْكَرَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْقُدْرَةُ ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يُدْعَى ، وَمَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ لَا يُقَالُ لَهَا كُفِّي ، وَلَا النَّجْمُ لَا يُقَالُ لَهُ أَصْلِحْ مِزَاجِي ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِنْدَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ طَبْعًا لَا اخْتِيَارًا ، فَشَرَعَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِسْقَاءَ لِيُبَيِّنَ كَذِبَ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَقَالَ : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ } .
حَتَّى لَا يُطْلَبَ إلَّا مِنْهُ ، ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ جَوَاهِرَ أَهْلِ الِابْتِلَاءِ فَقَالَ لِذَا اذْبَحْ وَلَدَك ، وَقَرَنَ هَذَا بِالْبَلَاءِ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَاللَّجَاءِ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : تَسْتَبْطِئُ الْإِجَابَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَدْعِيَتِك فِي أَغْرَاضِك الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَاطِنِهَا الْمَفَاسِدُ فِي دِينِك وَدُنْيَاك ، وَتَتَسَخَّطُ بِإِبْطَاءِ مُرَادِك مَعَ الْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمْنَعُك شُحًّا وَلَا بُخْلًا وَلَا نِسْيَانًا ، وَقَدْ شَهِدَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ مُرَاعَاتُهُ لَك .
وَلَا لِسَانَ يَنْطِقُ بِدُعَاءٍ ، وَلَا أَرْكَانَ لِعَبْدِهِ ، وَلَا قُوَّةً تَتَحَرَّك بِهَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِهِ ، فَكَيْفَ وَجُمْلَتُك وَأَبْعَاضُك وَقْفٌ عَلَى خِدْمَتِهِ ، وَلِسَانُك رَطْبٌ بِأَذْكَارِهِ ؟ لَكِنْ إنَّمَا أُخِّرَ رَحْمَةً لَك وَحِكْمَةً وَمَصْلَحَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إلَيْك بِذَلِكَ تَقْدِمَةً ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَأَنْتَ الْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ تَتَخَلَّفُ عَنْ أَكْثَرِ أَوَامِرِهِ ، وَلَا تَسْتَبْطِئُ نَفْسَك فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ .
هَلْ هَذَا إنْصَافٌ أَنْ يَكُونَ مِثْلُك يُبْطِئُ عَنْ الْحُقُوقِ وَلَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِك ، ثُمَّ تَسْتَبْطِئُ الْحَكِيمَ الْأَزَلِيَّ الْخَالِقَ فِي

بَابِ الْحُظُوظِ الَّتِي لَا تَدْرِي كَيْفَ حَالُك فِيهَا هَلْ طَلَبُهَا عَطَبٌ وَهَلَاكٌ ، أَوْ غِبْطَةٌ وَصَلَاحٌ .
وَقَالَ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَبِّهُك عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِك وَسِرِّك وَمَالِك ، بِالِاحْتِيَاطِ لِمَالِ غَيْرِك ، لَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْك ذَلِكَ التَّحَرُّزَ وَالتَّحَفُّظَ وَالِارْتِيَادَ وَالْمُبَالَغَةَ فِي الِانْتِقَادِ لِكُلِّ مَحَلٍّ تُودِعُهُ سِرًّا أَوْ مَالًا أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ ، أَوْ مَشُورَةٍ تَقْتَبِسُ بِهَا رَأْيًا ، وَنَبَّهَك عَلَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّك وَإِنْ بَلَغْت الْغَايَةَ مِنْ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ تَقْصِيرَك عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِك ، فَإِذَا بَالَغَتْ فِي الدُّعَاءِ الْمَحْبُوبِ نَفْسَك جَازَ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعْطِيَك بِحَسَبِ مَا طَلَبْت ، وَلَا يُرْخِي لِذَلِكَ الْعِنَانَ بِحُكْمِ مَا لَهُ أَرَدْت ، بَلْ يَحْبِسُ عَنْك لِصَلَاحِك ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْك مَا وَسَّعَهُ عَلَى غَيْرِك نَظَرًا لَك ؛ لِأَنَّهُ فِي حِجْرِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا دُمْت عَبْدًا .
فَإِذَا أَخْرَجَك عَنْ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ سَرَّحَك تَسْرِيحًا ، وَلَا تَطْلُبْ التَّخْلِيَةَ حَالَ حَبْسِك ، وَلَا التَّصَرُّفَ بِحَسْبِ مُرَادِك حَالَ حَجْرِك فَلَسْت رَشِيدًا فِي مَصَالِحِك ، فَكُنْ بِاَللَّهِ كَالْيَتِيمِ ، مَعَ الْوَلِيِّ الْحَمِيمِ ، تَسْتَرِحْ مِنْ كَدِّ التَّسَخُّطِ ، وَتَنْجُو مِنْ مَأْثَمِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّحَيُّرِ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُك هَذَا إلَّا بِشِدَّةِ بَحْثٍ وَنَظَرٍ فِي حُبِّك وَقَدْرِك .
فَإِذَا عَلِمْت أَنَّك بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ الْإِلَهِيِّ دُونَ الْيَتِيمِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَلِيِّ بِكَثِيرٍ ، صَحَّ لَك التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ ، وَاسْتَرَحْت مِنْ كَدِّ الِاعْتِرَاضِ وَمَرَارَةِ التَّسَخُّطِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَكَفَى بِرَبِّك وَكِيلًا } .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي أَسْرِ الْأَقْدَارِ تُصْرَفُ فَإِنْ اعْتَرَضْت صِرْت فِي أَسْرِ الشَّيْطَانِ ، فَلَأَنْ

تَكُونَ فِي أَسْرِ مَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْك خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي أَسْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا مَحِيصَ لَك عَنْهُ ، وَالْآخَرُ أَنْتَ أَوْقَعْت نَفْسَك فِيهِ .
وَلَا أَقْبَحَ مِنْ عَاقِلٍ حَمَاهُ اللَّهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ حَمِيمُهُ نَظَرًا لَهُ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا بِقُبْحِ آثَارِ وَلِيِّهِ عَنْدَهُ ، وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ مَعَ الْوَلِيِّ .
وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا .
وَقَالَ أَيْضًا كُلُّ حَالٍ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْتَنِمَ تِلْكَ اللَّحْظَةَ فَإِنَّهَا سَاعَةُ إجَابَةٍ .
فَحُضُورُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِ الْعَبْدِ حُضُورٌ وَاسْتِحْضَارٌ ، وَخَيْرُ أَوْقَاتِ الطَّلَبِ اسْتِحْضَارُ الْمُلُوكِ ، وَمَنْ اشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ فَدَعَا ، أَوْ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَبَكَى ، فَذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَاعَةُ إجَابَةٍ وَسَاعَةُ صِدْقٍ فِي الطَّلَبِ وَمَا دَعَا صَادِقٌ إلَّا أُجِيبَ .
وَسَبَقَ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ قُبَيْلَ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى دَعْوَةِ ذِي النُّونِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَيَأْتِي أَدْعِيَةٌ فِي فُصُولِ التَّدَاوِي .

الْفُصُولُ الْخَاصَّةُ بِالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ فَصْلٌ ( فِي كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمُصْحَفِ وَشَكْلِهِ وَكِتَابَةِ الْأَخْمَاسِ وَالْأَعْشَارِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ ) .
وَعَدَدِ الْآيَاتِ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ نَقْطُهُ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَمِثْلُهُ شَكْلُهُ ، وَيُكْرَهُ التَّغَيُّرُ فِيهِ وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَتَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ عُثْمَانَ فِي وَاوٍ وَيَاءٍ وَأَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ نُصَّ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ، وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَفِي جَعْلِهِ عَلَى عَيْنَيْهِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْعَةٌ وَإِكْرَامٌ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ الْقُرْبُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْظِيمٌ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَأَى الْحَجَرَ قَالَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك .
وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا طَافَ فَقَبَّلَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مَهْجُورٌ ، فَقَالَ إنَّمَا هِيَ السُّنَّةُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسَبَقَ بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ كَرَارِيسَ أَنَّ أَحْمَدَ اسْتَوَى جَالِسًا لَمَّا ذُكِرَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ أَخَذْت مِنْ هَذَا أَحْسَنَ الْأَدَبِ فِيمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ عِنْدَ إمَامِ الْعَصْرِ مِنْ النُّهُوضِ لِسَمَاعِ تَوْقِيعَاتِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ لِلْمُصْحَفِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ .
وَكَلَامُ الْقَاضِي السَّابِقُ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّوْقِيفِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقِيَامُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أَحَقُّ .

فَصْلٌ ( فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ وَمَا تَجِبُ صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنْهُ ) تَوَقَّفَ أَحْمَدُ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ كَذَا قَالَ الْخَلَّالُ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ الْقَاضِي الْأَشْبَهُ أَنْ يُكْرِمَهُ بَلْ يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا .
وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْقُرْآنُ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ فَإِنْ كُتِبَا بِهِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ غُسِلَا .
وَقِيلَ إنْ نَجَّسَ وَرَقَةَ الْمَكْتُوبِ فِيهِ أَوْ كَتَبَ بِشَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ بُلَّ وَانْدَرَسَ أَوْ غَرِقَ دُفِنَ كَالْمُصْحَفِ نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُصْحَفِ إذَا بَلِيَ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ السِّتْرِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ وَلَا سِتْرٍ وَلَا غَيْرِهِ .
وَيُكْرَهُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَضَعَ الْمُصْحَفَ تَحْتَ رَأْسِهِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ ابْتِذَالًا لَهُ وَنُقْصَانًا مِنْ حُرْمَتِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِالْمَتَاعِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ التَّحْرِيمَ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ ، وَكَذَا سَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ وَإِلَّا كُرِهَ فَقَطْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ وَسَأَلَهُ أَيَضَعُ الرَّجُلُ الْكُتُبَ تَحْتَ رَأْسِهِ ؟ قَالَ أَيُّ كُتُبٍ ؟ قُلْت كُتُبَ الْحَدِيثِ قَالَ : إذَا خَافَ أَنْ تُسْرَقَ فَلَا بَأْسَ وَأَمَّا أَنْ تَتَّخِذَهُ وِسَادَةً فَلَا .
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي رِحْلَتِهِ إلَى الْكُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَكَانَ يَضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةً وَيَضَعُ كُتُبَهُ فَوْقَهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَعَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَا

فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِسَاءَةِ الْأَدَبِ قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ .

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صُرِّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ أَوْ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ أَوْ كَفَرَ بِهَا أَوْ سَبَّهَا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مَا جَمَعَتْهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى آخِرِ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } كَلَامُ اللَّهِ وَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ حَقٌّ وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ أَوْ بَدَّلَهُ بِحَرْفٍ آخَرَ مَكَانَهُ أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَامِدًا بِكُلِّ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ .
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الْحَذَّاءِ جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ التَّوْحِيدَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شَنَبُوذٍ الْمُقْرِي أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَصَدِّرِينَ بِهَا مَعَ ابْنِ مُجَاهِدٍ لِقِرَاءَتِهِ وَإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِنْ الْحُرُوفِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ وَعَقَدُوا عَلَيْهِ لِلرُّجُوعِ عَنْهُ وَالتَّوْبَةِ سِجِلًّا أُشْهِدَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ .
وَأَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ لَعَنَ اللَّهُ مُعَلِّمَك وَمَا عَلَّمَك وَقَالَ أَرَدْت سُوءَ الْأَدَبِ وَلَمْ أُرِدْ الْقُرْآنَ قَالَ يُؤَدَّبُ الْقَائِلُ قَالَ : وَأَمَّا مَنْ

لَعَنَ الْمُصْحَفَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مِقْسَمٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ اُسْتُتِيبَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمَا لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ فَكَانَ يَقْرَأُ بِذَلِكَ فِي الْمِحْرَابِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَسُوغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قَارِئٌ .
تُوُفِّيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ .

وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِلْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ .
وَقِيلَ إنْ كَثُرَ الْعَسْكَرُ وَأُمِنَ اسْتِيلَاءُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ فَلَا ، لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ " مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ " .
وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يُكْرَهُ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَسْكَرُ كَثِيرًا فَيَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ .
وَلِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَكْتُبَا فِي كُتُبِهِمَا إلَى الْكُفَّارِ آيَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الرِّسَالَةِ .
وَهَلْ لِلذِّمِّيِّ نَسْخُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِدُونِ حَمْلِهِ وَلَمْسِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَيُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهِ نُصَّ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا بَلْ يُمْنَعُ مِنْ لَمْسِهِ وَتَمَلُّكِهِ .
وَيُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْ تَمْلِيكِهِ لَهُ فَإِنْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ أُلْزِمَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ .
وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى نَسْخِ الْمُصْحَفِ نُصَّ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ أَشْبَهَ اسْتِعْمَالَ الْمُصْحَفِ فِي التَّوَسُّدِ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ فِي الِاعْتِكَافِ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي وَلَمْ يَزِدْهُ ، وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ .

فَصْلٌ ( فِي الِاقْتِبَاسِ بِتَضْمِينِ بَعْضٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ) سُئِلَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ وَضْعِ كَلِمَاتٍ وَآيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي آخِرِ فُصُولِ خُطْبَةٍ وَعْظِيَّةٍ ؟ فَقَالَ تَضْمِينُ الْقُرْآنِ لِمَقَاصِدَ تُضَاهِي مَقْصُودَ الْقُرْآنِ لَا بَأْسَ بِهِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ ، كَمَا يُضَمَّنُ فِي الرَّسَائِلِ إلَى الْمُشْرِكِينَ آيَاتٌ تَقْتَضِي الدِّعَايَةَ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا تَضْمِينُ كَلَامٍ فَاسِدٍ فَلَا يَجُوزُ كَكُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي الشِّعْرِ : وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَا وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى الشَّاعِرِ ذَلِكَ لِمَا قَصَدَ مَدْحَ الشَّرْعِ وَتَعْظِيمَ شَأْنِ أَهْلِهِ وَكَانَ تَضْمِينُ الْقُرْآنِ فِي الشَّعْرِ سَائِغًا لِصِحَّةِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ الْوَضْعِ .

فَصْلٌ ( فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ وَحُكْمِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ لَهُ وَفِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ ) رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ وَيَلْزَمُ قَبُولُهُ إنْ قُلْنَا حُجَّةٌ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ يُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لِلْقُرْآنِ قَالَ وَقَالَ الْقَاضِي تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ كَقَوْلِهِ : فَإِنْ قُلْنَا هُوَ حُجَّةٌ لَزِمَ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَنَقْلُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صِيرَ إلَيْهِ ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ ، وَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ وَعَنْهُ هُوَ كَالصَّحَابِيِّ فِي الْمَصِيرِ إلَى تَفْسِيرِهِ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ إذَا لَمْ نَقُلْ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ فَفِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ رِوَايَتَانِ : اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ .

فَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا لِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ ) تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ لِمَاشٍ وَرَاكِبٍ وَمُضْطَجِعٍ وَمُحْدِثٍ حَدَثًا أَصْغَرَ وَنَجِسِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَّكِئٌ ، فَكَلَامُ اللَّهِ أَوْلَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا نَجِسُ الْفَمِ .
وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ : لَا تَمْنَعُ نَجَاسَةُ الْفَمِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَوْلَى الْمَنْعُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ .
وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ حَمْلِ الْجِنَازَةِ جَهْرًا وَحَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ لَا حَالَ لَمْسِ الذَّكَرِ وَالزَّوْجَةِ ، زَادَ الْقَاضِي وَأَكْلِهِ لِلَحْمِ الْجَزُورِ وَغُسْلِهِ لِلْمَيِّتِ عَلَى احْتِمَالٍ فِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ غَيْرُ مُسْتَقْذَرَةٍ فِي الْعَادَةِ ، ؛ وَلِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَبْعُدُ مِنْهُ الْمَلَكُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ يُمْسِكُ عَنْ الْقِرَاءَةِ .
وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَابْنُ تَمِيمٍ عَلَى الْأَصَحِّ صِيَانَةً لِلْقُرْآنِ .
وَرَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَلِيٍّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي الشَّرْحِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُجَّةً عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُسْتَوْعِبِ غَيْرَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ نَصَّ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِسْحَاقُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ .

فَصْلٌ ( فِي الْقُرَّاءِ فِي السُّوقِ وَاخْتِلَافِ حَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِينَ فِيهِ ) .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ حَنْبَلِيٌّ : كَمْ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ تَخْرُجُ مَخْرَجَ الطَّاعَاتِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهِيَ مَأْثَمٌ وَبُعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي أَسْوَاقٍ يَصِيحُ فِيهَا أَهْلُ الْمَعَاشِ بِالنِّدَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا أَهْلُ السُّوقِ يُمْكِنُهُمْ السَّمَاعُ ، ذَلِكَ امْتِهَانٌ .
قَالَ حَنْبَلِيٌّ : أَعْرِفُ هُوَ وَلَعَلَّ أَهْلَ السُّوقِ يَسْمَعُونَ النَّهْيَ عَنْ مُرَاءَاتٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكُونَهَا انْتَهَى كَلَامُهُ .

فَصْلٌ ( فِي التِّلَاوَةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لِتَسْكِينِهَا ) .
مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُشْرَعُ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالْمَصَائِبِ قِرَاءَةُ شَيْءٍ يُسْكِنُهَا بِذِكْرِ مَا جَرَى عَلَى الْأَئِمَّةِ .
لِيَتَأَسَّى بِهِمْ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ .
فَأَمَّا قِرَاءَةُ شَيْءٍ يُهَيِّجُ الْحُزْنَ وَيَحْمِلُ عَلَى الْجَزَعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ .
وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَقِيلٌ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَعُمْرُهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَكَانَ تَفَقَّهَ وَنَاظَرَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَظَهَرَ مِنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى دِينِهِ وَخَيْرِهِ حَزِنَ عَلَيْهِ وَصَبَرَ صَبْرًا جَمِيلًا فَلَمَّا دُفِنَ جَعَلَ يَتَشَكَّرُ لِلنَّاسِ فَقَرَأَ قَارِئٌ { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاك مِنْ الْمُحْسِنِينَ } فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ وَبَكَى النَّاسُ وَضَجَّ الْمَوْضِعُ بِالْبُكَاءِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لِلْقَارِئِ يَا هَذَا : إنْ كَانَ يُهَيِّجُ الْحُزْنَ فَهُوَ نِيَاحَةٌ ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَنْزِلْ لِلنَّوْحِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْأَحْزَانِ .

فَصْلٌ ( فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ وَتَقْسِيمِ خَتْمِهِ عَلَى الْأَيَّامِ ) وَيُسْتَحَبُّ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ } وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا : ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثُ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى الثَّانِيَ أَحْمَدُ وَفِيهِ حِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ قَافْ حَتَّى تَخْتِمَ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا كَانَ يُحَزِّبُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا } وَذَكَرَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَإِنْ قَرَأَهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ : اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ : مَا يُعْجِبنِي وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ رُخْصَةً ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } فَهَذِهِ رُخْصَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا الرُّجُوعُ يَعْنِي عَنْ رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَعَنْهُ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ دُونَ السَّبْعِ قَالَ الْقَاضِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ؟ فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً قُلْت إنِّي أُطِيقُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فِي كُلِّ عِشْرِينَ قُلْت : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : فِي

كُلِّ عَشْرٍ قُلْت إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ } وَفِي لَفْظٍ { اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قُلْت : إنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ : فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً قُلْت : إنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ : فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ .
وَفِي لَفْظٍ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قُلْت : أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَرَدَّدَهُ فِي الصَّوْمِ إلَى صَوْمِ دَاوُد وَقَالَ وَاقْرَأْهُ فِي سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً } مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ .
وَتُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَكْرَهُ لَهُ دُونَ ثَلَاثٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا نَقَلَ حَرْبٌ وَيَعْقُوبُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ فِي ثَلَاثٍ } .
وَالْمُرَادُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا لَمْ يُكْرَهْ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَطْلُوبَةٌ وَلَا كَرَاهَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ ، وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا وَكَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ تَمِيمٍ وَهُوَ أَصَحُّ وَتَجُوزُ قِرَاءَتُهُ كُلُّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَنْهُ تُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسْبِ حَالِهِ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ .
وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ نُصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ قَالَ : فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا } الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَإِنْ خَافَ

نِسْيَانَهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا كَنَسْيِهِ بِلَا عُذْرٍ حَرُمَ وَفِيهِ وَجْهٌ يُكْرَهُ ، وَيُسَنُّ خَتْمُهُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَفِي الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد لِأَحْمَدَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَغَيْرَهُمْ عِنْد خَتْمِهِ وَيَدْعُو نُصَّ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا خِلَافُهُ فَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ : كُنْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ نَحْوًا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْعَسْكَرِ وَلَا يَدَعُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَقِرَاءَةَ النَّهَارِ فَمَا عَلِمْت بِخَتْمَةٍ خَتَمَهَا وَكَانَ يُسِرُّ ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ : أَدْرَكْت أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ وَيَقُولُونَ : إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِي ، وَإِذَا خَتَمَ أَوَّلَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ وَرَوَاهُ ابْن أَبِي دَاوُد وَنَصَّ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَ أَنَسٌ إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ .
قَالَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُرْسَلًا .

وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُفَصَّلِ أَقْوَالٌ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ ( ق ) صَحَّحَهُ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ فِي مَطْلَعِهِ وَغَيْرُهُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حَكَاهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ وَالثَّانِي مِنْ الْحُجُرَاتِ وَالثَّالِثُ مِنْ أَوَّلِ الْفَتْحِ وَالرَّابِعُ مِنْ أَوَّلِ الْقِتَالِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَالْخَامِسُ مِنْ : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } .
وَالسَّادِسُ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ سَيْفُ الدِّينِ ابْنُ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ الْحَرَّانِيُّ فِي خُطْبَةٍ لَهُ : وَفِي الْمُفَصَّلِ خِلَافٌ مُفَصَّلٌ غَيْرُ مُجْمَلٍ ، فَقِيلَ هُوَ مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْفَتْح وَهُوَ قَوْلٌ مُهْمَلٌ وَقَوْلُ قَوْمٍ مِنْ ( ق ) وَهَذَا الْقَوْلُ أَجْزَلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الضُّحَى ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَمَا عَلَيْهِ مُعَوَّلٌ .
وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْمُفَصَّلِ لِلْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) لِفَصْلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ .
( وَالثَّانِي ) لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
( وَالثَّالِثُ ) لِإِحْكَامِهِ .
( وَالرَّابِعُ ) لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ .

فَصْلٌ ( فِي فَضْلِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ ) وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ دُحَيْمٍ الدِّمَشْقِيُّ ثنا أَبِي وَحَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ حَمْدَانَ ثنا دُحَيْمٌ الدِّمَشْقِيُّ ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَبُو سَعِيدِ بْنِ عَوْنٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ } كَذَا نَقَلْته مِنْ خَطِّ الْحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّينِ وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنِ عَوْدٍ رَوَى ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ : ضَعِيفٌ .
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ خَبَرَهُ هَذَا وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي مَتْنِهِ وَقَالَ : مِقْدَارُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْآمِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي ( الْوَظَائِفِ ) فِي ذَلِكَ آثَارًا .
وَفِي الْحَدِيثِ { النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : كَانَ أَبِي يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا لَا يَكَادُ يَتْرُكُهُ نَظَرًا قَالَ الْقَاضِي : وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَحْمَدُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ لِأَخْبَارٍ فَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا { مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شُفِّعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ وَخُفِّفَ الْعَذَابُ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ } وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَضْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ مَعْنَى ذَلِكَ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ الْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِ النَّظَرِ إلَى الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ أَخْبَارٌ فَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالنَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ ، وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ كَانَ يُعْجِبُهُمْ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ هَيْبَةً قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ آيَاتٍ يَسِيرَةً لِئَلَّا يَكُونَ مَهْجُورًا .

فَصْلٌ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَرِوَايَتِهِ وَالتَّسَاهُلِ فِي أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ دُونَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحَاجَةِ إلَى السُّنَّةِ وَكَوْنِهَا ) وَلِأَجْلِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا يَنْبَغِي الْإِشَارَةُ إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ ، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ كَالْفَضَائِلِ ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يُوَافِقُ هَذَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ شَابٌّ عَلَى بَابِ أَبِي النَّضْرِ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ فِي مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ؟ قَالَ : أَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ رَجُلٌ نَسْمَعُ مِنْهُ وَنَكْتُبُ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ يَعْنِي الْمَغَازِيَ وَنَحْوَهَا ، وَأَمَّا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَلَكِنَّهُ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَرَدْنَا أَقْوَامًا ، هَكَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ ، وَأَرَانَا بِيَدِهِ ، قَالَ الْخَلَّالُ : وَأَرَانَا الْعَبَّاسُ فِعْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَبَضَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا وَأَقَامَ إبْهَامَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْقَطَّانُ النَّيْسَابُورِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ سَمِعْت أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ السِّجْزِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت النَّوْفَلِيَّ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : إذَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالُ وَالْحَرَامِ شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ، وَإِذَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَا لَا يَضَعُ حُكْمًا وَلَا

يَرْفَعُهُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ .
وَذَكَرَ هَذَا النَّصَّ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي طَبَقَاتِ أَصْحَابِنَا فِي تَرْجَمَةِ النَّوْفَلِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ ضَعَّفَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا : { أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ } .
قَالَ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْمَاءِ ، ثُمَّ قَالَهُ الْقَاضِي مُجِيبًا لِمَنْ قَالَ : إنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ مَعَ الْإِسَاءَةِ ؛ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسِيئًا بِتَأْخِيرِهَا وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَحَادِيثُ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ : ثنا شُرَيْحٌ ثنا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا جَاءَكُمْ عَنِّي مِنْ خَيْرٍ قُلْته أَوْ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا أَقُولُهُ ، وَمَا أَتَاكُمْ مِنْ شَرٍّ فَإِنِّي لَا أَقُولُ الشَّرَّ } .
أَبُو مَعْشَرٍ اسْمُهُ نَجِيحٌ لَيِّنٌ مَعَ أَنَّهُ صَدُوقٌ حَافِظٌ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِهِ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَلَا تُصَدِّقُوا ؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ فَقَالَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَعَلَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ هَكَذَا وَسَقَطَ مِنْ النُّسْخَةِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ .
وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ فِي آخِرِ الْفَصْلِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا : ثنا أَبُو عَامِرٍ ثنا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْحَدِيثَ

عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ .
وَإِذَا سَمِعْتُمْ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ } .
إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَمِنْ حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ رَبِيعَةَ بِهِ قَالَ ، وَتَابَعَهُ عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيدٍ بِالشَّكِّ قَالَ : وَهَذَا أَمْثَلُ إسْنَادٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ : قَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ثنا بَكْرٌ هُوَ ابْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ حَدِيثُهُ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : إذَا بَلَغَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُعْرَفُ وَيُلِينُ الْجِلْدَ ، فَقَدْ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْخَيْرَ ، وَلَا يَقُولُ إلَّا الْخَيْرَ .
} قَالَ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيدٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : فَصَارَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ مَعْلُولًا .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ ثنا أَبُو يَزِيدَ خَالِدُ بْنُ حِبَّانَ الرَّقِّيُّ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى بْنِ كَثِيرٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ بَلَغَهُ عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ لَهُ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأَخَذَ بِهِ إيمَانًا

وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ } .
خَالِدٌ قَوَّاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ وَضَعَّفَهُ الْفَلَّاسُ .
وَأَمَّا أَبُو رَجَاءٍ فَهُوَ مُحْرِزُ الْجَزَرِيُّ فِيمَا أَظُنُّ .
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِهِ إذَا انْفَرَدَ وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الثِّقَاتِ .
وَقَالَ : يُدَلِّسُ .
وَقَالَ : أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ شَيْخٌ ثِقَةٌ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَلَعَلَّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا رَجَاءٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَرَّرٍ بِرَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا ذَكَرَ لَهُ كُنْيَةً ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوْضُوعَاتِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ .
وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمُسْتَحَبَّات ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ لِضَعْفِ خَبَرِهَا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَيْضًا التَّيَمُّمَ بِضَرْبَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَخْبَارًا وَآثَارًا ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ، فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي الرِّوَايَةِ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا وَاهِيًا ، وَلَا أَنْ يُعْمَلَ بِهِ بِانْفِرَادِهِ ، بَلْ يَرْوِيهِ لِيَعْرِفَ وَيُبَيِّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ أَوْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَيُعْتَضَدَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى عَدَمِ الشِّعَارِ وَإِنَّمَا تَرْكُ الْعَمَلِ بِالثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّعَارِ ، هُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ قَوْلِ أَحْمَدَ وَعَنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي

فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ قَالَ : الْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَوْ تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ ، وَمِثَالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَوَقَائِعِ الْعَالِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ لَا اسْتِحْبَابٌ وَلَا غَيْرُهُ ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إلَى أَنْ قَالَ : فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُرْوَى وَيُعْمَلُ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا فِي الِاسْتِحْبَابِ ، ثُمَّ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ وَهُوَ مَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي التَّيَمُّمِ بِضَرْبَتَيْنِ : وَالْعَمَلُ بِالضِّعَافِ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي عَمَلٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا رَغِبَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ عُمِلَ بِهِ ، أَمَّا إثْبَاتُ سُنَّةٍ فَلَا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ قَدْ كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَلَمْ يَكُنْ حَسَنًا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا : { النَّاسُ أَكْفَاءٌ إلَّا حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ أَوْ كَسَّاحٌ } هُوَ ضَعِيفٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ : مَعْنَى قَوْلِهِ : ضَعِيفٌ عَلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ بِالْإِرْسَالِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْعَنْعَنَةِ ، وَقَوْلُهُ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُضَعِّفُونَ بِذَلِكَ .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ جَامِعِهِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا { : الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ } إنَّ أَحْمَدَ

لَمْ يَمِلْ إلَيْهِ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَمْرَو بْنَ بُجْدَانَ ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ هُوَ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ صَحِيحًا لَقَالَ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَذْهَبُهُ إذَا ضَعُفَ إسْنَادُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَ إلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ ، وَإِذَا ضَعُفَ إسْنَادُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِهِ فَهَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ قَالَ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ : أَحَبَّ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرِبًا ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْأَحَادِيثِ إذَا كَانَتْ مُضْطَرِبَةً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُخَالِفٌ قَالَ بِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي التَّعْلِيقِ فِي حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ : فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ قُرْءَانِ ، مُجَرَّدُ طَعْنِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنُوا جِهَتَهُ مَعَ أَنَّ أَحْمَدَ يَقْبَلُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ بِتَجَرُّدِهِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْهُ ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَخَبَرِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا إنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا

الْقُرْآنِ .
فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ثنا الْحَسَنُ بْنُ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِقْدَامَ فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا ، وَلَفْظُهُ { : يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ .
إنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ .
} وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَالنُّفَيْلِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لَا نَدْرِي ، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ } .
حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي كِفَايَةِ الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولِ أَنَّهُ قَالَ : الْقُرْآنُ أَحْوَجُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقُرْآنِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرِ : السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ قَاضِيًا عَلَى السُّنَّةِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ إذَا حُدِّثَ الرَّجُلُ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ : دَعْنَا مِنْ هَذَا حَدِّثْنَا مِنْ الْقُرْآنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ

أَطَاعَ اللَّهَ } .
وَقَالَ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } .
وَقَالَ مَالِكُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَهُ قَبْلَهُ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي هَذَا الْحَائِطَ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ : مَا تُوُفِّيَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَا تُوُفِّيَ عَنْهُ وَهُوَ حَلَالٌ فَهُوَ حَلَالٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَخَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد { : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ مَا طَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَفْتَى بِأَنَّهَا لَا تَرْحَلُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : إنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهَا ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدُّرَّةِ .
وَيَقُولُ لَهُ : وَيْلُكَ تَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ سَأَلْتَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ بَعْضُ مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ : فَهَلْ تَجِدُ حَدِيثًا فِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ } فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : إنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي ، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَوَافَقَ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي ، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ يُخَالِفُ الْحَدِيثُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا أَرَادَ : خَاصًّا وَعَامًّا ، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا ، ثُمَّ يُلْزِمُ النَّاسَ مَا سُنَّ بِفَرْضِ اللَّهِ ، فَمَنْ قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَاتِ فِي ذَلِكَ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْمَجْهُولِ خَالِدَ بْنَ أَبِي كَرِيمَةَ فَلَمْ يُعْرَفْ مِنْ حَالِهِ مَا يَثْبُتُ بِهِ خَبَرُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ كَمَا قَالَ ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَنْبَلِ بْن إِسْحَاقَ ثنا جُبَارَةُ بْنُ الْمُفْلِسِ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْن أَبِي النَّجُودِ عَنْ زَرٍّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي رُوَاةٌ يَرْوُونَ عَنِّي الْحَدِيثَ فَاعْرِضُوا حَدِيثَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ ، فَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ فَحَدِّثُوا بِهِ ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذُوا } .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَالصَّوَابُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زَيْدِ بْن عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْعَدْلُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادَةَ ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ وَلَا تُنْكِرُوا ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ فَصَدِّقُوا بِهِ ، فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا

تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ .
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ مَقَالٌ لَمْ نَرَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا أَحَدًا يَعْرِفُ خَبَرَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَلَا رَأَيْتَ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ يُثْبِتُ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَقَالَ عَبَّاسُ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كَانَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ يَرْوِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مُرْسَلًا .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلًا قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَهُوَ وَهْمٌ لَيْسَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَبَقَ بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ كَرَارِيسَ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ الْأَصَمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا بَلَغَكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا قُلْتُهُ } .
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا بَاطِلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ مَتْرُوكَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلٌ فَاحِشٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيدٍ السَّابِقَ .
وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَوْلَاهُمَا وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي مَكَان آخَرَ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَظُنَّ كَلِمَةً خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدَ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا حَدَّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ

عَدْلٌ وَاَلَّذِي هُوَ أَهْنَأُ وَاَلَّذِي هُوَ أَنْقَى ، وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ .

فَصْلٌ ( رِوَايَةُ التَّكْبِيرِ مَعَ الْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ ) وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ التَّكْبِيرَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى إلَى أَنْ يَخْتِمَ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَذَهَا الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَخَذَهَا ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَخَذَهَا مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخَذَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَخَذَهَا أُبَيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ : الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ انْقِطَاعُ الْوَحْيِ ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزِّيِّ وَهُوَ ثَبْتٌ فِي الْقِرَاءَةِ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ .
وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ { أَلَمْ نَشْرَحْ } وَقَالَ فِي الشَّرْحِ : اسْتَحْسَنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّكْبِيرَ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ وَمِنْ الضُّحَى إلَى أَنْ يَخْتِمَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْقَاضِي .
وَعَنْ الْبَزِّيِّ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا وَعَنْ قُنْبُلٍ هَكَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ ، وَعَنْهُ أَيْضًا : لَا تَكْبِيرَ كَمَا هُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ بِالتَّكْبِيرِ وَمِنْ الضُّحَى وَهُوَ رَاوِي قُرَّاءِ مَكَّةَ .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ يُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ الْبَزِّيِّ ، وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَسُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ قَرَءُوا بِغَيْرِ تَهْلِيلٍ وَلَا تَكْبِيرٍ قَالَ : إذَا قَرَءُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ ، بَلْ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ .
وَإِذَا قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَعَ غَيْرِهَا قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُكَرِّرُ ثَلَاثًا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ مَنَعَ أَحْمَدُ الْقَارِئَ مِنْ

تَكْرَارِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا إذَا وَصَلَ إلَيْهَا .

فَصْلٌ ( فِي تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّخَشُّعِ وَالتَّغَنِّي بِهِ ) .
وَيُسْتَحَبُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَإِعْرَابُهَا وَتَمَكُّنُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ ، قَالَ أَحْمَدُ : تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةُ السَّهْلَةُ ، وَكَرِهَ السُّرْعَةَ فِي الْقِرَاءَةِ قَالَ حَرْبُ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ السُّرْعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَرِهَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِسَانُ الرَّجُلِ كَذَلِكَ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَرَسَّلَ ، قِيلَ : فِيهِ إثْمٌ ؟ قَالَ أَمَّا الْإِثْمُ فَلَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي إذَا لَمْ تَبِنْ الْحُرُوفُ مَعَ أَنَّهُ قَالَ : ظَاهِرُ هَذَا كَرَاهَةُ السُّرْعَةِ وَالْعَجَلَةِ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ وَقَدْ سُئِلَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ اللَّيْلِ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْكَ : التَّرَسُّلُ أَوْ السُّرْعَةُ ؟ فَقَالَ : أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ : بِكُلِّ حَرْفٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً ؟ قُولُوا لَهُ فِي السُّرْعَةِ قَالَ : إذَا صَوَّرَ الْحَرْفَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْهِجَاءِ قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اخْتَارَ السُّرْعَةَ .
وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى : كَرِهَ أَحْمَدُ سُرْعَتَهَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْحُرُوفَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : أَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ الْإِبَانَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ مَا يَقْرَأُ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالتَّرَسُّلِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ ، وَأَكْمَلَهُ أَنْ يُرَتِّلَ الْقِرَاءَةَ وَيَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى التَّمْطِيطِ كَانَ مَمْنُوعًا ، قَالَ وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ إلَى مَعْنَى هَذَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : يُعْجِبُنِي مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ وَلَا تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْأَلْحَانُ ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : أَظُنُّهُ حِكَايَةً عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَالتَّفَهُّمُ فِيهِ وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ إدْرَاجِهِ بِغَيْرِ تَفَهُّمٍ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : يُحَسِّنُ الْقَارِئُ صَوْتَهُ

بِالْقُرْآنِ وَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ وَتَدَبُّرٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ } نَصَّ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ : أَذِنَ بِكَسْرِ الذَّالِ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِمَاعُ .
وَقَوْلُهُ : " كَأَذَنِهِ " هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ وَهُوَ مَصْدَرُ أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحًا .
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ : " كَإِذْنِهِ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : هُوَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَعْنَى الْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْرِ بِهِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } وَمَعْنَاهُ أَذِنَ اسْتَمَعَ .
وَقَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، كَذَا عَزَاهُ فِي الشَّرْحِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ : مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَذَكَرَهُ فِي قِصَّةٍ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ : يُخَالَفُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ .
وَوَثَّقَهُ غَيْرُهُ ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَأَظُنُّهُ رَوَاهُ فِي غَيْرِ الْمُسْنَدِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } ، أَيْ : يَسْتَغْنِي بِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْغِنَاءِ بِالصَّوْتِ لَكَانَ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزِّيُّ : هَذَا قَوْلُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ : يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ تَفْسِيرُهُ

التَّحَزُّنُ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ : تَفْسِيرُهُ الِاسْتِغْنَاءُ ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَتَغَنَّوْا وَلَوْ بِحُزَمِ الْحَطَبِ } وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِهِ .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } .
قَالَ الْهَرَوِيُّ : مَعْنَاهُ الْهَجُوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَزَيَّنُوا بِهِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى تَطْرِيبِ الصَّوْتِ وَالتَّحْزِينِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ كُلِّ أَحَدٍ قَالَ : وَهَكَذَا قَوْلُهُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } .
وَقَالَ فِيهِ الْبَغَوِيّ قَرِيبًا مِنْهُ ، قَالَ : إنَّهُ مِنْ الْمَقْلُوبِ كَقَوْلِهِمْ خَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ .
وَقَالَ ` تَعَالَى : { مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ } أَيْ : تَنْهَضُ وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ { : زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ } .
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ الْآجُرِّيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ آدَابًا ، مِنْهَا إدْمَانُ تِلَاوَتِهِ ، وَمِنْهَا الْبُكَاءُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالتَّبَاكِي ، وَمِنْهَا حَمْدُ اللَّهِ عِنْدُ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ وَسُؤَالُ الثَّبَاتِ وَالْإِخْلَاصِ ، وَمِنْهَا السُّؤَالُ ابْتِدَاءً ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ وَيَتَعَوَّذَ عِنْدَ آيَةِ الْعَذَابِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا لَا نَهَارًا ، وَمِنْهَا أَنْ يُوَالِيَ قِرَاءَتَهُ ، وَلَا يَقْطَعُهَا حَدِيثُ النَّاسِ ، وَفِيهَا نَظَرٌ إذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ ، وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ بِالْقِرَاءَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَا الشَّاذَّةِ الْغَرِيبَةِ ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ عَنْ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ الْعَارِفِينَ بِمَعَانِيهَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ مَا أَمْكَنَهُ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا تُضَاعَفُ

عَلَى الْقِرَاءَةِ خَارِجًا عَنْهَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ : ( كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَخْتِمُوا فِي رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ أَوْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ) .
وَمِنْهَا أَنْ يَتَحَرَّى قِرَاءَتَهُ مُتَطَهِّرًا ، وَمِنْهَا إنْ كَانَ قَاعِدًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ تِلَاوَتِهِ فِي رَمَضَانَ ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِضَهُ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ ، وَمِنْهَا بِالْإِعْرَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنَّ الْمَعْنَى الِاجْتِهَادُ عَلَى حِفْظِ إعْرَابِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ عَمْدًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ لِتَغْيِيرِهِ الْقُرْآنَ ، وَمِنْهَا أَنْ يُفَخِّمَهُ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ } قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى : مَعْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضِعَ الصَّوْتَ بِهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَرَاهَةَ الْإِمَالَةِ وَيُحْتَمَلُ إرَادَتُهَا ، ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ سُورَةٍ مِمَّا قَبْلَهَا إمَّا بِالْوَقْفِ أَوْ التَّسْمِيَةِ وَلَا يَقْرَأُ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ فَرَاغِ الْأُولَى ، وَمِنْهَا الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ الْكَلَامَ لِوَقْفِهِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ ، وَلَمْ يُتِمَّ الْكَلَامَ قَالَ أَبُو مُوسَى وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّورَةِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَسُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ : وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ ، وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَجْتَهِدُ فِي شُكْرِهِ .
وَمِنْهَا تَرْكُ الْمُبَاهَاةِ وَأَنْ لَا يَطْلُبَ بِهِ الدُّنْيَا ، بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَقَنَاعَةٍ وَرِضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى مُجَانِبًا لِلدَّنَايَا مُحَاسِبًا

لِنَفْسِهِ ، يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي سَمْتِهِ وَخُلُقِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَلِكِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى مَا قَدْ وُعِدَ فِيهِ وَهُدِّدَ فَإِذَا بَدَرَتْ مِنْهُ سَيِّئَةٌ بَادَرَ مَحْوَهَا بِالْحَسَنَةِ .
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذْ النَّاسُ نَائِمُونَ ، وَبِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ ، وَبِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ ، وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ ، وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ ، وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاكِيًا مَحْزُونًا حَكِيمًا عَلِيمًا سَكِينًا ، وَلَا يَكُون جَافِيًا ، وَلَا غَافِلًا وَلَا صَاخِبًا وَلَا صَيَّاحًا وَلَا حَدِيدًا .

فَصْلٌ ( فِي التِّلَاوَةِ بِأَلْحَانِ الْخَاشِعِينَ لَا أَلْحَانِ الْمُطْرِبِينَ ) .
وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ وَقَالَ حَرْبٌ : هِيَ حَسَنَةٌ .
وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ : قِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ وَتَقْطِيعُ حُرُوفُ الْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ .
قِيلَ : يُهْجَرُ مَنْ سَمِعَهَا قَالَ لَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَزْمُهُ مِثْلَ حَزْمِ أَبِي مُوسَى .
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : فَيُكَلَّمُونَ ؟ قَالَ : لَا كُلُّ ذَا .
وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِزْبَهُ فَيَقْرَأُ بِحُزْنٍ مِثْلَ صَوْتِ أَبِي مُوسَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ : أَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا أَكْرَهُهَا قَالَ أَصْحَابُهُ : حَيْثُ كَرِهَهَا أَرَادَ إذَا مَطَّطَ وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَنْ مَوْضُوعِهَا ، وَحَيْثُ أَبَاحَهَا أَرَادَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغْيِيرٌ لِمَوْضُوعِ الْكَلَامِ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ لِخُرُوجِهَا عَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّفَهُّمِ وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ لِلْأَحَادِيثِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِصِفَةِ التَّلْحِينِ الَّذِي يُشْبِهُ تَلْحِينَ الْغِنَاءِ مَكْرُوهٌ مُبْتَدَعٌ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ .

فَصْلٌ ( إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّاسِ لَمْ يَزِدْ الْفَاتِحَةَ وَخَمْسًا مِنْ الْبَقَرَةِ ) نَصَّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } ؛ لِأَنَّ ( الم ) آيَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ غَيْرُ آيَةٍ ، قَالَ فِي الشَّرْحِ : وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ بَعْدَ الدُّعَاءِ ، وَقِيلَ : يُسْتَحَبُّ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ زُرَارَةَ مُرْسَلًا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا عِنْدِي أَصَحُّ .
قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَثُّ عَلَى تَكْرَارِ الْخَتْمِ خَتْمَةً بَعْدَ خَتْمَةٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَتَعَقَّبُ الْخَتْمَةَ .

فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتِ وَالْأَدَبِ لَهُ ) .
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَيُكْرَهُ الْحَدِيثُ عِنْدَهَا بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ، وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى الْخُشُوعِ وَعَلَى ذَمِّ قَسْوَةِ الْقَلْبِ ، وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ قِيلَ نَعَمْ ، لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ ، فَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بِالْمُسْتَحَبَّاتِ ، وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ أُسَاكِنَ مَعْصِيَةً فَتَكُونَ سَبَبًا فِي سُقُوطِ عَمَلِي وَسُقُوطِ مَنْزِلَةٍ إنْ كَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَمَا سَمِعْتُ قَوْله تَعَالَى { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ التَّسَبُّبِ وَسُوءِ الْأَدَبِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ، وَلَا يَشْعُرُ الْعَامِلُ إلَّا أَنَّهُ عِصْيَانٌ يَنْتَهِي إلَى رُتْبَةِ الْإِحْبَاطِ ، هَذَا يَتْرُكُ الْفَطِنَ خَائِفًا وَجِلًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَآثِمِ ثُمَّ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يُشَاكِلُ هَذِهِ إلَى أَنْ قَالَ : أَلَيْسَ بَيْنَنَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ كَلَامُهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَمَّلُ وَيَتَدَثَّرُ لِنُزُولِهِ ، وَالْجِنُّ تُنْصِتُ لِاسْتِمَاعِهِ وَأَمَرَ بِالتَّأَدُّبِ بِقَوْلِهِ : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } .
فَعَمَّ كُلَّ قَارِئٍ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَيْنَنَا .
فَلَمَّا أُمِرْنَا بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامِهِ أَوْلَى .
وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ

وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ، وَرُبَّمَا أَصْغَيْتُمْ إلَى النَّغْمَةِ اسْتِثَارَةً لِلْهَوَى ، فَاَللَّهَ اللَّهَ لَا تَنْسَ الْأَدَبَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْكَ فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ ، مَا أَخْوَفَنِي أَنْ يَكُونَ الْمُصْحَفُ فِي بَيْتِكَ وَأَنْتَ مُرْتَكِبٌ لِنَوَاهِي الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِيهِ فَتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ : { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } .
فَهِجْرَانُ الْأَوَائِلِ كَلَامَ الْحَقِّ يُوجِبُ عَلَيْكَ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْعَادِ وَالْمَقْتِ ، فَقَدْ نَبَّهَكَ عَلَى التَّأَدُّبِ لَهُ مِنْ أَدَبِكَ لِلْوَالِدَيْنِ ، وَالتَّأَدُّبُ لِلْأَبَوَيْنِ يُوجِبُ التَّأَدُّبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِالنِّعَمِ ، فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي إهْمَالِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَدَبِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْإِنْصَاتُ لِلْفَهْمِ وَالنَّهْضَةُ لِلْعَمَلِ بِالْحُكْمِ إيفَاءٌ لِلْحُقُوقِ إذَا وَجَبَتْ ، وَصَبْرًا عَلَى أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ إذَا حَضَرَتْ ، وَتَلَقِّيًا بِالتَّسْلِيمِ لِلْمَصَائِبِ إذَا نَزَلَتْ ، وَحِشْمَةً لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَخْذٍ وَتَرْكٍ حَيْثُ نَبَّهَكَ عَلَى سَبَبِ الْحِشْمَةِ فَقَالَ : { وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ : كُرِهَ السُّؤَالُ بِالْقُرْآنِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ : ( أَحَدِهَا ) : أَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ بِالطَّبْعِ سَمَاعَ سُؤَالِ السَّائِلِ فَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْ الْقَارِئِ الَّذِي يَسْأَلُ بِالْقُرْآنِ أَعْرَضُوا عَنْ الْقُرْآنِ فَيَحْمِلهُمْ الْقَارِئُ عَلَى أَنْ يَأْثَمُوا .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِنْصَاتِ لِلْقُرْآنِ فَيُعَرِّضُهُمْ لِلْإِثْمِ أَيْضًا .
( الثَّالِثِ ) : أَنْ يَأْتِيَ بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَشْفِعُ بِهِ فِي أَخَسِّهَا .

فَصْلٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ إنَّمَا هُوَ فَيْضُ الدُّمُوعِ ، وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ ، وَلِينُ الْقُلُوبِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } .
{ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ : { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَهَا : حَسْبُكَ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَأَمَّا الصَّعْقُ وَالْغَشْيُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَدَثَ فِي التَّابِعِينَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ وَالصَّحَابَةُ لِقُوَّتِهِمْ وَكَمَالِهِمْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِمْ ، فَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْتُ هَذَا عَنْهُ الْإِمَامُ الرَّبَّانِيُّ مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ الْكِبَارِ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : { إذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } فَصَعِقَ وَكَانَ قَبْلَ الظُّهْرِ فَلَمْ يُفِقْ إلَى اللَّيْلِ ، وَكَذَا الْإِمَامُ الْقَاضِي التَّابِعِيُّ الْمُتَوَسِّطُ زُرَارَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا بَلَغَ : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } .
شَهِقَ فَمَاتَ ، وَكَانَ هَذَا الْحَالُ يَحْصُلُ كَثِيرًا لِلْإِمَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا شَيْخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَوْ دَفَعَ أَوْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهُ يَحْيَى .
وَحَدَثَ ذَلِكَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ الصَّادِقُ فِي حَالِهِ وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَعَمْرِي إنَّ الصَّادِقَ مِنْهُمْ عَظِيمُ الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا حُضُورُ قَلْبٍ حَيٍّ وَعِلْمُ مَعْنَى الْمَسْمُوعِ وَقَدْرِهِ ، وَاسْتِشْعَارُ مَعْنَى مَطْلُوبٍ يُتَلَمَّحُ مِنْهُ ، لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ وَأَعْظَمُ مَعَ ثَبَاتِهِ وَقُوَّةِ جَنَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ .

لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَصْدُقُ فِي هَذَا الْحَالِ ، فَسُبْحَانَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ كُلِّ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بَعْدَ السُّؤَالِ عَمَّا يَعْتَرِي الْمُتَصَوِّفَةُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالْغِنَاءِ هَلْ هُوَ مَمْدُوحٌ أَوْ مَذْمُومٌ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا مُجِيبٌ حَتَّى يُبَيِّنَ تَحْقِيقَ السُّؤَالِ ، فَإِنَّ الصَّعْقَ دَخِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ وَغَمًّا لَا عَزْمًا غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَلَا مُجْتَلَبٍ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا إبَاحَةٍ ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ سُؤَالِكِ أَنْ نَقُولَ : هَذَا التَّصَدِّي لِلسَّمَاعِ الْمُزْعِجِ لِلْقُلُوبِ الْمُهَيِّجِ لَلطِّبَاعِ الْمُوجِبِ لِلصَّعْقِ جَائِزٌ أَوْ مَحْظُورٌ ؟ وَهُوَ كَسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ الْعَطْسَةِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا يُجَابُ عَنْهَا جُمْلَةً وَلَا جَوَابًا مُطْلَقًا ، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنْ عَلِمَ هَذَا الْمُصْغِي إلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ وَيَعْزُبُ رَأْيُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ مِنْ إفْسَادٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ لِشُرْبِ النَّبِيذِ الَّذِي يُزِيلَ عَقْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ تَارَةً يُصْعَقُ وَتَارَةً لَا ، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُكْرَهُ ، كَذَا قَالَ وَيَتَوَجَّهُ كَرَاهَتُهُ بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ وَإِنْ غَطَّى عَلَى الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ اضْطِرَابًا تَفْسُدُ بِهِ الْأَمْوَالُ ، بَلْ يُغَطَّى عَقْلُ النَّائِمِ ثُمَّ يَحْصُلُ مَعَهُ الرَّاحَةُ .
قَالَ : وَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ ، وَسَمِعَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْمَعْ التِّلَاوَةَ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا فَصَعِقَ السَّامِعُ خُضُوعًا لِلْمَسْمُوعِ عَنْهُ إلَى أَنْ قَالَ : فَهُوَ الصَّعْقُ الْمَمْدُوحُ يُعَطِّلُ حُكْمَ الظَّاهِرِ ، وَيُوَفِّرُ دَرْكَ

النَّاظِرِ ، لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ : مَجَانِينَ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ خَارِجِ أَحْوَالِهِمْ ، خَلَى مِمَّا يَلُوحُ لَهُمْ .
وَالْأَصْلُ فِي تَفَاوُتِ هَذَا صَفَاءُ الْمَدَارِكِ وَاخْتِلَافُ الْمَسَالِكِ ، فَالْقُلُوبُ تَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَتَرْجِيعَ الْأَلْحَانِ فَيُحَرِّكُهُمْ طَرَبُ الطِّبَاعِ ، وَمَا عِنْدَهُمْ ذَوْقٌ مِنْ الْوَجْدِ فِي السَّمَاعِ ، وَالْخَوَاصُّ يُدْرِكُونَ بِصَفَاءِ مَدَارِكِهِمْ أَرْوَاحَ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ الْمَعَانِي ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْإِيهَامُ الْبَرَّانِيُّ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَسْمَعُ مِنْ الْقَوْمِ ، وَقَدْ قَالَ الْوَاجِدُ : لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلَامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : النَّاظِرُ إلَى الْقَوْمِ مِنْ خَارِجِ حَالِهِمْ يَتَعَجَّبُ دَهْشًا ، وَالْمُلَاحِظُ يَذُوقُ الْمُنَاسَبَةَ يَتَلَظَّى عَطَشًا ، كَمَا قَالَ الْقَوَّالُ : صَغِيرُ هَوَاكِ عَذَّبَنِي فَكَيْفَ بِهِ إذَا احْتَنَكَا وَمُرَادُ ابْنِ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْ : الصَّادِقُ مِنْهُمْ وَمَدْحُ حَالِهِ لَا هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَايَةُ .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ زَفَرَ زَفْرَةً وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ ثَانِيَةً ثُمَّ ثَالِثَةً ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ .
وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَلِمْتُ حَدَثَ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : لَمَّا رَأَيْنَا الشَّرِيعَةَ تَنْهَى عَنْ تَحْرِيكَاتِ الطِّبَاعِ بِالرَّعُونَاتِ ، وَكَسَرَتْ الطُّبُولَ وَالْمَعَازِفَ ، وَنَهَتْ عَنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَالْمَدْحِ وَجَرِّ الْخُيَلَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يُرِيدُ الْوَقَارَ دُونَ الْخَلَاعَةِ ، فَمَا بَالُ التَّغْيِيرِ وَالْوَجْدِ ، وَتَخْرِيقِ الثِّيَابِ وَالصَّعْقِ ، وَالتَّمَاوُتِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَة ؟ وَكُلُّ مُهَيِّجٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُعَّاظِ الْمُنْشِدِينَ

مِنْ غَزَلِ الْأَشْعَارِ وَذِكْرِ الْعُشَّاقِ فَهُمْ كَالْمُغَنِّي وَالنَّائِحِ ، فَيَجِبُ تَعْزِيرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُهَيِّجُونَ الطِّبَاعَ ، وَالْعَقْلُ سُلْطَانُ هَذِهِ الطِّبَاعِ فَإِذَا هَيَّجَهَا صَارَ إهَاجَةَ الرَّعَايَا عَلَى السُّلْطَانِ أَمَا سَمِعْتَ : ( يَا أَنْجَشَةُ ) رُوَيْدَكَ سُوقًا بِالْقَوَارِيرِ وَمَا الْعِلْمُ إلَّا الْحِكْمَةُ الْمُتَلَقَّاةُ مَعَ السُّكُونِ وَالدَّعَةِ وَاعْتِدَالِ الْأَمْزِجَةِ ، أَمَا رَأَيْتَهُ عَزَلَ الْقَاضِيَ حِينَ غَضَبِهِ ، وَكَذَلِكَ يَعْزِلُ حَالَ طَرَبِهِ أَمَا سَمِعْتَ : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } .
فَأَيْنَ الطَّرَبُ مِنْ الْأَدَبِ ؟ وَاَللَّهِ مَا رَقَصَ قَطُّ عَاقِلٌ ، وَلَا تَعَرَّضَ لِلطَّرِبِ فَاضِلٌ ، وَلَا صَغَى إلَى تَلْحِينِ الشِّعْرِ إلَّا بَطِرٌ ، أَلَيْسَ بَيْنَنَا الْقُرْآنُ ؟ وَقَدْ قَالَ : طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى ، وَذَلِكَ أَنَّ بِدَايَةَ الطَّلَبِ صَعْبَةٌ فَهُوَ كَلُعْبَةِ الْمَفْطُومِ ثُمَّ يَسْتَغْنِي عَنْهَا بِقُوَّةِ النَّهِمِ فَيَدَعُ الثَّدْيَ تَقَذُّرًا وَاسْتِقْذَارًا .
وَقَالَ أَيْضًا : هَذِهِ فِتَنٌ وَمِحَنٌ دَخَلَتْ عَلَى الْعُقُولِ مِنْ غَلَبَةِ الطِّبَاعِ وَالْأَهْوَاءِ ، وَهَلْ يَحْكُم عَلَى الْعُقُولِ حَقٌّ قَطُّ ؟ وَهَلْ رَأَيْتُمْ فِي السَّلَفِ أَوْ سَمِعْتُمْ رَجُلًا زَعَقَ أَوْ خَرَقَ ؟ بَلْ سَمَاعُ صَوْتٍ وَفَهْمٌ وَاسْتِجَابَةٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّخَبُّطَ لَيْسَ مِنْ قَانُونِ الشَّرْعِ ، لَكِنْ أَمْرٌ بِخَفْضِ الصَّوْتِ وَغَضِّهِ ، وَأَمَّا التَّوَاجُدُ وَالْحَرَكَةُ وَالتَّخْرِيقُ فَالْأَشْبَهُ بِدَاعِيَةِ الْحَقِّ الْخَمُودِ ، ثَكِلْتُ نَفْسِي حِينَ أَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا أَخْشَعُ ، وَأَسْمَعُ كَلَامَ الطُّرُقِيِّينَ فَيَظْهَرُ مِنِّي الِانْزِعَاجُ ، هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطِّبَاعَ تُوَرِّثُ مَا تُورَثُ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْ طَبْعٍ فَأَهَاجَ طَبْعًا ، وَلِلْحَقِّ ثِقَلٌ ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ تَحَرُّكُ الطِّبَاعِ بِالْأَسْجَاعِ وَالْأَلْحَانِ فَإِنَّمَا هُوَ كَعَمَلِ الْأَوْتَارِ وَالْأَصْوَاتِ ، وَهَلْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ سُكْرِ الْعَقَارِ إلَّا لِمَا يُؤَدِّي

إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ وَذَكَرَ كَلَامَهُ كَثِيرًا .
وَذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَلَانِسِيِّ قَالَ : قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : إنَّ الصُّوفِيَّةَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّوَكُّلِ قَالَ : الْعِلْمُ أَجْلَسَهُمْ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ مُرَادُهُمْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا كِسْرَةُ خُبْزٍ وَخِرْقَةٌ ، فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَقْوَامًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ قِيلَ إنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ قَالَ : دَعُوهُمْ يَفْرَحُونَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً قِيلَ : فَمِنْهُمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَقَالَ : { وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } .
كَذَا رَوَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَالْمَعْرُوفُ خِلَافُ هَذَا عَنْهُ ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ عِنْدَ الْقُرْآنِ فَيَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْغَشْيِ وَالْمَوْتِ كَمَا كَانَ يَحْصُلُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، وَعَذَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَا يُخَالِفُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( فِي سُوءِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيَالِي الْمَوَاسِمِ وَالذَّهَابِ فِي أَيَّامِهَا إلَى الْمَقَابِرِ ) .
هَلْ يُسْتَحَبُّ الِاجْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ ؟ سَبَقَ قَرِيبًا مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ فِي الْفُصُولِ مِنْ كَلَامٍ عِنْدَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ وَالْكَلَامِ فِي الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً ، لَعَمْرِي إنَّمَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ وَإِيقَاظِ شَهَوَاتِهِمْ جُمُوعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، مَخَارِجُ الْأَمْوَالِ فِيهَا أَفْسَدُ الْمَقَاصِدِ ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ وَمَا فِي خِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللِّعْبِ وَالْكَذِبِ وَالْغَفْلَةِ ، مَا كَانَ أَحْوَجَ الْجَوَامِعِ أَنْ تَكُونَ مُظْلِمَةً مِنْ سَرْجِهِمْ مُنَزَّهَةً عَنْ مَعَاصِيهِمْ وَفِسْقِهِمْ ، مُرْدَانٌ وَنِسْوَةٌ وَفِسْقُ الرَّجُلِ عِنْدِي مَنْ وَزَنَ فِي نَفْسِهِ ثَمَنَ الشَّمْعَةِ فَأَخْرَجَ بِهَا دُهْنًا وَحَطَبًا إلَى بُيُوتِ الْفُقَرَاءِ وَوَقَفَ فِي زَاوِيَةِ بَيْتِهِ بَعْدَ إرْضَاءِ عَائِلَتِهِ بِالْحُقُوقِ فَكُتِبَ فِي الْمُتَهَجِّدِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحُزْنٍ ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَكَّرَ إلَى مَعَاشِهِ لَا إلَى الْمَقَابِرِ .
فَتَرْكُ الْمَقَابِرِ فِي ذَلِكَ عِبَادَةٌ يَا هَذَا اُنْظُرْ إلَى خُرُوجِكَ إلَى الْمَقَابِرِ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَفْتُ لَهُ قَالَ : " تُذَكِّركُمْ الْآخِرَةَ " مَا أَشْغَلَكَ بِتَلَمُّحِ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ فِي تِلْكَ الْجُمُوعِ لِزَرْعِ اللَّذَّةِ فِي قَلْبِكَ ، وَالشَّهْوَةِ فِي نَفْسِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْعِظَامِ النَّاخِرَةِ ، تَسْتَدْعِي بِهَا ذِكْرَ الْآخِرَةِ ؟ كَلًّا مَا خَرَجْت إلَّا مُتَنَزِّهًا ، وَلَا عُدْت إلَّا مُتَأَثِّمًا ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكَ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالْبَسَاتِينِ مَعَ الْفَرْحَةِ ، إلَّا أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي بَيْنَ الْجُدْرَانِ ، فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَقَابِرَ وَالْمَشَاهِدَ عِلَّةً فِي الِاشْتِهَارِ فَإِذَا فَعَلَ مَنْ فَطِنَ

لِقَوْلِهِ فِي رَجَبٍ وَأَمْثَالِهِ : { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } .
عَزَّ عَلَيَّ بِقَوْمٍ فَاتَتْهُمْ أَيَّامُ الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَحْظَى فِيهَا قَوْمٌ بِأَنْوَاعِ الْأَرْبَاحِ ، وَلَيْتَهُمْ خَرَجُوا مِنْهَا بِالْبَطَالَةِ رَأْسًا بِرَأْسٍ : مَا قَنَعُوا حَتَّى جَعَلُوهَا مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ خَلْسًا لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ ، وَاسْتِسْلَامِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ ، مَا بَالُ الْوُجُوهِ الْمَصُونَةِ فِي جُمَادَى هُتِكَتْ فِي رَجَبٍ بِحُجَّةِ الزِّيَارَاتِ ؟ { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ؟ { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } .
تُرَى بِمَاذَا تُحَدِّثُ عَنْك سَوَارِي الْمَسْجِدِ فِي الظُّلَمِ وَأَفْنِيَةُ الْقُبُورِ وَالْقِبَابِ بِالْبُكَاءِ وَمِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ وَالتَّذَكُّرِ لِلْآخِرَةِ يَنْظُرُ الْعَبْرَةَ ، إذَا تَحَدَّثْتُ عَنْ أَقْوَامٍ خَتَمُوا فِي بُيُوتِهِمْ الْخَتَمَاتِ وَصَانُوا الْأَهْلَ ، اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ انْسَلَّ مِنْ فِرَاشِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى الْمَسْجِدِ لَا شُمُوعَ وَلَا جُمُوعَ ، طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَانْزَوَى إلَى زَاوِيَةِ بَيْتِهِ ، وَانْتَصَبَ لِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فِي رَكْعَتَيْنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ ، فَيَالَهَا مِنْ لَحْظَةٍ مَا أَصْفَاهَا مِنْ أَكْدَارِ الْمُخَالَطَاتِ ، وَأَقْذَارِ الرِّيَاءِ غَدًا يَرَى أَهْلُ الْجُمُوعِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تَلْعَنُهُمْ وَالْمَقَابِرَ تَسْتَغِيثُ مِنْهُمْ ، يُبَكِّرُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ أَنَا صَائِمٌ ، قَدْ أَفْلَحَ عُرْسُكَ حَتَّى يَكُونَ لَك صُبْحُهُ ، قُلْ لِي يَا مَنْ أَحْيَاهُ فِي الْجَامِعِ بِأَيِّ قَلْبٍ رُحْتَ ؟ مَاتَ وَاَللَّهِ قَلْبُكَ ، وَعَاشَتْ نَفْسُكَ وَمَا أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي أَنْ يَخَافَ فِي مَوْطِنِ الْأَمْنِ وَيَظْمَأَ فِي مَقَامَاتِ الرَّيِّ .

فَصْلٌ ( فِي التَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْبَسْمَلَةِ لِكُلِّ سُورَةٍ ) .
وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ فِي الْقِرَاءَةِ ، فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَإِهْمَالٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهَا أَعَادَ التَّعَوُّذَ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا ، وَإِنْ قَطَعَهَا بِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى إتْمَامِهَا إذَا زَالَ عُذْرُهُ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ تَرَكَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهَا إذَنْ ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ ، أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى فَرَغَ سَقَطَتْ لِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ .
وَتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ : لَا يَدَعَهَا قِيلَ لَهُ : فَإِنْ قَرَأَ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا ؟ قَالَ لَا بَأْسَ فَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ أَبِي دَاوُد وَمُهَنَّا قَالَ الْقَاضِي : مَحْصُولُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَالْإِسْرَارِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَصْلِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ .
وَكَالِاسْتِعَاذَةِ وَعَنْهُ يَجْهَرُ بِهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ وَعَنْهُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ قُرْبَةً ، فَلَا يَجُوزُ .
وَقَالَ صَالِحُ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ التَّوْبَةِ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبِي : يَنْتَهِي فِي الْقُرْآنِ إلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ .
وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ الْفَضْلُ وَأَبُو الْحَارِثِ .

فَصْلٌ ( فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ ) .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينُ : مَنْ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يُشْغِلُهُمْ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ السَّحَرِ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ كُلّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا يُغَلِّطُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يُصَلُّونَ } وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدَبِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بَيْنَ مُصَلِّينَ أَوْ نِيَامٍ أَوْ تَالِينَ جَهْرًا يُؤْذِيهِمْ .

فَصْلٌ ( فِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ كُلُّ حَرْفٍ بِحَسَنَةٍ مُضَاعَفَةٍ ) .
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ ، وَلَامٌ حَرْفٌ ، وَمِيمٌ حَرْفٌ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَرْفُ التَّهَجِّي الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلِمَةِ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْقَاضِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ هَلْ يَقْرَأُ مِنْ غَيْرِهَا بِعَدَدِ الْحُرُوفِ أَوْ بِعَدَدِ الْآيَات ؟ وَقَدْ قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَاتُ فَكَانَتْ فِي إحْدَاهَا زِيَادَةُ حَرْفٍ أَنَا أَخْتَارُ الزِّيَادَةَ وَلَا يَتْرُكُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ مِثْلُ ( فَأَزَلَّهُمَا فَأَزَالَهُمَا وَوَصَّى وَأَوْصَى ) قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الزِّيَادَةَ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ .
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرُوفِ الْكَلِمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا أَوْ اصْطِلَاحًا .
وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ ، فَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرْفِ الْكَلِمَةُ لَا حَرْفُ الْهِجَاءِ كَانَ فِي أَلِفْ لَامْ مِيم تِسْعُونَ حَسَنَةً ، وَالْخَبَرُ إنَّمَا جَعَلَ فِيهَا ثَلَاثِينَ حَسَنَةً ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمَفْهُومِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ إطْلَاقِ الْحَرْفِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي ( فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ ) أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { : خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ وَهُوَ عَنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ شَاهِينَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيّ ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ ثنا صَفْوَانُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَتِيقٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } .
قَالَ ابْنُ شَاهَيْنِ : وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْكَلَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ رُوِيَ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَى مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ ذِكْرِهِ لِي ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } .
اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي انْتَهَى كَلَامُهُ .
الْحِمَّانِيُّ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَمْ أَرَ فِي أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرَ .
وَصَفْوَانُ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي الضُّعَفَاءِ : يَرْوِي مَا لَا أَصْلَ لَهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا انْفَرَدَ ، وَذَكَرُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخَبَرَيْنِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي : هَذَا مَوْضُوعُ مَا رَوَاهُ

الْأَصْفَوَانُ مَرْفُوعًا وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ { : مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ } قَالَ أَبُو النَّضْرِ : يَعْنِي الْقُرْآنَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بَكْرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَلَيْثٌ ضَعَّفَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ وَأَبُو هَمَّامٍ قَالَا ثنا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرٍ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآن عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي كِنَانَة عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ } قَوْلُهُ " غَيْرَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ " قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْقَصْدَ فِي الْأُمُورِ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ، وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ ، وَسَبَقَ هَذَا الْخَبَرُ فِي فَضَائِلِ الْقِيَامِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ .
وَعَنْ زَبَّانِ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ

الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَ فِيكُمْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِاَلَّذِي عَمِلَ بِهَذَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد زَبَّانٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَحْمَد : أَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرُ .
وَسَهْلٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ : لَا أَدْرِي أَوَقَعَ التَّخْلِيطُ مِنْهُ أَوْ مِنْ زَبَّانٍ ؟ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِهِ كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ النَّارُ لَهُمْ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : غَرِيبٌ .
وَابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ : فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ .
{ وَقَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدَّمَ شَابًّا عَلَى سَرِيَّةٍ فَقَالَ شَيْخٌ مِنْهُمْ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْهُ ، فَقَالَ : إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْكَ قُرْآنًا } وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : لَا تَسْتَعِينُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِي إلَّا بِأَهْلِ الْقُرْآنِ ، فَكَتَبُوا إلَيْهِ اسْتَعْمَلْنَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَاهُمْ خَوَنَةً ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ : لَا تَسْتَعْمِلُوا إلَّا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ خَيْرٌ .


أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14