كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قوله تعالى : { واذْكُرْ عِبادَنا } وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وابن كثير : { عبدَنا } ، إِشارة إِلى إِبراهيم ، وجعلوا إِسحاق ويعقوب عطفاً عليه ، لأنه الأصل وهما ولداه ، والمعنى : اذْكُر صبرهم ، فإبراهيم أُلقي في النار ، وإِسحاق أُضجع للذبح ، ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتُلي بفقد ولده؛ ولم يُذْكَر إِسماعيل معهم ، لأنه لم يُبْتَلَ كما ابتُلوا .
{ أُولي الأيدي } يعني القوة في الطاعة { والأبصارِ } البصائر في الدِّين والعِلْم . قال ابن جرير : وذِكْر الأيدي مَثَلٌ ، وذلك لأن باليد البطش ، وبالبطش تُعرف قُوَّة القويِّ ، فلذلك قيل للقويِّ : ذو يدٍ ، وعنى بالبصر : بصر القلب ، وبه تُنال معرفة الأشياء ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : { أُولي الأيدِ } بغير ياءٍ في الحالين . قال الفراء : ولها وجهان :
أحدهما : أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي ، فحذف الياء ، وهو صواب ، مثل الجَوارِ والمناد .
والثاني : أن يكون من القُوَّة والتأييد ، من قوله { وَأَيَّدْنَاه بِرُوحِ القُدُسِ } [ البقرة : 87 ] .
قوله تعالى : { إِنَّا أَخْلَصْناهم } أي : اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين ، فأفردناهم بمُفْرَدة من خصال الخير؛ ثم أبان عنها بقوله : { ذكرى الدار } .
وفي المراد بالدار هاهنا قولان :
أحدهما : الآخرة .
والثاني : الجنة .
وفي الذكرى قولان :
أحدهما : أنها من الذِّكْر ، فعلى هذا يكون المعنى : أَخْلَصْناهم بذِكْر الآخرة ، فليس لهم ذِكْر غيرها ، قاله مجاهد ، وعطاء ، والسدي . وكان الفُضَيل ابن عِياض رحمة الله عليه يقول : هو الخوف الدائم في القلب .
والثاني : أنها التذكير ، فالمعنى : أنهم يَدْعُون الناس إِلى الآخرة وإِلى عبادة الله تعالى . قاله قتادة .
وقرأ نافع { بخالصةِ ذِكْرَى الدَّارِ } فأضاف « خالصة » إِلى « ذِكْرَى الدار » .
قال أبو علي : تحتمل قراءة من نوَّن وجهين :
أحدهما : أن تكون « ذكرى » بدلاً من « خالصة » ، والتقدير : أخلصناهم بذكر الدار .
والثاني : أن يكون المعنى : أخلصناهم بأن يذكُروا الدَّار بالتأهُّب للآخرة ، والزُّهد في الدنيا . ومن أضاف فالمعنى : أخْلَصْناهم بإخلاصهم ذِكْرى الدَّار بالخوف منها . وقال ابن زيد : أخلصناهم بأفضل ما في الجنة .
قوله تعالى : { وإِنهم عندنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ } أي : من الذين اتخذهم اللهُ صَفْوَةً فصفَّاهم من الأدناس { الأخيارِ } الذين اختارهم .
{ واذْكُر إِسماعيلَ والْيَسَعَ وذا الكفل } أي : اذْكُرْهم بفضلهم وصبرهم لِتَسْلُكَ طريقَهم ، والْيَسَعُ نبيُّ ، واسمه أعجميّ معرَّب ، وقد ذكرناه في [ الأنعام : 85 ] وشرحنا في سورة [ الأنبياء : 85 ] قصة ذي الكفل ، وتكلمنا في [ البقرة : 125 ] في اسم إِسماعيل ، وزعم مقاتل أن إِسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم .
قوله تعالى : { هذا ذِكْرٌ } أي : شرف وثناءٌ جميل يُذْكَرون به أبداً { وإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مآبٍ } أي : حُسْنَ مَرْجِعٍ يرجعون إِليه في الآخرة .
ثم بيَّن ذلك المَرْجِع ، فقال : { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبوابُ } قال الفراء : إنما رُفعت « الأبوابُ » لأن المعنى : مفتحةً لهم أبوابُها ، والعرب تجعل الألف واللام خَلَفاً من الإِضافة ، فيقولون : مررت على رَجُلٍ حَسَنِ العَيْنِ ، وقبيح الأنف ، والمعنى : حسنةٌ عينُه قبيحٌ أنفُه ، ومنه قوله تعالى :
{ فإنَّ الجحيمَ هي المأوى } [ النازعات : 39 ] والمعنى : مأواه . وقال الزجاج : المعنى مُفتَّحة لهم الأبواب منها ، فالألف واللام للتعريف ، لا للبدل . قال ابن جرير : والفائدة في ذِكْر تفتيح الأبواب ، أن الله عز وجل أخبر عنها أن أبوابها تُفتَح لهم بغير فتح سُكَّانها لها بيد ، ولكن بالأمر ، قال الحسن : هي أبواب تَكلّم فتُكلّم : انفتحي انغلقي .
قوله تعالى : { وعِنْدَهم قاصراتُ الطَّرْفِ } قد مضى بيانه في [ الصافات : 48 ] . قال الزجاج : والأتراب : اللواتي أسنانُهُنَّ واحدةٌ وهُنَّ في غاية الشباب والحُسْن .
قوله تعالى : { هذا ما تُوعَدُونَ } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير بالياء . والباقون بالتاء .
قوله تعالى : { ليَوْمِ الحسابِ } اللام بمعنى « في » والنَّفاد : الانقطاع . قال السدي : كلَّما أُخِذ من رزق الجنة شيءٌ ، عاد مِثْلُه .
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قوله تعالى : { هذا } المعنى : هذا الذي ذكرناه { وإِنَّ لِلطّاغِينَ } يعني الكافرين { لَشَرَّ مَآبٍ } ، ثم بيَّن ذلك بقوله : { جهنَّمَ } والمِهاد : الفِراش . { هذا فَلْيذوقوه } قال الفراء : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقوه؛ وإن شئتَ جعلتَ الحميم مستأنَفاً ، كأنَّكَ قُلْتَ : هذا فلْيَذُوقوه ، ثم قلت : منه حَميمٌ ومنه غَسّاقٌ ، كقول الشاعر :
حتَّى إِذا ما أَضاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ
فأمَا الحَميم ، فهوالماء الحارّ . وأما الغَسّاق ، ففيه لغتان ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : بالتشديد ، وكذلك في [ عَمَّ يتساءلون : 25 ] ، تابعهم لمفضل في { عَمَّ يتساؤلون } ، وقرأ الباقون بالتخفيف . وفي الغَسّاق أربعة أقوال :
أحدها : الزَّمهرير ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : الغَسّاق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده .
والثاني : أنه ما يجري من صديد أهل النار ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال عطيّة ، وقتادة ، وابن زيد .
والثالث : أن الغَسّاق : عَيْنٌ في جهنَّم يسيل إِليها حُمَةُ كلِّ ذاتِ حُمَة من حَيَّة أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع ، فيؤتى بالآدميّ فيُغْمَس فيها غَمْسةً ، فيخرج وقد سقط جِلْدُه ولحمه عن العظام ، ويَجُرُّ لحمَه جَرَّ الرجُل ثوبه ، قاله كعب .
والرابع : أنه ما يَسيل من دموعهم ، قاله السدي . قال أبو عبيدة : الغَسّاق : ما سال ، يقال : غَسَقَت العين والجرح . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال : لم يكن أبو عبيدة [ يذهب ] إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب . وكان يقول : هو اتفاق يقع بين اللغتين ، وكان [ غيرُه ] يزعُم أن الغَسّاق : البارد المُنْتِن بلسان الترك . وقيل : فَعّال ، من غَسَقَ يَغْسِقُ؛ فعلى هذا يكون عربيّاً . وقيل في معناه : إِنه الشديد البّرْد يحْرِق من بَرْده . وقيل : هو ما يَسيل من جلود أهل النار من الصديد .
قوله تعالى : { وآخَرُ } قرأ أبو عمرو ، والمفضّل : { وأَخَرُ } بضم الهمزة من غير مدٍّ ، فجمعا لأجل نعته بالأزواج ، وهي جمع . وقرأ الباقون بفتح الألف ومدِّه على التوحيد ، واحتجُّوا بأن العرب تنعت الاسم إِذا كان فعلاً بالقليل والكثير؛ قال الفراء : تقول : عذابُ فلانٍ ضُروبٌ شتَّى ، وضَرْبان مختلفان؛ وإِن شئتَ جعلتَ الأزواج نعتاً للحميم والغَسّاق والآخر ، فهُنَّ ثلاثةٌ ، والأشبه أن تجعله صفة لواحد . وقال الزجاج : من قرأ « وآخرُ » بالمدِّ ، فالمعنى : وعذاب آخر { مِنْ شَكْلِهِ } أي : مِثْلِ الأول . ومن قرأ : « وأُخَرُ » فالمعنى : وأنواعٌ أُخَر ، لأن قوله : { أزواجٌ } بمعنى أنواع . وقال ابن قتيبة : « مِنْ شَكْلِهِ » أي : مِنْ نَحوِه ، « أَزْوَاجٌ » أي : أصنافٌ . وقال ابن جرير : « مِنْ شَكْلِهِ » أي : مِنْ نَحوِ الحَميم . قال ابن مسعود في قوله { وآخرُ مِنْ شَكْلِهِ } : هو الزَّمهرير . وقال الحسن : لمّا ذكر اللهُ تعالى العذابَ الذي يكون في الدنيا ، قال : « وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ » أي : وآخرَ لم يُرَ في الدنيا .
قوله تعالى : { هذا فَوْجٌ } هذا قول الزَّبانية للقادة المتقدِّمين في الكفر إِذا جاؤوهم بالأتباع . وقيل : بل هو قول الملائكة لأهل النار كلمَّا جاؤوهم بأمَّة بعد أُمَّة . والفوج : الجماعة من الناس ، وجمعه : أفواج . والمُقْتَحِمُ : الداخل في الشيء رمياً بنفسه . قال ابن السائب : إِنهم يُضْرَبونَ بالمَقامع ، فيُلْقُونَ أنفُسهم في النار ويَثِبون فيها خوفاً من تلك المقامع . فلمّا قالت الملائكة ذلك لأهل النار قالوا : لا مَرْحَباً بهم ، فاتصل الكلام كأنه قول واحد ، وإنما الأول من قول الملائكة ، والثاني : من قول أهل النار؛ وقد بيَّنّا مِثْلَ هذا في قوله { لِيَعْلَمْ أَنِّي لم أَخُنْهُ بالغَيْب } [ يوسف : 52 ] والمَرْحَبُ والرُّحْبُ : السَّعَةُ . والمعنى : لا اتَّسعت بهم مساكنُهم . قال أبو عبيدة : تقول العرب للرجل : لا مَرْحَباً [ بك ] أي : لا رَحُبَتْ عليك الأرض . وقال ابن قتيبة : معنى قولهم : « مَرْحَباً وأهْلاً » أي : أتيتَ رُحْباً ، أي : سَعَة ، وأَهْلاً ، أي : أتيتَ أهلاً لا غُرباء ، فائنس ولا تستوحش ، وسهلاً ، أي : أَتيتَ سَهْلاً لا حَزْناً ، وهو في مذهب الدُّعاء ، كما تقول : لَقِيتَ خَيْراً . قال الزجاج : و « مَرْحَباً » منصوب بقوله : رَحُبَت بلادُك مَرْحَباً ، وصادفتَ مَرْحَباً ، فأُدخلت « لا » على ذلك المعنى .
قوله تعالى : { إِنَّهم صَالُوا النّارِ } أي : داخِلُوها كما دخلْناها ، ومُقاسون حَرَّها ، فأجابهم القوم ، ف { قالوا بَلْ أنتم لا مَرْحَباً بكم أنتم قَدَّمتموه لنا } . إن قلنا : إن هذا قول الأتباع للرؤساء ، فالمعنى : أنتم زيَّنتم لنا الكفر؛ [ وإن قلنا : إنه قول الأمَّة المتأخرة للأمَّة المتقدِّمة ، فالمعنى : أنتم شرَّعتم لنا الكفر ] وبدأتم به قبلنا ، فدخلتم النار قبلنا { فبئسَ القرارُ } أي : بئس المُسْتَقَرّ والمنزل .
{ قالوا ربَّنا مَنْ قدَّم لنا هذا } أي : مَنْ سنَّه وشرعه { فزِدْهُ عذاباً ضِعْفاً في النار } وقد شرحناه في [ الأعراف : 38 ] وفي القائلين لهذا قولان .
أحدهما : أنه قول جميع أهل النار ، قاله ابن السائب .
والثاني : قول الأتباع . قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وقالوا } يعني أهل النار { ما لَنَا لا نَرَى رجالاً كُنّا نَعُدُّهم من الأشرار } قال المفسرون : إذا دخلوا النار ، نظروا فلم يَرَوْا مَنْ كان يخالفُهم من المؤمنين ، فيقولون ذلك . قال مجاهد : يقول أبو جهل في النار : أين صُهَيب ، أين عمّار ، أين خبّاب ، أين بلال؟! .
قوله تعالى : { أتَّخَذْناهم سِخْرِيّاً } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { من الأشرار اتَّخَذْناهم } بالوصل على الخبر؛ أي : [ إِنّا ] اتَّخَذْناهم . وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة . وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام . وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة . وقال الفراء : وهذا استفهام بمعنى التعجُّب والتوبيخ ، والمعنى أنهم يوبِّخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين { وسخْرِيّاً } يُقرأ بضم السين وكسرها . وقد شرحناها في آخر سورة [ المؤمنين : 110 ] { أَمْ زاغت عنهم الأبصارُ } أي : وهم مَعَنا في النار ولا نراهم؟! . وقال أبو عبيدة : « أمْ » هاهنا بمعنى « بَلْ » .
قوله تعالى : { إِنَّ ذلكَ لحَقُّ } قال الزجاج : [ أي ] : إِن الذي وصفْناه عنهم لَحَقٌّ . ثم بيَّن ما هو ، فقال : هو { تَخَصُمُ أَهْلِ النّار } وقرأ أبوالجوزاء ، وأبو الشعثاء ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : { تَخَاصُمَ } برفع الصاد وفتح الميم ، وكسر اللام من « أَهْلِ » . وقرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، وأبو المتوكل ، وابن السميفع : { تَخَاصَمَ أَهْلَ } بفتح الصاد والميم ورفع اللام .
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قوله تعالى : { قُلْ هُوَ نَبَأُ عظيمٌ } النَّبأُ : الخَبَر . وفي المشار إِليه قولان .
أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني : أنه البعث بعد الموت ، قاله قتادة ، { أنتم عنه مُعْرِضُونَ } أي : لا تتفكَّرون فيه فتعلمونَ صِدْقي في نُبوَّتي ، وأن ما جئتُ به من الأخبار عن قصص الماضين لم أَعْلَمْه إِلاّ بوحي من الله . ويدل على هذا المعنى قوله { ما كان ليَ من عِلْمٍ بالملأِ الأعلى } يعني الملائكة { إِذ يَخْتَصِمُونَ } في شأن آدمَ حين قال الله تعالى : { إِنِّي جاعلٌ في الأرض خَليفةً } [ البقرة : 30 ] ؛ والمعنى : إِنِّي ما عَلِمْتُ هذا إلاّ بوحي ، { إِنْ يُوحَى إِليَّ } أي : ما يوحى إليَّ { إلاّ أنمَّا أنا نذيرٌ } [ أي ] : إِلاّ أنِّي نبيٌّ أُنْذرِكم وأبيِّن لكم ما تأتونه وتجتنبونه .
{ إِذ قال ربُّكَ } هذا متصل بقوله : « يختصمونَ » ، وإنما اعترضت تلك الآية بينهما . قال ابن عباس : اختصَموا حين شُوورِوا في خَلْق آدم ، فقال الله لهم : { إِنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة } ، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مُناظَرةً بينهم . وفي مُناظَرتهم قولان :
أحدهما : أنه قولهم : { أتَجْعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها } [ البقرة : 30 ] ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنهم قالوا : لن يَخْلُقَ اللهُ خَلْقاً إِلاّ كُنّا أكرمَ منه وأَعْلَمَ . قاله الحسن؛ هذا قول الأكثر من المفسرين . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رأيتُ ربِّي عز وجل ، فقال لي : فيمَ يختصِم الملأُ الأعلى؟ قلت : أنتَ أَعْلَمُ يا ربّ ، قال : في الكفّارات والدرجات ، فأمّا الكفّارات ، فإسباغ الوُضوء في السَّبَرات ، ونقل الأقدام إِلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . وأمّا الدَّرَجات ، فإفشاء السَّلام ، وإِطعامُ الطَّعام ، والصَّلاةُ باللَّيل والنّاس نيام »
قوله تعالى : { أَسْتَكْبَرْتَ } أي : أَسْتَكْبَرْتَ بنفسكَ حين أبَيْتَ السُّجودَ { أَمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ } أي : من قوم يتكبَّرونَ فتكبَّرْتَ عن السُّجود لِكَونكَ من قوم يتكبَّرونَ .
قوله تعالى : { فإنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مَرْجُومٌ بالذَّمِّ واللَّعْن .
قوله تعالى : { إلى يوم الوقت المعلوم } وهو وقت النَّفخة الأُولى ، وهو حين موت الخلائق .
وقوله : { فبِعزَّتِكَ } يمين بمعنى : فوَعِزَّتِك . وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في [ الأعراف : 12 ] و [ الحجر : 34 ] وغيرهما مما تقدم .
قوله تعالى : { قال فالحَقُّ والحَقُّ أقولُ } قرأ عاصم إِلا حَسْنون عن هبيرة ، وحمزة ، وخلف ، وزيد عن يعقوب : { فالحَقُّ } بالرفع في الأول ونصب الثاني . وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد؛ قال ابن عباس في معناه : فأنا الحقُّ وأقولُ الحَقُّ؛ وقال غيره : خبر الحقِّ محذوف ، تقديره : الحَقُّ مِنِّي . وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما؛ قال الزجّاج : من رفعهما جميعاً ، كان المعنى : فأنا الحقُّ والحَقُّ أقولُ . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب فيهما . قال الفراء : وهو على معنى قولك : حَقّاً لآتِيَنَّكَ ، ووجودُ الألف واللام وطرحُهما سواءٌ ، وهو بمنزلة قولك : حمداً لله .
وقال مكّيّ بن أبي طالب : انتصب الحق الأول على الإِغراء ، أي : اتَّبِعوا الحَقَّ ، واسمَعوا والزَموا الحَقَّ . وقيل : هو نصب على القَسَم كما تقول : اللهَ لأَفْعَلَنَّ ، فتَنْصِب حين حذفتَ الجارّ ، لأن تقديره : فبالحَقّ؛ فأمّا الحَقُّ الثاني ، فيجوز أن يكون الأولَ ، وكرَّره توكيداً ، ويجوز أن يكون منصوباً ب { أقولُ } ، كأنه قال : وأقولُ الحَقَّ . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو رجاء ، ومعاذ القارىء ، [ والأعمش ] : { فالحَقِّ } بكسر القاف { والحَقَّ } بنصبها . وقرأ أبو عمران [ الجوني ] : بكسر القافين جميعاً . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو نهيك : { فالحَقَّ } بالنصب { والحَقُّ } بالرفع .
قوله تعالى : { لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ } أي : مِنْ نَفْسِكَ وذريتك .
{ قُلْ ما أسألُكم عليه من أَجْرٍ } أي : على تبليغ الوحي { وما أنا من المتكلِّفينَ } أي : لم أتكلَّف إِتيانَكم من قِبَلِ نَفْسي ، إنما أُمرتُ أن آتيَكم ، ولم أَقُل القرآنَ من تِلْقاء نفسي ، إِنما أُوحيَ إِليَّ .
{ إِنْ هُوَ } أي : ماهو ، يعني القرآن { إِلاّ ذِكْرٌ } أي : موعظة { للعالَمِين } .
{ ولَتَعْلِمُنَّ } يا معاشر الكُفّار { نَبَأَهُ } أي : خبر صِدق القرآن { بعد حينٍ } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بعد الموت .
والثاني : يوم القيامة ، رويا عن ابن عباس ، وبالأول يقول قتادة ، وبالثاني يقول عكرمة .
والثالث : يوم بدر ، قاله السدي ، ومقاتل . وقال ابن السائب : من بقي إِلى أن ظَهَرَ أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذلك ، ومن مات عَلِمَه بعد الموت . وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولا وجه لذلك .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
قوله تعالى : { تنزيلُ الكتابِ } قال الزجاج : الكتاب هاهنا القرآن ، ورفع « تنزيلُ » من وجهين .
أحدهما : الابتداء ، ويكون الخبر { مِنَ الله } ، فالمعنى : نزل من عند الله .
والثاني : على إضمار هذا تنزيلُ الكتاب؛ و { مُخْلِصاً } منصوب على الحال؛ فالمعنى : فاعبُدِ الله موحِّداً لا تُشْرِكْ به شيئاً .
قوله تعالى : { ألا للهِ الدّينُ الخالصُ } يعني : الخالص من الشِّرك ، وما سِواه ليس بِدِين الله الذي أَمر به؛ [ وقيل ] : المعنى : لا يَستحِقُّ الدِّينَ الخالصَ إِلاّ اللُهُ .
{ والذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونِه أولياءَ } يعنى آلهة ويدخُل في هؤلاء اليهودُ حين قالوا { عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ } [ التوبة : 30 ] والنصارى لقولهم { المسيحُ ابنُ الله } [ التوبة : 30 ] وجميعُ عُبَّاد الأصنام ، ويدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك { لو أرادَ اللهُ أن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ الزمر : 4 ] .
قوله تعالى : { ما نَعْبُدُهم } أي : يقولون ما نعبُدُهم { إلا لِيُقَرِّبونا إِلى الله زُلْفى } أي : إِلاّ لِيَشْفَعوا لنا إِلى الله ، والزُّلْفى : القُرْبى ، وهو اسم أُقيم مقامَ المصدر فكأنه قال : إلاّ لِيُقَرِّبونا إِلى الله تقريباً .
{ إنَّ الله يحكمُ بينهم } أي : بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين . وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولا وجه لذلك .
قوله تعالى : { إنَّ الله لا يَهْدي } أي : لا يُرْشِد { مَنْ هو كاذبٌ } في قوله إِن الآلهه تشفع { كَفَّارٌ } أي : كافر باتِّخاذها آلهة . وهذا إِخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية .
{ لو أراد اللهُ أن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ أي ] : على ما يزعم من ينسُب ذلك إِلى الله { لاصْطَفَى } أي : لاختار ممّا يخلُق . قال مقاتل : أي من الملائكة .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله تعالى : { خَلَقَ السمواتِ والأرضَ بالحَقِّ } [ أي ] : لم يخلقهما لغير شيء .
{ يُكَوِّرُ اللَّيلَ على النَّهار } قال أبو عبيدة : يُدْخِلُ هذا على هذا . قال ابن قتيبة : وأصلُ التَّكْوِير : اللَّفُّ ومنه كَوْرُ العِمامة ، وقال غيره : التَّكْويرُ طَرْحُ الشيء بعضه على بعض .
{ وسخَّر الشَّمسَ والقمر } أي ذللّهما للسَّير على ما أراد { كُلٌّ يَجْري لأَجَلٍ مسمَّى } أي : إِلى الأجَلَ الذي وقَّت اللهُ للدُّنيا . وقد شرحنا معنى العزيز في [ البقرة : 129 ] ومعنى الغفَّار في [ طه : 82 ] .
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدةٍ } يعني آدم { ثُمَّ جعَلَ منها زَوْجَها } أي : قَبْلَ خَلْقِكم جعل منها زوجها ، لأنّ حَوّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الذُّرِيَّة ، ومِثْلُه في الكلام أن تقول : قد أعطيتُكَ اليوم شيئاً ، ثُمَّ الذي أعطيتُكَ أمس أكثر؛ هذا اختيار الفراء . وقال غيره : ثم أَخبركم أنه خَلَق منها زَوْجَها . { وأَنْزَلَ لكم من الأَنعام } أي : خَلَق { ثمانيةَ أزواجٍ } ، وقد بيَّنّاها في سورة [ الأنعام : 143 ] .
{ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : نُطَفاً ثُمَّ عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عَظْماً ثم لَحْماً ، ثم أنبت الشَّعر ، إِلى غير ذلك من تقلُّب الأحوال إِلى إِخراج الأطفال ، هذا قول الجمهور . وقال ابن زيد : خَلْقاً في البُطون مِنْ بَعْدِ خَلْقِكم في ظَهْر آدم .
قوله تعالى : { في ظُلُماتٍ ثلاثٍ } ظُلْمة البَطْن ، وظُلْمة الرَّحِم ، وظُلْمة المَشيمة ، قاله الجمهور ، وابن زيد معهم . وقال أبو عبيدة : إِنها ظُلْمة صُلْب الأب ، وظُلْمة بَطْن المرأة ، وظُلْمة الرَّحِم .
قوله تعالى : { فأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : من أين تُصْرَفون عن طريق الحَقِّ بعد هذا البيان .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ إِن تكفُروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم } أي : عن إِيمانكم وعبادتكم { ولا يَرْضَى لِعباده الكُفْرَ } فيه قولان : أحدهما : لا يرضاه للمؤمِنين قاله ابن عباس .
والثاني : لا يرضاه لأحَد وإِن وقع بإرادته ، وفرقٌ بين الإِرادة والرِّضى . وقد أشرنا إِلى هذا في [ البقرة : 205 ] عند قوله : { والله لا يحب الفساد } .
{ وإِنْ تشكُروا يَرْضَهُ لَكُم } أي : يرضى ذلك الشُّكر لكم { إِنَّه عَلِيمٌ بذاتِ الصُّدور } أي : بما في القلوب .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
قوله تعالى : { وإِذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌّ } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : في عتبة بن ربيعة ، قاله عطاء .
والثاني : في أبي حذيفة بن المغيرة ، قاله مقاتل . والضُرُّ : البلاء والشِّدَّة .
{ مُنِيباً إِليه } أي : راجعاً إليه من شِركه .
{ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ } أي : أعطاه وملَّكه { نِعْمِةً منه } بعد البلاء الذي أصابه ، كالصِّحَّة بعد المرض والغنى بعد الفقر { نَسِيَ } أي : ترك ما كان يدعو إِليه ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : نسي الدُّعاء الذي كان يتضرَّع به إلى الله تعالى .
والثاني : نَسِيَ الضُّرَ الذي [ كان ] يدعو [ الله ] إٍلى كَشْفه .
والثالث : نَسِيَ الله الذي [ كان ] يتضرَّع إِليه . قال الزجّاج : وقد تَدُلُّ { ما } على الله عز وجل ، كقوله { ولا أنتمُ عابِدونَ ما أعبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقال الفراء : تَرَكَ ما كان يدعو إِليه ، وقد سبق معنى الأنداد [ البقرة : 22 ] ومعنى { لِيُضِلَّ عن سبيل الله } [ الحج : 9 ] .
قوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفرك } لفظُه لفظُ الأمر ومعناه التهديد ، ومثله { فتَمَتَّعُوا فسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 55 ] .
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قوله تعالى : { أَمَّنْ هو قانِتٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، وأبو جعفر ، والمفضل عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : { أَمَنْ } بالتخفيف؛ وقرأ الباقون : بالتشديد . فأما المشدَّدة فمعناها : أهذا الذي ذَكَرْنا خيرٌ ، أمَّن هو قانتٌ؟ والأصل في { أمَّن } : أَمْ مَنْ فأدغمت الميم في الميم . وأما المخفَّفة ، ففي تقديرها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى النداء . قال الفراء : فسَّرها الذين قرؤوا بها فقالوا : يامَنْ هو قانتٌ ، وهو وجه حسن ، والعرب تدعو بالألف كما تدعوا بياء فيقولون : يا زيدُ أَقْبِل ، وأَزَيُدْ أَقْبِل . فيكون المعنى : أنه ذَكَر النّاسيَ الكافرَ . ثمَ قصَّ قِصِّةَ الصّالح بالنِّداء ، كما تقول : فلانٌ لا يصوم ولا يصلِّي ، فيامَنْ يصوم أبْشِرْ .
والثاني : أن تقديرها : أمَّن هو قانت كمن ليس بقانت؟! .
والثالث : أمَّن هو قانت كمن جعل لله أنداداً؟! .
وقد ذكرنا معنى القُنوت في [ البقرة : 116 ] ومعنى { آناءَ اللَّيل } في [ آل عمران : 113 ] .
قوله تعالى : { ساجداً وقائماً } يعني في الصلاة . وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال .
أحدها : أنه أبو بكر الصِّدِّيق ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : عثمان بن عفان ، قاله ابن عمر .
والثالث : عمّار بن ياسر ، قاله مقاتل .
والرابع : ابن مسعود ، وعمّار وصُهَيب ، وأبو ذَرّ قاله ابن السائب .
والخامس : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة } أي : عذاب الآخرة . وقد قرأ ابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء ، وأبو عمران : { يَحْذَرُ عذابَ الآخرة } بزيادة { عذابَ } .
{ ويَرْجو رَحْمَةَ ربِّه } فيها قولان :
أحدهما : أنها المغفرة ، قاله ابن السائب .
والثاني : الجنة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { قُلْ هل يستوي الذي يَعْلَمونَ } أنَّ ما وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب حَقٌّ { والذين لا يَعْلَمونَ } وباقي الآية قد تقدم في [ الرعد : 19 ] وكذلك قوله { لِلَّذينَ أَحْسَنوا في هذه الدُّنيا حسنة } قد تقدم في [ النحل : 30 ] .
وفي قوله : { وأرضُ الله واسعةٌ } قولان .
أحدهما : أنه حَثٌّ لهم على الهِجرة من مكَّة إِلى حيث يأمنون .
والثاني : أنها أرض الجَنَّة رغَّبهم فيها .
{ إنِّما يوفَّى الصَّابرون } الذين صبروا لأجل الله تعالى على مانالهم { بغير حساب } أي : يُعْطَون عطاءً كثيراً أوسعَ من أن يُحْسَب وأعظمَ من أن يُحاطَ به ، لا على قَدْر أعمالهم .
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ } قال مقاتل : وذلك أن كُفّار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حَمَلك على الذي أتيتَنا به؟! ألا تنظُر إِلى مِلَّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية . والمعنى { قل إِنِّي أُمِرْتُ أنْ أعبُد الله مُخْلِصاً له الدِّينَ } أي : أُمِرْتُ أن أعبُدَه على التوحيد والإِخلاص السالم من الشّرك ، { وأُمِرْتُ لأَنْ أكونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ } من هذه الأُمَّة .
{ قُلْ إِنِّي أخافُ إِنْ عَصَيْتُ ربِّي } بالرجوع إلى دين آبائي ، { عذابَ يَوْمٍ عظيمٍ } وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيَّنّا في نظيرتها في [ الأنعام : 15 ] .
{ قُلِ اللهَ أعبُدُ مُخْلِصاً له دِيني } بالتوحيد ، { فاعبُدوا ماشِئتُم } ، وهذا تهديد ، وبعضهم يقول : هو منسوخ بآية السيف ، وهذا باطل ، لأنه لو كان أمراً ، كان منسوخاً ، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد ، فلا وجه لِنَسْخه .
{ قُلْ إِنَّ الخاسرينَ الذين خَسِروا أنفسُهم } بأن صاروا إِلى النار . ( و ) خسروا ( أهليهم ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم خَسِروا الحُور العين اللَّواتي أُعْدِدْنَ لهم في الجنة لو أطاعوا ، قاله الحسن وقتادة .
والثاني : خَسِروا الأهل في النَّار ، إِذ لا أهَل لهم فيها ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثالث : خَسِروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا ، إِذ صاروا إلى النار بكُفرهم ، وصار أهلوههم إِلى الجَنَّة بإيمانهم ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : { لهم مِنْ فَوقهم ظُلَلٌ مِنَ النّار } وهي الأطباق من النار . وإِنما قال : { ومِنْ تحتهم ظُلَلٌ } لأنَّها ظُلَلٌ لِمَنْ تحتَهم ( ذلك ) الذي وصف اللهُ من العذاب { يُخَوِّفُ اللهُ به عباده } المؤمنين .
قوله تعالى : { والذين اجتَنَبوا الطّاغوتَ } روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نَفَرٍ كانوا في الجاهلية يوحِّدون الله تعالى : زيدِ ابن عمرو بن نُفَيل ، وأبي ذَرّ ، وسلمان الفارسي ، رضى الله عنهم؛ قال { أولئك الذين هداهم اللهُ } بغير كتاب ولا نبيّ .
وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : الشياطين ، قاله مجاهد .
والثاني : الكهنة ، قاله ابن السائب .
والثالث : الأوثان ، قاله مقاتل ، فعلى قول مقاتل هذا إنما قال : « يعبُدوها » لأنها مؤنَّثة . وقال الأخفش : إنما قال : « يعبُدوها » لأن الطّاغوت في معنى جماعة ، وإن شئتَ جعلتَه واحداً مؤنَّثاً . قوله تعالى : { وأنابوا إِلى الله } أي : رجَعوا إِليه بالطّاعة { لهم البُشْرى } بالجنة { فبَشِّر عبادي } بباءٍ ، وحرَّك الياء أبوعمرو .
ثم نعتهم فقال { الذين يستمِعونَ القول } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : [ أنه ] القرآن ، قاله الجمهور . فعلى ، هذا في معنى { فيَتَّبعونَ أحسنه } أقوال . قد شرحناها في [ الأعراف : 145 ] عند قوله { وأمُرْ قَوْمَكَ يأخُذوا بأحسنها } .
والثاني : أنه جميع الكلام . ثم في المعنى قولان :
أحدهما : [ أنه الرَّجُل ] يَجْلِس مع القوم فيَسْمَع كلامهم ، فيَعمل بالمحاسن ويحدِّث بها ، ويَكُفُّ عن المساوىء ولايُظْهِرها ، قاله ابن السائب .
والثاني : [ أنه ] لمّا ادَّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن ، وأتت الكهنة بالكلام المزخرَف في الأباطيل ، فرَّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله ، فاتَّبَعوا كلامَ الله ، ورفضوا أباطيل أولئك . قاله أبو سليمان الدمشقي .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عليه كَلِمَةُ العذابِ } قال ابن عباس : سبق في عِلْم الله أنَّه في النّار .
فإن قيل : كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟
قيل : أمّا الفراء ، فإنه يقول : هذا ممّا يُراد به استفهام واحد ، فسبق الاستفهامُ إِلى غير موضعه فَرُدّ إِلى موضعه الذي هو له ، فيكون المعنى : أفأنتَ تُنْقِذ مَنْ في النارِ مَنْ حَقَّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله { أَيَعِدُكُمْ أَتَّكُمْ إِذا مِتُّم وكُنْتُم تُرَاباً وعِظاماً أَنَّكُم مُخْرَجُون } [ المؤمنون : 35 ] فرَدّ { أنَّكُْ } مرتين ، والمعنى : أَيَعِدُكُم أنكم مُخْرَجون إِذا مِتُّم؟ ومثله { لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بما أَتَوْا } [ آل عمران : 188 ] ثم قال { فلا تَحْسَبَنَّهُمْ } [ آل عمران : 188 ] فرَدَّ « تَحْسَبَنَّ » مرتين ، والمعنى : لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمفازة من العذاب . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في الكلام محذوف ، تقديره : أفمن حَقَّ عليه كلمةُ العذاب فيتخلَّص منه أو ينجو ، أفأنت تنقذه؟ قال المفسِّرون : أفأنت تخلّصه ممّا قُدِر له فتجعله مؤمناً؟ والمعنى : ما تقدر على ذلك . قال عطاء : يريد بهذه الآية : أبا لهب وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان .
قوله تعالى : { لكِن الذين اتَّقَوا } وقرأ أبو المتوكل ، وأبوجعفر : { لكِنَّ } بتشديد النون [ وفتحها ] قال الزجاج : والغُرَف هي : المنازل الرفيعة في الجنة ، { مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ } أي : منازل أرفع منها .
{ وَعْدَ اللهِ } منصوب على المصدر؛ فالمعنى : وعَدَهم اللهُ غُرَفاً وَعْداً . ومن قرأ : « وَعْدُ الله » بالرفع؛ فالمعنى : ذلك وَعْدُ اللهِ .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
قوله تعالى : { أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً } قال الشعبي : كُلُّ مافي الأرض فمن السَّماء ينزل { فسَلَكَه يَنابيعَ } قال ابن قتيبة : أي : أدَخَلَه فجعله ينابيعَ ، أي : عُيوناً تَنْبُعُ ، { ثًمَّ يَهيجُ } أي : يَيْبَسُ . قال الأصمعي : يقال للنَّبت إِذا تَمَّ جَفافُه : قد هاجَ يَهِيجُ هَيْجاً .
فأمّا الحُطام ، فقال أبو عبيدة : هو ما يَبِسَ فتَحاتَّ من النَّبات ، ومثله الرُّفات . قال مقاتل : هذا مَثَلَ ضُرب الدُّنيا ، بينا ترى النبت أخضر ، إذ تغيَّر فَيبِسَ ثُمَّ هَلَكَ ، وكذلك الدُّنيا وزينتُها . وقال غيره : هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عز وجل .
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قوله تعالى : { أفمَنْ شَرَحَ اللهُ صدره } قال الزجاج : جوابه متروك ، لأنَّ الكلام دالٌّ عليه ، تقديره : أفمن شَرَحَ اللهُ صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَد؟ ويُدلُّ على هذا قوله { فوَيْلٌ للْقاسية قلوبُهم } ؛ وقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ، فقلنا : يا رسول الله وما هذا الشَّرْحُ؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله { فمَنْ يُرِدِ الهُ أن يُهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للاسلامِ } [ الأنعام : 125 ] .
قوله تعالى : { فهُوَ على نُورٍ } فيه أربعة أقوال .
أحدها : اليقين ، قاله ابن عباس .
والثاني : كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه ، قاله قتادة .
والثالث : البيان ، قاله ابن السائب .
والرابع : الهُدى ، قاله مقاتل .
وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق وأًبيّ بن خَلَف . رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : في عليّ وحمزة وأبي لهب و وولده قاله عطاء .
والثالث : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فوَيْلٌ للقاسية قُلوبُهم من ذِكْر الله } قد بيَّنّا معنى القساوة في [ البقرة : 74 ] .
فإن قيل : كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عز وجل؟
فالجواب : أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به ، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به . وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ { مِنْ } هاهنا بمعنى « عَنْ » ، قال الفراء : كما تقول : أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه ، ومِنْ طعام أكلتُه؛ وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله ، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم؛ ومن قال : قَسَت قلوبُهم عنه ، أراد : أَعرضتْ عنه . و [ قد ] قرأ أُبيُّ ابن كعب ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمران : { قُلوبُهم عن ذِكْر الله } مكان قوله { ِمنْ } .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قوله تعالى : { اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحديث } يعني القرآن ، وقد ذكرنا سبب نزولها في أول ( يوسف ) .
قوله تعالى : { كتاباً متشابهاً } فيه قولان :
أحدهما : أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف ، فالآية تُشْبِه الآية ، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة ، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ .
والثاني : أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً ، فليس فيه اختلاف ولا تناقض .
وإنما قيل له : { مَثانيَ } لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب .
فإن قيل : ما الحكمة في تكرار القصص ، والواحدة قد كانت تكفي؟
فالجواب : أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن ، فيكون ذلك كافياً لهم ، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة ، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة ، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم ، وقصةُ عيسى إِلى قوم ، وقصةُ نوح إِلى قوم ، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع ، فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد ، كقوله { فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبان } [ الرحمن ] ، وقوله : { لا أعبدُ ما تعبُدونَ } [ الكافرون ] وقوله { أَوْلَى لَكَ فأَوْلًى } [ القيامة : 34 35 ] { وما أدراك ما يومُ الدّينِ } [ الانفطار : 17 18 ] فسنذكرها في سورة { الرحمن } عز وجل .
قوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ منهُ جلودُ الذين يَخْشَوْنَ ربِّهم } أي : تأخذُهم قشعريرة ، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل . وروى العباس ابن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من خَشْية الله ، تَحاتَّتْ ذُنوبُه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقُها »
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : تَقْشَعِرُّ من وَعيده ، وتَلين عندَ وعْده ، قاله السدي .
والثاني : تَقْشَعِرُّ من الخَوْف ، وتَلِينُ من الرَّجاء .
والثالث : تَقْشَعِرُّ الجُلود لإِعظامه ، وتَلِينُ عند تلاوته ، ذكرهما الماوردي .
وقال بعض أهل المعاني : مفعول الذِّكْر في قوله { إِلى ذِكْر اللهِ } محذوف ، لأنه معلوم؛ والمعنى : تَطْمَئنُّ قلوبُهم إِلى ذِكْر اللهِ الجنةَ والثوابَ . قال قتادة : هذا نَعْتُ أولياء الله ، تقشَعِرُّ جلودُهم [ وتَلِينُ قلوبُهم ] ، ولم يَنْعَتْهم بذَهاب عُقولهم والغِشْيان عليهم ، إنَّما هذا في أهل البِدَع . وهذا من الشَّيطان . وقد روى أبو حازم ، قال : مَرَّ ابنُ عمر برجُل ساقط من أهل العراق ، فقال : ما شأنُه؟ فقالوا : إنه إذا قرىء عليه القرآن يُصيبه هذا . قال : إِنّا لنَخشى اللهَ عزّ وجلّ ، وما نَسْقُط . وقال عامر بن عبد الله بن الزبير : جئتُ أبي ، فقال لي : أين كنتَ؟ فقلت : وجدتُ قوماً ، ما رأيت خيراً منهم قَطٌّ ، يذكُرون الله عز وجل فيُرعَد واحدهم حتى يُغْشَى عليه من خَشْية الله عز وجلّ ، فقعدتُ معهم ، فقال : لا تقعُد معهم بعدها [ أبداً ] . قال : فرآني كأني لم يأخذ ذلك فيَّ فقال : رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ، ورأيتُ أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يُصيبُهم هذا من خَشْية الله تعالى ، أفتَرَى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر ، قال : فرأيت ذلك كذلك .
وقال عكرمة : سُئلتْ أسماءُ بنت أبي بكر : هل كان أحد من السَّلَف يُغشى عليه من الخوف؟ قالت : لا ، ولكنهم كانوا يبكون . وقال عبد الله بن عروة بن الزبير : قلت لجَدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم اللهُ تعالى ، تَدْمَعْ أعيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جلودهم . فقلت لها : إِنَّ ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن ، خَرَّ أحدُهم مَغْشِيّاً عليه؟ فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وكان جَوّاب يُرْعَدُ عند الذِّكْر ، فقال له إبراهيم النخعي : إن كنت تملكه ، فما أُبالي أن لا أعتدَّ بك ، وإن كنتَ لا تملكه ، فقد خالفتَ من كان قبلك .
قوله تعالى : { ذلك هُدى الله } في المشار إِليه قولان .
أحدهما : أنه القرآن ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه ما يَنْزِلُ بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد ، ولينها عند الوعد ، قاله ابن الأنباري .
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قوله تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بوجهه سُوءَ العذاب } أي : شِدَّتَه . قال الزجاج : جوابه محذوف ، تقديره : كَمَنْ يدخُل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً ، ولا يتهيَّأ له أن يتَّقيَها إلاّ بوجه .
ثم أخبر عمّا يقول الخَزَنة للكفار بقوله { وقيل للظالِمِين } يعني الكافرين { ذُوقوا ما كنتم تَكْسِبونَ } أي : جزاء كَسْبِكم .
قوله تعالى : { كذَّب الذين مِنْ قَبْلهم } أي : من قبْل كفار مكة { فأتاهم العذاب من حيث لا يَشْعُرون } أي : وهم آمنون غافلون عن العذاب ، { فأذاقهم اللهُ الخِزْيَ } يعني الهوان والعذاب ، { ولَعذابُ الآخرة أكبرُ } ممّا أصابهم في الدنيا { لو كانوا يَعْلَمونَ } ، ولكنهم لا يعلمون ذلك .
{ ولقد ضَرَبْنا للناس في هذا القرآن } أي : وَصَفْنا لهم { مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي : من كل شبه يشبه أحوالهم .
قوله تعالى : { قُرآناً عربياً } قال الزجاج : « عربياً » منصوب على الحال ، المعنى : ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه ، فذكر { قرآنا } توكيداً ، كما تقول جاءني زيد رجلاً صالحاً . وجاءني عمرو إِنساناً عاقلاً ، فذكر رجلاً وإنساناً توكيداً .
قوله تعالى : { غَيْرَ ذي عِوَجٍ } روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : غير مخلوق . وقال غيره : مستقيم غير مختلف .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قوله تعالى : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً } ثم بيَّنه فقال : { رجُلاً فيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ } قال ابن قتيبة : أي : مختلِفون ، يَتَنازعُون ويَتَشاحُّون فيه ، يقال : رجُلٌ شَكِسٌ . وقال اليزيدي : الشَّكسِ من الرجال : الضَّيِّق الخُلُق .
قال المفسِّرون : وهذا مَثَل ضربه اللهُ للمؤمِن والكافر ، فإن الكافر يعبُد آلهةً شتَّى فمثَّله بعبدٍ يملكه جماعة يتافسون في خدمته ، ولا يقدرون أن يبلُغ رضاهم أجمعين؛ والمؤمن يعبُد اللهَ وحده ، فمثَّله بعبدٍ لرجل واحد ، قد عَلِم مقاصدَه وعَرَفَ الطريق إلى رضاه ، فهو في راحة من تشاكس الخُلَطاء فيه ، فذلك قوله : { سالِماً لرجُل } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو إٍِلاّ عبد الوارث في غير رواية القزَّاز ، وأبان عن عاصم { ورجُلا سالِماً } بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما؛ والمعنى : ورجُلاً خالصاً لرجُل قد سَلِم له من غير مُنازِع . ورواه عبد الوارث إلاّ القزاز كذلك ، إلاّ أنه رفع الاسمين ، فقال : « ورجُلٌ سالِمٌ لرجُلٍ . وقرأ ابن أبي عبلة { سِلْمُ لِرَجُلٍ } بكسر السين ورفع الميم . وقرأ الباقون : { ورجُلاً سَلَماً } بفتح السين واللام [ وبالنصب ] فيهما والتنوين . والسَّلَم ، بفتح السين واللام ، معناه الصُّلح ، والسِّلم ، بكسرِ السين مثله . قال الزجاج : من قرأ : » سِلْماً « و » سَلْماً « فهما مصدران وُصِفَ بهما ، فالمعنى : ورجُلاً ذا سِلْمٍ لرجُل وذا سَلْمٍ لرجُل؛ فالمعنى : ذا سِلْم؛ والسَّلْم : الصُّلح ، والسِّلْم ، بكسر السين مِثْلُه . وقال ابن قتيبة : [ من قرأ ] { سَلَماً لِرَجُلٍ } أراد : سلَّم إليه فهو سِلْمٌ له . وقال أبو عبيدة : السِّلْم والسَّلم الصُّلح .
قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً } هذا استفهام معناه الإِنكار ، أي : لا يستويان ، لأن الخالص لمالك واحدٍ يَستحقُّ من معونته وإِحسانه ما لا يستحقُّه صاحب الشُّركاء المتشاكسين . وقيل : لا يستويان في باب الرّاحة ، لأنه هذا قد عرف الطريق إِلى رضى مالكه ، وذاك متحيّر بين الشُّركاء . قال ثعلب : وإِنما قال { هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً } ولم َيُقْل : مَثَلَيْنِ ، لأنهما جميعاً ضُرِبا مَثَلاً واحداً ، ومِثْلُه : { وجَعَلْنا ابْن مَريمَ وأُمَّه آيةً } [ المؤمنون : 50 ] ، ولم يَقُلْ : آيتين ، لأن شأنهما واحد ، وتم الكلام هاهنا . ثم قال : { الحمدُ لله } أي : له الحمد دون غيره من المعبودِين { بَلْ أكثرُهم لا يَعْلَمونَ } والمراد بالأكثر الكُلّ .
ثم أخبر نبيَّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت ، وأن الذين يكذِّبونه يموتون ، وأنهم يجتمعون للخُصومة عند الله عز وجل ، المُحِقُّ والمُبطلُ ، والمظلومُ والظالمُ . وقال ابن عمر : نزلتْ هذه الآية وما ندري ما تفسيرها ، وما نرى أنها نزلتْ إلاّ فينا وفي أهل الكتابين ، حتى قُتِل عثمان ، فعرفتُ أنها فينا نزلتْ وفي لفظ آخر : حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ على اللهِ } بأن دعا له ولداً وشريكاً { وكذَّبَ بالصِّدْق إِذْ جاءَهُ } وهو التوحيد والقرآن { ألَيْسَ في جهنَّمَ مَثْوىً للكافِرِينَ } أي : مَقَامٌ للجاحِدِين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير ، يعني : إِنه كذلك .
قوله تعالى : { والَّذي جاءَ بالصِّدْقِ } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد . ثم في الصِّدق الذي جاء به قولان :
أحدهما : أنه « لا إله إلا الله » ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال [ سعيد ] بن جبير . والثاني : [ أنه ] القرآن ، قاله قتادة . [ وفي الذي صدَّق به ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ، هو جاء بالصِّدق ، وهو صدَّق به ، قاله ابن عباس ، والشعبي .
والثاني : أنه أبو بكر ، قاله علي بن أبي طالب .
والثالث : أنهم المؤمنون ، قاله قتادة ] ، والضحاك ، وابن زيد .
والقول الثاني : [ أن ] الذي جاء بالصِّدق : أهل القرآن ، وهو الصِّدق الذي يُجيبونَ به يوم القيامة ، وقد أدّوا حَقّه ، فَهُم الذين صدَّقوا به ، قاله مجاهد .
والثالث : أن الذي جاء بالصِّدق الأنبياء ، قاله الربيع ، فعلى هذا ، يكون الذي صدَّق به : المؤمِنون .
والرابع : أن الذي جاء بالصِّدق : جبريل ، وصدَّق به : محمد ، قاله السدي .
قوله تعالى : { أولئك هُمُ المُتَّقُونَ } أي : الذين اتَّقّوْا الشرك؛ وإِنما قيل : « هُم » ، لأن معنى « الذي » معنى الجمع ، كذلك قال اللغويون ، وأنشد أبو عبيدة ، والزجاج :
فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ ، كُلُّ القَوْمِ ، يا أُمَّ خالِدِ
قوله تعالى : { لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهم } المعنى : أعطاهم ماشاؤوا ليكفِّر عنهم { أَسوأَ الذي عَملوا } ، أي : لِيَسْتُر ذلك بالمغفرة { وَيجْزِيَهم أَجرهم } بمحاسن أعمالهم لا بمساوئها .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله تعالى : { أَلَيْس اللهُ بكافٍ عَبْدَهُ } ذكر المفسِّرون أن مشركي مكة قالوا : يا محمد ، ما تزال تذكرُ آلهتنا وتَعِيبُها ، فاتَّق أن تصيبك بسوءٍ ، فنزلت هذه الآية . والمراد بعبده هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم .
وقرأ حمزة ، والكسائي : { عِبَادَهُ } على الجمع ، وهم الأنبياء ، لأن الأمم قصدتْهم بالسُّوء؛ فالمعنى : أنه كما كفى الأنبياءَ قَبْلَكَ ، يكفيك . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عمران الجوني : { بِكافي } مثبتة الياء « عَبْدِهِ » بكسر الدال والهاء من غير ألف . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو العالية ، وأبو الجوزاء ، والشعبي مِثْلَه ، إِلاّ أنهم أثبتوا الألف في { عِبادِهِ } . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش : { بِكافٍ } بالتنوين ، { عِبادَهُ } على الجمع . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء العطاردي : { يُكافِيْ } بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء { عِبادَهُ } على الجمع .
{ وُخَوِّفونَكَ بالذين مِنْ دونِهِ } أي : بالذين يَعْبُدون مِن دونِهِ ، وهم الأصنام .
ثُمَّ أَعْلَمَ بما بعد هذا أن الإِضلال والهداية إليه تعالى ، وأنه منتقم ممن عصاه ، ثم أخبر أنهم مع عبادتهم ، يُقِرُّونَ أنه الخالق . ثم أمر أن يُحْتَج عليهم بأن ما يعبُدون لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ ولا جَلْبَ خَيْرِ .
وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : { كاشفاتٌ ضُرَّه } و { ممسكاتٌ رحمته } منوَّناً . والباقون : { كاشفاتُ ضُرِّه } و { ممسكاتُ رحمتِه } على الإِضافة .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قوله تعالى : { قل يا قوم اعملوا } ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نُسخت بآية السيف .
قوله تعالى : { إِنّا أَنْزَلْنا عليكَ الكتابَ } يعني القرآن { للناس } أي : لجميع الخَلْقِ { بالحَقِّ } ليس فيه باطل . وتمام الآية مفسَّر في آخر [ يونس : 108 ] ، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف .
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قوله تعالى : { اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتها } أي : يَقْبِضُ الأرواحَ حين موت أجسادها { والَّتي لَمْ تَمُتْ } أي : ويتوفَّى التي لَمْ تَمُتْ { في منامها } .
{ فيُمْسِكُ } أي : عن الجسد [ والنفس ] { التي قضى عليها الموت } وقرأ حمزة ، والكسائي : { قُضِيَ } بضم القاف وفتح الياء ، { الموتُ } بالرفع .
{ ويُرْسِلُ الأُخرى } إِلى الجسد { إٍلى أَجَلٍ مُسَمّىً } وهو انقضاءُ العُمُر { إنَّ في ذلك لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ } في أمر البعث ، وروى [ سعيد ] بن جبير عن ابن عباس قال : تلتقي أرواح الأحياء وأرواحُ الأموات في المنام ، فيتعارفون ويتساءلون ، ثم تُرَدُّ أرواحُ الأَحياءِ إلى أجسادها ، فلا يُخطأُ بشيء منها ، فذلك قوله : { إِن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } وقال ابن عباس في رواية أخرى : في ابنِ آدم نَفْسٌ وروحٌ ، فبالنَّفس العقلُ والتمييزُ ، وبالرُّوح النَّفَس والتحريك ، فإذا نام العبدُ ، قَبَضَ اللهُ نَفْسَه ولم يَقْبِض روحه وقال ابن جريج : في الإِنسان روح ونَفْسٌ ، بينهما حاجز ، فهو تعالى يَقْبِضُ النَّفْسَ عند النَّوم يَرُدُّها إِلى الجسد عند الانتباه ، فإذا أراد إِماتةَ العبد في نومه ، لم يَرُدَّ النَّفْسَ وقَبَض الرُّوح .
وقد اختلف العلماء ، هل بين النَّفْس والرُّوح فَرْقٌ؟ على قولين قد ذكرتُهما في « الوجوه والنظائر » ، وزدتُ هذه الآية شرحاً في باب التوفّي في كتاب « النظائر » ، وذهب بعض العلماء إِلى أَن التوفيّ المذكور في حق النّائم هو نَوْمُه ، وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري؛ فعلى هذا ، يكون معنى توفّي النائم : قبضُ نَفْسِه عن التصرُّف ، وإِرسالُها : إِطلاقُها باليَقَظَة للتصرُّف .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذوا } يعني كُفَّارَ مكَّةَ .
وفي المراد بالشُّفعاءِ قولان :
أحدهما : أنَّها الأصنام ، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم ، قاله الأكثرون .
والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل .
{ قُلْ أولَو كانوا لا يَمْلِكونَ شيئاً } من الشفاعة { ولا يَعْقِلونَ } أنَّكم تعبُدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف ، تقديره : أوَلَو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم .
{ قُلْ لله الشَّفاعةُ جميعاً } أي : لا يَمْلِكُها أَحَدٌ إِلاّ بتمليكه ، ولا يشفع عنده أَحَدٌ إلاّ بإذنه .
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
قوله تعالى : { وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشمأزَّتْ قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : انقبضتْ عن التوحيد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : استكبرتْ ، قاله قتادة . والثالث : نَفَرتْ ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج .
قوله تعالى : { وإِذا ذُكِرَ الذين مِنْ دُونِه } يعني الأصنام { إذا هُمْ يَسْتَبْشِرونَ } يفرحون . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ الأنعام : 14 73 ] [ البقرة : 113 ] [ الرعد : 18 ] إِلى قوله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يَحْتَسِبون } . قال السدي : ظَنَّوا أنّ أعمالَهم حسناتٍ ، فبدت لهم سيئات . وقال غيره : عَمِلوا أعمالاً ظنُّوا أنَّها تنفعُهم ، فلم تنفع مع شِركهم . قال مقاتل : ظهر لهم حين بُعثوا مالم يحتَسِبوا أنَّه نازلٌ بهم؛ فهذا القول يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّهم كانوا يرجون القُرْبَ من الله بعبادة الأصنام ، فلمّا عُوقِبوا عليها ، بدا لهم ما لم يكونوا يحتَسِبون .
والثاني : أنَّ البعثَ والجزاءَ لم يكن في حسابهم ، وروي عن محمد بن المنكدر أنه جَزِع عند الموت وقال : أخشى هذه الآية أن يبدو لي مالا أحتَسِب .
قوله تعالى : { وحاقَ بهم } أي : نزل بهم { ما كانوا به يستهزؤنَ } أي : ما كانوا يُنْكِرونه ويكذِّبون به .
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قوله تعالى : { فإذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌ دعانا } قال مقاتل : هو أبو حذيفة ابن المغيرة ، وقد سبق في هذه السورة نظيرها [ الزمر : 8 ] وإنما كنّى عن النِّعمة بقوله { أُوتيتُه } ، لأن المراد بالنِّعمة : الإنعام .
{ على عِلْمٍ } عندي ، أي : على خيرٍ عَلِمَهُ اللهُ عندي . وقيل : على عِلْمٍ مِنَ الله بأنِّي له أهلٌ ، قال الله تعالى : { بل هي } يعني النِّعمة التي أنعم [ اللهُ ] عليه بها { فِتْنَةٌ } أي : بلوى يُبْتَلى بها العبدُ لِيَشْكُرَ أو يكفُر ، { ولكنَّ أكثرهم لا يَعْلَمونَ } أن ذلك استدراج لهم وامتحان . وقيل : « بل هي » أي : المقالة التي قالها فتنةٌ .
{ قد قالها } يعني تلك الكلمة ، وهي قوله : { إِنما أُوتيتُة على عِلْمٍ } { الذين مِنَ قَبْلِهم } وفيهم قولان :
أحدهما : أنَّهم الأًمم الماضية ، قاله السدي .
والثاني : قارون ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فما أغنى عنهم } أي : ما دفع عنهم العذاب { ما كانوا يَكْسِبونَ } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : من الكفر .
والثاني : من عبادة الأصنام .
والثالث : من الأموال .
{ فأصابهم سيِّئاتُ ما كسَبوا } أي : جزاءُ سيِّئاتهم ، وهو العذاب .
ثم أوعد كُفَّار مكَّة ، فقال : { والذين ظَلَموا مِنْ هؤلاء سيُصيبُهم سيِّئاتُ ما كسَبوا وما هم بمُعْجِزينَ } أي : إِنهم لا يُعْجِزونَ الله ولا يَفوتونه .
قال مقاتل : ثم وعظهم لِيَعْلَموا وحدانيتَّه حين مُطِروا بعد سبع سنين ، فقال : { أوَلَم يَعْلَموا أنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزق لِمَنْ يشاءُ ويَقْدِرُ إن في ذلك } أي : في بَسْطِ الرِّزق وتقتيره { لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنونَ } .
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
قوله تعالى : { قُلْ ياعباديَ الذين أَسْرَفوا على أنفُسهم } في سبب نزولها أربعة أقوال :
أحدها : أن ناساً من المشركين كانوا قد قَتَلُوا فأكثَروا ، وزَنَوْا فأكثَروا ، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إِنّ الذي تدعو إِليه لَحَسَنٌ ، لو تُخْبِرُنا أنّ لِما عَمِلْنا كفّارةً ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في عَيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونَفَرٍ من المسلمين كانوا قد أسلموا ، ثم عُذِّبوا فافتُتِنوا ، فكان أصحاب رسول الله يقولون : لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ هؤلاء صَرْفاً ولا عَدْلاً ، قومُ تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه! فنزلت هذه الآية ، فكتبها عمر إلى عَيّاش والوليد وأولئك النَّفَر ، فأسلموا وهاجروا؛ وهذا قول ابن عمر .
والثالث : أنها نزلتْ في وحشي ، وهذا القول ذكرناه مشروحاٍ في آخر [ الفرقان : 68 ] عن ابن عباس .
والرابع : أنَّ أهل مكَّةَ قالوا : يزعُم محمدٌ أنَّ مَنْ عَبَدَ الأوثانَ وقَتَلَ النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ لم يُغْفَر له ، فكيف نُهاجِر ونُسْلِم وقد فَعَلْنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية؛ وهذا مرويُّ عن ابن عباس أيضاً .
ومعنى { أَسْرَفوا على أنفسهم } ارتكَبوا الكبائر ، والقنوط بمعنى اليأس . { وأَنيبوا } بمعنى ارجِعوا إِلى الله من الشِّرك والذًّنوب ، { وأسلِموا له } أي : أخِلصوا له التوحيد . و { تُنْصَرون } بمعنى تُمْنَعون .
{ واتَّبِعوا أحسن ما أُنزل إِليكم } قد بيَّنّاه في قوله { يأخُذوا بأحسنها } [ الأعراف : 145 ] .
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
قوله تعالى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } قال المبرِّد : المعنى : بادِروا قَبْلَ أن تقول نَفْسٌ ، وحَذَراً من أن تقول نَفْسٌ . وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول . ومعنى { يا حسرتا } يا ندامتا ويا حزنا . والتحسُّر : الاغتمام على ما فات . والألِف في { يا حسرتا } هي ياء المتكلم ، والمعنى : يا حسرتي على الإِضافة . قال الفراء : والعرب تحوِّل الياء إلى الألِف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدُّعاء ، وربما أدخلت العربُ الهاء بعد هذه الألف ، فيَخْفِضونها مَرَّةً ، ويرفعونها أخرى . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو الجوزاء : { يا حسرتي } بكسر التاء ، على الإِضافة إِلى النَّفْس . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو جعفر : { يا حسرتايَ } بألف بعد التاء وياء مفتوحة . قال الزجاج : وزعم الفراء أنه يجوز « يا حسرتاهَ على كذا » بفتح الهاء ، و « يا حسرتاهُِ » بالضم والكسر ، والنحويّون أجمعون لا يُجيزون أن تُثْبَتَ هذه الهاءُ مع الوصل .
قوله تعالى : { في جَنْبِ الله } فيه خمسة أقوال :
أحدها : في طاعة الله تعالى ، قاله الحسن .
والثاني : في حق الله ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : في أمْر الله ، قاله مجاهد ، والزجاج .
والرابع : في ذِكْر الله ، قاله عكرمة ، والضحاك .
والخامس : في قٌرْب الله؛ روي عن الفراء أنه قال : الجَنْب : القُرْب ، أي : في قُرْب الله وجِواره؛ يقال : فلان يعيش في جَنْبِ فلان ، أي : في قُرْبه وجواره؛ فعلى هذا يكون المعنى : [ على ] ما فرَّطْتُ في طلب قُرْب الله تعالى ، وهو الجنة .
قوله تعالى : { وإِنْ كنتُ لَمِن السّاخِرِينَ } أي : وما كنتُ إِلاّ من المستهزِئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدُّنيا .
{ أوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني } أي : أرشَدني إِلى دينه { لكنتُ من المُتَّقِينَ } الشِّرك؛ فيقال لهذا القائل : { بلى قد جاءتك آياتي } قال الزجاج : و « بلى » جواب النفي ، وليس في الكلام لفظ النفي ، غير أن معنى { لو أن الله هداني } ما هُديتُ ، فقيل : « بلى قد جاءتك آياتي » . وروى ابن أبي سريج [ عن الكسائي ] { جاءتكِ } { فكذَّبْتِ } ، { واسْتَكْبَرْتِ } { وكُنْتِ } ، بكسر التاء فيهنّ ، مخاطَبة للنفْس ومعنى « اسْتَكْبَرْتَ » : تكبَّرتَ عن الإِيمان بها .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله تعالى : { ويومَ القيامة تَرَى الذين كَذَبوا على الله } فزعموا أن له ولداً وشريكاً { وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ } . وقال الحسن : هم الذين يقولون : إن شئنا فَعَلْنا ، وإِن شئنا لم نَفْعَل ، وباقي الآية قد ذكرناه آنفا [ الزمر : 32 ] .
قوله تعالى : { ويُنَجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا بمفازتهم } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { بمفازاتهم } قال الفراء : وهو كما قد تقول : قد تبيَّن أمرُ القوم وأمورهم ، وارتفع الصوت والأصوات ، والمعنى واحد . وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال :
أحدها : بفضائلهم ، قاله السدي .
والثاني : بأعمالهم ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثالث : بفوزهم من النار .
قال المبرِّد : المَفازة : مَفْعَلة من الفوز ، وإن جُمع فحسن ، كقولك : السعادة والسعادات ، والمعنى : ينجيهم الله بفوزهم أي : بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
قوله تعالى : { له مَقاليدُ السموات والأرض } قال ابن قتيبة : أي : مفاتيحُها وخزائنُها ، لأن مالِكَ المفاتيح مالِك الخزائن ، واحدها إِقليد ، وجُمع على غير واحد ، كما قالوا : مَذاكير جمع ذَكَر ، ويقال : هو فارسيّ معرَّب . [ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي : الإِقليد : المفتاح ، فارسي معرَّب ] ، قال الراجز :
لَمْ يُؤْذِها الدِّيكُ بصوتِ تَغْرِيدْ ... ولَمْ تُعالِجْ غَلَقاً باقْليدْ
والمِقْلِيدُ : لغةٌ في الإِقْلِيدِ ، والجمع : مَقَالِيد .
وللمفسرين في المقاليد قولان .
أحدهما : المفاتيح ، قاله ابن عباس .
والثاني : الخزائن ، قاله الضحاك . وقال الزجاج : تفسيره : أن كل شيء في السموات والأرض ، فهو خالقه وفاتح بابه . قال المفسرون : مفاتيح السموات : المطر ، ومفاتيح الأرض : النبات .
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللهِ تأمُرونِّي أَعْبُدُ } قرأ نافع ، وابن عامر : { تأمُرُونِي أعْبُدُ } مخفَّفةً ، غير أن نافعاً فتح الياء ، ولم يفتحها ابن عامر . وقرأ ابن كثير : { تأمرونّيَ } بتشديد النون وفتح الياء . وقرأ الباقون بسكون الياء . وذلك حين دعَوْه إلى دين آبائه { أيُّها الجاهلونَ } أي : فيما تأمُرون .
قوله تعالى : { ولقد أُوحِيَ إِليكَ وإِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ } فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولقد أُوحِيَ إِليكَ لئن أشركتَ لَيَحْبَطَنَّ عملُكَ وكذلك أُوحيَ إِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ . قال أبو عبيدة : ومجازها مجاز الأمرين اللَّذَين يُخْبَرُ عن أحدهما ويُكَفُّ عن الآخر ، قال ابن عباس : هذا أدبٌ من الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لغيره ، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشِّرك . وقال غيره : إِنما خاطبه بذلك ، لِيَعْرِفَ مَنْ دونَه أن الشِّرك يُحبِطُ الأعمال المتقدِّمة كلَّها ، ولو وقع من نبيٍّ . وقرأ أبو عمران ، وابن السميفع ، ويعقوب : { لَنُحْبِطَنَّ } بالنون ، « عَمَلَكَ » بالنصب . { بَلِ اللهَ فاعْبُدْ } أي : وَحِّدْ .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
قوله تعالى : { وما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } سبب نزولها « أن رجلاً من أهل الكتاب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم ، بلغك أن الله تعالى يَحْمِلُ الخلائقَ على إِصْبع والأَرَضِينَ على إِصْبَع والشَّجَر على إِصْبَع والثَّرى على إِصْبع؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذُه » ، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية ، قاله ابن مسعود . [ وقد أخرج البخاري ومسلم في « الصحيحين » نحوه عن ابن مسعود ] . وقد فسَّرنا أول هذه الآية في [ الأنعام : 91 ] قال ابن عباس : هذه الآية في الكفار ، فأمّا مَنْ آمن بأنه على كل شيء قدير ، فقد قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
ثم ذكر عَظَمته بقوله { والأرضُ جميعاً قَبْضَتُه يومَ القيامة والسمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه } وقد أخرج البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه ، ثم يقول : أنا الملِك ، أين ملوكُ الأرض؟ » وأخرجا من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَطْوي الله عز وجل السموات يومَ القيامة ، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملِك ، أين الجبّارون ، أين المتكبِّرون؟ » قال ابن عباس : الأرضُ والسموات كلُّها بيمينه . وقال سعيد بن جبير : السموات قَبْضَةٌ والأَرَضُونَ قَبْضَةٌ .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
قوله تعالى : { ونُفِخَ في الصُّور فصَعِقَ } وقرأ ابن السميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : { فصُعِقَ } بضم الصاد { مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض } أي : ماتوا من الفزع وشِدَّة الصَّوت . وقد بيَّنّا هذه الآية والخلاف في الذين استُثنوا في سورة [ النمل : 87 ] .
{ ثُمَّ نُفِخَ فيه أُخْرى } وهي نفخة البعث { فإذا هُمْ } يعني الخلائق { قيامٌ يَنْظُرونَ } .
قوله تعالى : { وأَشْرَقَتِ الأرضُ بنُور ربِّها } أي : أضاءت . والمراد بالأرض : عَرَصات القيامة .
قوله تعالى : { ووُضِعَ الكتابُ } فيه قولان :
أحدهما : كتاب الأعمال ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والثاني : الحساب ، قاله السدي . وفي الشهداء قولان :
أحدهما : أنهم الذين يَشْهَدونَ على الناس بأعمالهم ، قاله الجمهور ، ثم فيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم المُرْسَلون من الأنبياء . والثاني : أمَّة محمد يَشهدونَ للرُّسل بتبليغ الرِّسالة وتكذيبِ الأُمم إِيّاهم ، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه . والثالث : الحَفَظَه ، قاله عطاء . والرابع : النَّبيُّون والملائكةُ وأُمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم والجوارح ، قاله ابن زيد .
والثاني : أنهم الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله ، قاله قتادة ، والأول أصح .
{ وُوفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ } أي : جزاء عملها { وهُوَ أَعْلَمُ بما يَفْعَلونَ } أي : لا يَحتاجُ إلى كاتب ولا شاهد .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله تعالى : { وسيِقَ الذين كَفَروا إِلى جهنَّمَ زُمَراً } قال أبو عبيدة : الزُّمَر : جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض ، واحدها : زُمْرة .
قوله تعالى : { رُسُلٌ مِنْكُمْ } أي : من أنفُسكم . و { كلمةُ العذاب } هي قوله { لأَملأَنَّ جهنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] .
قوله تعالى : { فُتِحَتْ أبوابُها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { فُتِّحَتْ } و { فُتِّحَتْ } مشدَّدتين؛ وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : بالتخفيف .
وفي هذه الواو ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها زائدة ، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء .
والثاني : أنها واو الحال؛ فالمعنى : جاؤوها وقد فُتحتْ أبوابُها ، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم ، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم ، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ أهل الجنة جاؤوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً ، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها ، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا .
والثاني : أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه ، وجعل في حق أهل النار ، ذكره لي بعض مشايخنا .
والثالث : أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم ، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها ، لأن الكريم يعجِّل المثوبة ، ويؤخِّر العقوبة ، وقد قال عز وجل : { ما يَفْعَلُ اللهُ بِعذابكم إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتُم } [ النساء : 147 ] قال المصنف : هذا وجهٌ خطر لي .
والقول الثالث : أن الواو زِيدتْ لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ ، وأبواب النار سبعةٌ ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله : { ويَقُولونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كلَبْهُم } [ الكهف : 22 ] حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي .
واختلف العلماء : أين جوابُ هذه الآية؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الجواب محذوف ، قاله أبو عبيدة ، والمبرِّد ، والزجّاج في آخرين . وفي تقدير هذا المحذوف قولان :
أحدهما : أن تقديره : { حتى إِذا جاؤوها . . . } إِلى آخر الآية سُعِدوا ، قاله المبرِّد .
والثاني : { حتى إذا جاؤوها . . . } إِلى قوله : { فادخُلوها خالدين } . . دخلوها ، وإِنما حُذف ، لأن في الكلام دليلاًَ عليه ، وهذا اختيار الزجاج .
والقول الثاني : أن الجواب : قال لهم خزنتُها ، والواو زائدة ، ذكره الأخفش . قال : ومثله في الشِّعر .
فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ
أي : فإذا ذلك .
والثالث : الجواب : { حتى إِذا جاؤوها فُتحتْ أبوابُها } والواو زائدة ، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة .
وفي قوله : { طِبْتُمْ } خمسة أقوال :
أحدها : أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان ، فيَشربون من إِحداهما فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج ، ويغتَسلون من الأُخرى ، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً ، حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها : { سلامٌ عليكم طِبْتُم } رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه ، وقد ذكرنا في [ الأعراف : 44 ] نحوه عن ابن عباس .
والثاني : طاب لكم المقام ، قاله ابن عباس .
والثالث : طِبْتُم بطاعة الله ، قاله مجاهد .
والرابع : أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة ، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض ، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ : طِبْتُم ، قاله قتادة .
والخامس : كنتم طِّبِينَ في الدُّنيا ، قاله الزجاج .
فلمّا دخَلوها قالوا : { الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَهُ } بالجنة { وأَوْرَثَنا الأرضَ } أي أرض الجنة { نتبوَّأ منها حيثُ نشاء } أي : نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء . وحكى أبو سليمان الدمشقي : أن أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون منها حيث شاؤوا ، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها ، فلذلك قالوا : « نتبوَّأ من الجنة حيثُ نشاءُ »؛ يقول الله عز وجل : { فنِعْمَ أَجْرُ العامِلينَ } أي : نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة .
قوله تعالى : { وتَرَى الملائكةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ } : أي مُحْدِقِينَ به ، يُقال : حَفَّ القومُ بفلانٍ : إِذا أَحْدَقوا به؛ ودخلتْ « مِنْ » للتوكيد ، كقولك : ما جاءني من أحدٍ .
{ يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ ربِّهم } قال السدي ، ومقاتل : بأَمْرِ ربِّهم . وقال بعضهم : يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة . وقال ابن جرير : التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة .
قوله تعالى : { وقُضِيَ بينَهم } أي : بينَ الخلائق { بالحَقِّ } أي : بالعَدْلِ { وقِيل الحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ } هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه .
قال المفسِّرون : ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال : { الحَمْدُ لله الذي خلق السموات والأرض } [ الأنعام : 1 ] وختم غاية الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم بالحمد لله بهذه الآية ، فنبَّه على تحميده في بداية كُلِّ أمْرٍ وخاتِمته .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
وفي { حم } أربعة أقوال :
أحدها : قَسَم أَقْسَمَ اللهُ به وهو من أسمائه عز وجل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . قال أبو سليمان : وقد قيل : إن جواب القَسَم قولُه { إِنَّ الذين كفَروا يُنادَوْنَ } [ المؤمن : 10 ] .
والثاني : أنها حروف من أسماء الله عز وجل ، ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن { آلر } و { حم } و { نون } حروف الرحمن ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أن الحاء مفتاح اسمه « حميد » ، والميم مفتاح اسمه « مجيد » ، قاله أبو العالية .
والثالث : أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء ، مثل : « حكيم » و « حليم » و « حيّ » ، والميم مفتاح كلِّ اسمٍ له ، ابتداؤه ميم مثل « ملك » و « متكبِّر » و « مَجيد » ، حكاه أبو سليمان الدمشقي . وروي نحوه عن عطاء الخراساني .
والثالث : أن معنى { حم } : قُضِيَ ما هو كائن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . ورُوي عن الضحاك والكسائي مثل هذا كأنهما أرادا الإِشارة إلى حُمَّ ، بضم الحاء وتشديد الميم . قال الزجاج : وقد قيل في { حم } : حُمَّ الأمر .
والرابع : أن { حم } اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة . وقرأ ابن كثير : { حم } بفتح الحاء؛ وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها ، واختلف عن الباقين . قال الزجاج : أمّا الميم ، فساكنة في قراءة القُرّاء كلِّهم إلاّ عيسى ابن عمر ، فإنه فتحها؛ وفتحها على ضربين . أحدهما : أن يجعل { حم } اسماً للسُّورة ، فينصبه ولا ينوِّنه ، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل . والثاني : على معنى : اتْلُ حم ، والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسماً للسُّورة ، ويكون حكاية حروف الهجاء .
قوله تعالى : { تَنْزيلُ الكتاب } أي : هذا تنزيلُ الكتاب . والتَّوْبُ : جمع تَوْبَة ، وجائز أن يكون مصدراً من تاب يَتُوب تَوْبا ، والطوَّل : الفَضْل . قال أبو عبيدة : يقال : فلان ذو طَوْل على قومه ، أي : ذو فَضْل . وقال ابن قتيبة : يقال : طُلْ عليَّ يرحمك الله ، أي : تَفَضَّلْ . قال الخطابي : ذو حرف النِّسبة ، والنّسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه : بالياء كقولهم : أسديّ ، وبكريّ ، والثاني : على الجمع كقولهم : المَهالبة ، والمسامعة ، والأزارقة ، والثالث : ب { ذي } و { ذات } ، كقولهم : رجُل مال ، أي : ذو مال ، وكبش صاف ، أي : ذو صوف ، وناقة ضامر ، أي ذات ضُمر فقوله : ذو الطَّوْل ، معناه : أهْل الطَّول والفَضْل .
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
قوله تعالى : { ما يُجادِلُ في آيات الله } أي : ما يُخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل { إلا الذين كَفَروا } وباقي الآية في [ آل عمران : 196 ] ؛ والمعنى : إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة مَنْ قَبْلَهم .
قوله تعالى : { وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة برسولهم لِيَأخُدوه } فيه قولان :
أحدهما : ليقتُلوه ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : ليحبِسوه ويعذِّبوه ، ويقال للأسير : أخيذٌ ، حكاه ابن قتيبة . قال الأخفش : وإِنما قال : « ليأخُذوه » فجمع على الكلِّ ، لأن الكلَّ مذكَّر ومعناه معنى الجماعة . وما بعد هذا مفسَّر في [ الكهف : 56 ] إلى قوله { فأَخَذْتُهم } أي : عاقَبْتُهم وأهلكتُهم { فكيف كان عِقابِ } استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم . { وكذلك } أي : مِثْل الذي حَقَّ على الأُمم المكذِّبة { حَقَّتْ كَلِمةُ ربِّكَ } بالعذاب ، وهي قوله { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَّ } [ الأعراف : 18 ] على الذين كفروا من قومك . وقرأ نافع ، وابن عامر : { حَقَّتْ كَلِماتُ ربِّكَ } ، { أنهم } قال الأخفش : لأنهم أو بأنهم { أصحابُ النَّارِ } .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال : { الذين يَحْمِلونَ العَرْشَ } وهم أربعة أملاك ، فإذا كان يوم القيامة جُعلوا ثمانيةً { ومَنْ حَوْلَه } قال وهب بن منبِّه : حَوْلَ العرش سبعون ألف صفٍّ من الملائكة يطوفون به ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍّ من الملائكة ليس فيِهم أحد إلاّ وهو يسبِّح بما لا يسبِّحه الآخر ، وقال غيره : الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة . وقد ذكرنا في السُّورة المتقدِّمة معنى قوله : { يسبِّحون بحمد ربِّهم } [ الزمر : 75 ] .
قوله تعالى : { ربَّنا } أي : يقولون ربَّنا { وَسِعَتَ كُلَّ شيءٍ رَحْمَةً وعِلْماً } قال الزجاج : هو منصوب على التمييز . وقال غيره : المعنى : وَسِعَتْ رحمتُك وعِلْمُك كلَّ شيء { فَاْغْفِرْ للذين تابوا } من الشِّرك { واتَّبَعوا سبيلَكَ } وهو دين الإِسلام . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { وقِهِمُ السَّيِّئاتِ } قال قتادة : يعني العذاب .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَروا ينادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ } قال المفسِّرون : لمّا رأوْا أعمالَهم وأُدخِلوا النّارِ مَقَتُوا أنفُسَهم لِسُوءِ فِعْلِهم ، فناداهم مُنادٍ : لَمَقْتُ الله إيّاكم في الدُّنيا { إِذ تُدْعَوْنَ إِلى الإِيمان فتكفُرونَ } أكبرُ مِنْ مقتكم أنفُسكم .
ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله { ربَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ } وهذا مثل قوله { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثُمَّ يميتُكم ثُمَّ يُحْييكم } [ البقرة : 28 ] وقد فسَّرناه هنالك .
قوله تعالى : { فهل إِلى خُروج } أي : من النار إِلى الدنيا لنعملَ بالطاعة { مِنْ سَبيلٍ } ؟ وفي الكلام اختصار ، تقديره : فَأُجيبوا أن لا سبيل إِلى ذلك؛ وقيل لهم { ذلكم } يعني العذاب الذي نزل بهم { بأنَّه إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَه كَفَرتم } أي : إِذا قيل « لا إله إلا الله » أنكرَتم ، وإن جُعل له شريكٌ آمنتم ، { فالحُكم لله } فهو الذي حكم على المشركين بالنار . وقد بيَّنَّا في سورة [ البقرة : 255 ] معنى العليّ وفي [ الرعد : 9 ] معنى الكبير .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{ هُوَ الذي يُريكم آياتِه } أي : مصنوعاته التي تَدُلُّ على وَحدانيَّته وقُدرته . والرِّزق هاهنا المطر ، سمِّي رزقاً ، لأنه سبب الأرزاق . و « يتذكَّر » بمعنى يَتَّعظ ، و « يُنيب » بمعنى يَرْجِع إِلى الطاعة .
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال : { فادْعُوا اللهَ مُْلِصينَ له الدِّينَ } أي : موحِّدين .
قوله تعالى : { رفيعُ الدَّرَجاتِ } قال ابن عباس : يعني رافع السموات . وحكى الماوردي عن بعض المفسِّرين قال : معناه عظيم الصِّفات .
قوله تعالى : { ذو العَرْشَ } أي : خالِقُه ومالِكُه .
قوله تعالى : { يُلْقي الرُّوحَ } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه القرآن .
والثاني : النُّبوّة . والقولان : مرويّان عن ابن عباس وبالأول قال ابن زيد ، وبالثاني قال السدي .
والثالث : الوحي ، قاله قتادة . وإِنما ُسمِّي القرآن والوحي روحاً ، لأن قِوام الدِّين به ، كما أن قِوام البدن بالرُّوح .
والرابع : جبريل ، قاله الضحاك .
والخامس : الرَّحمة ، حكاه إبراهيم الحربي .
قوله تعالى : { مِنْ أمْرِِهِ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : مِنْ قضائه ، قاله ابن عباس .
والثاني : بأمره ، قاله مقاتل .
والثالث : من قوله ، ذكره الثعلبي .
قوله تعالى : { على مَن يشاءُ مِنْ عِبادِه } يعني الأنبياء .
{ لِيُنْذِرَ } في المشار إِليه قولان .
أحدهما : أنه الله عز وجل .
والثاني : النَّبيُّ الذي يوحى إليه
والمراد ب { يومَ التَّلاق } : يوم القيامة . وأثبت ياء { التلاقي } في الحالين ابن كثير ويعقوب ، وأبو جعفر . وافقهما في الوصل؛ والباقون بغير ياءٍ في الحالَيْن ، وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال :
أحدها : أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .
والثاني : يلتقي فيه الأوَّلون والآخِرون روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : [ يلتقي ] فيه الخلق والخالق ، قاله قتادة ومقاتل .
والرابع : يلتقي المظلوم والظالم ، قاله ميمون بن مهران .
والخامس : يلتقي المرءُ بعمله ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { يَوْمَ هُم بارِزونَ } أي ظاهِرون من قُبورهم { لا يَخْفَى على الله منهم شيء } .
فإن قيل : فهل يَخْفَى عليه منهم اليوم شيء؟
فالجواب : أنْ لا ، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء؛ وللمفسِّرين فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لا يَخْفَى عليه ممّا عَمِلوا شيءٌ ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا يَستترونَ منه بجبل ولا مَدَر ، قاله قتادة .
والثالث : أن المعنى : أَبْرَزهم جميعاً ، لأنه لا يَخْفَى عليه منهم شيء ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { لَمِن المُلْكُ الْيَوْمَ } اتفقوا على أن هذا يقوله الله عز وجل بعد فَناء الخلائق . واختلفوا في وقت قوله له على قولين :
أحدهما : [ أنه ] يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب ، فيَرُدّ هو على نفسه فيقول : { للهِ الواحدِ القَهّارِ } ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه يقوله يوم القيامة .
وفيمن يُجيبه حينئذ قولان .
أحدهما : أنه يُجيب نَفْسَه ، وقد سَكَتَ الخلائقُ لقوله ، قاله عطاء .
والثاني : أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون { للهِ الواحدِ القهارِ } قاله ابن جريج .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قوله تعالى : { وأَنْذِرهم يومَ الآزفة } فيه قولان :
أحدهما : أنه يومُ القيامة ، قاله الجمهور . قال ابن قتيبة : وسميت القيامة بذلك لقُربها . يقال : أَزِفَ شُخوص فلان ، أي : قَرُبَ .
والثاني : أنه يومُ حُضور المنيَّة ، قاله قطرب .
قوله تعالى : { إِذِ القُلوبُ لدى الحناجر } وذلك أنها ترتقي إِلى الحناجر فلا تخرُج ولا تعود ، هذا على القول الأول . وعلى الثاني : القلوب هي النُّفوس تبلغ الحناجرَ عند حضور المنيَّة؛ قال الزجاج : و { كاظمينَ } منصوب على الحال ، والحال محمولة على المعنى؛ لأن القلوب لا يقال لها : كاظمين ، وإِنما الكاظمون أصحاب القلوب؛ فالمعنى : إِذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمهم . قال المفسِّرون : « كاظِمِين » أي : مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً ، والكاظم : المُمْسِك للشيء على ما فيه؛ وقد أشرنا إِلى هذا عند قوله : { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] .
{ ما لِلظّالِمِينَ } يعني الكافرين { مِنْ حَميمٍ } أي : قريب ينفعُهم { ولا شفيعٍ يُطَاعُ } فيهم فتُقْبَل شفاعتُه .
{ يَعْلَمُ خائنةَ الأعيُن } قال ابن قتيبة : الخائنة والخيانة واحد . وللمفسرين فيها أربعة أقوال :
أحدها : أنه الرجُل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيُريهم أنه يغُضُّ بصره ، فإذا رأى منهم غفلةً لَحَظَ إِليها ، فإن خاف أن يَفْطنُوا له غَضَّ بصره ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه نظر العين إِلى ما نُهي عنه ، قاله مجاهد .
والثالث : الغمز بالعين ، قاله الضحاك والسدي . قال قتادة : هو الغمز بالعين فيما لا يُحِبُّه الله ولا يرضاه .
والرابع : النظرة بعد النظرة قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وما تُخْفي الصُّدورُ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ما تُضْمِره من الفعل أن لو قَدَرْتَ على ما نَظَرْتَ إِليه ، قاله ابن عباس .
والثاني : الوسوسة ، قاله السدي .
والثالث : ما يُسِرُّه القلب من أمانة أو خيانة حكاه المارودي .
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
قوله تعالى : { واللهُ يَقْضي بالحق } أي : يحكمُ به فيَجزي بالحسنة والسَّيِّئة { والذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِه } من الآلهة . وقرأ نافع وابن عامر { تَدْعُونَ } بالتاء ، على معنى : قُلْ لهم : { لا يَقْضُونَ بشيء } أي : لا يَحْكُمونَ بشيء ولا يُجازُون به؛ وقد نبَّه اللهُ عز وجل بهذا على أنه حَيٌّ ، لأنه إِنما يأمُر ويَقضي من كان حيّاً ، وأيَّد ذلك بذِكْر السَّمع والبصر ، لأنهما إنما يثبُتان لحيٍّ ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وما بعد هذا قد تقدم بعضه [ يوسف : 109 ] وبعضه ظاهر إِلى قوله : { كانوا هُمْ أشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وقرأ ابن عامر : { أشَدَّ مِنْكُمْ } بالكاف ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وهو على الانصراف من الغَيْبَة إلى الخطاب ، { وما كان لهم مِنَ الله } أي : من عذاب الله { مِنْ واقٍ } يقي العذاب عنهم .
{ ذلك } أي : ذلك العذاب الذي نزل بهم { بأنَّهم كانت تأتيهم رسُلُهم بالبيِّنات . . . . } إلى آخر الآية .
ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليَعتبروا . وأراد بقوله { اقتُلوا أبناءَ الذين آمنوا معه } أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلاً ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : كان فرعون قَدْ كف َّعن قتل الوِلْدانِ ، فلمّا بَعَثَ اللهُ موسى ، أعاد عليهم القتل لِيصُدَّهم بذلك عن متابعة موسى .
قوله تعالى : { وما كَيْدُ الكافرين إلاّ في ضلال } أي إنه يَذْهَب باطلاً ويَحيق بهم ما يريده اللهُ عز وجل .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{ وقال فرعونُ ذَرُوني أقْتُلْ موسى } وإنما قال هذا ، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك { وَلْيَدْعُ ربَّه } الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل { إِنِّي أَخافُ أن يبدِّل دينَكم } أي : عبادتكم إيّاي { وأن يُظْهِرَ في الأرض الفسادَ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { وأن } بغير ألف . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { أو أن } بألف قبل الواو على معنى : إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ : { يُظْهِرَ } بضم الياء { الفسادَ } بالنصب . وقرأ الباقون { يَظْهَرَ } بفتح الياء « الفسادُ » بالرفع ، والمعنى : يظهر الفساد بتغيير أحكامنا فجعل ذلك فساداً بزعمه؛ وقيل : يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم .
فلمّا قال فرعونُ هذا ، استعاذ موسى بربّه فقال : { إنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر : { عُذْتُ } مبيَّنة الذّال ، وأدغمها أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { مِنْ كُلٍّ متكبِّرٍ } أي : متعظّم عن الإِيمان فقصد فرعونُ قتل موسى ، فقال حينئذ { رجُلٌ مؤمِنُ من آل فرعون . . . } .
وفي الآل هاهنا قولان .
أحدهما : [ أنه ] بمعنى الأهل والنَّسب؛ قال السدي ومقاتل : كان ابنَ عمٍّ فرعون ، وهو المراد بقوله { وجاء رجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يَسعى } [ القصص : 20 ] .
والثاني : أنه بمعنى القبيلة والعشيرة؛ قال قتادة ومقاتل : كان قبطيّاً . وقال قوم : كان إسرائيليّاً ، وإنما المعنى : قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون؛ وفي اسمه خمسة أقوال :
أحدها : حزبيل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : حبيب : قاله كعب .
والثالث : سمعون ، بالسين المهملة ، قاله شعيب الجبَّائي .
والرابع : جبريل .
والخامس : شمعان ، بالشين المعجمة ، رويا عن ابن إسحاق ، وكذلك حكى الزجاج « شمعان » بالشين ، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً . والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء . وقال الحسن : كان مؤمناً قبل مجيء موسى ، وكذلك امرأة فرعون . قال مقاتل : كتم إيمانه من فرعون مائة سنة .
قوله تعالى { أتقتُلون رجُلاً أن يقولَ } أي : لأن يقولَ { ربِّيَ اللهُ } وهذا استفهام إنكار { وقد جاؤكم بالبيِّنات } أي : بما يدُلُّ على صِدقه { وإِن يَكُ كاذباً فعليه كَذِبُه } أي : لا يضرُّكم ذلك { وإن يَكُ صادقاً يُصِبْكم بَعْضُ الذي يَعِدُكم } من العذاب . وفي « بَعْض » ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها بمعنى « كُلّ » ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد للبيد :
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
أراد : كُلَّ النفُّوس .
والثاني : أنها صِلَة؛ والمعنى : يُصِبْكم الذي يَعِدُكم ، حُكي عن الليث .
والثالث : أنها على أصلها ، ثم في ذلك قولان .
أحدهما : أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا ، والهلاكَ إن كفروا ، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين .
والثاني : أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد ، ذكرهما الماوردي .
قال الزجاج : هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر ، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ ، ومثله قول الشاعر :
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ ، لأن البعض من الكلّ ، ولكن القائل إذا قال : أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة ، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل ، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه ، فكأنَّ المؤمن قال لهم : أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم ، وفي بعض ذلك هلاككم؛ قال : وأما بيت لبيد ، فإنه أراد ببعض النفوس : نَفْسَه وحدها .
قوله تعالى : { إنَّ الله لا يَهْدي } أي : لا يوفِّق للصَّواب { من هو مُسْرِفٌ } وفيه قولان .
أحدهما : أنه المشرك ، قاله قتادة .
والثاني : أنه السَّفَّاك للدَّم ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ظاهرِين في الأرض } أي : عالِين في أرض مصر { فمن يَنْصُرنا } أي : من يَمْنَعُنا { من بأس الله } أي : من عذابه؛ والمعنى : لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ ، فقال فرعونُ عند ذلك : { ما أُرِيكم } من الرّأي والنّصيحة { إلاّ ما أَرى } لنفسي { وما أهْدِيكم } أي : أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي ، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن .
{ وقال الذي آمن يا قومِ إِنِّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْمِ الأحزابِ } قال الزجّاج : أي مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب؛ والمعنى : أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم .
قوله تعالى : { يومَ التَّنادِ } قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { التَّنادِ } بغير ياءٍ . وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير ، ويعقوب ، وافقهم أبو جعفر في الوصل . وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، وأبو العالية/ والضحاك : { التَّنادِّ } بتشديد الدال . قال الزجاج : أمّا إثبات الياء فهو الأصل ، وحذفها حسن جميل ، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء ، وهو رأس آية ، وأواخر هذه الآيات على الدَّال ، ومن قرأ بالتشديد ، فهو من قولهم : نَدَّ فلان ، ونَدَّ البعير : إِذا هرب على وجهه ، ويدل على هذا قوله { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } وقوله { يومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أخيه } [ عبس : 34 ] قال أبو علي : معنى الكلام إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد . قال الضحاك : إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض ، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة ، فيرجعون من حيث جاؤوا . وقال غيره : يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم . فأمّا قراءة التخفيف ، فهي من النّداء ، وفيها للمفسرين أربعة أقوال :
أحدها : أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضاً . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« يأمرُ اللهُ عز وجل إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول : انفُخْ نفخةَ الفزع ، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله ، فتُسيَّر الجبالُ ، وتُرَجُّ الأرض . وتَذْهَلُ المراضعُ ، وتضع الحواملُ ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً وهو قوله : { يوم التناد } »
والثاني : أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في [ الأعراف : 4450 ] ، وهذا قول قتادة .
والثالث : أنه قولهم : يا حسرتنا يا ويلتنا قاله ابن جريج .
والرابع : أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء .
قوله تعالى : { يومَ تُوَلَّونَ مُدْبِرِينَ } فيه قولان .
أحدهما : هرباً من النار .
والثاني : أنه انصرافهم إلى النار .
قوله تعالى : { مالكم مِنَ الله مِنْ عاصم } أي : من مانع .
قوله تعالى : { ولقد جاءكم يوسف } وهو يوسف بن يعقوب ، ويقال : إنه ليس به ، وليس بشيء .
قوله تعالى : { مِنْ قَبْلُ } أي : مِنْ قَبْلِ موسى { بالبيِّناتِ } وهي الدّلالات على التوحيد ، كقوله { أأربابٌ متفرِّقون خيرٌ . . . } الآية [ يوسف : 39 ] ، وقال ابن السائب : البيِّنات : تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص ، وقيل : بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط .
قوله تعالى : { فما زِلتم في شَكّ ممّا جاءكم به } أي : من عبادة الله وحده { حتى إذا هَلَكَ } أي : مات { قُلْتُم لن يَبعث اللهُ مِنْ بعده رسولاً } أي : إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم { كذلك } أي : مِثْل هذا الضَّلال { يُضِلُّ اللهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ } أي : مُشْرِكٌ { مُرتابٌ } أي : شاكٌّ في التوحيد وصِدق الرُّسل .
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قوله تعالى : { الذين يجادِلونَ } قال الزجاج : هذا تفسير المسرف المرتاب ، والمعنى : هُمْ الذين يجادِلونَ في آيات الله . قال المفسرون : يجادِلونَ في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان ، أي : بغير حُجَّة أتتهم من الله .
{ كَبُرَ مَقْتاً } أي : كَبُرَ جدالُهم مَقْتاً عند الله وعند الذين آمنوا ، والمعنى : يَمْقُتهم الله ويَمْقُتهم المؤمنون بذلك الجدال .
{ كذلك } أي : كما طَبَع اللهُ على قلوبهم حتى كذَّبوا وجادلوا بالباطل ، يَطْبع { على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ } عن عبادة الله وتوحيده . وقد سبق بيان معنى الجبّار في [ هود : 59 ] . وقرأ أبو عمرو : { على كلِّ قلبٍ } بالتنوين ، وغيرُه من القرّاء السبعة يُضيفه . وقال أبو علي : المعنى : يطبع على جملة القلب من المتكبِّر . واختار قراءة الإِضافة الزجاج : قال : لأن المتكبِّر هو الإِنسان ، لا القلب .
فإن قيل : لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدَّم القلبُ على الكُلِّ؟ .
فالجواب : أن هذا جائز عند العرب ، قال الفراء : تقدُّم هذا وتأخُّره واحد ، سمعتُ بعض العرب يقول : هو يرجِل شعره يومَ كل جمعة ، يريد : كلَّ يوم جمعة ، والمعنى واحد . وقد قرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : { على قلبِ كلِّ متكبِّر } بتقديم القلب .
قال المفسرون : فلمّا وعظ المؤمنُ فرعونَ وزجره عن قتل موسى ، قال فرعونُ لوزيره : { يا هامانُ ابنِ لي صَرْحاً } وقد ذكرناه في [ القصص : 38 ] .
قوله تعالى : { لعلِّي أبلُغ الأسبابَ ، أسبابَ السموات } قال ابن عباس . وقتادة : يعني أبوابها . وقال أبو صالح : طرقها . وقال غيره : المعنى : لعلِّي أبلُغُ الطُّرق من سماءٍ الى سماءٍ . وقال الزجاج لعلِّي أبلُغ ما يؤدِّيني إلى السموات . وما بعد هذا مفسَّر في [ القصص : 38 ] إلى قوله : { وكذلك } أي : ومِثْلُ ما وصفْنا { زُيِّنَ لفرعونَ سُوءُ عمله وَصُدَّ } عن سبيل الهدى قرأ عاصم ، وحمزة والكسائي : { وصُدَّ } بضم الصاد ، والباقون بفتحها ، { وما كَيْدُ فرعونَ } في إبطال آيات موسى { إلاَّ في تبابٍ } أي : في بطلان وخسران .
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
ثم عاد الكلامُ إلى نصيحة المؤمن لقومه ، وهو قوله : { اتَّبِعونِ أهْدِكم سبيل الرَّشادِ } أي : طريق الهدى ، { يا قومِ إِنما هذه الحياةُ الدُّنيا متاعٌ } يعني الحياة في هذه الدار متاع يُتمتَّع بها أياماً ثم تنقطع { وإنَّ الآخرة هي دار القرار } التي لازوال لها .
{ من عَمِلَ سيِّئةً } فيها قولان . .
أحدهما : أنها الشِّرك ، ومثلها جهنم ، قاله الأكثرون .
والثاني : المعاصي ، ومثلُها : العقوبةُ بمقدارها ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فعلى الأول ، العمل الصالح : التوحيد ، وعلى الثاني ، هو [ علىٍ ] الإطلاق .
قوله تعالى : { فأولئك يدخُلون الجنة } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : « يُدخَلونَ » بضم الياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالفتح ، وعن عاصم كالقراءتين .
وفي قوله : { بغير حساب } قولان .
أحدهما : أنهم لا تَبِعَةَ عليهم فيما يُعْطَون في الجنة ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه يُصَبُّ عليهم الرِّزق صَبّاً بغير تقتير ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قوله تعالى : { ويا قومِ مالي أدعُوكم } أي : مالَكم ، كما تقول : ما لي أراك حزيناً ، معناه : مالَك ، ومعنى الآية : أخبِروني كيف هذه الحال ، أدعوكم { إلى النجاة } من النار بالإِيمان { وتَدْعونني إلى النّار } أي : إلى الشِّرك الذي يوجب النّار؟! ثم فسَّر الدَّعوتَين بما بعد هذا .
ومعنى { ليس لي به عِلْم } أي : لا أعلم هذا الذي ادَّعَوْه شريكاً له . وقد سبق بيان ما بعد هذا [ البقرة : 129 ] [ طه : 82 ] إلى قوله : { ليس له دعوة } وفيه قولان :
أحدهما : ليس له استجابة دعوة ، قاله السدي .
والثاني : ليس له شفاعة ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وأنَّ مَرَدَّنا إلى الله } أي : مَرْجِعنا؛ والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا . وفي المُسْرِفين قولان قد ذكرناهما عند قوله : { مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 28 ] .
قوله تعالى : { فستَذْكُرونَ ما أقول لكم } وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني ، وأبو رجاء : { فستَذَكَّرونَ } بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها؛ وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأيوب السختياني : بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعاً . أي : إَذا نزل العذاب بكم ، ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة؟! .
{ وأُفَوِّضُ أمري إلى الله } أي : أَرُدُّه ، وذلك أنهم تواعدوه لمخالَفَتِهِ دينَهم { إنِّ الله بصير بالعباد } أي : بأوليائه وأعدائه .
ثم خرج المؤمن عنهم ، فطلبوه فلم يَقْدِروا عليه ، ونجا مع موسى لمَّا عبر البحر ، فذلك قوله { فوقاه اللهُ سيِّئاتِ ما مكَروا } أي : ما أرادوا به من الشَّرِّ { وحاقَ بآل فرعونَ } لما لجوا في البحر { سوءُ العذاب } قال المفسِّرون هو الغرق .
قوله تعالى : { النّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوّاً وعَشِيّاً } قال ابن مسعود وابن عباس : إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يُعْرَضُونَ على النار كُلَّ يوم مرَّتين فيقال : يا آل فرعون هذه داركم . ورورى ابن جرير قال حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا حماد بن محمد البلخي قال : سمعت الأوزاعي ، وسأله رجل فقال : رأينا طيوراً تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بِيْضاً ، فَوْجاً فَوْجاً ، لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سُوداً ، قال : وفَطَنْتم إلى ذلك؟ قال : نعم ، إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يُعْرَضُونَ على النار غدوّاً وعشيّاً ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء ، فينبُت عليها من الليل رياش بِيض ، وتتناثر السود ، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوّاً أوعشياً ، [ ثم ترجع إلى وكورها ] ، فذلك دأبها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزوجل { أدْخِلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذاب } . وقد روى البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) « إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنة فمن [ أهل ] الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن [ أهل ] النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك اللهُ إليه يوم القيامة »
وهذه الآية تدل على عذاب القبر ، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال { ويومَ تقومُ الساعةُ ادخِلوا } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، [ وأبو عمرو ] ، وأبو بكر وأبان عن عاصم : { الساعةُ ادْخُلوا } بالضم وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول ، والابتداءُ على قراءة هؤلاء بضم الألف . وقرأ الباقون : بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم ، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف .
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى : { وإذ يتحاجُّون في النار } المعنى : واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون ، يعني أهل النار ، والآية مفسَّرة في [ سورة إبراهيم : 21 ] ، والذين استكبروا هم القادة . ومعنى { إنّا كُلٌّ فيها } أي : نحن وأنتم ، { إنّ الله قد حَكَم بين العباد } أي : قضى هذا علينا وعليكم . ومعنى قول الخَزَنة لهم : { فادْعُوا } أي : نحن لا نَدْعو لكم { وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال } أي : إن ذلك يَبْطُل ولا يَنْفَع .
{ إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والذين آمَنوا في الحياة الدُّنيا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن ذلك بإثبات حُججهم .
والثاني : بإهلاك عدوِّهم .
والثالث : بأن العاقبة تكون لهم . وفصلُ الخطاب : أن نصرهم حاصل لابدَّ منه ، فتارة يكون بإعلاءِ أمرهم كما أعطى داود وسليمان من المُلك ما قهرا به كل كافر ، وأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم على مكذِّبيه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بعد وفاة الرُّسل ، كتسليطه بختنصر على قَتَلَة يحيى بن زكريا . وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد فإن الله منجيهم من العذاب ، وواحد الأشهاد شاهد ، كما أن واحد الأصحاب صاحب . وفي الأشهاد ثلاثة أقوال :
أحدها : الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأُمم بالتكذيب ، قاله مجاهد والسدي . قال مقاتل : وهم الحَفَظة من الملائكة .
والثاني : الملائكة والأنبياء قاله قتادة .
والثالث : أنهم أربعة : الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { يومَ لا يَنْفَعُ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : « تَنْفَعُ » بالتاء ، والباقون بالياء؛ لأن المعذرة والاعتذار بمعنى { الظالمين معذرتُهم } أي : لا يُقْبَلُ منهم إن اعتذروا { ولهم اللعنةُ } أي : البُعد من الرَّحمة . وقد بيَّنّا في [ الرعد : 25 ] أن « لهم » بمعنى « عليهم » و { وسوءُ الدار } : النار .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{ ولقد آتينا موسى الهُدى } من الضلالة ، يعني التوراة { وأورَثْنا بني إسرائيل الكتابَ } بعد موسى ، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين؛ وقال ابن السائب : التوراة والإنجيل والزَّبور . والذِّكرى بمعنى التذكير .
{ فاصْبِر } على أذاهم { إنّ وَعْدَ الله حَقٌّ } في نصرك ، وهذه الآية في هذه السورة في موضعين [ غافر : 5577 ] ، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف . ومعنى : { سَبّح } صَلِّ .
وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكارِ ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس .
والثاني : صلاة الغداة وصلاة العصر ، قاله قتادة .
والثالث : أنها صلاة كانت قبل أن تُفرض الصلوات ، ركعتان غُدوةً وركعتان عشيَّةً ، قاله الحسن .
وما بعد هذا قد تقدم آنفا [ المؤمن : 4 ] إلى قوله : { إنْ في صُدورهم إلاّ كِبرٌ . . . } الآية نزلت في قريش؛ والمعنى : ما يَحْمِلُهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من التكبُّر عليك ، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكِبْر؛ لأن الله تعالى مُذِلُّهم { فاستعذ بالله } من شرِّهم؛ ثم نبَّه على قدرته بقوله { لَخَلْقُ السموات والأرض أكبرُ من خَلْقِ الناس } أي : من إعادتهم ، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جِرْمها ، فنبَّههم على قُدرته على إعادة الخَلْق { ولكنَّ أكثر الناس لا يَعلمونَ } يعني الكفار حين لا يستدلُّون بذلك على التوحيد . وقال مقاتل : عظمَّت اليهودُ الدجّالَ وقالوا : إن صاحبنا يُبعَث في آخر الزمان وله سلطان ، فقال الله : { إن الذين يجادِلونَ في آيات الله } لأن الدجّال من آياته ، { بغير سُلطان } أي : [ بغير ] حجة ، فاستعذ بالله من فتنة الدجّال . قال : والمراد ب { خَلْق الناس } : الدجّال؛ وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية ، والأول أصح .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { ادْعُوني أَسْتَجِبْ لكم } فيه قولان .
أحدهما : وحِّدوني واعبُدوني أثِبْكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : سلوني أُعْطِكم ، قاله السدي .
{ إن الذين يَستكبِرونَ عن عبادتي } فيه قولان .
أحدهما : عن توحيد ، .
والثاني : عن دعائي ومسألتي { سَيَدْخُلونَ جهنَّم } قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو : { سيُدْخَلونَ } [ بضم الياء ] ، والباقون بفتحها والدّاخر الصّاغر .
وما بعد هذا قد سبق في مواضع متقرفة [ يونس : 67 ] [ القصص : 73 ] [ الأنعام : 95 ] [ النمل : 61 ] [ الأعراف : 54 29 ] [ الحج : 5 ] إلى قوله { ولِتبلُغوا أجلاً مسمىً } وهو أجل الحياة إلى الموت { ولعلَّكم تَعقِلونَ } توحيدَ الله وقدرتَه .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{ ألم تَرَ إلى الذين يجادِلون في آيات الله } يعني القرآن ، يقولون : ليس من عند الله ، { أنَّى يُصْرَفونَ } أي : كيف صُرِفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم المشركون ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم القَدَريَّة ، ذكره جماعة من المفسرين . وكان ابن سيرين يقول : إن لم تكن نزلت في القَدَريَّة فلا أدري فيمن نزلت .
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : { والسلاسلَ يَسحبونَ } بفتح اللام والياء . وقال ابن عباس : إذا سحبوها كان أشدَّ عليهم .
قوله تعالى : { يُسْجَرُونَ } قال مجاهد : توقدَ بهم النار فصاروا وَقودَها .
قوله تعالى : { أين ما كنتم تشرِكونَ } مفسَّر في [ الأعراف : 190 ] .
وفي قوله : { لَمْ نكن نَدْعو من قَبْلُ شيئاً } قولان .
أحدهما : أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً ، لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنهم قالوه على وجه الجحود ، قاله أبو سليمان الدمشقي . { كذلك } أي : كما أضلَّ اللهُ هؤلاء يُضِّلُّ الكافرين .
{ ذلكم } العذاب الذي نزل بكم { بما كنتم تَفرحونَ في الأرض بغير الحق } أي : بالباطل { وبما كنتم تَمرحونَ } وقد شرحنا المَرَح في [ بني إسرائيل : 37 ] وما بعد هذا قد تقدَّم بتمامه [ النحل : 29 ] [ يونس : 109 ] [ النساء : 164 ] إلى قوله : { وما كان لرسولٍ أن يأتيَ بآية إلاّ باذن الله } وذلك لأنهم كانوا يقترِحون عليه الآيات { فإذا جاء أمرُ الله } وهو قضاؤه بين الأنبياء وأُممهم و { المبطلون } : أصحاب الباطل .
قوله تعالى : { ولِتبلُغوا عليها حاجةً في صُدوركم } أي : حوائجكم في البلاد .
قوله تعالى : { فأيَّ آيات الله تُنْكِرونَ } استفهام توبيخ .
قوله تعالى : { فما أغنى عنهم } في « ما » قولان .
أحدهما : أنها للنفي .
والثاني : [ أنها ] للاستفهام ذكرهما ابن جرير .
قوله تعالى : { فرٍحوا بما عندهم من العِلْم } في المشار إليهم قولان :
أحدهما : [ أنهم ] الأُمم المكذِّبة ، قاله الجمهور؛ ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنهم قالوا : نحن أعلم منهم لن نُْعَثُ ولن نُحَاسَبَ ، قاله مجاهد .
والثاني : فرحوا بما كان عندهم أنه عِلْم ، قاله السدي .
والقول الثاني : أنهم الرُّسل؛ والمعنى : فرح الرُّسل لمّا هلك المكذِّبون ونَجَوْا بما عندهم من العِلْم بالله إذ جاء تصديقُه ، حكاه أبو سليمان وغيره .
قوله تعالى : { وحاق بهم } يعني بالمكذِّبين العذاب الذي كانوا به يستهزؤون والبأس : العذاب . ومعنى { سُنَّةَ الله } : أنه سَنَّ هذه السُّنَّة في الأُمم ، أي : أن إيمانهم لا ينفعُهم إذا رأوا العذاب ، { وخسر هنالك الكافرون } .
فإن قيل : كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟
فعنه جوابان .
أحدهما : أن « خسر » بمعنى « هلك » قاله ابن عباس .
والثاني : أنه إنما بيَّن لهم خُسرانهم عند نزول العذاب ، قاله الزجاج .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قوله تعالى : { تنزيلٌ } قال الفراء : يجوز أن يرتفع « تنزيلٌ » ب { حم } ، ويجوز أن يرتفع بإضمار « هذا » . وقال الزجاج : « تنزيلٌ » مبتدأ ، وخبره { كتابٌ فُصِّلَتْ آياتُه } ، هذا مذهب البصريِّين و { قرآناً } منصوب على الحال ، المعنى : بُيِّنَتْ آياتُه في حال جَمْعِه ، { لقومٍ يَعْلَمونَ } أي : لِمَن يَعلم .
قوله تعالى : { فأعْرَضَ أكثرُهم } يعني أهل مكة { فهم لا يَسمعونَ } تكبُّراً عنه ، { وقالوا قلوبُنا في أكنَّة } أي : في أغطية فلا نفقه قولك . وقد سبق بيان « الأكنَّة » و « الوَقْر » في [ الأنعام : 25 ] . ومعنى الكلام : إنّا في تَرْكِ القبول منكَ بمنزلة من لا يَسمع ولا يَفهم ، { ومِن بينِنا وبينِكَ حِجابٌ } أي : حاجزٌ في النِّحلة والدِّين . قال الأخفش : و « من » هاهنا للتوكيد .
قوله تعالى : { فاعْمَلْ } فيه قولان .
أحدهما : اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك .
والثاني : اعْمَلْ على دِينكَ إنا عاملون على ديننا .
{ قُلْ إنما أنا بَشَرٌ مثلُكم } أي : لولا الوحي لَمَا دعوتُكم .
{ فاستقيموا إليه } أي : توجَّهوا إِليه بالطاعة ، واستغفِروه من الشرك .
قوله تعالى : { الذين لا يؤتون الزكاة } فيه خمسة أقوال .
أحدها : لا يشهدون أن « لا إله إلا الله » رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة . والمعنى : لا يطهِّرون أنفُسَهم من الشرك بالتوحيد .
والثاني : لا يؤمِنون بالزكاة ولا يُقِرُّون بها ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثالث : لا يزكُّون أعمالهم ، قاله مجاهد ، والربيع .
والرابع : لا يتصدَّقون ، ولا يُنفِقون في الطاعات ، قاله الضحاك ، ومقاتل .
والخامس : لا يُعطُون زكاة أموالهم ، قال ابن السائب : كانوا يحُجُّون ويعتمرون ولا يزكُّون .
قوله تعالى : { غيرُ ممنون } أي : غير مقطوع ولا منقوص .
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قوله تعالى : { خَلَق الأرضَ في يومين } قال ابن عباس : في يوم الأحد والاثنين ، وبه قال عبد الله بن سلام ، والسدي ، والأكثرون . وقال مقاتل : في يوم الثلاثاء والأربعاء . وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فقال : « خَلَقَ اللهُ عز وجل التربة يومَ السبت ، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد ، وخلق الشجر فيها يومَ الإثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النُّور يوم الأربعاء ، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس » ، وهذا الحديث يخالِف ما تقدَّم ، وهو أصح .
قوله تعالى : { وتَجعلونَ له أنداداً } قد شرحناه في [ البقرة : 22 ] و ( ذلك ) الذي فعل ما ذُكر ( ربُّ العالَمَين ) .
{ وجعل فيها رواسيَ } أي : جبالاً ثوابت من فوق الأرض ، { وبارك فيها } بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار ، وقيل : البَرَكة فيها : أن ينميَ فيها الزرع ، فتخرج الحبّة حبّات ، والنواة نخلةً { وقدَّر فيها أقواتَها } قال أبو عبيدة : هي جمعُ قوت ، وهي الأرزاق وما يُحتاج إليه .
وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال :
أحدها : أنه شقَّق الأنهار وغرس الأشجار ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه قسم أرزاق العباد والبهائم ، قاله الحسن .
والثالث : أقواتها من المطر ، قاله مجاهد .
والرابع : قدَّر لكل بلدة ما لم يجعله في الأخرى كما أنَّ ثياب اليمن لا تصلح إلا ب « اليمن » والهرويَّة ب « هراة » ، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة ، قاله عكرمة ، والضحاك .
والخامس : قدَّر البُرَّ لأهل قُطْرٍ ، والتَّمْر لأهل قُطْرٍ ، والذُّرَة لأهل قُطْرٍ ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { في أربعة أيّام } أي : في تتمة أربعة أيّام . قال الأخفش : ومثله [ أن ] تقول : تزوجت أمس امرأة ، واليومَ ثنتين ، وإحداهما التي تزوجتها أمس .
قال المفسرون : يعني : الثلاثاء والأربعاء ، وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام .
قوله تعالى : { سواءً } قرأ أبو جعفر : { سواءٌ } بالرفع . وقرأ يعقوب ، وعبد الوارث : « سواءٍ » بالجر . وقرأ الباقون من العشرة : بالنصب قال الزجاج : من قرأ بالخفض ، جعل « سواءٍ » من صفة الأيّام فالمعنى : في أربعة أيّامٍ مستوِياتٍ تامَّاتٍ؛ ومن نصب ، فعلى المصدر؛ فالمعنى : استوت سواءً واستواءً؛ ومن رفع ، فعلى معنى : هي سواءٌ .
وفي قوله : { للسّائلِينَ } وجهان .
أحدهما : للسائلين القوت ، لأن كلاًَ يطلُب القوت ويسألُه .
والثاني : لمن يسأل : في كم خُلقت الأرضُ؟ فيقال : خُلقتْ في أربعة أيّام سواء ، لا زيادة ولا نقصان .
قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } قد شرحناه في [ البقرة : 29 ] { وهي دخان } وفيه قولان :
أحدهما : أنه لمّا خلق [ الماء ] أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما ، فسمّاه سماءً .
والثاني : أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها ناراً ، فارتفع منها دخان فسما .
قوله تعالى : { فقال لها وللأرض } قال ابن عباس : قال للسماء : أظْهِري شمسكِ وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شقِّقي أنهاركِ ، وأخْرِجي ثمارك ، { طوعاً أو كَرْهاً قالتا أتينا طائعِين } قال الزجاج : هو منصوب على الحال ، وإنما لم يقل : طائعات ، لأنهنَّ جَرَيْنَ مجرى ما يَعْقِل ويميِّز كما قال في النجوم :
{ وكُلٌّ في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] ، قال : وقد قيل : أتينا نحن ومَنْ فينا طائعين .
{ فقضاهنّ } أي : خلقهنّ وصنعهنّ ، قال أبو ذئيب الهذلي :
وعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... داوُدُ أَو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
معناه : عَمِلَهما وصَنَعهما .
قوله تعالى : { في يومين } قال ابن عباس وعبد الله بن سلام : وهما يوم الخميس ويوم الجمعة . وقال مقاتل : الأحد والإثنين ، لأن مذهبه أنها خُلقتْ قبل الأرض . وقد بيَّنّا مقدار هذه الأيام في [ الأعراف : 54 ] .
{ وأوحى في كل سماءٍ أمرها } فيه قولان .
أحدهما : أوحى ما أراد ، وأمر بما شاء ، قاله مجاهد ، ومقاتل .
والثاني : خَلَقَ في كل سماءٍ خَلْقَها ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وزيَّنّا السماءَ الدنيا } أي : القُرْبى إلى الأرض { بمصابيحَ } وهي النًّجوم ، والمصابيح : السُّرُج فسمِّي الكوكب مصباحاً لإضاءته { وحِفْظاً } قال الزجاج : معناه : وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حِفْظاً .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
قوله تعالى : { فإن أعرضوا } عن الإيمان بعد هذا البيان { فقُل أنذرتُكم صاعقةً } الصاعقة : المُهلِكُ من كل شيء؛ والمعنى : أنذرتُكم عذاباً مثلَ عذابهم . وإنما خَصَّ القبيلتين ، لأن قريشاً يمُرُّون على قرى القوم في أسفارهم .
{ إذ جاءتهم الرُّسُل من بين أيديهم } أي : أتت آباءهم ومَنْ كان قبلهم { ومِنْ خَلْفهم } أي : من خلف الآباء ، وهم الذين أُرسلوا إلى هؤلاء الُمهلَكين { ألاّ تعبُدوا } أي : بأن لا تعبُدوا { إلا اللهَ قالوا لو شاءَ ربُّنا } أي : لو أراد دعوة الخلْق { لأنزل ملائكةً } .
قوله تعالى : { فاستكبَروا } أي : تكبَّروا عن الإِيمان وعَمِلوا بغير الحقِّ . وكان هود قد تهدَّدهم بالعذاب فقالوا : نحن نقدر على دفعه بفضل قوَّتنا . والآيات هاهنا : الحُجج .
وفي الرِّيح الصَّرصر أربعة أقوال :
أحدها : أنها الباردة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك . وقال الفراء : هي الرِّيح الباردة تحرق كالنار ، وكذلك قال الزجاج : هي الشديدة البرد جداً؛ فالصَّرصر متكرِّر فيها البرد ، كما تقول : أقللتُ الشيء وقلقلتُه ، فأقللتُه بمعنى رفعتُه ، وقلقلتُه : كرَّرتُ رفعه .
والثاني : أنها الشديدةُ السَّموم ، قاله مجاهد .
والثالث : الشديدة الصَّوت ، قاله السدي ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والرابع : الباردة الشديدة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { في أيّامٍ نَحِساتٍ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { نَحْساتٍ } بإسكان الحاء؛ وقرأ الباقون : بكسرها . قال الزجاج : من كسر الحاء ، فواحدُهن « نَحِس » . ومن أسكنها فواحدُهن « نَحْس »؛ والمعنى : مشؤومات .
وفي أوَّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال :
أحدها : غداة يوم الأحد ، قاله السدي .
والثاني : يوم الجمعة ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث : يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام . والخِزْي : الهوان .
قوله تعالى : { وأمّا ثمودُ فهدَيناهم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بيَّنَّا لهم ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير . وقال قتادة : بَيَّنَّا لهم سبيل الخير والشر .
والثاني : دَعَوْناهم ، قاله مجاهد .
والثالث : دَللْناهم على مذهب الخير ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { فاستَحبُّوا العمى } أي : اختاروا الكفر على الإِيمان ، { فأخذتهم صاعقةُ العذاب الهُون } أي : ذي الهوان ، وهو الذي يُهينهم .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
قوله تعالى : { ويومَ يُحْشَرُ أعداء الله } وقرأ نافع : « نَحْشُرُ » بالنون « أعداءً » بالنصب .
قوله تعالى : { فهم يُوزَعونَ } أي : يُحْبَس أوَّلهم على آخرِهم ليتلاحقوا .
{ حتَّى إذا ما جاؤوها } يعني النار التي حُشروا إليها { شَهِدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم } ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال :
أحدها : الأيدي والأرجل .
والثاني : الفروج ، رويا عن ابن عباس .
والثالث : أنه الجلود نفسها ، حكاه الماوردي . وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال : « كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : » هل تدرون مِمَّ أضحك؟ « قال : قلنا : اللهُ ورسولهُ أعلم . قال : » من مخاطبة العبد ربَّه ، يقول : يارب ألم تُجِرْني من الظُّلْم؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول : لا أُجيزُ عليَّ إلا شاهداً منِّي ، قال : فيقول : كفى بنفْسك اليومَ عليكَ شهيداٍ ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، قال : فيُخْتَمُ على فِيه ، فيقال لأركانه : انْطِقي ، قال : فتَنْطقُ بأعماله ، قال : ثُمَّ يُخَلَّى بينَه وبينَ الكلام ، فيقول : بُعْداً لَكُنَّ وسُحْقاً ، فعنكُنَّ كنتُ أًناضِل «
قوله تعالى : { قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَق كُلَّ شيءٍ } أي : ممّا نطق . وهاهنا تم الكلام . وما بعده ليس من جواب الجلود .
قوله تعالى : { وما كنتم تَستترون أن يَشهد عليكم سمْعُكم ولا أبصارُكم } روى البخاري ومسلم في » الصحيحين « من حديث ابن مسعود قال : كنتُ مستتراً بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفرٍ ، قرشيٌّ وخَتْناه ثقفيَّان ، أو ثقفيٌّ وختَنْاه قرشيّان ، كثيرٌ شّحْمُ بُطونهم ، قليلٌ فِقْهُ قُلوبهم ، فتكلَّموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ كلامَنا هذا؟ فقال الآخران : إنّا إذا رفعنا أصواتنا سَمِعَه ، وإن لم نَرفع لم يَسمع ، وقال الآخر : إن سمع منه شيئاً سمعه كُلَّه ، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تَستترون أن يشهد عليكم سمعكم . . . } إلى قوله : { من الخاسرين } ومعنى » تستترون « : تَسْتَخْفون » أن يَشهد « أي : من أن يشهد » عليكم سَمْعُكم « لأنكم لا تَقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ، ولا تظُنُّون أنها تَشهد { ولكن ظَنَنْتم أنَّ الله لا يَعلم كثيراً مما تَعملون } قال ابن عباس : كان الكفار يقولون : إن الله لا يَعلم ما في أنفُسنا ، ولكنه يعلم ما يَظهر ، { وذلكم ظنُّكم } أي : أن الله لا يَعلم ما تعملون ، { أرداكم } أهلككم .
{ فإن يَصْبِروا } أي : على النّار ، فهي مسكنهم ، { وإن يَسْتَعْتِبوا } أي : يَسألوا أن يُرجَع لهم إلى ما يحبُّون ، لم يُرْجَع لهم ، لأنهم لا يستحقُّون ذلك . يقال : أعتبني فلان ، أي : أرضاني بعد إسخاطه إيّاي . واستعتبتُه ، أي : طلبتُ منه أن يُعْتِب ، أي : يَرضى .
قوله تعالى : { وقيَّضْنا لهم قُرنَاءَ } أي : سبَّبنا لهم قرناء من الشياطين { فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خَلْفَهم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ما بين أيديهم : من أمر الآخرة أنه لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وما خَلْفَهم : من أمر الدنيا ، فزيَّنوا لهم اللذّات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير .
والثاني : ما بين أيديهم : من أمر الدنيا ، وما خلفهم : من أمر الآخرة ، على عكس الأول .
والثالث : ما بين أيديهم : ما فعلوه ، وما خلفهم : ما عزموا على فعله . وباقي الآية [ قد ] تقدم تفسيره [ الإسراء : 16 ] [ الأعراف : 38 ] .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن } أي : لا تسمعوه { والْغَوْا فيه } أي : عارِضوه باللَّغو ، وهو الكلام الخالي عن فائدة . وكان الكفَّار يوصي بعضُهم بعضاً : إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تُلبِّسوا عليهم قولهم . وقال مجاهد : والغَوْا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ { لعلَّكم تَغْلِبون } فيسكُتون .
قوله تعالى : { ذلكَ جزاءُ أعداءِ الله } يعني العذاب المذكور . وقوله : { النارُ } بدل من الجزاء { لهم فيها دارُ الخُلْد } أي : دار الإقامة . قال الزجاج : النار هي الدّار ، ولكنه كما تقول : لك في هذه الدّار دار السُّرور ، وأنت تعني الدّار بعينها ، قال الشاعر :
أخور رغائبَ يُعطيها ويسألها ... يأبى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } لمّا دخلوا النار { ربَّنا أَرِنا اللَّذَينِ أضلاَّنا } وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : « أَرْنا » بسكون الراء . قال المفسرون : يعنون إبليس وقابيل ، لأنهما سنّا المعصية ، { نجعلْهما تحتَ أقدامنا ليكونا من الأسفلين } أي : في الدَّرْك الأسفل ، وهو أشدُّ عذاباً من غيره .
ثم ذكر المؤمنين فقال : { إِنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ } [ أي : وحَّدوه ] { ثم استقاموا } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : استقاموا على التوحيد ، قاله أبو بكر الصِّدِّيق ، ومجاهد .
والثاني : على طاعة الله وأداء فرائضه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
والثالث : على الإِخلاص والعمل إِلى الموت ، قاله أبو العالية ، والسدي ، وروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيق ، وذلك أن المشركين قالوا : ربُّنا الله ، والملائكة بناتُه ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، وقالت اليهود : ربُّنا الله ، وعزيرٌ ابنُه ، ومحمد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقالت النصارى : ربُّنا الله ، والمسيح ابنه ، ومحمد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقال أبو بكر : ربنا الله وحده ، ومحمدٌ عبدُه ورسولُه ، فاستقام .
قوله تعالى : { تتنزَّل عليهم الملائكةُ ألاّ تَخافوا } أي : بأن لا تخافوا . وفي وقت نزولها عليهم قولان :
أحدهما : عند الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد؛ فعلى هذا في معنى { لا تخافوا } قولان .
أحدهما : لا تخافوا الموت ، ولا تحزنوا على أولادكم ، قاله مجاهد .
والثاني : لا تخافوا ما أمَامكم ، ولا تحزنوا على ما خَلْفكم ، قاله عكرمة ، والسدي .
والقول الثاني : تتنزَّل عليهم إذا قاموا من القبور ، قاله قتادة؛ فيكون معنى « لا تخافوا » : أنهم يبشِّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة .
قوله تعالى : { نحن أولياؤكم } قال المفسرون : هذا قول الملائكة لهم ، والمعنى : نحن [ الذين ] كنّا نتوّلاكم في الدُّنيا ، لأن الملائكة تتولَّى المؤمنين وتحبُّهم لِما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء ، { وفي الآخرة } أي : ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة . وقال السدي : هم الحَفظة على ابن آدم ، فلذلك قالوا : { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ؛ وقيل : هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح .
قوله تعالى : { ولكم فيها } أي : في الجنة .
{ نُزُلاً } قال الزجاج : معناه : أبشروا بالجنة تنزلونها [ نُزُلاً ] . وقال الأخفش : لكم فيها ما تشتهي أنفسُكم أنزلناه نُزُلاً .
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
قوله تعالى : { ومَن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إِلى الله } فيمن أُريد بهذا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم المؤذِّنون . روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نزلت في المؤذنين » ، وهذا قول عائشة ، ومجاهد ، وعكرمة .
والثاني : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وابن زيد .
والثالث : أنه المؤمن أجابَ اللهَ إلى ما دعاه ، ودعا الناسَ إلى ذلك { وعمل صالحاً } في إجابته ، قاله الحسن .
وفي قوله : { وعَمِل صالحاً } ثلاثة أقوال :
أحدها : صلّى ركعتين بعد الأذان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد . وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم : { ومن أحسنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله } قال : الأذان { وعمل صالحاً } قال : الصلاة بين الأذان والإِقامة .
والثاني : أدَّى الفرائض وقام لله بالحقوق ، قاله عطاء .
والثالث : صام وصلَّى ، قاله عكرمة .
قوله تعالى : { ولا تَستوي الحسنةُ ولا السَّيَّئةُ } قال الزجاج : « لا » زائدة مؤكِّدة؛ والمعنى : ولا تستوي [ الحسنة ] والسَّيِّئة . وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الحسنة : الإِيمان ، والسَّيِّئة : الشِّرك ، قاله ابن عباس .
والثاني : الحِلْم والفُحْش ، قاله الضحاك .
والثالث : النُّفور والصَّبر ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { ادفَعْ بالَّتي هي أحسنُ } وذلك كدفع الغضب بالصبر ، والإِساءة بالعفو ، فإذا فعلتَ ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصَّديق القريب ، وقال عطاء : هو السَّلام على من تعاديه إذا لَقِيتَه . قال المفسرون : وهذه الآية منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : { وما يُلَقَّاها } أي : ما يُعْطاها . قال الزجاج : ما يُلَقَّى هذه الفَعْلَة : وهي دفع السَّيَّئة بالحسنة { إلاّ الذين صبروا } على كظم الغيظ { وما يُلَقَّاها إلاّ ذو حَظٍّ عظيمٍ } من الخير . وقال السدي : إلاّ ذو جَدٍّ . وقال قتادة : الحظُّ العظيم : الجنة؛ فالمعنى : ما يُلَقَّاها إلاّ مَنْ وجبت له الجنة .
قوله تعالى : { وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطانِ نَزْغٌ } قد فسَّرناه في [ الأعراف : 200 ] .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قوله تعالى : { فإن استَكْبَروا } [ أي : تكبَّروا عن التوحيد والعبادة ] { فالذين عند ربِّكَ } يعني الملائكة { يسبِّحون } أي : يصلُّون . و « يَسأمون » بمعنى يَمَلُّون .
وفي موضع السجدة قولان :
أحدهما : أنه عند قوله : « يَسأمون » ، قاله ابن عباس ، ومسروق ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى ، لأنه تمام الكلام .
والثاني : [ أنه ] عند قوله : { إن كنتم إيَّاه تعبُدون } ، روي عن أصحاب عبد الله ، والحسن ، وأبي عبد الرحمن .
قوله تعالى : { ومن آياته أنَّكَ تَرى الأرضَ خاشعةً } قال قتادة : غبراء متهشّمة قال الأزهري : إذا يَبِست الأرضُ ولم تُمْطَر ، قيل : خَشَعَتْ .
قوله تعالى : { اهتزَّت } أي : تحرَّكَتْ بالنَّبات { وَرَبتْ } أي : عَلَتْ ، لأن النبت إذا أراد أن يَظْهَر ارتفعت له الأرضُ؛ وقد سبق بيان هذا [ الحج : 5 ] .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُلْحِدونَ في آياتنا } قال مقاتل : نزلت في أبي جهل . وقد شرحنا معنى الإِلحاد في [ النحل : 103 ] ؛ وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال :
أحدها : أنه وَضْع الكلام على غير موضعه ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه المُكاء والصفير عند تلاوة القرآن ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه التكذيب بالآيات ، قاله قتادة .
والرابع : أنه المُعانَدة ، قاله السدي .
والخامس : أنه المَيْل عن الإِيمان بالآيات ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لا يَخْفَوْنَ علينا } هذا وعيد بالجزاء { أفمن يُلْقَى في النار خير أم مَنْ يأتي آمِناً يومَ القيامة } وهذا عامّ ، غير أن المفسرين ذكَروا فيمن أُريدَ به سبعةَ أقوال :
أحدها : أنه أبو جهل وأبو بكر الصِّدِّيق ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أبو جهل وعمّار بن ياسر ، قاله عكرمة .
والثالث : أبو جهل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والرابع : أبو جهل وعثمان بن عفّان ، حكاه الثعلبي .
والخامس : أبوجهل وحمزة ، حكاه الواحدي .
والسادس : أبو جهل وعمر بن الخطاب .
والسابع : الكافر والمؤمن ، حكاهما الماوردي .
قوله تعالى : { اعْمَلوا ما شئتم } قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الوعيد والتهديد .
قوله تعالى : { إنَّ الذين كَفَروا بالذِّكْر } يعني القرآن؛ ثم أخذ في وصف الذِّكر؛ وتَرَكَ جواب « إِنَّ » ، وفي جوابها هاهنا قولان :
[ أحدهما ] : أنه « أولئك ينادَوْنَ من مكان بعيد » ، ذكره الفراء .
والثاني : أنه متروك ، وفي تقديره قولان : أحدهما : إن الذين كفروا بالذِّكْر لمّا جاءهم كفروا به . والثاني : إن الذين كفروا يجازَون بكفرهم .
قوله تعالى : { وإنَّه لَكِتابٌ عزيزٌ } فيه أربعة أقوال :
أحدها : مَنيعٌ من الشيطان لا يجد إِليه سبيلاً ، قاله السدي .
والثاني : كريمُ على الله ، قاله ابن السائب .
والثالث : مَنيعٌ من الباطل ، قاله مقاتل .
والرابع : يمتنع على الناس أن يقولوا مِثْلَه ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { لا يأتيه الباطل } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : التكذيب ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : الشيطان .
والثالث : التبديل ، رويا عن مجاهد . قال قتادة : لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقاً ، ولا يَزيد فيه باطلاً ، وقال مجاهد : لا يدخل فيه ماليس منه .
وفي قوله : { مِنْ بينِ يَدَيْه ولا مِنْ خَلْفه } ثلاثة اقوال .
أحدها : بين يَدَي تنزيله ، وبعد نزوله .
والثاني : أنه ليس قَبْلَه كتاب يُبْطِله ، ولا يأتي بعده كتاب يُبْطِله .
والثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدَّم ، ولا في إخباره عمّا تأخر .
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
قوله تعالى : { ما يُقالُ لكَ إلاّ ما قد قِيل للرُّسُل مِِنْ قَبْلِكَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه قد قيل فيمن أًرْسِلَ قَبْلَكَ : ساحر وكاهن ومجنون . وكُذِّبوا كما كًذِّبتَ ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : ما تُخْبَر إلاّ بما أًخْبِر الأنبياءُ قَبْلَك من أن الله غفور ، وأنه ذو عقاب ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { ولو جَعَلْناه } يعني الكتاب الذي أُنزلَ عليه { قرآناً أعجميّاً } أي : بغير لغة العرب { لقالوا لولا فُصِّلت آياتُه } أي : هلاّ بيِّنت آياتُه بالعربية حتى نفهمه؟! { أأعجميٌ وعربيٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : « آعجمي » [ بهمزة ] ممدودة ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { أأعجمي } بهمزتين ، والمعنى : أكِتابٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي؟! وهذا استفهام إنكار؛ أي : لو كان كذلك لكان أشدَّ لتكذيبهم .
{ قُلْ هو } يعني القرآن { للذين آمنوا هُدىً } من الضلالة { وشفاءٌ } للشُّكوك والأوجاع . و « الوَقْر » : الصَّمم؛ فهُم في ترك القبول بمنزلة مَنْ في أُذنه صمم .
{ وهو عليهم عمىً } أي : ذو عمىً . قال قتادة : صَمُّوا عن القرآن وعَمُوا عنه { أولئك ينادَوْنَ من مكان بعيدٍ } أي : إِنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي يُنادي من بعيد .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى : كما آمن بكتابك قومٌ وكذَّب به قومٌ . فكذلك كتاب موسى ، { ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربِّكَ } في تأخير العذاب إلى أجل مسمّىً وهو القيامة { لقُضيَ بينَهم } بالعذاب الواقع بالمكذِّبين { وإِنَّهم لفي شَكٍّ } مِنْ صِدقك وكتابك ، { مريبٍ } أي : مُوقع لهم الرِّيبة .
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
قوله تعالى : { إِليه يُرَدُّ عِلْمُ السّاعة } سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أَخْبِرنا عن السّاعة إن كنتَ رسولاً كما تزعم ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : لا يَعْلَم قيامَها إلا هو ، فإذا سُئل عنها فِعلْمُها مردودٌ إِليه .
{ وما تَخْرُج من ثمرةٍ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : « من ثمرةٍ » . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : « من ثمراتٍ » على الجمع { مِنْ أكمامها } أي : أوعيتها . قال ابن قتيبة : أي : من المواضع التي كانت فيها مستترةً ، وغلاف كل شيء : كُمُّه ، وإِنما قيل : كُمُّ القميص ، من هذا . قال الزجاج : الأكمام : ما غَطَّى ، وكلُّ شجرة تُخْرِج ماهو مُكَمَّم فهي ذات أكمام ، وأكمامُ النخلة : ما غطَّى جُمَّارَها من السَّعَفِ والليف والجِذْع ، وكلُّ ما أخرجتْه النخلة فهو ذو أكمام ، فالطَّلْعة كُمُّها قشرها ، ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة : كُمَّة ، لأنها تُغَطِّي الرأْس ، ومن هذا كُمّا القميص ، لأنهما يغطِّيان اليدين .
قوله تعالى : { ويومَ يُناديهم } أي : ينادي اللهُ تعالى المشركين { أين شركائِي } الذين كنتم تزعُمون { قالوا آذَنّاكَ } قال الفراء ، وابن قتيبة : أعلمناكَ ، وقال مقاتل : أسمعناكَ { ما مِنّا من شهيدٍ } فيه قولان .
أحدهما : أنه من قول المشركين؛ والمعنى : ما مِنّا مِنْ شهيد بأنَّ لكَ شريكاً ، فيتبرَّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون ، هذا قول مقاتل .
والثاني : [ أنه ] من قول الآلهة التي كانت تُعبد؛ والمعنى : ما مِنّا من شهيد لهم بما قالوا ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { وضَلَّ عنهم } أي : بََطَلَ عنهم في الآخرة { ما كانوا يَدْعُونَ } أي : يعبُدون في الدنيا ، { وظنُّوا } أي : أيقنوا { ما لهم مِنْ مَحيصٍ } وقد شرحنا المحيص في سورة [ النساء : 121 ] .
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
قوله تعالى : { لا يَسأمُ الإِنسانُ } قال المفسرون : المراد به الكافر؛ فالمعنى : لا يَمَلُّ الكافرُ { من دعاء الخير } أي : من دعائه بالخير ، وهو المال والعافية . { وإِن مَسَّه الشَّرُّ } وهو الفقر والشِّدة؛ والمعنى : إذا اختُبر بذلك يئس من رَوْح ال ، له وقَنْط من رحمته . وقال أبو عبيدة : اليؤوس ، فَعُول من يأس ، والقَنُوط ، فَعُول من قَنَط .
قوله تعالى : { لئن أَذَقْناه رَحْمَةً مِنَّا } أي : خيراً وعافية وغِنىً ، { لَيَقُولَنَّ هذا لِي } أي : هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به ، ثم يشُكُّ في البعث فيقول { وما أظُنُّ السّاعةَ قائمةً } أي : لست على يقين من البعث { ولئن رُجِعْتُ إلى ربِّي إنَّ لي عندَه لَلْحُسنى } يعني الجنة ، أي : كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة { فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كفَروا } أي : لَنُخْبِرَنَّهم بمساوئ أعمالهم . وما بعده قد سبق [ إبراهيم : 17 ] [ الإسراء : 83 ] إلى قوله تعالى { ونأى بجانبه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { ونأى } مثل « نعى » . وقرأ ابن عامر : « وناء » مفتوحة النون ممدودة والهمزة بعد الألف . وقرأ حمزة : « نئى » مكسورة النون والهمزة .
{ فذو دُعاءٍ عريضٍ } قال الفراء ، وابن قتيبة : معنى العريض : الكثير ، وإن وصفته بالطول أو بالعَرْض جاز في الكلام .
{ قُلْ } يامحمد لأهل مكة { أرأيتم إِن كان } القرآن { مِنْ عند الله ثُمَّ كَفَرتُم به مَنْ أَضَلُّ مِمَّن هو في شِقاق } أي : خلاف للحق ( بعيدٍ ) عنه؟! وهو اسم؛ والمعنى : فلا أحدٌ أَضَلّ منكم . وقال ابن جرير : معنى الآية : [ ثُمَّ ] كفرتم به ، ألستُم في شقاقٍ للحق وبُعد عن الصواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية .
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى : { سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسُهم } فيه خمسة أقوال .
أحدها : في الآفاق : فتح أقطار الأرض ، وفي أنفسهم : فتح مكة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنها في الآفاق : وقائع الله في الأمم الخالية ، وفي أنفسهم : يوم بدر ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والثالث : أنها في الآفاق : إمساك القَطْر عن الأرض كلِّها ، وفي أنفسهم : البلايا التي تكون في أجسادهم ، قاله ابن جريج .
والرابع : أنها في الآفاق : آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم ، وفي أنفسهم : حوادث الأرض ، قاله ابن زيد . وحكي عن ابن زيد؛ أن التي في أنفُسهم : سبيل الغائط والبول ، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج من مكانين .
والخامس : أنها في الآفاق : آثار مَنْ مضى قَبْلَهم من المكذِّبين ، وفي أنفسهم : كونهم خُلِقوا نُطَفاً ثم عَلَقاَ ثم مُضَغاً ثم عظاماً إلى أن نُقِلوا إلى العقل والتمييز ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّن لهم أنَّه الحَقُّ } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن .
والثاني : إلى جميع ما دعاهم إِليه الرسول . وقال ابن جرير : معنى الآية : حتى يعلموا حقيقة ما أَنزلْنا على محمد وأوحينا إِليه من الوعد له بأنّا مُظْهِرو دينه على الأديان كلِّها .
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بربِّكَ أنه على كُلِّ شيءٍ شهيدٌ } أي : أوَلَمْ يكفِ به أنه شاهدٌ على كل شيء؟! قال الزجاج : المعنى : أو لم يكفِهم شهادةُ ربِّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا : أنه قد بيَّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
قوله تعالى : { حم } قد سبق تفسيره [ المؤمن ] .
قوله تعالى : { عسق } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه قَسَمٌ أقسم اللهُ به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه حروف من أسماء؛ ثم فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن العين عِلْم الله ، والسين سناؤه ، والقاف قُدرته ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .
والثاني : أن العين فيها عذاب ، والسين فيها مسخ ، والقاف فيها قذف ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثالث : أن الحاء من حرب ، والميم من تحويل مُلك ، والعين من عدوّ مقهور ، والسين استئصال بسِنين كسِنيّ يوسف ، والقاف من قُدرة الله في ملوك الأرض ، قاله عطاء .
والرابع : أن العين من عالم ، والسين من قُدُّوس ، والقاف من قاهر ، قاله [ سعيد ] بن جبير .
والخامس : أن العين من العزيز ، والسين من السلام ، والقاف من القادر ، قاله السدي .
والثالث : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { كذلكَ يُوحِي إِليكَ } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه كما أوحيتُ « حم عسق » إلى كلِّ نبيّ ، كذلك نوحيها إليك ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى مَنْ قَبْلَكَ ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أن « حم عسق » نزلت في أمر العذاب ، فقيل : كذلك نُوحِي إليكَ أن العذاب نازلٌ بمن كذَّبك كما أوحينا ذلك إلى مَنْ كان قَبْلَكَ ، قاله مقاتل .
والرابع : أن المعنى : هكذا نوحي إليكَ ، قاله ابن جرير .
وقرأ ابن كثير : « يُوحَى » بضم الياء وفتح الحاء . كأنه إذا قيل : مَن يوحي؟ قيل : الله . وروى أبان عن عاصم : « نوحي » بالنون وكسر الحاء .
{ تَكادُ السَّماوات يَتَفَطَّرْنَ } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة : { تكاد } بالتاء { يَتَفَطَّرْنَ } بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها . وقرأ نافع ، والكسائي : { يكاد } بالياء { يَتَفَطِّرْنَ } مثل قراءة ابن كثير . وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : { تكاد } بالتاء { يَنْفَطِرْنَ } بالنون وكسر الطاء وتخفيفها ، أي : يَتَشَقَّقْنَ { مِنْ فَوْقِهِنَّ } أي : من فوق الأَرضِين من عَظَمة الرحمن؛ وقيل : من قول المشركين : « اتخذ الله ولداً » . ونظيرها [ التي ] في [ مريم : 90 ] .
{ والملائكةُ يسبِّحونَ بحمد ربِّهم } قال بعضهم : يصلُّون بأمر ربِّهم؛ وقال بعضهم : ينزِّهونه عمّا لا يجوز في صفته { ويَستغفرون لِمَنْ في الأرض } فيه قولان .
أحدهما : أنه أراد المؤمنين ، قاله قتادة ، والسدي .
والثاني : أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين ، فلمّا ابتُليَ هاروت وماروت استغفروا لِمَن في الأرض .
ومعنى استغفارهم : سؤالهم الرِّزق لهم ، قاله ابن السائب . وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله : { ويَستغفرون للذين آمنوا } [ غافر : 7 ] وليس بشيءٍ ، لأنهم إنَّما يَستغفرون للمؤمنين دون الكفار ، فلفظ هذه الآية عامّ ، ومعناها خاصّ ، ويدل على التخصيص قوله : { ويستغفرون للذين آمنوا } [ غافر : 7 ] لأن الكافر لا يستحق أن يُستغفَر له .
قوله تعالى : { والذين اتَّخَذوا مَنْ دونه أولياءَ } يعني كفار مكة اتَّخَذوا آلهة فعبدوها من دونه { اللهُ حفيظٌ عليهم } أي : حافِظٌ لأعمالهم ليجازيَهم بها { وما أنت عليهم بوكيل } أي : لم نوكِّلْكَ بهم فتؤخَذَ بهم . وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف ، ولا يصح .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قوله تعالى : { وكذلك } أي : ومثل ما ذكرنا { أوحينا إِليك قرآنا عربيّاً } ليفهموا مافيه { لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى } يعني مكة ، والمراد : أهلها ، { وتُنْذِرَ يومَ الجَمْعِ } أي : وتُنذِرهم يوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، يَجمع اللهُ فيه الأوَّلِين والآخرِين وأهل السموات والأرضِين { لا ريب فيه } أي : لا شكَّ في هذا الجمع أنه كائن ، ثم بعد الجمع يتفرَّقون ، وهو قوله : { فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير } .
ثم ذكر سبب افتراقهم فقال : { ولو شاءَ اللهُ لجعلهم أًمَّةً واحدةً } أي : على دين واحد ، كقوله : { لَجَمَعَهُمْ على الهُدى } [ الأنعام : 35 ] { ولكن يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته } أي : في دينه { والظّالمون } وهم الكافرون { مالهم من ولِيّ } يدفع عنهم العذاب { ولا نصيرٍ } يمنعهم منه .
{ أمِ اتَّخَذوا مِنْ دُونِه } أي : بل اتخذ الكافرون من دون الله { أولياءَ } يعني آلهة يتولَّونهم { فاللهُ هو الوليُّ } أي : وليُّ أوليائه ، فليتَّخذوه وليّاً دون الآلهة؛ وقال ابن عباس : وليُّك يا محمد ووليُّ من اتَّبعك .
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
قوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيءٍ } أي : من أمر الدِّين؛ وقيل : بل هو عامّ { فحُكمه إِلى الله } فيه قولان .
أحدهما : علمه عند الله .
والثاني : هو يحكُم فيه . قال مقاتل . وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم ، فقال الله : أنا الذي أحكُم فيه { ذلكم اللهُ } الذي يحكُم بين المختلفين هو { ربِّي عليه توكلت } في مهمّاتي { وإِليه أُنيب } أي : أرجِع في المَعاد .
{ فاطرُ السموات } قد سبق بيانه [ الأنعام : 14 ] ، { جعل لكم من أنفُسكم } أي : من مِثل خَلْقكم { أزواجاً } نساءً { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، والمعنى أنه خلق لكم الذَّكر والأنثى من الحيوان كلِّه { يذرؤكم } فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : يخلُقكم ، قاله السدي .
والثاني : يُعيِّشكم ، قاله مقاتل .
والثالث : يكثِّركم ، قاله الفراء . و [ في قوله ] ( فيه ) قولان .
أحدهما : أنها على أصلها ، قاله الأكثرون . فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج ، قاله زيد بن أسلم . فعلى هذا يكون المعنى : يخلُقكم في بطون النساء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة ، فقال : يخلُقكم في الرَّحِم أو في الزَّوج ، وقال ابن جرير : يخلُقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ، ويعيِّشكم فيما جعل لكم من الأنعام .
والثاني : أنها ترجع إلى الأرض ، قاله ابن زيد؛ فعلى هذا يكون المعنى : يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض .
والثالث : أنها ترجع إلى الجَعْل المذكور؛ ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : يعيِّشكم فيما جعل من الأنعام ، قاله مقاتل .
والثاني : يخلُقكم في هذا الوجه الذي ذكر مِنْ جَعْلِ الأزواج قاله الواحدي .
والقول الثاني : أن « فيه » بمعنى « به »؛ والمعنى يكثرِّكم بما جعل لكم ، قاله الفراء والزجاج .
قوله تعالى : { ليس كمثِّله شيءٌ } قال ابن قتيبة : أي ليس كَهُوَ شيء ، والعرب تُقيم المِثْلَ مُقام النَّفْس ، فتقول : مِثْلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي هذا . وقال الزجاج : الكاف مؤكِّدة ، والمعنى : ليس مِثْلَه شيءٌ ، وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الزمر : 63 ] [ الرعد : 26 ] إلى قوله { شَرَعَ لكم } أي : بيَّن وأوضح { من الدِّين ما وصَّى به نُوحاً } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام ، قاله قتادة .
والثاني : تحريم الأخوات والأُمَّهات ، قاله الحكم .
والثالث : التوحيد وترك الشِّرك .
قوله تعالى : { والذي أَوحينا إِليكَ } أي : من القرآن وشرائع الإِسلام قال الزجاج : المعنى : وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى وقوله : { أَن أَقيموا الدِّين } تفسير قوله : { ما وصَّينا به إِبراهيمَ وموسى وعيسى } ، وجائز أن يكون تفسيراً ل « ما وصَّى به نوحاً » ولقوله : { والذي أَوحينا إِليك } ولقوله : { وما وصَّينا به إِبراهيم وموسى وعيسى } ، فيكون المعنى : شرع لكم ولِمَن قبلكم إقامة الدِّين وترك الفُرقة ، وشرع الاجتماع على اتِّباع الرُّسل وقال مقاتل : { أن أَقيموا الدِّين } يعني التوحيد { ولا تتفرَّقوا فيه } أي : لا تختلفوا { كَبُرَ على المشركين } أي : عَظُمَ على مشركي مكة { ما تَدْعوهم إِليه } يا محمد من التوحيد .
قوله تعالى : { اللهُ يَجتبي إِليه } أي : يَصطفي من عباده لِدِينه { مَنْ يَشاءُ ويَهدي } إِلى دِينه { من يُنيبُ } أي : يَرجع إِلى طاعته .
ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفُرقة ، فقال : { وما تفرَّقوا } يعني أهل الكتاب { إلاَّ مِنَ بَعْدِ ما جاءهم العِلْمُ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من بعد كثرة عِلْمهم للبغي .
والثاني : من بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال .
والثالث : من بعد ما جاءهم القرآن ، بغياً منهم على محمد صلى الله عليه وسلم .
{ ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربِّك } في تأخير المكذِّبين من هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة ، { لَقُضِيَ بينَهم } بإنزال العذاب على المكذِّبين { وإِنَّ الذين أًورثوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى { مِنْ بعدِهم } أي : من بعد أنبيائهم { لفي شكٍّ منه } أي : من محمد صلى الله عليه وسلم .
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
قوله تعالى : { فلذلك فادْعُ } قال الفراء : المعنى : فالى ذلك ، تقول : دعوتُ إلى فلان ، ودعوت لفلان ، و « ذلك » بمعنى « هذا »؛ وللمفسرين قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن السائب .
والثاني : أنه التوحيد ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ولا تَتَّبِعْ أهواءَهم } يعني : أهل الكتاب ، لأنهم دعَوه إلى دينهم .
قوله تعالى : { وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم } قال بعض النحويِّين المعنى : أًمِرْتُ كي أَعْدِلَ . وقال غيره المعنى : أُمِرْتُ بالعَدْل . وتقع « أُمِرْتُ » على « أن » ، وعلى « كي » وعلى « اللام » يقال أُمِرْتُ أن أعدل ، وكي أعدل ، ولأعدل .
ثم في ما أُمِرَ أن يَعْدِلَ فيه قولان .
أحدهما : في الأحكام إذا ترافعوا إليه .
والثاني : في تبليغ الرسالة .
قوله تعالى : { اللهُ ربُّنا وربُّكم } أي : هو آلهنا وإن اختلفنا ، فهو يجازينا بأعمالنا ، فذلك قوله : { لنا أعمالُنا } أي : جزاؤها .
{ لا حُجَّةَ بينَنا وبينكم } قال مجاهد : لا خصومة بينَنا وبينَكم .
فصل
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار ، وذلك قبل القتال ، ثم نزلت آية السيف فنسختْها ، قاله الأكثرون .
والثاني : أن معناها : إن الكلام بعد ظُهور الحُجج والبراهين قد سقط بيننا ، فعلى هذا هي مُحْكَمة ، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين .
قوله تعالى : { والذين يُحاجُّونَ في الله } أي : يُخاصِمون في دِينه . قال قتادة : هم اليهود ، قالوا كتابُنا : قَبْلَ كتابكم ، ونبيُّنا قبل نبيِّكم ، فنحن خيرٌ منكم . وعلى قول مجاهد : هم المشركون ، طمعوا أن تعود الجاهلية .
قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ ما استُجيب له } أي : من بعد إجابة الناس إلى الإسلام { حُجَّتُهم داحضة } أي : خصومتهم باطلة .
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قوله تعالى : { اللهُ الذي أنزل الكتابَ } يعني القرآن { بالحق } أي : لم ينزله لغير شيء { والميزانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : أنه الذي يوزَن به ، حكي عن مجاهد . ومعنى إِنزاله : إلهامُ الخَلْق أن يَعملوا به ، وأمرُ الله عز وجل إيّاهم بالإِنصاف . وسمِّي العَدْلُ ميزاناً ، لأن الميزان آلة الإِنصاف والتسوية بين الخَلْق . وتمام الآية مشروح في [ الأحزاب : 63 ] .
قوله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمِنون بها } لأنهم لا يخافون ما فيها ، إذْ لم يؤمنوا بكونها ، فهم يطلبُون قيامها استبعاداً واستهزاءً { والذين آمنوا مشفِقون } أي : خائفون { منها } لأنهم يعلمون أنهم مُحاسَبون ومَجزيُّون ، ولا يدرون ما يكون منهم { ويَعلمون أنَّها الحَقُّ } أي : أنها كائنة لا مَحالة { ألا إِنَّ الذين يُمارونَ في السّاعة } أي : يخاصِمون في كونها { لفي ضلال بعيدٍ } حين لم يتفكَّروا ، فيَعلموا قدرة الله على إقامتها .
{ اللهُ لطيفٌ بعباده } قد شرحنا معنى [ اسمه ] « اللطيف » في [ الأنعام : 103 ] وفي عباده هاهنا قولان :
أحدهما : أنهم المؤمنون .
والثاني : أنه عامّ في الكُلّ ولطفُه بالفاجر : أنه لا يُهلِكه .
{ يرزُق من يشاء } أي : يوسِّع له الرِّزق .
قوله تعالى : { من كان يريد حَرْثَ الآخرة } قال ابن قتيبة : أي : عَمَلَ الآخرة ، يقال : فلانُ يحرُث الدُّنيا ، أي : يعمل لها ويجمع المال؛ فالمعنى : من أراد بعمله الآخرة { نَزِدْ له في حَرْثه } أي : نُضاعِف له الحسنات .
قال المفسرون : من أراد العمل لله بما يُرضيه ، أعانه الله على عبادته ، ومن أراد الدُّنيا مُؤْثِرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة ، يؤته منها ، وهو الذي قسم له ، { وما له في الآخرة مِنْ نصيبٍ } لأنه كافر بها لم يعمل لها .
فصل
اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى « حرثه » مُحْكَم ، واختلفوا في باقيها على قولين .
أحدهما : [ أنه ] منسوخ بقوله { عجَّلْنا له فيها ما نشاء لِمَنْ نُريد } [ الإسراء : 18 ] ، وهذا قول جماعة منهم مقاتل .
والثاني : أن الآيتين مُحكَمتان متَّفقتان في المعنى ، لأنه لم يقل في هذه الآية : نؤته مُراده ، فعُلِم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد وهذا موافق لقوله : « لِمَنْ نُريد » ، ويحقِّق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر ، وذلك لا يدخُله النسخ ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة .
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
قوله تعالى : { أَمْ لهم شركاءُ } يعني كفار مكة؛ والمعنى ألَهُمْ آلهةٌ { شَرَعوا } أي : ابتدعوا { لهم } دِيناً لم يأذن به الله؟! { ولولا كلمة الفصل } وهي : القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة { لقُضِيَ بينهم } في الدنيا بنزول العذاب على المكذِّبين . والظالمون في هذه الآية والتي تليها : يراد بهم المشركون . والإشفاق : الخوف . والذي كَسَبوا : هو الكفر والتكذيب ، { وهو واقعٌ بهم } يعني جزاؤه . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { ذلك } يعني : ما تقدم ذِكْره من الجنّات { الذي يُبَشِّر اللهُ عبادَه } قال أبو سليمان الدمشقي : « ذلك » بمعنى : هذا الذي أخبرتُكم به بشرى يبشِّر اللهُ بها عباده . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : « يَبْشَرُ » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين .
قوله تعالى : { قُلْ لا أسألُكم عليه أجْراً } في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنه لما قَدِم المدينةَ كانت تَنُوبه نوائبُ وليس في يده سَعَةٌ ، فقال الأنصار : إن هذا الرجُل قد هداكم اللهٌ به ، وليس في يده سَعَةٌ ، فاجْمَعوا له من أموالكم مالا يضرُّكم ، ففعلوا ثم أتَوْه به ، فنزلت هذه الآية ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .
والثالث : أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أتُرَون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والهاء في « عليه » كناية عمّا جاء به من الهُدى .
وفي الاستثناء هاهنا قولان :
أحدهما : أنه من الجنس ، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً . وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى ، ثم قال : نُسخت هذه بقوله { قُلْ ما سألتُكم مِنْ أجر فهوُ لكم . . . } الآية [ سبأ : 47 ] ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل .
والثاني : أنه استثناء من غير الأول ، لأن الأنبياء لا يَسألون على تبليغهم أجراً؛ وإنما المعنى : لكنِّي أُذكّرُكم المَوَدَّةَ في القُرْبى ، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس ، منهم العوفي ، وهذا اختيار المحقِّقين ، وهو الصحيح ، فلا يتوجَّه النسخ أصلاً .
وفي المراد بالقُربى خمسة أقوال .
أحدها : أن معنى الكلام : إلاّ أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد في الأكثرين . قال ابن عباس : ولم يكن بطنٌ من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة .
والثاني : إلاّ [ أن ] تَوَدُّوا قرابتي ، قاله عليّ بن الحسين ، وسعيد بن جبير ، والسدي . ثم في المراد بقرابته قولان : أحدهما : عليّ وفاطمة وولدها ، وقد رووه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنهم الذين تَحْرُم عليهم الصدقة ويُقْسَم فيهم الخُمُس ، وهم بنو هاشم وبنو المطَّلِب .
والثالث : أن المعنى إلاّ أن تَوَدَّدوا إلى الله تعالى فيما يقرِّبكم إليه من العمل الصالح ، قاله الحسن وقتادة .
والرابع : إلاّ أن تَوَدُّوني ، كما تَوَدُّون قرابتَكم ، قاله ابن زيد .
والخامس : إلاّ أن تَوَدُّوا قرابتَكم وتصِلوا أرحامَكم ، حكاه الماوردي . والأول : أصح .
قوله تعالى : { ومَنْ يَقْتَرِفْ } أي : مَنْ يَكْتَسِبْ { حَسَنَةً نَزِدْ له فيها حُسْناً } أي : نُضاعفْها بالواحدة عشراً فصاعداً . وقرأ ابن السميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : « يَزِدْ له » له بالياء { إِن الله غفورٌ } للذُّنوب { شَكورٌ } للقليل حتى يضاعفَه .
{ أم يقولون } أي : بل يقول كفار مكة { افترى على الله كَذِباً } حين زعم أن القرآن من عند الله! { فإن يشِأ اللهُ يَخْتِمْ على قلبك } فيه قولان .
أحدهما : يَخْتِم على قلبك فيُنسيك القرآن ، قاله قتادة .
والثاني : يَرْبِط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يَشُقّ عليك قولهم : إنك مفترٍ ، قاله مقاتل والزجاج .
قوله تعالى : { ويَمْحُ اللهُ الباطلَ } قال الفراء : ليس بمردود على « يَخْتِمْ » فيكونَ جزماً ، وإنما هو مستأنَف ، ومثله ممّا حُذفتْ منه الواو { ويَدْعُ الإِنسانُ بالشِّرِّ } [ الإسراء : 11 ] وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير . تقديره : والله يمحو الباطل . وقال الزجاج : الوقف عليها « ويمحوا » بواو وألف؛ والمعنى : واللهُ يمحو الباطل على كل حالٍ ، غير أنها كُتبتْ في المصاحف بغير واو ، لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين ، فكُتبتْ على الوصل ، ولفظ الواو ثابت؛ والمعنى : ويمحو اللهُ الشِّرك ويُحِقُّ الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم .
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
قوله تعالى : { وهو الذي يَقْبَل التَّوبة عن عباده } قد ذكرناه في [ براءة : 104 ] .
قوله تعالى : { ويَعْلَمُ ما تَفعلون } أي : من خير وشرّ . قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بالتاء ، وقرأ الباقون : بالياء ، على الإِخبار عن المشركين والتهديد لهم .
و « يستجيب » بمعنى يُجيب . وفيه قولان :
أحدهما : أن الفعل فيه لله ، والمعنى : يُجيبهم إذا سألوه؛ وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي { ويستجيب الذين آمنوا } قال : يُشَفَّعون في إِخوانهم . { ويَزيدُهم مِنْ فَضْله } قال : يُشَفَّعون في إِخوان إِخوانهم .
والثاني : أنه للمؤمنين؛ فالمعنى : يجيبونه والأول أصح .
قوله تعالى : { ولو بَسَطَ اللهُ الرِّزق لعباده } قال خَبَّاب ابن الأرتّ : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنّا نَظَرْنا إلى أموال بني قريظة والنَّضير فتمنَّيناها ، فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية : لو أوسَع اللهُ الرِّزق لعباده لبَطِروا وعَصَوْا وبغى بعضُهم على بعض ، { ولكن ينزِّل بقَدَرٍ ما يشاءُ } أي : ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يُصلح أمورَهم ولا يُطغيهم { إِنه بعباده خبيرٌ بصيرٌ } فمنهم من لا يُصلحه إلا الغنى ، ومنهم من لا يُصلحه إلا الفقر .
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
{ وهو الذي ينزِّل الغيث } يعني : المطر وقت الحاجة { مِنْ بَعْدِ ما قَنَطوا } أي : يئسوا ، وذلك أدعى لهم إلى شكر مُنزله { ويَنْشُر رحمتَه } في الرحمة هاهنا قولان .
أحدهما : المطر ، قاله مقاتل .
والثاني : الشمس بعد المطر ، حكاه أبو سليمان الدمشقي . وقد ذكرنا « الوليَ » في سورة [ النساء : 45 ] و « الحميد » في [ البقرة : 267 ] .
قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة } وهو ما يلحق المؤمن من مكروهٍ { فبما كسَبَتْ أيديكم } من المعاصي . وقرأ نافع ، وابن عامر : « بما كسَبَتْ أيديكم » بغير فاء وكذلك [ هي ] في مصاحف أهل المدينة والشام { ويعفوا عن كثير } من السَّيّئات فلا يُعاقِبُ بها . وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللَّوم عمَّن أساء إليهم؟ قال : إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم ، وقرأ هذه الآية .
قوله تعالى : { وما أنتم بُمْعِجِزين في الأرض } إن أراد الله عقوبتكم ، وهذا يدخل فيه الكفار والعصاة كلُّهم .
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
قوله تعالى : { مِنْ آياته الجَواري في البحر } والمراد بالجوارِ : السفن . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : « الجواري » بياء في الوصل ، إِلاّ أن ابن كثير يقف أيضاً بياءٍ ، وأبو عمرو بغير ياء ، ويعقوب يوافق ابن كثير ، والباقون بغير ياءٍ في الوصل والوقف؛ قال أبو علي : والقياس ما ذهب إليه ابن كثير ، ومن حذف ، فقد كَثُر حذف مثل هذا كلامهم .
{ كالأعلام } قال ابن قتيبة : كالجبال ، واحدها : عَلَم . وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : كل شيء مرتفع عند العرب فهو عَلَم .
قوله تعالى : { إِن يشأْ يُسْكِنِ الرِّيح } التي تُجريها { فيَظْلَلْنَ } يعني الجواري { رواكدَ على ظهره } أي : سواكن على ظهر البحر { لا يَجْرِينْ } .
{ أو يُوبِقْهُنَّ } أي : يُهْلِكْهُنَّ ويُغْرِقْهُنَّ ، والمراد أهل السفن ، ولذلك قال : { بما كَسَبوا } أي : من الذُّنوب { ويَعْفُ عن كثير } من ذنوبهم ، فيُنجيهم من الهلاك .
{ ويَعْلَمَ الذين يُجادِلون } قرأ نافع ، وابن عامر : « ويَعْلَمُ » بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول؛ وقرأ الباقون بالنصب . قال الفراء : هو مردود على الجزم ، إِلاّ أنه صُرف ، والجزم إِذا صُرف عنه معطوفه نُصب .
وللمفسرين في معنى الآية قولان .
أحدهما : ويعلم الذين يخاصِمون في آيات الله حين يؤخَذون بالغرق أنه لا ملجأَ لهم .
والثاني : أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب .
قوله تعالى : { فما أُوتيتم من شيءٍ } أي : ما أُعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتَّعون به ، ثم يزول سريعاً { وما عند الله خيرٌ وأبقى للذين آمنوا } لا للكافرين ، لأنه إنما أعدَّ لهم في الآخرة العذاب .
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قوله تعالى : { والذين يَجْتَنِبون كبائرَ الإِثم } وقرأ حمزة ، والكسائي : « كبيرَ الإِثم » على التوحيد من غير ألف ، والباقون بألف . وقد شرحنا الكبائر في سورة [ النساء : 31 ] . وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان :
أحدهما : الزنا .
والثاني : موجبات الحدود .
قوله تعالى : { وإِذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون } أي : يَعْفُون عمَّن ظَلَمهم طلباً لثواب الله تعالى .
{ والذين استجابوا لربِّهم } أي : أجابوه فيما دعاهم إليه .
{ وأمرُهم شُورى بينَهم } قال ابن قتيبة : أي يتشاورون فيه [ بينهم ] . وقال الزجاج : المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه .
قوله تعالى : { والذين إِذا أصابهم البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرون } اختلفوا في [ هذا ] البَغْي على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بَغْيُ الكفار على المسلمين ، قال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبَغَوْا عليهم ، ثم مَكنَّهم الله منهم فانتصروا . وقال زيد بن أسلم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين بمكة ، فرقة كانت تُؤذَى فتَعفو عن المشركين ، وفرقة كانت تُؤذَى فتنتصر ، فأثنى اللهُ عز وجل عليهم جميعاً ، فقال في الذين لم ينتصروا : { وإِذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون } ، وقال في المنتصِرين : { والذين إِذا أصابهم البَغْيُ هم ينتصرون } أي : من المشركين . وقال ابن زيد : ذكر المهاجرين ، وكانوا صنفين ، صنفاً عفا ، وصنفاً انتصر ، فقال : { وإِذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون } ، فبدأ بهم ، وقال في المنتصرين : { والذين إِذا أصابهم البَغْي هم ينتصِرون } أي : من المشركين؛ وقال : { والذين استجابوا لربِّهم } إلى قوله { يُنْفِقون } وهم الأنصار؛ ثم ذكر الصِّنف الثالث فقال : { والذين إِذا أصابهم البَغْيُ هم ينتصِرون } من المشركين .
والثاني : أنه بَغْيُ المسلمين على المسلمين خاصة .
والثالث : أنه عامّ في جميع البُغاة ، سواء كانوا مسلمين أو كافرين .
فصل
واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى أنها منسوخة بآية السيف ، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بَغْي المشركين ، فلمّا جاز لنا أن نبدأَهم بالقتال ، دَلَّ على أنها منسوخة . وللقائلين بأنها في المسليمن قولان :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله : { ولَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ } [ الشورى : 43 ] فكأنها نبَّهتْ على مدح المنتصِر ، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح ، فبان وجه النسخ .
والثاني : أنها محكَمة ، لأن الصبر والغفران فضيلة ، والانتصار مباح ، فعلى هذا تكون محكمة ، [ وهو الأصح ] .
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وظاهرُها مدح المنتصِر وبين آيات الحَثِّ على العفو؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه انتصار المسلمين من الكافرين ، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء .
والثاني : أن المنتصِر لم يَخرج عن فعل أُبيح له ، وإن كان العفو أفضل ، ومَنْ لم يَخرج من الشرع بفعله ، حَسُنَ مدحُه . قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين ، صنفٌ يعفو ، فبدأ بذكره وصنفٌ ينتصر .
والثالث : أنه إذا بغي على المؤمن فاسقٌ ، فلأنَّ له اجتراءَ الفُسَّاق عليه ، وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نَفْسه ، فينبغي له أن يَكْسِر شوكة العُصاة لتكون العِزَّة لأهل الدِّين . قال إبراهيم النخعي : كانوا يَكرهون للمؤمنين أن يُذِلًّوا أنفُسَهم فيجترئَ عليهم الفُسّاق ، فإذا قَدَروا عَفَوْا . وقال القاضي أبو يعلى : هذه الآية محمولة على من تعدَّى وأصرَّ على ذلك ، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادماً .
قوله تعالى : { وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِثْلُها } قال مجاهد ، والسدي : هو جواب القبيح ، إذا قال له كلمة إجابة بمثْلها من غير أن يعتديَ . وقال مقاتل : هذا في القصاص في الجراحات والدماء .
{ فمن عفا } فلم يقتصّ { وأصلَح } العمل { فأجْرُه على الله إِنه لا يُحِبُّ الظّالمين } يعني من بدأَ بالظُّلم . وإنما سمَّى المجازاةَ سيِّئةً ، لما بيَّنَّا عند قوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } [ البقرة : 194 ] . قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ : لِيَقُم مَنْ كان أجْرُه على الله ، فلا يقوم إلاّ من عفا .
{ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي : بعد ظُلم الظّالم إيَّاه؛ والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول ، ونظيره : { من دُعاءِ الخير } [ فصلت : 49 ] و { وبسؤال نعجتك } [ ص : 24 ] ، { فأولئك } يعني المنتصرين { ماعليهم من سبيل } أي : من طريق إلى لَوْم ولا حَدِّ { إِنما السبيلُ على الذين يًظْلِمون الناس } أي : يبتدؤون بالظُّلم { ويَبْغُونَ في الأرض بغير الحق } أي : يعملون فيها بالمعاصي .
قوله تعالى : { ولَمَن صَبَر } فلم ينتصرِ { وغَفَرَ إِنَّ ذلك } الصبر والتجاوز { لَمِنْ عَزْمِ الأًمورِ } وقد شرحناه في [ آل عمران : 186 ] .
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله تعالى : { ومَنْ يْضْلِلِ اللهُ فما لَهُ من وليّ } أي : من أحدٍ يلي هدايته بعد إضلال الله إيّاه .
{ وتَرى الظالمين } يعني المشركين { لمّا رأوُا العذابَ } في الآخرة يسألون الرّجعة إلى الدنيا { يقولون هل إِلى مَرَدٍ من سبيل } .
{ وتَراهم يُعْرَضون عليها } أي : على النار { خاشعين } أي : خاضعين متواضعين { من الذُّلِّ ينظُرون من طَرْفٍ خَفِيٍّ } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : من طَرْفٍ ذليل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد . وقال الأخفش : ينظُرون من عين ضعيفة . وقال غيره : « مِنْ » بمعنى « الباء » .
والثاني : يسارِقون النظر ، قاله قتادة ، والسدي .
والثالث : ينظُرون ببعض العَيْن ، قاله أبو عبيدة .
والرابع : أنهم ينظُرون إلى النار بقلوبهم ، لأنهم قد حُشروا عُمْياً فلم يَرَوها بأعيُنهم ، حكاه الفراء ، والزجاج . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الأنعام : 12 ] [ هود : 39 ] إلى قوله : { ينصُرونهم من دون الله } أي : يمنعونهم من عذاب الله .
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله تعالى : { استجيبوا لربّكم } أي : أجيبوه ، فقد دعاكم برسوله { مِنْ قَبْلِ أن يأتيَ يومٌ } وهو يوم القيامة { لا مَرَدَّ له من الله } أي : لا يَقدر أحد على رَدِّه ودَفْعه { مالكم مِنْ ملجأٍ } تلجؤون إليه ، { وما لكم من نَكيرٍ } قال مجاهد : من ناصر ينصُركم . وقال غيره : من قُدرة على تغيير ما نزل بكم .
{ فإن أَعْرَضوا } عن الإِجابة { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } لحفظ أعمالهم { إِنْ عليك إلاّ البلاغُ } أي : ما عليك إلاّ أن تبلِّغهم . وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف .
قوله تعالى : { وإِنّا إِذا أذَقْنا الإِنسانَ مِنّا رحمةً فَرِحَ بها } قال المفسرون : المراد به : الكافر؛ والرحمة : الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك . والسَّيِّئة : المرض والفقر والقحط [ ونحو ذلك ] . والإنسان هاهنا : اسم جنس ، فلذلك قال : { وإِن تُصِبْهم سيِّئةٌ بما قدَّمتْ أيديهم } أي : بما سلف من مخالفتهم { فإنَّ الإنسان كفورٌ } بما سلف من النِّعم .
{ للهِ مُلْكُ السموات والأرض } أي : له التصرُّف فيها بما يريد ، { يَهَبُ ِلَمن يشاء إناثاً } يعني البنات ليس فيهنّ ذَكَر ، كما وهب للوط صلى الله عليه وسلم ، فلم يولَد له إلاَ البنات . { ويَهَبُ لِمَن يشاء الذُّكور } يعني البنين ليس معهم أُنثى ، كما وهب لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، [ فلم يولد له إِلا الذًّكور ] .
{ أو يزوِّجُهم } يعني الإناث والذُّكور . قال الزجاج : ومعنى « يزوِّجُهم » : يَقْرُنُهم . وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر ، فهما زوجان ، ويقال لكل واحد منهما : زوج ، تقول : عندي زوجان من الخِفاف ، يعني اثنين .
وفي معنى الكلام للمفسرين قولان :
أحدهما : أنه وضْعُ المرأة غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية ، قاله مجاهد ، والجمهور .
والثاني : [ أنه ] وضْعُ المرأة جاريةً وغلاماً توأمين ، قاله ابن الحنفية . قالوا : وذلك كما جُمع لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه وهب له بنين وبنات ، { ويَجْعَلُ من يشاء عقيماً } لا يولد له ، كيحيى بن زكريا عليهما السلام . وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس ، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلاً .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله تعالى : { وما كان لِبَشَرٍ أن يُكلِّمَه اللهُ إِلاّ وَحْياً } قال المفسرون : سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلِّم الله وتنظرُ إليه إن كنتَ نبيّاً صادقاً كما كلَّمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم : « لم ينظرُ موسى إِلى الله » ، ونزلت هذه الآية . والمراد بالوحي هاهنا : الوحي في المنام .
{ أَو مِنْ وراء حجاب } كما كلَّم موسى .
{ أو يُرْسِلْ } قرأ نافع ، وابن عامر : { يُرْسِلُ } بالرفع { فيوحي } بسكون الياء . وقرأ الباقون : { يُرْسِلْ } بنصب اللام { فيوحيَ } بتحريك الياء ، والمعنى : « أو يرسِل رسولاً » كجبرائيل « فيوحي » ذلك الرسول إلى المرسَل إليه { بإذنه ما يشاء } . قال مكي بن أبي طالب : من قرأ « أو يرسِلَ » بالنصب ، عطفه على معنى قوله { إِلاً وحياً } لأنه بمعنى : إلاّ أن يوحيَ . ومن قرأ بالرفع ، فعلى الابتداء ، كأنه قال : أو هو يرسِل . قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلِّم بشراً إلاّ من وراء حجاب في دار الدنيا .
قوله تعالى : { وكذلك } أي : وكما أوحينا إلى الرُّسل { أوحَينا إِليك } ، وقيل الواو عطف على أول السورة ، فالمعنى : كذلك نوحي إِليك وإلى الذين مِنْ قبلك .
{ وكذلك أوحَينا إِليك رُوحاً من أمرنا } قال ابن عباس : هو القرآن . وقال مقاتل : وَحْياً بأمرنا .
قوله تعالى : { ما كنتَ تَدري ما الكتابُ } وذلك أنه لم يكن يَعرف القرآن قبل الوحي { ولا الإِيمانُ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بمعنى الدعوة إلى الإِيمان ، قاله أبو العالية .
والثاني : أن المراد به : شرائع الإيمان ومعالمه ، وهي كلُّها إيمان؛ وقد سمَّى الصلاة إيماناً بقوله : { وما كان اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانكم } [ البقرة : 143 ] ، هذا اختيار ابن قتيبة ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة .
والثالث : أنه ما كان يَعرف الإِيمان حين كان في المهد وإذْ كان طفلاً قبل البلوغ ، حكاه الواحدي . والقول ما اختاره ابن قتيبة ، وابن خزيمة ، وقد اشتُهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوَّة يوحِّد الله ، ويُبْغِض اللاّتَ والعُزَّى ، وَيحُجُّ ويعتمر ، ويتَّبع شريعةَ إِبراهيم عليه السلام . قال الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله : من زعم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه ، فهو قول سوءٍ ، أليس كان لا يأكل ما ذُبح على النُّصُب؟ وقال ابن قتيبة : قد جاء في الحديث أنه كان على دين قومه أربعينَ سنةً . ومعناه : أن العرب لم يزالوا على بقايا مِنْ دين إسماعيل ، من ذلك حِجُّ البيت ، والختانُ وِإيقاعُ الطلاق إذا كان ثلاثاً ، وأن للزوج الرَّجعة في الواحدة والاثنتين ودِيَة النَّفْس مائة من الإبل ، والغُسل من الجنابة ، وتحريمُ ذوات المحارم بالقرابة والصِّهر . وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإِيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغُسل والحج ، وكان لا يقرب الأوثان ، ويَعيبُها .
وكان لا يَعرف شرائعَ الله التي شَرَعها لعباده على لسانه ، فذلك ، قوله : { ما كنتَ تَدري ما الكتابُ } [ يعني القرآن ] « ولا الإِيمانُ » يعني شرائع الإِيمان؛ ولم يُرِدِ الإِيمانَ الذي هو الإقرار بالله ، لأن آباءه الذين ماتوا على الشِّرك كانوا يؤمِنون بالله ويحجُّون له [ البيت ] مع شِركهم .
قوله تعالى : { ولكنْ جَعَلْناه } في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن .
والثاني : إلى الإِيمان .
{ نُوراً } أي : ضياءً ودليلاً على التوحيد { نَهدي به مَنْ نشاء } [ من عبادنا ] إلى دِين الحق .
{ وإِنّك لَتَهدي } أي : لَتَدعو { إَلى صراطٍ مستقيمٍ } وهو الإسلام .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
قوله تعالى : { حم } قد تقدم بيانه [ المؤمن ] .
{ والكتاب المُبينِ } قسمٌ بالقرآن .
{ إِنّا جَعَلْناه } قال سعيد بن جبير : أنزَلْناه . وما بعد هذا تقدم بيانه [ النساء : 82 ] [ يوسف : 2 ] إلى قوله : { وإِنَّه } يعني القرآن { في أُمِّ الكتاب } قال الزجاج : أي : في أصل الكتاب ، وأصل كلِّ شيء : أُمُّه ، والقرآن مُثْبَتٌ عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ .
قوله تعالى : { لَدَيْنا } أي : عندنا { لَعَلِيٌّ } أي : رفيع . وفي معنى الحكيم قولان :
أحدهما : مُحْكَم ، أي : ممنوعٌ من الباطل ، قاله مقاتل .
والثاني : حاكمٌ لأهل الإِيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار ، ذكره أبو سليمان الدمشقي ، والمعنى : إن كذَّبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريفٌ عظيمُ المَحَلِّ .
قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً } قال ابن قتيبة : أي : نُمْسِكُ عنكم فلا نذكُركم صفحاً ، أي : إِعراضاً . يقال : صَفَحْتُ عن فلان : إذا أعرضت عنه ، والأصل في ذلك أن تُولِّيه صَفْحةَ عنقك ، قال كُثَيِّر يصف امرأة :
صَفُوحاَ فما تَلْقاكَ إلاّ بَخِيلَةً ... فمَنْ مَلَّ منها ذلك الوَصْلَ مَلَّتِ
أي : مُعْرِضَة بوجهها ، يقال؛ ضَرَبْتُ عن فلان كذا : إِذا أمسكتَه وأضربتَ عنه . { أن كنتم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { أن كنتم } بالنصب ، أي : لأِن كنتم قوماً مسرفين . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : { إِن كنتم } بكسر الهمزة . قال الزجاج : وهذا على معنى الاستقبال أي إِن تكونوا مسرفين نَضْرِبْ عنكم الذِّكْر .
وفي المراد بالذِّكْر قولان :
أحدهما : أنه ذِكْر العذاب ، فالمعنى : أفنُمْسِكُ عن عذابكم ونترُكُكم على كفركم؟! وهذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنه القرآن فالمعنى : أفنُمْسِكُ عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمِنون به؟! وهو معنى قول قتادة ، وابن زيد .
وقال قتادة : « مُسْرِفِينَ » بمعنى مشركين .
ثم أعلم نبيَّه أنِّي قد بعَثتُ رُسُلاً فكُذِّبوا فأهلكتُ المكذِّبين بالآيات التي تلي هذه .
قوله تعالى : { أَشَدَّ منهم } أي : من قريش { بَطْشاَ } أي : قُوَّةً { ومضى مَثَلُ الأوَّلِينَ } أي : سبق وصفُ عِقابهم فيما أُنزل عليك . وقيل : سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب ، فستقع المشابهة بينهم في الإِهلاك .
ثم أخبر عن جهلهم حين أقَرُّوا بأنه خالق السموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه؛ ثم التي تليها مفسَّرة في [ طه : 53 ] إلى قوله : { لعلكم تهتدون } أي : لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم .
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قوله تعالى : { والذي نزَّل من السماء ماءً بقَدَرٍ } قال ابن عباس : يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قَدَرٍ فأغرقهم ، بل هو بقَدَرٍ ليكون نافعاً . ومعنى : « أنشَرْنا » : أحيَيْنا .
قوله تعالى : { كذلك تُخْرَجوُنَ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر : { تَخْرُجُونَ } بفتح التاء وضم الراء؛ والباقون بضم التاء وفتح الراء . وما بعد هذا قد سبق [ يس : 36 42 ] إلى قوله تعالى : { لتستووا على ظُهوره } قال أبو عبيدة : هاء التذكير ل « ما » .
{ ثم تذكُروا نعمة ربِّكم } إذ سخَّر لكم ذلك المَركب في البَرِّ والبحر ، { وما كنا له مُقْرِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : أي : مُطيقين . قال ابن قتيبة : يقال أنا مُقْرن لك ، أي : مُطيق لك ، ويقال : هو من قولهم : أنا قِرْنٌ لفلان : إذا كنتَ مثله في الشِّدة . فإن قلتَ : أنا قَرْنٌ لفلان بفتح القاف فمعناه : أن تكون مثله بالسِّنّ . وقال أبو عبيدة : « مُقْرِنِينَ » أي ضابِطِين ، يقال : فلان مُقْرِنٌ لفلان ، أي : ضابط له .
قوله تعالى : { وإنّا إلى ربِّنا لَمُنْقَلِبونَ } أي : راجعون في الآخرة .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
قوله تعالى : { وجَعَلوا له مِنْ عِباده جُزْءاً } أمّا الجَعْل هاهنا ، فمعناه : الحُكم بالشيء ، وهم الذين زعموا أن الملائكةَ بناتُ الله؛ والمعنى : جَعلوا له نصيباً من الولد ، قال الزجاج : وأنشدني بعض أهل اللغة بيتاً يدل على أن معنى { جزءٍ } معنى الإِناث - ولا أدري البيت قديم أو مصنوع - :
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ ، يَوْماً ، فلا عَجَبٌ ... قد تُجْزِىءُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا
أي : آنثت ، ولدت أُنثى .
قوله تعالى : { إِنَّ الإِنسان } يعني الكافر { لَكَفورٌ } أي : جَحودٌ لِنِعَم الله عز وجل { مُبِينٌ } أي : ظاهرُ الكُفر .
ثم أنكر عليهم فقال : { أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بناتٍ } وهذا استفهام توبيخ وإِنكار { وأصْفاكم } أي : أخلَصَكم بالبنينَ .
{ وإِذا بُشِّر أحدُهم بما ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } أي : بما جعل لله شبها ، وذلك أن ولد كلِّ شيء شبهه وجنسه . والآية مفسرة في [ النحل : 58 ] .
قوله تعالى : { أَوَمَنْ يُنْشَّأُ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : { يُنَشَّأُ } بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ، وقرأ الباقون : بفتح الياء وسكون النون . قال المبرِّد : تقديره : أو يَجَعلون من ينشأ ( في الحِلْية ) قال أبو عبيدة : الحِلْية : الحِلَى .
قال المفسرون : والمراد بذلك : البنات ، فإنهنُ ربِّين في الحُلِيِّ والخصام بمعنى المُخاصَمة ، { غيرُ مُبِينٍ } حُجَّةً . قال قتادة : قلَّما تتكلَّم امرأة بحُجَّتها إلاّ تكلَّمتْ بالحُجَّة عليها .
وقال بعضهم : هي الأصنام .
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قوله تعالى : { وجَعلوا الملائكةَ } قال الزجاج : الجَعْل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء ، نقول : قد جعلتُ زيداً أعلَم الناسِ ، أي : قد وصفته بذلك وحكمت به . قال المفسرون : وجَعْلُهم الملائكة إِناثاً قولُهم : هُنَّ بناتُ الله .
قوله تعالى : { الذين هُمْ عِبادُ الرحمن } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، ويعقوب ، وأبان عن عاصم ، والشيزري عن الكسائي : { عِنْدَ الرحمن } بنون من غير ألف . وقرأ الباقون : { عِبادُ الرحمن } ، ومعنى هذه القراءة جعلوا له من عباده بنات والقراءة الأُولى موافقة لقوله { إِنَّ الذين عِْنَد ربِّكَ } [ الأعراف : 206 ] وإِذا كانوا في السماء كان أَبْعَدَ للعِلْم بحالهم { أَشَهِدُوا خَلْقَهم } ؟ قرأ نافع ، والمفضل عن عاصم : { أَأُشْهِدوا } بهمزتين ، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة . وروى المسيّبي عن نافع « أَوُ شْهِدوا » ممدودة من أشْهدْتُ ، والباقون لا يُمدُّون .
« أشَهِدوا » من شَهِدْتُ ، أي : أحَضَروه فعرَفوا أنهم إِناث؟! وهذا توبيخ لهم إِذ قالوا فيما يُعْلَم بالمشاهَدة من غير مشاهَدة { ستُكْتَبُ شهادتُهم } على الملائكة أنها بناتُ الله . وقال مقاتل : لمّا قال الله عز وجل { َأَشِهدوا خَلْقَهم } ؟ ، سُئلوا عن ذلك فقالوا : [ لا ] . فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « فما يُدريكم أنها إِناث »؟ فقالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نَشهد أنهم لم يَكذبوا ، فقال الله : { ستُكْتَبُ شهادتُهم ويُسأَلُونَ } عنها في الآخرة . وقرأ أبو رزين ، ومجاهد : { سنَكْتُبُ } بنون مفتوحة { شهادتَهم } بنصب التاء . ووافقهم ابن أبي عبلة في « سنَكْتُبُ » وقرأ « شهاداتِهم » بألف .
قوله تعالى : { وقالوا لو شاءَ الرحمنُ ما عَبَدْناهم } في المكنيِّ عنهم قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله قتادة ، ومقاتل في آخرين .
والثاني : الأوثان ، قاله مجاهد . وإِنما عَنَوْا بهذا أنه لو لم يَرْضَ عبادتَنا لها لعجَّل عقوبتنا ، فردَّ عليهم قولهم بقوله : { ما لهم بذلك مِنْ عِلْمٍ } وبعض المفسرين يقول : إِنما أشار بقوله : { مالهم بذلك مِنْ عِلْمٍ } إلى ادِّعائهم أنَّ الملائكة إِناث؛ قال : ولم يتعرَّض لقولهم { لو شاء الرحمن ما عَبَدْناهم } لأنه قول صحيح؛ والذي اعتمدنا عليه أصح ، لأن هذه الآية كقوله : { لو شاء اللهُ ما أَشْرَكْنا } [ الانعام : 148 ] وقوله : { أنُطْعِمُ مَنْ لو يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك و { يَخْرُصُونَ } بمعنى : يكذبون . وإنما كذَّبهم لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر ديناً .
{ أَمْ آتيناهم كتاباً مِنْ قَبْلِهِ } أي : مِنْ قَبْلِ هذا القرآن ، أي بأن يعبدوا غير الله { فهُم به مستمسِكون } يأخذون بما فيه .
{ بل قالوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّة } أي : على سُنَّة ومِلَّة ودِين { وإِنّا على آثارهم مُهْتَدون } فجعلوا أنفُسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حُجَّة؛ ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول ، فقال : { وكذلك } أي : وكما قالوا قال مُتْرَفو القُرى مِنْ قَبْلهم ، { وإِنّا على آثارهم مقتدون } بهم .
{ قُلْ أَوَلَوْ جِئتُكم } وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم : { قال أَوَلَوْ جِئتُكم } [ بألف ] . قال أبو علي : فاعل : « قال » النذير ، المعنى : فقال لهم النذير . وقرأ أبو جعفر : { أَوَلَوْ جئناكم } بألف ونون ( بأهدى ) أي : بأصوب وأرشد . قال الزجاج : ومعنى الكلام : قُلْ : أتَّتبعونَ ما وجدتم عليه آباءكم وإِن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إِبطال القول بالتقليد . قال مقاتل : فرَدُّوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : { إِنا بما أُرسِلتم به كافرون } ؛ ثم رجع إِلى الأُمم الخالية ، فقال { فانتَقَمْنا منهم . . . } الآية .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
قوله تعالى : { إِنَّني بَراءٌ } قال الزجاج : البَراء بمعنى البَريء ، والعرب تقول للواحد : أنا البَراء منك ، وكذلك للإثنين والجماعة ، وللذكر والأنثى ، يقولون : نحن البَراء منك والخلاء منك ، لا يقولون : نحن البَراءان منك ، ولا البَراءون منك ، وإِنما المعنى : أنا ذو البَراء منك ، ونحن ذو الَبراء منك ، كما يقال : رجل عَدْل ، وامرأة عَدْل . وقد بيَّنَّا استثناء إبراهيم ربَّه عز وجل مما يعبدون عند قوله : { إلاّ ربِّ العالَمِين } [ الشعراء : 77 ] .
قوله تعالى : { وجَعَلَها } يعني كلمة التوحيد ، وهي « لا إله إلا الله » { كَلِمةً باقيةً في عَقِبِه } أي : فيمن يأتي بعده من ولده ، فلا يزال فيهم موحِّد { لعلَّهم يَرْجِعونَ } إَلى التوحيد كلُّهم إِذا سمعوا أن أباهم تبرَّأ من الأصنام ووحَّد اللهَ عز وجل .
ثم ذكر نعمته على قريش فقال : { بل متَّعتُ هؤلاء وآباءهم } والمعنى : إِنِّي أجزلتُ لهم النِّعَم ولم أُعاجلهم بالعقوبة { حتى جاءهم الحق } وهو القرآن { ورسولٌ مُبِينٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ينبغي لهم أن يقابِلوا النِّعَم بالطاعة للرسول ، فخالفوا .
{ ولمّا جاءهم } يعني قريشاً في قول الأكثرين . وقال قتادة : هم اليهود و { الحقُّ } القرآن .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قوله تعالى : { وقالوا لولا } أي : هلاّ { نُزِلَ هذا القرآنُ على رجل من القريتين عظيمٍ } أمّا القريتان ، فمكَّة والطائف ، قاله ابن عباس ، والجماعة؛ وأمّا عظيم مكَّة ، ففيه قولان :
أحدهما : الوليد بن المغيرة القرشي ، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس ، [ وبه قال قتادة ، والسدي ] .
والثاني : عُتبة بن ربيعة ، قاله مجاهد . وفي عظيم الطائف خمسة أقوال .
أحدها : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : مسعود بن عمرو بن عبيد الله ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ، رواه ليث عن مجاهد وبه قال قتادة .
والرابع : [ أنه ] ابن عَبْد ياليل ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والخامس : كنانة بن عبد [ بن ] عمرو بن عمير الطائفي ، قاله السدي .
فقال الله عز وجل ردّاً عليهم وإِنكاراً { أَهُمْ يَقْسِمون رحمةَ ربِّكَ } يعني النُّبوَّة ، فيضعونها حيث شاؤوا ، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا .
{ نحن قَسَمْنا بينهم معيشتهم } المعنى أنه إِذا كانت الأرزاق بقَدَر الله ، لا بحول المحتال وهو دون النُّبوَّة فكيف تكون النًّبوَّة؟! قال قتادة : إِنك لَتَلْقَى ضعيفَ الحِيلة عَييَّ اللِّسان قد بُسِطَ له الرِّزْقُ ، وتَلْقَى شديدَ الحِيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه .
قوله تعالى : { ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ } فيه قولان .
أحدهما : بالغنى والفقر .
والثاني : بالحرية والرق { لِيَتَّخِذَ بعضُهم بعضاً سُخْرِيّاً } وقرأ ابن السميفع ، وابن محيصن : « سِخْرِيّاً » بكسر السين . ثم فيه قولان :
أحدهما : يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم ، فَيَلْتَئِمُ قِوامَ العالَم ، وهذا على القول الأول .
والثاني : ليملك بعضُهم بعضاً بالأموال فيتَّخذونهم عبيداً ، وهذا على الثاني .
قوله تعالى : { ورَحْمَةُ ربِّكَ } فيها قولان :
أحدهما : النًّبوَّة خير من أموالهم التي يجمعونها ، قاله ابن عباس .
والثاني : الجنة خير ممّا يجمعون في الدنيا ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ولولا أن يكون الناسُ أُمَّةً واحدةً } فيه قولان :
أحدهما : لولا أن يجتمعوا على الكفر ، قاله ابن عباس .
والثاني : على إِيثار الدنيا على الدِّين ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { لَجَعَلْنا لِمَن يكفرُ بالرَّحمن لِبُيوتهم سُقُفاً من فِضَّة } لهوان الدنيا عندنا . قال الفراء : إن شئتَ جعلتَ اللاّم في « لِبُيوتهم » مكرَّرة كقوله : { يسألونك عن الشَّهْر الحرام قِتالٍ فيه } [ البقرة : 217 ] ، وإِن شئتَ جعلتَها بمعنى « على » ، كأنه قال : جَعَلْنا لهم على بُيوتهم ، تقول للرجل : جعلتُ لك لقومك الأُعطية ، أي : جعلتُها من أجلك لهم . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { سَقْفاً } على التوحيد . وقرأ الباقون { سُقُفاً } بضم السين والقاف جميعاً .
قال الزجاج : والسَّقف واحد يدلُّ على الجمع؛ فالمعنى : جعلْنا لبيتِ كلِّ واحد منهم سقفاً من فِضَّة { ومعارجَ } وهي الدَّرَج؛ والمعنى : وجعلْنا معارج من فِضَّة ، وكذلك « ولِبُيوتهم أبواباً » أي : من فِضَّة « وسُرُراً » أي : من فِضَّة .
قوله تعالى : { عليها يَظْهَرونَ } قال ابن قتيبة : أي : يَعْلُون ، يقال : ظَهَرْتُ على البيت إذا علَوْت سطحه .
قوله تعالى : { وزُخْرُفاً } وهو الذهب؛ والمعنى : ويجعل لهم مع ذلك ذهباً وغنىً { وإِنْ كُلُّ ذلك لَما متاعُ الحياة الدُّنيا } المعنى : لَمَتاع الحياة الدنيا ، و « ما » زائدة . وقرأ عاصم ، وحمزة : « لَمّا » بالتشديد ، فجعلاه بمعنى « إِلاّ »؛ والمعنى : إِنّ ذلك يُتمتَّع به قليلاً ثم يزول { والآخرة عند ربِّك للمتَّقين } خاصةً لهم .
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
قوله تعالى : { ومن يَعْشُ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : يُعْرَضْ ، قاله الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : يَعْمَ ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال عطاء ، وابن زيد .
والثالث : أنه البَصَر الضعيف ، حكاه الماوردي . وقال أبوعبيدة : تُظْلِمْ عينه عنه . وقال الفراء : من قرأ : « يَعْشُ » ، فمعناه : يُعْرِضْ ، ومن نصب الشين ، أراد : يَعْمَ عنه؛ قال ابن قتيبة : لا أرى القول إلاّ قولَ أبي عبيدة ، ولم نر أحداً يجيز « عَشَوْتُ عن الشيء » : أعرضتُ عنه ، إِنما يقال : « تَعاشَيْتُ عن كذا » ، أي : تغافلتُ عنه ، كأنِّي لم أره . ومثلُه : تعامَيْتُ والعرب تقول : « عَشَوْتُ إِلى النار » : إِذا استدللتَ إِليها ببصر ضعيف ، قال الحطيئة :
متَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
ومنه حديث ابن المسّيب : « أن إحدى عينَيْه ذهبتْ ، وهو يَعْشُو بالأًخرى » ، أي : يُبْصِر بها بصراً ضعيفاً . قال المفسرون : « ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْر الرحمن » فلم يَخَف عِقابه ولم يلتفت إِلى كلامه « نقيِّضْ له » أي : نسبب له « شيطاناً » فنجعل ذلك جزاءَه « فهو له قرين » لا يفارقه .
{ وإِنهم } يعني الشياطين { لَيَصُدُّونهم } يعني الكافرين ، أي : يمنعونهم عن سبيل الهدى؛ وإِنما جمع ، لأن { مَنْ } في موضع جمع ، { وَيحْسَبون } يعني كفار بني آدم ( أنهم ) على هدىً .
{ حتَّى إذا جاءنا } وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { جاءنا } واحد ، يعني الكافر . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { جاءانا } بألفين على التثنية يعنون الكافر وشيطانه . وجاء في التفسير : أنهما يُجعلان يومَ البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يًصَيِّرَهما الله إِلى النار ، { قال } الكافر للشيطان : { يا ليت بيني وبينَك بُعدَ المَشْرِقَيْنِ } أي : بُعْدَ ما بين المَشْرِقَيْن؛ وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما مَشْرِقُ الشمس في أقصر يوم في السنة ، ومَشْرِقُها في أطول يوم ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني : أنه أراد المَشْرِق والمَغْرِب ، فغلَّب ذِكْر المَشْرِق ، كما قالوا سُنَّة العُمَرَيْن ، يريدون : أبا بكر وعمر ، وأنشدوا من ذلك :
أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ... لَنا قَمراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ
يريد : الشمس والقمر؛ وأنشدوا :
فَبَصْرَةُ الأزّدِ مِنَّا والعِراقُ لَنا ... والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ
يريد : الجزيرة والموصل ، [ وهذا اختيار الفراء ، والزجاج ] .
قوله تعالى : { فبِئْسَ القَرِينُ } أي : أنتَ أيُّها الشَّيطان . ويقول الله عز وجل يومئذ للكفار : { ولن ينفَعَكم اليومَ إِذ ظَلَمْتُم } أي : أشركتم في الدنيا { أنَّكم في العذاب مشترِكون } أي : لن ينفعكم الشِّركة في العذاب ، لأن لكل واحد منه الحظَّ الأوفر . قال المبرِّد : مُنِعوا روح التَّأسِّي ، لأن التَّأسِّيَ يُسهِّل المُصيبة ، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى :
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي ... على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ ... أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
وقرأ ابن عامر : { إِنَّكم } بكسر الألف .
ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشَّقاوة بقوله : { أفأنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ . . . } الآية .
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
قوله تعالى : { فإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } قال أبو عبيدة : معناها : فإن نَذْهَبَنَّ؛ وقال الزجاج : دخلت « ما » توكيداً للشرط ، ودخلت النون الثقيلة في { نَذْهَبَنَّ } توكيداً أيضاً؛ والمعنى : إنّا ننتقِم منهم إِن تُوفيِّتَ َأوْ نُرِيَنَّكَ ما وَعَدْناهم ووعَدْناك فيهم من النَّصر . قال ابن عباس : ذلك يومَ بدر وذهب بعض المفسرين إِلى أن قوله { فإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } منسوخ بآية السيف ، ولا وجه [ له ] .
قوله تعالى : { وإِنه } يعني القرآن { لَذِكْرٌ لَكَ } أي : شَرَفٌ لَكَ بما أعطاكَ اللهُ { ولِقَوْمِكَ } في قومه ثلاثة أقوال :
أحدها : العرب قاطبة .
والثاني : قريش .
والثالث : جميع من آمن به . وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا سئل : لِمَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟ لم يُخْبِر بشيء ، حتى نزلت هذه الآية ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : « لقريش » وهذا يَدُلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم فَهِم من هذا أنه يَلِي على المسلمين بحُكْم النًّبوَّة وشَرَفِ القرآن ، وأن قومه يَخْلُفونه من بعده في الوِلاية لشرف القرآن الذي أُنزلَ على رجُلٍ منهم . ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا : العرب ، والقرآن شَرَفٌ لهم إِذْ أُنزلَ بلُغتهم . قال ابن قتيبة : إنما وُضع الذِّكر موضعَ الشَّرَف ، لأن الشَّريف يُذْكَر وفي قوله : { وسوف تُسألونَ } قولان . أحدهما : عن شُكر ما أُعطيتم من ذلك . والثاني : عمّا لزمكم فيه من الحقوق .
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى : { واسألْ مَنْ أرسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا } إن قيل : كيف يسأل الرُّسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه لمّا أُسري به جُمع له الأنبياءُ فصلَّى بهم ، ثم قال [ له ] جبريل : سَلْ من أرسَلْنا قَبْلَك . . . الآية . فقال : لا أَسألُ ، قد اكتَفَيْتُ . رواه عطاء عن ابن عباس . وهذا قول سعيد بن جبير ، والزهري ، وابن زيد؛ قالوا : جُمع له الرُّسل ليلةَ أُسري به ، فلقَيهم ، وأُمر أن يسألَهم ، فما شَكّ ولا سأل .
والثاني : أن المراد : [ اسأل ] مؤمني أهل الكتاب [ من ] الذين أرسلت إِليهم الأنبياء ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في آخرين . قال ابن الأنباري : والمعنى سَلْ أتباع مَنْ أرسَلْنا قَبْلَكَ ، كما تقول : السخاء حاِتم ، أي : سخاء حاتِم ، والشِّعر زهير ، أي : شِعر زهير . وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين . وقال الزجاج : هذا سؤال تقرير ، فإذا سأل جميع الأمم ، لم يأتوا بأن في كتبهم : أن اعبدوا غيري .
والثالث : [ أن ] المُراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم : خطابُ أُمَّته ، فيكون المعنى : سَلُوا ، قاله الزجاج . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { إذ هُمْ منها يَضحكون } استهزاءً بها وتكذيباً .
{ وما نُريهم مِنْ آيةٍ إِلاّ هي أكبرُ مِنْ أُختها } يعني ما ترادف عليهم من الطُّوفان والجراد والقُمَّل والضَّفادع والدَّم والطَّمْس ، فكانت كُلُّ آية أكبرَ من التي قَبْلَها ، وهي العذاب المذكور في قوله : { وأَخَذْناهم بالعذاب } ، فكانت عذاباً لهم ، ومعجزات لموسى عليه السلام .
قوله تعالى : { وقالوا يا أيُّها السّاحر } في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم أرادوا : يا أيها العالِم ، وكان الساحر فيهم عظيماً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم قالوه على جهة الاستهزاء ، قاله الحسن .
والثالث : أنهم خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسّاحر ، قاله الزجّاج .
قوله تعالى : { إنَّنا لَمُهتدون } أي : مؤمنون بك . فدعا موسى فكُشف عنهم ، فلم يؤمِنوا . وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في [ الأعراف : 135 ] .
قوله تعالى : { تَجْرِي مِنْ تَحتي } أي : من تحت قصوري { أفلا تُبْصِرونَ } عظَمتي وشِدَّةَ مُلكي .
؟! { أَمْ أنا خَيْرٌ } قال أبو عبيدة : أراد : بل أنا خَيْرٌ . وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا : عطف { أنا } ب { أمْ } على { أفلا تُبْصِرون } [ فكأنه قال : أفلا تُبْصِرون ] أم أنتم بُصَراء؟! . لأنهم إِذا قالوا : أنتَ خيرٌ منه ، فقد صاروا عنده بُصَراءَ . قال الزجاج : والمَهينِ القليل؛ يقال : شيء مَهِين ، أي : قليل . وقال مقاتل : « مَهِين » بمعنى ذليل ضعيف .
قوله تعالى : { ولا يكاد يُبين } أشار إِلى عُقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه ، فكأنه عيَّره بشيءٍ قد كان وزال ، ويدل على زواله قوله تعالى : { قد أُوتيتَ سؤلكَ يا موسى } [ طه : 36 ] ، وكان في سؤاله :
{ واحْلُلْ عُقْدَةً من لساني } [ طه : 27 ] . وقال بعض العلماء : ولا يكاد يُبِين الحُجَّة ولا يأتي ببيان يُفْهم .
{ فلولا } أي : فهلاّ { أُلْقِيَ عليه أسَاوِرَةٌ مِنْ ذهبٍ } وقرأ حفص عن عاصم : { أسْوِرةٌ } بغير ألف . قال الفراء : واحد الأساوِرة : إِسْوار ، وقد تكون الأساوِرة جمع أسْوِرة . كما يقال في جمع الأسْقِية : الأساقي ، وفي جمع الأكْرُع : الأكارِع . وقال الزجاج : يصلُح أن تكون الأساوِرة جمع الجمع ، تقول : أسْوِرَة وأساوِرة ، كما تقول : أقوال وأقاويل ، ويجوز أن تكون جمع إسْوار . وإنما صرفتَ أساوِرة ، لأنك ضممتَ الهاء إِلى أساوِر فصار اسماً واحداً ، وصار له مثال في الواحد نحو « علانية » .
قال المفسرون : إِنما قال فرعون هذا لأنهم كانوا إذا سوَّدوا الرجل منهم سوَّروه بِسِوار .
{ أو جاء معه الملائكةُ مُقْتَرِنِينَ } فيه قولان : أحدهما : متتابعين ، قاله قتادة . والثاني : يمشون معه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فاستَخَفَّ قومَه } قال الفراء : استفزَّهم؛ وقال غيره : استخَفَّ أحلامَهم وحملهم على خِفَّة الحِلْم بكيده وغُروره { فأطاعوه } في تكذيب موسى .
{ فلمّا آسَفُونا } قال ابن عباس : أغضبونا . قال ابن قتيبة : الأسَف : الغَضَب ، يقال أسِفْتُ آسَفُ أسَفاً أي : غَضِبْتُ .
{ فجَعَلْناهم سَلَفاً } أي : قوماً تقدَّموا . وقرأها أبو هريرة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وحميد الأعرج : « سُلَفاً » بضم السين وفتح اللام كأن واحدته سُلْفَةٌ من الناس ، مثل القِطعة ، يقال : تقدمتْ سُلْفَةٌ من الناس ، أي : قِطعة منهم . وقرأ حمزة ، والكسائي : { سُلُفاً } بضم السين واللام ، وهو جمع « سَلَف » ، كما قالوا : خَشَب وخُشُب ، وثَمَر وثُمُر ، ويقال : هو جمع « سَلِِيفٍ » وكلُّه من التقدُّم وقال الزجاج : « السَّلِيف » جمعٌ قد مضى ، والمعنى : جعلْناهم سَلَفاً متقدِّمين ليتعظ بهم الآخرون .
قوله تعالى : { ومثلاً } أي : عبرة وعظة .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
قوله تعالى : { ولمّا ضُرِبَ ابنُ مريمَ مَثَلاً } أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادَلة ابنِ الزِّبعري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله : { إِنَّكم وما تعبُدون مِنْ دونِ الله . . } الآية [ الأنبياء : 98 ] وقد شرحنا القصة في سورة [ الأنبياء : 101 ] . والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مَثَلاً لآلهتهم وشبَّههوه بها ، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذِكْر الأصنام لأنها عُبِدَتْ مِنْ دون الله ، فألزموه عيسى ، وضربوه مَثلاً لأصنامهم ، لأنه معبود النصارى . والمراد بقومه : المشركون .
فأمّا { يَصِدُّونَ } فقرأ ابن عامر ، ونافع ، والكسائي : بضم الصاد ، وكسرها الباقون؛ قال الزجاج : ومعناهما جميعاً : يَضِجُّون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يُعْرِضون . وقال أبو عبيدة : من كسر الصاد ، فمجازها : يَضِجُّون ، ومن ضمَّها ، فمجازها : يَعْدِلون .
قوله تعالى : { وقالوا أآلهتُنا خيرٌ أَمْ هُوَ } المعنى : ليست خيراً منه ، فإن كان في النار لأنه عُبِدَ مِنْ دون الله ، فقد رضينا أن تكون آلهتُنا بمنزلته .
{ ما ضَرَبوه لك إلاّ جَدَلاً } أي : ما ذَكَروا عيسى إَلاّ ليجادلوك به ، لأنهم قد عَلِموا أن المراد ب { حَصَب جهنم } ما اتخذوه من الموات { بل هُمْ قَوْمٌ خَصِمونَ } أي : أصحاب خصومات .
قوله تعالى : { وجَعَلْناه مَثَلاً } أي : آية وعبرة { لبني إسرائيل } يعرِفون به قُدرة الله على ما يريد ، إِذ خلَقه من غير أب .
ثم خاطب كفار مكة ، فقال : { ولو نشاء لَجَعَلْنا منكم } فيه قولان :
أحدهما : أن المعنى : لَجَعَلْنا بدلاً منكم { ملائكةً } ؛ ثم في معنى { يَخْلُفُونَ } ثلاثة أقوال . أحدها : يخلُف بعضُهم بعضاً ، قاله ابن عباس . والثاني : يخلُفونكم ليكونوا بدلاً منكم ، قاله مجاهد . والثالث : يخلُفون الرُّسل فيكونون رسلاً إِليكم بدلاً منهم ، حكاه الماوردي .
والقول الثاني : أن المعنى : « ولو نشاء لجَعَلْنا منكم ملائكة » أي : قَلَبْنَا الخِلقة فجَعَلْنا بعضَكم ملائكةً يخلُفون مَنْ ذهب منكم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وإِنه لَعِلْمٌ للسّاعة } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : [ أنها ] تَرْجِع إِلى عيسى عليه السلام . ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : نزولُ عيسى من أشراط الساعة يُعْلَم به قُربها ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أن إحياءَ عيسى الموتى دليلٌ على الساعة وبعث الموتى ، قاله ابن إِسحاق .
والقول الثاني : أنها تَرْجِع إلى القرآن ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير . وقرأ الجمهور { لَعِلْمٌ } بكسر العين وتسكين اللام؛ وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، وقتادة ، وحميد ، وابن محيصن : بفتحهما .
قال ابن قتيبة : من قرأ بكسر العين ، فالمعنى أنه يُعْلَم به قُرْبُ الساعة ، ومن فتح العين واللام ، فإنه بمعنى العلامة والدليل .
قوله تعالى : { فلا تَمْتَرُنَّ بها } أي : فلا تَشُكُّنًّ فيها { واتبعون } على التوحيد { هذا } الذي أنا عليه { صراط مستقيم } .
{ ولمّا جاء عيسى بالبيِّنات } قد شرحنا هذا في [ البقرة : 87 ] .
{ قال قد جئتُكم بالحكمة } وفيها قولان .
أحدهما : النُّبوَّة ، قاله عطاء ، والسدي .
والثاني : الإِنجيل قاله مقاتل .
{ وَلأُبَيِّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه } أي من أمر دينكم؛ وقال مجاهد : « بعضَ الذي تختلفون فيه » من تبديل التوراة؛ وقال ابن جرير : من أحكام التوراة . وقد ذهب قوم إِلى أن البعض هاهنا بمعنى الكُلّ . وقد شرحنا ذلك في [ حم المؤمن : 28 ] ؛ قال الزجاج : والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكُلّ ، وإِنما بيَّن لهم عيسى بعض الذي اختلَفوا فيه ممّا احتاجوا إِليه؛ وقد قال ابن جرير : كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم ، فبيَّن لهم أمر دينهم فقط . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ النساء : 175 ] [ مريم : 37 ] إلى قوله : { هل ينظُرونَ } يعني كفار مكة .
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
قوله تعالى : { الأخِلاَّءُ } أي : في الدنيا { يومَئذ } أي : في القيامة { بعضُهم لبعض عدوٌّ } لأن الخُلَّة إِذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوةً يومَ القيامة؛ وقال مقاتل : نزلت في أُمية بن خلف وعقبة ابن أبي معيط { إِلاّ المتَّقينَ } يعني الموحِّدين . فإذا وقع الخوف يومَ القيامة نادى منادٍ { يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تَحْزَنونَ } ، فيرفع الخلائق رؤوسهم . فيقول : { الذين آمَنوا بآياتنا وكانوا مُسْلِمينَ } ، فينكِّس الكفار رؤوسهم . قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { يا عبادي } بإثبات الياء في الحالين وإِسكانها ، وحذفها في الحالين ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، والمفضل عن عاصم ، وخلف .
وفي أزواجهم قولان :
أحدهما : زوجاتهم .
والثاني : قرناؤهم .
وقد سبق معنى { تُحْبَرونَ } [ الروم : 15 ] .
قوله تعالى : { يُطاف عليهم بِصِحافٍ } قال الزجاج : واحدها صَحْفة ، وهي القَصْعة والأكواب واحدها : كُوب وهو إٍناء مستدير لا عُرْوَةَ له؛ قال الفراء : الكُوب : [ الكوز ] المستدير الرأس الذي لا أُذُن له ، وقال عديّ :
مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبوابُه ... يَسْعَى عليه العَبْدُ بالكُوبِ
وقال ابن قتيبة : الأكواب : الأباريق التي لا عُرى لها . وقال شيخنا أبو منصور اللغوي : وإنما كانت بغير عُرىً لِيَشرب الشارب من أين شاء ، لأن العُروة تَرُدُّ الشارب من بعض الجهات .
قوله تعالى : { وفيها ما تشتهي الأنفسُ } وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : { تشتهيه } بزيادة هاءٍ وحذفُ الهاء كإثباتها في المعنى .
قوله تعالى : { وتَلَذًّ الأعيُنُ } يقال : لَذِذْتُ الشيءَ ، واستلذذتُه ، والمعنى : ما من شيء اشتهتْه نَفْس أو استلذَّتْه عين إِلاّ وهو في الجنة ، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين ، فإنه ما من نِعمة إِلاّ وهي نصيب النَّفْس أو العين ، وتمام النَّعيم الخلود ، لأنه لو انقطع لم تَطِب .
{ وتلك الجَنَّةُ } يعني التي ذكرها في قوله : « ادْخُلوا الجَنَّة { التي أًورِثْتُموها } قد شرحنا هذا في [ الأعراف : 43 ] عند قوله { أُورِثْتُموها } .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
قوله تعالى : { إِنَّ المُجْرِمينَ } يعني الكافرين ، { لا يُفَتَّرُ } أي : لا يُخَفَّفُ { عنهم وهُم فيه } يعني في العذاب { مُبْلِسُونَ } قال ابن قتيبة : آيسون من رحمة الله . وقد شرحنا هذا في [ الأنعام : 44 ] { وما ظَلَمْناهم } أي : ما عذَّبْناهم على غير ذَنْبٍ { ولكن كانوا هُمُ الظالمين } لأنفسهم بما جَنَوْا عليها . قال الزجاج : والبصريُّون يقولون : « هُم » هاهنا فصل ، كذلك يسمُّونها ، ويسمِّيها الكوفيُّون العِماد .
قوله تعالى : { ونادَوا يا مالِكُ } وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وابن يعمر : [ « يا مالِ » ] بغير كاف مع كسر اللام . قال الزجاج : وهذا يسميه النحويون : [ الترخيم ] ، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف .
قال المفسرون : يَدْعُون مالكاً خازنَ النار فيقولون { لِيَقْضِ علينا ربُّكَ } [ أي ] : لِيُمِتْنا؛ والمعنى : أنهم توسَّلوا به ليَسأل الله تعالى لهم الموتَ فيستريحوا من العذاب؛ فيسكُت ، عن جوابهم مُدَّةً ، فيها أربعة أقوال .
أحدها : أربعون عاماً ، قاله عبد الله بن عمرو ، ومقاتل .
والثاني : ثلاثون سنة قاله أنس .
والثالث : ألف سنة ، قاله ابن عباس .
والرابع : مائة سنة ، قاله كعب .
وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان .
أحدهما : أنه سكت حتى أوحى الله إِليه أَن أَجِبْهم ، قاله مقاتل .
والثاني : لأن بُعْدَ ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذَلُّ .
قال الماوردي : فردَّ عليهم مالك فقال { إِنكم ماكثون } أي : مقيمون في العذاب .
{ لقد جئناكم بالحق } أي : أرسَلْنا رسلنا بالتوحيد { ولكنَّ أكثركم } قال ابن عباس يريد : كُلّكم { كارِهونَ } لِما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { أمْ أبرَموا أمْراً } في « أَمْ » قولان .
أحدهما : أنها للاستفهام .
والثاني : بمعنى « بل » والإِبرام : الإِحكام . وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال .
أحدها : المَكْرُ برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتُلوه أو يُخْرِجوه حين اجتمعوا في دار النَّدوة؛ وقد سبق بيان القصة [ الأنفال : 30 ] ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه إِحكام أمرهم في تكذيبهم ، قاله قتادة .
والثالث : أنه إِبرامُ أمرهم يُنجيهم من العذاب قاله الفراء .
{ فإنّا مُبرِمون } أي : مُحْكِمون أمراً في مجازاتهم .
{ أَمْ يَحْسَبوْن أنّا لا نَسْمَع سِرَّهم } وهو ما يُسِرُّونه من غيرهم { ونجواهم } ما يتناجَوْن به بينهم { بلى } والمعنى : إنّا نَسمع ذلك { ورُسُلنا } يعني [ من ] الحَفَظة { لديهم يكتُبون } .
{ قُلْ إِنْ كان للرحمن وَلَدٌ } في « إِنْ » قولان .
أحدهما : أنها بمعنى الشرط؛ والمعنى : إِن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم ، فعلى هذا في قوله { فأنا أوَّلُ العابدِين } أربعة أقوال .
أحدها : فأنا أول الجاحدين ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أن أعرابيَّين اختصما إليه ، فقال أحدهما : إِن هذا كانت لي في يده أرض ، فعبدنيها . فقال ابن عباس : الله أكبر فأنا أوَّلُ العابدين الجاحدين أن لله ولداً .
والثاني : فأنا أوَّل مَنْ عَبَدَ اللهَ مخالفاً لقولكم ، هذا قول مجاهد . وقال الزجاج : معناه : إن كنتم تزعُمون للرحمن وَلَداً ، فأنا أوَّل الموحِّدين .
والثالث : فأنا أول الآنفين لله مما قُلتم . قاله ابن السائب ، وأبو عبيدة . قال ابن قتيبة : يقال عَبِدْتُ من كذا ، أَعبَدُ عَبَداً ، فأنا عَبِدٌ وعابِدٌ قال الفرزدق :
[ أولئكَ قَوْمٌ إِنْ هَجَوني هَجَوتُهم ] ... وأَعْبَدُ أنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدارِمِ
أي : آنَفُ وأنشد أبو عبيدة :
وأَعْبَدُ أن أسُبَّهُمُ بقَوْمِي ... وأُوثِرُ دارِماً وبَنِي رَزاحِ
والرابع : أن معنى الآية : كما أنِّي لستُ أول عابدٍ لله فكذلك ليس له ولد؛ وهذا كما تقول : إن كنتَ كاتباً فأنا حاسبٌ ، أي لستَ كاتباً ولا أنا حاسبٌ . حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة .
والقول الثاني : أنّ « إِنْ » بمعنى « ما » قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد؛ فيكون المعنى : ما كان للرحمن [ ولد ] ، فأنا أولُ من عَبَدَ اللهَ على يقين أنه لا وَلَدَ له . وقال أبو عبيدة : الفاء على [ هذا القول ] بمعنى الواو .
قوله تعالى : { فذَرْهم } يعني كفار مكة { يخوضوا } في باطلهم { ويَلْعَبوا } في دنياهم { حتَّى يُلاقوا } وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن محيصن ، وأبو جعفر : « حتَّى يَلْقَوا » بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف . والمراد : يلاقوا [ يوم ] القيامة . وهذه الآية [ عند الجمهور ] منسوخة بآية السيف .
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى : { وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إِله } قال مجاهد ، وقتادة : يُعْبَد في السماء ويُعْبَد في الأرض . وقال الزجاج : هو الموحَّد في السماء وفي الأرض . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن السميفع ، وابن يعمر والجحدري : « في السماء اللهُ وفي الأرض الله » بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما . وما بعد هذا سبق بيانه [ الأعراف : 54 ] [ لقمان : 34 ] إِلى قوله : { ولا يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِنْ دُونه الشفاعة } سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا : إن كان ما يقول محمد حَقّاً فنحن نتولّى الملائكة ، فهم أحق بالشفاعة من محمدٍ . فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : أنه أراد بالذين يَدْعَون مِنْ دونه : آلهتهم ، ثم استثنى عيسى وعزيرَ والملائكةَ فقال : { إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحق } وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله { وهم يَعلمون } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم ، وهذا مذهب الأكثرين ، منهم قتادة .
والثاني : أن المراد بالذين يَدْعُون : عيسى وعزيرُ والملائكةُ الذين عبدهم المشركون بالله لا يَمْلِك هؤلاء الشفاعةَ لأحد { إلاَ مَنْ شَهِد } أي : [ إلاَ ] لِمَنْ شَهِد { بالحق } وهي كلمة الإِخلاص { وهم يَِعْلَمون } أن الله عز وجل خلق عيسى وعزير والملائكة ، وهذا مذهب قوم منهم مجاهد . وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يَشهد به .
قوله تعالى : { وقِيلِهِ ياربِّ } قال قتادة : هذا نبيُّكم يشكو قومَه إِلى ربِّه . وقال ابن عباس : شكا إلى الله تخلُّف قومه عن الإِيمان . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : { وقِيلَه } بنصب اللام؛ وفيها ثلاثة أوجه .
أحدها : أنه أضمر معها قولاً كأنه قال : وقال قيلَه وشكا شكواه إِلى ربِّه .
والثاني : أنه عطف على قوله : { أم يَحسبون أنّا لانسمع سِرَّهم ونجواهم } وقِيلَه؛ فالمعنى : ونَسمع قِيلَه ، ذكر القولين الفراء ، والأخفش .
والثالث : أنه منصوب على معنى : وعنده عِلْم الساعة ويَعْلَم قِيلَه ، لأن معنى « وعنده عِلْمُ الساعة » : يَعْلَم الساعة ويَعْلَم قِيلَه . هذا اختيار الزجاج . وقرأ عاصم ، وحمزة : { وقِيلهِ } بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إِلى الياء؛ والمعنى : وعنده عِلْم الساعة وعِلْمُ قِيلِه . وقرأ أبو هريرة وأبو رزين ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء ، والجحدري ، وقتادة ، وحميد : برفع اللام؛ والمعنى : ونداؤه هذه الكلمة : يارب؛ ذكر عِلَّة الخفض والرفع الفراء والزجاج .
قوله تعالى : { فاصْفَحْ عنهم } أي فأعْرِض عنهم { وقُلْ سلامٌ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : قُلْ خيراً بدلاً من شرِّهم ، قاله السدي .
والثاني : ارْدُد [ عليهم ] معروفاً ، قاله مقاتل .
والثالث : قُلْ ما تَسْلَم به من شرِّهم ، حكاه الماوردي .
{ فسوف يَعْلَمونَ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : يَعْلَمون عاقبة كفرهم .
والثاني : أنك صادق .
والثالث : حلول العذاب بهم ، وهذا تهديد لهم : « فسوف يعلمون » . وقرأ نافع ، وابن عامر : « تعلمون » بالتاء . ومن قرأ بالياء ، فعلى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا ، قاله مقاتل؛ فنَسختْ آيةُ السيف الإِعراضَ والسلامَ .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
قوله عز وجل : { حموالكتابِ المُبينِ } قد تقدم بيانه [ المؤمن ] و [ الزخرف ] ، وجواب القسم { إِنّا أنزَلْناه } ، والهاء كناية عن الكتاب ، وهو القرآن { في ليلةٍ مباركة } وفيها قولان :
أحدهما : أنها ليلة القدر ، وهو قول الأكثرين ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً ، فوُضع في السماء الدنيا ، ثم أُنزِلَ نجوماً . وقال مقاتل : نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا .
والثاني : أنها ليلة النصف من شعبان ، قاله عكرمة .
قوله تعالى : { إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ } أي : مخوِّفين عقابنا .
{ فيها } أي في تلك الليلة { يُفْرَقُ كلُّ } أي : يُفْصَل . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارىء : « يْفِرقُ » بفتح الياء وكسر الراء « كُلَّ » بنصب اللام . { أمرٍ حكيمٍ } أي : مُحْكَم . قال ابن عباس : يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القَدْر ماهو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال ، حتى الحاج ، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى . وعلى ماروي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان ، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها ، فروي عن عكرمة أنه قال في ليلة القَدْر ، وعلى هذا المفسرون .
قوله تعالى : { أمراً من عندنا } قال الأخفش : « أمراً » و « رحمةً » منصوبان على الحال؛ المعنى : إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة . قال الزجاج : ويجوز أن يكون منصوباً ب { يُفْرَقُ } بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً ، لأن « أمراً » بمعنى « فَرْقاً » . قال الفراء : ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع « مرسِلِين » عليها ، فتكون الرحمة هي النبي صلى الله عليه وسلم . وقال مقاتل : « مرسِلِين » بمعنى منزِلِين هذا القرآن ، أنزْلناه رحمةً لِمَن آمن به . وقال غيره : « أمراً من عندنا » أي : إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح { إِنّا كنّا مُرْسِلِين } الأنبياء ، { رحمةً } منّا بخَلْقنا { ربِّ السموات } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : « ربُّ » بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { ربِّ } بكسر الباء . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله { بَلْ هُمْ } يعني الكفار { في شكٍّ } مما جئناهم به { يَلعبون } يهزؤون به .
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{ فارتقِبْ } أي : فانتظر { يومَ تأتي السماءُ بدخانٍ مبينٍ } اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال :
أحدها : [ أنه ] دخان يجيء قبل قيام الساعة ، فروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام . وروى عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم ، فقال : ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ ، قلت : لم ، قال : طلع الكوكب ذو الذَّنَب ، فخشيتُ أن يطرق الدخان ، وهذا المعنى مروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، والحسن .
والثاني : أن قريشاً أصابهم جوع ، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخاناً من الجوع؛ فروى البخاري ومسلم في » الصحيحين « من حديث مسروق ، قال : كنا عند عبد الله ، فدخل علينا رجل ، فقال : جئتُكَ من المسجد ، وتركتُ رجلاً يقول في هذه [ الآية ] { يوم تأتي السماءُ بدخانٍ مُبينٍ } : يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام؛ فقال عبد الله : من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به ، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل : الله أعلم ، إنما كان [ هذا ] لأن قريشاً لمّا استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف ، فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، فقالوا { ربَّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمِنون } ، فقال الله تعالى : { إِنّا كاشِفو العذابِ قليلاً إِنكم عائدون } ، فكشف عنهم ، ثم عادوا إِلى الكفر ، فأخذوا يومَ بدر ، فذلك قوله : { يومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبرى } ، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن السائب ، ومقاتل .
والثالث : أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { هذا عذابٌ } أي : يقولون هذا عذابٌ .
{ ربَّنا اكشِفْ عنّا العذاب } فيه قولان .
أحدهما : الجوع .
والثاني : الدخان . { إِنّا مؤمِنون } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
{ أنَّى لهم الذِّكرى } أي : من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء ، { و } حالهم أنه { قد جاءهم رسول مبين } أي : ظاهر الصِّدق .
{ ثم تولَّوْا عنه } أي : أعرضوا ولم يقبلوا قوله { وقالوا مُعَلمَّ مجنونُ } أي : هو معلَّم يعلِّمه بشر مجنون بادعائه النُّبوَّة؛ قال الله تعالى : { إِنّا كاشفوا العذابِ قليلاً } أي : زماناً يسيراً . وفي العذاب قولان :
أحدهما : الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب ، هذا على قول ابن مسعود . قال مقاتل كشفه إِلى يوم بدر .
والثاني : أنه الدخان ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { إِنكم عائدون } فيه قولان .
أحدهما : إِلى الشرك ، قاله ابن مسعود .
والثاني : إلى عذاب الله قاله قتادة .
قوله تعالى : { يومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبرى } وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وأبو عمران : { يومَ تُبْطَشُ } بتاء مرفوعة وفتح الطاء » البَطْشَةُ « بالرفع . قال الزجاج : المعنى واذكر يومَ نَبْطِش . ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله : » منتقِمون « ، لأن ما بعد { إنّا } لا يجوز أن يعمل فيما قبلها .
وفي هذا اليوم قولان :
أحدهما : يوم بدر قاله ابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وأبو هريرة ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والضحاك .
والثاني : يوم القيامة ، قاله ابن عباس ، والحسن . والبَطْش : الأخذ بقوَّة .
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله تعالى : { ولقد فتَنّا } أي ابتَلَينا { قَبْلَهم } أي : قَبْلَ قومك { قومَ فرعون } بارسال موسى إِليهم { وجاءهم رسولٌ كريمٌ } وهو موسى بن عمران .
وفي معنى { كريم } ثلاثة أقوال .
أحدها : حسن الخُلُق ، قاله مقاتل .
والثاني : كريم على ربِّه ، قاله الفراء .
والثالث : شريفٌ وسيطُ النسب ، قاله أبو سليمان .
قوله تعالى : { أن أدُّوا } أي : بان أدُّوا { إِليَّ عبادَ الله } وفيه قولان :
أحدهما : أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس . فعلى هذا ينتصب { عبادَ الله } بالنداء قال الزجاج : ويكون المعنى أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله .
والثاني : أرسِلوا معي بني إِسرائيل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والمعنى : أطلِقوهم من تسخيركم ، وسلِّموهم إِليَّ .
{ وأن لا تَعْلُوا على الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا تفتروا عليه ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا تعتوا عليه ، قاله قتادة .
والثالث : لا تعظَّموا عليه ، قاله ابن جريج { إنِّي آتيكم بسلطان مبين } أي : بحجة تدل على صدقي .
فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال : { وإِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجُمونِ } وفيه قولان .
أحدهما : أنه رجم القول ، قاله ابن عباس؛ فيكون المعنى : أن يقولوا : شاعر أو مجنون .
والثاني : القتل ، قاله السدي . { وإِن لم تؤمِنوا لي فاعتزلونِ } أي : فاتركوني لا معي ولا علَيَّ ، فكفروا ولم يؤمنوا { فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء } قال الزجاج : من فتح { أنَّ } فالمعنى : بأن هؤلاء؛ ومن كسر ، فالمعنى : قال : إِن هؤلاء ، { وإِنّ } بعد القول مكسورة . وقال المفسرون : المجرمون . هاهنا : المشركون .
فأجاب اللهُ دعاءه ، وقال { فأسْرِ بعبادي ليلاً } يعني بالمؤمنين { إِنكم متَّبَعونَ } يتبعكم فرعون وقومه؛ فأعلمهم أنهم يتبعونهم ، وأنه سيكون سبباً لغرقهم .
{ واترُكِ البحر رَهْواً } أي ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك ، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده . والرَّهْو : مشيٌ في سُكون .
قال قتادة : لمّا قطع موسى عليه السلام البحر ، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم ، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده ، فقيل [ له ] : « واترك البحر رَهْواً » ، أي كما هو طريقاً يابساً .
قوله تعالى : { إِنهم جُنْدٌ مُغْرَقون } أخبره الله عز وجل بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله .
{ كم تَرَكوا } أي : بعد غرقهم { مِنْ جَنَّاتٍ } وقد فسرنا الآية في [ الشعراء : 57 ] . فأما « النَّعمة » فهو العيش اللَّيِّن الرغد . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ يس : 55 ] إِلى قوله : { وأَوْرَثْناها قوماً آخَرين } يعني بني إسرائيل .
{ فما بَكَتْ عليهم السماءُ } أي : على آل فرعون وفي معناه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه على الحقيقة؛ روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان ، باب يصعَدُ فيه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه »
وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وقال علي رضي الله عنه : إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء ، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل ، فقال الله تعالى : { فما بَكَتْ عليهم السماء والأرض } ، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل ، وقال ابن عباس : الحُمرة التي في السماء : بكاؤها . وقال مجاهد : ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً ، فقيل له : أو تَبكي؟ قال : وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! . وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره ، فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟! .
والثاني : أن المراد : أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الحسن ، ونظير هذا قوله تعالى : { حتى تَضَعَ الحربُ أوزارَها } [ محمد : 4 ] ، أي : أهل الحرب .
والثالث : أن العرب تقول : إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ : أظلمت الشمسُ له ، وكَسَفَ القمرُ لفقده ، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة ، وليس ذلك بكذب منهم ، لأنهم جميعاً متواطئون عليه ، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه؛ ونيَّتُهم في قولهم : أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم ، وكَسَفَ القمرُ : كاد يَكْسِف ، ومعنى « كاد » : هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل؛ قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً :
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ ... والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ
وقال الآخر :
الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا
أراد : الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه ، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ ، لأنها مُظْلِمةٌ ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها ، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار ، فيكون معنى الكلام : إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة .
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى : { من العذاب المُهينِ } يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون ، { إنه كان عالياً } أي : جبَّاراً .
{ ولقد اخْتَرْناهم } يعني بني إِسرائيل { على عِلْمٍ } عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم ، { وآتيناهم من الآيات } كانفراق البحر ، وتظليل الغمام ، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى ، إلى غير ذلك { ما فيه بلاءُ مُبِينٌ } أي : نِعمة ظاهرة .
ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة ، فقال : { إِنَّ هؤلاء لَيَقُولون إِنْ هي إلاّ موْتَتُنا الأولى } يعنون التي تكون في الدنيا { وما نحن بمُنْشَرِين } أي : بمبعوثِين ، { فائتوا بآبائنا } أي : ابعثوهم لنا { إِن كنتم صادقين } في البعث . وهذا جهل منهم من وجهين :
أحدهما : أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة؛ فليس لهم أن يتنطّعوا .
والثاني : أن الإِعادة للجزاء؛ وذلك في الآخرة ، لا في الدنيا .
ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم فقال : { أَهُمْ خَيْرٌ } أي : أشَدُّ وأقوى { أَمْ قََوْمُ تُبَّعٍ } ؟! أي : ليسوا خيراً منهم . روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أدري تُبَّعاً ، نبيّ ، أو غير نبيّ » وقالت عائشة : لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً ، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه . وقال وهب : أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر . وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار ، فأسلم ودعا قومَه وهم حِمْيَر إِلى الإِسلام فكذَّبوه .
فأمّا تسميته ب { تُبَّع } فقال أبو عبيدة : كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى : تُبَّعاً ، لأنه يَتْبَع صاحبَه ، فموضعُ « تُبَّع » في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام وقال مقاتل : إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه ، واسمه : مَلْكَيْكَرِب . وإِنما ذكر قوم تُبَّع ، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم . وما بعد هذا قد تقدم [ الأنبياء : 16 ] [ الحجر : 85 ] إِلى قوله تعالى : { إِنَّ يومَ الفَصْل } وهو يوم يَفْصِلُ اللهُ عز وجل بين العباد { ميقاتُهم } أي : ميعادهم { أجمعين } يأتيه الأوَّلون والآخِرون .
{ يومَ لايُغْنِي مولىً عن مولىً شيئاً } فيه قولان :
أحدهما : لا يَنْفَع قريبٌ قريباً ، قاله مقاتل . وقال ابن قتيبة : لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها .
والثاني : لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه ، قاله أبو عبيدة .
{ ولا هُمْ يُنْصَرون } أي ، لا يُمْنَعون من عذاب الله ، { إِلاّ مَنْ رَحِمَ اللهُ } وهم المؤمنون ، فإنه يشفع بعضهم في بعض .
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ إِنَّ شجَرَة الزَّقوُّم } قد ذكرناها في [ الصافات : 62 ] . و « الأثيم » : الفاجر؛ وقال مقاتل : هو أبو جهل . وقد ذكرنا معنى « المُهْل » في [ الكهف : 29 ] .
قوله تعالى : { يَغْلِي في البُطونِ } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : { يغلي } بالياء؛ والباقون : بالتاء . فمن قرأ [ { تغلي } ] بالتاء ، فلتأنيث الشجرة؛ ومن قرأ بالياء ، حمله على الطعام قال أبو علي الفارسي : ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل ، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب ، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به { كغَلْيِ الحميم } وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه .
قوله تعالى : { خُذوه } أي : يقال للزبانية : خذوه { فاعْتِلُوه } وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، ويعقوب : بضم التاء؛ وكسرها الباقون؛ قال ابن قتيبة : ومعناه قُودوه بالعُنف ، يقال جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان ، و « سواء الجحيم » : وسط النار . قال مقاتل : الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه ، فيجري دماغُه على جسده ، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه ، فيقع في بطنه ، ثم يقول [ له ] الملَك : ( ذُقْ ) العذاب { إِنَّك أنتَ العزيز الكريم } هذا توبيخ له بذلك؛ وكان أبو جهل يقول : أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها . وقرأ الكسائي : { ذُقْ أنَّكَ } بفتح الهمزة؛ والباقون : بكسرها قال أبو علي : من كسرها ، فالمعنى أنت العزيز في زعمك ، ومن فتح ، فالمعنى بأنَّكَ .
فإن قيل : كيف سُمِّي بالعزيز وليس به؟
فالجواب : من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قيل ذلك استهزاءً به ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل .
والثاني : أنت العزيز [ الكريم ] عند نَفْسك ، قاله قتادة .
والثالث : أنت العزيز في قومك ، الكريم على أهلك ، حكاه الماوردي .
ويقول الخزّان لأهل النار : { إِنّ هذا ما كنتم به تَمْتَرون } أي : تَشُكُّون في كونه .
ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال : { ِإَّن المُتَّقِينَ في مَقامٍ أمينٍ } قرأ نافع ، وابن عامر : { في مُقام } بضم الميم؛ والباقون : بفتحها قال الفراء : المَقام ، بفتح الميم : المكان ، وبضمها الإِقامة .
قوله تعالى : { أمينٍ } أي : أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث . وقد ذكرنا « الجَنّات » في [ البقرة : 25 ] و [ ذكرنا ] معنى « العُيون » ومعنى « متقابِلين » في [ الحجر : 45 47 ] وذكرنا « السُّندُس والإِستبرق » في [ الكهف : 31 ] .
قوله تعالى : { كذلك } أي : الأمر كما وَصَفْنا { وزوَّجْناهم بِحُورٍ عينٍ } قال المفسرون : المعنى : قَرَنّاهم بِهِنّ ، وليس من عقد التزويج . قال أبو عبيدة : المعنى : جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً { بحور عِينٍ } من النساء ، تقول للرجل : زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد . أي : اجعلهما زَوْجاً ، والمعنى : جَعَلْناهم اثنين اثنين . وقال يونس : العرب لا تقول تزوَّج بها ، إِنما يقولون تزوجَّها ومعنى { وزَوَّجْناهم بِحُورٍ عينٍ } : قَرَنّاهم .
وقال ابن قتيبة : يقال : زوَّجتُه امرأة ، وزوَّجتُه بامرأة . وقال أبوعلي الفارسي : والتنزيل على ما قال يونس ، وهو قوله تعالى : { زَوَّجْناكها } [ الأحزاب : 37 ] ، وما قال : زَوَّجْناك بها .
فأمّا الحُور ، فقال مجاهد : الحُور النساء النقيّات البياض . وقال الفراء : الحَوْراء : البيضاء من الإِبل؛ قال : وفي « الحُور العِين » لغتان : حُور عِين ، وحِير عين ، وأنشد :
أزمانَ عيناء سرور المسير ... وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير
وقال أبو عبيدة : الحوراء : الشديدة بياض بياض العَيْن ، الشديدة سواد سوادها . وقد بيَّنّا معنى « العِين » في [ الصافات : 48 ] .
قوله تعالى : { يَدْعُونَ فيها بكل فاكهة آمِنين } فيه قولان :
أحدهما : آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة .
والثاني : آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات .
قوله تعالى : { إِلاّ المَوْتَةَ الأُولى } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها بمعنى « سوى » ، فتقدير الكلام : لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا؛ ومثله : { ولا تَنْكِحوا ما نَكَحَ أباؤكم من النّساء إِلاّ ما قد سَلَف } [ النساء : 22 ] وقوله : { خالدين فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ إِلاّ ما شاءَ ربُّكَ } [ هود : 107 ] أي : سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا ، هذا قول الفراء ، والزجاج .
والثاني : أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان . وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها ، وإِذا ماتوا في الدنيا ، فكأنهم ماتوا في الجنة ، لا تصالهم بأسبابها ، ومشاهدتهم إيّاها ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : أن { إلاّ } بمعنى « بَعْد » ، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله : { إلاّ ما قد سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، وهذا قول ابن جرير .
قوله تعالى : { فَضْلاً مِنْ ربِّك } أي : فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه .
{ فإنَّما يَسَّرْناه } أي : سهَّلْناه ، والكناية عن القرآن { بلسانك } أي : بِلُغة العرب { لعلَّهم يَتذكَّرونَ } أي : لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا ، { فارْتَقِبْ } أي : انْتَظِرْ بهم العذاب { إِنَّهم مُرْتَقِبُونَ } هلاكك؛ وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف ، وليس بصحيح .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قوله تعالى : { حم تنزيلُ الكتاب } قد شرحناه في أول [ المؤمن ] .
قوله تعالى : { وفي خَلْقكم } أي : من تراب ثم من نُطْفة إِلى أن يتكامل خَلْق الإِِنسان { وما يَبُثُّ مِنْ دابَّة } أي : وما يُفرِّق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخَلْق والصُّوَر { آياتٌ } تدُلُّ على وحدانيَّته . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { آياتٌ } رفعاً { وتصريفِ الرِّياحِ آياتٌ } رفعاً أيضاً . وقرأ حمزة ، والكسائي : بالكسر فيهما . والرِّزق هاهنا بمعنى المطر .
قوله تعالى : { تلك آياتُ الله } أي : هذه حُجج الله { نتلوها عليك بالحق فبأيِّ حديثٍ بَعْدَ الله } أي : بعد حديثه { وآياتِه } يؤمِن هؤلاء المشركون؟! .
قوله تعالى : { وَيْلٌ لكل أفّاكٍ أثيمٍ } روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث . وقد بيَّنّا معناها في [ الشعراء : 222 ] والآية التي تليها مفسَّرة في [ لقمان : 7 ] .
قوله تعالى : { وإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شيئاً } قال مقاتل : معناه : إِذا سمع . وقرأ ابن مسعود : « وِإذا عُلِّمَ » برفع العين وكسر اللام وتشديدها .
قوله تعالى : { اتَّخَذَها هُزُواً } أي : سَخِر منها ، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت { إِنَّ شَجَرة الزَّقُّوم ، طعاُم الأثيمِ } [ الدخان : 43 44 ] فدعا بتمر وزُبْد ، وقال : تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا . وإِنما قال : { أولئك } لأنه ردَّ الكلام إلى معنى « كُلّ » .
{ مِنْ ورائهم جهنَّمُ } قد فسَّرناه في [ إبراهيم : 16 ] { ولا يُغْني عنهم ما كسَبوا شيئاً } من الأموال ، ولا ما عبدوا من الآلهة .
قوله تعالى : { هذا هُدىً } يعني القرآن { والذين كفَروا } به ، { لهم عذابُ من رِجْزٍ أليمٌ } قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : « أليمٌ » بالرفع على نعت العذاب ، وقرأ الباقون : بالكسر على نعت الرِّجز . والرِّجز بمعنى العذاب ، وقد شرحناه في [ الأعراف : 134 ] .
قوله تعالى : { جميعاً منه } أي : ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره ، فهو مِنْ فضله . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن السميفع ، وابن محيصن ، والجحدري : { جميعاً مِنَّةً } بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة . وقرأ سعيد بن جبير : « مَنُّهُ » بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون .
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى : { قُلْ للذين آمنوا يَغْفِروا . . . } [ الآية ] في سبب نزولها أربعة أقوال :
أحدها : أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها : « المريسيع » ، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء ، فأبطأ عليه ، فلمّا أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر ، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقُرَبَ أبي بكر ، وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل : سمِّن كلبك يأكلك ، فبلغ قولُه عمر ، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : [ أنها ] لمّا نزلت : { مَنْ ذا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج ربُّ محمد ، فلما سمع بذلك عمر ، اشتمل [ على ] سيفه وخرج في طلبه ، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية ، فبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم في طلب عمر ، فلمّا جاء قال : « يا عمر ، ضَعْ سيفَك » وتلا عليه الآية ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس .
والثالث : أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال ، فشكَوْا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، قاله القرظي ، والسدي .
والرابع : أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب ، فهمَّ عمر أن يبطش به ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
ومعنى الآية : قُلْ للذين آمنوا : اغْفِروا ، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء ، كقوله : { قُلْ لعباديَ الذين آمَنوا يُقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] ، وقد مضى بيان هذا .
وقوله : { للذين لا يَرْجُونَ } أي : لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية ، لأنهم لا يؤمنون به ، فلا يخافون عقابه . وقيل : لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم ، أم لا . وقد سبق بيان معنى « أيّام الله » في سورة [ إبراهيم : 5 ] .
فصل
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة ، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين . واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال :
أحدها : [ أنه ] قوله : { فاقتُلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، رواه معمر عن قتادة .
والثاني : أنه قوله في [ الأنفال : 57 ] { فإِمَّا تَثْقَفَنَّهم في الحرب } وقوله في [ براءة : 36 ] { وقاتِلوا المشركين كافَّةً } [ التوبة : 36 ] رواه سعيد عن قتادة .
والثالث : [ أنه ] قوله : { أُذِن للذين يقتَلون بأنَّهم ظُلِموا } [ الحج : 39 ] قاله أبو صالح .
قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ قَوْماً } وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { لِنَجْزِيَ } بالنون { قوماً } يعني الكفار ، فكأنه قال : لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن .
وما بعد هذا قد سبق [ الإسراء : 7 ] إِلى قوله : { ولقد آتَيْنا بني إِسرائيل الكتابَ } يعني التوراة { والحُكْمَ } وهو الفَهْم في الكتاب ، { ورَزَقْناهم من الطيِّبِّات } يعني المَنَّ والسَّلوى { وفَضَّلْناهم على العالَمِين } أي : عالَمي زمانهم .
{ وآتيناهم بيِّناتٍ من الأمر } فيه قولان :
أحدهما : بيان الحلال والحرام ، قاله السدي .
والثاني : العِلْم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوَّته ، ذكره الماوردي .
وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ آل عمران : 19 ] إِلى قوله : { ثُمَّ جَعَلْناكَ على شريعة من الأمر } سبب نزولها أن رؤساء قريش دعَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، إِلى مِلَّة آبائه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
فأمّا قوله : { على شريعةٍ } فقال ابن قتيبة : [ أي ] : على مِلَّة ومذهب ، ومنه يقال : شَرَعَ فلان في كذا : إِذا أخَذ فيه ، ومنه « مَشارِعُ الماء » وهي الفُرَض التي شرع فيها الوارد .
قال المفسرون : ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر ، أي : من الدِّين ( فاتَّبِعْها و { الذين لا يَعلمون } كفار قريش .
{ إِنَّهم لن يُغْنُوا عنك } أي : لن يَدْفَعوا عنك عذاب الله إِن اتبَّعتَهم ، { وإِنَّ الظالمين } يعني المشركين . { واللهُ وليُّ المُتَّقِينَ } الشرك . والآية التي بعدها [ مفَّسرة ] في آخر [ الأعراف : 203 ] .
{ أَمْ حَسِبَ الذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئات } سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين : إنّا نُعطى في الآخرة مثلما تُعْطَون من الأجر . قاله مقاتل . والاستفهام هاهنا استفهام إِنكار و « اجترحوا » بمعنى اكتسبوا .
{ سواءً مَحياهم ومَماتُهم } قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : { سواءً } نصباً ، وقرأ الباقون : بالرفع فمن رفع ، فعلى الابتداء؛ ومن نصب جعله مفعولاً ثانياً ، على تقدير : أن نجعل مَحياهم ومماتَهم سواءً؛ والمعنى : إِن هؤلاء يَحْيَون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وهؤلاء يَحْيَون كافرين ويموتون كافرين؛ وشتّانَ ماهم في الحال والمآل { ساءَ ما يَحْكُمونَ } أي : بئس ما يَقْضُون .
ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق ، أي : للحق والجزاء بالعدل ، لئلاّ يظُن الكافرُ أنه لا يُجزي بكفره .
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
قوله تعالى : { أفرأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهه هواه } قد شرحناه في [ الفرقان : 43 ] . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي .
قوله تعالى : { وأضَّله اللهُ على عِلْم } أي : على عِلْمه السابق فيه أنه لا يَهتدي { وخَتَم على سَمْعه } أي : طَبَع عليه فلم يَسمع الهُدى ( و ) على { قَلْبه } فلم يَعْقِل الهُدى . وقد ذكرنا الغِشاوة والخَتْم في [ البقرة : 7 ] .
{ فمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ } ؟! أي : مِنْ بَعْدِ إِضلاله إِيّاه { أفلا تَذَكَّرونَ } فتَعْرِفوا قُدرته على ما يشاء؟! وما بعد [ هذا ] مفسَّر في سورة [ المؤمنون : 37 ] إلى قوله : { وما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهْرُ } أي : اختلاف الليل والنهار { وما لهم بذلك مِنْ عِلْمٍ } أي : ما قالوه عن عِلْم ، إِنَّما قالوه شاكِّين فيه . ومن أجل هذا قال نبيُّنا عليه الصلاة والسلام : « لا تَسُبُّوا الدَّهْر فإنَّ الله هو الدَّهْر » ، أي : هو الذي يُهْلِككم ، لا ماتتوهَّمونه من مرور الزمان . وما بعد هذا ظاهر ، وقد تقدم بيانه [ البقرة : 28 ] [ الشورى : 7 ] إِلى قوله : { يَخْسَرُ المُبطِلونَ } يعني : المكذِّبين الكافرين أصحابَ الأباطيل؛ والمعنى : يظهر خسرانُهم يومئذ . { وتَرَى كُلَّ أُمَّة } قال الفراء : ترى أهل كل دين { جاثيةً } قال الزجاج : أي : جالسة على الرُّكَب ، يقال : قد جثا فلان جُثُواً : إِذا جلس على ركبتيه ، ومِثْلُه : جَذا يَجْذو . والجُذُوُّ أشد استيفازاً من الجُثُوِّ ، لأن الجُذُوَّ : أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه . قال ابن قتيبة : والمعنى أنها غير مطمئنَّة .
قوله تعالى : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلى كتابها } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيِّئاتها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه حسابها ، قاله الشعبي ، والفراء ، وابن قتيبة .
والثالث : كتابها الذي أنزل على رسوله ، حكاه الماوردي .
ويقال لهم : { اليومَ تُجْزَوْنَ ما كنتم تعملون } .
{ هذا كتابُنا } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحَفَظة ، قاله ابن السائب .
والثاني : اللوح المحفوظ ، قاله مقاتل .
والثالث : القرآن ، والمعنى : أنهم يقرؤنه فيَدُلُّهم ويُذكِّرُهم ، فكأنه يَنْطِق عليهم ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كنتم تعملون } أي : نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم ، أي بكَتْبها وإِثباتها . وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ ، من اللوح المحفوظ ، تَسْتَنْسِخُ الملائكةُ كلَّ عامٍ ما يكون من أعمال بني آدم ، فيجدون ذلك موافقاً ما يعملونه . قالوا : والاستنساخ لا يكون إِلاّ مِنْ أصلٍ . قال الفراء : يرفع الملَكان العملَ كلَّه ، فيُثْبِتُ اللهُ منه ما فيه ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللَّغو . وقال الزجاج : نستنسخ ما تكتبه الحَفَظة ، ويثبت عند الله عز وجل .
قوله تعالى : { في رحمته } قال مقاتل في جنَتَّه .
قوله تعالى : { أَفَلَمْ تَكُنْ آياتي } فيه إضمار ، تقديره : فيقال لهم ألم تكن آياتي ، يعني آيات القرآن { تُتْلَى عليكم فاستَكْبَرتم } عن الإِيمان بها { وكنتم قَوْماً مجرِمين } ؟! قال ابن عباس : كافرين .
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله تعالى : { وإِذا قيل إِنَّ وَعْدَ الله } بالبعث { حَقُّ } أي : كائن { والساعةُ } قرأ حمزة : « والساعةَ » بالنصب « لا رَيْبَ فيها » أي : كائنة بلا شك { قُلْتُم ما نَدري ما السّاعةُ } أي : أنكرتموها { إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنّاً } أي : ما نعلم ذلك إلا ظنّاً وحَدْساً ، ولا نَسْتْيِقنُ كونَها .
وما بعد هذا قد تقدم [ الزمر : 48 ] إِلى قوله : { وقيل الْيومَ نَنْساكم } أي : نتركُكم في النار { كما نَسيتم لقاءَ يومكم هذا } أي : كما تَركتُم الإِيمانَ والعملَ للقاء هذا اليوم .
{ ذلكم } الذي فَعَلْنا بكم { بأنَّكم اتخَّذتم آياتِ اللهِ هُزُواً } أي : مهزوءاً بها { وغرَّتكم الحياةُ الدُّنيا } حتى قلتم : إِنه لا بَعْثَ ولا حساب { فاليومَ لا يُخْرَجُونَ } وقرأ حمزة ، والكسائي : « لا يَخْرُجُونَ » بفتح الياء وضم الراء ، وقرأ الباقون : [ « لا يُخْرَجُونَ » ] بضم الياء وفتح الراء { منها } أي : من النار { ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا يُطلب منهم أن يَرْجِعوا إِلى طاعة الله عز وجل ، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار .
قوله تعالى : { وله الكِبرياءُ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : السُّلطان ، قاله مجاهد .
والثاني : الشَّرَف ، قاله ابن زيد .
والثالث : العَظَمة ، قاله يحيى بن سلام ، والزجاج .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة . وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والجمهور . وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : فيها آية مدنيَّة ، وهي قوله : { قُلْ أرأيتثم إِن كان مِنْ عِنْدِ اللهِ } [ الأحقاف : 10 ] وقال مقاتل : نزلت بمكة غير آيتين : قوله { قُلْ أرأيتثم إِن كان مِنْ عِنْدِ اللهِ } [ الأحقاف : 10 ] وقوله : { فاصْبِرْ كما صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] نزلتا بالمدينة . وقد تقدم تفسير فاتحتها [ المؤمن ] [ الحجر : 85 ] إلى قوله : { وأجَلٍ مُسَمَّىً } وهو أجَل فَناء السموات والأرض ، وهو يوم القيامة .
قوله تعالى : { قل أرأيتم } مفسَّر في [ فاطر : 40 ] إلى قوله : { إِيتوني بكتاب } ، وفي الآية اختصار ، تقديره : فإن ادَّعَواْ أن شيئاً من المخلوقات صنعةُ آلهتهم ، فقل لهم : إيتوني بكتاب { مِنْ قَبْلِ هذا } أي : مِنْ قَبْلِ القرآن فيه برهانُ ما تدَّعون من أن الأصنام شركاءُ الله ، { أو أثارةٍ مِنْ عِلْمٍ } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الشيء يثيره مستخرجه ، قاله الحسن .
والثاني : بقيَّة مِنْ عِلْمٍ تُؤثَر عن الأوَّلِين ، قاله ابن قتيبة . وإِلى نحوه ذهب الفراء ، وأبو عبيدة .
والثالث : علامة مِنْ عِلْم ، قاله الزجاج . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأيوب السختياني ، ويعقوب : « أثَرَةٍ » بفتح الثاء ، مثل شجرة . ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الخَطُّ ، قاله ابن عباس؛ وقال هو خَط كانت العرب تخُطُّه في الأرض ، قال أبو بكر بن عيّاش : الخَطُّ هو العِيافة .
والثاني : أو عِلْم تأثُرونه عن غيركم ، قاله مجاهد .
والثالث : خاصَّة مِنْ عِلْم ، قاله قتادة .
وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن يعمر : { أثْرَةٍ } بسكون الثاء من غير ألف بوزن نَظْرَةٍ .
وقال الفراء : قرئت « أثارةٍ » و « أثَرَةٍ » ، وهي لغات ، ومعنى الكل : بقيَّة مِنْ عِلْم ، ويقال : أو شيء مأثور من كتب الأولين ، فمن قرأ « أثارةٍ » فهو المصدر ، مثل قولك : السماحة والشجاعة ، ومن قرأ « أثَرَةٍ » فإنه بناه على الأثَر ، كما قيل : قَتَرة ، ومن قرأ « أثْرَةٍ » فكأنه أراد مثل قوله : الخَطْفَة « [ الصافات : 10 ] و » الرَّجْفَة « [ الأعراف : 78 ] .
وقال اليزيدي : الأثارة : البقيَّة؛ والأثَرَة ، مصدر أثَرَه يأثُرُه ، أي : يذكُره ويَرويه ، ومنه حديثٌ مأثور .
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله تعالى : { مَنْ لاَ يستجيبُ له } يعني الأصنام { وهم عن دعائهم غافلون } لأنها جماد لا تَسمع ، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداءً لعابديها في الدنيا . ثم ذكر [ بما ] بعد هذا أنهم يسمُّون القرآن سِحْراً وأن محمداً افتراه .
قوله تعالى : { فلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً } أي : لا تقدِرون على أن ترُدُّوا عني عذابَه ، أي : فكيف أفتري مِنْ أجِلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنِّي؟! { هو أعلمُ بما تُفيضونَ فيه } أي : بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سِحْر { كفى به شهيداً بيني وبينَكم } أن القرآن جاء مِنْ عندِ الله { وهو الغفور الرحيم } في تأخير العذاب عنكم . وقال الزجاج : إنما ذكر هاهنا الغُفران والرَّحمة ليُعْلِمَهم أنَّ من أتى ما أَتَيْتُم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به .
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله تعالى : { قل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل } أي : ما أنا بأوَّل رسولٍ . والبِدْع والبديع من كل شيء : المبتدأ { وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم } وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة : « ما يَفْعَلُ » بفتح الياء ثم فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا . ثم فيه قولان :
أحدهما : [ أنه ] لمّا اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ وشجرٍ وماءٍ ، فقصَّها على أصحابه ، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون من أذى المشركين . ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك ، فقالوا : يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيتَ؟ فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وما أدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم } يعني : لا أدري ، أخرُجُ إِلى الموضع الذي رأيتُه في منامي أم لا؟ ثم قال : إِنما هو شيء رأيتُه في منامي ، وما { أتَّبع إِلاّ ما يوحَى إِليَّ } ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وكذلك قال عطية : ما أدري هل يتركني بمكة أو يُخرجني منها .
والثاني : ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي ، أو أُقْتَل كما قُتِلوا ، ولا أدري ما يُفْعَل بكم ، أتعذَّبونَ أم تؤخَّرونَ؟ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ؟ قاله الحسن .
والقول الثاني : أنه أراد ما يكون في الآخرة . روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لمّا نزلتْ هذه الآية ، نزل بعدها { لِيَغْفِرَ لكَ اللهُ ما تقدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّر } [ الفتح : 2 ] وقال : { ليِدُخِلْ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ جنّات } الآية [ الفتح : 5 ] فأُعلم ما يُفْعَل به وبالمؤمنين . وقيل : إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا : ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد ، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فنزل قوله : { لِيَغْفِرَ لكَ اللهُ . . . } الآية [ الفتح : 2 ] ، فقال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله ، فماذا يُفْعَل بنا؟ فنزلت { لِيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمناتِ جنّاتٍ } الآية [ الفتح : 5 ] ؛ وممن ذهب إِلى هذا القول أنس ، وعكرمة ، وقتادة . وروي عن الحسن ذلك .
قوله تعالى : { قُلْ أرأيتُم إِنْ كان مِنْ عِنْدِ اللهِ } يعني القرآن { وكَفَرْتُم به وشَهدَ َشاهدٌ مِنْ بني إِسرائيل } وفيه قولان :
أحدهما : أنه عبد الله بن سلام ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد .
والثاني : أنه موسى بن عمران عليه السلام ، قاله الشعبي ، ومسروق .
فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة ، فيكون المعنى : وشهد شاهد من بني إِسرائيل عليه ، أي : على أنه من عند الله ، { فآمن } الشاهد ، وهو ابن سلام { واستَكْبرتُم } يا معشر اليهود .
وعلى الثاني : يكون المعنى : وشَهِد موسى على التوراة التي هي مِثْل القرآن أنها من عند الله ، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله ، « فآمن » مَنْ آمن بموسى والتوراة « واستَكْبرتُم » أنتم يا معشر العرب أن تؤمِنوا بمحمد والقرآن .
فإن قيل : أين جواب « إِنْ »؟ قيل : هو مُضْمَر؛ وفي تقديره ستة أقوال :
أحدها : أن جوابه : فَمنْ أَضَلُّ منكم ، قاله الحسن .
والثاني : أن تقدير الكلام : وشَهِدَ شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمن ، أتؤمِنون؟ قاله الزجاج .
والثالث : أن تقديره : أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي .
والرابع : أن تقديره : أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي .
والخامس : مَن المُحِقُّ مِنّا ومِنكم ومَن المُبْطِل؟ ذكره الثعلبي .
والسادس : أن تقديره : أليس قد ظَلَمْتُمْ؟ ويدُلُّ على هذا المحذوف قوله : { إِنَّ الله لا يَهْدِي القومَ الظالمين } ، ذكره الواحدي .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله تعالى : { وقال الذين كَفَروا للذين آمَنوا . . . } الآية ، في سبب نزولها خمسة أقوال :
أحدها : أن الكفار قالوا : لو كان دين محمد خيراً ما سبقَنا إِليه اليهودُ ، فنزلت هذه الآية ، قاله مسروق .
والثاني : أن امرأة ضعيفة البَصر أسلمتْ ، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون : واللهِ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتْنا هذه إِليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو الزناد .
والثالث : أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إِلى الإِسلام ، فقالت قريش : لو كان خيراً ما سبقونا إِليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو المتوكل .
والرابع : أنه لمّا اهتدت مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةُ وأسلمتْ ، قالت أسَد وغَطَفان : لو كان خيراً ما سبقنا إِليه رِعاءُ الشَّاء ، يعنون مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب .
والخامس : أن اليهود قالوا : لو كان دين محمد خيراً ما سبقتْمونا إِليه ، لأنه لا عِلْمَ لكم بذلك ، ولو كان حَقّاً لدخَلْنا فيه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . وقال : [ هو قول مَنْ يقول : إِن الآية نزلت بالمدينة؛ ومن قال : هي مكية ، قال ] : هو قول المشركين . فقد خرج في « الذين كفروا » قولان :
أحدهما : أنهم المشركون .
والثاني : اليهود .
وقوله : { لو كان خيراً } أي : لو كان دين محمد خيراً { ما سَبَقونا إِليه } فمن قال : هم المشركون ، قال : أرادوا : إنّا أعَزُّ وأفضل؛ ومن قال : هم اليهود ، [ قال ] : أرادوا لأنّا أعلم .
قوله تعالى : { وإِذْا لَمْ يَهْتَدُوا به } أي : بالقرآن { فسيقولون هذا إِفّكٌ قديم } أي : كذب متقدِّم ، يعنون أساطير الأولين .
{ ومِنْ قَبْلِهِ كتابُ موسى } أي : من قَبْلِ القرآن التوراةُ . وفي الكلام محذوف ، تقديره : فلَمْ يهتدوا ، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوراة . { إماماً } قال الزجاج : هو منصوب على الحال { ورحمةً } عطف عليه { وهذا كتابٌ مُصدِّقٌ } المعنى : مصدِّقُ للتوراة { لساناً عربياً } منصوب على الحال؛ المعنى : مصدِّقُ لما بين يديه عربيّاً وذكر « لساناً » توكيداً ، كما تقول : جاءني زيد رجلاً صالحاً ، تريد : جاءني زيدٌ صالحاً .
قوله تعالى : { لِيُنْذِرَ الذين ظَلَمُوا } قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : « لِيُنْذِرَ » بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب : { لِتُنْذِرَ } بالتاء . وعن ابن كثير كالقراءتين . و « الذين ظلموا » المشركين { وبُشرى } أي : وهو بُشرى { للمُحْسِنِينَ } وهم الموحِّدون يبشِّرهم بالجنة .
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ فصلت : 30 ] إلى قوله : { بوالدَيْه حُسْناً } وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { إحساناً } بألف .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { كَرْهاً } بفتح الكاف؛ وقرأ الباقون : بضمها . قال الفراء : والنحويُّون يستحبُّون الضَّمَّ هاهنا ، ويكرهون الفتح ، للعلَّة التي بيَّنّاها عند قوله : { وهُوَ كُرْهٌ لكم } [ البقرة : 216 ] . قال الزجاج : والمعنى حملته على مشقَّة { ووضعتْه } على مشقَّة . { وفِصالُه } أي : فِطامُه .