كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
{ بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم }
قال ابن عمر : نزلت في كل سورة . وقد اختلف العلماء : هل هي آية كاملة ، أم لا؟ وفيه [ عن ] أحمد روايتان . واختلفوا : هل هي من الفاتحة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضاً . فأما من قال : إِنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة ، وأما من لم يرها من الفاتحة ، فانه يقول : قراءتها في الصلاة سنة . ما عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وابن مغفَّل ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم : الحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وابراهيم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو عبيد في آخرين .
وذهب الشافعي إِلى أن الجهر مسنون ، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد .
فأما تفسيرها :
فقوله : { بِسمِ الله } اختصار ، كأنه قال : أبدأ باسم الله . أو : بدأت باسم الله . وفي الاسم خمس لغات : إِسم بكسر الألف ، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها ، وسم بكسر السين ، وسم بضمها ، وسما . قال الشاعر :
والله أَسْماك سماً مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وأَنشدوا :
باسم الذي في كل سورةٍ سمه ... قال الفراء : بعض قيس [ يقولون : ] سمه ، يريدون : اسمه ، وبعض قضاعة يقولون : سُمُه . أَنشدني بعضهم :
وعامنا أَعجبنا مقدّمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه
والقرضاب : القطاع ، يقال : سيف قرضاب .
واختلف العلماء في اسم الذي هو «الله» :
فقال قوم : إِنه مشتق ، وقال آخرون : إنه علم ليس بمشتق . وفيه عن الخليل روايتان . إِحداهما : أنه ليس بمشتق ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن . والثانية : رواها عنه سيبويه : أنه مشتق . وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من : أله الرجل يأله : إِذا فزع اليه من أمر نزل به . فألهه ، أي : أجاره وأمَّنه ، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً . وقال غيره : أصله ولاه . فأبدلت الواو همزة فقيل : إِله كما قالوا : وسادة إِسادة ، ووشاح وإِشاح .
واشتق من الوله ، لأن قلوب العباد توله نحوه . كقوله تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون } [ النحل : 53 ] . وكان القياس أن يقال : مألوه ، كما قيل : معبود ، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً ، كما قالوا للمكتوب : كتاب ، وللمحسوب : حساب . وقال بعضهم : أصله من : أله الرجل يأله إِذا تحير ، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته . وحكي عن بعض اللغويين : أله الرجل يأله إِلاهة ، بمعنى : عبد يعبد عبادة .
وروي عن ابن عباس أنه قال :
{ ويذرك وءالهتك } [ الأعراف : 127 ] أي : عبادتك . قال : والتأله : التعبد . قال رؤبة :
لله در الغانيات المدَّه ... سبَّحن واسترجعن من تألهي
فمعنى الإِله : المعبود .
فأما «الرَّحمن» :
فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة ، مبني على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها . وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة ، فانهم يقولون للتشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشبع : شبعان .
قال الخطابي : ف «الرحمن» : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمت المؤمن والكافر .
و «الرحيم» : خاصٌ للمؤمنين . قال عز وجل : { وكان بالمؤمنين رحيما } [ الأحزاب : 43 ] . والرحِيم : بمعنى الراحم .
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أُنزل في التوراة ، ولا في الانجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " . فمن أسمائها : الفاتحة ، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة . ومن أسمائها : أم القرآن ، وأم الكتاب ، لأنها أمت الكتاب بالتقدم . ومن أسمائها : السَّبع المثاني ، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في ( الحجر ) إن شاء الله .
واختلف العلماء في نزولها على قولين .
أحدهما : أنها مكية ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، والحسن ، وأبي العالية ، وقتادة ، وأبي ميسرة .
والثاني : أنها مدنية ، وهو مرويّ عن أبي هريرة ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، وعطاء الخراساني . وعن ابن عباس كالقولين .
فصل
فأما تفسيرها
ف { الْحَمْدُ } رفع بالابتداء ، و { لله } الخبر . والمعنى : الحمد ثابت لله ، ومستقرّ له ، والجمهور على كسر لام «لله» وضمها ابن عبلة ، قال الفراء : هي لغة بعض بني ربيعة ، وقرأ ابن السَّميفع : «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام . وقرأ أبو نهيك . بكسر الدال واللام جميعا .
واعلم أن الحمد : ثناء على المحمود ، ويشاركه الشكر ، إلا أن بينهما فرقاً ، وهو : أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء ، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة ، وقيل : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، فتقديره : قولوا : الحمد لله .
وقال ابن قتيبة : الحمد : الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة ، وأشباه ذلك . والشكر : الثناء عليه بمعروف أولا كه ، وقد يوضع الحمد موضع الشكر . فيقال : حمدته على معروفه عندي ، كما يقال : شكرت له على شجاعته .
فأما «الرب» فهو المالك ، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة ، فيقال : هذا رب الدار ، ورب العبد . وقيل هو مأخوذ من التربية .
قال شيخنا أبو منصور اللغوي : يقال : ربّ فلان صنيعته يربها رباً : إذا أتمها وأصلحها ، فهو ربّ ورابٌ .
قال الشاعر :
يربّ الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمُّما
قال : والرب يقال على ثلاثة أوجه . أحدها : المالك . يقال رب الدار . والثاني : المصلح ، يقال : رب الشيء . والثالث : السيد المطاع . قال تعالى : { فيسقى ربَّه خمراً }
[ يوسف : 41 ] . والجمهور على خفض باء «ربِّ» . وقرأ أبو العالية ، وابن السَّميفع ، وعيسى ابن عمر بنصبها . وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خيثم ، وأبو عمران الجوني برفعها .
فأما { الْعَالَمِينَ } فجمع عالم ، وهو عند أهل العربية : اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم ، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالماً .
فقال الحطيئة :
تنحي فاجلسي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
فأما أهل النظر ، فالعلم عندهم : اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ ، وسماء ، وأرض ، وما بين ذلك .
وفي اشتقاق العالم قولان . أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوي قول أهل اللغة .
والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوي قول أهل النظر ، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك ، لانه دالٌ على خالقه .
وللمفسرين في المراد ب «العالمين» ها هنا خمسة أقوال :
أحدها : الخلق كله ، السموات والأرضون وما فيهنّ وما بينهن . رواه الضحّاك عن ابن عباس .
والثاني : كل ذي روح دب على وجه الأرض . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنهم الجن والإنس . روي ايضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، ومقاتل .
والرابع : أنهم الجن والإنس والملائكة ، نقل عن ابن عباس أيضا ، واختاره ابن قتيبة .
والخامس : أنهم الملائكة ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى : { الرَّحْمن الرَّحِيمِ }
قرأ أبو العالية ، وابن السميفع ، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خيثم ، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله تعالى : { مَالِك يَومِ الدينِ }
قرأ عاصم والكسائي ، وخلف ، ويعقوب : «مالك» بألف . وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة كذلك ، إِلا أنهما نصبا الكاف . وقرأ أبو هريرة ، وعاصم الجحدري : «ملْكِ» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف ، وقرأ أبو عثمان النهدي ، والشعبي «مَلِكَ» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعائشة ، ومورَّق العجلي : «مَلِكُ» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف . وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف . وقرأ عمرو بن العاص كذلك ، إلا أنه ضمَّ الكاف . وقرأَ أبو حنيفة ، وأبو حيوة «مَلكَ» على الفعل الماضي ، «ويومَ» بالنصب .
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : إِسكان اللام ، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «مَلِك» بفتح الميم مع كسر اللام ، وهو أظهر في المدح ، لأن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً .
وفي «الدين» هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الحساب . قاله ابن مسعود .
والثاني : الجزاء . قاله ابن عباس ، ولما أقر الله عز وجل في قوله { رب العالمين } أنه مالك الدنيا . دل بقوله { مالك يوم الدين } على أنه مالك الأخرى . وقيل : إِنما خصَّ يوم الدين ، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو مجلز «يُعْبَدُ» بضم الياء وفتح الباء . قال ابن الأنباري : المعنى : قل يا محمد : إِياك يعبد ، والعرب ترجع من الغيبة إِلى الخطاب ، ومن الخطاب الى الغيبة ، كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس : 22 ] وقوله : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً . إن هذا كان لكم جزاءً } [ الدهر : 21 ، 22 ]
وقال لبيد :
باتت تشكى إليَّ النفس مجهشة ... وقد حمتلك سبعاً بعد سبعينا
وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال .
أحدهما : أنها بمعنى التوحيد . روي عن علي ، وابن عباس في آخرين .
والثاني : أنها بمعنى الطاعة ، كقوله : { لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ]
والثالث : أنها بمعنى الدعاء ، كقوله : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [ غافر : 60 ]
قوله تعالى : { إِهدنا } فيه أربعة أقوال :
أحدها : ثبتنا . قاله عليّ ، وأبيّ . والثاني : أرشدنا . والثالث : وفقنا . والرابع : ألهمنا . رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس .
و { الصراط } الطريق
ويقال : إِن أصله بالسين ، لأنه من الاستراط وهو : الابتلاع ، فالسراط كأنه يسترط المارّين عليه ، فمن قرأَ السين ، كمجاهد ، وابن محيصن ، ويعقوب ، فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصاد ، كأبي عمرو ، والجمهور ، فلأنها أَخف على اللسان ، ومن قرأ بالزاي ، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو ، واحتج بقول العرب : سقر وزقر . وروي عن حمزة : إِشمام السين زاياً ، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي .
قال الفراء : اللغة الجيدة بالصاد ، وهي لغة قريش الأولى ، وعامة العرب يجعلونها سيناً ، وبعض قيس يشمُّون الصاد ، فيقول : الصراط بين الصاد والسين ، وكان حمزة يقرأ «الزراط» بالزاي ، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين . يقولون في أصدق أزدق .
وفي المراد بالصراط هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : أنه كتاب الله ، رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه دين الاسلام . قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، و أبوالعالية في آخرين .
والثالث : أنه الطريق الهادي إلى دين الله ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والرابع : أنه طريق الجنة ، نقل عن ابن عباس أيضاً . فان قيل : ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ ففيه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن المعنى : إِهدنا لزوم الصراط ، فحذف اللزوم . قاله ابن الأنباري .
والثاني : أن المعنى ثبتنا على الهدى ، تقول العرب للقائم : قم حتى آتيك ، أي : اثبت على حالك .
والثالث : أن المعنى زدنا هدىً .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قوله تعالى : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ }
قال ابن عباس : هم النبيُّون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون . وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء ، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها . وكان ابن كثير يصل [ ضم ] الميم بواو . وقال ابن الأنباري : حكى اللغويون في «عليهم» عشر لغات ، قرى بعامتها «عليهُمْ» بضم الهاء وإِسكان الميم و«عليهِمْ» بكسر الهاء وإِسكان الميم ، و«عليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة ، و«عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة ، و«عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم و«عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو ، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء ، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإِدخال ياء ، و«عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ ، و«عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو ، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم .
فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و «الضالون» : النصارى .
رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن قتيبة : والضلال : الحيرة والعدول عن الحق .
فصل
ومن السنة في حق قارىء الفاتحة أن يعقبها ب «آمين» . قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله : وسواء كان خارج الصلاة أو فيها ، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا قال الامام { غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين } فقال من خلفه : آمين ، فوافق ذلك قول أهل السماء ، غفر له ما تقدم من ذنبه "
وفي معنى آمين : ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معنى آمين : كذلك يكون . حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس ، والحسن .
والثاني : أنها بمعنى : اللهم استجب . قاله الحسن والزجاج .
والثالث : أنه اسم من أسماء الله تعالى . قاله مجاهد ، وهلال بن يساف ، وجعفر ابن محمد .
وقال ابن قتيبة : معناها : يا أمين أجب دعاءنا ، فسقطت يا ، كما سقطت في قوله : { يوسف أعرض عن هذا } [ يوسف : 29 ] تأويله : يا يوسف . ومن طوَّل الألف فقال : آمين ، أدخل ألف النداء على ألف أمين ، كما يقال ، آزيد أَقبل . ومعناه : يا زيد . قال ابن الأنباري : وهذا القول خطأ عند جميع النحويين ، لأنه إِذا أدخل «يا» على« آمين» كان منادىً مفرداً ، فحكم آخره الرفع ، فلما أجمعت العرب على فتح نونه ، دل على أنه غير منادى ، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها ، كما تقول العرب : ليت ، ولعل . قال : وفي «آمين» لغتان : «أمين» بالقصر ، «وآمين» بالمد ، والنون فيهما مفتوحة .
أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي :
سقى الله حياً بين صارة والحمى ... ( حمى ) فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر
أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ ... بخير ووقَّاهم حِمام المقادر
وأَنشدنا أبو العباس أيضاً :
تباعد مني فُطْحُل وابن أمه ... أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدنا أبو العباس أيضاً :
يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا
وأَنشدني أَبي :
أمين ومن أعطاك مني هوداة ... رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت
وأنشدني أبي :
فقلت له قد هجت لي بارح الهوى ... أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا
أمين وأضناه الهوى فوق ما به ... أمين ولاقى من تباريحه جهدا
فصل
نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة ، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا تتعين ، وهي رواية عن أحمد ، ويدل على الرواية الأولى ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
والله تعالى أعلم بالصواب .
الم (1)
وأما التفسير . فقوله : { ألم } اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال .
أحدها : أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لله عز وجل في كل كتاب سر ، وسر الله في القرآن أوائل السور ، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي ، وأبو صالح ، وابن زيد .
والثاني : أنها حروف من أسماء ، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أَسماء الله عز وجل . قال علي بن أبي طالب : هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب .
وسئل ابن عباس عن «آلر» و«حم» و «نون» فقال : اسم الرحمن على الهجاء ، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية ، والربيع بن أنس .
والثالث : أنها حروف أقسم الله بها ، قاله ابن عباس ، وعكرمة . قال ابن قتيبة : ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها ، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل : تعلمت «أ ب ت ث» وهو يريد سائر الحروف ، وكما يقول : قرأت الحمد ، يريد فاتحة الكتاب ، فيسميها بأول حرف منها ، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة ، وبها يذكر ويوحد . قال ابن الانباري : وجواب القسم محذوف ، تقديره : وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل ، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل ، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به ، ولأن في قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } دليلاً على الجواب .
والرابع : انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها ، والمعنى أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف ، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف ، قاله الفراء ، وقطرب .
فان قيل : فقد علموا أنه حروف ، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا؟
فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه ، فكأنه قال : هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم ، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام .
والخامس : أنها أسماء للسور . روي عن زيد بن أسلم ، وابنه ، وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانىء .
والسادس : أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها . يقول الرجل للرجل : هل تا؟ فيقول له : بلى ، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه . وأنشدوا :
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف ... لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف
أراد قالت : أقف . ومثله :
نادوهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعاً كلهم ألا فا
يريد : ألا تركبون؟ قالوا : بلى فاركبوا . ومثله :
بالخير خيرات وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إِلا أن تا
معناه : وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء . وإِلى هذا القول ذهب الأخفش ، والزجاج ، وابن الأنباري .
وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها ، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون ، فنزلت هذه الحروف المقطعة ، فسمعوها فبقوا متحيرين . وقال غيره : إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه ، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها معناه ، فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون ، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم ، أو يكون معلوماً عند المخاطبين ، فهذا الكلام يعم جميع الحروف .
وقد خص المفسرون قوله «الاما» بخمسة أقوال :
أحدها : أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا الله عز وجل ، وقد سبق بيانه .
والثاني : أَن معناه : أَنا الله أعلم . رواه أَبو الضحى عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وسعيد بن جبير .
والثالث : أنه قسم . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وخالد الحذاء عن عكرمة .
والرابع : أنها حروف من أسماء . ثم فيها قولان . أَحدهما : أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد» قاله ابن عباس .
فان قيل : إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به ، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟!
فالجواب : أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى ، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه ، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء ، فتنوول من اسمه نهاية حروفه ، و«محمد» مبتدأ في الإقراء ، فتنوول أول حرف فيه . والقول الثاني : أَن الألف من «الله» تعالى ، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية .
والخامس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، وابن جريج .
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
قوله تعالى : «ذلك» فيه قولان .
أحدهما : أنه بمعنى هذا ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والكسائي ، وأبي عبيدة ، والأخفش . واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة :
أَقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا
أي : أنا هذا . وقال ابن الأنباري . إنما أراد : أنا ذلك الذي تعرفه .
والثاني : أنه إشارة الى غائب .
ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن .
والثاني : أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله : { سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
والثالث : أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة ، لأنهم وعدوا بنبي وكتاب .
و { الكتاب } . القرآن . وسمي كتاباً ، لأنه جمع بعضه إلى بعض ، ومنه الكتيبة ، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض . ومنه : كتبت البغلة .
قوله تعالى : { لا ريب فيه } الرَّيب : الشك . والهدى : الإِرشاد . والمتقون : المحترزون مما اتقوه .
وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع ، فقال : التقوى : أخذ عدة ، والورع : دفع شبهة ، فالتقوى : متحقق السبب ، والورع : مظنون المسبَّب .
واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن ظاهرها النفي ، ومعناها النهي ، وتقديرها : لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه . ومثله : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } [ يوسف : 38 ] أي : ما ينبغي لنا . ومثله : { فلا رفت ولا فسوق } [ البقرة : 196 ] وهذا مذهب الخليل ، وابن الأنباري .
والثاني : أن معناها : لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين . قاله المبرّد .
والثالث : أن معناها : لا ريب فيه أنه من عند الله ، قاله مقاتل في آخرين .
فان قيل : فقد ارتاب به قوم .
فالجواب : انه حق في نفسه ، فمن حقق النظر فيه علم . قال الشاعر :
ليس في الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب
فان قيل : فالمتقي مهتد ، فما فائدة اختصاص الهداية به؟
فالجواب من وجهين . أحدهما : أنه أراد المتقين ، والكافرين ، فاكتفى بذكر أحد الفريقين ، كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أراد : والبرد .
والثاني : أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به ، كقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] . وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } الايمان في اللغة : التصديق ، والشرع أقره على ذلك ، وزاد فيه القول والعمل . وأصل الغيب : المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر : غيباً .
وفي المراد بالغيب هاهنا ستة أقوال .
أحدها : أنه الوحي ، قاله ابن عباس ، وابن جريج .
والثاني : القرآن ، قاله أبو رزين العقيلي ، وزر بن حبيش .
والثالث : الله عز وجل ، قاله عطاء ، وسعيد ابن جبير .
والرابع : ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن . رواه السدي عن أشياخه ، وإليه ذهب أبو العالية ، وقتادة .
والخامس : أنه قدر الله عز وجل ، قاله الزهري .
والسادس : أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره . قال عمرو بن مرَّة : قال أصحاب عبد الله له : طوبى لك ، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجالسته . فقال : إن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبيِّنا لمن رآه ، ولكن أعجب من ذلك : قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه ، ثم قرأ : { الذين يؤمنون بالغيب }
قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } الصلاة في اللغة : الدعاء . وفي الشريعة : أفعال وأقوال على صفات مخصوصة . وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا ، وهو مغرز الذنب من الفرس .
والثاني : أنها من صليت العود إذا لينته ، فالمصلي يلين ويخشع .
والثالث : أنها مبنية على السؤال والدعاء ، والصلاة في اللغة : الدعاء ، وهي في هذا المكان اسم جنس .
قال مقاتل : أراد بها هاهنا : الصلوات الخمس .
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والثالث : إِدامتها ، والعرب تقول في الشيء الراتب : قائم ، وفلان يقيم أرزاق الجند ، قاله ابن كيسان .
قوله تعالى : { ومما رزقناهم } أي : أعطيناهم { ينفقون } أي يخرجون . وأصل الإِنفاق الإِخراج . يقال : نفقت الدابة : إذا خرجت روحها .
وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال .
أحدها : أنها النفقة على الأهل والعيال ، قاله ابن مسعود ، وحذيفة .
والثاني : أنها الزكاة المفروضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثالث : أنها الصدقات النوافل ، قاله مجاهد والضحاك .
والرابع : أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ، ذكره بعض المفسرين ، وقالوا : إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته ، ويفرق باقيه على الفقراء . فعلى قول هؤلاء ، الآية منسوخة بآية الزكاة ، وغير هذا القول أثبت . واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب ، وبين الصلاة وهي فعل البدن ، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال -أنه ليس في التكليف قسم رابع ، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما ، كالحج والصوم ونحوهما .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أُنزل إِليك } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أَحدهما : أَنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، واختاره مقاتل .
والثاني : أَنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، قال المفسرون : الذي أنزل إليه ، القرآن . وقال شيخنا علي بين عبيد الله : القرآن وغيره مما أُوحي إِليه .
قوله تعالى : { وما أُنزل من قبلك } يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما «الآخرة» فهي اسم لما بعد الدنيا ، وسميت آخرة ، لأن الدنيا قد تقدمتها : وقيل . سميت آخرة لأنها نهاية الأمر .
قوله تعالى : { يوقنون } اليقين : ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر ، وهو أبلغ علم مكتسب .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله تعالى : { أولئك على هدى } أي : على رشاد . وقال ابن عباس : على نور واستقامة . قال ابن قتيبة : المفلحون : الفائزون ببقاء الأبد . وأصل الفلاح : البقاء . ويشهد لهذا قول لبيد :
نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
يريد : البقاء . وقال الزجاج : المفلح : الفائز بما فيه غاية صلاح حاله . قال ابن الأنباري : ومنه : حيَّ على الفلاح ، معناه : هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى : { إِن الذين كفروا } في نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في قادة الأحزاب ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، قاله الضحاك .
والثالث : أنها نزلت في طائفة من اليهود ، ومنهم حيي بن أخطب ، قاله ابن السائب .
والرابع : أنها نزلت في مشركي العرب ، كأبي جهل وأبي طالب ، وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم .
قال مقاتل : فأما تفسيرها ، فالكفر في اللغة : التغطية . تقول : كفرت الشيء إذا غطيته ، فسمي الكافر كافراً ، لأنه يغطي الحق .
قوله تعالى : { سواء عليهم } أي : متعادل عندهم الانذار وتركه ، والانذار : إِعلام مع تخويف ، وتناذر بنو فلان هذا الأمر : إذا خوفه بعضُهم بعضاً .
قال شيخنا علي بن عبيد الله : هذه الآية وردت بلفظ العموم ، والمراد بها الخصوص ، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن ، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم ، ولو كانت على ظاهرها في العموم ، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره ، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص .
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } الختم : الطبع ، والقلب : قطعة من دم جامدة سوداء ، وهو مستكن في الفؤاد ، وهو بيت النفس ، ومسكن العقل ، وسمي قلبا لتقلبه . وقيل : لأنه خالص البدن ، وإنما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم .
قوله تعالى : { وعلى سمعهم } يريد : على أسماعهم ، فذكره بلفظ التوحيد ، ومعناه : الجمع ، فاكتفى بالواحد عن الجميع ، ونظيره قوله تعالى : { ثم يخرجكم طفلا } [ الحج : 5 ] .
وأنشدوا من ذلك :
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فانَّ زمانكم زمن خميص
أي : في أنصاف بطونكم . ذكر هذا القول أبو عبيدة ، والزجاج . وفيه وجه آخر ، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر ، والمصدر يوحد ، تقول : يعجبني حديثكم ، ويعجبني ضربكم ، فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى . ذكره الزجاج ، وابن القاسم . وقد قرأ عمرو بن العاص ، وابن أبي عبلة : { وعلى أسماعهم }
قوله تعالى : { وعلى أبصارهم غشاوة } الغشاوة : الغطاء .
قال الفراء : أما قريش وعامة العرب ، فيكسرون الغين من«غشاوة» وعكل يضمون الغين ، وبعض العرب يفتحها ، وأظنها لربيعة . وروى المفضل عن عاصم «غشاوةً» بالنصب على تقدير : جعل على أبصارهم غشاوة . فأما العذاب ، فهو الألم المستمر ، وماء عذب : إذا استمر في الحلق سائغاً .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما أنها في المنافقين ، ذكره السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنها في منافقي أهل الكتاب . رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال ابن سيرين : كانوا يتخوفون من هذه الآية . وقال قتادة : هذه الآية نعت المنافق ، يعرف بلسانه ، وينكر بقلبه ، و يصدق بلسانه ويخالف بعمله ، ويصبح على حالٍ ويمسي على غيرها ، ويتكفأ تكفأ السفينة ، كلما هبت ريح هب معها .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قوله تعالى : { يخادعون الله }
قال ابن عباس : كان عبد الله بن أُبيّ ، ومعتب بن قشير ، والجد بن القيس؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، ونشهد أن صاحبكم صادق ، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك ، فنزلت هذه الآية .
فأما التفسير ، فالخديعة : الحيلة والمكر ، وسميت خديعة ، لأنها تكون في خفاء . والمخدع : بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة ، ورجل خادع : إذا فعل الخديعة ، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل ، فاذا حصل مقصوده ، قيل : قد خدع . وانخدع الرجل : استجاب للخادع ، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها ، والعرب تسمي الدهر خداعاً ، لتلونه بما يخفيه من خير وشر .
وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال .
أحدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين ، فكأنهم خادعوا الله . روي عن ابن عباس؛ واختاره ابن قتيبة .
والثاني : انهم كانوا يخادعون نبي الله ، فأقام الله نبيه مقامه ، كما قال : { إِن الذين يبايعونك إِنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . قاله الزجاج .
والثالث أن الخادع عند العرب : الفاسد . وأنشدوا :
أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيب الريق إِذا الريق خدع
أي : فسد . رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي . قال ابن القاسم : فتأويل : يخادعون الله : يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر .
والرابع : أنهم كانوا يفعلون في دين الله مالو فعلوه بينهم كان خداعا .
والخامس : أنهم كانوا يخفون كفرهم ، ويظهرون الإيمان به .
قوله تعالى : { وما يخدعون إلا أنفسهم } قرأَ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { وما يخادعون } وقرأَ الكوفيون ، وابن عامر : { يخدعون } ، والمعنى : أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم .
ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان .
أحدهما : في دار الدنيا ، وذلك بطريقين . أحدهما : بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذاباً .
والثاني : باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها .
والقول الثاني : ان عود الخداع عليهم في الآخرة ، وفي ذلك قولان .
أحدهما : أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين ، وذلك قوله : { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] .
والثاني : أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم ، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم ، فقالوا : { أَفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } [ الأعراف : 50 ] . فيجيبونهم . { إِن الله حرَّمهما على الكافرين } [ الأعراف : 51 ] .
قوله تعالى : { وما يشعرون } أَي : وما يعلمون . وفي الذي لم يشعروا به قولان .
أحدهما : أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم ، قاله ابن زيد .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى : { في قلوبهم مرضٌ } المرض هاهنا : الشك ، قاله عكرمة ، وقتادة . { فزادهم الله مرضاً } هذا الإخبار من الله تعالى أنه فعل بهم ذلك ، و «الأليم» بمعنى المؤلم ، والجمهور يقرؤون { يكذبون } بالتشديد ، وقرأ الكوفيون سوى أبان ، عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
قوله تعالى : { وإِذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الجمهور ، منهم ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها ، قاله سلمان الفارسي . وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض» ، والجيم من «جيء» ، والسين من «سيء» و«سيئت» . وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة«حيل» و«سبق» و«سيء» و«سئيت» . وكان نافع يضم «سيء» و«سيئت» ، ويكسر البواقي ، والآخرون يكسرون جميع ذلك .
وقال الفراء : أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و«جيء» و«غيض» ، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد ، يشمون إلى الضم من «قيل» و«جيء» .
وفي المراد بالفساد هاهنا خمسة أقوال .
أحدها : أنه الكفر ، قاله ابن عباس .
والثاني : العمل بالمعاصي ، قاله أبو العالية ، ومقاتل .
والثالث : أنه الكفر والمعاصي ، قاله السّدي عن أشياخه .
والرابع : أنه ترك امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، قاله مجاهد .
والخامس : أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار ، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله .
قوله تعالى : { إِنما نحن مصلحون } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أن معناه إنكار ماعرفوا به ، وتقديره : ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد .
والثاني : أن معناه : إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين ، والقولان عن ابن عباس .
والثالث : أنهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح ، لا فساد ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والرابع : أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح ، وتصديق محمد هو الفساد ، قاله السّدي .
والخامس : أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين ، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم ، ذكره شيخنا .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قوله تعالى : { ألا إِنهم هم المفسدون } قال الزجاج . ألا : كلمة يبتدأُ بها : ينبه بها المخاطب ، تدل على صحة ما بعدها . و«هم» : تأكيد للكلام .
وفي قوله تعالى : { ولكن لا يشعرون } قولان .
أحدهما : لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم .
والثاني : لا يشعرون أن ما فعلوه فساد ، لا صلاح .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } في المقول لهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : المنافقون ، قاله مجاهد ، وابن زيد . وفي القائلين لهم قولان .
أحدهما : أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، ولم يعيّن أحداً من الصحابة .
والثاني : أنهم معينون ، وهم سعد بن معاذ ، وأبو لبابة ، وأسيد ، ذكره مقاتل .
وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان .
أحدهما : أنه التصديق بالنبي ، وهو قول من قال : هم اليهود . والثاني : أنه العمل بمقتضى ما أظهروه ، وهو قول من قال : هم المنافقون .
وفي المراد بالناس هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : جميع الصحابة ، قاله ابن عبَّاس .
والثاني : عبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه من اليهود ، قاله مقاتل . والثالث : معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وجماعة من وجوه الأنصار ، عدهم الكلبي . وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال . أحدها : جميع الصحابة ، قاله ابن عبَّاس . والثاني : النساء والصبيان ، قاله الحسن . والثالث : ابن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل . وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم أرادوا دين الإِسلام ، قاله ابن عباس ، والسُّدي . والثاني : أنهم أرادوا البعث والجزاء ، قاله مجاهد . والثالث : أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة . من غير نظر في عاقبة ، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون ، والأول يخرج على أنهم اليهود . قال ابن قتيبة : والسفهاء : الجهلة ، يقال : سفه فلان رأيه إذا جهله ، ومنه قيل للبذاء : سفه ، لأنه جهل . قال الزجاج : وأصل السَّفه في اللغة : خفة الحلم ، ويقال : ثوب سفيه : إِذا كان رقيقاً بالياً ، وتسفهت الريح الشجر : إذا مالت به . قال الشاعر :
مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت ... أعاليَها مرُّ الرياح النواسم
قوله تعالى : { ولكنْ لا يعلَمون } .
قال مقاتل : لا يعلمون أنهم هم السفهاء .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه . قاله ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه ، قاله الحسن .
فأما التفسير : ف «إلى» بمعنى «مع» كقوله تعالى : { من أنصاري إِلى الله } أي : مع الله . والشياطين : جمع شيطان ، قال الخليل : كل متمرّد عند العرب شيطان . وفي هذا الاسم قولان . أحدهما : أنه من شطن ، أي : بعد عن الخير ، فعلى هذا تكون النون أصليَّة .
قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام :
أيما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يُلقى في السّجن والأغلال
عكاه : أوثقه . وقال النابغة :
نأت بسعاد عنك نوىً شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
والثاني : أنه من شاط يشيط : إِذا التهب واحترق ، فتكون النون زائدة . وأنشدوا :
وقد يشيط على أرماحنا البطل .
أي : يهلك .
وفي المراد ، بشياطينهم ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم رؤوسهم في الكفر ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، والسّدي . والثاني : إِخوانهم من المشركين ، قاله أبو العالية ، ومجاهد . والثالث : كهنتهم ، قاله الضَّحاك ، والكلبي .
قوله تعالى : { إِنا معَكمْ }
فيه قولان . أحدهما : أنَّهم أرادوا : إنا معكم على دينكم . والثاني : إِنا معكم على النصرة والمعاضدة . والهزء : السخرية .
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قوله تعالى : { الله يستهزىء بهم }
اختلف العلماء في المراد ، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال .
أحدها : أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار ، فيسرعون إليه فيغلق ، ثم يفتح لهم باب آخر ، فيسرعون فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون . روي عن ابن عباس .
والثاني : أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة في القدر ، فيمشون فتنخسف بهم . روي عن الحسن البصري .
والثالث : أن الاستهزاء بهم : إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيبقون في الظلمة ، فيقال لهم : { ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } [ الحديد : 13 ] قاله مقاتل .
والرابع : أن المراد به : يجازيهم على استهزائهم ، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى ، فهو كقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] وقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينَا
أراد : فنعاقبه بأغلط من عقوبته .
والخامس : أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم ، والتجهيل ، فمعناه : الله يخطىء فعلهم ، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم .
والسادس : أن استهزاءه : استدراجه إياهم .
والسابع : أنه إيقاع استهزائهم بهم ، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم . ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري .
والثامن : أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل : { ذق إِنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ذكره شيخنا في كتابه .
والتاسع : أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة ، كان كالاستهزاء بهم .
قوله تعالى : { ويَمدُّهُمْ في طغيانهم يعمهون }
فيه أربعة أقوال . أحدها : يمكِّن لهم ، قاله ابن مسعود . والثاني : يملي لهم ، قاله ابن عباس . والثالث : يزيدهم ، قاله مجاهد . والرابع : يمهلهم قاله الزجاج .
والطغيان : الزيادة على القدر ، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة ، يقال : طغى البحر : إذا هاجت أمواجه ، وطغى السيل : إذا جاء بماء كثير . وفي المراد بطغيانهم قولان . أحدهما : أنه كفرهم ، قاله الجمهور . والثاني : أنه عتوهم وتكبرهم ، قاله ابن قتيبة و «يعمهون» بمعنى : يتحيرون ، يقال : رجل عمه وعامه ، أي : متحير .
قال الراجز :
ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ ... من مهمهٍ يجتبنه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه ... وقال ابن قتيبة : يعمهون : يركبون رؤوسهم ، فلا يبصرون .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .
في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أنها نزلت في جميع الكفار ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس . والثاني : أنها في أهل الكتاب ، قاله قتادة والسدي ومقاتل . والثالث : أنها في المنافقين ، قاله مجاهد . واشتروا : بمعنى استبدلوا ، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له ، وبائعاً للآخر ، والضلالة والضلال بمعنى واحد .
وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال .
أحدها : ان المراد هاهنا الكفر ، والمراد بالهدى : الإيمان ، روي عن الحسن وقتادة والسدي .
والثاني : أنها الشك ، والهدى : اليقين .
والثالث : أنها الجهل ، والهدى : العلم .
وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم آمنوا ثم كفروا ، قاله مجاهد . والثاني : أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه ، فلما بعث كفروا به ، قاله مقاتل . والثالث : أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال ، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله .
قوله تعالى : { فما رَبحَتْ تِجارَتُهم } .
من مجاز الكلام ، لأن التجارة لا تربح ، وإنما يربح فيها ، ومثله قوله تعالى : { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] يريد : بل مكرهم في الليل والنهار . ومثله { فاذا عزم الأمر } [ محمد : 21 ] أي : عزم عليه . وأنشدوا :
حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي ... فنام ليلي وتجلى غمّي
والليل لا ينام ، بل ينام فيه ، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال ، ويعلم مقصود قائله ، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به ، وأريد به ما سواه ، لم يجز ، مثل أن تقول : ربح عبدك ، وتريد : ربحت في عبدك . وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج .
قوله تعالى : { ومَا كانوا مُهتَدين } .
فيه خمسة أقوال . أحدها : وما كانوا في العلم بالله مهتدين . والثاني : وما كانوا مهتدين من الضلالة . والثالث : وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين . والرابع : وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة . والخامس : أنه قد لا يربح التاجر ، ويكون على هدىً من تجارته ، غير مستحق للذم فيما اعتمده ، فنفى الله عز وجل عنهم الأمرين ، مبالغة في ذمهم .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
قوله تعالى : { مثلهم كمثَل الذي اسْتوقد ناراً } .
هذه الآية نزلت في المنافقين . والمثل بتحريك الثاء : ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال . وفي قوله تعالى«استوقد» قولان .
أحدهما : أن السين زائدة ، وأنشدوا :
وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد : فلم يجبه ، وهذا قول الجمهور ، منهم الأخفش وابن قتيبة .
والثاني : أن السين داخلة للطلب ، أراد : كمن طلب من غيره ناراً .
قوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } .
وفي«أضاءت» قولان : أحدهما : أنه من الفعل المتعدي ، قال الشاعر :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وقال آخر :
أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ ... ملتبساً بالفؤاد التباسا
والثاني : أنه من الفعل اللازم . قال أبو عبيد : يقال أضاءت النَّار ، وأضاءها غيرها . وقال الزجاج : يقال : ضاء القمر ، وأضاء .
وفي «ما» قولان . أحدهما : أنها زائدة ، تقديره : أضاءت حوله . والثاني : أنها بمعنى الذي . وحول الشَّيء : ما دار من جوانبه . والهاء : عائدة على الْمستوقد . فان قيل : كيف وحد . فقال : « كمثل الذي استوقد» ثم جمع فقال : « ذهب الله بنورهم»؟ فالجواب : أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال : إنما ضرب المثل للفعل ، لا لأعيان الرجال ، وهو مثل للنفاق ، وإنما قال : «ذهب الله بنورهم» لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين ، فجمع لذلك . قال ثعلب : وقال غير الفراء : معنى الذي : الجمع ، وحد أولاً للفظه ، وجمع بعد لمعناه ، كما قال الشاعر :
فان الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلُّ القوم يا أم خالد
فجعل «الذي» جمعاً .
فصل
اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين . أحدهما : أنه ضرب بكلمة الإِسلام التي يلفظون بها ، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء ، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس . والثاني : أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول ، فذهاب نورهم : إِقبالهم على الكافرين والضلال ، وهذا قول مجاهد .
وفي المراد ب «الظلمات» هاهنا أربعة أقوال . أحدها : العذاب ، قاله ابن عباس ، والثاني : ظلمة الكفر ، قاله مجاهد . والثالث : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت؛ قاله قتادة . والرابع : أنها نفاقهم ، قاله السدي .
فصل
وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم .
إحداها : أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه ، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار .
والثانية : أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب ، فهو له كغذاء الحيوان ، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم .
والثالثة : أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء ، فشبه حالهم بذلك .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
قوله تعالى : { صمٌ بكمٌ عمي } .
الصمم انسداد منافذ السمع ، وهو أشد من الطرش . وفي البكم ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الخرس ، قاله مقاتل ، وأبو عبيد ، وابن فارس . والثاني : أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق ، وقيل : إن الخرس يحدث عنه . والثالث : أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئاً فيفهمه ، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق ، ذكر هذين القولين شيخنا .
قوله تعالى : { فهمْ لا يَرجِعُونَ } .
فيه ثلاثة أقوال . أحدها : لا يرجعون عن ضلالتهم ، قاله قتادة ومقاتل . والثاني : لا يرجعون إِلى الإسلام ، قاله السدي . والثالث : لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى ، وإنما أضاف الرجوع إليهم ، لأنهم انصرفوا باختيارهم ، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح ، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصمم البكم . والعرب تسمي المعرض عن الشيء : أعمى ، والملتفت عن سماعه : أصم ، قال مسكين الدارمي :
ما ضرَّ جاراَ لي أجاوره ... ألا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
وتصمُّ عما بينهم أذني ... حتى يكون كأنه وقر
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قوله تعالى : { أو كصَيِّبٍ من السمَاء } . أو ، حرف مردود على قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] واختلف العلماء فيه على ستة أقوال .
أحدها : أنه داخل هاهنا للتخيير ، تقول العرب : جالس الفقهاء أو النحويين ، ومعناه : انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت ، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني .
والثاني : أنه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله ، فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله ، فكأنه قال : مثلهم كأحد هذين . ومثله قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله . قال لبيد :
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إِلا من ربيعة أو مضر
أي : هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين ، وقد فنيا ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا .
والثالث : أنه بمعنى : بل . وأنشد الفراء :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
والرابع : أنه للتفصيل ، ومعناه : بعضهم يشبه بالذي استوقد ناراً ، وبعضهم بأصحاب الصيّب . ومثله قوله تعالى : { كونوا هوداً أو نصارى } [ البقرة : 135 ] معناه : قال بعضهم ، وهم اليهود : كونوا هودا ، وقال النصارى : كونوا نصارى . وكذا قوله : { فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } [ الأعراف : 4 ] معناه : جاء بعضهم بأسنا بياتاً ، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة .
والخامس : أنه بمعنى الواو . ومثله قوله تعالى : { أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } [ النور : 61 ] قال جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربَّه موسى على قدر
والسادس : أنه للشك في حق المخاطبين ، إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل ، ومثله قوله تعالى : { وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] يريد : فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون .
فأما التفسير لمعنى الكلام : أو كأصحاب صيب ، فأضمر الأصحاب ، لأن في قوله { يجعلون أصابعهم في آذانهم } ، دليلاً عليه . والصيب : المطر . قال ابن قتيبة : هو فيعل من صاب يصوب : إذا نزل من السماء ، وقال الزجاج : كل نازل من علو إلى استفال ، فقد صاب يصوب ، قال الشاعر :
كأنهمُ صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب
وفي الرعد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه صوت ملك يزجر السحاب ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن عباس ومجاهد . وفي رواية عن مجاهد : أنه صوت ملك يسبح . وقال عكرمة : هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل .
والثاني : أنه ريح تختنق بين السماء والأرض . وقد روي عن أبي الجلد أنه قال : الرعد : الريح . واسم أبي الجلد : جيلان بن أبي فروة البصري ، وقد روى عنه قتادة .
والثالث : أنه اصطكاك أجرام السحاب ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .
وفي البرق ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب ، روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول علي بن أبي طالب .
وفي رواية عن علي قال : هو ضربة بمخراق من حديد . وعن ابن عباس : أنه ضربة بسوط من نور . قال ابن الانباري : المخاريق : ثياب تلف ، ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضاً ، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق .
قال عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا
وقال مجاهد : البرق : مصع ملك ، والمصع : الضرب والتحريك .
والثاني : أن البرق : الماء ، قاله أبو الجلد . وحكى ابن فارس أن البرق : تلألؤ الماء .
والثالث : أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره ، وضرب بعضه لبعض ، حكاه شيخنا .
والصواعق : جمع صاعقة ، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه . وروي عن شهر بن حوشب : أن الملك الذي يسوق السحاب ، إذا اشتد غضبه ، طار من فيه النار ، فهي الصواعق . وقال غيره : هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب . قال ابن قتيبة : وإنما سميت صاعقة ، لأنها إذا أصابت قتلت ، يقال : صعقتهم أي : قتلتهم .
قوله تعالى : { والله مُحيط بالكافرين } .
فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لا يفوته أحد منهم ، فهو جامعهم يوم القيامة . ومثله قوله تعالى : { أحاط بكل شيء علماً } [ الطلاق : 12 ] قاله مجاهد .
والثاني أن الإحاطة : الإهلاك ، مثل قوله تعالى : { وأحيط بثمره } [ الكهف : 42 ]
والثالث : أنه لا يخفى عليه ما يفعلون .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله تعالى : { يَكَادُ البَرْق يخطَفْ أبْصارهُمْ } . يكاد بمعنى : يقارب ، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل ، وإذا نفيت ثبت الفعل . وسئل بعض المتأخرين فقيل له :
أنحوي هذا العصر ما هي كلمة ... جرت بلسانيْ جرهم وثمود
إذا نفيت والله يشهد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى : { لا يكادون يفقهون حديثاً } [ النساء : 78 ] وقوله { إذا أَخرج يده لم يكد يراها } [ النور : 40 ] ومثله { ولا يكاد يبين } [ الزخرف : 52 ] ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى { يكاد البرق } [ البقرة : 20 ] و { يكاد سنا برقه } [ النور : 43 ] و { يكاد زيتها يضىء } [ النور : 35 ] . وقال ابن قتيبة : كاد : بمعنى هم ولم يفعل . وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة :
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميّ سافراً كاد يَبرَق
أي : لو تعرضت له لبرق ، أي : دهش وتحير .
قلت : وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل للاثبات ، وهو قوله :
اذا غيَّر النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حبِّ ميَّة يبرح
أراد : لم يبرح .
قوله تعالى : { يخطَفُ أبْصارَهُم }
قرأ الجمهور بفتح الياء ، وسكون الخاء وفتح الطاء . وقرأَ أبان بن تغلب ، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم ، بفتح الياء وسكون الخاء ، وكسر الطاء مخففاً . ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، بفتح الياء وكسر الخاء ، وتشديد الطاء ، وهي قراءة الحسن كذلك ، إلا أنه كسر الياء . وعنه : فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة .
ومعنى «يخطف» يستلب ، وأصل الاختطاف : الاستلاب ، ويقال لما يخرج به الدلو : خطاف ، لأنه يختطف ما علق به . قال النابغة :
خطاطيف حجْنٍ في حبالٍ متينة ... تمُدُّ بها أيدٍ إِليك نوازع
والحجن المتعقفة وجمل خيطف : سريع المر ، وتلك السرعة الخطفى .
قوله تعالى : { كلما أَضَاءَ لهم }
قال الزجاج : يقال ضاء الشيء يضوء ، وأضاء يضيء ، وهذه اللغة الثانية هي المختارة .
فصل
واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التخويف الذي في القرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم ، قاله مجاهد والسدي .
والثالث : أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد ، وقتال من يبطنون مودته ، ذكره شيخنا .
واختلفوا : ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرآن وحكمه .
والثاني : أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه . والثالث : أنه مثل لما ينالونه باظهار الإسلام من حقن دمائهم ، فانه بالإِضافة إِلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق .
واختلفوا في معنى قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } على قولين . أحدهما : أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت ، قاله الحسن والسدي .
والثاني : أنه مثل لإِعراضهم عن القرآن كراهية له ، قاله مقاتل .
واختلفوا في معنى { كلما أضاء لهم مشوا فيه } على أربعة أقوال .
أحدها : أن معناه : كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه ، قاله ابن عباس والسدي .
والثاني : أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم ، فيسرعون إلى متابعته ، قاله قتادة .
والثالث : أنه تكلمهم بالاسلام ، ومشيهم فيه ، اهتداؤهم به ، فاذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة ، قاله مقاتل .
والرابع : أن إِضاءته لهم : تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان ، ومشيهم فيه : إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه . ذكره شيخنا .
فأما قوله تعالى : { وإِذا أظْلَم علَيهِم } فمن قال : إضاءته : إتيانه إياهم بما يحبون ، قال : إظلامه : إتيانه إياهم بما يكرهون . وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس .
ومعنى { قاموا } : وقفوا .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لَذَهبَ بسَمْعهم وأبْصارهم } قال مقاتل : معناه : لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم . قال مجاهد : من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في نعت المنافقين .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال . أحدها : أنه عام في جميع الناس ، وهو قول ابن عباس .
والثاني : أنه خطاب لليهود دون غيرهم ، قاله الحسن ومجاهد . والثالث : أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم ، قاله السدي . والرابع : أنه خطاب للمنافقين واليهود ، قاله مقاتل : و«الناس» اسم للحيوان الآدمي . وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم . والنوس : الحركة . وقيل : سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان .
وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان . أحدهما : التوحيد ، والثاني : الطاعة ، رويا عن ابن عباس . والخلق : الإيجاد . وإنما ذكر من قبلهم ، لأنه أبلغ في التذكير ، وأقطع للجحد ، وأحوط في الحجة . وقيل إنما ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع ، ومعاقبة عاص .
وفي«لعل» قولان :
أحدهما : أنها بمعنى كي ، وأنشدوا في ذلك :
وقلتم لنا كفُّوا الحروب لعلنا ... نكفُّ ووثّقتم لنا كل مَوثِق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألق
يريد : لكي نكف ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان .
والثاني : أنها بمعنى الترجي ، ومعناها : اعبدوا الله راجين للتقوى ، ولأن تقوا أنفسكم بالعبادة -عذاب ربكم . وهذا قول سيبويه . قال ابن عباس : لعلكم تتقون الشرك ، وقال الضحاك : لعلكم تتقون النار . وقال مجاهد : لعلكم تطيعون .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قوله تعالى : { الذي جعلَِ لكُم الأرْضَ فراشاً } .
إنما سميت الأرض أرضاً لسعتها ، من قولهم : أرِضت القرحة : إذا اتسعت . وقيل : لانحطاطها عن السماء ، وكل ما سفل : أرض ، وقيل : لأن الناس يرضونها بأقدامهم ، وسميت السماء سماء لعلوها . قال الزجاج : وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء ، وقال ابن عباس : البناء هاهنا بمعنى السقف .
قوله تعالى : { وأنزل من السماء } يعني : من السحاب .
{ ماءً } يعني : المطر .
{ فلا تجعلوا لله أنداداً } يعني : شركاء ، أمثالا . يقال : هذا ند هذا ، ونديده . وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان . أحدهما : الأصنام ، قاله ابن زيد ، والثاني : رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } .
فيه ستة أقوال .
أحدهما : وأنتم تعلمون أنه خلق السماء ، وأنزل الماء ، وفعل ما شرحه في هذه الآيات ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة و مقاتل .
الثاني : وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وهو يخرج على قول من قال : الخطاب لأهل الكتاب .
والثالث : وأنتم تعلمون أنه لا ند له ، قاله مجاهد .
والرابع : أن العلم هاهنا بمعنى العقل ، قاله ابن قتبية .
والخامس : وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه . ذكره شيخنا علي بن عبيد الله .
والسادس : وأنتم تعلمون أنها حجارة ، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشاب .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
قوله تعالى : { وإِن كنتم في ريب }
سبب نزولها أن اليهود قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي ، وإنا لفي شك منه ، فنزلت هذه الآية . وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل . و «إن» هاهنا لغير شك ، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون ، ولكن هذا عادة العرب ، يقول الرجل لابنه : إن كنت ابني فأطعني . وقيل إنها هاهنا بمعنى إِذ ، قال أبو زيد : ومنه قوله تعالى : { وذروا ما بقي من الربى إن كنتم مؤمنين } [ البقرة : 278 ] .
قوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } قال ابن قتيبة : السورة تهمز و لا تهمز ، فمن همزها جعلها من أسأرت ، يعني أفضلت لأنها قطعة من القرآن ، ومن لم يهمزها جَعلها من سُورةَ البناء ، أي منزلة بعد منزلة . قال النابغة في النعمان :
أَلم تر أن الله أعطاك سُورة ... ترى كل مَلْك دونها يتذبذب
والسورة في هذا البيت : سورة المجد ، وهي مستعارة من سورة البناء . وقال ابن الأنباريّ : قال أبو عبيدة : إِنما سُميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إِلى منزلة ، مثل سورة البناء . ومعنى : أَعطاك سورة ، أَي : منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك . قال ابن القاسم : ويجوز أَن تكون سميت سورة لشرفها ، تقول العرب : له سورة في المجد ، أي : شرف وارتفاع ، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك : أسأرت سُؤراً ، أَي : أبقيت بقية ، وفي هاء «مثله» قولان : أحدهما : أنها تعود على القرآن المنزل ، قاله قتادة ، والفراء و مقاتل . والثاني : أنها تعود على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فيكون التقدير : فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي ، ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم . فعلى هذا القول : تكون «من» لابتداء الغاية ، وعلى الأول : تكون زائدة .
قوله تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله }
فيه قولان . أحدهما : أن معناه : استعينوا من المعونة ، قاله السدي والفراء . والثاني : استغيثوا من الاستغاثة ، وأنشدوا :
فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يال كعب واعتزينا لعامر
وهذا قول ابن قتيبة :
وفي شهدائهم ثلاثة أقوال .
أَحدهما : أنهم آلهتهم ، قاله ابن عباس والسديّ ومقاتل والفراء . قال ابن قتيبة : وسموا شهداء ، لأنهم يشهدونهم ، ويحضرونهم . وقال غيره : لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله .
والثاني : أنهم أعوانهم ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أَن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرآن ، روي عن مجاهد .
قوله تعالى : { إنْ كُنتم صادقين } أي : في قولكم : إِن هذا القرآن ليس من عند الله ، قاله ابن عباس .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قوله تعالى : { فان لم تفعلوا } في هذه الآية مضمر مقدّر ، يقتضي الكلام تقديمه ، وهو أَنه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي ، فسكتوا عن الاجابة؛ قال : { فان لم تفعلوا } وفي قوله تعالى : { وَلن تَفْعلوا } أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا ، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون ، ولم يفعلوا .
قوله تعالى : { فاتّقوا النّارَ التي وقُودُها النّاسُ والحِجَارةُ أُعِدَّت للكافِرين }
والوقود : بفتح الواو : الحطب ، وبضمها : التوقد ، كالوضوء بالفتح : الماء ، وبالضم : المصدر ، وهو : اسم حركات المتوضىء . وقرأ الحسن وقتادة : وُقودها ، بضم الواو ، والاختيار الفتح . والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب ، والحجارة ، لبيان قوتها وشدتها ، إِذ هي محرقة للحجارة . وفي هذه الحجارة قولان . أَحدهما : أنها أصنامهم التي عبدوها ، قاله الربيع بن أنس . والثاني : أنها حجارة الكبريت ، وهي أشد الأشياء حراً ، إذا أحميت يعذبون بها . ومعنى «أُعدت» : هيئت . وإِنما خوَّفهم بالنار إِذا لم يأتوا بمثل القرآن ، لأنهم إذا كذبوه . وعجزوا عن الإتيان بمثله . ثبتت عليهم الحجة ، وصار الخلاف عناداً ، وجزاء المعاندين النار .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا }
البشارة : أول خبر يرد على الإنسان ، وسمي بشارة ، لأنه يؤثر في بشرته ، فان كان خيراً ، أثر المسرة والانبساط ، وإن شراً ، أثر الانجماع والغم ، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير ، وقد تستعمل في الشر ، ومنه قوله تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } [ النساء : 138 ]
قوله تعالى : { وعملوا الصّالحات }
يشمل كل عمل صالح ، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال : أخلصوا الأعمال . وعن على رضي الله عنه أنه قال : أقاموا الصلوات المفروضات . فأما الجنات ، فجمع جنَّة . وسميت الجنة جنة ، لاستتار أرضها بأشجارها ، وسمي الجن جناً ، لاستتارهم ، والجنين من ذلك ، والدّرع جنة ، وجن الليل : إذا ستر ، وذكر عن المفضل أن الجنة : كل بستان فيه نخل . وقال الزجاج : كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضاً ، فهو جنة .
قوله تعالى : { تجري من تحتها } أي : من تحت شجرها لا من تحت أرضها .
قوله تعالى : { هذا الذي رُزِقْنا من قبل } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : هذا الذي طعمنا من قبل ، فرزق الغداة كرزق العشيّ ، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل .
والثاني : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، قاله مجاهد وابن زيد .
والثالث : أن ثمر الجنة إذا جُنيَ خلفه مثله ، فاذا رأوا ما خلف الجنى ، اشتبه عليهم ، فقالوا : { هذا الذي رزقنا من قبل } قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة .
قوله تعالى : { وأُتوا به متشابهاً }
فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه متشابه في المنظر واللون ، مختلف في الطعم ، قاله مجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل .
والثاني : أنه متشابه في جودته ، لا رديء فيه ، قاله الحسن وابن جريج .
والثالث : أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم ، غير أنه أحسن في المنظر والطعم ، قاله قتادة وابن زيد . فان قال قائل : ما وجه الامتنان بمتشابهه ، وكلّما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟! فالجواب : أنا إن قلنا : إنه متشابه المنظر مختلف الطعم ، كان أغرب عند الخلق وأحسن ، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة ، كان نهاية في العجب . وإن قلنا : إنه متشابه في الجودة؛ جاز اختلافه في الألوان والطعوم . وإن قلنا : إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني؛ كان أطرف وأعجب ، وكل هذه مطالب مؤثرة .
قوله تعالى : { ولهم فيها أزواجٌ مُطهَّرة } أي : في الخَلْق ، فانهن لا يحضن ولا يبلن ، ولا يأتين الخلاء . وفي الخُلُق ، فانهن لا يحسدن ، و لايغرن ، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن .
قال ابن عباس : نقية عن القذى والأذى . قال الزجاج : و«مطهَّرة» أبلغ من طاهرة ، لأنه للتكثير . والخلود : البقاء الدائم الذي لا انقطاع له .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
قوله تعالى : { إِنَّ الله لا يَسْتَحيْي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً }
في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما نزل قوله تعالى : { ضرب مثل فاستمعوا له إِن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] ونزل قوله : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قالت اليهود : وما هذا من الأمثال؟! فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء .
والثاني : أنه لما ضرب الله المثلين المتقدمين ، وهما قوله تعالى : { كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وقوله { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] قال المنافقون : الله أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال ، فنزلت هذه الآية ، رواه السدي عن أشياخه . وروي عن الحسن ومجاهد نحوه .
والحياء بالمد : الانقباض والاحتشام ، غير أن صفات الحق عز وجل لا يطلع لها على ماهية ، وإنما تمر كما جاءت . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم حييّ كريم " وقيل : معنى لا يستحيي : لا يترك . وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي : لا يخشى . ومثله : { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } [ الأحزاب : 37 ] أي : تستحيي منه . فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر . وقرأ مجاهد وابن محيصن : لا يستحي بياء واحدة ، وهي لغة .
قوله تعالى : { أن يضرب مثلاً }
قال ابن عباس : أن يذكر شبهاً ، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله ، فينجلي غامضه .
قوله تعالى : { ما بَعوضَة }
ما زائدة ، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين . وأنشدوا للنابغة :
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وذكر أَبو جعفر الطبري أن المعنى : ما بين بعوضة إِلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر : «بين» و«إِلى» إِذ كان في نصب البعوضة ، ودخول الفاء في «ما» الثانية؛ دلالة عليهما ، كما قالت العرب : مطرنا مازبالة فالثعلبية ، وله عشرون ما ناقة فجملاً ، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها . وقال غيره : نصب البعوضة على البدل من المثل .
وروى الأصمعي عن نافع : «بعوضةٌ» بالرفع ، على إِضمار هو . والبعوضة : صفيرة البق .
قوله تعالى : { فما فوقها } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : فما فوقها في الكبر ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والفراء .
والثاني : فما فوقها في الصغر ، فيكون معناه : فما دونها ، قاله أبو عبيدة .
قال ابن قتيبة : وقد يكون الفوق بمعنى : دون ، وهو من الأضداد ، ومثله : الجون؛ يقال للأسود والأبيض . والصريم : الصبح ، والليل . والسَّدفة : الظلمة ، والضوء ، والحلل : الصغير ، والكبير . والناهل : العطشان ، والريان . والمائل : القائم ، واللاطىء بالأرض . والصارخ : المغيث ، والمستغيث . والهاجد : المصلي بالليل ، والنائم . والرهوة : الارتفاع ، والانحدار . والتلعة : ما ارتفع من الارض ، وما انهبط من الارض . والظن : يقين ، وشك .
والاقراء : الحيض ، والاطهار . والمفرع في الجبل : المصعد ، والمنحدر . والوراء : خلفاً وقدّاماً . وأسررت الشيء : أخفيته ، وأعلنته . وأخفيت الشىء : أظهرته وكتمته . ورتوت الشيء : شددته ، وأرخيته . وشعبت الشيء : جمعته ، وفرقته . وبُعت الشيء بمعنى : بعته ، واشتريته . وشريت الشيء اشتريته . وبعته . والحي خلوف : غيب ومتخلفون .
واختلفوا في قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } هل هو من تمام قول الذين قالوا : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] أو هو مبتدأ من كلام الله عز وجل؟ على قولين .
أحدهما : أنه تمام الكلام الذي قبله ، قاله الفراء ، وابن قتيبة . قال الفراء : كأنهم قالوا : ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضل به هذا ، ويهدي به هذا؟! ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله : { وما يضل به إِلا الفاسقين } [ البقرة : 26 ]
والثاني : أنه مبتدأ من قول الله تعالى ، قاله السدي ومقاتل .
فأما الفسق؛ فهو في اللغة : الخروج ، يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها . فالفاسق : الخارج عن طاعة الله إِلى معصيته .
وفي المراد بالفاسقين هاهنا ، ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : المنافقون ، قاله أبو العالية والسدي . والثالث : جميع الكفار .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قوله تعالى : { الّذِينَ يَنقضُون عَهْدَ الله }
هذه صفة للفاسقين ، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة . والنقض : ضد الإِبرام ، ومعناه حل الشىء بعد عقده . وينصرف النقض إِلى كل شىء بحسبه ، فنقض البناء : تفريق جمعه بعد إحكامه . ونقض العهد : الإعراض عن المقام على أحكامه .
وفي هذا العهد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ما عهد إِلى أهل الكتاب من صفة محمد صلى الله عليه وسلم والوصية باتباعه ، قاله ابن عباس ومقاتل .
والثاني : أنه ما عُهد اليهم في القرآن ، فأقروا به ثم كفروا ، قاله السدي .
والثالث : أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره ، قاله الزجاج . ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد ، فقد ثبت بخبر الصادق ، فيجب الايمان به .
وفي «من» قولان . أحدهما : أنها زائدة ، والثاني : أنها لابتداء الغاية ، كأنه قال : ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه . وفي هاء «ميثاقه» قولان . أحدهما : أنها ترجع الى إِلله تعالى ، والثاني : أنها ترجع إلى العهد ، فتقديره : بعد إحكام التوفيق فيه .
وفي : الذي أمر الله أن يوصل : ثلاثة أقوال . أحدها : الرحم والقرابة ، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّي . والثاني : أنه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قطعوه بالتكذيب ، قاله الحسن . والثالث : الإيمان بالله ، وأن لا يفرق بين أحد من رسله ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قاله مقاتل .
وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال . أحدُها : أنه استدعاؤهم الناس إلى الكفر ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه العمل بالمعاصي ، قاله السدي ، و مقاتل . والثالث : أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليمنعوا الناس من الإسلام .
والخسران في اللغة : النقصان .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قوله تعالى : { كيفَ تكفُرون بالله } في كيف قولان .
أحدهما : أنه استفهام في معنى التعجب ، وهذا التعجب للمؤمنين ، أي : اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون ، وقد ثبتت حجة الله عليهم ، قاله ابن قتيبة والزجاج .
والثاني : أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ . تقديره : ويحكم : كيف تكفرون بالله؟! قال العجاج :
أطرباً وأَنت قنسريّ ... والدهر بالانسان دواريُّ
أراد : أتطرب وأنت شيخ كبير؟! قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { وَكنتم أَمواتاً } .
قال الفراء : أي : وقد كنتم أمواتاً . ومثله { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } [ النساء : 90 ] أي : قد حصرت . ومثله : { إِن كان قميصه قدَّ من دبر فكذبت } [ يوسف : 26 ] أي : فقد كذبت ، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام .
وفي الحياتين ، والموتتين أقوال . أصحها : أن الموتة الأولى ، كونهم نطفاً وعلقاً ومضغاً ، فأحياهم في الأرحام ، ثم يميتهم بعد خروجهم إِلى الدنيا ، ثم يُحييهم للبعث يوم القيامة ، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفراء وثعلب ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وابن الأنباري .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مافي الأرض جميعاً } أي : لأجلكم ، فبعضه للانتفاع ، وبعضه للاعتبار .
{ ثم استوى إلى السماء } ، أي : عمد إلى خلقها ، والسماء : لفظها لفظ الواحد ، ومعناها ، معنى الجمع ، بدليل قوله : { فسواهنَّ } .
وأيهما أسبق في الخلق : الأرض ، أم السماء؟ فيه قولان . أحدهما : الأرض ، قاله مجاهد . والثاني : السماء ، قاله مقاتل .
واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها ، فقال ابن عبَّاس : بدأ بخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماوات في يومين ، وقدر فيها أقواتها في يومين . وقال الحسن ومجاهد : جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية ، ثم خلق السماء في يومين .
والعليم : جاء على بناء : فعيل ، للمبالغة في وصفه بكمال العلم .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله تعالى : { وإِذ قالَ ربُّكَ للملائِكَةِ } .
كان أبو عبيدة يقول : «إذ» ملغاة ، وتقدير الكلام : وقال ربك ، وتابعه ابن قتيبة ، وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم . وقال الزجاج : إذ : معناها : الوقت ، فكأنه قال : ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة .
والملائكة : من الألوك ، وهي الرسالة ، قال لبيد :
وغلام أرسلتْه أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل
وواحد الملائكة : ملك ، والأصل فيه : ملأك . وأنشد سيبويه :
فلست لإِنسي ولكن لملأكٍ ... تنزل من جوِّ السماء يصوب
قال أبو إِسحاق : ومعنى ملأك : صاحب رسالة ، يقال : مألَكة ومألُكة وملأكة ، ومآلك : جمع مألكة . قال الشاعر :
أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
وفي هؤلاء الملائكة قولان . أحدهما : أنهم جميع الملائكة ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أُهبط إلى الأرض ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس .
ونقل أنه كان في الأرض قبل آدم خلق ، فأفسدوا ، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم .
واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عز وجل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال .
أحدها : أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبراً ، فأحب أن يطلع الملائكة عليه ، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، والسدي عن أشياخه .
والثاني : أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة ، قاله الحسن .
والثالث : أنه لما خلق النار خافت الملائكة ، فقالوا : ربنا لمن خلقت هذه؟ قال : لمن عصاني ، فخافوا وجود المعصية منهم ، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم ، فقال لهم : { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] قاله ابن زيد .
والرابع : أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه ، فأخبرهم حتى قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون .
والخامس : أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ، ليكونوا معظمين له إن أوجده .
والسادس : أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ، وإن كان ابتداء خلقه في السماء .
والخليفة : هو القائم مقام غيره ، يقال : هذا خلف فلان وخليفته . قال ابن الأنباري : والأصل في الخليفة خليف ، بغير هاء ، فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف ، كما قالوا : علاَّمة ونسّابة وراوية . وفي معنى خلافة آدم قولان .
أحدهما : أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ، ودلائل توحيده ، والحكم في خلقه ، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد .
والثاني : أنه خلف من سلف في الأرض قبله ، وهذا قول ابن عباس والحسن .
قوله تعالى : { أَتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها }
فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن ظاهر الألف الاستفهام ، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق . قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
معناه : أنتم خير من ركب المطايا .
والثاني : أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة ، لا على وجه الاعتراض . ذكره الزجاج .
والثالث : أنهم سألوا عن حال أنفسهم ، فتقديره : أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك أم لا؟
وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى ، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه بتوقيف من الله تعالى ، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وابن زيد وابن قتيبة . وروى السدي عن أشياخه : أنهم قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضاً ، فقالوا : { أَتجعل فيها من يفسد فيها } .
والثاني : أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم ، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل .
قوله تعالى : { وَيَسْفك الدِّماءَ }
قرأ الجمهور بكسر الفاء ، وضمها ابن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة ، وهما لغتان ، وروي عن طلحة وابن مقسم : ويُسَفِّك : بضم الياء ، وفتح السين ، وتشديد الفاء مع كسرها ، وهي لتكثير الفعل وتكريره . وسفكُ الدم : صبُّه وإراقته وسفحه ، وذلك مستعمل في كل مضيّع ، إلا أن السفك يختص الدم ، والصب والسفح والإِراقة يقال في الدم وفي غيره .
وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال . أحدها : أنه الصلاة ، قاله ابن مسعود وابن عباس . والثاني : أنه قول : سبحان الله ، قاله قتادة . والثالث : أنه التعظيم والحمد ، قاله أبو صالح . والرابع : أنه الخضوع والذل ، قاله محمد بن القاسم الأنباري .
قوله تعالى : { وَنُقدِّسُ لك }
القدس : الطهارة ، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : نتطهر لك من أعمالهم ، قاله ابن عباس . والثاني : نعظمك ونكبرك ، قاله مجاهد . والثالث : نصلي لك ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون }
فيه أربعة أقوال . أحدها : أن معناه : أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي عن أشياخه . والثاني : أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون ، قاله قتادة . والثالث : أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس ، قاله ابن زيد .
والرابع : أعلم عواقب الأمور ، فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع ، فيؤديه الابتلاء إلى المعصية كإبليس ، ومن تظنون به المعصية فيطيع ، قاله الزجاج .
الإشارة إلى خلق آدم عليه السلام
روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إِن الله ، عز وجل ، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر [ والأبيض ] والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن ، وبين ذلك ، والخبيث والطيب " . قال الترمذي : هذا حديث صحيح . وقد أخرج البخاري ومسلم في »الصحيحين« من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . أنه قال : " خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً " وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، ما بين العصر إلى الليل " قال ابن عباس : لما نفخ فيه الروح ، أتته النفخة من قبل رأسه ، فجعلت لا تجري منه في شيء إلا صار لحماً ودماً .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قوله تعالى : { وعلَّم آدم الأسماء كلَّها } .
في تسمية آدم قولان . أحدهما : لأنه خلق من أديم الأرض ، قاله ابن عباس وابن جبير والزجاج . والثاني : أنه من الأدمة في اللون ، قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب .
وفي الأسماء التي علَّمه قولان . أحدهما : أنه علمه كل الأسماء ، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة . والثاني : أنه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة . ثم فيها أربعة أقوال . أحدها : أنه علمه أسماء الملائكة ، قاله أبو العالية . والثاني : أنه علَّمه أسماء الأجناس دون أنواعها ، كقولك : إِنسان وملك وجني وطائر ، قاله عكرمة . والثالث : أنه علمه أسماء ما خلق من الأرض من الدواب والهوام والطير ، قاله الكلبي ومقاتل وابن قتيبة . والرابع : أنه علمه أسماء ذريته ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { ثمَّ عَرَضَهم }
يريد : أعيان الخلق على الملائكة ، قال ابن عباس : الملائكة هاهنا : هم الذين كانوا مع إبليس خاصة .
قوله تعالى : { أنبئوني } : أخبروني .
قوله تعالى : { إِن كنتم صادقين }
فيه قولان . أحدهما : إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم ، قاله الحسن . والثاني : أني أجعل فيها من يفسد فيها ، قاله السدي عن أشياخه .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قوله تعالى : { قالوا سبحانك } .
قال الزجاج : لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو : التنزيه لله تعالى عن كل سوء . والعليم بمعنى : العالم ، جاء على بناء «فعيل» للمبالغة . وفي الحكيم قولان . أحدهما : أنه بمعنى الحاكم ، قاله ابن قتيبة . والثاني : المحكم للأشياء ، قاله الخطابي .
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
قوله تعالى : { قال يا آدم أنبئهم } أي : أخبرهم ، وروي عن ابن عباس : أنبئهم بكسر الهاء ، قال أبو علي : قراءة الجمهور على الأصل لأن أصل ، هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه ، ألا ترى أنك تقول : ضربهم وأبناءهم ، وهذا لهم . ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء . والهاء والميم تعود على الملائكة . وفي الهاء والميم من «أسمائهم» قولان . أحدهما : أنها تعود على المخلوقات التي عرضها ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنها تعود على الملائكة ، قاله الربيع بن أنس .
وفي الذي أبدوه قولان . أحدهما : أنه قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } ، ذكره السدي عن أشياخه . والثاني : أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حيث مروا على جسد آدم ، فقال إبليس : إن فضل هذا عليكم ما تصنعون؟ فقالوا : نطيع ربنا ، فقال إبليس في نفسه : لئن فضّلت عليه لأهلكنه ، ولئن فضل عليَّ لأعصينه ، قاله مقاتل .
وفي الذي كتموه قولان . أحدهما : أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقاً أكرم منهم ، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة . والثاني : أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان ، وراه السدي عن أشياخه ، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا }
عامة القراء على كسر التاء من الملائكة ، وقرأَ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل ، قال الكسائي : هي لغة أزدشنوءة .
وفي هؤلاء الملائكة قولان . أحدهما : أنهم جميع الملائكة ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : أنهم طائفة من الملائكة ، روي عن ابن عباس ، والأول أصح .
والسجود في اللغة : التواضع والخضوع ، وأنشدوا :
ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع
وفي صفة سجودهم لآدم قولان . أحدهما : أنه على صفة سجود الصلاة ، وهو الأظهر .
والثاني : أنه الانحناء والميل المساوي للركوع .
قوله تعالى : { إِلا إِبليس }
في هذا الاستثناء قولان .
أحدهما : أنه استثناء من الجنس ، فهو على هذا القول من الملائكة ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس . وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة ، ثم مسخه الله تعالى شيطاناً . والثاني : أنه من غير الجنس ، فهو من الجن ، قاله الحسن والزهري . قال ابن عباس : كان إبليس من خزان الجنة ، وكان يدير أمر السماء الدنيا . فان قيل : كيف استثني وليس من الجنس؟ فالجواب : أنه أمر بالسجود معهم ، فاستثني منهم ، لأنه لم يسجد ، وهذا كما تقول : أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي ، هذا قول الزجاج .
وفي إبليس قولان . أحدهما : اسم أعجمي ليس بمشتق ، ولذلك لا يصرف ، هذا قول أبي عبيدة ، و الزجاج وابن الأنباري . والثاني : أنه مشتق من الإِبلاس ، وهو : اليأس ، روي عن أبي صالح ، وذكره ابن قتيبة وقال : إِنه لم يصرف ، لانه لا سمي له ، فاستثقل . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : والأول أصح ، لأنه لو كان من الإِبلاس لصرف ، أَلا ترى أنك لو سميت رجلاً : بإِخريط وإِجفيل؛ لصرف في المعرفة .
قوله تعالى : { أبى } معناه : امتنع ، { واستكبر } استفعل من : الكبر ، وفي { وكان } قولان . أحدهما : أنها بمعنى : صار ، قاله قتادة . والثاني : أنها بمعنى الماضي ، فمعناه : كان في علم الله كافراً ، قاله مقاتل وابن الأنباري .
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } زوجه : حواء ، قال الفراء : أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : زوج ، ويجمعونها : الأزواج . وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : زوجة ، ويجمعونها : زوجات .
قال الشاعر :
فان الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كماشٍ إِلى أسد الشرى يستبيلها
وأنشدني أبو الجراح :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب
وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان . أحدهما : جنة عدن . والثاني : جنة الخلد .
والرغد : الرزق الواسع الكثير ، يقال : أرغد فلان ، إذا صار في خصب وسعة .
قوله تعالى : { ولا تقربا هذه الشجرة }
أي : بالأكل ، لا بالدُّنو منها .
وفي الشجرة ستة أقوال :
أحدها : أنها السنبلة ، وهو قول ابن عباس ، وعبد الله ابن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وقتادة ، وعطية العوفي ، ومحارب بن دثار ، ومقاتل .
والثاني : أنها الكرم ، روي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وجعدة بن هبيرة .
والثالث : أنها التين ، روي عن الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن جريج .
والرابع : أنها شجرة يقال لها : شجرة العلم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والخامس : أنها شجرة الكافور ، نقل عن علي بن أبي طالب .
والسادس : أنها النخلة ، روي عن أبي مالك .
وقد ذكروا وجهاً سابعاً عن وهب بن منبه أنه قال : هي شجرة الخلد ، وإِنما الكلام على جنسها .
قوله تعالى : { فتكونا من الظالمين }
قال ابن الأنباري : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، ويقال : ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده . وقال الشاعر :
وصاحب صدق لم تربني شكاته ... ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجرُ
أراد بالصاحب : وطب اللبن ، وظلمه إِياه : أن يسقيه قبل أن يخرج زبده .
والعرب تقول : هو أظلم من حية ، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ، ويقال : قد ظلم الماء الوادي : إذا وصل منه إِلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى . فان قيل : ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟ فالجواب : أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد . وقال أبو العالية : كان لها ثقل من بين أشجار الجنة ، فلما أكل منها : قيل اخرج إلى الدار التي تصلح لما يكون منك .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
قوله تعالى : { فأزلهما الشَّيْطانُ عنها فأخْرَجَهُما مما كانا فيه }
أزلهما بمعنى : استزلهما ، وقرأ حمزة : { فأزالهما } أراد : نحاهما . قال أبو علي الفارسي : لما كان معنى { اسكن أنت وزوجك الجنة } اثبتا فيها ، فثبتا؛ قابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه ، ويقوي قراءته : { فأخرجهما } .
والشيطان : إبليس ، وأضيف الفعل اليه ، لأنه السبب . وفي هاء { عنها } ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تعود إلى الجنة .
والثاني : ترجع إلى الطاعة .
والثالث : ترجع إلى الشجرة . فمعناه : فأزلهما بزلة صدرت عن الشجرة .
وفي كيفية إزلاله لهما ، ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه احتال حتى دخل اليهما الجنة ، وكان الذي أدخله الحية ، قاله ابن عباس والسدي .
والثاني : أنه وقف على باب الجنة ، وناداهما ، قاله الحسن .
والثالث : أنه وسوس اليهما ، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة ، قاله ابن إسحاق ، وفيه بعد . قال الزجاج : الأجود : أن يكون خاطبهما ، لقوله : { وقاسمهما } .
واختلف العلماء في معصية آدم بالأكل ، فقال قوم : إنه نهي عن شجرة بعينها ، فأكل من جنسها . وقال آخرون : تأول الكراهة في النهي دون التحريم .
قوله تعالى : { وقلنا اهبِطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌ ولكم في الارض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين } الهبوط بضم الهاء : الانحدار من علوّ ، وبفتح الهاء : المكان الذي يهبط فيه ، وإلى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة أقوال . أحدها : أنه انصرف إلى آدم وحواء والحية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : إلى آدم وحواء وإبليس والحية ، حكاه السدي عن ابن عباس . والثالث : إلى آدم وإبليس ، قاله مجاهد . والرابع : إلى آدم وحواء وإبليس ، قاله مقاتل . والخامس : إلى آدم وحواء وذريتهما ، قاله الفراء . والسادس : إلى آدم وحواء فحسب ، ويكون لفظ الجمع واقعاً على التثنية ، كقوله { وكنا لحكمهم شاهدين } [ الأنبياء : 78 ] ذكره ابن الأنباري ، وهو العلة في قول مجاهد أيضاً .
واختلف العلماء هل أهبطوا جملة أو متفرقين؟ على قولين .
أحدهما : أنهم أهبطوا جملة ، لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة ، قاله كعب ، ووهب .
والثاني : أنهم أهبطوا متفرقين ، فهبط إبليس قبل آدم ، وهبط آدم بالهند ، وحواء بجُدَّة ، وإِبليس بالأبلَّة قاله مقاتل . وروي عن ابن عباس أنه قال : أهبطت الحية بنصيبين ، قال : وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم ، فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه ، فقال : أيها الملك ارفق بي . قال جبريل : إني لا أرفق بمن عصى الله ، فارتعد آدم واضطرب ، وذهب كلامه ، وجبريل يعاتبه في معصيته ، ويعدّد نعم الله عليه ، قال : وأُدخل الجنة ضحوة ، وأُخرج منها بين الصلاتين ، فمكث فيها نصف يوم ، خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا .
وفي العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أن ذرية بعضهم أعداء لبعض ، قاله مجاهد . والثاني : أن إبليس عدو لآدم وحواء ، وهما له عدو ، قاله مقاتل . والثالث : أن إبليس عدو للمؤمنين ، وهم أعداؤه ، قاله الزجاج .
وفي المستقر قولان . أحدهما : أن المراد به القبور ، حكاه السدي عن ابن عباس . والثاني : موضع الاسقرار ، قاله أبو العالية ، وابن زيد ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وهو أصح .
والمتاع : المنفعة . والحين : الزمان . قال ابن عباس : { إِلى حين } ، أي : إلى فناء الأجل بالموت .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
تلقى : بمعنى أخذ ، وقبل . قال ابن قتيبة : كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره [ ويستقبله ] بكلام من عنده ، ففعل [ ذلك آدم ] فتاب عليه . وقرأ ابن كثير : { فتلقى آدمَ } بالنصب ، { كلماتٌ } : بالرفع؛ على أن الكلمات هي الفاعلة .
وفي الكلمات أقوال .
أحدها : أنها قوله تعالى : { ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإِن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] . قاله ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء الخراساني ، وعبيد بن عمير ، وأبيّ بن كعب ، وابن زيد .
والثاني : أنه قال : أي رب؛ ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى . قال : ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى . قال : ألم تسبق رحمتك إِليّ قبل غضبك؟ قال : بلى . قال : ألم تسجد لي ملائكتك ، وتسكني جنتك؟ قال : بلى . قال : أي رب [ أرأيت ] إِن تبت وأصلحت ، أراجعي أنت إِلى الجنة؟ قال : نعم . حكاه السدي عن ابن عباس :
والثالث : أنه قال : اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني ، فأنت خير الراحمين ، [ اللهم ] لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ ، إنك أنت التواب الرحيم . رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى .
قوله تعالى : { فتاب عليه } .
أصل التوبة : الرجوع ، فالتوبة من آدم : رجوعه عن المعصية ، وهي من الله تعالى : رجوعه عليه بالرحمة ، والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله ، وإنما لم تذكر حواء في التوبة ، لأنه لم يجر لها ذكر ، لا أن توبتها لم تقبل ، وقال قوم : إذا كان معنى فعل الاثنين واحداً؛ جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما ، كقوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 63 ] وقوله : { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } [ طه : 117 ] .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
في إعادة ذكر الهبوط وقد تقدم قولان .
أحدهما : أنه أعيد لأن آدم أهبط إِهباطين ، أحدهما من الجنة إلى السماء ، والثاني : من السماء إلى الأرض . وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان .
والثاني : أنه إِنما كرر الهبوط توكيداً .
قوله تعالى : { فإما } قال الزجاج : هذه «إِن» التي للجزاء ، ضمت إليها «ما» والأصل في اللفظ «إِن ما» مفصولة ، ولكنها مدغمة ، وكتبت على الإدغام ، فاذا ضمت «ما» إلى «إِن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة . وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكدة ، ودخلت النون مؤكدة أيضاً ، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك : والله لتفعلن ، وجواب الجزاء الفاء .
وفي المراد «بالهدى» هاهنا قولان . أحدهما : أنه الرسول ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : الكتاب ، حكاه بعض المفسرين .
قوله تعالى : { فلا خوف عليهم }
وقرأ يعقوب : فلا خوفَ : بفتح الفاء من غير تنوين ، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين . والمعنى : فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ، ولا هم يحزنون عند الموت . والخوف لأمر مستقبل ، والحزن لأمر ماضٍ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
في معنى الآية : ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها العلامة ، فمعنى آية : علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها ، والذي بعدها ، قال الشاعر :
ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وهذا اختيار أبي عبيد .
والثاني : أنها سميت آية ، لأنها جماعة حروف من القرآن ، وطائفة منه . قال أبو عمرو الشيباني : يقال : خرج القوم بآيتهم ، أي : بجماعتهم . وأنشدوا :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
والثالث : أنها سميت آية ، لأنها عجب ، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين ، وهذا كما تقول : فلان آية من الآيات؛ أي : عجب من العجائب . ذكره ابن الأنباري .
وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال .
أحدها : آيات الكتب التي تتلى . والثاني : معجزات الأنبياء ، والثالث : القرآن . والرابع : دلائل الله في مصنوعاته . وأصحاب النار : سكانها ، سموا أصحاباً ، لصحبتهم إياها بالملازمة .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
اسرائيل : هو يعقوب ، وهو اسم أعجمي . قال ابن عباس : ومعناه : عبد الله . وقد لفظت به العرب على أوجه ، فقالت : إسرائل ، وإسرال ، وإسرائيل ، وإسرائين .
قال أمية :
إنني زارد الحديد على النا ... س دروعاً سوابغ الأذيال
لا أرى من يعينني في حياتي ... غير نفسي إِلا بني إسرال
وقال أعرابي صاد ضبّاً ، فأتى به أهله :
يقول أهل السوق لما جينا : ... هذا ورب البيت إسرائينا
أراد : هذا مما مسخ من بني إسرائيل .
والنعمة : المنة ، ومثلها؛ النعماء . والنعمة ، بفتح النون : التنعم ، وأراد بالنعمة : النعم ، فوحدها ، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع ، كقوله تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 40 ] أي : ظهراء .
وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال . أحدها : أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس . والثاني : أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إِذ أنجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، وأعطاهم التوراة ، ونحو ذلك ، قاله الحسن والزجاج .
وإنما منّ عليهم بما أَعطى آباءهم ، لأن فخر الآباء فخر للأبناء ، وعار الآباء عار على الأبناء . والثالث : أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال .
والمراد من ذكرها : شكرها ، إذ من لم يشكر فما ذكر .
قوله تعالى : { وأوفوا }
قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أوفيت ، وأهل نجد يقولون : وفيت ، بغير ألف .
قال الزجاج : يقال : وفى بالعهد ، وأوفى به ، وأنشد :
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها
وقال ابن قتيبة . يقال : وفيت بالعهد ، وأوفيت به ، وأوفيت الكيل لا غير .
وفي المراد بعهده : أربعة أقوال . أحدها : أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنه امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : أنه الإسلام ، قاله أبو العالية . والرابع : أنه العهد المذكور في قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } [ المائدة : 13 ] قاله قتادة .
قوله تعالى : { أُوفِ بعهدكم } قال ابن عباس : أدخلكم الجنة .
قوله تعالى : { وإيّاي فارهبون } : أي : خافون .
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت } يعني القرآن { مصدقاً لما معكم } يعني التوراة او الإنجيل ، فإن القرآن يصدقهما أنهما من عند الله ، ويوافقهما في صفة النبي صلى الله عليه وسلم .
{ ولا تكونوا أول كافر به }
إنما قال : أول كافر ، لأن المتقدم الى الكفر أعظمَ من الكفر بعد ذلك ، إذ المبادر لم يتأمل الحجة ، وإنما بادر بالعناد ، فحاله أشد . وقيل : ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن ، والخطاب لرؤساء اليهود .
وفي هائه قولان . أحدهما : أنها تعود إلى المنزّل ، قاله ابن مسعود وابن عباس .
والثاني : أنها تعود على ما معهم ، لأنهم إذا كتموا وصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو معهم ، فقد كفروا به ، ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإِياي فاتقون }
أي : لا تستبدلوا [ بآياتي ] ثمناً قليلاً . وفيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا . والثاني : بقاء رئاستهم عليهم . والثالث : أخذ الأجرة على تعليم الدين .
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
تلبسوا : بمعنى تخلطوا . يقال : لبست الأمر عليهم ، ألبسه : إذا عميته عليهم ، وتخليطهم : أنهم قالوا : إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي ، ولم يذكر أنه من العرب .
وفي المراد بالحق قولان . أحدهما : أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو العالية ، والسدي ومقاتل . والثاني : أنه الإسلام ، قاله الحسن .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }
يريد : الصلوات الخمس ، وهي هاهنا اسم جنس ، والزكاة : مأخوذة من الزكاء ، وهو النماء ، والزيادة . يقال : زكا الزرع يزكو زكاء . وقال ابن الأنباري : معنى الزكاة في كلام العرب : الزيادة والنماء ، فسميت زكاة ، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه ، وتوفره ، وتقيه من الآفات . ويقال : هذا أزكى من ذاك ، أي : أزيد فضلاً منه .
قوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين }
أي : صلوا مع المصلين . قال ابن عباس : يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ، والصحابة رضي الله عنهم . وقيل : إِنما ذكر الركوع ، لأنه ليس في صلاتهم ركوع ، والخطاب لليهود . وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر : اثبت على ما أنت عليه فإنه حق . والألف في «أتأمرون» ألف الاستفهام ، ومعناه التوبيخ .
وفي «البر» هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه التمسك بكتابهم ، كانوا يأمرون باتباعه ولا يقومون به . والثاني : اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، روي القولان عن ابن عباس . والثالث : الصدقة ، كانوا يأمرون بها ، ويبخلون . ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { وتنسون } أي تتركون . وفي «الكتاب» قولان . أحدهما : أنه التوراة ، قاله الجمهور . والثاني : أنه القرآن ، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
الأصل في الصبر : الحبس ، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع . وسمي الصائم صابراً لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع ، والمصبورة : البهيمة تتخذ غرضاً . وقال مجاهد : الصبر هاهنا : الصوم .
وفيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه أداء الفرائض ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : أنه ترك المعاصي ، قاله قتادة . والثالث : عدم الرئاسة ، وهو خطاب لأهل الكتابين ، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ، ويزهد في الدنيا .
قوله تعالى : { وإِنها } في المكنى عنها ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الصلاة ، قاله ابن عباس والحسن ، ومجاهد والجمهور . والثاني : أنها الكعبة والقبلة ، لأنه لما ذكر الصلاة ، دلت على القبلة ، ذكره الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . والثالث : أنها الاستعانة ، لأنه لما قال : { واستعينوا } دل على الاستعانة ، ذكره محمد بن القاسم النحوي .
قوله تعالى : { لكبيرة } قال الحسن والضحاك : الكبيرة : الثقيلة ، مثل قوله تعالى { كبر على المشركين ما تدعوهم اليه } [ الشورى : 13 ] أي : ثقل ، والخشوع في اللغة : التطامن والتواضع ، وقيل : السكون .
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
الظن هاهنا : بمعنى اليقين ، وله وجوه قد ذكرناها في كتاب «الوجوه والنظائر»
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
يعني : على عالمي زمانهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن زيد . قال ابن قتيبة : وهو من العام الذي أريد به الخاص .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
قال الزجاج : كانت اليهود تزعم أَن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة ، فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك .
قوله تعالى : { واتقوا يوماً } [ فيه ] إضمار ، تقديره : اتقوا عذاب يوم ، أو : ما في يوم . والمراد باليوم يوم القيامة و «تجزي» بمعنى تقضي . قال ابن قتيبة : يقال : جزى الأمر عني يجزي ، بغير همز ، أي : قضى عني ، وأجزأني بجزئني ، مهموز ، أي : كفاني .
قوله تعالى : { نفسٌ عن نفسٍ } . قالوا : المراد بالنفس هاهنا : النفس الكافرة ، فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص .
قوله تعالى : { ولا تُقْبَل منها شفاعة }
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء ، إلا أن قتادة فتح الياء ، ونصب الشفاعة ، ليكون الفعل لله تعالى . قال أبو علي : من قرأ بالتاء ، فلأنَّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث ، فيلزم أن يلحق المسند أيضاً علامة التأنيث ، ومن قرأ بالياء ، فلأنَّ التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي ، فحمل على المعنى ، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد . وفي الآية إضمار ، تقديره : لا يقبل منها فيه شفاعة . والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر ، وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له .
فأما «العدل» فهو الفداء ، وسمي عدلاً ، لأنه يعادل المفدى . واختلف اللغويون : هل «العَدل» و «العدل» بفتح العين وكسرها ، يختلفان ، أم لا؟ فقال الفراء : العدل بفتح العين : ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل بكسرها : ما عادل الشيء من جنسه ، فهو المثل ، تقول : عندي عدل غلامك ، بفتح العين : إذا أردت قيمته من غير جنسه ، وعندي عدل غلامك ، بكسر العين : إذا كان غلام يعدل غلاماً . وحكى الزجاج عن البُصريين أن العَدل والعِدل في معنى المثل ، وأن المعنى واحد ، سواء كان المثل من الجنس أو من غير الجنس .
قوله تعالى : { ولا هُمْ يُنْصَرون } أي : يمنعون من عذاب الله .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
تقديره : واذكروا إذ نجيناكم ، وهذه النعم على آبائهم كانت . وفي آل فرعون ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم أهل مصر ، قاله مقاتل . والثاني : أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيدة . والثالث : أتباعه على دينه ، قاله الزجاج . وهل الآل والأهل بمعنى ، أو يختلفان؟ فيه قولان : وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر» وفرعون : اسم أعجمي ، وقيل : هو لقبه . وفي اسمه أربعة أقوال .
أحدها : الوليد بن مصعب ، قاله الأكثرون . والثاني : فيطوس ، قاله مقاتل . والثالث : مصعب بن الريان ، حكاه ابن جرير الطبري . والرابع : مغيث ، ذكره بعض المفسرين .
قوله تعالى : { يسومونكم } أي : يولونكم . يقال : فلان يسومك خسفاً ، أي : يوليك ذلاً واستخفافاً . وسوء العذاب : شديده . وكان الزجاج يرى أن قوله : { يذبحون أبناءكم } تفسير لقوله { يسومونكم سوء العذاب } ، وأبى هذا بعض أهل العلم فقال : قد فرق الله بينهما في موضع آخر ، فقال : { يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم } [ إبراهيم : 6 ] وإنما سوء العذاب : استخدامهم في أصعب الأعمال ، وقال : الفراء : الموضع الذي طرحت فيه الواو ، تفسير لصفات العذاب ، والموضع الذي فيه الواو ، يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح ، فكأنه قال : يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح .
قوله تعالى : { ويستحيون نساءكم } أي : يستبقون نساءكم ، أي : بناتكم . وإنما استبقوا نساءهم للاستذلال والخدمة .
وفي البلاء هاهنا قولان . أحدهما : أنه بمعنى النعمة ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو مالك ، وابن قتيبة والزجاج . والثاني : أنه النقمة ، رواه السدي عن أشياخه . فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى : { ذلكم } عائداً على سومهم سوء العذاب ، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وعلى القول الأول يعود على النجاة من آل فرعون . قال أبو العالية : وكان السبب في ذبح الأبناء ، أن الكهنة قالت لفرعون : سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه ، فقتل الأبناء . قال الزجاج : فالعجب من حمق فرعون ، إن كان الكاهن عنده صادقا ، فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذباً؛ فما معنى القتل؟!
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
الفرق : الفصل بين الشيئين و «بكم» بمعنى «لكم» . وإِنما ذكر آل فرعون دونه ، لأنه قد علم كونه فيهم . وفي قوله تعالى : { وأنتم تنظرون } : قولان . أحدهما : أنه من نظر العين ، معناه : وأنتم ترونهم يغرقون . والثاني : أَنه بمعنى : العلم ، كقوله تعالى : { ألم تر إِلى ربك كيف مد الظل } [ الفرقان : 45 ] . قاله الفراء .
الاشارة إِلى قصتهم
روى السدي عن أشياخه : أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، وألقى على القبط الموت ، فمات بكر كل رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونه ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، قال عمرو بن ميمون : فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ، فما صاح ديك ليلتئذ . قال أبو السليل : لما انتهى موسى إِلى البحر قال : هيه أبا خالد ، فأخذه أفكل ، يعني : رعدة ، قال مقاتل : تفرق الماء يميناً وشمالاً كالجبلين المتقابلين ، وفيهما كوىً ينظر كل سبط إلى الآخر . قال السدي : فلما رآه فرعون متفرقاً قال : ألا ترون البحر فرق مني ، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة ، فتشامت الحصن ريح الماذيانة ، فاقتحمت في إثرها ، حتى إِذا همَّ أولهم أن يخرج ، ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
قوله تعالى : { وإِذ واعدنا موسى أربعين ليلة } .
قرأَ أبو جعفر وأبو عمرو : «وعدنا» بغير ألف هاهنا ، وفي ( الأعراف ) و ( طه ) ووافقهما أبان عن عاصم في ( البقرة ) خاصة . وقرأ الباقون «واعدنا» بألف . ووجه القراءة الأولى : إفراد الوعد من الله تعالى ، ووجه الثانية : أنه لما قبل موسى وعد الله عز وجل ، صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى . ومثله : { لا تواعدوهن سراً } [ البقرة : 235 ] .
ومعنى الآية : وعدنا موسى تتمة أربعين ليلة ، أو انقضاء أربعين ليلة . وموسى : اسم أعجمي ، أصله بالعبرانية : موشا ، فمو : هو الماء ، وشا : هو الشجر ، لأنه وجد عند الماء والشجر ، فعرب بالسين . ولماذا كان هذا الوعد؟ فيه قولان . أحدهما : لأخذ التوراة . والثاني : للتكليم . وفي هذه المدة قولان . أحدهما : أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، وهذا قول من قال : كان الوعد لإعطاء التوراة . والثاني : أنها ذو الحجة وعشر من المحرم ، وهو قول من قال : كان الوعد للتكليم ، وإنما ذكرت الليالي دون الأيام ، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي ، لأن أول الشهر ليله ، واعتماد العرب على الأهلة ، فصارت الأيام تبعا لليالي . وقال أبو بكر النقاش : إنما ذكر الليالي ، لأنه أمره أن يصوم هذا الأيام ويواصلها بالليالي ، فلذلك ذكر الليالي وليس بشيء .
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون } من بعده ، أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل .
الإشارة إِلى اتخاذهم العجل
روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى ، واستخلف هارون ، قال هارون : يا بني إسرائيل! إِن الغنيمة لا تحل لكم ، وإِن حليّ القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة ، فادفنوه ، فان أحله موسى فخذوه ، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه ، ففعلوا . قال السدي : وكان جبريل قد أتى إلى موسى ليذهب به إلى ربه ، فرآه السامريّ ، فأنكره وقال : إن لهذا شأناً ، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس ، فقذفها في الحفيرة ، فظهر العجل . وقيل : إِن السامريّ أمرهم بالقاء ذلك الحليّ ، وقال : إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي ، فاحفروا لها حفيرة وقربوه إلى الله ، يبعث لكم نبيكم ، فإنه كان عارية ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
وفي سبب اتخاذ السامري عجلاً قولان . أحدهما : أن السامري كان من قوم يعبدون البقر ، فكان ذلك في قلبه ، قاله ابن عباس ، والثاني : أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، أعجبهم ذلك ، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً وأنكر عليهم؛ أخرج السامريّ لهم في غيبته عجلاً لما رأى من استحسانهم ذلك ، قاله ابن زيد .
وفي كيفية اتخاذ العجل قولان . أحدهما : أن السامري كان صوّاغاً ، فصاغه وألقى فيه القبضة ، قاله علي وابن عباس . والثاني : أنهم حفروا حفيرة ، وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزهاً عنها ، فألقى السامريّ القبضة من التراب ، فصار عجلاً . روي عن ابن عباس أيضاً . قال ابن عباس : صار لحماً ودماً وجسداً ، فقال لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى قد جاء ، وأخطأ موسى الطريق ، فعبدوه وزفنوا حوله .
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
الكتاب : التوراة . وفي الفرقان خمسة أقوال : أحدها : أنه النصر ، قاله ابن عباس وابن زيد . والثاني : أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل ، فيكون الفرقان نعتاً للتوراة ، قاله أبو العالية .
والثالث : أنه الكتاب ، فكرره بغير اللفظ . قال عدي بن زيد :
فألفى قولها كذباً ومينا ... وقال عنترة :
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ... هذا قول مجاهد ، واختيار الفراء و الزجاج .
والرابع : أنه فرق البحر لهم ، ذكره الفراء والزجاج وابن القاسم .
والخامس : أنه القرآن ومعنى الكلام : لقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمداً الفرقان ، ذكره الفراء ، وهو قول قطرب .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
القوم : اسم للرجال دون النساء ، قال الله تعالى : { لا يسخر قوم من قوم عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] وقال زهير :
وما أدري وسوف إِخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء؟!
وإنما سموا قوماً ، لأنهم يقومون بالأمور .
قوله تعالى : { فتوبوا إِلى بارئكم } قال أبو علي : كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف . وروى اليزيدي وعبد الوارث عن أبي عمرو : { بارئْكم } بجزم الهمزة . روى عنه العباس بن الفضل : «بارئكم» مهموزة غير مثقلة . وقال سيبويه : كان أبو عمر يختلس الحركة في : «بارئكم» و : «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات ، فيرى من سمعه أنه قد أسكن ولم يسكن .
والبارىء : الخالق ومعنى { فاقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً ، قاله ابن عباس و مجاهد .
واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال . أحدها : أنه خطاب للكل ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد ، قاله مقاتل . والثالث : أنه خطاب للعابدين فحسب ، أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي الإشارة بقوله : «ذا» في : «ذلكم» قولان . أحدهما : أنه يعود إِلى القتل . والثاني : أنه يعود إِلى التوبة .
الإِشارة إِلى قصتهم في ذلك
قال ابن عباس : قالوا لموسى : كيف يقتل الآباء الأبناء ، والإخوة الإخوة؟ فأنزل الله عليهم ظلمة لا يرى بعضهم بعضاً ، فقالوا : فما آية توبتنا؟ قال : أن يقوم السلاح فلا يقتل ، وترفع الظلمة . فقتلوا حتى خاضوا في الدماء ، وصاح الصبيان : يا موسى : العفو العفو . فبكى موسى ، فنزلت التوبة ، وقام السلاح ، وارتفعت الظلمة . قال مجاهد : بلغ القتلى سبعين ألفاً . قال قتادة : جعل القتل للقتيل شهادة ، وللحي توبة .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
في القائلين لموسى ذلك قولان . أحدهما : أنهم السبعون المختارون ، قاله ابن مسعود وابن عباس . والثاني : جميع بني إِسرائيل إلا من عصم الله منهم ، قاله ابن زيد ، قال : وذلك أنه أتاهم بكتاب الله ، فقالوا : والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة؛ فيقول : هذا كتابي . وفي «جهرة» قولان . أحدهما : أنه صفة لقولهم ، أي : جهروا بذلك القول ، قاله ابن عباس ، وأبو عبيدة . والثاني : أنها الرؤية البينة ، أي : أرناه غير مستتر عنا بشيء ، يقال : فلان يتجاهر بالمعاصي ، أي : لا يستتر من الناس ، قاله الزجاج . ومعنى «الصاعقة» : ما يصعقون منه ، أي : يموتون . ومن الدليل على أنهم ماتوا ، قوله تعالى : { ثم بعثناكم } هذا قول الأكثرين . وزعم قوم أنهم لم يموتوا ، واحتجوا بقوله تعالى : { وخر موسى صعقاً } وهذا قول ضعيف ، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين ، فقال هناك : { فلما أفاق } وقال هاهنا : { ثم بعثناكم } والإفاقة للمغشي عليه ، والبعث للميت .
قوله تعالى : { وأنتم تنظرون } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتاً . والثاني : ينظر بعضكم إِلى إِحياء بعض . والثالث : تنظرون العذاب كيف ينزل بكم ، وهو قول من قال : نزلت نار فأحرقتهم .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
قوله تعالى : { وظلَّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
{ الغمام } السحاب ، سمي غماماً ، لأنه يغم السماء ، أي : يسترها ، وكل شيء غطيته فقد غممته ، وهذا كان في التيه . وفي المن ثمانية أقوال . أحدها : أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس ، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك . والثاني : أنه الترنجبين ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وهو قول مقاتل . والثالث : أنه صمغه ، قاله مجاهد . والرابع : أنه يشبه الرب الغليظ ، قاله عكرمة . والخامس : أنه شراب ، قاله أبو العالية ، والربيع بن أنس . والسادس : أنه خبز الرقاق مثل الذرة ، أو مثل النَّقي ، قاله وهب . والسابع : أنه عسل ، قاله ابن زيد . والثامن : أنه الزنجبيل ، قاله السدي .
وفي السلوى قولان . أحدهما : أنه طائر ، قال بعضهم : يشبه السماني ، وقال بعضهم : هو السماني . والثاني : أنه العسل ذكره ابن الانباري ، وأنشد :
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذ من السلوى إِذا ما نشورها
قوله تعالى : { وما ظلمونا } قال ابن عباس : ما نقصونا وضرونا ، بل ضروا أنفسهم .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
في القائل لهم قولان .
أحدهما : أنه موسى بعد مضي أربعين سنة .
والثاني : أنه يوشع بن نون بعد موت موسى . والقرية : مأخوذة من الجمع ، ومنه : قريت الماء في الحوض . والمقراة : الحوض يجمع فيه الماء . وفي المراد ب : هذه القرية قولان . أحدهما : أنها بيت المقدس ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي . وروي عن ابن عباس أنها أريحا . قال السدي : وأريحا : هي أرض بيت المقدس . والثاني : أنها قرية من أداني قرى الشام ، قاله وهب .
قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } قال ابن عباس : وهو أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى : باب حطة . وقوله : { سجداً } أي : ركعاً . قال وهب : أمروا بالسجود شكراً لله تعالى إذ ردهم إليها .
قوله تعالى : { وقولوا حطة } وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة { حطةً } بالنصب .
وفي معنى حطة ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : استغفروا ، قاله ابن عباس ووهب . قال ابن قتيبة : وهي كلمة [ أُمروا أن يقولوها ] في معنى الاستغفار ، من : حططت ، أي : حط عنا ذنوبنا .
والثاني : أن معناها : قولوا : هذا الأمر حق كما قيل لكم ، ذكره الضحاك عن ابن عباس . والثالث : أن معناها : لا إله إلا الله ، قاله عكرمة . قال ابن جرير الطبري : فيكون المعنى : قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم . وهو قول : [ «لا إِله إِلا الله» ] .
ولماذا أمروا بدخول القرية؟ فيه قولان . أحدهما : أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل : { ادخلوا القرية } ، { وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم } قاله وهب . والثاني : أنهم ملوا المن والسلوى ، فقيل : { اهبطوا مصراً } فكان أول ما لقيهم أريحا ، فأمروا بدخولها .
قوله تعالى : { نغفرْ لكم خطاياكم }
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : { نغفر لكم } بالنون مع كسر الفاء . وقرأ نافع وأبان عن عاصم { يغفر } بياء مضمومة وفتح الفاء . وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
اعلم أَن الله ، عز وجل ، أمرهم في دخولهم بفعل وقول ، فالفعل السجود ، والقول : حطة ، فغير القوم الفعل والقول .
فأما تغيير الفعل؛ ففيه خمسة أقوال .
أحدها : أنهم دخلوا متزحفين على أوْراكهم . رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنهم دخلوا من قبل أستاههم ، قاله ابن عباس وعكرمة . والثالث : أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم ، قاله ابن مسعود . والرابع : أنهم دخلوا على حروف عيونهم ، قاله مجاهد . والخامس : أنهم دخلوا مستقلين ، قاله مقاتل . وأما تغيير القول؛ ففيه خمسة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا مكان «حطة» حبة في شعرة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنهم قالوا : حنطة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، ووهب ، وابن زيد . والثالث : أنهم قالوا : حنطة حمراء فيها شعرة ، قاله ابن مسعود . والرابع : أنهم قالوا : حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء ، قاله السدي عن أشياخه .
والخامس : أنهم قالوا سنبلاثا ، قاله أبو صالح .
فاما الرجز؛ فهو العذاب ، قاله الكسائي وأبو عبيدة والزجاج . وأنشدوا لرؤبة :
حتى وقمنا كيده بالرجز ... وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال . أحدها : أنه ظلمة وموت ، مات منهم في ساعة واحدة ، أربعة وعشرون ألفاً ، وهلك سبعون ألفا عقوبة ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه أصابهم الطاعون ، عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا ، قاله وهب بن منبه .
والثالث : أنه الثلج ، هلك به منهم سبعون ألفاً ، قاله سعيد بن جبير .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
استسقى بمعنى : استدعى ذلك ، كقولك : استنصر .
وفي الحجر قولان .
أحدهما : أنه حجر معروف عين لموسى ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطية ، وابن زيد ، ومقاتل . واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال . أحدها : أنه كان حجراً مربعاً ، قاله ابن عباس . والثاني : كان مثل رأس الثور ، قاله عطية . والثالث : مثل رأس الشاة ، قاله ابن زيد . وقال سعيد بن جبير : هو الذي ذهب بثياب موسى . فجاءه جبريل فقال : إن الله تعالى يقول لك : ارفع هذا الحجر ، فلي فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فكان اذا احتاج إلى الماء ضربه .
والقول الثاني : أنه أمر بضرب أي حجر كان ، والأول أثبت .
قوله تعالى : { فانفجرت منه }
تقدير معناه : فضرب فانفجرت ، فلما عرف بقوله : «فانفجرت» أنه قد ضرب ، اكتفى بذلك عن ذكر الضرب . ومثله : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] قاله الفراء . ولما كان القوم اثني عشر سبطا ، أخرج الله لهم اثني عشرة عينا ، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه .
قوله تعالى : { ولا تعثوا } .
العثو : أشد الفساد ، يقال عثي ، وعثا ، وعاث ، قال ابن الرقاع :
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
هذا قولهم في التيه . وعنوا بالطعام الواحد : المن والسلوى . قال محمد بن القاسم : كان المن يؤكل بالسلوى ، والسلوى بالمن ، فلذلك كانا طعاماً واحداً . والبقل هاهنا : اسم جنس ، وعنوا به : البقول . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : تذهب العامة إِلى أن البقل : ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ ، وليس كذلك ، إِنما البقل : العشب ، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم ، يقال : بقلت الأرض ، وأبقلت ، لغتان فصيحتان : إذا أنبت البقل . وابتقلت الإبل : إذا رعت . قال أبو النجم يصف الإبل :
تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل .
وفي «القثاء» لغتان : كسر القاف وضمها ، والكسر أجود ، وبه قرأ الجمهور . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش : بضم القاف . قال الفراء : الكسر لغة أهل الحجاز ، والضم لغة تميم ، وبعض بني أسد .
وفي «الفوم» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الحنطة ، قاله ابن عباس ، والسدي عن أشياخه ، والحسن وأبو مالك ، قال الفراء : هي لغة قديمة ، يقول أهلها : فوَموا لنا ، أي : اختبزوا لنا .
والثاني : أنه الثوم ، وهو قراءة عبد الله وأبيّ : «وثومها» واختاره الفراء ، وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله ، والفاء تبدل من الثاء ، كما تقول العرب : الجدث ، والجدف : للقبر ، والأثافي والأثاثي : للحجارة التي توضع تحت القدر . والمغافير ، والمغاثير : لضرب من الصمغ . وهذا قول مجاهد ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، والكسائي ، والنضر بن شميل وابن قتيبة .
والثالث : أنه الحبوب ، ذكره ابن قتيبة والزجاج .
قوله تعالى : { أتستبدلون الذي هو أدنى } : أي : أردأ { بالذي هو خير } : أي : أعلى ، يريد : أن المن والسلوى أعلى ما طلبتم .
قوله تعالى : { اهبطوا مصراً } فيه قولان . أحدهما : أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وإنما أمروا بالمصر ، لأن الذي طلبوه في الأمصار . والثاني : أنه أراد البلد المسمى بمصر ، وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش «مصر» بغير تنوين ، قال أبو صالح عن ابن عباس : أراد مصر فرعون ، وهذا قول أبي العالية والضحاك ، واختاره الفراء ، واحتج بقراءة عبد الله . قال : وسئل عنها الأعمش ، فقال : هى مصر التي عليها صالح بن علي . وقال مفضل الضبي : سميت مصراً ، لأنها آخر حدود المشرق ، وأول حدود المغرب ، فهي حد بينهما . والمصر : الحد . وأهل هجر يكتبون في عهدهم : اشترى فلان الدار بمصورها ، أي : بحدودها . وقال عدي :
وجاعل الشمس مصراً لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وحكى ابن فارس أن قوماً قالوا : سميت بذلك لقصد الناس إِياها ، كقولهم : مصرت الشاة ، إذا حلبتها ، فالناس يقصدونها ، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها .
قوله تعالى : { وضربت عليهم الذلة } : أي : ألزموها ، قال الفراء : الذلة والذل : بمعنى واحد وقال الحسن : هي الجزية .
وفي المسكنة قولان .
أحدهما : أنها الفقر والفاقة ، قاله أبوالعالية ، والسدي ، وأبو عبيدة ، وروي عن السدي قال : هي فقر النفس .
والثاني : الخضوع ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وباؤوا } أي : رجعوا . وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إِلى الغضب . وقيل : إِلى جميع ما ألزموه من الذلة والمسكنة وغيرها .
قوله تعالى : { وَيَقتُلون النَّبِيّينَ } .
كان نافع يهمز «النبيين» و «الأنبياء» و«النبوة» وما جاء من ذلك ، إلا في موضعين في الاحزاب : { لا تدخوا بيوت النبي } [ 53 ] { إن وهبت نفسها للنبي } [ 50 ] وإنما ترك الهمز في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وباقي القراء لا يهمزون جميع المواضع . قال الزجاج : الأجود ترك الهمز . واشتقاق النبي من : نبأ ، وأنبأ ، أي : أخبر . ويجوز أن يكون من : نبا ينبو : إذا ارتفع ، فيكون بغير همز : فعيلاً ، من الرفعة : قال عبد الله بن مسعود : كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .
قوله تعالى : { بغير الحق } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : بغير جرم ، قاله ابن الأنباري . والثاني : أنه توكيد ، كقوله تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } . والثالث : أنه خارج مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم ، فهو كقوله تعالى : { رب احكم بالحق } فوصف حكمه بالحق ، ولم يدل على أنه يحكم بغير الحق .
قوله تعالى : { وكانوا يعتدون } العدوان : أشد الظلم . وقال الزجاج : الاعتداء : مجاوزة القدر في كل شيء .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قوله تعالى : { إن الذين آمنوا } فيهم خمسة أقوال .
أحدها : أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم الذين آمنوا بموسى ، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى ، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد . وهذا قول السدي عن أشياخه . والثالث : أنهم المنافقون ، قاله سفيان الثوري . والرابع : أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام ، كقس بن ساعدة ، وبحيرا ، وورقة بن نوفل ، وسلمان . والخامس : أنهم المؤمنون من هذه الأمة .
قوله تعالى : { والذين هادوا } قال الزجاج : أصل هادوا في اللغة : تابوا . وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك ، لقول موسى : { هدنا إليك } ، والنصارى لقول عيسى : { من أنصاري إلى الله } . وقيل : سموا النصارى لقرية ، نزلها المسيح ، اسمها : ناصرة ، وقيل : لتناصرهم .
فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جميع القرآن ، وكان نافع لا يهمز كل المواضع . قال الزجاج : معنى الصابئين : الخارجون من دين إلى دين ، يقال : صبأ فلان : إذا خرج من دينه . وصبأت النجوم : إذا طلعت [ وصبأ نابُه : إِذا خرج ] .
وفي الصابئين سبعة أقوال .
أحدها : أنه صنف من النصارى ألين قولاً منهم ، وهم السائحون المحلَّقة أوساط رؤوسهم ، روي عن ابن عباس .
والثاني : أنهم قوم بين النصارى والمجوس ، ليس لهم دين ، قاله مجاهد .
والثالث : أنهم قوم بين اليهود والنصارى ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع : قوم كالمجوس ، قاله الحسن والحكم .
والخامس : فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور ، قاله أبو العالية .
والسادس : قوم يصلون إلى القبلة ، ويعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ، قاله قتادة .
والسابع : قوم يقولون : لا إِله إلا الله ، فقط ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { من آمن } في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال . أحدها : أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله : { من آمن } إليهم . والثاني : أن المعنى من أقام على إيمانه . والثالث : أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام . والثاني : اعتقاد القلوب .
قوله تعالى : { وعمل صالحاً }
قال ابن عباس : أقام الفرائض .
فصل
وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فيه قولان .
أحدهما : أنها محكمة ، قاله مجاهد والضحاك في آخرين ، وقدروا فيها : إن الذين آمنوا ، ومن آمن من الذين هادوا . والثاني : أنها منسوخة بقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه } ، ذكره جماعة من المفسرين .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
الخطاب بهذه الآية لليهود . والميثاق : مفعال من التوثق بيمين أو عهد أو نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول .
وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال . أحدها : أنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة ، فكرهوا الإِقرار بما فيها ، فرفع عليهم الجبل ، قاله مقاتل . قال أبو سليمان الدمشقي : أعطوا الله عهداً ليعملُنَّ بما في التوراة ، فلما جاء بها موسى فرأوا ما فيها من التثقيل ، امتنعوا من أخذها ، فرفع الطور عليهم . والثاني : أنه ما أخذه الله تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ذكره الزجاج . والثالث : ذكره الزجاج أيضاً ، فقال : يجوز أن يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم .
قوله تعالى : { ورفعنا فوقكم الطور } قال أَبو عبيدة : الطور في كلام العرب : الجبل . وقال ابن قتيبة : الطور : الجبل بالسريانية . وقال ابن عباس . ما أنبت من الجبال فهو طور ، وما لم ينبت فليس بطور .
وأي الجبال هو؟ فيه ثلاثة أَقوال . أحدها : جبل من جبال فلسطين ، قاله ابن عباس . والثاني : جبل نزلوا بأصله ، قاله قتادة . والثالث : الجبل الذي تجلى له ربه ، قاله مجاهد .
وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة . وقال السدي : لإبائهم دخول الأرض المقدسة .
قوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } .
وفي المراد بالقوة أربعة أقوال .
أحدها : الجد والاجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
والثاني : الطاعة ، قاله أبو العالية .
والثالث : العمل بما فيه ، قاله مجاهد . والرابع : الصدق ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { واذكروا ما فيه } فيه قولان . أحدهما : اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب ، قاله ابن عباس . والثاني : معناه : ادرسوا ما فيه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } قال ابن عباس : تتقون العقوبة .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
قوله تعالى : { ثم توليتم } أي : أعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق لتأخذنَّه بجد ، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
السبت : اليوم المعروف ، قاله ابن الأنباري : ومعنى السبت في كلام العرب : القطع ، يقال قد سبت رأسه : إذا حلقه وقطع الشعر منه ، ويقال : نعل سبتية : إِذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر ، فسمي السبت سبتاً ، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه ، وقطع فيه بعض خلق الأرض ، أو : لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بقطع الأعمال وتركها . قال : وقال بعضهم : سمي سبتاً ، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال ، وهذا خطأ ، لأنه لا يعرف في كلام العرب : سبت بمعنى : استراح .
وفي صفة اعتدائهم في السبت قولان . أحدهما : أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت ، قاله الحسن ومقاتل . والثاني : أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد ، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفيرة؛ ويجعل لها نهراً إلى البحر ، فاذا كان يوم السبت فتح النهر ، وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت ، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق ، فيأخذها يوم الأحد ، قاله السدي .
الإشارة إلى قصة مسخهم
روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال : نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات . نودوا : يا أهل القرية ، فانتبهت طائفة أكثر من الأولى ، ثم نودوا : يا أهل القرية ، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ، فقال الله لهم : { كونوا قردة خاسئين } فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون : يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم : بلى . قال قتادة : فصار القوم قردة تعاوي ، لها أذناب بعدما كانوا رجالا ونساء .
وفي رواية عن قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم . وقال غيره : كانوا نحواً من سبعين ألفاً ، وعلى هذا القول العلماء ، غير ما روي عن مجاهد أنه قال : مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم ، وهو قول بعيد ، قال ابن عباس : لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيام ، ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام ، وماتوا في اليوم الثامن ، وهذا كان في زمان داود عليه السلام .
قوله تعالى : { خاسئين } الخاسىء في اللغة : المبعد ، يقال للكلب : اخسأ ، أي : تباعد
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
في المكنى عنها أربعة أقوال . أحدها : أنها الخطيئة ، رواه عطية عن ابن عباس . والثاني : العقوبة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال الفراء : الهاء : كناية عن المسخة التي مسخوها . والثالث : أنها القرية والمراد أهلها ، قاله قتادة وابن قتيبة . والرابع : أنها الأمة التي مسخت ، قاله الكسائي ، والزجاج .
وفي النكال قولان . أحدهما : أنه العقوبة ، قاله مقاتل والثاني : العبرة ، قاله ابن قتيبة والزجاج .
قوله تعالى : { لما بين يديها وما خلفها } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : لما بين يديها من القرى وما خلفها ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : لما بين يديها من الذنوب ، وما خلفها : ما عملوا بعدها ، رواه عطية من ابن عباس . والثالث : لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي ، وما خلفها : ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم ، قاله عطية .
وفي المتقين قولان . أحدهما : أنه عام في كل متق إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس . والثاني : أن المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي عن أشياخه ، وذكره عطية وسفيان .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة
روى ابن سيرين عن عبيدة قال : كان في بني اسرائيل رجل عقيم لا يولد له ، وله مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله واحتمله ليلاً ، فأتى به حياً آخر ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فأتوا موسى فذكروا له ذلك ، فأمرهم بذبح البقرة .
وروى السدي عن أشياخه أن رجلاً من بني إِسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير ، فخطب إليه ابنته ، فأبى ، فغضب وقال : والله لأقتلنّ عمي ، ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ، ولآكلنّ ذيته ، فأتاه فقال : قد قدم تجار في بعض أسباط بني إِسرائيل ، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي أصيب فيها ربحاً ، فخرج معه ، فلما بلغا ذلك السبط ، قتله الفتى ، ثم رجع ، فلما أصبح ، جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو ، فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه ، فأمسكهم وقال : قتلتم عمي وجعل يبكي وينادي : واعماه . قال أبو العالية : والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان : القاتل . وقال غيره : بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى ، فلما أمرهم بذبح بقرة ، قالوا : أتتخذنا هزواً . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : هزؤا ، بضم الهاء والزاي والهمزة ، وقرأ حمزة ، وإِسماعيل ، وخلف في اختياره ، والفراء عن عبد الوارث ، والمفضل : هزْءاً ، باسكان الزاي . ورواه حفص بالضم من غير همز ، وحكى أبو علي الفارسي أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ، فمن العرب من يثقله ، ومنهم من يخففه ، نحو العسر واليسر .
قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } .
وإِنما انتفى من الهزء ، لأن الهازئ جاهل لاعب ، فلما تبين لهم أن الأمر من عند الله ، قالوا { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } . قال الزجاج : وإنما سألوا : ما هي ، لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت .
فأما الفارض فهي : المسنة ، يقال : فرضت البقرة فهي فارض : إذا أسنت . والبكر : الصغيرة التي لم تلد ، والعوان : دون المسنة ، وفوق الصغير . يقال حرب عوان : إِذا لم تكن أول حرب ، وكانت ثانية .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
في الصفراء قولان . أحدهما : أنه من الصفرة ، وهو : اللون المعروف ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني : أنها السوداء ، قال الحسن البصري ، ورده جماعة ، فقال ابن قتيبة : هذا غلط في نعوت البقر ، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل ، يقال : بعير أصفر ، أي : أسود ، لأن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة ، ويدل على ذلك : قوله تعالى : { فاقع لونها } والعرب لا تقول : أسود فاقع ، وإنما تقول : أسود حالك ، وأصفر فاقع .
قال الزجاج : وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة ، يقال : أصفر فاقع ، وأحمر قانئ وأخضر ناضر ، وأبيض يقق ، وأسود حالك ، وحلكوك ودجوجي ، فهذه صفات المبالغة في الألوان .
ومعنى { تسر الناظرين } تعجبهم قال ابن عباس : شدد القوم فشدد الله عليهم . وروى أبو هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا » يعني بذلك قولهم .
{ وإنا إن شاء الله لمهتدون }
وفي المراد باهتدائهم قولان .
أحدهما : أنهم أرادوا : المهتدون إلى البقرة ، وهو قول الأكثرين . والثاني : إِلى القاتل ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قوله تعالى : { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } قال قتادة : لم يذلها العمل فتثير الأرض . قال ابن قتيبة : يقال في الدواب : دابة ذلول : بينة الذل بكسر الذال ، وفي الناس : رجل ذليل بين الذل بضم الذال .
{ تثير الأرض } : تقلبها للزراعة ، ويقال للبقرة : المثيرة . قال الفراء : لا تقفن على ذلول ، لأن المعنى : ليست بذلول فتثير الأرض ، وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول ، ثم أنكره عليه جداً ، وعلل بأن التي تثير الأرض لا يعدم منها سقي الحرث؛ ومتى أثارت الأرض كانت ذلولاً . ومعنى : ولا تسقي الحرث : لا يستقى عليها الماء لسقي الزرع .
قوله تعالى : { مسلَّمة } فيه أربعة أقوال .
أحدها : مسلَّمة من العيوب ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : مسلَّمة من العمل ، قاله الحسن وابن قتيبة . والثالث : مسلّمة من الشية ، قاله مجاهد وابن زيد . والرابع : مسلَّمة القوائم والخلق ، قاله عطاء الخراساني .
فأما الشية ، فقال الزجاج : الوشي في اللغة : خلط لون بلون . ويقال : وشيت الثوب أشيه شية ووشياً ، كقولك : وديت فلاناً أدية دية . ونصب : لا شية فيها ، على النفي . ومعنى الكلام : ليس فيها لون يفارق سائر لونها . وقال عطاء الخراساني : لونها لون واحد .
قوله تعالى : { الآن جئت بالحق } قال ابن قتيبة : الآن : هو الوقت الذي أنت فيه ، وهو حدّ الزمانين ، حد الماضي من آخره ، وحد المستقبل من أوله ، ومعنى { جئت بالحق } بينت لنا .
قوله تعالى : { وما كادوا يفعلون } فيه قولان . أحدهما : لغلاء ثمنها ، قاله ابن كعب القرظي .
والثاني : لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قاله وهب . قال ابن عباس : مكثوا يطلبون البقرة أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل ، فأبى أن يبيعها الا بملء مسكها ذهباً ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وعبيدة ، ووهب ، وابن زيد ، والكلبي ، ومقاتل في مقدار الثمن . فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها ، فيحتمل وجهين . أحدهما : أنهم شددوا فشدد الله عليهم . والثاني : لإكرام الله عز وجل صاحبها ، فإن كان براً بوالديه . فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل براً بأبيه ، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده ، فانطلق ليبيعه إياها ، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه ، وأبوه نائم ، فلم يوقظه ، ورد المشتري ، فأضعف له المشتري الثمن ، فرجع إلى أبيه ، فوجده نائماً ، فعاد إلى المشتري فرده ، فأضعف له الثمن ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري ، فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة ، تلك البقرة .
وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل أن فتى كان براً بوالديه ، وكان يحتطب على ظهره ، فاذا باعه تصدق بثلثه ، وأعطى أمه ثلثه ، وأبقى لنفسه ثلثه ، فقالت له أمه يوماً : إني ورثت من أبيك بقرة ، فتركتها في البقر على اسم الله ، فاذا أتيت البقر ، فادعها باسم إله إبراهيم ، فذهب فصاح بها ، فأقبلت ، فأنطقها الله ، فقالت : اركبني يا فتى ، فقال [ الفتى : إن أمي ] لم تأمرني بهذا .
فقالت : أيها البر بأمه! لو ركبتني لم تقدر عليّ ، فانطلق ، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله [ وينطلق معك ] لانقلع لبرك بأمك . فلما جاء بها قالت أمه : بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني ، فبعث الله ملكاً فقال : بكم هذه؟ قال : بثلاثة دنانير على رضىً من أمي . قال : لك ستة ولا تستأمرها ، فأبى ، وعاد إلى أمه فأخبرها ، فقالت : بعها بستة على رضىً مني ، فجاء الملك فقال : خذ اثني عشر ولا تستأمرها ، فأبى ، وعاد إِلى أمه فأخبرها ، فقالت : يا بني! ذاك مَلَك ، فقل له : بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال له ذلك ، فقال : يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إِسرائيل .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قوله تعالى : { وإِذ قتلتم نفساً } هذه الآية مؤخرة في التلاوة ، مقدمة في المعنى ، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس ، فتقدير الكلام : وإِذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها ، فسألتم موسى فقال : { إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ونظيرها قوله تعالى : { ولم يجعل له عوجاً قيماً } [ الكهف : 1 ] أراد : أنزل الكتاب قيماً ، ولم يجعل له عوجاً ، فأخر المقدم وقدم المؤخر ، لأنه من عادة العرب . قال الفرزدق :
إِن الفرزدق صخرة ملمومة ... طالت فليس تنالها الأوعالا
أراد : طالت الأوعالَ . وقال جرير :
طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاماً
أراد : طاف الخيال لماماً ، وأين هو منك؟ وقال الآخر :
خير من القوم العصاة أَميرهم ... - يا قوم فاستحيوا - النساء الجلَّس
أراد : خير من القوم العصاة النساء ، فاستحيوا من هذا .
ومعنى قوله : { فادارأتم } : اختلفتم ، قاله ابن عباس ومجاهد . وقال الزجاج : ادّارأتم ، بمعنى : تدارأتم أي : تدافعتم ، وألقى بعضكم على بعض ، تقول : درأت فلاناً : إذا دفعته ، وداريته : إذا لاينته ، ودريته إذا ختلته ، فأدغمت التاء في الدال ، لأنهما من مخرج واحد ، فأما الذي كتموه؛ فهو أمر القتيل .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
من قال : أقاموا في طلبها أربعين سنة؛ قال ضربوا قبره ، ومن لم يقل ذلك ، قال : ضربوا جسمه قبل دفنه . وفي الذي ضرب به ستة أقوال .
أحدها : أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف ، رواه عكرمة عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي : وذلك العظم هو أصل الأذن ، وزعم قوم أنه لا يكسر ذلك العظم من أحد فيعيش . قال الزجاج : الغضروف في الأذن ، وهو : ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة ، وجميع أعلى صدفة الأذن ، وهو معلق الشنوف ، فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخر الأذن ، فيقال لهما : الخشَّاوان ، والخششاوان ، واحدهما : خُشَّاء ، وخُشُشاء .
والثاني : أنه ضرب بالفخذ ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وذكر عكرمة ومجاهد أنه الفخذ الأيمن .
والثالث : أنه البضعة التي بين الكتفين . رواه السدي عن أشياخه .
والرابع : أنه الذنب ، رواه ليث عن مجاهد .
والخامس : أنه عجب الذنب ، وهو عظم بني عليه البدن ، روي عن سعيد بن جبير .
والسادس : أنه اللسان ، قاله الضحاك .
وفي الكلام اختصار تقديره : فقلنا : اضربوه ببعضها ليحيا ، فضربوه فحيي ، فقام فأخبر بقاتله .
وفي قاتله أربعة أقوال . أحدها : بنو أخيه ، رواه عطية عن ابن عباس . والثاني : ابنا عمه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد . والثالث : ابن أخيه ، قال السدي عن أشياخه وعبيدة . والرابع : أخوه ، قاله عبد الرحمن ابن زيد .
قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } : فيه قولان .
أحدهما : أنه خطاب لقوم موسى . والثاني : لمشركي قريش ، احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب ، قال أبو عبيدة : وآياته : عجائبه .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } : قال ابراهيم بن السري : قست في اللغة : غلظت ويبست وعست ، فقسوة القلب : ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه . والقاسي : والعاسي : الشديد الصلابة . وقال ابن قتيبة : قست وعست وعتت واحد ، أي : يبست .
وفي المشار إليهم بها قولان . أحدهما : جميع بني إسرائيل . والثاني : القاتل . قال ابن عباس : قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله : والله ما قتلناه . وفي كاف «ذلك» ثلاثة أقوال . أحدها : أنه إشارة إلى إحياء الموتى ، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل . والثاني : إلى كلام القتيل ، فيكون الخطاب للقاتل ، ذكرهما المفسرون . والثالث : إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير ، ورفع الجبل وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، ذكره الزجاج .
وفي «أو» أقوال ، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى : { أو كصيِّب } وقد تقدمت .
قوله تعالى : { وإِن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } قال مجاهد : كل حجر ينفجر منه الماء ، وينشق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، فمن خشية الله .
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال . أحدها : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، خاصة ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : أنه المؤمنون ، تقديره : أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم ، قاله أبو العالية وقتادة . والثالث : أنهم الأنصار ، فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم ، ذكره النقاش . قال الزجاج : وألف «أفتطمعون» ألف استخبار ، كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم .
وفي سماعهم لكلام الله قولان . أحدهما : أنهم قرؤوا التوراة فحرّفوها ، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين ، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم ، وتحريفهم : تغيير ما فيها . والثاني : أنهم السبعون الذين اختارهم موسى ، فسمعوا كلام الله كفاحاً عند الجبل ، فلما جاؤوا إلى قومهم قالوا : قال لنا : كذا وكذا ، وقال في آخر قوله : إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه؛ فافعلوا ما تستطيعون . هذا قول مقاتل ، والأول أصح . وقد أنكر بعض أهل العلم ، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إِنكاراً شديداً ، وقال : إنما خص بالكلام موسى وحده ، وإلا فأي ميزة؟! وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبي وكان كذاباً .
ومعنى { عقلوه } : سمعوه ووَعوْه .
وفي قوله تعالى : { وهم يعلمون } قولان . أحدهما : وهم يعلمون أنهم حرّفوه .
والثاني : وهم يعلمون عقاب تحريفه .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
هذه الآية نزلت في نفر من اليهود ، كانوا إذا لقوا النبي والمؤمنين قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ، هذا قول ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن زيد ، ومقاتل .
وفي معنى { بما فتح الله عليكم } قولان . أحدهما : بما قضى الله عليكم ، والفتح : القضاء ، ومنه قوله تعالى : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [ الاعراف : 89 ] قال السدي عن أشياخه : كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به ، فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم . [ من العذاب ، ليقولوا : نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم ] . والثاني : أن معناه بما علمكم الله . قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة : الذي فتحه عليهم : ما أنزله من التوراة في صفة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وقال مقاتل : كان المسلم يلقى حليفه ، أو أخاه من الرضاعة من اليهود ، فيسأله : أتجدون محمداً في كتابكم؟ فيقولون : نعم ، إنه لحق . فسمع كعب بن الأشرف وغيره ، فقال لليهود في السر : أتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم ، أَي : بما بين لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي ، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم؟!
قوله تعالى : { عند ربكم } فيه قولان . أحدهما : أنه بمعنى : في حكم ربكم ، كقوله . تعالى : { فأولئك عند الله هم الكاذبون } [ النور : 13 ] . والثاني : أَنه أراد يوم القيامة .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
قوله تعالى : { ومنهم أُمِّيُّون } يعنى : اليهود . والأمي : الذي لا يكتب ولا يقرأ ، قاله مجاهد . وفي تسميته بالأمي قولان . أحدهما : لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب ، فهو على جبلته ، قاله الزجاج . والثاني : أنه ينسب إلى أمه ، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء . وقيل : لأنه على ما ولدته أمه .
قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب } قال قتادة : لا يدرون ما فيه .
قوله تعالى : { إِلا أمانيَّ } جمهور القراء على تشديد الياء ، وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، بتخفيف الياء ، وكذلك : { تلك أمانيهم } [ البقرة : 111 ] و { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } [ النساء : 123 ] { في أمنيته } [ الحج : 52 ] { وغرتكم الأماني } [ الحديد : 14 ] كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم» . ولا خلاف في فتح ياء «الأماني» .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الأكاذيب . قال ابن عباس : إلا أمانيَّ : يريد إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً . وهذا قول مجاهد واختيار الفراء . وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدث : أهذا شيء رويته ، أم شيء تمنّيته؟ يريد : افتعلته؟ .
والثاني : أن الأماني : التلاوة ، فمعناه : لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم . قال الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنيَ داود الزبور على رسل
وهذا قول الكسائي والزجاج .
والثالث : أنها أمانيهم على الله ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وإِن هم إِلا يظنون } قال مقاتل : ليسوا على يقين ، فان كذب الرؤساء أو صدقوا ، تابعوهم .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
هذا الآية نزلت في أهل الكتاب [ الذين ] بدلوا التوراة وغيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيها . وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان . فأما الويل : فروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ويل : واد في جهنم ، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " وقال الزجاج : الويل : كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة ، ويستعملها هو أيضاً . وأصلها في اللغة : العذاب والهلاك . قال ابن الأنباري : ويقال : معنى الويل : المشقة من العذاب . ويقال : أصله : وي لفلان ، أي : حزن لفلان ، فكثر الاستعمال للحرفين ، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفاً واحداً ، ثم خبر عن «ويل» بلام أُخرى ، وهذا اختيار الفراء . والكتاب هاهنا : التوراة . وذكر الأيدي توكيد ، والثمن القليل : ما يفنى من الدنيا .
وفيما يكسبون قولان . أحدهما : أنه عوض ما كتبوا . والثاني : إثم ما فعلوا .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
قوله تعالى : { وقالوا لن تمسنا النار إِِلا أياماً معدودة } وهم : اليهود . وفيما عنوا بهذه الأيام قولان .
أحدهما : أنهم أرادوا أربعين يوماً ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وقتادة ، والسدي .
ولماذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا : بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم ، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم قالوا : عتب علينا ربنا في أمر ، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة ، ثم يدخلنا الجنة ، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم ، وهذا قول الحسن وأبي العالية .
والثالث : أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، قاله مقاتل .
والقول الثاني : أن الأيام المعدودة سبعة أيام ، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة ، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا ، ثم ينقطع العذاب ، قاله ابن عباس .
{ قل أتخذتم عند الله عهداً } أي : عهد إِليكم أنه لايعذبكم إِلا هذا المقدار؟!
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
قوله تعالى : { بلى من كسَب سيئة } : بلى : بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النفي ، و «نعم» جواب الإيجاب ، قال الفراء : إذا قال الرجل لصاحبه : مالك عليَّ شيء ، فقال الآخر : نعم ، كان تصديقاً أن لا شيء له عليه . ولو قال : بلى؛ كان رداً لقوله . قال ابن الأنباري : وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد ، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق ، فهي بمنزلة «بل» . و «بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد ، كقولهم : ما قام أخوك ، بل أبوك . وإذا قال الرجل للرجل : ألا تقوم؟ فقال له : بلى؛ أراد : بل أقوم ، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها ، لأنه لو قال : بل؛ كان يتوقع كلاماً بعد بل؛ فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب .
ومعنى : { بلى من كسب سيئة } : بل من كسب . قال الزجاج : بلى رد لقولهم : { لن تمسنا النار إِلا أياماً معدودة } والسيئة هاهنا : الشرك في قول ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي وائل ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل .
{ وأحاطت به } أي : أحدقت به خطيئته . وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع . قال عكرمة : مات ولم يتب منها ، وقال أبو وائل : الخطيئة : صفة للشرك . قال أبو علي : إما أن يكون المعنى : أحاطت بحسنته خطيئته ، أي : أحبطتها ، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به ، فيكون كقوله تعالى : { وإِن جهنم لمحيطة بالكافرين } [ التوبة : 49 ] وقوله { أحاط بهم سرادقها } [ الكهف : 29 ] أو يكون معنى أحاطت به أهلكته : كقوله : { إلا أن يحاط بكم } [ يوسف 66 ] .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قوله تعالى : { وإِذ أخذنا ميثاق بني إِسرائيل } هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة .
قوله تعالى : { لا تعبدون } قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر : بالتاء على الخطاب لهم . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : بالياء على الإخبار عنهم .
قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } أي : ووصيناهم بآبائهم وأمهاتهم خيراً ، قال الفراء . والعرب تقول : أوصيك به خيراً وآمرك به خيراً والمعنى : آمرك أن تفعل به ، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر . قال الشاعر :
عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيراً بها كأننا جافونا ... وأما الإحسان إلى الوالدين؛ فهو برهما . قال ابن عباس : لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار . وقالت عائشة : ما بر والده من شدَّ النظر إليه . وقال عروة : لا تمتنع عن شيء أحبَّاه .
قوله تعالى : { وذي القربى } أي : ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم . وأما اليتامى؛ فجمع : يتيم . قال الأصمعي : اليتم في الناس ، من قبل الأب ، وفي غير الناس : من قبل الأم . قال ابن الأنباري : قال ثعلب : اليتم معناه في كلام العرب : الانفراد . فمعنى صبي يتيم : منفرد عن أبيه . وأنشدنا :
أفاطم إِني هالك فتبيَّني ... ولا تجزعي كلُّ النساء يتيم
قال : يروى : يتيم ويئيم . فمن روى يتيم بالتاء؛ أراد : كل النساء ضعيف منفرد . ومن روى بالياء أراد : كل النساء يموت عنهن أزواجهن . وقال : أنشدنا ابن الأعرابي :
ثلاثة أحباب : فحب علاقة ... وحب تِملاَّق وحبُّ هو القتل
قال : فقلنا له : زدنا ، فقال : البيت يتيم : أي : منفرد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : إذا بلغ الصبي ، زال عنه اسمه اليتم . يقال منه : يتم ييتم يُتما وَيَتما . وجمع اليتيم : يتامى ، وأيتام . وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة . قال : وقيل : أصل اليتم : الغفلة ، وبه سمي اليتيم ، لأنه يتغافل عن بره . والمرأة تدعى : يتيمة مالم تزوج ، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم ، وقيل : لا يزول عنها اسم اليتم أبداً . وقال أبو عمرو اليتم : الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ، لأن البر يبطئ عنه . «والمساكين» : جمع مسكين ، وهو اسم مأخوذ من السكون ، كأن المسكين قد أسكنه الفقر .
قوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر { حُسنا } : بضم الحاء والتخفيف ، وقرأ حمزة والكسائي : { حَسَناً } بفتح الحاء والتثقيل . قال أبو علي : من قرأ «حُسْناً» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن ، كالبُخْل ، والبَخَل ، والرُشد والرشَد . وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم ، ألا تراهم قالوا : العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدراً كالكفر والشكر والشغل ، وحذف المضاف معه ، كأنه قال : قولوا قولاً ذا حسن . ومن قرأ { حَسَناً } جعله صفة ، والتقدير عنده : قولوا للناس قولاً حسناً ، فحذف الموصوف .
واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وابن جريج . ومعناه : اصدقوا وبينوا صفة النبي .
والثاني : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو العالية : قولوا للناس معروفاً ، وقال محمد بن علي بن الحسين : كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم . وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام . فعلى هذا؛ تكون منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : { ثم توليتم } أي : أعرضتم إلا قليلاً منكم . وفيهم قولان . أحدهما : أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا . والثاني : أنهم الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في زمانه
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قوله تعالى : { وإِذ أخذنا ميثاقكم لا تَسفكون دماءكم } أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، ولا يخرج بعضكم بعضاً من داره . قال ابن عباس : ثم أقررتم يومئذ بالعهد ، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك ، فالإِقرار على هذا متوجه إِلى سلفهم ، والشهادة متوجهة إِلى خلفهم . { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } أي : يقتل بعضكم بعضاً . روى السدي عن أشياخه قال : كانت قريظة خلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقاتلون في حرب سمير فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها ، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ، فيغلبونهم ويخربون الديار ويخرجون منها ، فاذا أسر الرجل من الفريقين كليهما ، جمعوا له حتى يفدوه ، فتعيِّرهم العرب بذلك ، فتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتلهم . فتقول العرب : فلم تقاتلونهم؟ فيقولون : نستحيي أن يستذل حلفاؤنا ، فعيرهم الله ، عز وجل ، فقال : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم } إِلى قوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } فكان إِيمانهم ببعضه : فداءهم الأسارى ، وكفرهم : قتل بعضهم بعضاً .
قوله تعالى : { تظاهرون } : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : { تظاهرون } وفي ( التحريم ) { تظاهرا } بتخفيف الظاء ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو وابن عامر بتشديد الظاء مع إثبات الألف . قال أبو علي : من قرأ { تظّاهرون } بتشديد الظاء؛ أدغم التاء في الظاء ، لمقاربتها لها ، فخفف بالإدغام . ومن قرأ { تظاهرون } خفيفة؛ حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ ، فخفف بالحذف . والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم . وروي عن الحسن وأبي جعفر { تظَّهرون } بتشديد الظاء من غير ألف ، فالتظاهر : التعاون . قال ابن قتيبة : وأصله من الظهر ، فكأن التظاهر : أن يجعل كل واحد من الرجلين [ أو من القوم ] الآخر ظهراً له يتقوى به ، ويستند إِليه . قال مقاتل : والإثم : المعصية ، والعدوان : الظلم .
قوله تعالى : { وإِن يأتوكم أُسارى تُفادوهم } أصل الأسر : الشد . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أُسارى } وقرأ الأعمش وحمزة { أسرى } قال الفراء : أهل الحجاز يجمعون الأسير«أَسارى» وأهل نجد أكثر كلامهم «أَسرى» وهو أجود الوجهين في العربية ، لأنه بمنزلة قولهم : جريح وجرحى ، وصريع وصرعى . وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال : الأسارى : ما شدوا ، والأسرى : في أيديهم ، إلا أَنهم لم يشدوا . وقال الزجاج : «فَعْلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم . يقال : هالك وهلكى ، ومريض ومرضى ، وأحمق وحمقى ، وسكران وسكرى . فمن قرأ : { أسارى } ؛ فهي جمع الجمع . تقول : أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى .
قوله تعالى : { تفادوهم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وابن عامر : { تفدوهم } وقرأ نافع وعاصم والكسائي : { تفادوهم } بألف . والمفاداة : إِعطاء شيء ، وأخذ شيء مكانه .
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } وهو : فكاك الأسرى . { وتكفرون ببعض } وهو : الإخراج والقتل . وقال مجاهد : تفديه في يد ، غيرك ، وتقتله أنت بيدك؟! .
وفي المراد بالخزي قولان . أحدهما : أنه الجزية ، قاله ابن عباس . والثاني : قتل قريظة ونفي النضير ، قاله مقاتل
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } قال ابن عباس : هم اليهود . وقال مقاتل : باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } يريد التوراة . وقفَّينا : أتبعنا . قال ابن قتيبة : وهو مأخوذ من القفا . يقال : قفوت الرجل : إذا سرت في أثره . والبينات : الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى . وأيدناه : قويناه والأيد : القوة .
وفي روح القدس ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه جبريل . والقدس : الطهارة ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك والسدي في آخرين . وكان ابن كثير يقرأ : { بروح القدْس } ساكنة الدال . قال أبو علي : التخفيف والتثقيل فيه حسنان ، نحو : العنْق والعنُق ، والطنْب والطُنُب .
وفي تأييده به ثلاثة أقوال ، ذكرها الزجاج . أحدها : أنه أيَّد به لإظهار حجته وأمر دينه . والثاني : لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله . والثالث : أنه أيد به في جميع أحواله .
والقول الثاني : أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه الإنجيل ، قاله ابن زيد .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى : { وقالوا قلوبنا غلف } قرأ الجمهور بإسكان اللام ، وقرأ قوم ، منهم الحسن وابن محيصن بضمها . قال الزجاج . من قرأ : { غلف } بتسكين اللام ، فمعناه : ذوات غلف ، فكأنهم قالوا : قلوبنا في أوعية . ومن قرأ { غلُف } بضم اللام ، فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا : قلوبنا أوعية للعلم ، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم؟! فعلى الأول؛ يقصدون إعراضه عنهم ، كأنهم يقولون ما نفهم شيئاً . وعلى الثاني يقولون : لو كان قولك حقاً لقبلته قلوبنا .
قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } فيه خمسة أقوال .
أحدها : فقليل من يؤمن منهم ، قاله ابن عباس وقتادة . والثاني : أن المعنى : قليل ما يؤمنون به . قال معمر : يؤمنون بقليل مما في أيديهم ، ويكفرون بأكثره . والثالث : أن المعنى : فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً . ذكره ابن الأنباري . وقال : هذا على لغة قوم من العرب ، يقولون : قلما رأيت مثل هذا الرجل ، وهم يريدون : ما رأيت مثله . والرابع : فيؤمنون قليلاً من الزمان : كقوله تعالى : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } . ذكره ابن الأنباري أيضا . والخامس : أن المعنى : فإيمانهم قليل ، ذكره ابن جرير الطبري . وحكى في «ما» قولين . أحدهما : أنها زائدة . والثاني : أن «ما» تجمع جميع الأشياء ، ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قوله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند الله } يعني : القرآن ، و«يستفتحون» يستنصرون . وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبي الله ، محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { بئس ما اشتروا به أنفسهم } بئس : كلمة مستوفية لجميع الذم ، ونقيضها : «نعم» واشتروا ، بمعنى : باعوا . والذي باعوها به قليل من الدنيا .
قوله تعالى : { بغياً } قال قتادة : حسداً . ومعنى الكلام : كفروا بغياً ، لأَنْ نزَّل الله الفضل على النبي ، صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله تعالى { بغضب على غضب } خمسة أقوال . أحدها : أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل . والثاني : لكفرهم بمحمد ، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس . والثاني : أن الأول لتكذيبهم رسول الله . والثاني : لعداوتهم لجبريل . رواه شهر عن ابن عباس . والثالث : أن الأول حين قالوا : { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] . والثاني : حين كذّبوا نبي الله . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء . والرابع : أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل . والثاني : لتكذيبهم بمحمد والقرآن . قاله الحسن ، والشعبي ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل . والخامس : أن الأول لتبديلهم التوراة . والثاني : لتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد . والمهين : المذل .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } يعني : القرآن؛ { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعنون : التوراة .
وفي قوله : { ويكفرون بما وراءه } قولان . أحدهما : أنه أراد بما سواه . ومثله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] قاله الفراء ومقاتل . والثاني : بما بعد الذي أنزل عليهم . قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وهو الحق } يعود على ما وراءه .
{ فلم تقتلون أنبياء الله } هذا جواب قولهم : { نؤمن بما أُنزل علينا } فان الأنبياء ، وتقتلون بمعنى : قتلتم ، فوضع المستقبل في موضع الماضي ، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره . وأنشدوا في ذلك :
شهدَ الحطيئةُ حين يلقى رَبَّه ... أنَ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ
أراد : يشهد .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قوله تعالى : { ولقد جاءكم موسى بالبينات } فيها قولان . أحدهما : ما في الألواح من الحلال والحرام ، قاله ابن عباس . والثاني : الآيات التسع ، قاله مقاتل .
وفي هاء «بعده» قولان . أحدهما : أنها تعود إلى موسى ، فمعناه : من بعد انطلاقه إلى الجبل ، قاله ابن عباس ومقاتل . والثاني : أنها تعود إلى المجيء ، لأن «جاءكم» يدل على المجيء . وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم : { نؤمن بما أنزل علينا }
قوله تعالى : { قالوا سمعنا وعصينا } قال ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وإذا نظروا إلى الكتاب؛ قالوا : سمعنا وعصينا .
قوله تعالى : { وأُشربوا في قلوبهم العجلَ } أي : سقوا حب العجل ، فحذف المضاف ، وهو الحب ، وأقام المضاف إليه مقامه ، ومثله قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] [ أي وقت الحج ] وقوله : { أجعلتم سقاية الحاج } [ التوبة : 19 ] [ أي : أجعلتم صاحب سقاية الحاج ] . وقوله : { واسئلوا القرية } [ يوسف : 82 ] [ أي أهلها ] وقوله : { إذاً لأذقناك ضعف الحياة } [ الإسراء : 75 ] أي ، ضعف عذاب الحياة . وقوله : { لهدّمت صوامع وبيع وصلوات } [ الحج : 40 ] أي : بيوت صلوات . وقوله : { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : 30 ] أي : مكركم فيهما . وقوله : { فليدع ناديه } [ العلق : 17 ] أي : أهله .
ومن هذا قول الشاعر :
أُنبئت أن النار بعدك أُوقدت ... واستبَّ بعدك يا كليب المجلس
أي : أهل المجلس . وقال الآخر :
وشر المنايا ميِّت بين أهله ... أي : وشر المنايا منية ميت بين أهله .
قوله تعالى : { قل بئْسما يأمركم به إِيمانكم } أي : أن تكذّبوا المرسلين ، وتقتلوا النبيين بغير حق ، وتكتموا الهدى .
قوله تعالى : { إِن كنتم مؤمنين } في «إِن» قولان . أحدهما : أنها بمعنى : الجحد ، فالمعنى : ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله ، وعبدتم العجل . والثاني : أن تكون «إِن» شرطاً معلقاً بما قبله ، فالمعنى : إن كنتم مؤمنين؛ فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل ، وقتل الأنبياء ، ذكرهما ابن الأنباري .
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى : { قل إِن كانت لكم الدار الآخرة } كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده ، فنزلت هذه الآية . ومن الدليل على علمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق ، أنهم ما تمنوا الموت ، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى : { ولن يتمنوه } فما تمناه أحد منهم . والذي قدمته أيديهم : قتل الأنبياء وتكذيبهم ، وتبديل التوراة .
قوله تعالى : { ولتجدنّهم } اللام : لام القسم ، والنون توكيد له ، والمعنى : ولتجدنَّ اليهود في حال دعائهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة ، وأحرص من الذين أشركوا . وفي «الذين أشركوا» قولان . أحدهما : أنهم : المجوس ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة والزجاج . والثاني : مشركو العرب ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { يود أَحدهم } في الهاء والميم من «أحدهم» قولان . أحدهما : أنها تعود على الذين أشركوا ، قاله الفراء . والثاني : ترجع إلى اليهود ، قال مقاتل ، قال الزجاج : وإنما ذكر «أَلف سنة» لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها ، كان الملك يحيّا بأن يقال له : عش ألف نيروز ، وألف مهرجان .
قوله تعالى : «وما هو» فيه قولان ذكرهما الزجاج ، أحدهما : أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره ، تقديره : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره . والثاني : أن يكون هو كناية عما جرى من التعمير ، فيكون المعنى : وما تعميره بمزحزحه من العذاب ، ثم جعل «أن يعمّر» مبيناً عنه ، كأنه قال : ذلك الشيء الدنيء ليس بمزحزحه من العذاب .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
قوله تعالى : { قل من كان عدواً لجبريل } قال ابن عباس : أقبلت اليهود إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم فقالوا : من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبريل : فقالوا : ذاك ينزل بالحرب والقتال ، ذاك عدونا ، فنزلت هذه الآية والتي تليها .
وفي جبريل إحدى عشرة لغة .
إحداها : جبريل ، بكسر الجيم والراء من غير همز ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو . قال ورقة بن نوفل :
وجبريل يأتيه وميكال معْهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
وقال عمران بن حطان :
والروح جبريل فيهم لا كفاء له ... وكان جبريل عند الله مأمونا
وقال حسان :
و جبريلٌ رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
واللغة الثانية : جَبريل بفتح الجيم وكسر الراء ، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن : فَعليل ، وبها قرأ الحسن البصري ، وابن كثير ، وابن محيصن . وقال الفراء : لا أشتهيها ، لأنه ليس في الكلام فَعليل ، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب ، لأنه اسم أعجمي .
والثالثة : جَبرئيل : بفتح الجيم والراء ، وبعدها همزة مكسورة على وزن : جَبرعيل ، وبها قرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، قال الفراء : وهي لغة تميم وقيس ، وكثير من أهل نجد . وقال الزجاج : هي أجود اللغات ، وقال جرير :
عبدوا الصليب وكذّبوا بمحمدٍ ... وبجبرئيل وكذَّبوا ميكالا .
والرابعة : جَبرئِل ، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام ، مكسورة من غير مد ، على وزن جَبرعِل ، رواها أبو بكر عن عاصم .
والخامسة : جَبرئِلّ ، بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام ، وهى قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر .
والسادسة : جبرائيل ، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف .
والسابعة : جبراييل ، بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة .
والثامنة : جَبرين ، بفتح الجيم ونون مكان اللام .
والتاسعة : جِبرين ، بكسر الجيم وبنون ، قال الفراء : هي لغة بني أسد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الأنباري قال : في جبريل تسع لغات ، فذكرهنَّ .
وذكر ابن الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان» : جبرائل ، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء . وجبرئين ، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها يا ونون .
فأما ميكائيل ، ففيه خمس لغات .
إحداهن : ميكال مثل : مِفعال بغير همز ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم .
والثانية : ميكائيل باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة . مثل : ميكاعيل ، وهي لغة تميم وقيس ، وكثير من أهل نجد ، وبها قرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم .
والثالثة : ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء مثل ، ميكاعِل ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ ، وابن الصباح ، جميعاً عن قنبل .
والرابعة : ميكئل ، على وزن ميكعل ، وبها قرأ ابن محيصن .
والخامسة : ميكائين بهمزة معها ياء ونون بعد الألف ، ذكرها ابن الأنباري . قال الكسائي : جبريل وميكائيل ، اسمان لم تكن العرب تعرفهما ، فلما جاءا عرَّبتهما . قال ابن عباس ، جبريل وميكائيل ، كقولك : عبد الله ، وعبد الرحمن ، ذهب إلى أن «إِيل» اسم الله ، واسم الملك «جبر» «وميكا» وقال عكرمة : معنى جبريل : عبد الله ، ومعنى ميكائيل : عبيد الله . وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة ، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما ، كقوله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [ الرحمن : 68 ] وإنما قال : { فان الله عدو للكافرين } ولم يقل : لهم ، ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله تعالى : { أو كلما عاهدوا عهداً } الواو واو العطف ، أُدخلت عليها ألف الاستفهام . قال ابن عباس ومجاهد : والمشار اليهم : اليهود . وقيل : العهد الذي عاهدوه ، أنهم قالوا : والله لئن خرج محمد لنؤمننَّ به ، وروي عن عطاء أنها العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم ، فنقضوها ، كفعل قريظة والنضير . ومعنى نبذه : رفضه .
قوله تعالى : { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود . والكتاب : التوراة . وفي قوله تعالى : { كتابَ الله } قولان . أحدهما : القرآن . والثاني : أنه التوراة ، لأن الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم قد نبذوا التوراة .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين }
في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم ، فسألوه عن السحر وخاصموه به ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية . والثاني : أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة : ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟! والله ما كان إلا ساحراً ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن اسحاق .
وتتلوا ، بمعنى : تلت ، و «على» بمعنى : «في» قاله المبرد . قال الزجاج : وقوله : { على ملك سليمان } أي : على عهد ملك سليمان .
وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال .
أحدها : أنه لما خرج سليمان عن ملكه؛ كتبت الشياطين السحر ، ودفنته في مصلاه ، فلما توفي استخرجوه ، وقالوا : بهذا كان يملك الملك ، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل .
والثاني : أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان ، ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان ، استخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكذباً ، وأضافوه إلى سليمان ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان ، ثم أضافته إليه ، قاله عكرمة .
والرابع : أن الشياطين ابتدعت السحر ، فأخذه سليمان ، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس ، فلما قبض استخرجته ، فعلمته الناس وقالوا : هذا علم سليمان ، قاله قتادة .
والخامس : أن سليمان أخذ عهود الدواب ، فكانت الدابة إذا أصابت إنساناً طلب إليها بذلك العهد ، فتخلّي عنه ، فزاد السحرة السجع والسحر ، قاله أبو مجلز .
والسادس : أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع ، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس ، فيجدونه كما قالوا ، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم [ وأدخلوا فيه غيره ] ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق [ وقال : لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه ] ، فلما مات سليمان؛ جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل ، فدلهم على تلك الكتب وقال : إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ، ففشا في الناس أن سليمان كان ساحراً ، واتخذ بنوا إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد ، صلى الله عليه وسلم ، خاصموه بها ، هذا قول السدي .
وسليمان : اسم عبراني ، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية ، وقد جعله النابغة سليماً ضرورة ، فقال : ونسج سليم كل قضّاء ذائل .
واضطر الحطيئة فجعله : سلاَّماً فقال :
فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم
وأرادا جميعاً : داود أبا سليمان ، فلم يستقم لهما الشعر ، فجعلاه : سليمان وغيّراه . كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي . وفي قوله : { وما كفر سليمان } دليل على كفر الساحر ، لأنهم نسبوا إلى السحر ، لا إلى الكفر .
قوله تعالى : { ولكنّ الشياطين كفروا }
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم بتشديد نون { ولكنّ } ونصب نون { الشياطين } . وقرأ ابن عامر و حمزة والكسائي بتخفيف النون من { لكنْ } ورفع نون { الشياطين } .
قوله تعالى : { وما أُنزل على الملكين } وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير والزهري { الملِكين } بكسر اللام ، وقراءة الجمهور أصح .
وفي «ما» قولان . أحدهما : أنها معطوفة على «ما» الأولى ، فتقديره : واتبعوا ما تتلوا الشياطين وما أُنزل على الملكين . والثاني : أنها معطوفة على السحر ، فتقديره : يعلّمون الناس السحر ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين . فإن قيل : إذا كان السحر نزل على الملكين ، فلما ذاكره؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما ، ابن السري ، أحدهما : أنهما كانا يعلمان الناس : ما السحر ، ويأمران باجتنابه ، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو قال : ما الزنى؟ لوجب أن يوقف عليه ، ويعلم أنه حرام . والثاني : أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين ، فمن قبل التعلم كان كافراً ، ومن لم يقبله فهو مؤمن ، كما امتحن بنهر طالوت .
وفي الذي أنزل على الملكين قولان . أحدهما : أنه السحر ، روي عن ابن مسعود والحسن ، وابن زيد . والثاني : أنه التفرقة بين المرء وزوجه ، لا السحر ، روي عن مجاهد وقتادة ، وعن ابن عباس كالقولين . قال الزجاج : وهذا من باب السحر أيضاً .
الإشارة إلى قصة الملكين
ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب ، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم؛ دعت عليهم الملائكة ، فقال الله تعالى : لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم ، لفعلتم مثل ما فعلوا ، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا ، اعتصموا ، فأوحى الله إليهم [ أن ] اختاروا من أفضلكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عباس .
واختلف العلماء : ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال . أحدها : أنهما زنيا ، وقتلا ، وشربا الخمرة ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهما جارا في الحكم ، قاله عبيد الله بن عتبة . والثالث : أنهما هما بالمعصية فقط . ونقل عن علي ، رضي الله عنه ، أن الزهرة كانت امرأة جميلة ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراودها كل واحد منهما على نفسها ، ولم يُعلم صاحبه ، وكانا يصعدان السماء آخر النهار ، فقالت لهما : بم تهبطان وتصعدان؟ قالا : باسم الله الأعظم ، فقالت : ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه ، فعلماها إياه ، فطارت إلى السماء ، فمسخها الله كوكباً .
وفي الحديث أن النبي ، صلى الله عليه وسلم
« لعن الزهرة ، وقال : إنها فتنت ملَكين » إلا أن هذه الأشياء بعيدة عن الصحة وتأول بعضهم ، هذا فقال : إنه لما رأى الكوكب ، ذكر تلك المرأة ، لا أن المرأة مسخت نجماً .
واختلف العلماء في كيفية عذابهما؛ فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد : إن جباً ملىء ناراً فجعلا فيه .
فأما بابل؛ فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها . واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها : الكوفة وسوادها ، قاله ابن مسعود . والثاني : أنها من نصيبين إلى رأس العين ، قاله قتادة . والثالث : أنها جبل في وهدة من الأرض ، قاله السدي .
قوله تعالى : { إنما نحن فتنة } أي : اختبار وابتلاء .
قوله تعالى : { إِلا بإذن الله } يريد : بقضائه . { ولقد علموا } : إشارة إلى اليهود { لَمن اشتراه } ، يعني : اختاره ، يريد : السحر . واللام لام اليمين . فأما الخلاق؛ فقال الزجاج : هو النصيب الوافر من الخير .
قوله تعالى : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } أي : باعوها به { لو كانوا يعلمون } العقاب فيه .
فصل
اختلف الفقهاء في حكم الساحر؛ فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه يكفر بسحره ، قتل به ، أو لم يقتل ، وهل تقبل توبته؟ على روايتين . وقال الشافعي : لا يكفر بسحره ، فان قتل بسحره وقال : سحري يقتل مثله ، وتعمدت ذلك قتل قوداً . وإن قال : قد يقتل ، وقد يخطيء ، لم يقتل ، وفيه الدية . فأما ساحر أهل الكتاب ، فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين ، فيقتل لنقض العهد ، وسواء في ذلك الرجل والمرأة . وقال أبو حنيفة : حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في إيجاب القتل ، فأما المرأة الساحرة ، فقال : تحبس ، ولا تقتل .
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
قوله تعالى : { ولو أنهم آمنوا } يعني : اليهود ، والمثوبة : الثواب { لو كانوا يعلمون } قال الزجاج : أي : يعلمون بعلمهم .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } قرأ الجمهور بلا تنوين ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن محيصن بالتنوين ، «وراعنا» بلا تنوين من راعيت ، وبالتنوين من الرعونة ، قال ابن قتيبة : راعناً بالتنوين : هو اسم مأخوذ من [ الرعن و ] الرعونة ، أراد : لا تقولوا جهلاً ولا حمقاً . وقال غيره : كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه ، قال أرعني سمعك ، فكان المنافقون يقولون : راعنا ، يريدون : أنت أرعن . وقوله : { انظرنا } بمعنى : انتظرنا ، وقال مجاهد : انظرنا : اسمع منا ، وقال ابن زيد : لا تعجل علينا .
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قوله تعالى : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } .
قال ابن عباس : هم يهود المدينة ، ونصارى نجران ، فالمشركون مشركو أهل مكة . { أن ينزل عليكم } أي : على رسولكم . { من خير من ربكم } أراد : النبوة والإسلام . وقال أبو سليمان الدمشقي : أراد بالخير : العلم والفقه والحكمة .
{ والله يختص برحمته من يشاء }
في هذه الرحمة قولان . أحدهما : أنها النبوة ، قاله علي بن أبي طالب ، ومحمد بن علي بن الحسين ، ومجاهد والزجاج . والثاني : أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ومقاتل .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قوله تعالى : { ما ننسخ من آية }
سبب نزولها : أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمداً يحل لأصحابه إذا شاء ، ويحرم عليهم إذا شاء؛ فنزلت هذه الآية .
قال الزجاج : النسخ في اللغة : إبطال شيءٍ وإقامة آخر مقامه ، تقول العرب : نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته ، وحلت محله ، وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال .
أحدها : رفع اللفظ والحكم . والثاني : تبديل الآية بغيرها ، رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي ، والثاني قول مقاتل . والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود ، وبه قال أبو العالية ، وقرأ ابن عامر : { ما ننسخ } بضم النون ، وكسر السين . قال أبو علي : أي : ما نجده منسوخاً كقولك : أحمدت فلاناً ، أي : وجدته محموداً ، وإنما يجده منسوخاً بنسخه إياه .
قوله تعالى : { أَو ننسها } قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { ننسأها } بفتح النون مع الهمزة ، والمعنى : نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض ، فأنا أنسأها : إذا أخرتها ، ومنه : النسيئة في البيع . وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال . أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها ، قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها ، فلا ننزلها البتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها ، حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص : { تنسها } بتاء مفتوحة ونون . وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك : { تنسها } بضم التاء ، وقرأ نافع : { أو ننسها } بنونين ، الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة . أراد : أو ننسكها ، من النسيان .
قوله تعالى : { نأت بخير منها } قال ابن عباس : بألين منها ، وأيسر على الناس .
قوله تعالى : { أو مثلها } أي : في الثواب والمنفعة ، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . { ألم تعلم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التوقيف والتقرير . والملك في اللغة : تمام القدرة واستحكامها ، فالله عز وجل يحكم بما يشاء على عباده ، وبغير ما يشاء من أحكام .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
قوله تعالى : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم }
في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد ، قالا لرسول الله : ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا ، وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك ، فنزلت الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن قريشاً سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، فقال : «هو لكم كالمائدة لبني إِسرائيل [ إن كفرتم ] فأبوا» قاله مجاهد .
والثالث : أن رجلاً قال : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا نبغيها ، ما أعطاكم الله ، خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة؛ وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فان كفرها كانت له خزياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة ، فقد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل " فقال : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 110 ] وقال : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن " فنزلت هذه الآية . قاله أبو العالية .
والرابع : أن عبد الله بن أبي أمية المخزومي أتى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في رهط من قريش ، فقال : يا محمد : والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً ، فنزلت هذه الآية . ذكره ابن السائب .
والخامس : أن جماعة من المشركين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . وقال آخر : لن أؤمن لك حتى تسير لنا جبال مكة ، وقال عبد الله بن أبي أمية : لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء ، فيه : من الله رب العالمين إلى ابن أبي أمية : اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس . وقال آخر : هلا جئت بكتابك مجتمعاً ، كما جاء موسى بالتوراة . فنزلت هذه الآية . ذكره محمد بن القاسم الأنباري .
وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قريش ، قاله ابن عباس ومجاهد . والثاني اليهود ، قاله مقاتل . والثالث : جميع العرب ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي «أم» قولان .
أحدهما : أنها بمعنى : بل تقول العرب : هل لك عليَّ حق ، أم أنت معروف بالظلم . يريدون : بل أنت . وأنشدوا :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح
ذكره الفراء والزجاج .
والثاني : بمعنى الاستفهام . فان اعترض معترض ، فقال : إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها ، فأين الاستفهام الذي تقدمها؟ فعنه جوابان . أحدهما : أنه قد تقدمها استفهام ، وهو قوله { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ذكره الفراء . وكذلك قال ابن الأنباري : هي مردودة على الألف في : { ألم تعلم } فإن اعترض على هذا الجواب ، فقيل : كيف يصح العطف ولفظ : { ألم تعلم } ينبىء عن الواحد ، و { تريدون } عن جماعة؟ فالجواب : أنه إنما رجع الخطاب من التوحيد إلى الجمع ، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد خوطبت به أمته ، فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى ، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية .
ومثل هذا قوله تعالى : { يا أيها النبي إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] . ذكر هذا الجواب ابن الأنباري . فأما الجواب الثاني عن { أم } ؛ فهو أنها للاستفهام ، وليست مردودة على شيء . قال الفراء : إذا توسط الاستفهام الكلام؛ ابتدىء بالألف وبأم ، وإذا لم يسبقه كلام؛ لم يكن إلا بالألف أو ب «هل» . وقال ابن الأنباري : «أم» جارية مجرى «هل» ، غير أن الفرق بينهما : أن «هل» استفهام مبتدأ ، لا يتوسط ولا يتأخر ، و «أم» : استفهام متوسط ، لا يكون إلا بعد كلام .
فأما الرسول هاهنا؛ فهو : محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي سئل موسى من قبل قولهم : { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] . وهل سألوا ذلك نبياً أم لا؟ فيه قولان . أحدهما : أنهم سألوا ذلك ، فقالوا { لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً } [ الإسراء : 92 ] . قاله ابن عباس والثاني : أنهم بالغوا في المسائل ، فقيل لهم بهذه الآية : لعلكم تريدون أن تسألوا محمداً أن يريكم الله جهرة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والكفر : الجحود ، والإيمان : التصديق . وقال أبو العالية : المعنى : ومن يتبدل الشدة بالرخاء . وسواء السبيل : وسطه .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب }
في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن حيي بن أخطب ، وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني : أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي ، ويحرض عليه كفار قريش في شعره ، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله حين قدمها ، فأمر النبي بالصفح عنهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله عبد الله بن كعب بن مالك . والثالث : أن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم ، فأبيا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
ومعنى «ود» : أحب وتمنى . وأهل الكتاب : اليهود . قال الزجاج : من عند أنفسهم موصول : ب { ود كثير } ، لا بقوله : { حسداً } لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه . والمعنى : مودتهم لكفركم من عند أنفسهم ، لا أنه عندهم الحق . فأما الحسد ، فهو تمني زوال النعمة عن المحسود ، وإن لم يصر للحاسد مثلها ، وتفارقه الغبطة ، فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط . وحد بعضهم الحسد فقال : هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار ، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً ، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل . وقال بعض الحكماء : كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد ، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك . وقال الأصمعي : سمعت أعرابياً ، يقول : ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد ، حزن لازم ، ونفس دائم ، وعقل هائم ، وحسرة لا تنقضي .
قوله تعالى : { حتى يأتيَ الله بأمره } قال ابن عباس : فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي ، وفي قريظة بالقتل والسبي .
فصل
وقد روي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي العالية ، وقتادة ، رضي الله عنهم : أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يُحرِّمون ما حرم الله ورسوله } [ التوبة : 29 ] . وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء ، واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً ، وإنما أمر به إلى غاية ، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها ، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته ، والآخر يحتاج إلى حكم آخر .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قوله تعالى : { تجدوه } أي : تجدوا ثوابه .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً أو نصارى }
قال ابن عباس : اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وكفروا بالإنجيل وعيسى . وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء ، وكفروا بالتوراة وموسى؛ فقال الله تعالى : { تلك أمانيهم } .
واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل ، ومعناه : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً . والهود ، جمع : هائد { تلك أَمانيهم } أي : ذاك شيء يتمنونه ، وظن يظنونه ، هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد . { قال هاتوا برهانكم } أي : حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها إلى من كان هوداً أو نصارى . ثم بين تعالى بأنه ليس كما زعموا فقال : { بلى من أسلم وجهه } وأسلم ، بمعنى : أخلص . وفي الوجه قولان . أحدهما : أنه الدين . والثاني : العمل .
قوله تعالى : { وهو محسن } أي : في عمله؛ { فله أجره } قال الزجاج : يريد : فهو يدخل الجنة .
قوله تعالى : { وهم يتلون الكتاب } أي : كل منهم يتلو كتابه بتصديق ما كفر به ، قاله السدي ، وقتادة . { كذلك قال الذين لا يعلمون } وفيهم قولان . أحدهما : أنهم مشركو العرب قالوا لمحمد وأصحابه : لستم على شيء ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : أنهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى ، كقوم نوح ، وهود ، وصالح ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { فالله يحكم بينهم يوم القيامة } قال الزجاج : يريد حكم الفصل بينهم ، فيريهم من يدخل الجنة عياناً [ ومن يدخل النار عياناً ] فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما أقام على الصواب من الحجج .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني إسرئيل قتلوا يحيى بن زكريا ، فخرب وطرحت الجيف فيه ، قاله ابن عباس في آخرين . والثاني : أنها في المشركين الذين حالوا بين رسول الله وبين مكة يوم الحديبية ، قاله ابن زيد . وفي المراد بخرابها قولان . أحدهما : أنه نقضها ، والثاني : منع ذكر الله فيها .
قوله تعالى : { أُولئك ما كان لهم أن يدخلوها إِلا خائفين } فيه قولان . أحدهما : أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك . قال السدي : لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية . والثاني : أنه خبر في معنى الأمر ، تقديره : عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها أحدٌ إلا وهو خائف .
{ لهم في الدنيا خزي } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن خزيهم الجزية ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه فتح القسطنطينية ، قاله السدي . والثالث : أنه طردهم عن المسجد الحرام ، فلا يدخله مشرك أبداً ظاهراً ، قاله ابن زيد .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب }
في نزولها أربعة أقوال . أحدها : أن الصحابة كانوا مع رسول الله في غزوة في ليلة مظلمة ، فلم يعرفوا القبلة ، فجعل كل واحد منهم مسجداً بين يديه وصلى ، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة ، فذكروا ذلك لرسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . رواه عامر بن ربيعه . والثاني : أنها نزلت في التطوع بالنافلة ، قاله ابن عمر . والثالث : أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوني استجب لكم } [ غافر : 60 ] . قالوا : إلى أين : فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد . والرابع : أنه لما مات النجاشي ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه؛ قالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة؛ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { فَثَمَّ وجهُ الله } فيه قولان . أحدهما : فثم الله ، يريد : علمه معكم أين كنتم ، وهو قول ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : فثم قبلة الله ، قاله عكرمة ، ومجاهد . والواسع : الذي وسع غناه مفاقر عباده ، ورزقه جميع خلقه . والسعة في كلام العرب : الغنى .
فصل
وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة ، وفي صلاة المتطوع على الراحلة ، والخائف . وقد ذهب قوم إلى نسخها ، فقالوا : إنها لما نزلت؛ توجه رسول الله إلى بيت المقدس ، ثم نسخ ذلك بقوله { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 144 ] . وهذا مروي عن ابن عباس . قال شيخنا علي بن عبيد الله : وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس ، وقوله { فأينما تولوا فثم وجه الله } ليس صريحاً بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ، بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها ، فإذا ثبت هذا؛ دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسنة ، ثم نسخ بالقرآن .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولداً }
اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيراً ابن الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا : عيسى ابن الله ، قاله مقاتل .
والثالث : أنها في النصارى ومشركي العرب ، لأن النصارى قالت : عيسى ابن الله ، والمشركين قالوا : الملائكة بنات الله ، ذكره إبراهيم بن السري .
والرابع : أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب ، ذكره الثعلبي .
فأما القنوت؛ فقال الزجاج : هو في اللغة بمعنيين . أحدهما : القيام . والثاني : الطاعة . والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت : الدعاء في القيام ، فالقانت القائم بأمر الله . ويجوز أن يقع في جميع الطاعات ، لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين؛ فهو قيام بالنية . وقال ابن قتيبة : لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة ، لأن جميع الخلال من الصلاة ، والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها .
وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الطاعة ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني : أنه الإقرار بالعبادة ، قاله عكرمة ، والسدي . والثالث : القيام ، قاله الحسن ، والربيع .
وفي معنى القيام قولان . أحدهما : أنه القيام له بالشهادة بالعبودية . والثاني : أنه القيام بين يديه يوم القيامة . فان قيل : كيف عمَّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟ فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن يكون ظاهرها ظاهر العموم ، ومعناها معنى الخصوص . والمعنى : كل أهل الطاعة له قانتون . والثاني : أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات ، فنسب القنوت إليهم بذلك . والثالث : أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه ، وجري أحكامه عليه ، فذلك دليل على ذله للرب . ذكرهن ابن الأنباري .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قوله تعالى : { بديع السموات }
البديع : المبدع ، وكل من أنشأ شيئاً لم يسبق إليه قيل له : أبدعت . قال الخطابي : البديع ، فعيل بمعنى : مفعل ، ومعناه : أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق .
قوله تعالى : { وإِذا قضى أمراً } قال ابن عباس : معنى القضاء : الإرادة . وقال مقاتل : إذا قضى أمراً في علمه ، فإنما يقول له : كن فيكون . والجمهور على ضم نون { فيكون } ، بالرفع على القطع . والمعنى : فهو يكون . وقرأ ابن عامر بنصب النون . قال مكي ابن أبي طالب : النصب على الجواب ، لكن فيه بعد .
فصل
وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله : { كن } فقالوا : لو كانت «كن» مخلوقة؛ لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك ، والمتسلسل محال . فان قيل : هذا خطاب لمعدوم؛ فالجواب أنه خطاب تكوين يُظهر أثر القدرة ، ويستحيل أن يكون المخاطب موجوداً ، لأنه بالخطاب كان ، فامتنع وجوده قبله أو معه . ويحقق هذا أن ما سيكون متصور للعلم ، فضاهى بذلك الموجود ، فجاز خطابه لذلك .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } فيهم ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس . والثاني : النصارى ، قاله مجاهد . والثالث : مشركو العرب ، قاله قتادة ، والسدي عن أشياخه . و { لولا } بمعنى : هلا .
وفي { الذين من قبلهم } ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله السدي عن أشياخه . والثالث : اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ، قاله قتادة .
{ تشابهت قلوبهم } أي : في الكفر .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
قوله تعالى : { إِنا أرسلناك بالحق } :
في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يوماً : « ليت شعري ما فعل أبواي! » ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا » فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
وفي المراد { بالحق } هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عباس . والثاني : الإسلام ، قاله ابن كيسان ، و الثالث : الصدق .
قوله تعالى : { ولا تسأل عن } : الأكثرون بضم التاء ، على الخبر ، والمعنى : لست بمسؤول عن أعمالهم . وقرأ نافع ، ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام ، على النهي عن السؤال عنهم . وجوز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة : لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم . فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه . فأما الجحيم؛ فقال الفراء : الجحيم : النار ، والجمر على الجمر . وقال أبو عبيدة : الجحيم : النار المستحكمة المتلظية . وقال الزجاج : الجحيم : النار الشديدة الوقود ، وقد جحم فلان النار : إذا شدد وقودها ، ويقال لعين الأسد : جحمة لشدة توقدها . ويقال لوقود الحرب ، وهو شدة القتال فيها : جاحم . وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر . قال الأعشى :
يُعدون للهيجاء قبل لقائها ... غداة احتضار البأس والموت جاحم
ولذلك سميت الجحيم . وقال ابن الأنباري : قال أحمد بن عبيد : إنما سميت النار جحيماً ، لأنها أكثر وقودها ، من قول العرب : جحمت النار أجحمها : إذا أكثرت لها الوقود .
قال عمران بن حطان :
يرى طاعة الله الهدى وخلافه ... الضلالة يصلي أهلها جاحم الجمر
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى }
في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف إلى الكعبة يئسوا منه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم دعوه إلى دينهم ، فنزلت ، قاله مقاتل . والثالث : أنهم كانوا يسألونه الهدنة ، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه؛ فنزلت ، ذكر معناه الزجاج .
قال الزجاج : والملة في اللغة : السنة والطريقه . قال ابن عباس : و { هدى الله } هاهنا : الإسلام . وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال . أحدها : أنه التحول إلى الكعبة ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه البيان بأن دين الله الإسلام ، والثالث : أنه القرآن . والرابع : العلم بضلالة القوم . { مالك من الله من ولي } ينفعك { ولا نصير } يمنعك من عقوبته .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب }
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين . أحدهما : أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود ، قاله ابن عباس . والثاني : في المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله عكرمة ، وقتادة . وفي الكتاب قولان . أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة . والثاني : أنه التوراة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { يتلونه حق تلاوته } أي : يعملون به حق عمله ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { أولئك يؤمنون به } في هاء «به» قولان . أحدهما : أنها تعود على الكتاب ، والثاني : على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله : { وإِذ ابتلى إِبراهيم ربه بكلمات } والابتلاء : الاختبار . وفي إبراهيم ست لغات . أحدها : إِبراهيم ، وهي اللغة الفاشية . والثانية : إبراهُم . والثالثة : ابراهَم . والرابعة : إِبراهِمْ ، ذكرهن الفراء . والخامسة : إِبراهام ، والسادسة : إِبرهم ، قال عبد المطلب :
عذت بما عاذ به إِبرهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وقال أيضا :
نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد إِبرهم
وفي الكلمات خمسة أقوال .
أحدها : أنها خمس في الرأس ، وخمس في الجسد . أما التي في الرأس؛ فالفرق ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، والسواك . وفي الجسد : تقليم الأظافر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستطابة بالماء ، والختان ، رواه طاووس عن ابن عباس .
والثاني : أنها عشر ، ست في الإنسان ، وأربع في المشاعر . فالتي في الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ، وقص الشارب ، والسواك ، والغسل من الجنابة ، والغسل يوم الجمعة . والتي في المشاعر : الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس .
والثالث : أنها المناسك ، رواه قتادة عن ابن عباس .
الرابع : أنه ابتلاه بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، والهجرة ، والنار ، وذبح ولده والختان ، قاله الحسن .
والخامس : أنها كل مسألة في القرآن ، مثل قوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] . ونحو ذلك ، قاله مقاتل . فمن قال : هي أفعال فعلها؛ قال : معنى فأتمهن : عمل بهن . ومن قال : هي دعوات ومسائل؛ قال : معنى فأتمهن : أجابه الله إليهن . وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ : { إبراهيم } رفع الميم { ربه } بنصب الباء ، على معنى : اختبر ربه هل يستجيب دعاءه ، ويتخذه خليلاً أم لا؟ .
قوله تعالى : { ومن ذريتي } في الذرية قولان . أحدهما : أنها فعلية من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر . والثاني : أن أصلها ذرُّورة ، على وزن : فعلولة ، ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياءً ، فصارت : ذروية ، ثم أدغمت الواو في الياء ، فصارت : ذرية ذكرهما الزجاج ، وصوب الأول .
وفي العهد هاهنا سبعة أقوال . أحدها : أنه الإمامة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير . والثاني : أنه الطاعة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : الرحمة ، قاله عطاء وعكرمة . والرابع : الدين ، قاله أبو العالية . والخامس : النبوة ، قاله السدي عن أشياخه . والسادس : الأمان ، قاله أبو عبيدة . والسابع : الميثاق ، قاله ابن قتيبة . والأول أصح .
وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان . أحدهما : أنهم الكفار ، قاله ابن جبير والسدي . والثاني : العصاة ، قاله عطاء .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى : { وإِذ جعلنا البيت مثابة للناس } البيت هاهنا : الكعبة ، والألف واللام تدخل للمعهود ، أو للجنس ، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس؛ انصرف إلى المعهود ، قال الزجاج : والمثاب والمثابة واحد ، كالمقام والمقامة ، قال ابن قتيبة : والمثابة : المعاد ، من قولك : ثبت إلى كذا ، أي : عدت إليه ، وثاب إليه جسمه بعد العلة : إذا عاد ، فأراد : أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة .
قوله تعالى : { وأمناً } قال ابن عباس : يريد أن من أحدث حدثاً في غيره ، ثم لجأ إليه؛ فهو آمن ، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه ، ولا يطعموه ، ولا يسقوه ، ولا يؤووه ، ولا يكلم حتى يخرج ، فاذا خرج؛ أقيم عليه الحد . قال قال القاضي أبو يعلى : وصف البيت بالأمن ، والمراد جميع الحرم ، كما قال : { هدياً بالغ الكعبة } والمراد : الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وهذا على طريق الحكم ، لا على وجه الخبر فقط .
وفي { مقام إِبراهيم } ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الحرم كله ، قاله ابن عباس . والثاني : عرفة ، والمزدلفة ، والجمار ، قاله عطاء . وعن مجاهد كالقولين . وقد روي عن ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، قالوا : الحج كله مقام إبراهيم . والثالث : الحجر ، قاله سعيد بن جبير ، وهو الأصح . قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت .
وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان . أحدهما : أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل ، فلم يجده ، فقالت له زوجته : انزل ، فأبى ، فقالت : فدعني أغسل رأسك ، فأتته بحجر فوضع رجله عليه ، وهو راكب ، فغسلت شقه ، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه ، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته ، فغابت رجله فيه ، فجعله الله من شعاره ، ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس . والثاني : أنه قام على الحجر لبناء البيت ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، قاله سعيد بن جبير .
قرأ الجمهور ، منهم : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : { واتخذوا } بكسر الخاء؛ على الأمر . وقرأ نافع ، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر . قال ابن زيد : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أين ترون أن نصلي؟ » فقال عمر : إلى المقام ، فنزلت : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . وقال أبو علي : وجه فتح الخاء : أنه معطوف على ما أُضيف إليه ، كأنه قال : وإذ اتخذوا . ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر ، وهو قوله : وعهدنا .
قوله تعالى : { وعهدنا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل } أي : أمرناهما وأوصيناهما . وإِسماعيل : اسم أعجمي ، وفيه لغتان : إسماعيل ، واسماعين . وأنشدوا :
قال جواري الحي لما جينا ... هذا ورب البيت إسماعينا
قوله تعالى : { أن طهرا بيتي } قال قتادة : يريد من عبادة الأوثان والشرك ، وقول الزور . فان قيل : لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه كانت هناك أصنام ، فأمرا بإخراجها ، قاله عكرمة . والثاني : أن معناه : ابنياه مطهراً ، قاله السدي . والعاكفون : المقيمون ، يقال : عكف يعكف ويعكف عكوفاً : إذا أقام ، ومنه الاعتكاف . وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إِن الله تعالى يُنزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت : ستون للطائفين ، وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين »
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى : { وإِذ قال إِبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً } البلد : صدر القرى ، والبالد : المقيم بالبلد ، والبلدة : الصدر ، ووضعت الناقة بلدتها : إذا بركت ، والمراد بالبلد هاهنا : مكة . ومعنى : { آمناً } : ذا أمنٍ . وأمن البلدة مجاز ، والمراد : أمن من فيه . وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال . أحدها : أنه سأله الأمن من القتل . والثاني : من الخسف والقذف . والثالث : من القحط والجدب ، قال مجاهد : قال إبراهيم : لمن آمن ، فقال الله عز وجل : ومن كفر فسأرزقه .
قوله تعالى : { فأمتعه } وقرأ ابن عامر : { فأمتعه } بالتخفيف ، من أمتعت . وقرأ الباقون بالتشديد من : مَتَّعت . والإمتاع : إعطاء ما تحصل به المتعة . والمتعة : أخذ الحظ من لذة ما يشتهي . وبماذا يمتعه؟ فيه قولان . أحدهما : بالأمن . والثاني : بالرزق . والاضطرار : الإلجاء إلى الشيء ، والمصير : ما ينتهي إليه الأمر .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قوله تعالى : { وإذ يرفع إِبراهيم القواعد من البيت وإِسماعيل } .
القواعد : أساس البيت ، واحدها : قاعدة . فأما قواعد النساء؛ فواحدتها : قاعد ، وهي العجوز . { ربنا تقبل منا } أي : يقولان : ربنا ، فحذف ذلك ، كقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 25 ] . أراد : يقولون . و { السميع } بمعنى : السامع ، لكنه أبلغ ، لأن بناء فعيل للمبالغة . قال الخطابي : ويكون السماع بمعنى القبول والاجابة ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بك من دعاء لا يسمع » أي : لا يستجاب . وقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله حمد من حمده وأنشدوا :
دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول
الإشارة إلى بناء البيت
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم » وقال ابن عباس : لما أهبط آدم؛ قال الله تعالى : يا آدم! اذهب فابن لي بيتاً فطف به ، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي . فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام ، وبناه من خمسة أجبل : من لبنان ، وطور سيناء ، وطور زيتا ، والجودي ، وحراء ، فكان آدم أول من أسس البيت ، وطاف به ، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان ، فدرس موضع البيت ، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل . وقال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت؛ ضاق به ذرعاً ، ولم يدر كيف يصنع ، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة ، فيها رأس يتكلم ، فقال : يا إبراهيم! علّم على ظلي ، فلما علّم ارتفعت . وفي رواية أنه كان يبني عليها كل يوم ، قال : وحفر إبراهيم من تحت السكينة ، فأبدى عن قواعد ، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً . فلما بلغ موضع الحجر ، قال لإسماعيل : التمس لي حجراً ، فذهب يطلب حجراً ، فجاء جبريل بالحجر الأسود ، فوضعه ، فلما جاء إسماعيل ، قال : من جاءك بهذا الحجر؟ قال : جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك . وقال ابن عباس ، وابن المسيب ، وأبو العالية : رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك . وقال السدي : لما أمره الله ببناء البيت؛ لم يدر أين يبني ، فبعث الله له ريحاً ، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان .
قوله تعالى : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } قال الزجاج : المسلم في اللغة : الذي قد استسلم لأمر الله ، وخضع . والمناسك : المتعبدات . فكل متعبد منسَك ومنسِك ، ومنه قيل للعابد : ناسك . وتسمى الذبيحة المتقرب بها إلى الله ، عز وجل : النسيكة . وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى .
قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } أي : مذابحنا . قاله مجاهد . وقال غيره : هي جميع أفعال الحج .
وقرأ ابن كثير : { وأرنا } بجزم الراء . و { رب أرني } [ الاعراف : 143 ] . و { أرنا الَّذَينِ أضلانا } [ فصلت : 29 ] . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي { أرنا } بكسر الراء في جميع ذلك . وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك ، إلا أنهما أسكنا الراء من { أرنا اللذين } وحدها قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : { أرنا } وكثير من العرب يجزم الراء ، فيقول : { أرنا مناسكنا } وقرأ بها بعض الثقات . وأنشد بعضهم :
قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً ... واشترْ فعجل خادماً لبيقاً
وأنشدني الكسائي :
ومن يتقْ فان الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي
قال قتادة : أراهما الله مناسكهما : الموقف بعرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، والطواف ، والسعي ، وقال أبو مجلز : لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل ، فأراه الطواف ، ثم أتى به جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبعاً ، وقال له : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان . ثم أتى به جمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان . ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، وأعطى إبراهيم سبع حصيات . فقال له : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان ، ثم أتى به منى ، فقال : هاهنا يحلق الناس رؤوسهم ، ثم أتى به جمعاً ، فقال : هاهنا يجمع الناس ، ثم أتى به عرفة ، فقال : أعرفت؟ قال : نعم . قال : فمن ثم سميت عرفات .
قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } في الهاء والميم من { فيهم } قولان . أحدهما : أنها تعود على الذرية ، قاله مقاتل والفراء . والثاني : على أهل مكة في قوله : { وارزق أهله } والمراد بالرسول : محمد صلى الله عليه وسلم . وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه " قيل : يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال : «دعوة أبي إِبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أُمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» " والكتاب : القرآن . والحكمة : السنة ، قاله ابن عباس . وروي عنه : الحكمة : الفقه والحلال والحرام ، ومواعظ القرآن . وسميت الحكمة حكمة ، لأنها تمنع من الجهل .
وفي قوله تعالى : { ويزكيهم } ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها ، قاله ابن عباس والفراء . والثاني : يطهرهم من الشرك والكفر ، قاله مقاتل . والثالث : يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء .
قوله تعالى : { إِنك أنت العزيز } قال الخطابي : العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه . أحدها : بمعنى الغلبة ، يقولون : من عزبزَّ . أي : من غلب سلب . يقال منه : عزَّ يعُزُّ ، بضم العين من يعز ، ومنه قوله تعالى : { وعزَّني في الخطاب } [ ص : 28 ] . والثاني : بمعنى الشدة والقوة ، يقال منه : عز يعَزُّ ، بفتح العين من يعز . والثالث : أن يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عز يعِزّ بكسر العين ، من يعز . ويتناول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء ، ولا مثل له .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إِبراهيم }
سبب نزولها أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام ، فأسلم سلمة ، ورغب عن الإسلام مهاجر ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الزجاج : و «من» لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها التقرير والتوبيخ . والمعنى : ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نسفه . ويقال : رغبت في الشيء : إذا أردته . ورغبت عنه : إذا تركته . وملة إبراهيم : دينه .
قوله تعالى : { إِلا من سفه نفسه } فيه أربعة أقوال . أحدها : أن معناه : إلا من سفّه نفسه ، قاله الأخفش ويونس . قال يونس : ولذلك تعدى إلى النفس فنصبها ، وقال الأخفش : نصبت النفس لإسقاط حرف الجر ، لأن المعنى : إلا من سفه في نفسه .
قال الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيئاً ... ونرخصه إذا نضج القدور
والثاني : إلا من أهلك نفسه ، قاله أبو عبيدة . والثالث : إلا من سفهتْ نفسُه ، كما يقال : غبن فلان رأيه ، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة . قال الفراء : نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من» ، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير ، كما يقال : ضقت بالأمر ذرعاً ، يريدون : ضاق ذرعي به ، ومثله : { واشتعل الرأس شيبا } [ مريم : 4 ] . والرابع : إلا من جهل نفسه ، فلم يفكر فيها ، وهو اختيار الزجاج .
قوله تعالى : { وإِنه في الآخرة لمن الصالحين } قال ابن الأنباري : لمن الصالحي الحال عند الله تعالى . وقال الزجاج : الصالح في الآخرة : الفائز .
قوله تعالى : { إِذ قال له ربه أسلم } وذلك حين وقوع الاصطفاء ، قال ابن عباس : لما رأى الكوكب والقمر والشمس ، قال له ربه أسلم ، أي : أخلص .
قوله تعالى : { ووصَّى } قرأ ابن عباس وأهل المدينة : { وأوصى } بألف ، مع تخفيف الصاد ، والباقون بغير ألف مشددة الصاد ، وهذا لاختلاف المصاحف . أخبرنا ابن ناصر ، قال : أخبرنا ثابت ، قال : أخبرنا ابن قشيش ، قال : أخبرنا ابن حيَّويه ، قال : حدثنا ابن الأنباري ، قال : أخبرنا ثعلب ، قال : أملى عليَّ خلف بن هشام البزار قال : اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً : كتب أهل المدينة { وأوصى } وأهل العراق { ووصّى } وكتب أهل المدينة : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } [ آل عمران : 133 ] . بغير واو وأهل العراق : { وسارعوا } وكتب أهل المدينة : { يقول الذين آمنوا } [ المائدة : 56 ] وأهل العراق : { ويقول } وكتب أهل المدينة : { من يرتدد } [ المائدة : 57 ] وأهل العراق { من يرتدَّ } وكتب أهل المدينة : { الذين اتخذوا مسجداً } [ التوبة : 108 ] . و أهل العراق { والذين } وكتب أهل المدينة : { خيراً منهما منقلباً } [ الكهف : 37 ] و أهل العراق : { منها } وكتب أهل المدينة : { فتوكل على العزيز الرحيم } [ الشعراء : 217 ] . و أهل العراق : { وتوكل } وكتب أهل المدينة : { وأن يظهر في الأرض الفساد } [ المؤمن : 26 ] . وأهل العراق : { أو أن يظهر } وكتب أهل المدينة في «حم عسق» : { بما كسبت أيديكم } بغير فاء ، وأهل العراق : { فبما } وكتب أهل المدينة : { ما تشتهيه الأنفس } [ الزخرف : 71 ] بالهاء و أهل العراق : { ما تشتهي } وكتب أهل المدينة : { فان الله الغني الحميد } [ الحديد : 26 ] و أهل العراق : { إِن الله هو الغني الحميد } وكتب أهل المدينة : { فلا يخاف عقباها } [ الشمس : 15 ] و أهل العراق : { ولا يخاف } .
ووصّى أبلغ من أوصى ، لأنها تكون لمرات كثيرة ، وهاء «بها» تعود على المسألة . قاله عكرمة والزجاج . قال مقاتل : وبنوه أربعة : إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومدائن . وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية .
قوله تعالى : { فلا تموتنَّ إِلا وأنتم مسلمون } يريد : الزموا الإسلام ، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قوله تعالى : { أم كنتم شهداءَ إِذ حضر يعقوبَ الموتُ }
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي ، صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { تلك أُمة قد خلت } أي : مضت ، يشير إلى إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قوله تعالى : { وقالوا كونوا هوداً }
معناه : قالت اليهود : كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، تهتدوا . { بل ملة إِبراهيم حنيفاً } المعنى : بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته . وفي الحنيف قولان . أحدهما : أنه المائل إلى العبادة . قال الزجاج : الحنيف في اللغة : المائل إلى الشيء ، أُخذ من قولهم : رجل أحنف ، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها . قالت أُم الأحنف ترقصه :
والله لولا حَنَفٌ برجله ... ودِقة في ساقه من هزله
ما كان في فتيانكم من مثله ... والثاني : أنه المستقيم ، ومنه قيل للأعرج : حنيف ، نظراً له إلى السلامة ، هذا قول ابن قتيبة ، وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف ، فقال عطاء : هو المخلص ، وقال ابن السائب : هو الذي يحج . وقال غيرهما : هو الذي يوحّد ويحج ، ويضحي ويختتن ، ويستقبل الكعبة .
فأما الأسباط : فهم بنوا يعقوب ، وكانوا اثني عشر رجلاً . قال الزجاج : السبط في اللغة : الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد . والسبط في اللغة : الشجرة لها قبائل ، فالسبط : الذين هم من شجرة واحدة .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قوله تعالى : { فان آمنوا } يعني : أهل الكتاب .
قوله تعالى : { بمثل ما آمنتم به } ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : مثل إيمانكم ، فزيدت الباء للتوكيد ، كما زيدت في قوله : { وهزّي إِليك بجذع النخلة } [ مريم : 24 ] . قاله ابن الأنباري . والثاني . أن المراد بالمثل هاهنا : الكتاب ، وتقديره : فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم ، قاله أبو معاذ النحوي . والثالث : أن المثل هاهنا : صلة ، والمعنى : فان آمنوا بما آمنتم به . ومثله قوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . أي : ليس كهو شيء . وأنشدوا :
يا عاذلي دعنيَ من عذلكا ... مثليَ لا يقبل من مثلكا
أي : أنا لا أقبل منك ، فأما الشقاق؛ فهو المشاقة والعداوة ، ومنه قولهم : فلان قد شق عصا المسلمين ، يريدون : فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم ، فكأنه صار في شق غير شقهم .
قوله تعالى : { فسيكفيكهم الله } هذا ضمان لنصر النبي صلى الله عليه وسلم .
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
قوله تعالى : { صبغةَ الله } سبب نزولها أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد ، فأتى عليه سبعة أيام ، صبغوه في ماء لهم ، يقال له : المعمودية ، ليطهروه بذلك ، ويقولون : هذا طهور مكان الختان ، فاذا فعلوا ذلك؛ قالوا : صار نصرانياً حقاً ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . قال ابن مسعود وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والنخعي ، وابن زيد : { صبغةَ الله } : دينه . قال الفراء : { صبغةَ الله } [ نصب ] مردودة على الملة . وقرأ ابن عبلة : { صبغةُ الله } بالرفع على معنى : هذه صبغة الله . وكذلك قرأ : { ملةُ إِبراهيم } بالرفع أيضاً على معنى : هذه ملة إبراهيم . قال ابن قتيبة : المراد بصبغة الله : الختان ، فسماه صبغة ، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء [ ويقولون : هذا طهرة لهم ، كالختان للحنفاء ] فقال الله تعالى : { صبغة الله } أي : الزموا صبغة الله ، لا صبغة النصارى أولادهم ، وأراد بها : ملة ابراهيم . وقال غيره : إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان ، كظهور الصبغ على الثوب .
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قوله تعالى : { أتحاجُّوننا في الله } قال ابن عباس : يريد : يهود المدينة ، ونصارى نجران . والمحاجة : المخاصمة في الدين ، فان اليهود قالت : نحن أهل الكتاب الأول . وقيل : ظاهرت اليهود عبدة الأوثان ، فقيل لهم : تزعمون أنكم موحدون ، ونحن نوحد ، فلم ظاهرتم من لا يوحد؟!
قوله تعالى : { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } قال أكثر المفسرين : هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة ، ثم نسخ بآية السيف .
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قوله تعالى : { أم تقولون إِن إِبراهيم وإسماعيل } . . الآية .
سبب نزولها أن يهود المدينة ، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين : إن أنبياءَ الله كانوا منا من بني إسرائيل ، وكانوا على ديننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء ، ولا أحد أعلم به منه . قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو عمرو : { أَم يقولون } بالياء على وجه الخبر عن اليهود . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم : { تقولون } بالتاء لأن قبلها مخاطبة ، وهي «أتحاجوننا» وبعدها { قل أأَنتم أعلم } .
وفي الشهادة التي كتموها قولان . أحدهما : أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين ، فكتموها ، قاله الحسن ، وزيد بن أسلم . والثاني : أنهم كتموا الإسلام ، وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبيٌّ دينه الإسلام ، قاله أبو العالية وقتادة .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس }
فيهم ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والثاني : أنهم أهل مكة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أنهم المنافقون ، ذكره السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك ، والآية نزلت بعد تحويل القبلة . والسفهاء : الجهلة . ما ولاهم ، أي : صرفهم عن قبلتهم : يريد : قبلة المقدس .
واختلف العلماء في مدة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى بيت المقدس بعد قدومه إلى المدينة على ستة أقوال . أحدها : أنه ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر ، قاله البراء به عازب . والثاني : سبعة عشر شهراً ، قاله ابن عباس . والثالث : ثلاثة عشر شهراً ، قاله معاذ بن جبل . والرابع : تسعة أشهر ، أو عشرة أشهر ، قاله أنس بن مالك . والخامس : ستة عشر شهراً . والسادس : ثمانية عشر شهراً ، روي القولان عن قتادة .
وهل كان استقباله إلى بيت المقدس برأيه ، أو عن وحي؟ فيه قولان . أحدهما : أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه ، قاله ابن عباس وابن جريج . والثاني : أنه كان باجتهاده ورأيه ، قاله الحسن ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع . وقال قتادة : كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا بقوله : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] . ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس . وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان . أحدهما : ليتألف أهل الكتاب ، ذكره بعض المفسرين . والثاني : لامتحان العرب بغير ما ألفوه ، قاله الزجاج .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }
سبب نزولها أن اليهود قالوا : قبلتنا قبلة الأنبياء ، ونحن عدلٌ بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . والأمة : الجماعة والوسط : العدل ، قاله ابن عباس ، وأبو سعيد ، ومجاهد ، وقتادة ، وقال ابن قتيبة : الوسط : العدل ، الخيار ، ومنه قوله تعالى : { قال أوسطهم } [ القلم : 28 ] أي : أعدلهم ، وخيرهم . قال الشاعر :
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها ، والغلو والتقصير مذمومان . وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل ، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود ، فإنهم قتلوا الأنبياء ، وبدلوا كتاب الله ، ولم يغلوا كالنصارى ، فانهم زعموا أن عيسى ابن الله . وقال أبو سليمان الدمشقي : في هذا الكلام محذوف ، ومعناه : جعلت قبلتكم وسطاً بين القبلتين ، فان اليهود يصلون نحوالمغرب ، والنصارى نحو المشرق ، وأنتم بينهما .
قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } فيه قولان . أحدهما : أن معناه : لتشهدوا للأنبياء على أممهم . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ، ويجيء النبي ومعه الرجلان ، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك ، فيقال لهم : أبلّغكم هذا؟ فيقولون : لا ، فيقال للنبي : أبلّغتهم؟ فيقول : نعم ، فيقال : من يشهد لك؟ قال : محمد وأمته؛ فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا ، فيقال : ما علمكم؟ فيقولون : أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا ، فصدقناه " فذلك قوله : { لتكونوا شهداء على الناس } وهذا مذهب عكرمة ، وقتادة ، والثاني : أن معناه : لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم ، على الأمم : اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ويكون الرسول عليكم شهيداً } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، وبماذا يشهد عليهم؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : بأعمالهم ، قاله ابن عباس ، و أبو سعيد الخدري ، وابن زيد . والثاني : بتبليغهم الرسالة ، قاله قتادة ، ومقاتل . والثالث : بإيمانهم ، قاله أبو الغالية . فيكون على هذا «عليكم» بمعنى : لكم . قال عكرمة : لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها .
قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } يريد : قبلة بيت المقدس . { إِلا لنعلم } فيه أربعة أقوال . أحدها : لنرى . والثاني : لنميز . رُويا عن ابن عباس . والثالث : لنعلمه واقعاً ، إذ علمه قديم ، قاله جماعة من أهل التفسير ، وهو يرجع إلى قول ابن عباس : «لنرى» . والرابع : أن العلم راجع إلى المخاطبين ، والمعنى : لتعلموا أنتم ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { ممن ينقلب على عقبيه } أي : يرجع إِلى الكفر ، قاله ابن زيد ، ومقاتل .
قوله تعالى : { وإِن كانت لكبيرة } في المشار إِليها قولان . أحدهما : أنه التولية إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها ، قاله أبوالعالية ، والزجاج .
قوله تعالى : { وما كان الله ليُضيع إِيمانكم } نزل على سبب؛ وهو أن المسلمين قالوا : يا رسول الله! أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟! فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إِيمانكم } والإيمان المذكور هاهنا أريد به : الصلاة في قول الجماعة . وقيل : إنما سمى الصلاة إيماناً ، لاشتمالها على قول ونية وعمل . قال الفراء : وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء [ من المؤمنين ] والمعنى : فيمن مات [ من المسلمين قبل أن تحول القبلة ] لأنهم داخلون معهم في الملة . قوله تعالى : { لرؤوف } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : { لرؤوف } على وزن : لرعوف ، في جميع القرآن ، ووجهها : أن فعولاً أكثر في كلامهم من فعل ، فباب ضروب وشكور ، أوسع من باب حذر ويقظ . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم : { لرؤف } على وزن : رَعُفٍ . ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز . قال جرير :
ترى للمسلمين عليك حقاً ... كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم
والرؤوف بمعنى : الرحيم ، هذا قول الزجاج . وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقُها . قال : ويقال : الرأفة أخص ، والرحمة أعم .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء }
سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يحب أن يوجه إلى الكعبة ، قاله البراء ، وابن عباس ، وابن المسيب ، وأبو العالية ، وقتادة ، وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس } واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة على بيت المقدس على قولين . أحدهما : أنها كانت قبلة إبراهيم ، روي عن ابن عباس . والثاني : لمخالفة اليهود ، قاله مجاهد . ومعنى تقلب وجهه : نظره إليها يميناً وشمالاً . و «في» بمعنى «إِلى» و «ترضاها» بمعنى : «تحبها» . و«الشطر» : النحو من غير خلاف . قال ابن عمر : أتى الناس آت وهم في صلاة الصبح بقباء ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن ، وأمر أن يستقبل الكعبة ، ألا فاستقبلوها [ وكانت وجوههم إلى الشام ] فاستداروا وهم في صلاتهم .
فصل
اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة؟ على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله المدينة ، قاله البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار . والثاني : أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدمه المدينة ، قاله قتادة . والثالث : أنها حولت في جمادى الآخرة ، حكاه ابن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي .
وفي : { الذين أُوتوا الكتاب } قولان . أحدهما : اليهود ، قاله مقاتل . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { لَيعلمون أنه الحق } يشير إلى ما أُمر به من التوجه إلى الكعبة ، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا . ومن أين علموا أنه الحق؟ فيه أربعة أقوال . أحدها : أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها ، قاله أبو العالية . والثاني : يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم . والثالث : أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق ، فلا يأمر إلا بحق . والرابع : أنهم يعلمون جواز النسخ .
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى : { ولئن أَتيت الذين أُوتوا الكتاب بكل آية }
سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للنبي : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ما تبعوا قبلتك } يريد : الكعبة { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى قبل المشرق { ولئن اتبعت أهواءهم } فصليت إلى قبلتهم { من بعد ما جاءك من العلم } قال مقاتل : يريد بالعلم : البيان .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } في هاء «يعرفونه» قولان . أحدهما : أنها تعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس . والثاني : تعود على صرفه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وروي عن ابن عباس أيضاً . وفي الحق الذي كتموه قولان . أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . والثاني : أنه التوجه إلى الكعبة ، قاله السدي ، ومقاتل في آخرين .
وفي قوله : { وهم يعلمون } قولان . أحدهما : وهم يعلمون أنه حق . والثاني : وهم يعلمون ما على مخالفه من العقاب .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله تعالى : { الحق من ربك }
قال الزجاج : أي : هذا الحق من ربك . والممترون : الشاكُّون ، والخطاب عام .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
قوله تعالى : { ولكل وجهة }
أي : لكل أهل دين وجهة . المراد بالوجهة : القبلة ، قاله ابن عباس في آخرين . قال الزجاج : يقال : جهة ، ووجهة . وفي «هو» ثلاثة أقوال . أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى ، فالمعنى : الله مولّيها إياهم ، أي : أمرهم بالتوجه إليها . والثاني : ترجع إلى المتولي ، فالمعنى : هو موليها نفسه ، فيكون «هو» ضمير كل . والثالث : يرجع إلى البيت ، قاله مجاهد : أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة . والجمهور يقرؤون : { مولّيها } وقرأ ابن عامر ، والوليد عن يعقوب : «هو مولاها» بألف بعد اللام ، فضمير «هو» لكل ، ومعنى القراءتين متقارب .
قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } أي : بادروها . وقال قتادة : لا تغلبوا على قبلتكم ، { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } قال ابن عباس وغيره : هذا في يوم القيامة . فأما إعادة قوله :
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فَوَلِّ وجهك شطر المسجد الحرام } فانه تكرير تأكيد ، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداً إلى قبلتهم .
قوله تعالى : { لئلا يكون للناس } في الناس قولان ، أحدهما : أنهم أهل الكتاب ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : مشركو العرب ، رواه السدي عن أشياخه . فمن قال بالأول؛ قال : احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبي : مالك تركت قبلة بيت المقدس؟! إن كانت ضلالة فقد دِنت بها الله ، وإن كانت هدى؛ فقد نقلت عنها . وقال قتادة : قالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قال بالثاني؛ قال : احتجاج المشركين أنهم قالوا : قد رجع إلى قبلتكم ، ويوشك أن يعود إلى دينكم .
وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به ، كقوله تعالى : { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] . وقوله : { فرحوا بما عندهم من العلم } [ غافر : 83 ] .
قوله تعالى : { إِلا الذين ظلموا منهم } قال الزجاج : معناه : إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : مالك عليَّ حجة إِلا الظلم ، أي : إلا أن تظلمني . أي : مالك عليّ البتة ، ولكنك تظلمني . قال ابن عباس : { فلا تخشوهم } في انصرافكم إلى الكعبة { واخشوني } في تركها .
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى : { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } قال الزجاج : «كما» لا تصلح أن تكون جواباً لما قبلها ، والأجود أن تكون معلقة بقوله : { فاذكروني } وقد روي معناه عن عليّ ، وابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل . والآية خطاب لمشركي العرب . وفي قوله : { ويزكيهم } ثلاثة أقوال ، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم . والكتاب : القرآن . والحكمة : السنة .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
قوله تعالى : { فاذكروني }
قال ابن عباس ، وابن جبير : اذكروني بطاعتي أذكرْكم بمغفرتي . وقال إبراهيم بن السري : كما أنعمت عليكم بالرسالة ، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي . قال : فان قيل : كيف يكون جواب : { كما أرسلنا } : { فاذكروني } ؟ فان قوله : { فاذكروني } أمر وقوله : { أذكركم } جزاؤه؛ فالجواب أن المعنى : إن تذكروني أذكركم .
قوله تعالى : { واشكروا لي } الشكر الاعتراف بحق المنعم ، مع الثناء عليه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة }
سبب نزولها أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة . وقال ابن عباس : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض ، بالصلاة ، وقد سبق الكلام في الصبر ، وبيان الاستعانة به وبالصلاة .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتٌ }
سبب نزولها أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحد : مات فلان ببدر ، مات فلان بأحد ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . ورفع الأموات بإضمار مكنى من أسمائهم ، أي : لا تقولوا : هم أموات ، ذكر نحوه الفراء . فان قيل : فنحن نراهم موتى ، فما وجه النهي؟ فالجواب أن المعنى : لا تقولوا : هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات ، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء ، بل هم أحياء ، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ، فهم أحياء من هذه الجهة ، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح ، ذكره ابن الأنباري . فان قيل : أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ فالجواب : أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها ، وغيرهم منعم بما دون ذلك ، ذكره ابن جرير الطبري .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
قوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال }
قال الفراء : «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئاً مضمراً ، فتقديره : بشيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، و شيء من نقص الأموال .
وفيمن أُريد في هذه الآية أربعة أقوال . أحدها : أنهم أصحاب النبي خاصة ، قاله عطاء . والثاني : أنهم أهل مكة . والثالث : أن هذا يكون في آخر الزمان . قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة . والرابع : أن الآية على عمومها .
فأما الخوف؛ فقال ابن عباس : وهو الفزع في القتال . والجوع : المجاعة التي أصابت أهل مكة سبع سنين . ونقص من الأموال : ذهاب أموالهم ، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم ، والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج . وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم : أن الخوف في الجهاد ، والجوع في فرض الصوم ، ونقص الأموال : ما فرض فيها من الزكاة والحج ، ونحو ذلك . والأنفس : ما يستشهد منها في القتال ، والثمرات : ما فرض فيها من الصدقات . { وبشر الصابرين } على هذه البلاوي بالجنة .
واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم ، ليوطنوا أنفسهم على الصبر ، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع . { قالوا : إنا لله } يريدون : نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء { وإنا إِليه راجعون } يريدون : نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا ، والثواب على صبرنا . قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إِنا لله وإِنا إِليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } . ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ، ألم تسمع إِلى قوله { يا أسفى على يوسف } قال الفراء : وللعرب في المصيبة ثلاث لغات : مصيبة ، ومصابة ، ومصوبة ، زعم الكسائي أنه سمع أعرابياً يقول : جبر الله مصوبتك .
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
قوله تعالى : { أولئك عليهم صلوات من ربهم }
قال سعيد بن جبير : الصلوات من الله : المغفرة { وأولئك هم المهتدون } بالاسترجاع . قال عمر بن الخطاب : نعم العدلان ، ونعمت العلاوة : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون } .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
قوله تعالى : { إِن الصفا والمروة من شعائر الله } .
في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رجالاً من الأنصار ممن كان يهلُّ لمناة في الجاهلية- ومناة : صنم كان بين مكة والمدينة- قالوا : يا رسول الله إنا كنا لا نطَّوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة ، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية . رواه عروة عن عائشة .
والثاني : أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة ، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام ، فنزلت هذه الآية . رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال الشعبي : كان وثن على الصفا يدعى : إساف ، ووثن على المروة يدعى : نائلة ، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما ، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما ، فنزلت هذه الآية .
والثالث : أن الصحابة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت ، ولم يذكره بين الصفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطَّوَّف بهما؛ فنزلت هذه الآية . رواه الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم . قال إبراهيم بن السري : الصفا في اللغة : الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً ، وهو جمع ، واحده صفاة وصفا ، مثل : حصاة وحصى . والمروة : الحجارة اللينة ، وهذان الموضعان من شعائر الله ، أي : من أعلام متعبداته . وواحد الشعائر : شعيرة . والشعائر : كل ما كان من موقف أو سعي أو ذبح . والشعائر : من شعرت بالشيء : إذا علمت به ، فسميت الأعلام التي هي متعبدات الله : شعائر الله . والحج في اللغة : القصد ، وكذلك كل قاصد شيئاً فقد اعتمره . والجناح : الإثم ، أخذ من جنح : إذا مال وعدل ، وأصله من جناح الطائر ، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما ، لمكان الأوثان ، فقيل لهم : إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما فأعلم الله عز وجل أنه لا جناح في التطوف بهما ، وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم . والشكر من الله : المجازاة والثناء الجميل ، والجمهور قرؤوا { ومن تطوَّعَ } بالتاء ونصب العين . منهم : ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأ حمزة ، والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين . وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات .
فصل
اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة ، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه . ونقل أبو طالب : لا شيء في تركه عمداً أو سهواً ، ولا ينبغي أن يتركه . ونقل الميموني أنه تطوع .
قوله تعالى : { إِن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود ، كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى ، فالبينات : الحلال والحرام والحدود والفرائض .
والهدى : نعت النبي وصفته { من بعد ما بيناه للناس } قال مقاتل : لبني إسرائيل . وفي الكتاب قولان . أحدهما : أنه التوراة ، وهو قول ابن عباس ، والثاني : التوراة والإنجيل ، قاله قتادة . { أولئك } إشارة إلى الكاتمين { يلعنهم الله } قال ابن قتيبة : أصل اللعن في اللغة : الطرد ، ولعن الله إبليس ، أي : طرده ، ثم انتقل ذلك فصار قولاً . قال الشماخ وذكر ماءً :
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
أي : الطريد وفي اللاعنين أربعة أقوال . أحدها : أن المراد بهم ، دواب الأرض ، رواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد ، وعكرمة . قال مجاهد : يقولون : إنما منعنا القطر بذنوبكم ، فيلعنونهم . والثاني : أنهم المؤمنون ، قاله عبد الله بن مسعود . والثالث : أنهم الملائكة والمؤمنون ، قاله أبو العالية ، وقتادة . والرابع : أنهم الجن والإنس وكل دابة ، قاله عطاء .
فصل
وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين ، منصوصة كانت أو مستنبطة ، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله ، وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال : إنكم تقولون : أكثر أبو هريرة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والله الموعد ، وأيم الله : لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً ، ثم تلا { إِن الذين يكتمون ما أنزلنا } . . إلى آخرها .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قوله تعالى : { إِلا الذين تابوا }
قال ابن مسعود : إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم ، وبينوا صفة رسول الله في كتابهم .
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه ، وهذا ليس بنسخ ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ ، ومما يحقق هذا أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر ، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
قوله تعالى : { إِن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ }
إنما شرط الموت على الكفر ، لأن حكمه يستقر بالموت عليه ، فان قيل : كيف قال : { والناس أجمعين } وأهل دينه لا يلعنونه ، فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أنهم يلعنونه في الآخرة قال الله عز وجل : { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } [ العنكبوت : 25 ] . وقال : { كلما دخلت أُمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] . والثاني : أن المراد بالناس هاهنا : المؤمنون ، قاله ابن مسعود ، وقتادة ، ومقاتل . فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص . والثالث : أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها : لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قوله تعالى : { خالدين فيها } في هاء الكناية قولان . أحدهما : أنها تعود إلى اللعنة ، قاله ابن مسعود ، ومقاتل . والثاني : أنها ترجع إلى النار ، وإِن لم يجر لها ذكر فقد علمت .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله تعالى : { وإِلهُكُمْ إِله واحد }
قال ابن عباس : إن كفار قريش قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه . فنزلت هذه الآية ، وسورة الإخلاص . والإله بمعنى : المعبود .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض }
في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن المشركين قالوا للنبي : اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً؛ فنزلت هذه الآية ، حكاه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس . والثاني : أنهم لما قالوا : انسب لنا ربك وصفه؛ فنزلت : { وإِلهكم إِله واحد } قالوا : فأرنا آية ذلك؛ فنزلت : { إِن في خلق السموات والأرض } إلى قوله : { يعقلون } رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أنه لما نزلت { وإِلهكم إِله واحد } قال كفار قريش : كيف يسع الناس إِله واحد؟ فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء .
فأما { السموات } ؛ فتدل على صانعها ، إذ هي قائمة بغير عمد ، وفيها من الآيات الظاهرة ، ما يدل يسيره على مبدعه ، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها ، وتمهيد سهولها ، وإرساء جبالها ، إلى غير ذلك . { واختلاف الليل والنهار } كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن ، وزائل بعد أن كان { والفلك } : السفن : قال ابن قتيبة : الواحد والجمع بلفظ واحد . وقال اليزيدي : واحده فلكة ، ويذكر ويؤنث . وقال الزجاج : الفلك : السفن ، ويكون واحداً ، ويكون جمعاً ، لأن فَعَل ، وفُعُل جمعهما واحد ، ويأتيان كثيراً بمعنى واحد . يقال : العَجم والعُجم ، والعَرب والعربُ ، والفلك والفُلك . والفلك : يقال لكل شيء مستدير ، أو فيه استدارة . و { البحر } : الماء الغزير { بما ينفع الناس } من المعايش . { وما أنزل الله من السماء من ماء } يعني : المطر ، والمطر ينزل على معنى واحد ، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد ، والأنواع تختلف في النبات والطعوم والألوان والأشكال المختلفات ، وفي ذلك رد على من قال : إنه من فعل الطبيعة ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها ، إذ المتفق لا يوجب المختلف ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله : { يسقى بماء واحد ونُفضل بعضها على بعض في الأُكُل } [ الرعد : 4 ] .
قوله تعالى : { وبثَّ } أي : فرق .
قوله تعالى : { وتصريف الرياح } قرأ ابن كثير { الرياح } على الجمع في خمسة مواضع : هاهنا . وفي [ الحجر : 22 ] . { وأرسلنا الرياح لواقح } وفي [ الكهف : 46 ] { تذروه الرياح } وفي [ الروم : 46 ] الحرف الأول { الرياح } وفي [ الجاثية : 4 ] { وتصريف الرياح } وقرأ باقي القرآن { الريح } . وقرأ أبو جعفر { الرياح } في خمسة عشر موضعاً في البقرة ، وفي [ الأعراف : 56 ] { يرسل الرياح } وفي [ إبراهيم : 18 ] { اشتدت به الرياح } وفي [ الحجر : 22 ] { الرياح لواقح } وفي [ سبحان : 19 ] . وفي [ الكهف : 45 ] . { تذروه الرياح } وفي [ الأنبياء : 81 ] وفي [ الفرقان : 48 ] { أرسل الرياح } وفي النمل . والثاني من [ الروم : 48 ] وفي [ سبأ : 12 ] وفي [ ص : 36 ] . وفي [ عسق : 33 ] { يسكن الرياح } وفي [ الجاثية : 5 ] { وتصريف الرياح } تابعه نافع إلا في سبحان . ورياح سليمان : [ الأنبياء : 81 ] . وتابع نافعاً أبو عمرو إلا في حرفين : { الريح } في إبراهيم ، وعسق ، ووافق أبا عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وقرأ حمزة { الرياح } جمعاً في موضعين : في الفرقان ، والحرف الأول من الروم ، وباقيهن على التوحيد . وقرا الكسائي مثل حمزة ، إلا إنه زاد عليه في [ الحجر : 22 ] . { الرياح لواقح } ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام ، فمن جمع؛ فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع .
ومن وحد؛ أراد الجنس .
ومعنى تصريف الرياح : تقلّبها شمالاً مرة ، وجنوباً مرة ، ودبوراً أُخرى ، وصباً أُخرى ، وعذاباً ورحمة { والسحاب المسخر } : المذلل . والآية فيه من أربعة أوجه ، ابتداء كونه ، وانتهاء تلاشيه ، وقيامه بلا دعامة ولا علاقة ، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى . لآيات . الآية : العلامة . أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال : أخبرنا عاصم قال : أخبرنا ابن بشران قال : أخبرنا ابن صفوان قال : حدثنا ابن أبي الدنيا قال : حدثني هارون قال : حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال : سمعت الحسن يقول : كانوا يقولون ، يعني : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الرفيق ، الذي لو جعل هذا الخلق خلقاً دائماً لا يتصرف ، لقال الشاك في الله : لو كان لهذا الخلق ربٌ لحادثه ، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات ، إنه جاء بضوء طبَّق ما بين الخافقين ، وجعل فيها معاشاً ، وسراجاً وهاجاً ، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق ، وجاء بظلمة طبَّقت ما بين الخافقين ، وجعل فيه سكناً ونجوماً ، وقمراً منيراً ، و إذا شاء ، بنى بناء ، جعل فيه المطر ، والبرق ، والرعد ، والصواعق ، ما شاء ، وإذا شاء صرف ذلك ، و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء ذهب بذلك ، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس ، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما ترون من الآيات ، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً }
وفي الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة . وفي قوله : { يحبونهم كحب الله } قولان .
أحدهما : أن معناه يحبونهم كحب الذين آمنوا لله ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء .
والثاني : يحبونهم كمحبتهم لله ، أي : يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة . هذا اختيار الزجاج ، قال : والقول الأول ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله : { والذين آمنوا أشد حباً لله } قال المفسرون : أشد حباً لله من أهل الأوثان لأوثانهم .
قوله تعالى : { ولو يرى الذين ظلموا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم ، وحمزة والكسائي : { يرى } بالياء ، ومعناه : لو يرون عذاب الآخرة؛ لعلموا أن القوة لله جميعاً . وقرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب : { ولو ترى } بالتاء ، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به جميع الناس . وجوابه محذوف ، تقديره : لرأيتم أمراً عظيماً ، كما تقول : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه . وإنما حذف الجواب ، لأن المعنى واضح بدونه . قال أبو علي : وإنما قال : «إِذ» ولم يقل : «إِذا» وإن كانت «إِذ» لما مضى ، لإرادة تقريب الأمر ، فأتى بمثال الماضي ، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم ، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد . وقرا أبو جعفر { إِن القوة للهِ } و : { إِن الله } بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، كأنه يقول : فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم { إن القوة لله جميعاً } قال ابن عباس : القوة : القدرة ، والمنعة .
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قوله تعالى : { من الذين اتَّبعوا } فيهم قولان . أحدهما : أنهم القادة والرؤساء ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل ، والزجاج . والثاني : أنهم الشياطين ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ورأَؤُا العذاب } يشمل الكل { وتقطَّعت بهم الأسباب } أي : عنهم ، مثل قوله { فَسْئَلْ به خبيراً } [ الفرقان : 59 ] . وفي { الأسباب } أربعة أقوال . أحدها : أنها المودات ، وإلى نحوه ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني : أنها الأعمال ، رواه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وهو قول أبي صالح ، وابن زيد ، والثالث : أنها الأرحام ، رواه ابن جريج عن ابن عباس . والرابع : أنها تشمل جميع ذلك . قال ابن قتيبة : هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا ، فأما تسميتها بالأسباب ، فالسبب في اللغة : الحبل ، ثم قيل لكل ما يتوصل به إلى المقصود : سبب . والكرَّة : الرجعة إلى الدنيا ، قاله ابن عباس ، وقتادة في آخرين . { فنتبرَّأَ منهم } يريدون : من القادة { كما تبرؤوا منَّا } في الآخرة . { كذلك يريهم الله أعمالهم } قال الزجاج : أي : كتبرؤ بعضهم من بعض ، يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم ، لأن أعمال الكافر لا تنفعه ، وقال ابن الأنباري : يريهم الله أعمالهم القبيحة حسراتٍ عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم ، قال : ويجوز أن يكون كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم الصالحة وجزاءها ، فحذف الجزاء . وأقام الأعمال مقامه . قال ابن فارس : والحسرة : التلهف على الشيء الفائت . وقال غيره : الحسرة : أشد الندامة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
قوله تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } نزلت في ثقيف ، وخزاعة ، وبني عامر ابن صعصعة ، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرّموا البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم { خُطوات } مثقلة . وقرا نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة { خُطْوات } ساكنة الطاء خفيفة . وقرا الحسن ، وأبو الجوزاء { خَطْوات } بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز . وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز . قال ابن قتيبة : خطواته : سبيله ومسلكه ، وهي جمع خُطوة ، والخطوة بضم الخاء : ما بين القدمين ، وبفتحها : الفعلة الواحدة . واتباعهم خطواته : أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلها الله ، ويحلّون أشياء قد حرمها الله .
قوله تعالى : { إنّه لكم عدوٌ مبين } أي : بيِّن وقيل : أبان عداوته بما جرى له مع آدم .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قوله تعالى : { إِنما يأمركم بالسُّوء } السوء : كل إثم وقبح . قال ابن عباس : وإنما سمي سوءاً ، لأنه تسوء عواقبه ، وقيل : لأنه يسوء إظهاره { والفحشاء } من : فحش الشيء : إذا جاز قدره . وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال . أحدها : أنها كل معصية لها حد في الدنيا . والثاني : أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . والثالث : أنها البخل ، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس . والرابع : أنها الزنى ، قاله السدي . والخامس : المعاصي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } أي : أنه حرم عليكم ما لم يحرّم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اتَّبعوا ما أنزل الله }
اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها في الذين قيل لهم : { كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم ، وهذا قول مقاتل . والثاني : أنها نزلت في اليهود ، وهي قصة مستأنفة ، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور ، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس . والثالث : في مشركي العرب وكفار قريش ، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } فعلى القول الأول؛ يكون المراد بالذي أنزل الله : تحليل الحلال ، وتحريم الحرام . وعلى الثاني يكون : الإسلام . وعلى الثالث : التوحيد والإسلام . و { ألفيْنا } بمعنى : وجدنا .
قوله تعالى : { أوَ لَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } من الدين ، ولا يهتدون له ، أيتبعونهم أيضاً في خطئهم وافترائهم؟!
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق }
في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناها : ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي ، وهذا قول الفراء ، وثعلب ، قالا جميعاً : أضاف المثل إلى الذين كفروا ، ثم شبههم بالراعي ، ولم يقل : كالغنم ، والمعنى : ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فلو قال لها الراعي : ارعي ، أو اشربي؛ لم تدر ما يقول لها ، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن ، وإنذار الرسول ، فأضيف التشبيه إلى الراعي ، والمعنى في المرعي ، وهو ظاهر في كلام العرب ، يقولون : فلان يخافك كخوف الأسد ، والمعنى : كخوفه الأسد ، [ لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف ] . قال الشاعر :
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناءُ فريضةَ الرجم
والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنى .
والثاني : أن معناها : ومثل الذين كفروا ، ومثلنا في وعظهم ، كمثل الناعق والمنعوق به ، فحذف : ومثلنا ، اختصاراً ، إذ كان في الكلام ما يدل عليه ، وهذا قول ابن قتيبة ، والزجاج .
والثالث : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتم التي يعبدون ، كمثل الذي ينعق ، هذا قول ابن زيد ، والذي ينعق هو الراعي ، يقال : نعق بالغنم ، ينعق نعقاً ونعيقاً ونعاقاً ونعقاناً . قال ابن الأنباري : والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال : نعق ، إلا في الصياح بالغنم وحدها ، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى . { صُمٌ بُكمٌ } إنما وصفهم بالصم والبَكم ، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا يسمع ، وكذلك في النطق والنظر ، وقد سبق شرح هذا المعنى .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قوله تعالى : { إِنما حرَّم عليكم الميتة }
قرأ أبو جعفر «الميته» هاهنا ، وفي المائدة ، والنحل : و { بلدة ميّتاً } [ ق : 11 ] . بالتشديد ، حيث وقع . والميتة في عرف الشرع : اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة . وقيل : إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث ، أذىً للآكل ، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال : ميتة حكماً ، لأن حكمه حكم الميتة ، كذبيحة المرتد . فأما الدم؛ فالمحرم منه : المسفوح ، لقوله تعالى : { أو دماً مسفوحاً } [ الأنعام : 145 ] قال القاضي أبو يعلى : فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح ، وما يبقى في العروق؛ فهو مباح .
فأما لحم الخنزير؛ فالمراد : جملته ، وإنما خص اللحم ، لأنه معظم المقصود . قال الزجاج : الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى . ومعنى { وما أهلَّ به لغير الله } [ البقرة : 173 ] ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله ، ومثله الإهلال بالحج ، إنما هو رفع الصوت بالتلبية .
قوله تعالى : { فمن اضطر } أي : ألجيء بضرورة . وقرأ أبو جعفر : { فمن اضّطِر } بكسر الطاء حيث كان . وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء .
قوله تعالى : { غير باغٍ } قال الزجاج : البغي : قصد الفساد . يقال : بغى الجرح : إذا ترامى إلى الفساد . وفي قوله : { غير باغٍ ولا عادٍ } أربعة أقوال . أحدها : أن معناه غير باغ على الولاة ، ولا عاد يقطع السبيل ، هذا قول سعيد بن جبير ، ومجاهد . والثاني : غير باغٍ في أكله فوق حاجته ، ولا متعدٍ بأكلها وهو يجد غيرها ، هذا قول الحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والربيع . والثالث : غير باغٍ ، أي : مستحلٍ ، ولا عاد : غير مضطر ، روي عن سعيد ابن جبير ، ومقاتل . والرابع : غير باغ شهوته بذلك ، ولا عاد بالشبع منه ، قاله السدي .
فصل
معنى الضرورة في إباحة الميته : أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه . سئل أحمد ، رضي الله عنه ، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة ، فذكر عن مسروق أنه قال : من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار ، فأما مقدار ما يأكل؛ فنقل حنبل : يأكل مقدار ما يقيمه عن الموت . ونقل ابن منصور : يأكل بقدر ما يستغني . فظاهر الأولى : أنه لا يجوز له الشبع ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، وظاهر الثانية : جواز الشبع ، وهو قول مالك .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } .
قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، كتموا اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيّروه في كتابهم . والثمن القليل : ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا . { أولئك ما يأكلون في بطونهم إِلا النار } قال الزجاج : معناه : إن الذين يأكلونه يعذّبون به ، فكأنهم يأكلون النار . { ولا يكلِّمهم } هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم .
قوله تعالى : { ولا يزكيهم } [ فيه ] ثلاثة أقوال . أحدها : لا يزكي أعمالهم ، قاله مقاتل . والثاني : لا يثني عليهم ، قاله الزجاج . والثالث : لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم ، قاله ابن جرير .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة } أي : اختاروها على الهدى .
قوله تعالى : { فما أصبرهم على النار } فيه أربعة أقوال . أحدها : أن معناه : فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار! قاله عكرمة ، والربيع . والثاني : ما أجرأهم على النار؛ قاله الحسن ، ومجاهد . وذكر الكسائي أن أعرابياً حلف له رجل كاذباً فقال الأعرابي : ما أصبرك على الله ، يريد ما أجرأك . والثالث : ما أبقاهم في النار ، كما تقول : ما أصبر فلاناً على الحبس ، أي ما أبقاه فيه ، ذكره الزجاج . والرابع : أن المعنى : فأي شيء صبّرهم على النار؟! قاله ابن الأنباري . وفي «ما» قولان . أحدهما : أنها للاستفهام ، تقديرها : ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء ، والسدي ، وابن زيد ، وأبو بكر بن عياش . والثاني : أنها للتعجب ، كقولك : ما أحسن زيداً ، وما أعلم عَمراً . وقال ابن الأنباري : معنى الآية التعجب ، والله يعجِّبُ المخلوقين ، ولا يعجب هو كعجبهم .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله تعالى : { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب ، فتقديره : ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه . وفي «الكتاب» قولان . أحدهما : أنه التوراة . والثاني : القرآن . وفي «الحق» قولان . أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه ضد الباطل ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وإِن الذين اختلفوا في الكتاب } فيه قولان .
أحدهما : أنه التوراة . ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال . أحدها : أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها ، فادعى النصارى فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود ذلك . والثاني : أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث : أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها .
والثاني : أنه القرآن فمنهم من قال : شعر ، ومنهم من قال : إنما يعلّمه بشر .
والشقاق : معاداة بعضهم لبعض . وفي معنى «بعيد» قولان . أحدهما : أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض ، قاله الزجاج . والثاني : أنه بعيد من الهدى .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله تعالى : { ليس البِرَّ أن تولوا وجوهكم }
قال قتادة : ذُكر لنا أن رجلاً سأل عن «البِر» فأنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله ، فتلاها عليه . وفيمن خُوطب بها قولان . أحدهما : أنهم المسلمون . والثاني : أهل الكتابين . فعلى القول الاول؛ معناها : ليس البر كله في الصلاة ، ولكن البر ما في هذه الآية . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، وسفيان . وعلى القول الثاني؛ معناها : ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب ، وصلاة النصارى إلى المشرق ، ولكن البر ما في هذه الآية ، وهذا قول قتادة ، والربيع ، وعوف الأعرابي ، ومقاتل .
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم : { ليس البرّ } بنصب الراء . وقرأ الباقون برفعها ، قال أبو علي : كلاهما حسن ، لأن كل واحد من الاسمين؛ اسم «ليس» وخبرها ، معرفة ، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسماً ، والآخر خبراً ، كما تتكافأ النكرتان .
وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال . أحدها : الإيمان . والثاني : التقوى . والثالث : العمل الذي يقرب إلى الله .
قوله تعالى : { ولكن البر من آمن بالله } فيه قولان . أحدهما : أن معناه : ولكن البرّ برّ من آمن بالله . والثاني : ولكن ذا البر من آمن بالله . حكاهما الزجاج . وقرأ نافع ، وابن عامر : { ولكن البر } بتخفيف نون «لكن» ورفع «البر» . وإنما ذكر اليوم الآخر ، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان . أحدهما : أنه القرآن . والثاني : أنه بمعنى الكتب ، فيدخل في هذا اليهود ، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن .
قوله تعالى : { وآتى المال على حُبِّه } في هاء «حبه» قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى المال . والثاني : إلى الإيتاء . وكان الحسن إذا قرأها قال : سوى الزكاة المفروضة .
قوله تعالى : { ذوي القربى } يريد : قرابة المعطي . وقد شرحنا معنى : { اليتامى والمساكين } عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة . فأما { ابن السبيل } ففيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الضيف ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، والثاني : أنه الذي يمر بك مسافراً ، قاله الربيع ، بن أنس . وعن مجاهد ، وقتادة كالقولين . وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال : هو المنقطع به يريد بلداً آخر . وهذا اختيار ابن جرير الطبري ، وأبي سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى ، ويحققه : أن السبيل الطريق ، وابنه : صاحبه الضارب فيه ، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجاً . ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا ، لأنه إن كان مسافراً ، فانه ضيف لم ينزل . والقول الثالث : أنه الذي يريد سفراً ، ولا يجد نفقة ، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي .
قوله تعالى : { وفي الرقاب } أي : في فك الرقاب . ثم فيه قولان . أحدهما : أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي ، والثاني : أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مالك بن أنس ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . وعن أحمد كالقولين .
فأما البأساء : فهي : الفقر . والضراء : المرض . وحين البأس : القتال؛ قاله الضحاك . { أولئك الذين صدقوا } قال أبو العالية : تكلموا بالإيمان وحققوه بالعمل .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص }
روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين؛ قالوا : لن نقتل به إلا حراً ، تعززاً لفضلهم على غيرهم . وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين؛ قالوا : لن نقتل بها إلا رجلاً؛ فنزلت هذا الآية . ومعنى «كتب» : فرض ، قاله ابن عباس وغيره . والقصاص : مقابلة الفعل بمثله ، مأخوذ من : قص الأثر . فان قيل : كيف يكون فرضاً والولي مخير بينه وبين العفو؟ فالجواب : أنه فرض على القاتل للولي ، لا على الولي .
قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } أي : من دم أخيه ، أي : ترك له القتل ، ورضي منه بالدية : ودل قوله : { من أخيه } على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام ، { فاتباع بالمعروف } أي : مطالبته بالمعروف ، بأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها : { وأداء إِليه باحسان } يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل { ذلك تخفيف من ربكم } قال سعيد بن جبير : كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد ، ولا يعفى عنه ، ولا يؤخذ منه دية ، فرخَّص الله لأمة محمد ، فان شاء وليّ المقتول عمداً ، قتل ، وإن شاء ، عفا ، وإن شاء ، أخذ الدية .
قوله تعالى : { فمن اعتدى } أي : ظلم ، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية؛ { فله عذاب أليم } قال قتادة : يقتل ولا تقبل منه الدية .
فصل
ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ ، لأنه لما قال : { الحر بالحر } ؛ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر ، وكذلك لما قال : { والأُنثى بالأُنثى } اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب ، وذلك منسوخ بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } قال شيخنا علي بن عبد الله : وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ ، لأن الفقهاء يقولون : دليل الخطاب حجة مالم يعارضه دليل أقوى منه .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة }
قال الزجاج : إذا علم الرجل أنه إن قَتَل قُتِل؛ أمسك عن القتل ، فكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه ، لأنه من أجل القصاص أمسك . وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :
أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
يريد : أنهم إذا تعاتبوا أصلح من بينهم العتاب . والألباب : العقول ، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاماً ، لأنهم المنتفعون بالخطاب ، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } قال ابن عباس : لعلكم تتقون الدماء . وقال ابن زيد : لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به .
فصل
نقل ابن منصور عن أحمد : إذا قتل رجل رجلاً بعصى ، أو خنقه ، أو شدخ رأسه بحجر ، يقتل بمثل الذي قتل به . فظاهر هذا : أن القصاص يكون بغير السيف ، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها ، وهو قول مالك ، والشافعي . ونقل عنه حرب : إذا قتله بخشبة قتل بالسيف . ونقل أبو طالب : إذا خنقه قتل بالسيف . فظاهر هذا : أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قوله تعالى : { كتب عليكم إِذا حضر أحدَكم الموتُ }
قال الزجاج : المعنى : وكتب عليكم ، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو . وعلم أن معناه معنى الواو ، وليس المراد : كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت ، لأنه في شغل حينئذ ، وإنما المعنى : كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية ، فيقول الرجل : إذا أنا متُّ ، فلفلان كذا . فأما الخير هاهنا؛ فهو المال في قول الجماعة .
وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال . أحدها : أنه ألف درهم فصاعداً ، روي عن علي ، وقتادة . والثاني : أنه سبعمائة درهم فما فوقها ، رواه طاووس عن ابن عباس . والثالث : ستون ديناراً فما فوقها ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والرابع : أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال . قالت عائشة لرجل سألها : إني أُريد الوصية ، فقالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة . قالت : هذا شيء يسير ، فدعه لعيالك . والخامس : أنه من ألف درهم إلى خمسمائة ، قاله إبراهيم النخعي . والسادس : أنه القليل والكثير ، رواه معمر عن الزهري . فأما المعروف؛ فهو الذي لا حيف فيه .
فصل
وهل كانت الوصية ندباً أو واجبة؟ فيه قولان . أحدهما : أنها كانت ندباً . والثاني : أنها كانت فرضاً ، وهو أصح ، لقوله تعالى : { كتب } ومعناه : فرض . قال ابن عمر : نسخت هذه الآية بآية الميراث . وقال ابن عباس : نسختها : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] . والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون : هل تجب الوصية لهم؟ على قولين ، أصحهما أنها لا تجب لأحد .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
قوله تعالى : { فمن بدله } قال الزجاج : من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها ، فانما إثمه على مبدله ، لا على الموصي ، ولا على الموصى له { إن الله سميع } لما قد قاله الموصي { عليم } بما يفعله الموصى إليه .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قوله تعالى : { فمن خاف من موصٍ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم { مُوصٍ } ساكنة الواو ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم «مُوَصٍ» مفتوحة الواو مشددة الصاد . وفي المراد بالخوف هاهنا قولان . أحدهما : أنه العلم . والثاني : نفس الخوف . فعلى الأول؛ يكون الجور قد وجد . وعلى الثاني : يخشى وجوده . و «الجنف» : الميل عن الحق . قال الزجاج : جنفاً ، أي : ميلاً ، أو إثماً ، أي : قصد الإثم . وقال ابن عباس : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد . قال أبو سليمان الدمشقي : الجنف : الخروج عن الحق ، وقد يسمى به المخطىء والعامد ، إلا أن المفسرين علّقوا الجنف على المخطىء ، والإثم على العامد .
وفي توجيه هذه الآية قولان . أحدهما : أن معناه : من حضر رجلاً يموت ، فأسرف في وصيته ، أو قصر عن حق؛ فليأمره بالعدل ، هذا قول مجاهد . والثاني : أن معناها : من أوصى بجور ، فرد وليّه وصيته ، أو ردها إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيّه؛ فلا إثم عليه ، وهذا قول قتادة .
قوله تعالى : { فأصلح بينهم } أي : بين الذين أوصى لهم ، ولم يجر لهم ذكر ، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، وأنشد الفراء :
وما أدري إذا يممتُ أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني؟!
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
فكنّى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده ، لما في مفهوم اللفظ من الدلالة .