كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
قوله تعالى : { قل أندعوا من دون الله } أي : أنعبد مالا يضرنا إن لم نعبده ، ولا ينفعنا إن عبدناه ، وهي الأصنام . { ونُردُّ على أعقابنا } أي : نرجع إلى الكفر { بعد إذ هدانا الله } إلى الإسلام ، فنكون { كالذي استهوته الشياطين } . وقرأ حمزة : «استهواه الشياطين» على قياس قراءته : { توفاه رُسْلُنا } وفي معنى «استهوائها» قولان .
أحدهما : أنها هوت به وذهبت ، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : تُشبَّه له الشياطين فيتبعها ، حتى تهوي به في الأرض ، فتضلّه .
والثاني : زيَّنت له هواه ، قاله الزجاج . قال و { حيران } : منصوب على الحال ، أي : استهوته في حال حيرته . قال السدي : قال المشركون للمسلمين : اتَّبِعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فقال تعالى : { قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونردُّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } فنكون كرجل كان مع قوم على طريق ، فضلّ ، فحيرته الشياطين ، وأصحابه على الطريق يدعونه : يا فلان هلم إلينا ، فانا على الطريق ، فيأبى . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق ، دعاه أبوه وأُمه إلى الإسلام فأبى . قال مقاتل : والمراد بأصحابه : أبواه .
قوله تعالى : { قل إن هدى الله هو الهدى } هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام ، وزجرٌ عن إجابته كأنه قيل له : لا تفعل ذلك ، لأن هدى الله هو الهدى ، لا هدى غيره .
قوله تعالى : { وأُمرنا لنسلم } قال الزجاج : العرب تقول : أمرتك أن تفعل ، وأمرتك لتفعل ، وأمرتك بأن تفعل . فمن قال : «بأن» فالباء للالصاق . والمعنى : وقع الأمر بهذا الفعل ، ومن قال : «أن تفعل» فعلى خذف الباء؛ ومن قال : «لتفعل» فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر . قال وفي قوله : { وأن أقيموا الصلاة } وجهان .
أحدهما : أُمرنا لأن نسلم ، ولأن نقيم الصلاة .
والثاني : أن يكون محمولاً على المعنى ، لأن المعنى : أُمرنا بالإسلام ، وباقامة الصلاة .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قوله تعالى : { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } فيه أربعة أقوال .
أحدها : خلقهما للحق .
والثاني : خلقهما حقاً .
والثالث : خلقهما بكلامه ، وهو الحق .
والرابع : خلقهما بالحكمة .
قوله تعالى : { ويوم يقول كن فيكون } قال الزجاج : الأجود أن يكون منصوباً على معنى : واذكر يوم يقول كن فيكون ، لأن بعده { وإذ قال إِبراهيم } فالمعنى : واذكر هذا وهذا . وفي الذي يقول له كن فيكون ، ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله مقاتل .
والثاني : ما يكون في القيامة .
والثالث : أنه الصور ، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه ، قالهما الزجاج . قال : وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء ، ليدل على سرعة أمر البعث .
قوله تعالى : { قوله الحق } أي : الصدق الكائن لا محالة { وله الملك يوم ينفخ في الصور } . وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو : «ننفخ» بنونين ومعنى الكلام : أن الملوك يومئذ لا ملك لهم ، فهو المنفرد بالملك وحده ، كما قال : { والأمر يومئذ لله } [ الإنفطار : 19 ] وفي «الصور» قولان .
أحدهما : أنه قرن ينفخ فيه؛ " روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور ، فقال : «هو قرن ينفخ فيه» " وقال مجاهد : الصور كهيأة البوق . وحكى ابن قتيبة : أن الصور : القرن ، في لغة قوم من أهل اليمن ، وأنشد :
نَحْنُ نَطَحْنَاهُم غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن
نَطْحاً شَدِيدَاً لا كَنَطْحِ الصّورَيْن ... وأنشد الفراء :
لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم ... وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ
وهذا اختيارُ الجمهور .
والثاني : أن الصور جمع صورة؛ يقال : صورة وصور ، بمنزلة سورة وسور ، كسورة البناء؛ والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس ، قاله قتادة : وأبو عبيدة . وكذلك قرأ الحسن ، ومعاذ القارىء ، وأبو مِجْلَز ، وأبو المتوكل «في الصُّوَر» بفتح الواو . قال ثعلب : الأجود أن يكون الصور : القرن ، لأنه قال عز وجل { ونُفخ في الصور فصَعِق من في السماوات ومن في الأرض } ثم قال : { ثم نُفخ فيه أخرى } ؛ ولو كان الصُّوَر ، كان : ثم نُفخ فيها أو فيهن؛ وهذا يدل على أنه واحد؛ وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين . وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصور قرن يُنفخ فيه ثلاث نفخات؛ الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين " قال ابن عباس : وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى ، يعني : نفخة الصعق .
قوله تعالى : { عالم الغيب } وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ، { والشهادة } وهو ما شاهدوه ورأوه . وقال الحسن : يعني بذلك السر والعلانية .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } في { آزر } أربعة أقوال .
أحدها : أنه أسم أبيه ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وابن إسحاق .
والثاني : أنه اسم صنم ، فأما اسم أبي إبراهيم : فتارح ، قاله مجاهد : فيكون المعنى : أتتخذ آزر أصناماً؟ فكأنه جعل أصناماً بدلاً من آزر ، والاستفهام معناه الإنكار .
والثالث : أنه ليس باسم ، إنما هو سبّ بعيب ، وفي معناه قولان . أحدهما : أنه المعوَّج ، كأنه عابه نريغه وتعويجه عن الحق ، ذكره الفراء . والثاني : أنه المخطىء ، فكأنه قال : يا مخطىء أتتخذ أصناماً؟ ذكره الزجاج .
والرابع : أنه لقب لأبيه ، وليس باسمه ، قاله مقاتل بن حيان . قال ابن الانباري : قد يغلب على اسم الرجل لقبه ، حتى يكون به أشهر منه باسمه ، والجمهور على قراءة { آزر } بالنصب . وقرأ الحسن ، ويعقوب بالرفع . قال الزجاج : من نصب ، فموضع { آزر } خفضٌ بدلاً من أبيه؛ ومن رفع فعلى النداء .
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم } أي : وكما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، نريه { ملكوت السموات والأرض } . وقيل : { نري } بمعنى أرينا . قال الزجاج : والملكوت بمنزلة المُلك ، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة ، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة؛ ومثل الملكوت : الرغبوت والرهبوت . قال مجاهد : ملكوت السموات والأرض : آياتها؛ تفرجت له السموات السبع ، حتى العرشُ ، فنظر فيهن ، وتفرجت له الأرضون السبع ، فنظر فيهن . وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم . وملكوت الأرض : الجبال والشجر والبحار . وقال السدي : أُقيم على صخرة ، وفتحت له السموات والأرض ، فنظر إلى ملك الله عز وجل ، حتى نظر إلى العرش ، وإلى منزله من الجنة ، وفتحت له الأرضون السبع ، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون .
قوله تعالى : { وليكون من الموقنين } هذا عطف على المعنى ، لأن معنى الآية : نريه ملكوت السموات والأرض ليستدل به ، وليكون من الموقنين . وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال .
أحدها : وحدانية الله وقدرته .
والثاني : نبوته ورسالته .
والثالث : ليكون موقنا بعلم كل شيء ، حساً لا خبراً .
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى : { فلما جنَّ عليه الليل } قال الزجاج : يقال جن عليه الليل ، وأجنه الليل : إذا أظلم ، حتى يستر بظلمته؛ ويقال لكل ما ستر : جنّ ، وأجنّ ، والاختيار أن يقال : جنّ عليه الليل ، وأجنه الليل .
الإشارة إلى بدء قصة إبراهيم عليه السلام .
روى أبو صالح عن ابن عباس قال : وُلد إبراهيم في زمن نُمروذ وكان لنمروذ ، كُهَّان ، فقالوا : له يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض ، ويدعوهم إلى غير دينهم ، ويكون هلاك أهل بيتك على يده ، فعزل النساء عن الرجال ، ودخل آزر إلى بيته فوقع على زوجته ، فحملت ، فقال الكهان لنمروذ : إن الغلام قد حمل به الليلة . فقال : كل من ولدت غلاما فاقتلوه . فلما أخذ أُم إبراهيم المخاضُ ، خرجت هاربة ، فوضعته في نهر يابس ، ولفّته في خرقة ، ثم وضعته في حَلْفاء ، وأخبرت به أباه ، فأتاه ، فحفر له سرباً ، وسد عليه بصخرة ، وكانت أُمه تختلف إليه فترضعه ، حتى شب وتكلم ، فقال لأُمه : من ربي؟ فقالت : أنا . قال : فمن ربكِ؟ قالت : أبوك . قال : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت . فسكت ، فرجعت إلى زوجها ، فقالت : إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض ، ابنك . فأتاه ، فقال له مثل ذلك . فلما جنَّ عليه الليل ، دنا من باب السرب ، فنظر فرأى كوكباً . قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم «رأى» بفتح الراء والهمزة ، وقرأ أبو عمرو «رَإى»؛ بفتح الراء وكسر الهمزة ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم «رِإى» ، بكسر الراء والهمزة ، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن ، وهو آت في ستة مواضع : { رأى القمر } { فلما رأى الشمس } وفي النحل { وإذا رأى الذين ظلموا } [ النحل : 85 ] { وإذا رأى الذين أشركوا } [ النحل : 86 ] وفي الكهف { ورأى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] وفي الأحزاب { ولما رأى المؤمنون } [ الأحزاب : 22 ] وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة إلا العبسي ، وخلف في اختياره : بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل ، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضاً ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : بفتح الراء والهمزة . فان اتصل ذلك بمكني ، نحو : رآك ، ورآه ، ورآها؛ فان حمزة ، والكسائي ، وخلف والوليد عن ابن عامر ، والمفضل ، وأبان ، والقزاز عن عبد الوارث ، والكسائي عن أبي بكر : يكسرون الراء ، ويميلون الهمزة .
وفي الكوكب الذي رآه قولان .
أحدهما : أنه الزهرة ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : المشتري ، قاله مجاهد ، والسدي .
قوله تعالى : { قال هذا ربي } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه على ظاهره ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : هذا ربي ، فعبده حتى غاب ، وعبد القمر حتى غاب ، وعبد الشمس حتى غابت؛ واحتج أرباب هذا القول بقوله : { لئن لم يهدني ربي } وهذا يدل على نوع تحيير ، قالوا : وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه ، قبل أن يثبت عنده دليل .
وهذا القول لا يرتضى ، والمتأهِلّون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال .
فأما قوله : { لئن لم يهدني ربي } فما زال الأنبياء يسألون الهدى ، ويتضرعون في دفع الضلال عنهم ، كقوله : { واجنبني وبَنيَّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] ولأنه قد آتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوت السموات والأرض ليكون موقناً ، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟!
والثاني : أنه قال ذلك استدراجاً للحجة ، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها ، ولا بد أن يضمر في نفسه : إما على زعمكم ، أو فيما تظنون ، فيكون كقوله : { اين شركائي } ، وإما أن يضمر : يقولون ، فيكون كقوله : { ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] أي : يقولان ذلك ، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري ، ويكون مراده : استدراج الحجة عليهم ، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما ، فأظهر تعظيمه ، فأكرموه ، وصدروا عن رأيه ، فدهمهم عدو ، فشاورهم ملِكهم ، فقال : ندعو إلهنا ليكشف ما بنا ، فاجتمعوا يدعونه ، فلم ينفع ، فقال : هاهنا إله ندعوه ، فيستجيب ، فدعَوُا الله ، فصرف عنهم ما يحذرون ، وأسلموا .
والثالث : أنه قال مستفهما ، تقديره : أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام ، كقوله : { أفان مت ، فهم الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] ؟ أي : أفَهُمُ الخالدون؟ قال الشاعر :
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
أراد : أكذبتك؟ قال ابن الأنباري : وهذا القول شاذ ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقاً بين الإخبار والاستخبار؛ وظاهر قوله : { هذا ربي } أنه إشارة إلى الصانع . وقال الزجاج : كانوا أصحاب نجوم ، فقال : هذا ربي ، أي : هذا الذي يدبرني ، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر ، لا نرى فيه إلا أثر مدَّبر . و«أفل» : بمعنى : غاب؛ يقال : أفل النجم يأفُل ويأفِل أفولاً .
قوله تعالى : { لا أُحب الآفلين } أي : حبَّ ربٍّ معبود ، لأن ما ظهر وأفل كان حادثاً مدبَّراً .
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله تعالى : { فلما رأى القمر } قال ابن قتيبة : سمي القمر قمراً لبياضه؛ والأقمر : الأبيض؛ وليلة قمراء ، أي : مضيئة . فأما البازغ ، فهو الطالع . ومعنى { لئن لم يهدني } لئن لم يثبِّتني على الهدى . فان قيل : لم قال في الشمس : هذا ، ولم يقل : هذه؟ فعنه أربعة أجوبه .
أحدها : أنه رأى ضوء الشمس لا عينها ، قاله محمد بن مقاتل . والثاني : أنه أراد هذا الطالع ربي ، قاله الأخفش . والثالث : أن الشمس بمعنى الضياء والنور ، فحمل الكلام على المعنى . والرابع : أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث ، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكَّر ، فجاز تذكيرها . ذكره والذي قبله ابن الانباري .
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قوله تعالى : { إني وجهت وجهي } قال الزجاج : جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عز وجل . وباقي الآية قد تقدم .
وقوله تعالى : { وحاجه قومه } قال ابن عباس : جادلوه في آلهتهم ، وخوَّفوه بها ، فقال : منكراً عليهم : { أتحاجُّونِّي } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { أتحاجُّوني } و { تأمرونّي } [ الزمر : 64 ] بتشديد النون . وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيفها ، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين . ومعنى { أتحاجونّي في الله } أي : في توحيده . { وقد هدان } أي : بيَّن لي ما به اهتديت . وقرأ الكسائي : «هداني» بامالة الدال . والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء ، وهذا من هدى يَهدي .
قوله تعالى : { ولا أخاف ما تشركون به } أي : لا أرهب آلهتكم ، وذلك أنهم قالوا : نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء ، فقال : لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع { إلا أن يشاء ربي شيئاً } فله أخاف { وسع ربي كل شيء علماً } أي عَلِمه علماً تاماً .
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قوله تعالى : { وكيف أخاف ما أشركتم } أي : من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم ، وهو قادر على ضركم ونفعكم { ما لم ينزل به عليكم سلطانا } أي : حجة . { فأي الفريقين أحق بالأمن } أي : بأن يأمن العذاب ، الموحّدُ الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد مالا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } أي : لم يخلطوه بشرك . روى البخاري ، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية ، شق ذلك على المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله ، وأينا ذلك؟ فقال : إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه؟! { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إبراهيم وأصحابه ، وليست في هذه الأمة ، قاله علي بن أبي طالب . وقال في رواية أخرى : هذه الآية لإبراهيم خاصة ، ليس لهذه الأمة منها شيء .
والثاني : أنه من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة .
والثالث : أنها عامة ، ذكره بعض المفسرين . وهل هي من قول ابراهيم لقومه ، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان .
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله تعالى : { وتلك حجتنا } يعني : ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس ، وعيبهم ، إذ سووا بين الصغير والكبير ، وعبدوا من لا ينطق ، وإلزامه إياهم الحجة . { آتيناها ابراهيم } أرشدناه إليها بالإلهام . وقال مجاهد : الحجة قول ابراهيم { فأي الفريقين أحق بالأمن } ؟ .
قوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عمرو ، وابن عامر : { درجاتِ من نشاء } ، مضافا . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، { درجاتٍ } ، منونا ، وكذلك قرؤوا في ( يوسف ) [ يوسف : 76 ] ثم في المعنى قولان .
أحدهما : أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة . والثاني : بالاصطفاء للرسالة .
قوله تعالى : { إن ربك حكيم } قال ابن جرير : حكيم في سياسة خلقه ، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة { عليم } بما يؤول إليه أمر الكل .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق } ولداً لصلبه { ويعقوب } ولدا لإسحاق { كلاً } من هولاء المذكورين { هدينا } أي : أرشدنا .
قوله تعالى : { ومن ذرَّيته } في «هاء الكناية» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى نوح؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس . واختاره الفراء ، ومقاتل ، وابن جرير الطبري .
والثاني : إلى إبراهيم ، قاله عطاء . وقال الزجاج : كلا القولين جائز ، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى ، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى ، ذكر في سياق الآيات لوطاً ، وليس من ذرية إبراهيم . وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد : ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة ، ثم قوله : { وكذلك نجزي المحسنين } من أبين دليل على انه إبراهيم ، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم . فأما «يوسف» فهو اسم أعجمي . قال الفراء : «يوسف» بضم السين من غير همز ، لغة أهل الحجاز ، وبعض بني أسد يقول : «يؤسف» بالهمز ، وبعض العرب يقول : «يوسِف» بكسر السين ، وبعض بني عُقيل يقول : «يوسَف» بفتح السين .
قوله تعالى : { وكذلك نجزي المحسنين } أي : كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه ، بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء ، كذلك نجزي المحسنين . فأما عيسى ، وإلياس ، واليسع ، ولوطا ، فأسماء أعجمية ، وجمهور القراء يقرؤون «اليسع» بلام واحدة مخففاً ، منهم ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر . وقرأ حمزة ، والكسائي ، هاهنا وفي صلى الله عليه وسلم «إلِلْيَسَّعَ» بلامين مع التشديد . قال الفراء : وهي أشبه بالصواب ، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل ، ولأن العرب لا تدخل على «يَفْعَل» إذا كان في معنى فلان ، ألفاً ولاماً ، يقولون : هذا يسع قد جاء ، وهذا يعمر ، وهذا يزيد ، فهكذا الفصيح من الكلام . وأنشدني بعضهم :
وَجَدْنا الوَلِيْد بنَ اليَزْيِد مباركاً ... شَدِيْداً بأحْناءِ الخِلافَةِ كاهِلُه
فلما ذكر الوليد بالألف واللام ، أتبعه يزيد بالألف واللام ، وكلٌ صواب . وقال مكي : من قرأه بلام واحدة . فالأصل عنده : يسع ، ومن قرأه بلامين ، فالأصل عنده : لَيْسَعُ ، فأدخلوا عليه حرف التعريف . وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها ، والمراد بالعالمين : عالمو زمانهم .
قوله تعالى : { ومن آبائهم وذرياتهم } { من } هاهنا للتبعيض . قال الزجاج : المعنى : هدينا هؤلاء ، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم . { واجتبيناهم } مثل : اخترناهم واصطفيناهم ، وهو مأخوذ من جبيت الشيء : إذا أخلصته لنفسك . وجبيت الماء في الحوض : إذا جمعته فيه . فأما الصراط المستقيم : فهو التوحيد .
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قوله تعالى : { ذلك هدى الله } قال ابن عباس : ذلك دين الله الذي هم عليه ، { يهدي به من يشاء من عباده } . { ولو أشركوا } يعني : الأنبياء المذكورين { لحبط } أي : لبطل وزال عملهم ، لأنه لا يقبل عمل مشرك .
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
قوله تعالى : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب } يعني : الكتب التي أنزلها عليهم . والحكم ، الفقه ، والعلم { فان يكفر بها } يعني : بآياتنا .
وفيمن أُشير إليه ب { هؤلاء } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أهل مكة ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة .
والثاني : أنهم قريش ، قاله السدي .
والثالث : أُمة النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { فقد وكلنا بها } قال أبو عبيدة : فقد رزقناها قوماً . وقال الزجاج : وكلنا بالإيمان بها قوماً ، وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أهل المدينة من الأنصار ، قاله ابن عباس ، وابن المسيب ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : الأنبياء والصالحون ، قاله الحسن . وقال قتادة : هم النبيُّون الثمانية عشر ، المذكورون في هذا المكان ، وهذا اختيار الزجاج ، وابن جرير .
والثالث : أنهم الملائكة ، قاله أبو رجاء .
والرابع : أنهم المهاجرون والأنصار .
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله } يعني : النبيين المذكورين .
وفي قوله تعالى : { فبهداهم اقتده } قولان .
أحدهما : بشرائعهم وبسننهم فاعملْ ، قاله ابن السائب .
والثاني : اقتدِ بهم في صبرهم ، قاله الزجاج . وكان ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، يثبتون الهاء من قوله : { اقتده } في الوصل ساكنة . وكان حمزة ، وخلف ، ويعقوب ، والكسائي عن أبي بكر ، واليزيدي في اختياره ، يحذفون الهاء في الوصل . ولا خلاف في إثباتها في الوقف ، وإسكانها فيه .
قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً } يعني : على القرآن . والذكرى : العظة . والعالمون : هاهنا الجن والإنس .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } في سبب نزولها سبعة اقوال .
أحدها : " أن مالك بن الصيف رأس اليهود ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ قال : نعم . قال : فأنت الحبر السمين فغضب ثم قال : { ما أنزل الله على بشر من شيء } فنزلت هذه الآية " ، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير ، وعكرمة : نزلت في مالك بن الصيف .
والثاني : أن اليهود قالوا يا محمد ، أنزل الله عليك كتاباً؟ قال : «نعم» . قالوا والله ما أنزل الله من السماء كتاباً ، فنزلت هذه الآية ، رواه الوالبي عن ابن عباس .
والثالث : أن اليهود قالوا يا محمد ، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله ، فائتنا بآية كما جاء موسى ، فنزل { يسألك أهل الكتاب أن تنزِّل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] إلى قوله { عظيماً } [ النساء : 156 ] . فلما حدَّثهم بأعمالهم الخبيثة ، قالوا : والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى ، ولا على بشر ، من شيء ، فنزلت هذه الآية ، قاله محمد بن كعب .
والرابع : أنها نزلت في اليهود والنصارى ، آتاهم الله علما فلم ينتفعوا به ، قاله قتادة .
والخامس : أنها نزلت في فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : { ما أنزل الله على بشر من شيء } قاله السدي .
والسادس : أنها نزلت في مشركي قريش ، قالوا : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والسابع : أن أولها إلى قوله { من شيء } في مشركي قريش ، وقوله : { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } في اليهود ، رواه ابن كثير عن مجاهد . وفي معنى : { وما قدروا الله حق قدره } ثلاثة أقوال .
أحدها : ما عظَّموا الله حق عظمته ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والفراء ، وثعلب ، والزجاج .
والثاني : ما وصفوه حق وصفته ، قاله أبو العالية ، واختاره الخليل .
والثالث : ما عرفوه حق معرفته ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { يجعلونه قراطيس } معناه : يكتبونه في قراطيس . وقيل : إنما قال : قراطيس ، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطَّعة ، حتى لا تكون مجموعة ، ليخفوا منها ما شاؤوا .
قوله تعالى : { يبدونها } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يجعلونه قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالتاء فيهن . فمن قرأ بالياء ، فلأن القوم غُيّب ، بدليل قوله : { وما قدروا الله حق قدره } ومن قرأ بالتاء ، فعلى الخطاب ، والمعنى : تبدون منها ما تحبون ، وتخفون كثيراً ، مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم ، ونحو ذلك مما كتموه .
قوله تعالى : { وعُلّمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } في المخاطب بهذا قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الجمهور .
والثاني : أنه خطاب للمسلمين ، قاله مجاهد . فعلى الأول : عُلِّموا ما في التوراة؛ وعلى الثاني : عُلِّموا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { قل الله } هذا جواب لقوله : { من أنزل الكتاب } وتقديره : فإن أجابوك ، وإلا فقل : الله أنزله .
قوله تعالى : { ثم ذرهم } تهديد . وخوضهم : باطلهم . وقيل : إن هذا أمر بالإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف .
قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه } يعني : القرآن ، قال الزجاج ، والمبارك : الذي يأتي من قِبَله الخير الكثير . والمعنى : أنزلناه للبركة والإنذار .
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
قوله تعالى : { مصدِّقُ الذي بين يديه } من الكتب .
قوله تعالى : { ولتنذر أُم القرى } قرأ عاصم إلا حفصا : «ولينذر» بالياء؛ فيكون الكتاب هو المنذر . وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . فأما أم القرى ، فهي مكة . قال الزجاج : والمعنى : لتنذر أهل أم القرى .
وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال .
أحدها : أنها سميت بذلك لأن الأرض دُحيت من تحتها ، قاله ابن عباس .
والثاني : لأنها أقدمُها ، قاله ابن قتيبة . والثالث : لأنها قبلة جميع الناس ، يَؤُمُّونها . والرابع : لأنها كانت أعظم القرى شأناً ، ذكرهما الزجاج .
قوله تعالى : { ومن حولها } قال ابن عباس : يريد الأرض كلها .
قوله تعالى : { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } في هاء الكناية قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن .
والثاني : إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : من آمن بالآخرة آمن به؛ ومن لم يؤمن به فليس إيمانه بالآخرة حقيقة ، ولا يعتد به ، ألا ترى إلى قوله : { وهم على صلاتهم يحافظون } فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أولها ، إلى قوله : { ولم يوحَ إليه شيء } نزل في مُسيلمة الكذاب .
وقوله تعالى : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان قد تكلم بالإسلام ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين ، فاذا أُملي عليه : «عزيز حكيم» كتب : «غفور رحيم» فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا وذاك سواء . فلما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] أملاها عليه ، فلما انتهى إلى قوله : { خلقا آخر } [ المؤمنون : 14 ] عجب عبد الله بن سعد ، فقال : { تبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . " كذا أنزلت عليَّ فاكتبها " فشك حينئذ ، وقال : لئن كان محمد صادقاً ، لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذباً ، لقد قلت كما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال عكرمة : ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة .
والقول الثاني : أن جميع الآية في عبد الله بن سعد ، قاله السدي .
والثالث : أنها نزلت في مسيلمة ، والأسود العنْسيّ ، قاله قتادة . فان قيل : كيف أفرد قوله : { أو قال أُوحي إليَّ } من قوله : { ومن أظلم ممن افترى } وذاك مفترٍ أيضا؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الوصفين لرجل واحد ، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته .
والثاني : أنه خص بقوله : { أو قال أُوحي إليَّ } بعد أن عم بقوله : { افترى على الله } لأنه ليس كل مفترٍ على الله يدعي أنه يوحى إليه ، ذكرهما ابن الأنباري .
قوله تعالى : { سأُنزل مثل ما أنزل الله } أي : سأقول . قال ابن عباس : يعنون الشعر ، وهم المستهزؤون . وقيل : هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح . قال الزجاج : وهذا جواب لقولهم : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } .
قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة ، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر ، فلما أبصروا قلَّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان ، فنزل فيهم هذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم الذين قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } قاله أبو سليمان .
والثالث : الموصوفون في هذه الآية ، وهم المفترون والمدَّعون الوحي إليهم ، ومماثلة كلام الله . قال الزجاج : وجواب «لو» محذوف؛ والمعنى : لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذاباً عظيماً . ويقال : لكل من كان في شيء كبير : قد غمر فلاناً ذلك . قال ابن عباس : غمرات الموت : سكراته . قال ابن الانباري : قال اللغويون : سميت غمرات ، لأن أهوالها يغمرن من يقعن به .
قوله تعالى : { والملائكة باسطو أيديهم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : بالضرب ، قاله ابن عباس . والثاني : بالعذاب ، قاله الحسن ، والضحاك . والثالث : باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد ، قاله الفراء . وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : عند الموت ، قال ابن عباس هذا عند الموت ، الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، وملك الموت يتوفاهم .
والثاني : يوم القيامة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : في النار ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { أخرجوا أنفسكم } فيه إضمار «يقولون» وفي معناه قولان .
أحدهما : استسلموا لإخراج أنفسكم .
والثاني : أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم .
قوله تعالى : { تجزَون عذاب الهون } قال أبو عبيدة : الهون : مضموم ، وهو الهوان ، وإذا فتحوا أوله ، فهو الرِّفق والدَّعة . قال الزجاج : والمعنى : تجزَون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد .
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى } سبب نزولها : أن النضر بن الحارث قال : سوف تشفع لي اللاَّت والعزى ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة . ومعنى فرادى : وُحداناً . وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبِّخ به المشركين يوم القيامة . قال أبو عبيدة : فرادى : أي فرد فرد . وقال ابن قتيبة : فرادى : جمع فرد .
وللمفسرين في معنى «فرادى» خمسة اقوال متقاربة المعنى .
أحدها : فرادى من الأهل والمال والولد ، قاله ابن عباس .
والثاني : كل واحد على حدة ، قاله الحسن .
والثالث : ليس معكم من الدنيا شيء ، قاله مقاتل .
والرابع : كل واحد منفرد عن شريكه في الغيّ ، وشقيقه ، قاله الزجاج .
والخامس : فرادى من المعبودين ، قاله ابن كيسان .
قوله تعالى : { كما خلقناكم أول مرة } فيه ثلاثة اقوال .
أحدها : لا مال ولا أهل ولا ولد .
والثاني : حفاةً عراةً غرلاً . والغرل : القلف .
والثالث : أحياءً . وخولناكم : بمعنى : ملّكناكم . { وراء ظهوركم } أي : في الدنيا . والمعنى : أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني ، وبقي الندم على سوء الاختيار . وفي شفعائهم قولان .
أحدهما : أنها الأصنام . قال ابن عباس : شفعاؤكم : أي : آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم . و { زعمتم أنهم فيكم } أي : عندكم شركاء . وقال ابن قتيبة : زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء .
والثاني : أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لقد تقطَّع بينكم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : بالرفع . وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بنصب النون على الظرف : قال الزجاج : الرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطَّع وصلكم ، والنصب جائز ، ومعناه : لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم . وقال ابن الانباري : التقدير : لقد تقطع ما بينكم ، فحذف «ما» لوضوح معناها . قال أبو علي : الذين رفعوه جعلوه اسماً ، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطَّع» إليه؛ والمعنى : لقد تقطع وصلكم ، والذين نصبوا ، أضمروا اسم الفاعل في الفعل ، والمضمر هو الوصل؛ فالتقدير : لقد تقطع وصلكم بينكم . وفي الذي كانوا يزعمون قولان .
أحدهما : شفاعة آلهتهم . والثاني : عدم البعث والجزاء .
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى : { إن الله فالق الحب والنوى } في معنى الفلق قولان .
أحدهما : أنه بمعنى الخلق ، فالمعنى : خالق الحب والنوى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل .
والثاني : أن الفلق بمعنى الشق ، ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنه فلق الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أنه الشقان اللَّذان في الحب والنوى ، قاله مجاهد ، وأبو مالك . قال ابن السائب : الحب : ما لم يكن له نوى ، كالبُرِّ والشعير ، والنوى : مثل نوى التمر .
قوله تعالى : { يخرج الحي من الميت ومخرج الميتِ من الحي } قد سبق تفسيره في ( آل عمران ) .
قوله تعالى : { فأنى تؤفكون } أي : كيف تُصرفون عن الحق بعد هذا البيان .
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قوله تعالى : { فالق الإصباح } في معنى الفلق قولان قد سبقا . فأما الإصباح ، فقال الأخفش : هو مصدر من أصبح . وقال الزجاج : الإصباح والصبح واحد .
وللمفسرين في الإصباح ، ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه إضاءة الفجر ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : فلق الإصباح من الليل .
والثالث : أنه نوَّر النهار ، قاله الضحاك . وقرأ أنس بن مالك ، والحسن ، وأبو مجلز ، وأيوب ، والجحدري : «فالق الأَصباح» بفتح الهمزة . قال أبو عبيد : ومعناه : جمع صبح .
قوله تعالى : { وجاعل الليل سكناً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «جاعل» بألف . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «وجعل» بغير ألف . «الليلَ» نصباً . قال أبو علي : من قرأ : «جاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة . ومن قرأ : «جعل» فلأن «فاعلاً» هاهنا بمعنى : «فعل» بدليل قوله : { والشمس والقمر حسباناً } فأما السكن : فهو ما سكنْتَ إليه . والمعنى : أن الناس يسكنون فيه سكون راحة . وفي الحسبان قولان .
أحدهما : أنه الحساب ، قاله الجمهور . قال ابن قتيبة : يقال : خذ من كل شيء بحسبانه ، أي : بحسابه . وفي المراد بهذا الحساب ، ثلاثة أقوال . أحدها : أنهما يجريان إلى أجل جُعل لهما ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : يجريان في منازلهما بحساب ، ويرجعان إلى زيادة ونقصان ، قاله السدي . والثالث : أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور والأعوام ، قاله مقاتل .
والقول الثاني : أن معنى الحسبان : الضياء ، قاله قتادة . قال الماوردي ، كأنه أخذه من قوله تعالى : { ويرسل عليها حسباناً من السماء } [ الكهف : 40 ] أي : ناراً . قال ابن جرير : وليس هذا من ذاك في شيء .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قوله تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم } جعل : بمعنى خلق . وإنما امتنَّ عليهم بالنجوم ، لأن سالكي القفار وراكبي البحار ، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قوله تعالى : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني : آدم { فمستقر } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، إلا رُويساً : بكسر القاف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : بفتحها . قال الزجاج : من كسر ، فالمعنى : «فمنكم مستقِر» . ومن نصب ، فالمعنى : «فلكم مستقَرّ» فأما مستودع ، فبالفتح ، لا غير . ومعناه على فتح القاف : «ولكم مستودع» وعلى كسر القاف : «منكم مستودع» . وللمفسرين في هذا المستقر والمستودع تسعة أقوال .
أحدها : فمستقر في الأرحام ، ومستودع في الأصلاب ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والنخعي ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : المستقر في الأرحام ، والمستودع في القبر ، قاله ابن مسعود .
والثالث : المستقر في الأرض ، والمستودع في الأصلاب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .
والرابع : المستقر والمستودع في الرحم ، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس .
والخامس : المستقر حيث يأوي ، والمستودع حيث يموت ، رواه مقسم عن ابن عباس .
والسادس : المستقر في الدنيا ، والمستودع في القبر .
والسابع : المستقر في القبر ، والمستودع في الدنيا ، وهو عكس الذي قبله ، رويا عن الحسن .
والثامن : المستقر في الدنيا ، والمستودع عند الله تعالى ، قاله مجاهد .
والتاسع : المستقر في الأصلاب ، والمستودع في الأرحام ، قاله ابن بحر ، وهو عكس الأول .
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء } يعني : المطر { فأخرجنا به } أي : بالمطر . وفي قوله تعالى : { نبات كل شيء } قولان .
أحدهما : نبات كل شيء من الثمار ، لأن كل ما ينبت فنباته بالماء .
والثاني : رزق كل شيء وغذاؤه . وفي قوله تعالى : { فأخرجنا منه } قولان .
أحدهما : من الماء ، أي : به .
والثاني : من النبات . قال الزجاج : الخَضِر : بمعنى الأخضر ، يقال : اخضرَّ ، فهو أخْضر ، وخَضِر ، مثل أعوَّر ، فهو أعْوَر ، وعَوِر .
قوله تعالى : { نخرج منه } أي : من الخضر { حباً متراكما } كالسنبل والشعير . والمتراكب : الذي بعضه فوق بعض .
قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } وروى الخفّاف عن أبي عمرو ، «قُنوان» : بضم القاف؛ وروى هارون عنه بفتحها . قال الفراء : معناه : ومن النخل ما قنوانه دانية ، وأهل الحجاز يقولون : «قِنوان» بكسر القاف؛ وقيس يضمونها؛ وضبة ، وتميم ، يقولون : «قنيان» وأنشدني المفضّل عنهم :
فأثَّتْ أعَالِيْهِ وآدَتْ أصُوْلُه ... وَمَالَ بِقِنْيانٍ من البُسْرِ أحْمَرَا
ويجتمعون جميعاً ، فيقولون : «قِنو» و«قُنو» ولا يقولون : «قِني» ولا «قُني» وكلب . يقولون : «ومال بِقِنيان» . قال المصنف : والبيت لامرئ القيس؛ ورواه أبو سعيد السكري : { ومال بِقِنوان } مكسورة القاف مع الواو ، ففيه أربع لغات : قِنوان ، وقُنوان ، وقِنيان ، وقُنيان { وأثت } : كثرت؛ ومنه : شعر أثيت . { وآدت } : اشتدت . وقال ابن قتيبة : القنوان : عذوق النخل ، واحدها : قنو ، جمع على لفظ تثنية ، ومثله : صِنو وصنوان في التثنية ، وصنوان في الجمع . وقال الزجاج : قِنوان : جمع قِنو ، وإذا ثنيته فهما قِنوان ، بكسر النون . ودانية : أي : قريبة المتناول ، ولم يقل : { ومنها قنوان بعيدة } ، لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة؛ قد كانت غير سحيقة ، فاجتُزىء بذكر القريبة عن ذكر البعيدة؛ كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقال ابن عباس : القُنوان الدانية : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض .
قوله تعالى : { وجنات من أعناب } قال الزجاج : هو نسق على قوله : «خضراً» { والزيتون والرمان } المعنى : وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان؛ وقد روى أبو زيد عن المفضل ، و«جناتٌ» بالرفع .
قوله تعالى : { مشتبهاً وغير متشابه } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : مشتبها في المنظر ، وغير متشابه في الطعم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : مشتبهاً ورقه ، مختلفاً ثمره ، قاله قتادة ، وهو في معنى الأول .
والثالث : منه ما يشبه بعضه بعضاً ، ومنه ما يخالف . قال الزجاج : وإنما قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره . قال الشاعر :
بُورِكَ الميّت الغَريبُ كما بو ... رِكَ نَضْحُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ
ومعناه : أن البركة في ورقه اشتمالُه على عوده كلِّه .
قوله تعالى : { انظروا إلى ثمره } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : { انظروا إلى ثمره } ، و { كلوا من ثمره } [ الأنعام : 141 ] و
{ ليأكلوا من ثمره } [ يس : 35 ] : بالفتح في ذلك . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : بالضم فيهن . قال الزجاج : يقال : ثَمرةٌ ، وثَمَرَ ، وثِمَار ، وثُمُر؛ فمن قرأ «إلى ثُمُره» بالضم أراد جمع الجمع . وقال أبو علي : يحتمل وجهين . أحدهما : هذا ، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار .
والثاني : أن تكون الثمر جمع ثمرة ، وكذلك أكمة ، وأُكُم ، وخشبة وخُشُب . قال الفراء : يقول : انظروا إليه أول ما يَعْقِد ، وانظروا إلى ينعه ، وهو نضجه وبلوغه . وأهل الحجاز يقولون : يَنْعَ ، بفتح الياء ، وبعض أهل نجد يضمونها . قال ابن قتيبة : يقال : ينَعت الثمرة ، وأينعت : إذا أدركت وهو ، اليُنْع واليَنْع . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والأعمش ، وابن محيصن : { ويُنعِه } بضم الياء . قال الزجاج : الينع : النُضج . قال الشاعر :
في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا
وبيَّن الله تعالى لهم بتصريف ما خلق ، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق ، أنه كذلك يبعثهم .
قوله تعالى : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } قال ابن عباس : يصدِّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى . وقال مقاتل : يصدقون بالتوحيد .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } جعلوا ، بمعنى : وصفوا . قال الزجاج : نصبُ «الجن» من وجهين .
أحدهما : أن يكون مفعولاً ، فيكون المعنى : وجعلوا لله الجنَ شركاء؛ ويكون الجن مفعولاً ثانياً ، كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عبادالرحمن إناثاً } [ الزخرف : 19 ] .
والثاني : أن يكون الجن بدلاً من شركاء ، ومفسراً للشركاء . وقرأ ابو المتوكل ، وأبو عمران ، وأبو حيوة ، والجحدري : «شركاء الجنُ» برفع النون . وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ القارىء : «الجنِّ» بخفض النون .
وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان ، فجعلوهم شركاء لله ، قاله الحسن ، والزجاج .
والثاني : قالوا : إن الملائكة بنات الله ، فهم شركاؤه ، كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] . فسمى الملائكة جنَّاً لاجتنانهم ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثالث : أن الزنادقة قالوا : الله خالق النور والماء والدواب والأنعام ، وإبليس : خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ، وفيهم نزلت هذه الآية . قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وخلقهم } في الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء ، فيكون المعنى : وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون .
والثاني : أنها ترجع إلى الجن ، فيكون المعنى : والله خلق الجن ، فكيف يكون الشريك لله مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج .
قوله تعالى : { وخرقوا له بنين وبنات } وقرأ نافع : «وخرّقوا» بالتشديد ، للمبالغة والتكثير ، لأن المشركين ادَّعوا الملائكةَ بناتِ الله ، والنصارى المسيحَ ، واليهود عزيراً . وقرأ ابن عباس ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «وحرّفوا» بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري : «خارقوا» بألف وخاء معجمة . قال السدي : أما { البنون } فقول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ، وأما «البنات» ، فقول مشركي العرب : الملائكة بناتُ الله . قال الفراء : خرّقوا ، واخترقوا ، وخلقوا ، واختلقوا ، بمعنى افتروا . وقال أبو عبيدة : خرقوا : جعلوا . قال الزجاج : ومعنى «بغير علم» : أنهم لم يذكروه من علم ، إنما ذكروه تَكذُّباً .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قوله تعالى : { أنى يكون له ولد } قال الزجاج : أي : من أين يكون له ولد؟ والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله : { وخلق كل شيء } فليس مثل خالق الأشياء ، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فاذا نُسب إليه الولد ، فقد جعُل له مثل .
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } في الإدراك قولان .
أحدهما : أنه بمعنى الإحاطة .
والثاني : بمعنى الرؤية . وفي { الأبصار } قولان . أحدهما : أنها العيون ، قاله الجمهور . والثاني : أنها العقول ، رواه عبد الرحمن ابن مهدي عن أبي حصين القارىء . ففي معنى الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : لا تحيط به الأبصار ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد ابن المسيب وعطاء . وقال الزجاج : معنى الآية : الإحاطة بحقيقته ، وليس فيها دفع للرؤية ، لِما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية ، وهذا مذهب أهل السُنَّة والعلم والحديث .
والثاني : لا تدركه الأبصار إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : لا تدركه الأبصار في الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومقاتل . ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا ، قوله : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 - 23 ] فقيَّد النظر إليه بالقيامة ، وأطلق في هذه الآية ، والمطلق يحمل على المقيد .
وقوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } فيه القولان . قال الزجاج : وفي هذا الإعلام دليل على أنَّ خَلْقَه لا يدركون الأبصار ، أي : لا يعرفون حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه ، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه؛ فأعلم الله أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ، ولا يحيطون بعلمه؛ فكيف به عز وجل؟! فأما «اللطيف» فقال أبو سليمان الخطابي : هو البرّ بعباده ، الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبِّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون . قال ابن الاعرابي : اللطيف : الذي يوصل إليك أرَبَك في رِفق؛ ومنه قولهم : لطف الله بك؛ ويقال : هو الذي لَطُفَ عن أن يُدرَك بالكيفية . وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض ، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام ، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه . وقال الأزهري : اللطيف من أسماء الله ، معناه الرفيق بعباده؛ والخبير : العالم بكنه الشيء ، المطلع على حقيقته .
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم } البصائر : جمع بصيرة ، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به . قال الزجاج : والمعنى : قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر { فمن أبصر فلنفسه } نفع ذلك { ومن عمي } فعلى نفسه ضرر ذلك ، لأن الله عز وجل غني عن خلقه . { وما أنا عليكم بحفيظ } أي : لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل ، وهذا قبل الأمر بالقتال .
فصل
وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف . وقال بعضهم : معناها : لست رقيباً عليكم أحصي أعمالكم؛ فعلى هذا لا وجه للنسخ .
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قوله تعالى : { وكذلك نصرف الآيات } قال الأخفش : «وكذلك» معناها : وهكذا . وقال الزجاج : المعنى : وَمِثْلُ ما بيَّنَّا فيما تُلي عليك ، نُبيِّن الآيات قال ابن عباس : نصرِّف الآيات ، أي : نبيِّنها في كل وجه ، ندعوهم بها مرَّة ، ونخوفهم بها أُخرى . { وليقولوا } يعني : أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن «دارست» . قال ابن الانباري : معنى الآية : وكذلك نصرف الآيات ، لنلزمهم الحجة ، وليقولوا : دارست؛ وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها ، ويشقى آخرون بالإعراض عنها ، فمن عمل بها سعد ، ومن قال : دارست ، شقي . قال الزجاج : وهذه اللام في «ليقولوا» يسميها أهل اللغة لام الصيرورة . والمعنى : أن السبب الذي أدَّاهم إلى أن قالوا . دارست ، هو تلاوة الآيات ، وهذا كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوَّاً وحزناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم ، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدواً وحزناً . ومثله أن تقول : كتب فلان الكتاب لحتفه ، فهو لم يقصد أن يُهلك نفسه بالكتاب ، ولكن العاقبة كانت الهلاك .
فأما «دارست» فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «دارست» بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها : ذاكرت أهل الكتاب . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «درست» بسكون السين وفتح التاء ، من غير ألف ، على معنى : قرأت كتب أهل الكتاب . قال المفسرون : معناها : تعلمت من جبر ، ويسار . وسنبين هذا في قوله : { إنما يعلِّمه بشر } [ النحل : 103 ] إن شاء الله . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : «درست» بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف . والمعنى : هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست . أي : قد مضت وامّحت . وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته . وقد روي عن نافع أنه قال : «دُرِسَت» برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء ، وهي قراءة ابن يعمر؛ ومعناها : قُرئت . وقرأ أبي بن كعب : «دَرُسَتْ» بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء . قال الزجاج : وهي بمعنى : «دَرَسَتْ» أي : امّحت؛ إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو العالية ، ومورِّق : «دُرِّسْتَ» برفع الدال ، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف : «دَرَسَ» بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء . وروى عصمة عن الأعمش : «دارس» بألف .
قوله تعالى : { ولنبينه } يعني التصريف { لقوم يعلمون } ما تبين لهم من الحق فيقبلوه .
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قوله تعالى : { وأعرض عن المشركين } قال المفسرون : نسخ بآية السيف .
قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج .
أحدها : لو شاء لجعلهم مؤمنين . والثاني : لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان . والثالث : لو شاء لاستأصلهم ، فقطع سبب شركهم . قال ابن عباس : وباقي الآية نسخ بآية السيف .
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما قال للمشركين : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } قالوا : لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها ، أو لنهجونَّ إلهك الذي تعبده ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار ، فيردون ذلك عليهم ، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله ، قاله قتادة . ومعنى «يدعون» : يعبدون ، وهي الأصنام . { فيسبوا الله } أي : فيسبوا من أمركم بعيبها ، فيعود ذلك إلى الله تعالى ، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى ، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم ، وإن أشركوا به .
وقوله تعالى : { عدواً بغير علم } أي : ظلماً بالجهل . وقرأ يعقوب : «عُدُوّاً» بضم العين والدال وتشديد الواو . والعرب تقول في الظلم : عدا فلان عَدْواً وعُدُوّاً وعُدواناً . وعدا ، أي : ظلم .
قوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } أي : كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام ، وطاعة الشيطان ، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر . قال المفسرون : وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما نزل في [ الشعراء : 4 ] { إن نشأ نُنَزِّل عليهم من السماء آية } قال المشركون : أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها؛ فقال المسلمون : يا رسول الله ، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا؛ فنزلت هذه الآية؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : " أن قريشاً قالوا : يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر ، فينفجر منها اثنتا عشرة عيناً ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدَّقك : فقال : أي شيء تحبون؟ قالوا : أن تجعل لنا الصفا ذهباً . قال : فان فعلت تصدقوني؟ فقالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنَّك أجمعين . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل . فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهباً ، ولكني لم أًرسِل بآية فلم يصدَّق بها ، إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتُهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتركهم حتى يتوب تائبهم " فنزلت هذه الآية إلى قوله : { يجهلون } ، هذا قول محمد بن كعب القرظي . وقد ذكرنا معنى { جهد أيمانهم } في ( المائدة ) ؛ وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات ، كقولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] .
قوله تعالى : { قل إنما الآيات عند الله } أي : هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه . { وما يشعركم أنها } أي : يدريكم أنها . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف في اختياره : بكسر الألف ، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله { يشعركم } للمشركين ، ويكون تمام الكلام عند قوله : { وما يُشعِرُكم } ويكون المعنى : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم . وقال أبو علي : التقدير : وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعولُ . والمعنى : لو جاءت الآية التي اقترحوها ، لم يؤمنوا . فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين . قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : { وما يشعركم إنها } ؛ فقلت : ما منعها أن تكون كقولك : ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال : لا يحسن ذلك في هذا الموضع؛ إنما قال : { وما يشعركم } ثم ابتدأ فأوجب ، فقال : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ؛ ولو قال : { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ؛ كان ذلك عذراً لهم . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «أنها» بفتح الألف؛ فعلى هذا ، المخاطب بقوله : { وما يشعركم } رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . وفي قراءة أُبي : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل» يقولون : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً ، أي : لعلك .
قال عدي بن زيد :
أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي ... إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ
أي : لعل منيتي . وإلى هذا المعنى ذهب الخليل ، وسيبويه ، والفراء في توجيه هذه القراءة .
والثاني : أن المعنى : وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وتكون «لا» صلة كقوله : تعالى : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] ذكره الفراء ، ورده الزجاج واختار الأول . والأكثرون على قراءة { يؤمنون } بالياء ، منهم ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وحفص عن عاصم؛ وقرأ ابن عامر ، وحمزة : بالتاء ، على الخطاب للمشركين . قال أبو علي : من قرأ بالياء ، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ ، ومن قرأ بالتاء ، فهو انصراف من الغَيبة إلى الخطاب .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قوله تعالى : { ونقلِّب أفئدتهم وأبصارهم } التقليب : تحويل الشيء عن وجهه . وفي معنى الكلام أربعة أقوال .
أحدها : لو أتيناهم بآية كما سألوا ، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها ، وحُلْنا بينهم وبين الهدى ، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها ، عقوبة لهم على ذلك . وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد .
والثاني : أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا؛ فالمعنى : لو رُدُّوا لحُلْنا بينهم وبين الهدى كما حُلْنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا ، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : ونقلّب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات ، قاله مقاتل .
والرابع : أن ذلك التقليب في النار ، عقوبة لهم ، ذكره الماوردي . وفي هاء «به» أربعة أقوال . أحدها : أنها كناية عن القرآن . والثاني : عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : عما ظهر من الآيات . والرابع : عن التقليب . وفي المراد ب «أول مرة» ثلاثة أقوال . أحدها : أن المرة الأولى : دار الدنيا . والثاني : أنها معجزات الأنبياء قبل محمد صلى الله عليهم وسلم . والثالث : أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت؛ والطغيان والعمه مذكوران في سورة ( البقرة ) .
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } سبب نزولها : أن المستهزئين أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة ، فقالوا له : ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم : أحق ما تقول أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً . فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوا ، وكلمهم الموتى ، فشهدوا لك بالنبوة ، { وحشرنا } : أي : جمعنا { عليهم كل شيء } في الدنيا { قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته ، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا ، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا . فأما قوله «قِبَلاً» فقرأ ابن عامر ، ونافع : بكسر القاف وفتح الباء . قال ابن قتيبة : معناها : معاينة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي «قُبُلا» بضم القاف والباء . وفي معناها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه جمع قبيل ، وهو الصِّنْف؛ فالمعنى : وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً ، قاله مجاهد ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه جمع قبيل أيضاً ، إلا أنه : الكفيل؛ فالمعنى : وحشرنا عليهم كل شيء ، فكَفَلَ بصحة ما تقول ، اختاره الفراء ، وعليه اعتراض ، وهو أن يقال : إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة ، وتكليم الموتى ، فَلأَنْ لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول ، أولى . فالجواب : أنه لو كَفَلَت الأشياء المحشورة ، فنطق ما لم ينطق ، كان ذلك آية بينة .
والثالث : أنه بمعنى : المقابل ، فيكون المعنى : وحشرنا عليهم كل شيء ، فقابلهم ، قاله ابن زيد . قال أبو زيد : يقال : لقيت فلاناً قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلاً وقَبَليَّاً ومقابلة ، وكله واحد ، وهو للمواجهة . قال أبو علي : فالمعنى في القرآن على ما قاله أبو زيد واحد ، وإن اختلفت الألفاظ .
قوله تعالى : { ولكن أكثرهم يجهلون } فيه قولان .
أحدهما : يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى .
والثاني : أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } أي : وكما جعلنا لك ولأُمتك شياطين الإنس والجن أعداءً ، كذلك جعلنا لمن تقدَّمك من الأنبياء وأُممهم؛ والمعنى : كما ابتليناك بالأعداء ، ابتلينا مَنْ قبلك ، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى . قال الزجاج : «وعدو» : في معنى أعداء ، و«شياطين الإنس والجن» : منصوب على البدل من «عدو» ومفسر له؛ ويجوز أن يكون : «عدواً» منصوب على أنه مفعول ثان ، المعنى : وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداءً لأُممهم . وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم مردة الإنس والجن ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : أن شياطين الإنس : الذين مع الإنس ، وشياطين الجن : الذين مع الجن ، قاله عكرمة ، والسدي .
والثالث : أن شياطين الإنس والجن : كفارهم ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { يوحي } أصل الوحي : الإعلام والدلالة بِسَتر وإخفاء .
وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : يأمر . والثاني : يوسوس . والثالث : يشير .
وأما { زخرف القول } ، فهو ما زُيِّن منه ، وحُسِّن ، ومُوِّه ، وأصل الزخرف : الذهب . قال أبو عبيدة : كل شيء حسَّنته وزيَّنتَه وهو باطل ، فهو زخرف . وقال الزجاج : «الزخرف» في اللغة : الزينة؛ فالمعنى : أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة؛ و«غروراً» منصوب على المصدر؛ وهذا المصدر محمول على المعنى ، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول : معنى الغرور ، فكأنه قال : يَغرُّون غُروراً . وقال ابن عباس : { زخرفَ القول غروراً } : الأمانيُّ بالباطل . قال مقاتل : وَكّلَ إبليسُ بالإنس شياطين يُضِلُّونَهم ، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن ، قال أحدهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضللْ أنت صاحبك بكذا وكذا ، فذلك وحي بعضهم إلى بعض . وقال غيره : إن المؤمن إذا أعيا شيطانه ، ذهب إلى متمرد من الإنس ، وهو شيطان الإنس ، فأغراه بالمؤمن ليفتنه . وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين . وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليَّ من شيطان الجن ، لأني إذا تعوَّذت من ذاك ذهب عني ، وهذا يجرني إلى المعاصي عِياناً .
قوله تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } في هاء الكناية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إلى الوسوسة .
والثاني : ترجع إلى الكفر .
والثالث : إلى الغرور وأذى النبيّين .
قوله تعالى : { فذرهم وما يفترون } قال مقاتل : يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب . وقال غيره : فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم ، وما يختلقون من كذب ، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف .
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قوله تعالى : { ولتصغى إليه } أي : ولتميل؛ والهاء : كناية عن الزخرف والغرور . والأفئدة : جمع فؤاد ، مثل غراب وأغربة . قال ابن الأنباري : فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، { وليرضوا } الباطل ، { وليقترفوا } أي : ليكتسبوا وليعملوا ما هم عاملون .
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قوله تعالى : { أفغير الله أبتغي حكماً } سبب نزولها : أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك حَكَمَاً ، إن شئت من أحبار اليهود ، وإن شئت من أحبار النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الماوردي . فأما الحَكَمُ : فهو بمعنى الحاكم؛ والمعنى : أفغير الله أطلب قاضياً بيني وبينكم؟! و«الكتاب» : القرآن ، و«المفصل» : المبين الذي بان فيه الحق من الباطل ، والأمر من النهي ، والحلال من الحرام .
{ والذين آتيناهم الكتاب } فيهم قولان .
أحدهما : علماء أهل الكتابين ، قاله الجمهور .
والثاني : رؤساء أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأشباههم ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { يعلمون أنه مُنَزَّلٌ } قرأ ابن عامر ، وحفص ، عن عاصم : «منزّل» بالتشديد؛ وخففها الباقون .
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع : «كلمات» على الجمع؛ وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب : «كلمة» على التوحيد؛ وقد ذكرت العرب الكلمة ، وأرادت الكثرة؛ يقولون : قال قُسّ في كلمته ، أي : في خطبته ، وزهير في كلمته ، أي : في قصيدته .
وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها القرآن ، قاله قتادة .
والثاني : أقضيتُه وعداته .
والثالث : وعده ووعيده ، وثوابه وعقابه . وفي قوله : { صدقاً وعدلاً } قولان .
أحدهما : صدقاً فيما أخبر ، وعدلاً فيما قضى وقدَّر .
والثاني : صدقاً فيما وعد وأوعد ، وعدلاً فيما أمر ونهى . وفي قوله : { لا مبدِّل لكلماته } قولان . أحدهما : لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها .
والثاني : لا خُلف لمواعيده ، ولا مغير لحكمه .
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
قوله تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض } سبب نزولها : أن الكفار قالوا للمسلمين : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟ فنزلت هذه الآية ، ذكره الفراء . والمراد ب { أكثر من في الأرض } : الكفار . وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال .
أحدها : في أكل الميتة .
والثاني : في أكل ما ذبحوا للأصنام .
والثالث : في عبادة الأوثان .
والرابع : في اتباع ملل الآباء؛ و { سبيل الله } : دينه . قال ابن قتيبة : ومعنى { يخرصون } : يحدسون ويوقعون ، ومنه قيل للحازر : خارص فان قيل : كيف يجوز تعذيب من هو على ظنٍ من شركه ، وليس على يقينٍ من كفره؟! فالجواب : انهم لما تركوا التماس الحجة ، واتبعوا أهواءهم ، واقتصروا على الظن والجهل ، عُذِّبوا ، ذكره الزجاج .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قوله تعالى : { إن ربك هو أعلم مَنْ يضل عن سبيله } قال الزجاج : موضع «مَنْ» رفع بالابتداء ، ولفظها لفظ الاستفهام؛ والمعنى : إن ربك هو أعلم أيُّ الناس يَضل عن سبيله . وقرأ الحسن : «من يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد ، وهي رواية ابن أبي شريح . قال أبو سليمان : ومقصود الآية : لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات ، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان .
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } سبب نزولها : أن الله تعالى لما حرم الميتة ، قال المشركون للمؤمنين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله ، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم ، يريدون الميتة ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابو صالح عن ابن عباس .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قوله تعالى : { وما لكم ألاَّ تأكلوا } قال الزجاج : المعنى : وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟ وموضع «أن» نصب ، لأن «في» سقطت ، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها .
قوله تعالى : { وقد فصَّل لكم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «فصَّل لكم ما حرم عليكم» مرفوعتان؛ وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، والقزاز عن عبد الوارث : «فَصَّل» بفتح الفاء ، «ما حَرَّم» بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «فَصَّل» بفتح الفاء ، «ما حُرِّم» بضم الحاء . قال الزجاج : أي : فُصِّل لكم الحلال من الحرام ، وأُحل لكم في الاضطرار ما حُرِّم . وقال سعيد بن جبير : فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم يعني : ما بُيِّن في ( المائدة ) من الميتة ، والدم ، إلى آخر الآية . { وإن كثيراً ليضَلون بأهوائهم } يعني : مشركي العرب يَضلون في أمر الذبائح وغيره ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «ليضلون» ، وفي [ يونس : 88 ] : { ربنا ليَضِلوا } وفي [ ابراهيم : 30 ] { أنداداً ليَضلوا } وفي [ الحج : 9 ] { ثاني عطفه ليَضل } وفي [ لقمان : 6 ] : { ليَضل عن سبيل الله بغير علم } وفي [ الزمر : 8 ] : { أنداداً ليَضل } بفتح الياء في هذه المواضع الستة؛ وضمهن عاصم ، وحمزة ، والكسائي . وقرأ نافع ، وابن عامر ، «ليَضَلون بأهوائهم» وفي { يونس } : { ليَضلوا } بالفتح ، وضما الأربعة الباقية . فمن فتح ، أراد : أنهم هم الذين ضلوا؛ ومن ضم ، أراد : أنهم أضلوا غيرهم ، وذلك أبلغ في الضلال ، لأن كل مُضِلٍّ ضَالٌ ، وليس كل ضَالٍّ مُضِلاً .
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قوله تعالى : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الزنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ فعلى هذا ، في ظاهره وباطنه قولان . أحدهما : أن ظاهره : الإعلان به ، وباطنه : الاستسرار ، قاله الضحاك ، والسدي . قال الضحاك : وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالاً . والثاني : أن ظاهره : نكاح المحرمات ، كالأُمهات ، والبنات ، وما نكح الآباء . وباطنه : الزنا ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : أنه عام في كل إثم ، والمعنى : ذروا المعاصي سرَّها وعلانيتها؛ وهذا مذهب أبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، والزجاج . وقال ابن الأنباري : المعنى : ذروا الإثم من جميع جهاته .
والثالث : أن الإثم : المعصية ، إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص . قال ابن زيد : ظاهره هاهنا : نزع أثوابهم ، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وباطنه : الزنا .
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } سبب نزولها : مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم : أتأكلون مما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] هذا قول ابن عباس . وقال عكرمة : كتبت فارس إلى قريش : إن محمداً وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله ، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم؛ فكتب المشركون إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فوقع في أنفس ناسٍ من المسلمين من ذلك شيء ، فنزلت هذه الآية .
وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال .
أحدها : أنه الميتة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أنه الميتة والمنخنقة ، إلى قوله : { وما ذبح على النصب } [ المائدة : 3 ] روي عن ابن عباس .
والثالث : أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها ، قاله عطاء .
والرابع : أنه عام فيما لم يسمَّ الله عند ذبحه ، وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله ابن يزيد الخطمي ، ومحمد بن سيرين .
فصل
فان تعمَّد ترك التسمية ، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان . وإن تركها ناسياً أُبيحت . وقال الشافعي : لا يحرم في الحالين جميعاً . وقال شيخنا علي بن عبيد الله : فاذا قلنا : إن ترك التسمية عمداً يمنع الإباحة ، فقد نُسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [ المائدة : 5 ] وعلى قول الشافعي : الآية محكمة .
قوله تعالى : { وإنه لفسق } يعني : وإنَّ أكلَ ما لم يُذكر عليه اسم الله لفسق ، أي : خروج عن الحق والدين . وفي المراد بالشياطين هاهنا قولان .
أحدهما : أنهم شياطين الجن ، روي عن ابن عباس .
والثاني : قوم من أهل فارس ، وقد ذكرناه عن عكرمة؛ فعلى الأول : وحيهم الوسوسة ، وعلى الثاني : وحيهم الرسالة . والمراد ب «أوليائهم» : الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة . ثم فيهم قولان .
أحدهما : أنهم مشركو قريش . والثاني : اليهود . { وإن أطعمتموهم } في استحلال الميتة ، { إنكم لمشركون } .
قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وأبي جهل ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث ، وحمزة لم يؤمن بَعْدُ ، فأُخبر حمزةُ بما فعل أبو جهل ، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس ، فقال له : أما ترى ما جاء به؟ سفَّه عقولنا ، وسبَّ آلهتنا ، فقال حمزة : ومن أسفهُ منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله؟ أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في عمار بن ياسر ، وأبي جهل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
والثالث : في عمر بن الخطاب ، وأبي جهل ، قاله زيد بن أسلم ، والضحاك .
والرابع : في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي جهل ، قاله مقاتل .
والخامس : أنها عامة في كل مؤمن وكافر ، قاله الحسن في آخرين .
وفي قوله : { كان ميتاً فأحييناه } قولان .
أحدهما : كان ضالاً فهديناه ، قاله مجاهد .
والثاني : كان جاهلاً ، فعلَّمناه ، قاله الماوردي . وقرأ نافع : «ميّتاً» بالتشديد .
قال أبو عبيدة : الميتة ، مخففة : من ميّتة ، والمعنى واحد . وفي «النور » ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الهدى ، قاله ابن عباس . والثاني : القرآن ، قاله الحسن . والثالث : العلم . وفي قوله : { يمشي به في الناس } ثلاثة أقوال .
أحدها : يهتدي به في الناس ، قاله مقاتل . والثاني : يمشي به بين الناس إلى الجنة . والثالث : ينشر به دينه في الناس ، فيصير كالماشي ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { كمن مثله } المثل : صلة؛ والمعنى : كمن هو في الظلمات .
وقيل : المعنى : كمن لو شُبّه بشيء ، كان شبيهُه مَنْ في الظلمات . وقيل : المراد بالظلمات هاهنا : الكفر .
قوله تعالى : { وكذلك زين } أي : كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها ، كذلك زين { للكافرين ما كانوا يعملون } من الشرك والمعاصي .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قوله تعالى : { وكذلك جعلنا في كل قرية } أي : وكما زينا للكافرين عملهم ، فكذلك جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها . وقيل معناه : وكما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها ، فكذلك جعلنا فُسَّاق كل قرية أكابرها . وإنما جعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية ، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة . وقال ابن قتيبة : تقدير الآية : وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر؛ و«أكابر» لا ينصرف ، وهم العظماء .
قوله تعالى : { ليمكروا فيها } قال أبو عبيدة المكر والخديعة ، والحيلة ، والفجور ، والغدر ، والخلاف . قال ابن عباس : ليقولوا فيها الكذب . قال مجاهد : أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعةً ، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يقولون : للناس : هذا شاعر ، وكاهن .
قوله تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم } أي : ذلك المكر بهم يحيق .
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قوله تعالى : { وإذا جاءتهم آية } سبب نزولها : أن أبا جهل قال : زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف ، حتى إذا صرنا كَفَرَسَيْ رِهَان ، قالوا : منَّا نبيٌ يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نَتَّبعِهُ أو أن يأتيَنَا وحي كما يأتيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الزجاج : الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم . وقال أبو سليمان : تعود على المجادلين في تحريم الميتة . قال مقاتل : والآية : انشقاق القمر ، والدخان . قال ابن عباس : في قوله : { مثل ما أُوتِيَ رسلُ الله } قال : حتى يوحى إلينا ، ويأتينا جبريل ، فيخبرنا أن محمداً صادق . قال الضحاك : سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي .
قوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : «رسالتَه» بنصب التاء على التوحيد؛ والمعنى : أنهم ليسوا لها بأهل ، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك ، لأني أكبرُ منك سناً ، وأكثرُ منك مالاً ، فنزل قوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } وقال أهل المعاني : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم ، لأن الطعن كان يتوجه عليهم ، فيقال : إنما كانوا رؤساء فاتُّبِعوا ، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب ، دون أبي جهل ، والوليد ، وأكابر مكة .
قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صَغَارٌ } قال أبو عبيدة : الصَّغَار : أشد الذل . وقال الزجاج : المعنى : هم ، وإن كانوا أكابر في الدنيا ، فسيصبهم صغار عند الله ، أي : صغار ثابت لهم عند الله . وجائز أن يكون المعنى : سيصيبهم عند الله صغار . وقال الفراء : معناه : صغار من عند الله ، فحذفت «مِنْ» . وقال ابو رَوقْ : صغار في الدنيا ، وعذاب شديد في الآخرة .
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه } قال مقاتل : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي جهل .
قوله تعالى : { يشرحْ صدرَه } قال ابن الاعرابي : الشرح : الفتح . قال ابن قتيبة : ومنه يقال : شرحتُ لك الأمر ، وشرحتُ اللحم : إذا فتحتَه . وقال ابن عباس : «يشرحْ صدره» أي : يوسعْ قلبه للتوحيد والإيمان . وقد روى ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { فمن يرد الله أن يهديَه يشرحْ صدرَه للإسلام } فقيل له : يا رسول الله ، وما هذا الشرح؟ قال : «نور يقذفه الله في القلب ، فينفتح القلب» قالوا : فهل لذلك من أمارة؟ قال : «نعم» . قيل : وما هي؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله» "
قوله تعالى : { ضيقاً } قرأ الأكثرون بالتشديد . وقرأ ابن كثير : «ضَيْقاً» وفي [ الفرقان : 13 ] { مكاناً ضَيْقاً } بتسكين الياء خفيفة . قال أبو علي : الضَّيِّق والضَّيْق : مثل : الميّت ، والميْت .
قوله تعالى : { حرجاً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { حَرَجاً } بفتح الراء . وقرأ نافع ، وابو بكر عن عاصم : بكسر الراء . قال الفراء : وهما لغتان . وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي : هما لغتان ، إلا أن الفتح أكثر من ألسنة العرب من الكسر ، ومجراهما مجرى الدَّنَفِ والدَّنِفَ . وقال الزجاج : الحرج في اللغة : أضيق الضيق .
قوله تعالى : { كأنما يصَّاعد } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «يصَّعد» بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف . وقرأ أبو بكر عن عاصم : «يصّاعد» بتشديد الصاد وبعدها ألف . وقرأ ابن كثير : «يَصْعَد» بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : «تصْعَدُ» بتاء من غير ألف . وقرأ أبي بن كعب : «يتصاعد» بألف وتاء . قال الزجاج : قوله : { كأنما يصّاعد في السماء } . و«يصَّعَّد» ، أصله : «يتصاعد» ، و«يتصعد» ، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها ، والمعنى : كأنه قد كُلِّف أن يَصْعَدَ إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه . ويجوز أن يكون المعنى : كأن قلبه يصعد في السماء نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة . وقال الفراء : ضاق عليه المذهب ، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء ، وليس يقدر على ذلك . وقال ابو علي : «يَصَّعَّد» و«يَصّاعد» : من المشقة ، وصعوبة الشيء ، ومنه قول عمر : ما تَصَعَّدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح ، أي : ما شق عليَّ شيء مشقتها .
قوله تعالى : { كذلك } أي : مثل ما قصصنا عليك . { يجعل الله الرجس } وفيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه الشيطان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، يعني : أن الله يسلِّطه عليهم .
والثاني : أنه المأثم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنه مالا خير فيه ، قاله مجاهد .
والرابع : أنه العذاب ، قاله عطاء وابن زيد ، وأبو عبيدة .
والخامس : أنه اللعنة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، قاله الزجاج . وهذه الآية تقطع كلام القَدَريَّة ، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلقة بارادة الله تعالى .
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى : { وهذا صراط ربِّكَ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن مسعود .
والثاني : التوحيد ، قاله ابن عباس .
والثالث : ما هو عليه من الدِّين ، قاله عطاء : ومعنى استقامته : أنه يؤدِّي بسالكه إلى الفوز . قال مكي بن أبي طالب : و«مستقيماً» نصب على الحال من «صراط» ، وهذه الحال يقال لها : الحال المؤكدة ، لأن صراط الله ، لا يكون إلا مستقيماً ، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين ، إذ لا يتغير صراط الله عن الاستقامة أبداً ، وليست هذه الحال كحال من قولك : «هذا زيد راكباً» ، لأن زيداً قد يخلو من الركوب .
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قوله تعالى : { لهم دار السلام } يعني : الجنة . وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال .
أحدها : أن السلام ، هو الله ، وهي داره ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنها دار السلامة التي لا تنقطع ، قاله الزجاج .
والثالث : أن تحية أهلها فيها السلام ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام ، ففي ابتداء دخولهم : { ادخلوها بسلام } [ الحجر : 46 ] وبعد استقرارهم : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 23-24 ] وقوله : { إلا قيلا سلاماً سلاماً } [ الواقعة : 25 ] وعند لقاء الله : { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وقوله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [ الأحزاب : 44 ] ومعنى { عند ربهم } أي مضمونة لهم عنده { وهو وليهم } أي متولي إيصال المنافع إليهم ودفع المضار عنهم { بما كانوا يعملون } من الطاعات .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً } يعني : الجن والإنس . وقرأ حفص عن عاصم : «يحشرهم» بالياء . قال أبو سليمان : يعني : المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرَّمه الله من الميتة .
قوله تعالى : { يا معشر الجن } فيه إضمار ، فيقال لهم : يامعشر؛ والمعشر : الجماعة أمرهم واحد ، والجمع : المعاشر .
وقوله : { قد استكثرتم من الإنس } أي : من إغوائهم وإضلالهم . { وقال أولياؤهم من الإنس } يعني : الذين أضلهم الجن . { ربَّنا استمتع بعضُنا ببعض } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن استمتاع الإنس بالجن : أنهم كانوا إذا سافروا ، فنزلوا وادياً ، وأرادوا مبيتاً ، قال أحدهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله؛ واستمتاع الجن بالإنس : أنهم كانوا يفخرون على قومهم ، ويقولون : قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء .
والثاني : أن استمتاع الجن بالإنس : طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي . واستمتاع الإنس بالجن : أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي يهوَوْنَها ، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال محمد بن كعب ، والزجاج .
والثالث : أن استمتاع الجن بالإنس : إغواؤهم إياهم . واستمتاع الإنس بالجن : ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك . والمراد بالجن في هذه الآية : الشياطين .
قوله تعالى : { وبلغنا أجلنا الذي أجَّلْتَ لنا } فيه قولان .
أحدهما : الموت ، قاله الحسن ، والسدي . والثاني : الحشر ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { قال النار مثواكم } قال الزجاج : المثوى : المقام؛ و«خالدين» منصوب على الحال . المعنى : النار مقامكم في حال خلود دائم { إلا ما شاء الله } هو استثناء من يوم القيامة ، والمعنى : { خالدين فيها } مذ يبعثون { إلا ما شاء الله } من مقدار حشرهم من قبورهم ، ومدتهم في محاسبتهم . ويجوز أن تكون : { إلا ما شاء الله } أن يزيدهم من العذاب . وقال بعضهم : إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب؛ وقيل في هذا غير قول ، ستجدها مشروحة في ( هود ) إن شاء الله .
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قوله تعالى : { وكذلك نولِّي بعض الظالمين بعضاً } في معناه أربعة اقوال .
أحدها : نجعل بعضهم أولياء بعض ، رواه سعيد عن قتادة .
والثاني : نُتْبِعُ بعضهم بعضاً في النار بأعمالهم من الموالاة ، وهي المتابعة ، رواه معمر عن قتادة .
والثالث : نسلِّط بعضهم على بعض ، قاله ابن زيد .
والرابع : نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { بما كانوا يكسبون } أي : من المعاصي .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قوله تعالى : { يا معشر الجن والإِنس ألم يأتكم } قرأ الحسن ، وقتادة : «تأتكم» بالتاء ، { رسل منكم } . واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال .
أحدها : أن الرسل كانت تبعث إلى الإِنس خاصة ، وأن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإِنس والجن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رسل الجن ، هم الذين سمعوا القرآن ، فولَّوا إلى قومهم منذرين ، روي عن ابن عباس أيضاً . وقال مجاهد : الرسل من الإِنس ، والنذر من الجن ، وهم قوم يسمعون كلام الرسل ، فيبلِّغون الجن ما سمعوا .
والثالث : أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً منهم ، كما بعث إلى الإِنس رسلاً منهم ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، وأبو سليمان ، وهو ظاهر الكلام .
والرابع : أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلاً منهم ، وإنما جاءتهم رسل الإِنس ، قاله ابن جريج ، والفراء ، والزجاج . قالوا : ولا يكون الجمع في قوله { ألم يأتكم رسل منكم } مانعاً أن تكون الرسل من أحد الفريقين ، كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] وإنما هو خارج من الملح وحده .
وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان .
أحدهما : يدخلونها ، ويأكلون ويشربون ، قاله الضحاك .
والثاني : أن ثوابهم أن يجاروا من النار ، ويصيروا تراباً ، رواه سفيان عن ليث .
قوله تعالى : { يقصون عليكم آياتي } أي : يقرؤون عليكم كتبي . { وينذرونكم } أي : يخوِّفونكم بيوم القيامة . وفي قوله : { شهدنا على أنفسنا } قولان .
أحدهما : أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا .
والثاني : شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم . ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم ، فقال : { وغرَّتهم الحياة الدنيا } أي : بزينتها ، وإمهالهم فيها . { وشهدوا على أنفسهم } أي : أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين . وقال مقاتل : ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
قوله تعالى : { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } قال الزجاج : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل ، وأمر عذاب من كذب ، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ، أي : لا يهلككم حتى يبعث إليهم رسولاً . قال ابن عباس : «بظلم» أي : بشرك { وأهلها غافلون } لم يأتهم رسول .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى : { ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا } أي : لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات ، أي : منازل يبلغها بعمله ، إن كان خيراً فخيراً ، وإن كان شراً فشراً . وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط ، كتفاضل الدرج .
قوله تعالى : { عما يعملون } قرأ الجمهور بالياء؛ وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب .
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قوله تعالى : { وربك الغني } يريد : الغني عن خلقه { ذو الرحمة } قال ابن عباس : بأوليائه وأهل طاعته . وقال غيره : بالكل . ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين . { إن يشأ يذهبْكم } بالهلاك؛ وقيل : هذا الوعيد لأهل مكة؛ { ويستخلفْ من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم } أي : ابتدأكم { من ذرية قوم آخرين } يعني : آباءهم الماضين . { إن ما توعدون } به من مجيء الساعة والحشر { لآتٍ وما أنتم بمعجزين } أي : بفائتين قال أبو عبيدة : يقال : أعجزني كذا ، أي : فاتني وسبقني .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قوله تعالى : { على مكانتكم } وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع . قال ابن قتيبة : أي : على موضعكم يقال : مكان ومكانة ، ومنزل ومنزلة ، وقال الزجاج : اعملوا على تمكنكم . قال : ويجوز أن يكون المعنى : اعملوا على ما أنتم عليه . تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال : كن على مكانتك .
قوله تعالى : { إني عامل } أي : عامل ما أمرني به ربي { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، «تكون» بالتاء وقرأ حمزة ، والكسائي : بالياء . وكذلك خلافهم في [ القصص : 37 ] ، ووجه التأنيث : اللفظ ، ووجه التذكير : أنه ليس بتأنيث حقيقي . وعاقبة الدار : الجنة ، والظالمون هاهنا : المشركون . فان قيل : ظاهر هذه الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه ، وذلك لا يجوز . فالجواب : أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد؛ فكأنه قال : أقيموا على ما أنتم عليه ، إن رضيتم بالعذاب ، قاله الزجاج .
فصل
وفي هذه الآية قولان .
أحدهما : أن المراد بها : التهديد ، فعلى هذا : هي محكمة .
والثاني : أن المراد بها ترك القتال؛ فعلى هذا : هي منسوخة بآية السيف .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ } قال ابن قتيبة : ذرأ : بمعنى : خلق . { من الحرث } وهو الزرع . { والأنعام } : الإبل والبقر والغنم . وكانوا إذا زرعوا ، خطوا خطاً ، فقالوا : هذا لله ، وهذا لآلهتنا ، فإذا حصدوا ما جعلوه لله ، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم ، تركوه ، وقالوا : هي إليه محتاجة؛ وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم ، فوقع منه شيء في مال الله ، أعادوه ، إلى موضعه . وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله ، فاذا ولدت إناثها ميِّتاً ، أكلوه ، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميِّتاً عظموه فلم يأكلوه . وقال الزجاج : معنى الآية : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيباً ، وجعلوا لشركائهم نصيباً ، يدل عليه قوله تعالى : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } ، فدل بالإِشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء؛ وكانوا إذا زكا ما لله ، ولم يزكُ ما لشركائهم ، ردوا الزاكي على أصنامهم ، وقالوا : هذه أحوج ، والله غني؛ وإذا زكا ما للأصنام ، ولم يزكُ ما لله ، أقروه على ما به . قال المفسرون : وكانوا يَصرفون ما جعلوا لله إلى الضِّيفان والمساكين . فمعنى قوله : { فلا يصل إلى الله } أي : إلى هؤلاء . ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدَّامها . فأما نصيبها في الأنعام ففيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان للنفقة عليها أيضاً .
والثاني : أنهم كانوا يتقربون به ، فيذبحونه لها .
والثالث : أنه البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام . وقال الحسن : كان إذا هلك ما لأوثانهم غَرِموه ، وإذا هلك مالله لم يَغْرَمُوه . وقال ابن زيد : كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان . فأما قوله «بزَعمهم» فقرأ الجمهور : بفتح الزاي؛ وقرأ الكسائي ، والأعمش : بضمها . وفي الزعم ثلاث لغات : ضم الزاي ، وفتحها ، وكسرها . ومثله : السُّقط والسَّقط والسِّقط؛ والفَتْك ، والفُتْك ، والفِتْك : والزَّعم والزُّعم والزِّعم . قال الفراء : فتح الزاي في الزَّعم لأهل الحجاز؛ وضمها لأسد؛ وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائي .
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
قوله تعالى : { وكذلك زين } أي : ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيَّن . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفاً ، غير مشارٍ به إلى ما قبله ، فيكون المعنى : وهكذا زيَّن . وقرأه الجمهور : «زَيَّن» بفتح الزاي والياء ، ونصب اللام من «قَتْلَ» ، وكسر الدال من «أولادِهم» ، ورفع «الشركاءُ»؛ وجه هذه القراءة ظاهر . وقرأ ابن عامر : بضم زاي «زُيِّن» ، ورفع اللام [ من «قتلُ» ] ونصب الدال من «أولادهم» ، وخفض «الشركاء» . قال أبو علي : ومعناها : قتلُ شركائهم أولادَهمُ؛ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به ، وهذا قبيح ، قليل في الاستعمال . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن : «زُيِّن» بالرفع ، «قتلُ» بالرفع أيضاً . «أولادِهم» بالجر ، «شركاؤُهم» رفعاً . قال الفراء : رَفعَ القتل إذ لم يسمَّ فاعله؛ ورفع الشركاء بفعل نواه ، كأنه قال : زيَّنه لهم شركاؤهم . وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة؛ قال : كأنه قيل : مَن زيَّنه؟ فقال : شركاؤهم . قال مكي بن أبي طالب : وقد روي عن ابن عامر أيضاً أنه قرأ بضم الزاي ، ورفع اللام ، وخفض الأولاد والشركاء؛ فيصير الشركاء اسماً للأولاد ، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدِّين .
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم الشياطين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسدِّي .
والثاني : شركاؤهم في الشرك ، قاله قتادة .
والثالث : قوم كانوا يخدمون الاوثان ، قاله الفراء : والزجاج .
والرابع : أنهم الغُواة من الناس ، ذكره الماوردي . وإنما أضيف الشركاء إليهم ، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه .
وفي الذي زيَّنوه لهم من قتل أولادهم قولان .
أحدهما : أنه وأدْ البنات أحياءً خيفة الفقر ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم ، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد الله ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
قوله تعالى : { ليُرْدوهم } أي : ليهلكوهم . وفي هذه اللام قولان .
أحدهما : أنها لام «كي» . والثاني : أنها لام العاقبة كقوله : { ليكون لهم عدواً } [ القصص : 8 ] أي : آل أمرهم إلى الردى ، لا أنهم قصدوا ذلك .
قوله تعالى : { وليَلبسوا عليهم دينهم } أي : ليخلطوا . قال ابن عباس : ليُدخلوا عليهم الشك في دينهم؛ وكانوا على دين إسماعيل ، فرجعوا عنه بتزيين الشياطين .
قوله تعالى : { فذرهم وما يفترون } قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا : إن الله أمرنا بذلك؛ فقال : { فذرهم وما يفترون } ؛ أي : يكذبون؛ وهذا تهديد ووعيد ، فهو محكم . وقال قوم : مقصوده ترك قتالهم ، فهو منسوخ بآية السيف .
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قوله تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } الحرث : الزرع ، والحجر : الحرام . والمعنى : أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم . قال ابن قتيبة : وإنما قيل للحرام : حجر ، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه . وقرأ الحسن ، وقتادة : «حُجْر» بضم الحاء . قال الفراء : يقال : حِجْر ، وحُجْر ، بكسر الحاء وضمها؛ وهي في قراءة ابن مسعود : «حرج» ، مثل : «جذب» و«جبذ» . وفي هذ الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان .
أحدهما : أنها البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
والثاني : أنها الذبائح التي للأوثان؛ وقد سبق ذكرهما .
قوله تعالى : { لا يطعمها إلا من نشاء } هو كقولك : لا يذوقها إلا من نريد . وفيمن أطلقوا له تناولها قولان .
أحدهما : أنهم منعوا منها النساء ، وجعلوها للرجال ، قاله ابن السائب .
والثاني : عكسه ، قاله ابن زيد . قال الزجاج : أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم ، لا حجة فيه ولا برهان .
وفي قوله : { وأنعام حُرِّمت ظهورها } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الحام ، قاله ابن عباس .
والثاني : البحيرة ، كانوا لا يحجُّون عليها ، قاله أبو وائل .
والثالث : البحيرة ، والسائبة ، والحام ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } هي قربان آلهتهم ، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة . وقال أبو وائل : هي التي كانوا لا يحجُّون عليها ، وقد ذكرنا هذا عنه في قوله : { حرِّمت ظهورها } ، فعلى قوله : الصفتان لموصوف واحد . وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء؛ لا إن رُكِبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن حلبوا ، ولا إن نُتِجوا . وفي قوله : { افتراءً على الله } قولان .
أحدهما : أن ذكر أسماء أوثانهم ، وترك ذكر الله هو الافتراء .
والثاني : أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى هو الافتراء ، لأنهم كانوا يقولون : هو حرم ذلك .
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعني بالأنعام : المحرمات عندهم ، من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة . وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اللبن ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني : الأجنَّة ، قاله مجاهد .
والثالث : الولد واللبن ، قاله السدي ، ومقاتل .
قوله تعالى : { خالصة لذكورنا } قرأ الجمهور «خالصة» على لفظ التأنيث ، وفيها أربعة أوجه .
أحدها : أنه إنما أُنثت ، لأن الأنعام مؤنثة ، وما في بطونها مثلها ، قاله الفراء .
والثاني : أن معنى «ما» التأنيث ، لأنها في معنى الجماعة؛ فكأنه قال : جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة ، قاله الزجاج .
والثالث : أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف ، كما قالوا : «علاّمة» و«نسّابة» .
والرابع : أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكَّرة ، كقولك : عطاؤك عافية ، والرخص نعمة ، ذكرهما ابن الأنباري . وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، والضحاك ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : «خالصٌ» بالرفع ، من غير هاء . قال الفراء : وإنما ذُكِّر لتذكير «ما» . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن يعمر «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكَّر ، قال الزجاج : والمعنى : ما خلص حياً . وقرأ قتادة : «خالصةً» بالنصب ، فأما الذكور : فهم : الرجال ، والأزواج : والنساء .
قوله تعالى : { وإن يكن ميتة } قرأ الأكثرون «يكن» بالياء ، «ميتة» بالنصب؛ وذلك مردود على لفظ «ما» المعنى : وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة . وقرأ ابن كثير : «يكن» بالياء ، «ميتةٌ» بالرفع . وافقه ابن عامر في رفع الميتة؛ غير أنه قرأ «تكن» بالتاء . والمعنى : وإن تحدث وتقع ، فجعل «كان» : تامة لا تحتاج إلى خبر . وقرأ أبو بكر عن عاصم : «تكن» بالتاء ، «ميتةً» بالنصب . والمعنى : وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة .
قوله تعالى : { فهم فيه شركاء } يعني : الرجال والنساء . { سيجزيهم وصفهم } قال الزجاج : أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قوله تعالى : { قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم } وقرأ ابن كثير ، وابن عامر «قتَّلوا» بالتشديد . قال ابن عباس : نزلت في ربيعة ، ومضر ، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في الجاهلية من العرب . وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة ، ويغذو كلبه . وقال الزجاج : وقوله : «سفهاً» منصوب على معنى اللام ، تقديره : للسفه؛ تقول : فعلت ذلك حذر الشر . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري ، ومعاذ القارىء «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهاء وبالمد وبالنصب والهمز .
قوله تعالى : { بغير علم } أي : كانوا يفعلوا ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك ، وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث ، وزعموا أن الله أمرهم بذلك .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن المعروشات : ما انبسط على وجه الأرض ، فانتشر مما يعرَّش ، كالكرم ، والقرع ، والبِطيخ ، وغير معروشات : ما قام على ساق كالنخل ، والزرع ، وسائر الأشجار .
والثاني : أن المعروشات : ما أنبته الناس؛ وغير معروشات : ما خرج في البراري والجبال من الثمار ، رويا عن ابن عباس ،
والثالث : أن المعروشات ، وغير المعروشات : الكرم ، منه ما عرش ، ومنه ما لم يعرش ، قاله الضحاك .
والرابع : أن المعروشات الكروم التي قد عُرّش عنبها ، وغير المعروشات : سائر الشجر التي لا تُعَّرش ، قاله أبو عبيدة . والأُكُلُ : الثمر . { والزيتون والرمان متشابهاً } قد سبق تفسيره .
قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } هذا أمر إباحة؛ وقيل : إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها .
قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وأبو عمرو : بفتح الحاء ، وهي لغة أهل نجد ، وتميم . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها وهي لغة أهل الحجاز ، ذكره الفراء .
وفي المراد بهذا الحق قولان .
أحدهما : أنه الزكاة ، روي عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وطاووس ، وجابر بن زيد ، وابن الحنفية ، وقتادة في آخرين؛ فعلى هذا : الآية محكمة .
والثاني : أنه حق غير الزكاةُ فرض يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر ، وترك ما سقط من الزرع والثمر ، قاله عطاء ، ومجاهد . وهل نُسخ ذلك ، أم لا؟ إن قلنا : إنه أمر وجوب ، فهو منسوخ بالزكاة؛ وإن قلنا : إنه أمر استحباب ، فهو باقي الحكم .
فان قيل : هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب : إن قلنا : إنه إطعام من حضر من الفقراء ، فذلك يكون يوم الحصاد؛ وإن قلنا : إنه الزكاة ، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل ، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد . فأما الزروع : فالأمر بالإيتاء منها : محمول على وجوب الإخراج؛ إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد ، فيؤخَّر إلى زمان التنقية ، ذكره بعض السلف .
والثاني : أن اليوم ظرف للحق ، لا للايتاء ، فكأنه قال : وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية .
والثالث : أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه؛ إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه . وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه ، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد ، دون ما يتلف ، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى . وفي قوله : { ولا تسرفوا } ستة أقوال .
أحدها : أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به ، قاله أبو العالية ، وابن جريج . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة ، ثم قسمها في يوم واحد ، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا ، فكره الله تعالى له ذلك ، فنزلت : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .
والثاني : أن الإسراف منع الصدقة الواجبة ، قاله سعيد بن المسيب .
والثالث : أنه الإِنفاق في المعصية ، قاله مجاهد ، والزهري .
والرابع : أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام ، قاله عطية العوفي ، وابن السائب .
والخامس : أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة ، قاله ابن زيد .
والسادس : أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة ، قاله ابن بحر .
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قوله تعالى : { ومن الأنعام حمولة وفرشاً } هذا نسق على ما قبله ، والمعنى : أنشأ جنّاتٍ ، وأنشأ حمولة وفرشاً ، وفي ذلك خمسة أقوال .
أحدها : أن الحمولة : ما حمل من الإبل ، والفرشَ : صغارها ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وابن قتيبة .
والثاني : أن الحمولة ، ما انتفعت بظهورها ، والفرش : الراعية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أن الحمولة : الإبل والخيل ، والبغال ، والحمير ، وكل شيء يُحمَل عليه . والفرش : الغنم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : الحمولة : من الإبل ، والفرش : من الغنم ، قاله الضحاك .
والخامس : الحمولة : الإبل والبقر . والفرش : الغنم وما لا يحمل عليه من الإبل ، قاله قتادة . وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : { حُمولة } بضم الحاء .
قوله تعالى : { كلوا مما رزقكم الله } قال الزجاج : المعنى : لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره ، { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي : طرقه . قال : وقوله : { ثمانية أزواج } بدل من قوله : { حمولة وفرشا } والزوج ، في اللغة : الواحد الذي يكون معه آخر . قال المصنف : وهذا كلام يفتقر إلى تمام ، وهو أن يقال الزوج : ما كان معه آخر من جنسه ، فحينئذ يقال : لكل واحد منهما : زوج .
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قوله تعالى : { من الضأن اثنين } : الضأن : ذوات الصوف من الغنم ، والمعز : ذوات الشعر منها ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «المعَز» بفتح العين . وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي : بتسكين العين . والمراد بالأنثيين : الذكر والأنثى . { قل آلذكرين } من الضأن والمعز حرم الله عليكم { أم الأنثيين } منها؟ المعنى : فان كان ما حرم عليكم الذكرين ، فكل الذكور حرام ، وإن كان حرم الأنثيين ، فكل الإناث حرام ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فهي تشتمل على الذكور ، وتشتمل على الإناث ، وتشتمل على الذكور والإناث ، فيكون كل جنين حراماً . وقال ابن الأنباري : معنى الآية : ألَحِقَكم التحريم من جهة الذكرين ، أم من جهة الأثنين؟ فان قالوا : من جهة الذكرين ، حَرُم عليهم كل ذكر ، وإن قالوا : من جهة الأنثيين ، حرمت عليهم كل أُنثى؛ وإن قالوا : من جهة الرحم ، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى . وقال ابن جرير الطبري : إن قالوا : حَرَّم الذكرين ، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره ، وفي ذلك فساد دعواهم . وإن قالوا : حرَّم الأنثيين ، أوجبوا تحريم لحوم كل أُنثى من ولد الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره . وإن قالوا : ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها ، قال المفسرون : فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها ، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً من النعم ، بعضها على الرجال والنساء ، وبعضها على النساء دون الرجال .
وفي قوله : { آلذَّكرين حرَّم أم الأنثيين } إبطال لما حرَّموه من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
وفي قوله : { أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين } إبطال قولهم : { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرَّم على أزواجنا } .
قوله تعالى : { نبئوني بعلم } قال الزجاج : المعنى : فسروا ما حرمتم بعلم ، أي : أنتم لا علم لكم ، لأنكم لا تؤمنون بكتاب . { أم كنتم شهداء } أي : هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا ، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟
قوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم } قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي ، ومن جاء بعده ، والظالمون هاهنا : المشركون .
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أُوحيَ إلي محرماً على طاعم يطعمه } نبْههم بهذا على أن التحريم والتحليل ، إنما يثبت بالوحي . وقال طاووس ، ومجاهد : معنى الآية : لا أجد محرماً مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا . والمراد بالطاعم : الآكل . { إلا أن يكون ميتة } أي : إلا أن يكون المأكول ميتة . قرأ ابن كثير ، وحمزة : «إلا أن يكون» بالياء ، «ميتة» نصبا وقرأ ابن عامر : «إلا أن تكون» بالتاء ، «ميتةٌ» بالرفع ، على معنى : إلا أن تقع ميتةٌ ، أو تحدث ميتةٌ . { أو دماً مسفوحاً } قال قتادة : إنما حُرِّمَ المسفوحُ ، فأما اللحم إذا خالطه دم ، فلا بأس به . قال الزجاج : المسفوح : المصبوب . وكانوا إذا ذَكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم . والرجس : اسم لما يُستقذَر ، وللعذاب . { أو فسقاً } المعنى : أو أن يكون المأكول فسقا . { أُهل لغير الله به } أي : رُفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، فسمي ما ذُكر عليه غير اسم الله فسقاً؛ والفسق : الخروج من الدين .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها محكمة . ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال . أحدها : أنها خبر ، والخبر لا يدخله النسخ . والثاني : أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه؛ فكان الجواب بقدر السؤال ، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم . والثالث : أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها .
والقول الثاني : أنها منسوخة بما ذكر في ( المائدة ) من المنخنقة والموقوذة ، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير . وقيل : إن آية ( المائدة ) داخلة في هذه الآية ، لأن تلك الأشياء كلها ميتة .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر } وقرأ الحسن ، والأعمش : { ظُفْرٍ } بسكون الفاء؛ وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة
وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ما ليس بمنفرج الأصابع ، كالإبل ، والنعام ، والإوَزِّ ، والبط ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : الإبل فقط ، قاله ابن زيد .
والثالث : كل ذي حافر من الدواب ، ومخلب من الطير ، قاله ابن قتيبة . قال : وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة؛ والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم ، استعارة؛ وأنشدوا :
سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا ... إلى مَلِكٍ أظلافُه لم تُشقَّق
أراد : قدميه ، وإنما الأظلاف : للشاء والبقر . قال ابن الانباري : الظفر هاهنا ، يجري مجرى الظفر للانسان . وفيه ثلاث لغات . أعلاهن : ظُفُر؛ ويقال : ظُفْر ، وأُظفور . وقال الشاعر :
ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى ... فلم يُبْقِ منه ذا جناح وذا ظُفُر
وقال الآخر :
لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى ... فأصبحتُ ما يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري
وقال الآخر :
ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ ... وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفُور
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثروب خاصة ، قاله قتادة .
والثاني : شحوم الثروب والكلى ، قاله السدي ، وابن زيد .
والثالث : كل شحم لم يكن مختلطا بعظم ، ولا على عظم ، قاله ابن جريج : وفي قوله : { إلا ما حملت ظهورهما } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ما علق بالظهر من الشحوم ، قاله ابن عباس .
والثاني : الأَليْةَ ، قاله أبو صالح ، والسدي .
والثالث : ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما ، قاله قتادة . فأما الحوايا فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها . قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة : هي المباعر . وقال ابن زيد : هي بنات اللبن ، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء . وقال الفراء : الحوايا : هي المباعر ، وبنات اللبن . وقال الاصمعي : هي بنات اللبن ، واحدها : حاوياء ، وحاوية ، وحَويّة .
قال الشاعر :
أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه ... الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ الحاويهْ
وقال الآخر :
كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارِب
وقال أبو عبيدة : الحوايا : ما تحوّى من البطن ، أي : ما استدار منها . وقال الزجاج : الحوايا : اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء أي : استدار . وقال ابن جرير الطبري : الحوايا : ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن ، وهي المباعر ، وتسمى : المرابض ، وفيها الأمعاء .
قوله تعالى : { أو ما اختلط بعظم } فيه قولان .
أحدهما : أنه شحم البطن والألَيْة ، لأنهما على عظم ، قاله السدي . والثاني : كل شحم في القوائم ، والجنب ، والرأس ، والعينين ، والأذنين ، فهو مما اختلط بعظم ، قاله ابن جريج . واتفقوا على أن ما حملت ظهورها حلال ، بالاستثناء من التحريم .
فأما ما حملت الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، ففيه قولان .
أحدهما : أنه داخل في الاستثناء ، فهو مباح؛ والمعنى : وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من الشحم وما اختلط بعظم ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أنه نسق على ما حرِّم ، لا على الاستثناء؛ فالمعنى : حرَّمنا عليهم شحومهما ، أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، إلا ما حملت الظهور ، فانه غير محرم ، قاله الزجاج . فأما «أو» المذكورة هاهنا ، فهي بمعنى الواو كقوله : { آثما أو كفوراً } [ الدهر : 24 ] .
قوله تعالى : { ذلك جزيناهم } أي : ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم .
وفي بغيهم قولان .
أحدهما : أنه قتلهم الأنبياء ، وأكلهم الربا . والثاني : أنه تحريم ما أحل لهم .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قوله تعالى : { فان كذبوك } قال ابن عباس : " لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين : «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود» قالوا : فانك لم تصب ، فنزلت هذه الآية " ، . وفي المكذبين قولان .
أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس .
والثاني : اليهود ، قاله مجاهد . والمراد بذكر الرحمة الواسعة : أنه لا يعجل بالعقوبة ، والبأس : العذاب .
وفي المراد بالمجرمين قولان .
أحدهما : المشركون . والثاني : المكذبون .
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا } أي : إذا لزمتْهم الحجة ، وتيقَّنوا باطل ما هم عليه من الشرك ، وتحريم مالم يحرِّمه الله : { لو شاء الله ما أشركنا } فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على الباطل؛ فكأنهم قالوا : لو لم يرض ما نحن عليه ، لحال بيننا وبينه ، وإنما قالوا ذلك مستهزئين ، ودافعين للاحتجاج عليهم ، فيقال لهم : لم تقولون عن مخالفيكم إنهم ضالُّون ، وإنما هم على المشيئة أيضاً؟ فلا حجة لهم ، لأنهم تعلَّقوا بالمشيئة ، وتركوا الأمر؛ ومشيئة الله تعم جميع الكائنات ، وأمره لا يعمّ مراداته ، فعلى العبد اتباع الأمر ، وليس له أن يتعلَّل بالمشيئة بعد ورود الأمر .
قوله تعالى : { كذلك كذَّب الذين من قبلهم } قال ابن عباس : أي : قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك { حتى ذاقوا بأسنا } أي : عذابنا . { قل هل عندكم من علم } أي : كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرَّمتم { إن تتبعون إلا الظَّن } لا اليقين؛ و«إن» بمعنى «ما» . و«تخرصون» : تكذبون .
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قوله تعالى : { قل فلله الحجة البالغة } قال الزجاج : حجَّته البالغة : تبيينه أنه الواحد ، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة ، قال السدي : { فلو شاء لهداكم أجمعين } يوم أخذ الميثاق .
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قوله تعالى : { قل هَلُمَّ شهداءَكم } قال الزجاج : زعم سيبويه أن «هلم» هاء ضمت إليها «لُمَّ» وجعلتا كالكلمة الواحدة؛ فأكثر اللغات أن يقال : «هلمَّ» : للواحد ، والاثنين ، والجماعة؛ بذلك جاء القرآن . ومن العرب من يثنِّي ويجمع ويؤنث ، فيقول للذكر : «هلمَّ» . وللمرأة : «هلمِّي» ، وللاثنين : «هلمَّا» ، وللثنتين : «هلمَّا» ، وللجماعة : «هلمُّوا» ، وللنسوة : «هلمُمْن» . وقال ابن قتيبة : «هلم» ، بمعنى : «تعال» . وأهل الحجاز لا يثنُّونها ولا يجمعونها . وأهل نجد يجعلونها من «هَلْمَمَتْ» فيثنُّون ويجمعون ويؤنِّثون؛ وتوصل باللام ، فيقال : «هلم لك» ، «وهلم لكما» . قال : وقال الخليل : أصلها «لُم» ، وزيدت الهاء في أولها . وخالفه الفراء ، فقال : أصلها «هل» ضم إليها «أُمّ» ، والرفعة التي في اللام من همزة «أُمّ» لما تركت انتقلت إلى ما قبلها؛ وكذلك «اللهم» يرى أصلها : «يا ألله أمِّنا بخير» فكثرت في الكلام ، فاختلطت ، وتركت الهمزة . وقال ابن الانباري : معنى «هلم» : أقبل؛ وأصله : «أُمَّ يا رجل» ، أي : «اقصد» ، فضموا «هل» إلى «أم» وجعلوهما حرفاً واحداً ، وأزالوا «أم» عن التصرف ، وحوَّلوا ضمة الهمزة «أم» إلى اللام ، وأسقطوا الهمزة ، فاتصلت الميم باللام . وإذا قال الرجل للرجل : «هلم» ، فأراد أن يقول : لا أفعل ، قال : «لا أهَلُمّ» و«لا أُهَلِمُّ» . قال مجاهد : هذه الآية جواب قولهم : إن الله حرم البحيرة ، والسائبة . قال مقاتل : الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا الحرث والأنعام ، { فان شهدوا } أن الله حرَّمه { فلا تشهدْ معهم } أي : لا تصدِّقْ قولهم .
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قوله تعالى : { قل تعالوا أتْلُ ما حرَّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً } «ما» : بمعنى : «الذي» ، وفي «لا» قولان .
أحدهما : أنها زائدة ، كقوله : { أن لا تسجد } [ الأعراف : 12 ] .
والثاني : أنها ليست زائدة ، وإنما هي نافية؛ فعلى هذا القول ، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أن يكون قوله : { أن لا تشركوا } ، محمولا على المعنى؛ فتقديره : أتل عليكم أن لا تشركوا ، أي : أتل تحريم الشرك .
والثاني : أن يكون المعنى : أوصيكم أن لا تشركوا ، لأن قوله : { وبالوالدين إحساناً } [ الإسراء : 23 ] محمول على معنى : أوصيكم بالوالدين إحساناً ، ذكرهما الزجاج .
والثالث : أن الكلام تم عند قوله : { حرَّم ربكم } ثم في قوله { عليكم } قولان .
أحدهما : أنها إغراء كقوله : { عليكم أنفسكم } [ المائدة : 105 ] فالتقدير : عليكم أن لا تشركوا ، ذكره ابن الانباري .
والثاني : أن يكون بمعنى : فُرض عليكم ، ووجب عليكم أن لا تشركوا . وفي هذا الشرك قولان .
أحدهما : أنه ادعاء شريك مع الله عز وجل .
والثاني : أنه طاعة غيره في معصيته .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم } يريد : دفن البنات أحياءً . { من إملاق } أي : من خوف فقر .
قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } فيه خمسة اقوال .
أحدها : أن الفواحش : الزنا ، وما ظهر منه : الإعلان به ، وما بطن : الاستسرار به ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي .
والثاني : أن ما ظهر : الخمر ، ونكاح المحرمات ، وما بطن : الزنا ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد .
والثالث : أن ما ظهر الخمر ، وما بطن : الزنا ، قاله الضحاك .
والرابع : أنه عام في الفواحش ، وظاهرها : علانيتها ، وباطنها : سِرُّها ، قاله قتادة .
والخامس : أن ما ظهر : أفعال الجوارح ، وما بطن : اعتقاد القلوب ، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع ، وفي تفسير قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [ الإنعام : 120 ] والنفس التي حرَّم الله : نفس مسلم أو معاهد ، والمراد بالحق : إذن الشرع .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه } إنما خص مال اليتيم ، لأن الطمع فيه لقلِّة مراعيه وضعف مالكه ، أقوى .
وفي قوله : { إلا بالتي هي أحسن } أربعة أقوال .
أحدها : أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني : التجارة فيه ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي .
والثالث : أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه ، قاله ابن السائب .
والرابع : أنه حفظه عليه ، وتثميره له ، قاله الزجاج . قال : و«حتى» محمولة على المعنى؛ فالمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشده ، فاذا بلغ أشده ، فادفعوه إليه . فأما الأشُدُّ : فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ . قال ابن قتيبة : ومعنى الآية : حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال . يقال : بلغ أشده . إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان . وقال أبو عبيدة : الأَشُدُّ : لا واحد له منه؛ فان أُكرهوا على ذلك ، قالوا : شَدَّ ، بمنزلة : ضَبَّ؛ والجمع : أَضُبُّ . قال ابن الانباري : وقال جماعة من البصريين : واحد الأشُدِّ شُدٌ بضم الشين . وقال بعض البصريين : واحد الأشُدِّ : شِدّةٌ ، كقولهم : نِعمة ، وأنْعُم . وقال بعض أهل اللغة : الأشُدُّ : اسم لا واحد له . وللمفسرين في الأشُد ثمانية أقوال .
أحدها : أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني : ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أربعون سنة ، روي عن عائشة عليها السلام .
والرابع : ثماني عشرة سنة ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل .
والخامس : خمس وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
والسادس : أربع وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري .
والسابع : ثلاثون سنة ، قاله السدي . وقال : ثم جاء بعد هذه الآية : { حتى إذا بلغوا النكاح } [ النساء : 6 ] فكأنه يشير إلى النسخ .
والثامن : بلوغ الحلم ، قاله زيد بن أسلم ، والشعبي ، ويحيى بن يعمر ، وربيعة ، ومالك بن أنس ، وهو الصحيح . ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذُكر عنهم ، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير ، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى : { ولما بلغ أشده } [ يوسف : 22والقصص : 14 ] إلى هذا المكان ، وذلك نهاية الأشُدِّ ، وهذا ابتداء تمامه؛ وليس هذا مثل ذاك . قال ابن جرير : وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف ، لأن المعنى : حتى يبلغ أشده؛ فإذا بلغ اشده ، فآنستم منه رشداً ، فادفعوا إليه ماله .
قال المصنف : إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية ، فليس بصحيح؛ وإنما استفيد إيناس الرشد والإسلام من آية أخرى؛ وإنما أُطلق في هذه الآية ما قُيِّد في غيرها ، فحُمل المطلق على المقيد .
قوله تعالى : { وأوفوا الكيل } أي : أتموه ولا تنقصوا منه .
و { الميزان } أي : وَزْنَ الميزان . والقسط : العدل . { لا نكلِّف نفساً إلا وسعها } أي : مايسعها ، ولا تضيق عنه . قال القاضي أبو يعلى : لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل ، كُلّفنا الاجتهاد في التحري ، دون تحقيق الكيل والوزن .
قوله تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا } أي : إذا تكلمتم أو شهدتم فقولوا الحق ، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة . وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به ، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره . { ذلكم وصَّاكم به لعلكم تذكرون } أي : لتذَّكَّروه وتأخذوا به . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { تذّكّرون } [ الأنعام : 153 ] و { يذّكّرون } [ الانعام : 126 ] و { يذّكّر الإنسان } [ مريم : 67 ] و { أن يذّكّر } [ الفرقان : 62 ] و { ليذّكّروا } [ الإسراء : 41 ] مشدّداً ذلك كلُّه . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله : { أوَلا يذَّكَّر الإنسانُ } [ مريم : 67 ] فانهم خففوه . روى أبان ، وحفص عن عاصم : «يذكرون» خفيفة الذال في جميع القرآن . قرأ حمزة ، والكسائي : «يذّكّرون» مشدداً إذا كان بالياء ، ومخففاً إذا كان بالتاء .
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو : و«أنّ» بفتح الألف مع تشديد النون . قال الفراء : إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها ، وإن شئت جعلتها خفضاً ، على معنى : ذلكم وصاكم به ، وبأن هذا صراطي مستقيماً . وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضاً ، إلا أنه خفف النون ، فجعلها مخففة من الثقيلة ، وحكم إعرابها حكم تلك . وقرأ حمزة ، والكسائي : بتشديد النون مع كسر الألف . قال الفراء : وكسر الألف على الاستئناف . وفي الصراط قولان .
أحدهما : أنه القرآن . والثاني : الإسلام . وقد بينا إعراب قوله : «مستقيماً» أيضاً . فأما «السُّبُل» ، فقال ابن عباس : هي الضلالات . وقال مجاهد : البدع والشبهات . وقال مقاتل : أراد ما حرَّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث . { فتفرَّقَ بكم عن سبيله } أي : فتضلِّكم عن دينه .
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
قوله تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب } قال الزجاج : «ثم» هاهنا : للعطف على معنى التلاوة ، فالمعنى : أتل ما حرم ربكم ، ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى .
وقال ابن الانباري : الذي بعد «ثم» مقدَّم على الذي قبلها في النية؛ والتقدير : ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { تماماً على الذي أحسن } في قوله «تماماً» قولان .
أحدهما : أنها كلمة متصلة بما بعدها ، تقول : أعطيتك كذا تماماً على كذا ، وتماما لكذا ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : أن قوله «تماماً» : كلمة قائمة بنفسها غير متصلة بما بعدها ، والتقدير : آتينا موسى الكتاب تماماً ، أي : في دفعة واحدة لم نفرِّق إنزاله كما فُرِّق إنزال القرآن ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
وفي المشار إليه بقوله { أحسن } أربعة أقوال .
أحدها : أنه الله عز وجل . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما : تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه ، قاله ابن زيد . والثاني : تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى ، وعلى هذين القولين ، يكون { الذي } بمعنى «ما» .
والقول الثاني : أنه إبراهيم الخليل عليه السلام ، فالمعنى : تماماً للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله ، وكانت نُبُوَّة موسى نعمة على إبراهيم ، لأنه من ولده ذكره الماوردي .
والقول الثالث : أنه كل محسن من الانبياء ، وغيرهم . وقال مجاهد : تماماً على المحسنين ، أي : تماماً لكل محسن . وعلى هذا القول ، يكون «الذي» بمعنى «مَن» و«على» بمعنى لام الجر؛ ومن هذا قول العرب : أتم عليه ، وأتم له ، قال الراعي :
رعته أشهرا وخلا عليها ... أي : لها .
قال ابن قتيبة : ومثل هذا أن تقول : أوصي بمالي للذي غزا وحج؛ تريد : للغازين والحاجِّين .
والقول الرابع : أنه موسى ، ثم في معنى { أحسن } قولان .
أحدهما : أَحْسَنَ في الدنيا بطاعة الله عز وجل . قال الحسن ، وقتادة : تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا . وقال الربيع : هو إحسان موسى بطاعته . وقال ابن جرير : تماماً لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا .
والثاني : أحْسَنَ من العلم وكُتُبَ اللهِ القديمةِ؛ وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة؛ ويكون «التمام» بمعنى الزيادة ، ذكره ابن الانباري . فعلى هذين القولين يكون «الذي» بمعنى : «ما» . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو رزين ، والحسن ، وابن يعمر : «على الذي أحسنُ» ، بالرفع . قال الزجاج : معناه على الذي هو أحسن الأشياء . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وأبو المتوكل ، وأبو العالية : «على الذي أُحْسِنَ» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون؛ وهي تحتمل الإحسان ، وتحتمل العلم .
قوله تعالى : { وتفصيلاً لكل شيء } أي : تبياناً لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه ، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء .
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ } يعني : القرآن { فاتبعوه واتقوا } أن تخالفوه { لعلكم ترحمون } قال الزجاج : لتكونوا راجين للرحمة .
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
قوله تعالى : { أن تقولوا } سبب نزولها : أن كفار مكة قالوا : قاتل الله اليهود والنصارى ، كيف كذَّبوا أنبيائهم؛ فوالله لو جاءنا نذير وكتاب ، لكنَّا أهدى منهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الفراء : «أن» في موضع نصب في مكانين . أحدهما : أنزلناه لئلا تقولوا . والآخر : من قوله : واتقوا أن تقولوا وذكر الزجاج عن البصريين أن معناه : أنزلناه كراهة أن تقولوا؛ ولا يجيزون إضمار «لا» . فأما الخطاب بهذه الآية ، فهو لأهل مكة؛ والمراد : إثبات الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى ، وكنا غافلين عما فيهما . و«دراستهم» : قراءتهم الكتب . قال الكسائي : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } لا نعلم ما هي ، لأن كتبهم لم تكن بلُغَتِنَا ، فأنزل الله كتاباً بلغتهم لتنقطع حجتهم .
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قوله تعالى : { لكنَّا أهدى منهم } قال الزجاج : إنما كانوا يقولون هذا ، لأنهم مُدِلُّون بالأذهان والأفهام ، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم ، وهم أُمِّيُّون لا يكتبون . { فقد جاءكم بينة } أي : ما فيه البيان وقطع الشبهات . قال ابن عباس : { فقد جاءكم بينة } أي : حجة ، وهو النبي ، والقرآن ، والهدى ، والبيان ، والرحمة ، والنعمة . { فمن أظلم } أي : أكفر . { ممن كذب بآيات الله } يعني : محمداً والقرآن . { وصدف عنها } أعرض فلم يؤمن بها . وسوء العذاب : قبيحه .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله تعالى : { هل ينظرون } أي : ينتظرون { إلا أن تأتيَهم الملائكة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تأتيهم» بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي : «يأتيهم» بالياء . وهذا الإتيان لقبض أرواحهم . وقال مقاتل : المراد بالملائكة : ملك الموت وحده .
قوله تعالى : { أو يأتيَ ربُّكَ } قال الحسن : أو يأتي أمْرُ ربك . وقال الزجاج : أو يأتيَ إهلاكه وانتقامه إمِّا بعذاب عاجل أو بالقيامة .
قوله تعالى : { أو يأتيَ بعض آيات ربك } وروى عبد الوارث إلا القزاز : بتسكين ياء { أو يأتي } ، وفتحها الباقون . وفي هذه الآية أربعة أقوال .
أحدها : أنه طلوع الشمس من مغربها ، رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن مسعود . وفي رواية زرارة بن أوفى عنه ، وعبد الله ابن عمرو ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي . وقد روى البخاري ، ومسلم ، في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فاذا طلعت ورآها الناس ، آمن مَن عليها ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً " وروى عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لاتزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فاذا طلعت ، طُبع على كل قلب بما فيه ، [ و ] كفي الناس العمل " . والثاني : أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما ، رواه مسروق عن ابن مسعود .
والثالث : أنه إحدى الآيات الثلاث : طلوع الشمس من مغربها ، والدابة ، وفتح يأجوج ومأجوج ، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود .
والرابع : أنه طلوع الشمس من مغربها ، والدجَّال ، ودابة الأرض ، قاله أبو هريرة . والأول أصح . والمراد بالخير هاهنا : العمل الصالح؛ وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان . وقال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبِل منه ، كما يقبل منه قبل الآية . وقيل : إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها ، أن الملحدة والمنجمين ، زعموا أن ذلك لا يكون ، فيريهم الله قدرته ، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق ، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم : { فأت بها من المغرب فبهت } [ البقرة : 258 ] .
فصل
وفي قوله : { قل انتظروا إنا منتظرون } قولان .
أحدهما : أن المراد به : التهديد ، فهو محكم .
والثاني : أنه أمر بالكف عن القتال ، فهو منسوخ بآية السيف .
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قوله تعالى : { إن الذين فرَّقوا دينهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «فرّقوا» مشددة . وقرأ حمزة ، والكسائي : «فارقوا» بألف . وكذلك قرؤوا في [ الروم : 32 ] فمن قرأ «فرّقوا» أراد : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . ومن قرأ : «فارقوا» أراد : باينوا . وفي المشار إليهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة ، قاله أبو هريرة .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي .
والثالث : اليهود ، قاله مجاهد .
والرابع : جميع المشركين ، قاله الحسن . فعلى هذا القول ، دينهم : الكفر الذي يعتقدونه ديناً ، وعلى ما قبله ، دينهم : الذي أمرهم الله به . والشِّيَع : الفرق والأحزاب . قال الزجاج : ومعنى «شيّعتُ» في اللغة : اتبعت . والعرب تقول : شاعكم السلام ، وأشاعكم ، أي : تبعكم .
قال الشاعر :
ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ... بَرُوْدِ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلاَمُ
وتقول : أتيتك غداً ، أو شِيَعة ، أي : أو اليوم الذي يتبعه . فمعنى الشيعة : الذين يتبع بعضهم بعضاً ، وليس كلهم متفقين .
وفي قوله تعالى : { لست منهم في شيء } قولان .
أحدهما : لست من قتالهم في شيء ، ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب السدي .
والثاني : لست منهم ، أي : أنت بريء منهم ، وهم منك بُرَءاء ، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم ، فتكون الآية محكمة .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقرأ يعقوب ، والقزاز عن عبد الوارث : «عَشْرٌ» بالتنوين ، «أمثالُها» بالرفع . قال ابن عباس : يريد من عَمِلَها ، كتبت له عشر حسنات { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا } جزاء { مثلها } وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان .
أحدهما : أن الحسنة قول لا إله إلا الله . والسيئة : الشرك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والنخعي .
والثاني : أنه عام في كل حسنة وسيئة . روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أَغْفِر " فان قيل : إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد ، فأي مثل لها حتى يجعل جزاءُ قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب : أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله ، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله ، وكذلك السيئة . وقد أشرنا إلى هذا في ( المائدة ) عند قوله : { فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] فان قيل : المثل مذكَّر ، فلم قال : { عشر أمثالها } والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث؟ فالجواب : أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة ، وتلخيص المعني : فله عشر حسنات أمثالها ، فسقطت الهاء من عشر ، لأنها عدد مؤنَّث ، كما تسقط عند قولك : عشر نعال ، وعشر جباب .
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قوله تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } قال الزجاج : أي دلَّني على الدين الذي هو دين الحق . ثم فسَّر ذلك بقوله : { ديناً قيماً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «قَيِّماً» مفتوحة القاف ، مشددة الياء . والقيم : المستقيم . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «قِيَماً» بكسر القاف ، وتخفيف الياء . قال الزجاج : وهو مصدر ، كالصِّغَر والكِبَر . وقال مكي : من خففه بناه على «فِعَل» وكان أصله أن يأتي بالواو ، فيقول : «قِوَماً» كما قالوا : عِوَض ، وحِوَل ، ولكنه شذ عن القياس . قال الزجاج : ونصب قوله : { ديناً قيماً } محمول على المعنى ، لأنه لما قال : «هداني» دل على عرّفني ديناً؛ ويجوز أن يكون على البدل من قوله : { إلى صراط مستقيم } فالمعنى : هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً . و«حنيفاً» منصوب على الحال من إبراهيم ، والمعنى : هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيَّته .
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قوله تعالى : { قل إن صلاتي } يريد : الصلاة المشروعة . والنسك : جمع نسيكة . وفي النسك هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : أنها الذبائح ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن قتيبة . والثاني : الدين ، قاله الحسن . والثالث : العبادة .
قال الزجاج : النسك : كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله عز وجل ، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح .
والرابع : أنه الدين ، والحج ، والذبائح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ومحياي ومماتي } الجمهور على تحريك ياء «محياي» وتسكين ياء «مماتي» وقرأ نافع : بتسكين ياء «محياي» ونصب ياء «مماتي» ، ثم للمفسرين في معناه قولان .
أحدهما : أن معناه : لا يملك حياتي ومماتي إلا الله .
والثاني : حياتي لله في طاعته ، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه ، ومقصود الآية : أنه أخبرهم : أن أفعالي وأحوالي لله وحده ، لا لغيره كما تشركون أنتم به .
قوله تعالى : { وأنا أول المسلمين } قال الحسن ، وقتادة : أول المسلمين من هذه الأمة .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قوله تعالى : { قل أغير الله أبغي رباً } سبب نزولها : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، ونحن لك الكُفلاء بما أصابك من تبعة ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ولا تكسبُ كل نفس إلا عليها } أي : لا يُؤْخذُ سواها بعملها . وقيل : المعنى : إلا عليها عقاب معصيتها ، ولها ثواب طاعتها .
{ ولا تزر وازرة وزر أُخرى } قال الزجاج : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى . والمعنى : لا يؤخذ أحد بذنب غيره . قال أبو سليمان : ولما ادَّعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم ، عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله : { فيُنبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ونظيره : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } [ الحج : 17 ] .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } قال أبو عبيدة : الخلائف : جمع خليفة .
قال الشماخ :
تُصيْبُهُمُ وتُخْطُئُني المَنايا ... وأخْلُفُ في رُبُوعٍ عَنْ رُبوع
وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن بعضهم يخلف بعضاً؛ قاله ابن قتيبة .
والثالث : أن أمة محمد خلفت سائر الأمم ، ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } أي : في الرزق ، والعلم ، والشرف ، والقوة ، وغير ذلك { ليبلُوَكم } أي : ليختبركم ، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب .
قوله تعالى : { إن ربك سريع العقاب } فيه قولان .
أحدهما : أنه سماه سريعاً ، لأنه آتٍ ، وكل آتٍ قريبٌ .
والثاني : أنه إذا شاء العقوبة أسرع عقابه .
المص (1)
فأما التفسير ، فقوله تعالى { المص } قد ذكرنا في أول سورة «البقرة» كلاماً مجملاً في الحروف المقطعة أوائلَ السور ، فهو يعم هذه أيضاً . فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال .
أحدها : أن معناه : أنا الله أعلم وأفصل ، رواه أبو الضحى عن ابن عباس .
والثاني : أنه قَسَمٌ : أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنها اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : أن الألف مفتاح اسمه «الله» واللام مفتاح اسمه «لطيف» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، والصاد مفتاح اسمه «صادق» ، قاله أبو العالية .
والخامس : أن ( المص ) : اسم للسورة ، قاله الحسن .
والسادس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
والسابع : أنها بعض كلمة . ثم في تلك الكلمة قولان .
أحدهما : المصوّر ، قاله السدي . والثاني : المصير إلى كتاب أُنزل إِليك ، ذكره الماوردي .
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قوله تعالى : { كتاب أُنْزِلَ إليك } قال الأخفش : رفع الكتاب بالابتداء . ومذهب الفراء : أن الله اكتفى في مفتَتَح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها ، كما يقول القائل : «ا ب ت ث» ثمانية وعشرون حرفا؛ فالمعنى : حروف المعجم : كتاب أنزلناه إليك . قال ابن الانباري : ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار : هذا الكتاب . وفي الحرج قولان .
أحدهما : أنه الشك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه الضيق ، قاله الحسن ، والزجاج . وفي هاء «منه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب؛ فعلى هذا ، في معنى الكلام قولان . أحدهما : لا يضيقنَّ صدرك بالإبلاغ ، ولا تخافنَّ ، قاله الزجاج : والثاني : لا تشُكَنَّ أنه من عند الله .
والقول الثاني : أنها ترجع إلى مضمر ، وقد دل عليه الإِنذار ، وهو التكذيب ، ذكره ابن الانباري . قال الفراء : فمعنى الآية : لا يضيقنَّ صدرك إن كذبوك . قال الزجاج : وقوله تعالى : { لتنذر به } مقدَّم؛ والمعنى : أُنزل إليك لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين ، فلا يكن في صدرك حرج منه . { وذكرى } يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض؛ فأما النصب ، فعلى قوله : أُنزل إليك لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين أي : ولتذكِّرَ به ذكرى ، لان في الإنذار معنى التذكير . ويجوز الرفع على أن يكون : وهو ذكرى ، كقولك : وهو ذكرى للمؤمنين . فأما الخفض فعلى معنى : لتنذر ، لأن معنى «لتنذر» لأن تنذر؛ المعنى : للانذار والذكرى ، وهو في موضع خفض .
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
قوله تعالى : { اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم } إن قيل : كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى ، ثم جمع بقوله : «اتبعوا»؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته ، حسن الجمع لذلك المعنى .
والثاني : أن الخطاب الأول خاص له؛ والثاني محمول على الإِنذار ، والإِنذار في طريق القول ، فكأنه قال : لتقول لهم منذراً : { اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم } ، ذكرهما ابن الانباري .
والثالث : أن الخطاب الثاني للمشركين ، ذكره جماعة من المفسرين؛ قال : والذي أنزل إليهم القرآن . وقال الزجاج : الذي أُنزل : القرآن وما أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه مما أنزل عليه ، لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] { ولا تتبعوا من دونه أولياء } أي : لا تتولوا مَنْ عدل عن دين الحق؛ وكلُّ من ارتضى مذهباً فهو ولي أهل المذهب . وقوله تعالى : { قليلاً ما تذكرون } ما : زائدة مؤكِّدة؛ والمعنى : قليلاً تتذكرون . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم { تذّكّرون } مشددة الذال والكاف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم { تذكّرون } خفيفة الذال مشددة الكاف . قال أبو علي : من قرأ { تذَّكرون } بالتشديد ، أراد { تتذكرون } فأدغم التاء في الذال ، وإدغامها فيها حسن ، لأن التاء مهموسة ، والذال مجهورة؛ والمجهور أزيد صوتاً من المهموس وأقوى؛ فادغام الأنقص في الأزيد حسن . وأما حمزة ومن وافقه ، فانهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء ، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة . وقرأ ابن عامر : «يتذكرون» بياء وتاء ، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى : قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب .
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها } «كم» تدل على الكثرة ، و«رب» موضوعة للقلة . قال الزجاج : المعنى : وكم من أهل قرية ، فحذف الأهل ، لأن في الكلام دليلاً عليه .
وقوله تعالى : { فجاءها بأسنا } محمول على لفظ القرية؛ والمعنى : فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له؛ إما ليلاً وهم نائمون ، أو نهاراً وهم قائلون . قال ابن قتيبة : بأسنا : عذابنا . وبياتا : ليلاً . وقائلون : من القائلة نصف النهار . فان قيل : إنما أتاها البأس قبل الإهلاك ، فكيف يقدَّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن الهلاك والبأس ، يقعان معاً ، كما تقول : أعطيتني فأحسنت؛ وليس الإحسان بعد الإِعطاء ولا قبله ، وإنما وقعا معاً ، قاله الفراء .
والثاني : أن الكون مضمر في الآية ، تقديره : أهلكناها ، وكان بأسنا قد جاءها ، فأُضمر الكون ، كما أُضمر في قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } [ البقرة : 102 ] أي : ما كانت الشياطين تتلوه . وقوله تعالى : { إن يسرق } [ يوسف : 77 ] أي : إن يكن سرق .
والثالث : أن في الآية تقديماً وتأخيراً ، تقديره : وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً ، أو هم قائلون ، فأهلكناها ، كقوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إليَّ } [ آل عمران : 55 ] أي : رافعك ومتوفيك ، ذكرهما ابن الانباري .
قوله تعالى : { أو هم قائلون } قال الفراء : فيه واو مضمرة؛ والمعنى : فجاءها بأسنا بياتاً ، أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقاً على نسق .
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
قوله تعالى : { فما كان دعواهم } قال اللغويون : الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء والقول . والمعنى : ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم . قال ابن الانباري : وللدعوى في الكلام موضعان .
أحدهما : الإدعاء . والثاني : القول والدعاء .
قال الشاعر :
إذا مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُكِ أشْتفي ... بدَعْواكِ مِنْ مَذْلٍ بها فيهُون
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
قوله تعالى : { فلنسألنَّ الذين أُرسل إليهم } يعني : الأمم يُسأَلون : هل بلَّغكم الرُّسُلُ ، وماذا أجبتم؟ ويسأل الرسل : هل بَلَّغتم ، وماذا أُجبتم؟ . { فلنقصنَّ عليهم } أي : فلنُخبرنَّهم بما عملوا بعلم منا { وما كنا غائبين } عن الرسل والأمم . وقال ابن عباس : يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا يعملون .
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
قوله تعالى : { والوزن يومئذ الحق } أي : العدل . وإنما قال : «موازينه» لأن «من» في معنى جميع ، يدل عليه قوله : { فأولئك } . وفي معنى { يظلمون } قولان .
أحدهما : يجحدون . والثاني : يكفرون .
قال الفراء : والمراد بموازينه : وزنه . والعرب تقول : هل لك في درهم بميزان درهمك ، ووزن درهمك ، ويقولون : داري بميزان دارك ، ووزن دارك؛ ويريدن : حذاء دارك .
قال الشاعر :
قَدْ كنتُ قَبْلَ لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه
يعني : مثل كلامه ولفظه .
فصل
والقول بالميزان مشهور في الحديث ، وظاهر القرآن ينطق به . وأنكرت المعتزلة ذلك ، وقالوا : الأعمال أعراض ، فكيف توزن؟ فالجواب : أن الوزن يرجع إلى الصحائف ، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلاً ، كُلُّ سِجِلٍّ مدُّ البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا رب . فيقول : ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب؛ فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظُلم عليك اليوم ، فيُخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فتوضع السجِلاَّت في كفة ، والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " أخرجه أحمد في «مسنده» ، والترمذي . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب ، فلا يزن جناح بعوضة " فعلى هذا يوزن الإنسان . قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان ، له لسان وكِفّتان . فأما المؤمن ، فيؤتى بعمله في أحسن صورة ، فيوضع في كفة الميزان ، فتثقل حسناته على سيئاته ، وأما الكافر ، فيؤتى بعمله في أقبح صورة ، فيوضع في كفة الميزان ، فيخف وزنه . وقال الحسن : للميزان لسان وكفتان . وجاء في الحديث : " أن داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان ، فأراه إياه ، فقال : يا إلهي ، من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات ، فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة " وقال حذيفة : جبريل صاحب الميزان يوم القيامة ، فيقول له ربه : زن بينهم ، ورُدَّ من بعضهم على بعض؛ فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة . فان لم تكن له حسنة ، أخذ من سيئات المظلوم ، فرد على سيئات الظالم ، فيرجع وعليه مثل الجبال .
فان قيل : أليس الله يعلم مقادير الأعمال ، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب : أن فيه خمسة حكم .
إِحداها : امتحان الخلق بالإِيمان بذلك في الدنيا . والثانية : إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى . والثالثة : تعريف العباد ما لهم من خير وشر . والرابعة : إقامة الحجة عليهم . والخامسة : الإعلام بأن الله عادل لا يظلم . ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب ، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه .
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
قوله تعالى : { ولقد مكنَّاكم في الأرض } فيه قولان .
أحدهما : مكنَّاكم إياها . والثاني : سهَّلنا عليكم التصرف فيها .
وفي المعايش قولان .
أحدهما : ما تعيشون به من المطاعم والمشارب .
والثاني : ما تتوصَّلون به إلى المعايش ، من زراعة ، وعمل ، وكسب . وأكثر القراء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة . قال الزجاج : وجميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة ، نحو صحيفة وصحائف؛ فصحيفة من الصحف؛ والياء زائدة ، فأما معايش ، فمن العيش ، فالياء أصلية .
قوله تعالى : { قليلاً ما تشكرون } أي : شكركم قليل . وقال ابن عباس : يريد : أنكم غير شاكرين .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
قوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } فيه ثمانية أقوال .
أحدها : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ، ثم صورناكم في الأرحام ، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس .
والثاني : ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال ، وصورناكم في أرحام النساء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
والثالث : «ولقد خلقناكم» ، يعني بني آدم «ثم صورَّناكم» ، يعني ذريته من بعده رواه العوفي عن ابن عباس .
والرابع : «ولقد خلقناكم» ، يعني آدم ، «ثم صورناكم» في ظهره ، قاله مجاهد .
والخامس : «خلقناكم» نطفاً في أصلاب الرجال ، وترائب النساء ، «ثم صورَّناكم» عند اجتماع النطف في الأرحام ، قاله ابن السائب .
والسادس : «خلقناكم» في بطون أُمهاتكم ، «ثم صورناكم» فيما بعد الخلق بشق السمع والبصر ، قال معمر .
والسابع : «خلقناكم» ، يعني آدم خلقناه من تراب ، «ثم صورناكم» ، أي : صوَّرناه ، قاله الزجاج ، وابن قتيبة . قال ابن قتيبة : فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه؛ فمن قال : عنى بقوله «خلقناكم» آدم ، فمعناه : خلقنا أصلكم؛ ومن قال : صورنا ذريته في ظهره ، أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذر .
والثامن : «ولقد خلقناكم» يعني الأرواح ، «ثم صورناكم» يعني الأجساد ، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد» . وفي «ثم» المذكورة مرتين قولان .
أحدهما : أنها بمعنى الواو ، قاله الأخفش . والثاني : أنها للترتيب ، قاله الزجاج .
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
قوله تعالى : { ما منعك ألا تسجد } «ما» استفهام : ومعناها : الإنكار . قال الكسائي : «لا» هاهنا زائدة . والمعنى : ما منعك أن تسجد؟ وقال الزجاج : موضع «ما» رفع . والمعنى : أي شيء منعك من السجود؟ و«لا» زائدة مؤكدة؛ ومثله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] قال ابن قتيبة : وقد تزاد «لا» في الكلام . والمعنى : طرحُها لإباءٍ في الكلام ، أو جحد ، كهذه الآية . وإنما زاد «لا» لأنه لم يسجد . ومثله : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] على قراءة من فتح «أنها» ، فزاد «لا» لأنهم لم يؤمنوا؛ ومثله : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] وقال الفراء : «لا» هاهنا جحد محض ، وليست بزائدة ، والمنع راجع إلى تأويل القول ، والتأويل : من قال لك لا تسجد؛ فأحل المنع محل القول ، ودخلت بعده «أن» ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه . وقال ابن جرير : في الكلام محذوف ، تقديره : ما منعك من السجود ، فأحوجك أن لا تسجد؟ قال الزجاج : وسؤال الله تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له ، وليُظهر أنه معاند ، ولذلك لم يتب ، وأتى بشيء في معنى الجواب ، ولفظه غير الجواب ، لأن قوله : { أنا خير منه } إنما هو جواب ، أيكما خير؟ ولكن المعنى : منعني من السجود فضلي عليه . ومثله قولك للرجل : كيف كنت؟ فيقول : أنا صالح؛ وإنما الجواب : كنت صالحا ، فيجيب بما يُحتاج إليه وزيادة . قال العلماء : وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص ، وخفي عليه فضل الطين على النار؛ وفضله من وجوه .
أحدها : أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة ، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة .
والثاني : أن الطين سبب الإِنبات والإِيجاد ، والنار سبب الإعدام والإهلاك .
والثالث : أن الطين سبب جمع الأشياء ، والنار سبب تفريقها .
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قوله تعالى : { فاهبط منها } في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى السماء ، لأنه كان فيها ، قاله الحسن .
والثاني : إلى الجنة ، قاله السدي .
قوله تعالى : { فما يكون لك أن تتكبر فيها } إن قيل : فهل لأحد أن يتكبر في غيرها؟ فالجواب : أن المعنى : ما للمتكبر أن يكون فيها ، وإنما المتكبر في غيرها . وأما الصاغر ، فهو الذليل . والصغار : الذل . قال الزجاج : استكبر إبليس بابائه السجود ، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك .
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قوله تعالى : { قال أنظرني } أي أمهلني وأخرني { إلى يوم يبعثون } ، فأراد أن يعبر قنطرة الموت؛ وسأل الخلود ، فلم يجبه إلى ذلك ، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم . وقد بين مدة إمهاله في ( الحجر ) بقوله : { إلى يوم الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] وفي ما سأل الإمهال له قولان .
أحدهما : الموت . والثاني : العقوبة . فان قيل : كيف قيل له : { إنك من المنظرين } وليس أحد أُنظِر سواه؟ فالجواب : أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم ، فهو منهم .
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
قوله تعالى : { فبما أغويتني } في معنى هذا الإِغواء قولان .
أحدهما : أنه بمعنى : الإِضلال ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنه بمعنى : الإهلاك ، ومنه قوله : { فسوف يلقون غياً } [ مريم : 59 ] أي : هلاكاً ، ذكره ابن الأنباري . وفي معنى «فبما» قولان .
أحدهما : أنها بمعنى القسم ، أي : فباغوائك لي .
والثاني : أنها بمعنى الجزاء ، أي : فبأنك أغويتني ، ولأجل أنك أغويتني { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } . قال الفراء ، والزجاج : أي على صراطك . ومثله قولهم : ضُرب زيد الظهر والبطن . وفي المراد بالصراط هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه طريق مكة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وسعيد بن جبير؛ كأن المراد صدُّهم عن الحج .
والثاني : أنه الإِسلام ، قاله جابر بن عبد الله ، وابن الحنفية ، ومقاتل .
والثالث : أنه الحق ، قاله مجاهد .
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قوله تعالى : { ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فيه سبعة أقوال .
أحدها : { من بين أيديهم } أشككهم في آخرتهم ، { ومن خلفهم } أرغبهم في دنياهم ، { وعن أيمانهم } أي : من قِبل حسناتهم ، { وعن شمائلهم } من قِبل سيئاتهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : مثلُه ، إلا أنهم جعلوا { من بين أيديهم } الدنيا ، { ومن خلفهم } الآخرة ، قاله النخعي ، والحكم بن عتيبة .
والثالث : مثل الثاني ، إلا أنهم جعلوا { وعن أيمانهم } من قبل الحق أصدَّهم عنه ، { وعن شمائلهم } من قبل الباطل أردُّهم إليه ، قاله مجاهد ، والسدي .
والرابع : { من بين أيديهم } من سبيل الحق ، { ومن خلفهم } من سبيل الباطل { وعن أيمانهم } من قبل آخرتهم ، { وعن شمائلهم } من أمر الدنيا ، قاله أبو صالح .
والخامس : { من بين أيديهم } { وعن أيمانهم } من حيث يبصرون . { ومن خلفهم } { وعن شمائلهم } من حيث لا يبصرون ، نقل عن مجاهد أيضاً .
والسادس : أن المعنى لأتصرفن لهم في الإِضلال من جميع جهاتهم ، قاله الزجاج ، وأبو سليمان الدمشقي . فعلى هذا ، يكون ذكر هذه الجهات ، للمبالغة في التأكيد .
والسابع : { من بين أيديهم } فيما بقي من أعمارهم ، فلا يقدمون فيه على طاعة ، { ومن خلفهم } فيما مضى من أعمارهم ، فلا يتوبون فيه من معصية ، { وعن أيمانهم } من قبل الغنى ، فلا ينفقونه في مشكور ، { وعن شمائلهم } من قبل الفقر ، فلا يمتنعون فيه من محظور ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فيه قولان .
أحدهما : موحِّدين ، قاله ابن عباس .
والثاني : شاكرين لنعمتك ، قاله مقاتل . فان قيل : من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عنه في سورة ( النساء ) .
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
قوله تعالى : { قال اخرج منها مذؤوماً } قرأ الأعمش : «مذوماً» بضم الذال من غير همز . قال الفراء : الذَّأْمُ : الذَّمُّ ، يقال : ذأمْتُ الرجلَ ، أذأَمُه ذأمْاً؛ وذممتُه ، أذُمُّه ذمّاً ، وذِمْتُه ، أذيمُه ذَيْماً ، ويقال : رجل مذؤوم ، ومذموم ، ومَذيم ، بمعنى : قال حسان بن ثابت :
وأقاموا حتى أبيروا جميعاً ... في مَقامٍ وكُلُّهم مَذؤوم
قال ابن قتيبة : المذؤوم : المذموم بأبلغ الذم . والمدحور : المقصى المبعَد . وقال الزجاج : معنى المذؤوم : كمعنى المذموم ، والمدحور : المبعد من رحمة الله . واللام من «لأملأن» لام القسم؛ والكلام بمعنى الشرط والجزاء ، كأنه قيل له : من تبعك ، أُعذبْه ، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد . فلام «لأملأن» هي لام القسم ، ولام { لَمن تبعك } توطئة لها . فأما قوله : «منهم» فقال ابن الانباري : الهاء والميم عائدتان على ولد آدم ، لانه حين قال : { ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم } [ الأعراف : 11 ] كان مخاطباً لولد آدم ، فرجع إليهم ، فقال : { لَمن تبعك منهم } فجعلهم غائبين ، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لَبْساً ، والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب . ومن قال : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } خطاب لآدم ، قال أعاد الهاء والميم على ولده ، لأن ذكره يكفي من ذكرهم؛ والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس . قال الشاعر :
أرى الخَطَفى بَذَّ الفرزدقُ شِعْرَهُ ... ولكنَّ خيراً من كُلَيبٍ مُجاشِعُ
أراد : أرى ابن الخطفى ، فاكتفى بالخطفى من ابنه .
قوله تعالى : { لأملأن جهنم منكم } يعني : أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشياطين .
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
قوله تعالى : { فوسوس لهما الشيطان } قيل : إن الوسوسة : إخفاء الصوت ، قال ابن فارس : الوسواس : صوت الحلي ، ومنه وسواس الشيطان . و { لهما } بمعنى «إليهما» ، { ليبدي لهما } أي : ليظهر لهما { ما ووري عنهما } أي : ستر . وقيل : إن لام { ليبدي } لام العاقبة؛ وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما ، ولم تكن الوسوسة لظهورها .
قوله تعالى : { إلا أن تكونا ملَكين } قال الأخفش ، والزجاج : معناه : ما نهاكما إلا كراهة أن تكونا ملَكَين . وقال ابن الانباري : المعنى : إلا أن لا تكونا ، فاكتفى ب «أن» من «لا» فأسقطها . فان قيل : كيف انقاد آدم لإبليس ، مستشرفاً إلى أن يكون ملكاً ، وقد شاهد الملائكة ساجدة له؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه عرف قربهم من الله ، واجتماع أكثرهم حول عرشه ، فاستشرف لذلك ، قاله ابن الأنباري .
والثاني : أن المعنى : إلا أن تكونا طويلَي العمر مع الملائكة { أو تكونا من الخالدين } لا تموتان أبداً ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير : «أن تكونا ملِكين» بكسر اللام ، وهي قراءة الزهري .
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قوله تعالى : { وقاسمهما } قال الزجاج : حلف لهما فدلاَّهما في المعصية بأن غرَّهما .
قال ابن عباس : غرَّهما باليمين ، وكان آدم لا يظن أن أحداً يحلف بالله كاذباً .
قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة } أي : فلما ذاقا ثمر الشجرة . قال الزجاج : وهذا يدل على أنهما إنما ذاقاها ذواقاً ، ولم يبالغا في الأكل . والسوأة : كناية عن الفرج ، لا أصل له في تسميته . ومعنى : { طفقا } أخذا في الفعل؛ والأكثر : طفِق يَطْفَقُ ، وقد رويت : طفقَ يَطْفِقُ ، بكسر الفاء ومعنى { يخصفان } يجعلان ورقة على ورقة ، ومنه قيل للذي يرقع النعل : خصاف .
وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم؛ ألا ترى إلى قوله : { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما } فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف . وقيل : إنما سميت السوأةُ سوأةً لأن كشفها يسوء صاحبها . قال وهب بن منبه : كان لباسهما نوراً على فروجهما ، لا يرى أحدهما عورة الآخر؛ فلما أصابا الخطيئة ، بدت لهما سوءاتهما . وقرأ الحسن : «سوأتُهما» على التوحيد؛ وكذلك قرأ «يِخِصّفان» بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد . وقرأ الزهري : بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد . وفي الورق قولان .
أحدهما : ورق التين ، قاله ابن عباس .
والثاني : ورق الموز ، ذكره المفسرون . وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : { قال فيها تحيون } يعني الأرض . واختلف القراء في تاء { تخرجون } ، فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : بضم التاء وفتح الراء ، هاهنا؛ وفي ( الروم ) { وكذلك تُخرجون } [ الروم : 19 ] وفي ( الزخرف ) { كذلك تُخرجون } [ الزخرف : 11 ] وفي الجاثية { لا يُخرَجون منها } [ الحاثية : 35 ] وقرأهن حمزة ، والكسائي : بفتح التاء وضم الراء . وفتح ابن عامر التاء في ( الاعراف ) فقط . فأما التي في ( الروم ) { إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] وفي { سأل سائل } { يوم يخرجون } [ المعارج : 43 ] فمفتوحتان من غير خلاف .
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } سبب نزولها : أن ناساً من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراةً ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد . وقيل : إنه لما ذكر عري آدم ، منّ علينا باللباس . وفي معنى : { أنزلنا عليكم } ثلاثة أقوال .
أحدها : خلقنا لكم . والثاني : ألهمناكم كيفية صنعه . والثالث : أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباساً . وأكثر القراء قرؤوا : «وريشاً» . وقرأ ابن عباس ، والحسن وزرّ بن حبيش ، وقتادة ، والمفضل ، وأبان عن عاصم : «ورياشاً» بألف . قال الفراء : يجوز أن تكون الرياش جمع الريش ، ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا : لِبس ، ولباس .
قال الشاعر :
فلما كَشَفْنَ اللِّبْس عنه مَسَحْنَهُ ... بأطراف طَفْل زانَ غَيْلاً مُوَشَّماً
قال ابن عباس ، ومجاهد : «الرياش» : المال؛ وقال عطاء : المال والنعيم . وقال ابن زيد الريش : الجَمال؛ وقال معبد الجهني : الريش : الرزق؛ وقال ابن قتيبة : الريش والرياش : ما ظهر من اللباس . وقال الزجاج : الريش : اللباس وكل ما ستر الإِنسان في جسمه ومعيشته . يقال : تريَّش فلان ، أي : صار له ما يعيش به . أنشد سيبويه :
رياشي منكُم وهوايَ مَعْكُمْ ... وإن كَانَتْ زيارتُكم لِماما
وعلى قول الأكثرين : الريش والرياش بمعنى . قال قطرب : الريش والرياش واحد . وقال سفيان الثوري : الريش : المال ، والرياش : الثياب .
قوله تعالى : { ولباس التقوى } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : «ولباسُ التقوى» بالرفع . وقرأ ابن عامر ، ونافع ، والكسائي : بنصب اللباس . قال الزجاج : من نصب اللباس ، عطف به على الريش؛ ومن رفعه ، فيجوز أن يكون مبتدأً ، ويجوز أن يكون مرفوعاً باضمار : هو؛ المعنى : وهو لباس التقوى ، أي : وستر العورة لباس المتقين . وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال .
أحدها : أنه السمت الحسن ، قاله عثمان بن عفان؛ ورواه الذيَّال بن عمرو عن ابن عباس .
والثاني : العمل الصالح ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : الإيمان ، قاله قتادة ، وابن جريج ، والسدي؛ فعلى هذا ، سمي لباس التقوى ، لأنه يقي العذاب .
والرابع : خشية الله تعالى ، قاله عروة بن الزبير .
والخامس : الحياء ، قاله معبد الجهني ، وابن الانباري .
والسادس : ستر العورة للصلاة ، قاله ابن زيد .
والسابع : انه الدرع ، وسائر آلات الحرب ، قاله زيد بن علي .
والثامن : العفاف ، قاله ابن السائب .
والتاسع : أنه ما يُتَّقى به الحر والبرد ، قاله ابن بحر .
والعاشر : أن المعنى : ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة ، خير مما يلبسه أهل الدنيا ، رواه عثمان ابن عطاء عن أبيه .
قوله تعالى : { ذلك خير } قال ابن قتيبة : المعنى ولباس التقوى خير من الثياب ، لأن الفاجر ، وإِن كان حسن الثوب ، فهو بادي العورة؛ و { ذلك } زائدة . قال الشاعر في هذا المعنى :
إنِّي كأنِّي أرَى مَنْ لا حَياءَ لَه ... وَلاَ أمَانَةَ وَسْطَ القَوْمِ عُريانا
قال ابن الانباري : ويقال لباس التقوى ، هو اللباس الأول ، وإنما أعاده لِما أخبر عنه بأنه خير من التعرِّي ، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعرِّي في الطواف .
قوله تعالى : { ذلك من آيات الله } قال مقاتل : يعني : الثيابُ والمالُ من آيات الله وصنعه ، لكي يذّكروا ، فيعتبروا في صنعه .
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان } قال المفسرون : هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون عراةً ، والمعنى : لا يخدعنَّكم ولا يضلنَّكم بغروره ، فيزِّين لكم كشف عوراتِكم ، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره . وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه ، لأنه السبب . وفي «لباسهما» أربعة أقوال .
أحدها : أنه النور ، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وقد ذكرناه عن ابن منبه .
والثاني : أنه كان كالظُفُر؛ فلما أكلا ، لم يبق عليهما منه إلا الظُفر ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وبه قال عكرمة ، وابن زيد .
والثالث : أنه التقوى ، قاله مجاهد .
والرابع : أنه كان من ثياب الجنة ، ذكره القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { ليريَهما سوءاتهما } أي : ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه . { إنه يراكم هو وقبيله } قال مجاهد : قبيله : الجن والشياطين . قال ابن عباس : جعلهم الله يَجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم ، فهم يرون بني آدم ، وبنو آدم لا يرونهم .
قوله تعالى : { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } قال الزجاج : سلَّطناهم عليهم ، يزيدون في غيّهم . وقال أبو سليمان : جعلناهم موالين لهم .
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } فيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة . والفاحشة : كشف العورة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وزيد بن أسلم ، والسدي .
والثاني : أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام وتلك الفاحشة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنهم المشركون؛ والفاحشة : الشرك ، قاله الحسن ، وعطاء . قال الزجاج : فأعلمهم عز وجل أنه لا يأمر بالفحشاء ، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن . والقسط : العدل . والعدل : ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميِّز ، فكيف يأمر بالفحشاء ، وهي ما عظم قبحه؟! .
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
قوله تعالى : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } فيه أربعة أقوال .
أحدها : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد ، فصلُّوا فيه ، ولا يقولنَّ أحدكم : أُصلي في مسجدي ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، واختاره ابن قتيبة .
والثاني : توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، قاله مجاهد ، والسدي ، وابن زيد .
والثالث : اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون غيره ، قاله الربيع بن أنس .
والرابع : اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة ، أمراً بالجماعة لها ، ذكره الماوردي . وفي قوله : { وادعوه } قولان .
أحدهما : أنه العبادة . والثاني : الدعاء . وفي قوله : { مخلصين له الدين } قولان .
أحدهما : مُفْردين له العبادة . والثاني : موحِّدين غير مشركين .
وفي قوله : { كما بدأكم تعودون } ثلاثة أقوال .
أحدها : كما بدأكم سعداء وأشقياء كذلك تبعثون ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والقرظي ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء .
والثاني : كما خُلقتم بقدرته ، كذلك يعيدكم ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وابن زيد ، والزجاج ، وقال : هذا الكلام متصل بقوله : { فيها تحيون وفيها تموتون } [ الأعراف : 25 ] .
والثالث : كما بدأكم لا تملكون شيئا ، كذلك تعودون ، ذكره الماوردي .
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قوله تعالى : { فريقاً هدى } قال الفراء : نصب الفريق ب { تعودون } . وقال ابن الانباري : نصب { فريقاً } و { فريقاً } على الحال من الضمير الذي في { تعودون } ، يريد : تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم سعداء ، وبعضكم أشقياء .
قوله تعالى : { حق عليهم الضلالة } أي بالكلمة القديمة ، والإرادة السابقة .
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم } سبب نزولها : أن ناساً من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراةً ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تعلِّق على فرجها سيوراً ، وتقول :
اليومَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ
فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : كانوا إذا حجوا ، فأفاضوا من منى ، لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه ، فيلقيهما حتى يقضي طوافه ، فنزلت هذه الآية . وقال الزهري : كانت العرب تطوف بالبيت عراةً ، إلا الحمس ، قريشٌ وأحلافها ، فمن جاء من غيرهم ، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس ، فان لم يجد من يُعيره من الحمس ، ألقى ثيابه وطاف عرياناً ، فان طاف في ثياب نفسه ، جعلها حراماً عليه إذا قضى الطواف ، فلذلك جاءت هذه الآية . وفي هذه الزينة قولان .
أحدهما : أنها الثياب . ثم فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه ورد في ستر العورة في الطواف ، قاله ابن عباس ، والحسن في جماعة . والثاني : أنه ورد في ستر العورة في الصلاة ، قاله مجاهد ، والزجاج . والثالث : أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد ، ذكره الماوردي .
والثاني : أن المراد بالزينة : المشط ، قاله أبو رزين .
قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } قال ابن السائب : كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حَجِّهم دَسَماً ، ولا ينالون من الطعام إلا قوتاً ، تعظيما لحجِّهم فنزل قوله : { وكلوا واشربوا } وفي قوله : { ولا تسرفوا } أربعة اقوال .
أحدها : لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا تأكلوا حراماً ، فذلك الإِسراف ، قاله ابن زيد .
والثالث : لا تشركوا ، فمعنى الإسراف هاهنا : الإشراك ، قاله مقاتل .
والرابع : لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة ، قاله الزجاج .
ونُقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، فقال . علي : قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا . قال : ما هي؟ قال قوله تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } قال النصراني ولا يؤثر عن نبيكم شيء من الطب ، فقال : قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي؟ قال : " المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد " فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً .
قال المصنف : هكذا نقلتُ هذه الحكاية ، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يثبت . وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب «لقط المنافع في الطب» .
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قوله تعالى : { قل من حرَّم زينة الله } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المشركين عيَّروا المسلمين ، إذ لبسوا الثياب في الطواف ، وأكلوا الطيبات ، فنزلت ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم كانوا يُحرِّمون أشياء أحلَّها الله ، من الزروع وغيرها ، فنزلت هذه الآية . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : نزلت في طوافهم بالبيت عراةً ، قاله طاووس ، وعطاء . وفي زينة الله قولان .
أحدهما : أنها ستر العورة؛ فالمعنى : من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ .
والثاني : أنها زينة اللباس . وفي الطيبات قولان .
أحدهما : أنها الحلال . والثاني : المستلذ . ثم في ما عني بها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها البحائر ، والسوائب ، والوصائل ، والحوامي التي حرَّموها ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنها السَّمْنْ ، والألبان ، واللحم ، وكانوا حرَّموه في الإحرام ، قاله ابن زيد . والثالث : الحرث ، والأنعام ، والألبان ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة } قال ابن الانباري : «خالصة» نصب على الحال من لام مضمرة ، تقديرها : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة ، وهي لهم في الآخرة خالصة ، فحذفت اللام لوضوح معناها ، كما تحذف العرب أشياء لا يُلبِس سقوطها .
قال الشاعر :
تَقُوْلُ ابْنَتِي لَمّا رَأتْنيَ شَاحِبَاً ... كأنَّكَ يَحْميْكَ الطَّعَامَ طبيبُ
تتابُعُ أحداثٍ تخرَّ مْنَ أخوتي ... فشيَّبن رَأْسي ، والخُطُوُبُ تُشِيْبُ
أراد : فقلت لها : الذي اكسبني ما ترين ، تتابع أحداث ، فحذف لانكشاف المعنى . قال المفسرون : إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات ، فأكلوا ولبسوا ونكحوا ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للمؤمنين ، وليس للمشركين فيها شيء . وقيل : خالصة لهم من ضرر أو إِثم . وقرأ نافع : «خالصةٌ» بالرفع . قال الزجاج : ورفعُها على أنه خبر بعد خبر ، كما تقول : زيد عاقل لبيب؛ والمعنى : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا ، خالصةٌ يوم القيامة .
قوله تعالى : { كذلك نفصِّل الآيات } أي : هكذا نبيِّنها .
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
قوله تعالى : { قل إنما حرَّم ربي الفواحش } قرأ حمزة : «ربيْ الفواحشَ» باسكان الياء . ( ما ظهر منها وما بطن ) . فيه ستة أقوال .
أحدها : أن المراد بها الزنا ، ما ظهر منه : علانيته ، وما بطن : سرُّه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير .
والثاني : أن ما ظهر : نكاح الأمهات ، وما بطن : الزنا ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال علي بن الحسين .
والثالث : أن ما ظهر : نكاح الأبناء نساء الآباء ، والجمع بين الأختين ، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ، وما بطن : الزنا ، روي عن ابن عباس أيضا .
والرابع : أن ما ظهر : الزنا ، وما بطن : العزل ، قاله شريح .
والخامس : أن ما ظهر : طواف الجاهلية عراة ، وما بطن : الزنا ، قاله مجاهد .
والسادس : أنه عامٌّ في جميع المعاصي . ثم في { ما ظهر منها وما بطن } قولان .
أحدهما : أن الظاهر : العلانية ، والباطن : السر ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والثاني : أن ما ظهر : أفعال الجوارح ، والباطن : اعتقاد القلوب ، قاله الماوردي . وفي الإثم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والفرَّاء .
والثاني : المعاصي كلها ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه الخمر ، قاله الحسن ، وعطاء . قال ابن الانباري : أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته ، وزعم أن أبا عبيدة أنشده :
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً ... وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً
فقال أبو العباس : لا أعرفه ، ولا أعرف الإثم : الخمر ، في كلام العرب . وأنشدنا رجل آخر :
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ
قال أبو بكر : وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره ، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر ، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام .
فان قيل : إن الخمر تدخل تحت الإثم ، فصواب ، لا لأنه اسم لها .
فان قيل : كيف فصل الإثم عن الفواحش ، وفي كل الفواحش إثم؟ فالجواب : أن كل فاحشة إثم ، وليس كل إثم فاحشة ، فكان الإثم كل فعل مذموم؛ والفاحشة : العظيمة . فأما البغي : فقال الفراء : هو الاستطالة على الناس .
قوله تعالى : { وأن تشركوا } قال الزجاج : موضع «أن» نصب؛ فالمعنى : حرَّم الفواحش ، وحرَّم الشرك ، والسلطان : الحجة .
قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } عام في تحريم القول في الدِّين من غير يقين .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قوله تعالى : { ولكل أُمة أجل } سبب نزولها : أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم العذاب ، فأُنزلت ، قاله مقاتل . وفي الأجل قولان .
أحدهما : أنه أجل العذاب . والثاني : أجل الحياة . قال الزجاج : الأجل : الوقت المؤقت . { فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة } المعنى : ولا أقل من ساعة . وإنما ذكر الساعة ، لأنها أقل أسماء الأوقات .
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
قوله تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } قال الزجاج : أضمر : «فأطيعوهم» . وقد سبق معنى «إما» في سورة [ البقرة : 38 ] ؛ والباقي ظاهر إلى قوله : { ينالهم نصيبهم من الكتاب } ففي معناه سبعة أقوال .
أحدها : ما قُدّر لهم من خير وشر ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والثاني : نصيبهم من الأعمال ، فيُجزَون عليها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : ما كُتِبَ عليهم من الضلالة والهدى ، قاله الحسن . وقال مجاهد ، وابن جبير ، من السعادة والشقاوة .
والرابع : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال ، قاله الربيع ، والقرظي ، وابن زيد .
والخامس : ما كتب لهم من العذاب ، قاله عكرمة ، وأبو صالح ، والسدي .
والسادس : ما أخبر الله تعالى في الكتب كلِّها : أنه من افترى على الله كذباً ، اسودَّ وجهه ، قاله مقاتل .
والسابع : ما أخبر في الكتاب من جزائهم ، نحو قوله : { فأنذرتكم ناراً تلظَّى } [ الليل : 14 ] قاله الزجاج ، فاذن في الكتاب خمسة أقوال .
أحدها : أنه اللوح الحفوظ .
والثاني : كُتُبُ الله كلُّها .
والثالث : القرآن .
والرابع : كتاب أعمالهم .
والخامس : القضاء .
قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم رسلنا } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أعوان مَلَكِ الموت ، قاله النخعي .
والثاني : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل .
والثالث : ملائكة العذاب يوم القيامة .
وفي قوله { يتوفَّونهم } ثلاثة أقوال .
أحدها : يتوفَّونهم بالموت ، قاله الأكثرون .
والثاني : يتوفَّونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة ، قاله الحسن .
والثالث : يتوفَّونهم عذاباً ، كما تقول : قتلت فلاناً بالعذاب ، وإن لم يمت ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أين ما كنتم تدعون } أي : تعبدون { من دون الله } ، وهذا سؤال تبكيت وتقريع . قال مقاتل : المعنى : فليمنعوكم من النار . قال الزجاج : ومعنى : { ضلُّوا عنا } : بطلوا وذهبوا ، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين . وقال غيره : ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة .
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
قوله تعالى : { قال ادخلوا } إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة ، لأن الله تعالى لا يكلِّم الكفار يوم القيامة . قال ابن قتيبة : و«في» بمعنى «مع» .
وفي قوله : { قد خلت من قبلكم } قولان .
أحدهما : مضت إلى العذاب .
والثاني : مضت في الزمان ، يعني : كفار الأمم الماضية .
قوله تعالى : { كلما دخلت أُمة لعنت أُختها } وهذه أُخُوَّةُ الدِّين والملَّة ، لا أُخُوَّةُ النسب . قال ابن عباس : يلعنون من كان قبلهم . قال مقاتل : كلما دخل أهل ملّة ، لعنوا أهل ملَّتهم ، فيلعن اليهودُ اليهودَ ، والنصارى النصارى ، والمشركون المشركين ، والأتباع القادة ، ويقولون : أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم . وقال الزجاج : إنما تلاعنوا ، لأن بعضهم ضل باتباع بعض .
قوله تعالى : { حتى إذا ادَّاركوا } قال ابن قتيبة : أي : تداركوا ، فأدغمت التاء في الدال ، وأُدخلت الألف ليَسْلَم السكون لِما بعدها ، يريد : تتابعوا فيها واجتمعوا .
قوله تعالى : { قالت أُخراهم لأولاهم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : آخر أُمِّة لأول أُمِّة ، قاله ابن عباس .
والثاني : آخر أهل الزمان لأوّلِّيهم الذين شرعوا له ذلك الدِّين ، قاله السدي .
والثالث : آخرهم دخولاً إلى النار ، وهم الأتباع ، لأوِّلهم دخولاً ، وهم القادة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { هؤلاء أضلونا } قال ابن عباس : شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها .
قوله تعالى : { فآتهم عذاباً ضعفاً } قال الزجاج : أي : عذاباً مضاعفاً .
قوله تعالى : { قال لكلٍّ ضعف } أي عذاب مضاعف ولكن لا تعلمون .
قرأ أبو بكر ، والمفضل عن عاصم : «يعلمون» بالياء . قال الزجاج : والمعنى : لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر . وقرأ الباقون : «تعلمون» بالتاء ، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج .
أحدهما : لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب .
والثاني : لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك ، وقيل : إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة ، ليكون أحد العذابين على الكفر ، والثاني على إغرائهم به ، فأجيبوا : { لكلٍّ ضعف } أي : كما كان للقادة ذلك ، فلكم عذاب بالكفر ، وعذاب بالاتِّباع . قوله : { فما كان لكم علينا من فضل } فيه قولان .
أحدهما : في الكفر ، نحن وأنتم فيه سواء ، قاله ابن عباس .
والثاني : في تخفيف العذاب ، قاله مجاهد .
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قوله تعالى : { بما كنتم تكسبون } قال مقاتل : من الشرك والتكذيب .
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
قوله تعالى : { إن الذين كذبوا بآياتنا } أي : بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء ، وتكبَّروا عن الإيمان بها { لا تُفَتَّح لهم أبواب السماء } . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : «تُفتَّح»؛ بالتاء ، وشددوا التاء الثانية . وقرأ أبو عمرو «لا تُفْتَح» بالتاء خفيفة ، ساكنة الفاء . وقرأ حمزة ، والكسائي : «لا يُفْتَح» بالياء مضمومة خفيفة . وقرأ اليزيدي عن اختياره : «لا تَفتح» بتاء مفتوحة { أبوابَ السماء } بنصب الباء ، فكأنه أشار إلى أفعالهم . وقرأ الحسن : بياء مفتوحة ، مع نصب الأبواب ، كأنه يشير إلى الله عز وجل . وفي معنى الكلام أربعة أقوال .
أحدها : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، والسدي في آخرين ، والأحاديث تشهد به .
والثاني : لا تفتح لأعمالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والرابع : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم ، قاله ابن جريج ، ومقاتل .
وفي السماء قولان .
أحدهما : أنها السماء المعروفة ، وهو المشهور .
والثاني : أن لمعنى : لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها ، لأن الجنة في السماء ، ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط } الجمل : هو الحيوان المعروف . فان قال قائل : كيف خص الجمل دون سائر الدواب ، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود؛ والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة ، كما لا يدخل الجمل في ثقَب الإبرة ، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه ، جاز ، والناس يقولون : فلان لا يساوي درهماً ، وهذا لا يغني عنك فتيلاً ، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل .
والثاني : أن الجمل أكبر شأناً عند العرب من سائر الدواب ، فانهم يقدِّمونه في القوِّة على غيره ، لأنه يوقَر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب ، ولهذا عجَّبهم من خلق الإبل ، فقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية : 17 ] فآثر الله ذكره على غيره لهذا المعنى . ذكر الجوابين ابن الانباري . قال : وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ : «حتى يلج الجُمَّلُ» بضم الجيم وتشديد الميم ، وقال : هو القَلْس الغليظ .
قال المصنف : وهي قراءة أبي رزين ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وأبي مجلز ، وابن يعمر ، وأبان عن عاصم . قال : وروى مجاهد عن ابن عباس : «حتى يلج الجُمَلُ» بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها .
قلت : وهي قراءة قتادة ، وقد رويت عن سعيد بن جبير ، وأنه قرأ : «حتى يلج الجُمْل» بضم الجيم وتسكين الميم . قلت : وهي قراءة عكرمة .
قال ابن الأنباري : فالجُمَل يحتمل أمرين : يجوز أن يكون بمعنى الجُمَّلُ ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجِمال ، قيل في جمعها : جُمَلٌ ، كما قال : حُجْرة ، وحُجَر ، وظُلْمة وظُلَم .
وكذلك من قرأ : «الجُمْلَ» يسوغ له أن يقول : الجُمْلُ ، بمعنى الجُمَّل ، وأن يقول : الجُمْل جمع جُمْلة ، مثل : بُسْرة وبُسْر . وأصحاب هذه القراءات يقولون : الحبل والحبال ، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال ، وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ : «الجُمْل» بضم الجيم والميم ، وبالتخفيف ، وهي قراءة الضحاك ، والجحدري . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : «الجَمْل» بفتح الجيم ، وبسكون الميم خفيفة .
قوله تعالى : { في سَمِّ الخياط } السم : في اللغة : الثَّقب . وفيها ثلاث لغات . فتح السين ، وبها قرأ الأكثرون ، وضمها ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن محيصن ، وطلحة بن مصرف ، وكسرها ، وبه قرأ أبو عمران الجوني ، وأبو نهيك ، والأصمعي عن نافع . قال ابن القاسم : والخياط : المِخْيَط ، بمنزلة اللحاف والملحف ، والقِرام والمقرم . وقد قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو مجلز : في «سم المِخْيَطِ» وقال الزجاج : الخياط : الإبرة ، وسَمُّها : ثقبها . والمعنى : أنهم لا يدخلون الجنة أبداً . قال ابن قتيبة : هذا كما يقال : لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب ، ويبيضّ القار .
قوله تعالى : { وكذلك نجزي المجرمين } أي : مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة .
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
قوله تعالى : { لهم من جهنم مهاد } المهاد : الفراش .
وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال .
أحدها : اللحف ، قاله ابن عباس ، والقرظي ، وابن زيد . والثاني : ما يغشاهم من فوقهم من الدخان ، قاله عكرمة . والثالث : غاشية فوق غاشية من النار ، قاله الزجاج . قال ابن عباس : والظالمون : هاهنا الكافرون .
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ } فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال .
أحدها : أهل بدر . روى الحسن عن علي رضي الله عنه أنه قال : فينا والله أهل بدر نزلت : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } . وروى عمرو بن الشريد عن عليٍّ أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، من الذين قال الله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } .
والثاني : أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا . روى كثير النَّوَّاء عن أبي جعفر قال : نزلت هذه الآية في علي ، وأبي بكر ، وعمر ، قلت لأبي جعفر : فأي غل هو؟ قال : غل الجاهلية ، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شيء ، فلما أسلم هؤلاء ، تحابوا ، فأخذتْ أبا بكر الخاصرةُ ، فجعل عليٌّ يسخِّن يده ويكمِّد بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية .
والثالث : أنهم عشرة من الصحابة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعبد الله بن مسعود ، قاله أبو صالح .
والرابع : أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه تعالى وسلم أنه قال : " يخلُصُ المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة ، فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا " وقال ابن عباس : أول ما يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ، تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين ، فيُذهب الله ما في قلوبهم من غلٍّ وغيره مما كان في الدنيا ، ثم يدخلون إلى العين الأخرى ، فيغتسلون منها فتُشرق ألوانهم ، وتصفو وجوههم ، وتجري عليهم نضرة النعيم .
فأما النزع : فهو قلع الشيء من مكانه . والغل : الحقد الكامن في الصدر .
وقال ابن قتيبة : الغل : الحسد والعداوة .
قوله تعالى : { الحمد لله الذي هدانا لهذا } قال الزجاج : معناه : هدانا لِما صيّرنا إلى هذا . قال ابن عباس : يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته . وروى عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه قال : تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور ، فيطوفون بهم كاطافتهم بالحميم جاء من الغيبة ، ويبشرونهم بما أعدَّ الله لهم ، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشِّرونهنَّ ، فيستخفهنَّ الفرح ، فيقمن على أُسْكُفَّةِ الباب ، فيقلن : أنت رأيته ، أنت رأيته؟ قال : فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه ، فاذا صخر من لؤلؤ ، ثم يرفع بصره ، فلولا أن الله ذلَّله لذهب بصره ، ثم ينظر أسفل من ذلك ، فاذا هو بالسُّرر الموضونة ، والفرش المرفوعة ، والزرابي المبثوثة ، فعند ذلك قالوا : { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } كلهم قرأ «وما كنَّا» باثبات الواو ، غير ابن عامر ، فانه قرأ : «ما كنا لنهتديَ» بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام .
قال أبو علي : وجه الاستغناء عن الواو ، أن القصة ملتبسة بما قبلها ، فأغنى التباسها به عن حرف العطف ، ومثله : { رابعهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] .
قوله تعالى : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا . { ونودوا أن تلك الجنة } قال الزجاج : إنما قال «تلكم» لأنهم وعدوا بها في الدنيا ، فكأنه قيل لهم : هذه تلكم التي وُعدتم بها . وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : { أورثْتُموها } غير مدغمة . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { أورتمُّوها } مدغمة ، وكذلك قرؤوا في [ الزخرف : 72 ] قال أبو علي : من ترك الادغام ، فلتباين مخرج الحرفين ، ومن أدغم ، فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان ، وفي معنى { أورثتموها } أربعة أقوال .
أحدها : ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أحد إلا وله منزل في الجنةومنزل في النار ، فأما الكافر فانه يرث المؤمنَ منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة " فذلك قوله : { أورثتموها بما كنتم تعملون } وقال بعضهم لما سمي الكفار أمواتاً بقوله : { أمواتٌ غير أحياء } [ النحل : 21 ] . وسمى المؤمنين أحياءً بقوله : { لتنذر من كان حياً } [ يس : 70 ] أورث الأحياء الموتى .
والثاني : أنهم أورثوها عن الأعمال ، لأنها جُعلت جزاءً لأعمالهم ، وثواباً عليها ، إذ هي عواقبها ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : أن دخول الجنة برحمة الله ، واقتسامَ الدرجات بالأعمال ، فلما كان يفسَّر نيلها لا عن عوض ، سميت ميراثاً . والميراث : ما أخذته عن غير عوض .
والرابع : أن معنى الميراث هاهنا : أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث .
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
قوله تعالى : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } أي : من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير . ( قالوا نعم ) . قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن ، وكان الكسائي يكسرها . قال الأخفش : هما لغتان .
قوله تعالى : { فأذَّن مؤذِّن بينهم } أي نادى منادٍ . { ان لعنةُ الله } قرأ ابن كثير في رواية قنبل ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : { أنْ لعنةُ الله } خفيفة النون ساكنة . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «أنّ» بالتشديد «لعنةَ الله» بالنصب . قال الأخفش : و«أنْ» في قوله : { أن تلكم الجنة } [ الأعراف : 43 ] وقوله : { أن لعنةُ الله } ، وقوله : { أن الحمد لله } [ يونس : 10 ] و { أن قد وجدنا } هي «أنّ» الثقيلة خففت .
قال الشاعر :
في فِتْيَةٍ كَسُيْوفِ الهِنْدِ قَد عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كلُّ من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وأنشد أيضاً :
أُكاشِرُهُ وَأعْلَمُ أَنْ كِلاَنَا ... عَلَى ما سَاءَ صَاحِبَه حَرِيْصُ
ومعناه : أنه كلانا؛ وتكون «أن قد وجدنا» في معنى : أي . قال ابن عباس : والظالمون هاهنا : الكافرون .
قوله تعالى : { الذين يصدُّون عن سبيل الله } أي : أذن المؤذن ان لعنة الله على الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وهو الإسلام . { ويبغونها عوجاً } مفسَّر في [ آل عمران : 99 ] . { وهم بالآخرة } أي : وهم بِكَوْن الآخرة كافرون .
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
قوله تعالى : { وبينهما حجاب } أي : بين الجنة والنار حاجز ، وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] ، فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه . قال ابن عباس : الأعراف : هو السور الذي بين الجنة والنار ، له عرف كعرف الديك . وقال أبو هريرة : الأعراف : جبال بين الجنة والنار ، فهم على أعرافها ، يعني : على ذراها ، خلِقتها كخِلقة عرف الديك . قال اللغويون : الأعراف عند العرب : كل ما ارتفع من الأرض وعلا؛ يقال لكل عال : عُرف ، وجمعه : أعراف .
قال الشاعر :
كلُّ كِنازٍ لَحُمُه نِيَافِ ... كالعَلَم المُوفي على الأَعْرافِ
وقال الآخر :
وَرِثت بِنَاءَ آبَاءٍ كِرَامٍ ... عَلَوْا بالمَجْدِ أعْرَافَ البِنَاءِ
وفي «أصحاب الأعراف» قولان .
أحدهما : أنهم من بني آدم ، قاله الجمهور . وزعم مقاتل : أنهم من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وفي أعمالهم تسعة أقوال .
أحدها : أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم ، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله ، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تبلغ حسناتهم دخول الجنة ، ولا سيئاتهم دخول النار ، قاله ابن مسعود ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وقتادة .
والثالث : أنهم أولاد الزنا ، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس .
والرابع : أنهم قوم صالحون فقهاء علماء ، قاله الحسن ، ومجاهد؛ فعلى هذا ، يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة .
والخامس : أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أُمهاتهم ، أو أُمهاتهم دون أبائهم ، رواه عبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم .
والسادس : أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدِّلوا دينهم ، قاله عبد العزيز بن يحيى .
والسابع : أنهم أنبياء ، حكاه ابن الانباري .
والثامن : أنهم أولاد المشركين ، ذكره المنجوفي في تفسيرة .
والتاسع : أنهم قوم عملوا لله ، لكنّهم راؤَوا في عملهم ، ذكره بعض العلماء .
والقول الثاني : أنهم ملائكة ، قاله أبو مجلز ، واعتُرض عليه ، فقيل : إنهم رجال فكيف تقول : ملائكة؟ فقال : إنهم ذكور وليسوا باناث . وقيل معنى قوله : { وعلى الأعراف رجال } أي : على معرفة أهل الجنة من أهل النار ، ذكره الزجاج ، وابن الانباري . وفيه بُعد وخلاف للمفسرين .
قوله تعالى : { يعرفون كلاًّ بسيماهم } أي : يعرف أصحابُ الأعراف أهل الجنة وأهل النار ، وسيما أهل الجنة : بياض الوجوه ، وسيما أهل النار : سواد الوجوه ، وزرقة العيون . والسيما : العلامة . وإنما عرفوا الناس ، لأنهم على مكانٍ عالٍ يشرفون فيه على أهل الجنة والنار . { ونادَوا } يعني : أصحاب الأعراف { أصحاب الجنة أن سلام عليكم } وفي قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قولان .
أحدهما : أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها ، قاله الجمهور .
والثاني : أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يُذهَب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها ، هذا قول السدي .
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قوله تعالى : { وإذا صرفت أبصارهم } يعني : أصحاب الأعراف . والتلقاء : جهة اللقاء ، وهي جهة المقابلة . وقال أبو عبيدة : تلقاء أصحاب النار أي : حيالهم .
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
قوله تعالى : { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم } روى أبو صالح عن ابن عباس قال : ينادون : يا وليد بن المغيرة ، يا أبا جهل بن هشام ، يا عاص بن وائل ، يا أمية بن خلف ، يا أُبَيّ بن خلف ، يا سائر رؤساء الكفار ، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والولد . { وما كنتم تستكبرون } أي : تتعظَّمون عن الإيمان .
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } فيه قولان .
أحدهما : أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا ، وأن الله لن يدخلهم الجنة ، فيقول الله لأهل النار : { أهؤلاء } يعني : أهل الأعراف { الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة ، ادخلوا الجنة } رواه وهب بن منبه عن ابن عباس . قال حذيفة : بينا أصحاب الأعراف هنالك ، اطَّلع عليهم ربهم فقال لهم : «ادخلوا الجنة فاني قد غفرت لكم» .
والثاني : أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم ، كسلمان ، وصهيب ، وخبَّاب ، فينادون الكفار : { أهؤلاء الذين أقسمتم } وأنتم في الدنيا { لا ينالهم الله برحمة } قاله ابن السائب . فعلى هذا ، ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله : { برحمة } ، ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة . وقد ذكر المفسرون في قوله : { ادخلوا الجنة } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن يكون خطاباً من الله لأهل الأعراف ، وقد ذكرناه .
والثاني : أن يكون خطاباً من الله لأهل الجنة .
والثالث : أن يكون خطاباً من أهل الأعراف لأهل الجنة ، ذكرهما الزجاج . فعلى هذا الوجه الأخير ، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة { ادخلوا الجنة } : اعلوا إلى القصور المشرفة ، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة ، لأنهم قد رأوهم في الجنة . وروى مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال : يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له : الحياة ، عليه قضبان الذهب مكلَّلة باللؤلؤ ، فيُغمسون فيه ، فيخرجون ، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، ويقال لهم : تمنَّوا ما شئتم ، ولكم سبعون ضعفاً ، فهم مساكين أهل الجنة .
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
قوله تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } قال ابن عباس : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة ، طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس ، فقالوا : يا رب ، إن لنا قرابات من أهل الجنة ، فائذن لنا حتى نراهم ونكلِّمهم ، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم . ونظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم ، قد اسودَّت وجوههم وصاروا خلقاً آخر ، فنادى أصحابُ النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم ، فينادي الرجل أخاه : يا أخي قد احترقتُ فأغثني؛ فيقول : { إن الله حرَّمهما على الكافرين } قال السدي : عنى بقوله : { أو مما رزقكم الله } : الطعام . قال الزجاج : أعلمَ الله عز وجل أن ابن آدمَ غيرُ مستغنٍ عن الطعام والشراب ، وإن كان معذَّباً .
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
قوله تعالى : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } قال ابن عباس : هم المستهزئون . والمعنى : أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم . وقال أبو رَوْق : دينهم : عيدهم . وقال قتادة : { لهواً ولعباً } أي : أكلاً وشرباً . وقال غيره : هو ما زيَّنه الشيطان لهم من تحريم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، والمكاء ، والتصدية ، ونحو ذلك من خصال الجاهلية .
قوله تعالى : { فاليوم ننساهم } قال الزجاج : أي : نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا . و «ما» نسق على «كما» في موضع جر . والمعنى : وكجحدهم . قال ابن الانباري : ويجوز أن يكون المعنى : فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناسٍ غافلٍ كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغَفَل .
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قوله تعالى : { ولقد جئناهم بكتاب } يعني : القرآن . { فصَّلناه } أي : بينَّاه بايضاح الحق من الباطل . وقيل : فصَّلناه فصولاً : مرة بتعريف الحلال ، ومرة بتعريف الحرام ، ومرة بالوعد ، ومرة بالوعيد ، ومرة بحديث الأمم .
وفي قوله : { على علم } قولان .
أحدهما : على علم منا بما فصَّلناه . والثاني : على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه . وقرأ ابن السميفع ، وابن محيصن ، وعاصم ، والجحدري ، ومعاذ القارىء : «فضَّلناه» بضاد معجمة .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
قوله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله } قال ابن عباس : تصديق ما وُعدوا في القرآن { يوم يأتي تأويله } وهو يوم القيامة { يقول الذين نسوه } أي : تركوه { من قبلُ } في الدنيا { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي : بالبعث بعد الموت .
قوله تعالى : { أو نُرَدُّ } قال الزجاج : المعنى : أو هل نُردُّ . وقوله : { فنعملَ } منصوب على جواب الفاء للاستفهام .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوم السبت . روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فقال : " خلق الله عز وجل التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الاربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر [ من ] يوم الجمعة [ في ] آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " وهذا اختيار محمد بن إسحاق . قال ابن الانباري : وهذا إجماع أهل العلم .
والثاني : يوم الأحد ، قاله عبد الله بن سلام ، وكعب ، والضحاك ، ومجاهد ، واختاره ابن جرير الطبري ، وبه يقول أهل التوراة .
والثالث : يوم الاثنين ، قاله ابن إسحاق ، وبهذا يقول أهل الإنجيل . ومعنى قوله : { في ستة ايام } أي : في مقدار ذلك ، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها ، ولم تكن الشمس حينئذ . قال ابن عباس : مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة ، وبه قال كعب ، ومجاهد ، والضحاك ، ولا نعلم خلافاً في ذلك . ولو قال قائل : إنها كأيام الدنيا ، كان قوله بعيداً من وجهين .
أحدهما : خلاف الآثار . والثاني : أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة ، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] . فان قيل : فهلاَّ خلقها في لحظة ، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة .
أحدها : أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده ، ذكره ابن الانباري .
والثاني : أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذريته قبل وجوده ، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة .
والثالث : أن التعجيل أبلغ في القدرة ، والتثبيت أبلغ في الحكمة ، فأراد إظهار حكمته في ذلك ، كما يظهر قدرته في قوله : { كن فيكون } .
والرابع : انه علّم عباده التثبُّت ، فاذا تثبت من لا يزلُّ ، كان ذو الزَّلل أول بالتثبُّت .
والخامس : أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء ، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق .
قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } قال الخليل بن أحمد : العرش : السرير؛ وكل سرير لملك يسمى عرشاً ، وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار ، واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام . قال أُمية بن أبي الصلت :
مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ ... ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا ... س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ ... نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا
وقال كعب : إن السموات في العرش : كالقنديل معلَّق بين السماء والأرض . وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال : العرش ياقوتة حمراء . وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية . وقد شذَّ قوم فقالوا : العرش بمعنى الملك . وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوُّز ، مع مخالفة الأثر؛ ألم يسمعوا قوله تعالى : { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] أتراه كان المُلك على الماء؟ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول : استوى بمعنى استولى؛ ويحتج بقول الشاعر :
حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ
ويقول الشاعر أيضاً :
هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً ... عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ
وهذا منكر عند اللغويين . قال ابن الاعرابي : العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ، ومن قال ذلك فقد أعظم . قالوا : وإنما يقال استولى فلان على كذا ، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه ، ثم تمكن منه؛ والله عز وجل لم يزل مستولياً على الأشياء؛ والبيتان لا يعرف قائلهما ، كذا قال ابن فارس اللغوي . ولو صحّا ، فلا حجة فيهما لما بيَّنَّا من استيلاء من لم يكن مستولياً . نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة .
قوله تعالى : { يغشي الليل النهار } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يُغْشي» ساكنة الغين خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «يُغَشّي» مفتوحة الغين مشددة؛ وكذلك قرؤوا في ( الرعد ) قال الزجاج : المعنى : أن الليل يأتي على النهار فيغطيِّه؛ وإنما لم يقل : ويغشي النهار الليل ، لأن في الكلام دليلاً عليه؛ وقد قال في موضع آخر : { يكوِّر الليل على النهار ويكوِّر النهار على الليل } [ الزمر : 5 ] . وقال أبو علي : إنما لم يقل : يغشي النهار الليل ، لأنه معلوم من فحوى الكلام ، كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وانتصب الليل والنهار ، لأن كل واحد منهما مفعول به ، فأما الحثيث : فهو السريع .
قوله تعالى : { والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ } قرأ الأكثرون : بالنصب فيهنَّ ، وهو على معنى : خلق السموات والشمس . وقرأ ابن عامر : «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» بالرفع فيهن هاهنا وفي [ النحل : 12 ] ، تابعه حفص في قوله تعالى : { والنجوم مسخرات } في [ النحل : 12 ] فحسب . والرفع على الاستئناف . والمسخرات : المذلَّلات لما يراد منهنَّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبّر لهنَّ .
قوله تعالى : { ألا له الخلق } لأنه خلقهم { والأمر } فله أن يأمر بما يشاء . وقيل : الأمر : القضاء .
قوله تعالى : { تبارك الله } فيه أربعة أقوال .
أحدها : تفاعل من البركة ، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ وكذلك قال القتيبيُّ ، والزجاج . وقال أبو مالك : افتعل من البركة . وقال الحسن : تجيء البركة من قِبَله . وقال الفراء : تبارك من البركة؛ وهو في العربية كقولك : تقدس ربنا .
والثاني : أن تبارك بمعنى تعالى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وكذلك قال أبو العباس : تبارك ارتفع؛ والمتبارِك : المرتفِع .
والثالث : أن المعنى : باسمه يُتبرَّك في كل شيء ، قاله ابن الانباري .
والرابع : أن معنى «تبارك» : تقدس ، أي : تطهر ، ذكره ابن الانباري أيضاً .
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً } التضرع : التذلُّل والخضوع ، والخُفية : خلاف العلانية . قال الحسن : كانوا يجتهدون في الدعاء ، ولا تسمع إلا همساً . ومن هذا حديث أبي موسى : « اربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً » وفي الاعتداء المذكور هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الاعتداء في الدعاء . ثم فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن يدعو على المؤمنين بالشر ، كالخزي واللعنة ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . والثاني : أن يسأل مالا يستحقه من منازل الأنبياء ، قاله أبو مجلز . والثالث : أنه الجهر في الدعاء ، قاله ابن السائب .
والثاني : أنه مجاوزة المأمور به ، قاله الزجاج .
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } فيه ستة أقوال .
أحدها : لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان .
والثاني : لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل .
والثالث : لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة .
والرابع : لا تعصوا ، فيمسك الله المطر ، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب .
والخامس : لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه .
والسادس : لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي .
وفي قوله : { وادعوه خوفاً وطمعاً } قولان . أحدهما : خوفاً من عقابه ، وطمعاً في ثوابه . والثاني : خوفاً من الردِّ وطمعاً في الإِجابة .
قوله تعالى : { ان رحمة الله قريب من المحسنين } قال الفراء : رأيت العرب تؤنِّث القريبة في النسب ، لا يختلفون في ذلك ، فاذا قالوا : دارك منا قريب ، أو فلانة منا قريب ، من القرب والبعد ، ذكّروا وأنَّثوا ، وذلك أنهم جعلوا القريب خَلَفاً من المكان ، كقوله : { وما هي من الظالمين ببعيد } [ هود : 83 ] وقوله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ] ولو أُنِّث ذلك لكان صواباً . قال عروة :
عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ قريبةٌ ... فَتَدْنُو وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعيدُ
وقال الزجاج : إنما قيل : { قريب } لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد ، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي . وقال الأخفش : جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر .
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قوله تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح } قرأ أبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم : { الرياح } على الجمع . وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : «الريح» على التوحيد . وقد يأتي لفظ التوحيد ، ويراد به الكثرة ، كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس ، ومثله : { إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 2 ] .
قوله تعالى : { نشراً } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع ، { نُشراً } بضم النون والشين ، أرادوا جمع نشور ، وهي الريح الطيبة الهبوب ، تهب من كل ناحية وجانب . قال أبو عبيدة : النُشُر : المتفرقة من كل جانب . وقال أبو علي : يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر ، وبمعنى المنتشر ، وبمعنى الناشر؛ يقال : أنشر الله الريح ، مثل أحياها ، فنشرت ، أي : حييت . والدليل على أن إنشار الربح إحياؤها قولُ الفقعسي :
وهبَّتْ له رِيْحُ الجَنُوبِ وأُحْيِيَتْ ... له رَيْدَةٌ يُحيي المِيَاهَ نَسِيْمُهَا
ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت .
قال الشاعر :
إنِّي لأرْجُو أَنْ تَمُوْتَ الرِّيْحُ ... فَأقْعُدَ اليَوْمَ وَأسْتَرِيْحُ
والرَّيدة والريدانة : الريح . وقرأ ابن عامر ، وعبد الوارث ، والحسن البصري : «نُشْراً» بالنون مضمومة وسكون الشين ، وهي في معنى «نُشُراً» يقال : كُتُبْ وكُتْب ، ورُسُل ورُسْل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، والمفضل عن عاصم : «نَشْرا» بفتح النون وسكون الشين . قال الفراء : النَّشْر : الريح الطيبة الليَّنِّة التي تنشىء السحاب . وقال ابن الانباري : النَّشْر : المنتشرة الواسعة الهبوب . وقال أبو علي : يحتمل النَّشْر أن يكون خلاف الطيِّ ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطويَّة . ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر : أنها المتفرقة في الوجوه؛ ويحتمل أن يكون معناها : النشر الذي هو الحياة ، كقول الشاعر :
[ حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا ] ... يا عَجَباً لِلْمِّيتِ النَّاشِرِ
قال : وهذا هو الوجه . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وإبراهيم النخعي ، ومسروق ، ومورِّق العجلي : «نَشَراً» بفتح النون والشين . قال ابن القاسم : وفي النَّشَر وجهان .
أحدهما : أن يكون جمعاً للنشور ، كما قالوا : عَمود وَعَمد ، وإهاب وأهَب .
والثاني : أن يكون جمعاً ، واحده ناشر ، يجري مجرى قوله : غائب وغَيَبٌ ، وحافد وحَفَدٌ ، وكل القرَّاء نوَّن الكلمة . وكذلك اختلافهم في [ الفرقان : 48 ] و [ النمل : 63 ] . هذه قراءات من قرأ بالنون . وقد قرأ آخرون بالباء ، فقرأ عاصم إلا المفضل : «بُشْرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى : قال ابن الانباري : وهي جمع بشيرة ، وهي التي تبشِّر بالمطر ، والأصل ضم الشين ، إلا أنهم استثقلوا الضمتين . وقرأ ابن خثيم ، وابن جذلم : مثله إلا أنهما نوَّنا الراء . وقرأ ابو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : بضم الباء والشين ، وهذا على أنها جمع بشيرة . والرحمة هاهنا : المطر؛ سماه رحمة لأنه كان بالرحمة . و«أقلّتِ» بمعنى : حملت . قال الزجاج : السحاب : جمع سحابة . قال ابن فارس : سمي السحابَ لانسحابه في الهواء .
قوله تعالى : { ثِقالاً } أي : الماء وقوله تعالى : { سقناه } ردَّ الكناية إلى لفظ السحاب ، ولفظه لفظُ واحدٍ .
وفي قوله «لبلد» قولان .
أحدهما : إلى بلد . والثاني : لإحياء بلد . والميْتُ : الذي لا يُنْبَتُ فيه ، فهو محتاج إلى المطر . وفي قوله : { فأنزلنا به } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الكناية ترجع إلى السحاب . والثاني : إلى المطر ، ذكرهما الزجاج . والثالث : إلى البلد ، ذكره ابن الانباري . فأما هاء { فأخرجنا به } فتحتمل الأقوال الثلاثة .
قوله تعالى : { كذلك نخرج الموتى } أي : كما أحيينا هذا البلد . وقال مجاهد : نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميْت به . قال ابن عباس : يرسل الله تعالى بين النفختين مطراً كمني الرجال ، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أُمهاتهم .
قوله تعالى : { لعلكم تذكَّرون } قال الزجاج : لعل : ترجٍ . وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض؛ والمعنى : لعلكم بما بيَّناه لكم تستدلُّون على توحيد الله ، وأنه يبعث الموتى .
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قوله تعالى : { والبلد الطيب } يعني : الأرضَ الطيبةَ التربة { يخرج نباته } وقرأ ابن أبي عبلة : «يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء ، «نباتَه» بنصب التاء ، { والذي خبُث لا يخرج } كذلك أيضاً . وقد روى ابان عن عاصم : «لا يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء . والمراد بالذي خبث : الأرض السبخة .
قوله تعالى : { إلا نكدا } قرأ الجمهور : بفتح النون وكسر الكاف . وقرأ أبو جعفر : «نَكَداً» بفتح الكاف . وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : «نَكْداً» باسكان الكاف . قال أبو عبيدة : قليلاً عسيراً في شدة ، وأنشد :
لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ ... أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاَ نَكِداً
قال المفسرون : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر؛ فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به وبان أثره عليه ، فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يُمرع ويُخصب ويحسن أثر المطر عليه؛ وعكسه الكافر .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
قوله تعالى : { اعبدوا الله } قال مقاتل : وحِّدوه؛ وكذلك في سائر القصص بعدها .
قوله تعالى : { مالكم من إله غيره } قرأ الكسائي : «غيرِه» بالخفض . قال أبو علي : جعل غيراً صفة ل { إله } على اللفظ .
قوله تعالى : { أُبلِّغكم } قرأ أبو عمرو : «أُبْلِغكم» ساكنة الباء خفيفة اللام . وقرأ الباقون : «أُبَلِّغكم» مفتوحة الباء ، مشددة اللام .
قوله تعالى : { وأنصح لكم } يقال : نصحته ، ونصحت له ، وشكرته وشكرت له .
قوله تعالى : { وأعلم من الله مالا تعلمون } أي : من مغفرته لمن تاب ، وعقوبته لمن أصرَّ . وقال مقاتل : أعلمُ من نزول العذاب مالا تعلمونه؛ وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عُذِّبوا قبلهم .
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
قوله تعالى : { أو عجبتم } قال الزجاج : هذه واو العطف ، دخلت عليها ألف الاستفهام ، فبقيت مفتوحة . وفي الذِّكر قولان . أحدهما : الموعظة . والثاني : البيان .
وفي قوله : { على رجل منكم } قولان . أحدهما : أن «على» بمعنى «مع» قاله الفراء . والثاني : أن المعنى : على لسان رجل منكم ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { قوماً عمين } قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
قوله تعالى : { وإلى عاد } المعنى : وأرسلنا إلى عاد { أخاهم هوداً } قال الزجاج : وإنما قيل : أخوهم ، لأنه بشر مثلها من ولد أبيهم آدم . ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم . وقال أبو سليمان الدمشقي : وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح؛ وإنما سماه أخاهم ، لأنه كان نسيباً لهم ، وهو وهُم من ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام .
قوله تعالى : { إنا لنراك في سفاهة } قال ابن قتيبة : السفاهة : الجهل . وقال الزجاج : السفاهة : خِفَّة الحُلم والرأي؛ يقال : ثوب سفيه : إذا كان خفيفاً . { وإنا لنظنك من الكاذبين } فكفروا به ، ظانَّين ، لا مستيقنين . { قال يا قوم ليس بي سَفاهة } هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة ، فانه دفع ما سبُّوه به من السفاهة بنفيه فقط .
قوله تعالى : { وأنا لكم ناصح أمين } قال الضحاك : أمين على الرسالة . وقال ابن السائب : كنت فيكم أميناً قبل اليوم .
قوله تعالى : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء } ذكَّرهم النعمة حيث أهلكَ من كان قبلهم ، وأسكنهم مساكنهم . { وزادكم في الخلق بسطة } أي : طولاً وقوَّة . وقال ابن عباس : كان أطولُهم مائةَ ذراع ، وأقصرُهم ستينَ ذراعاً ، قال الزجاج وآلاء الله : نعمه واحدها : إلى قال الشاعر :
أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْماً وَلاَ يَخُوْنُ إلى
ويجوز أن يكون واحدها «إلْياً» و«أَلى» .
قوله تعالى : { فائتنا بما تعدنا } أي : من نزول العذاب { إن كنت من الصادقين } في أن العذاب نازل بنا . وقال عطاء : في نبوَّتك وإرسالك إلينا .
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قوله تعالى : { قال قد وقع } أي : وجب { عليكم من ربكم رجس وغضب } قال ابن عباس : عذاب وسخط . وقال أبو عمرو بن العلاء : الرجز؛ بالزاي ، والرجس؛ بالسين : بمعنى واحد ، قلبت السين زاياً .
قوله تعالى : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } يعني : الأصنام .
وفي تسميتهم لها قولان . أحدهما : أنهم سمَّوها آلهة . والثاني : أنهم سمَّوها بأسماء مختلفة . والسلطان : الحجة . { فانتظروا } نزول العذاب { إني معكم من المنتظرين } الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إياي .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قوله تعالى : { وإلى ثمود } قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود : لقلَّة مائها . قال ابن فارس : الثَّمد : الماء القليل الذي لا مادة له .
قوله تعالى : { هذه ناقة الله } في إضافتها إليه قولان . أحدهما : أن ذلك للتخصيص والتفضيل ، كما يقال : بيت الله . والثاني : لأنها كانت بتكوينه من غير سبب .
قوله تعالى : { لكم اية } أي : علامة تدل على قدرة الله؛ وإنما قال : «لكم» لأنهم هم الذين اقترحوها ، وإن كانت آية لهم ولغيرهم .
وفي وجه كونها آية قولان .
احدهما : أنها خرجت من صخرة ملساء ، فتمخَّضت بها تمخُّضَ الحامل ، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها .
والثاني : أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم ، وتسقيهم اللبن مكانه .
قوله تعالى : { فذروها تأكل في أرض الله } قال ابن الانباري : ليس عليكم مؤنتها وعلفها . «وتأكل» مجزوم على جواب الشرط المقدر ، أي : إن تذروها تأكل .
قوله تعالى : { ولا تمسوها بسوء } أي : لا تصيبوها بعقر .
قوله تعالى : { وبوَّأكم في الأرض } أي : أنزلكم . يقال : تبوأ فلان منزلاً : إذا نزله . وبوَّأتُهُ : أنزلته . قال الشاعر :
وبُوِّئتْ في صَمْيمِ مَعْشَرِهَا ... فَتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤوهَا
أي : أنزلت من الكريم في صميم النسب؛ قاله الزجاج .
قوله تعالى : { تتخذون من سهولها قصوراً } السهل : ضد الحزن . والقصر : ما شُيِّد وعلا من المنازل . قال ابن عباس : اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف ، ونقبوا في الجبال للشتاء ، قال وهب بن منبه : كان الرجل منهم يبني البنيان ، فتمر عليه مائة سنة ، فيخرب ، ثم يجدده ، فتمر عليه مائة سنة ، فيخرب ، ثم يجدده ، فتمر عليه مائة سنة ، فيخرب ، فأضجرهم ذلك ، فأخذوا من الجبال بيوتاً .
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
قوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } وقرأ ابن عامر : { وقال الملأ } بزيادة واو؛ وكذلك هي في مصاحفهم ، ومعنى الآية : تكبَّروا عن عبادة الله ، { للذين استضعفوا } يريد : المساكين . { لمن آمن منهم } بدل من قوله «للذين استضعفوا» لأنهم المؤمنون . { أتعلمون أن صالحاً مرسل } هذا استفهام إنكار .
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
قوله تعالى : { فعقروا الناقة } أي : قتلوها . قال ابن قتيبة : والعقر يكون بمعنى : القتل ، ومنه " قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء : «من عقر جواده» " وقال ابن إسحاق : كَمَن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم ، فانتظم به عَضَلة ساقها ، ثم شد عليها بالسيف فكسر عُرقوبها ، ثم نحرها . قال الازهري : العقر عند العرب : قطع عرقوب البعير ، ثم جعل العقر نحراً ، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره .
قوله تعالى : { وعَتوا } قال الزجاج : جاوزوا المقدار في الكفر . قال أبو سليمان : عتوا عن اتِّباع أمر ربهم .
قوله تعالى : { بما تعدنا } أي : من العذاب .
قوله تعالى : { فأخذتهم الرجفة } قال الزجاج : الرجفة : الزلزلة الشديدة .
قوله تعالى : { فأصبحوا في دارهم } أي : في مدينتهم . فان قيل : كيف وحَّد الدار هاهنا ، وجمعها في موضع آخر ، فقال : { في ديارهم } [ هود : 67 ] ؟ فعنه جوابان ، ذكرهما ابن الأَنباري .
أحدهما : أنه أراد بالدار : المعسكر ، أي : فأصبحوا في معسكرهم . وأراد بقوله : في ديارهم : المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل .
والثاني : أنه أراد بالدار : الديار ، فاكتفى بالواحد من الجميع ، كقول الشاعر :
كُلُوا في نِصْفِ بِطْنِكُم تَعِيشُوا ... وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب .
قوله تعالى : { جاثمين } قال الفراء : أصبحوا رماداً جاثما . وقال أبو عبيدة : أي : بعضهم على بعض جثُوم . والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل .
وقال ابن قتيبة : الجثوم : البروك على الرُّكَب . وقال غيره : كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال . وقال الزجاج : أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم . قال المفسرون : معنى «جاثمين» : بعضهم على بعض ، أي : إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب .
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
قوله تعالى : { فتولى عنهم } يقول : انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة ، لأن الله تعالى أوحى إليه أن اخرُجْ من بين أظهرهم ، فاني مهلكهم . وقال قتادة : ذكر لنا أن صالحاً أسمع قومَه كما أسمع نبيكم قومَه ، يعني : بعد موتهم .
قوله تعالى : { أتأتون الفاحشة } يعني : إتيان الرجال . { ما سبقكم بها من أحد } قال عمرو بن دينار : ما نزا ذكَر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط . وقال بعض اللغويين : لوط : مشتق من لطت الحوض : إذا ملسته بالطين . قال الزجاج : وهذا غلط ، لأنه اسم أعجمي كاسحاق ، ولا يقال : إنه مشتق من السحق وهو البعد .
قوله تعالى : { إنكم لتأتون الرجال } هذا استفهام إنكار . والمسرف : المجاوز ما أُمر به . وقوله تعالى : { أخرجوهم من قريتكم } يعني : لوطاً وأتباعه المؤمنين { إنهم أُناس يتطهرون } قال ابن عباس : يتنزَّهون عن أدبار الرجال وأدبار النساء .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قوله تعالى : { فأنجيناه وأهله } في أهله قولان .
أحدهما : ابنتاه . والثاني : المؤمنون به . { إلا امرأته كانت من الغابرين } أي : الباقين في عذاب الله تعالى . قال أبو عبيدة : وإنما قال : «من الغابرين» لأن صفة النساء مع صفة الرجال تُذكَّر إذا أشرك بينهما .
قوله تعالى : { وأمطرنا عليهم مطراً } قال ابن عباس : يعني الحجارة . قال مجاهد : نزل جبريل ، فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ، ورفعها ، ثم قلبها ، فجعل أعلاها أسفلها ، ثم أُتبعوا بالحجارة .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
قوله تعالى : { وإلى مدين } قال قتادة : مدين : ماء كان عليه قوم شعيب ، وكذلك قال الزجاج ، وقال : لا ينصرف ، لأنه اسم البقعة . وقال مقاتل : مدْيَن : هو : ابن ابراهيم الخليل لصلبه . وقال أبو سليمان الدمشقي : مدين : هو ابن مديان بن ابراهيم ، والمعنى : أرسلنا إلى ولد مدين ، فعلى هذا هو اسم قبيلة . وقال بعضهم : هو اسم للمدينة . فالمعنى : وإلى أهل مدين . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : مدين : أسم أعجمي . فان كان عربياً ، فالياء زائدة ، من قولهم : مدن بالمكان : إذا أقام به .
قوله تعالى : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } قال الزجاج : البَخْسُ : النقص والقلَّة؛ يقال : بَخَسْتُ أبْخَسُ؛ بالسين ، وبخصت عينه ، بالصاد لا غير .
{ ولا تُفْسِدوا في الأرض } أي : لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل ، وإرسال الرسل .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } أي : مصدِّقين بما أخبرتكم عن الله .
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قوله تعالى : { ولا تقعدوا بكل صراط } أي : بكل طريق { توعِدون } مَن آمن بشعيب بالشر ، وتخوِّفونهم بالعذاب والقتل . فان قيل : كيف أفرد الفعل ، وأخلاه من المفعول؛ فهلاَّ قال : توعِدون بكذا؟ فالجواب : أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول ، لم يدل إلا على شر؛ يقولون : أوعدت فلاناً . وكذلك إذا أفردوا : وعدت من مفعول ، لم يدل إلا على الخير . قال الفراء : يقولون : وعدته خيراً ، وأوعدته شراً؛ فاذا أسقطوا الخير والشر ، قالوا : وعدته : في الخير ، وأوعدته : في الشر؛ فاذا جاؤوا بالباء ، قالوا : وعدته والشر . وقال الراجز :
أوْعَدَنِي بالسِّجْنِ والأدَاهِمِ ... قال المصنف : وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : إذا أرادوا أن يذكروا ما تهدَّدوا به مع أوعدت ، جاؤوا بالباء ، فقالوا : أوعدته بالضرب ، ولا يقولون : أوعدته الضرب . قال السدي : كانوا عشّارين . وقال ابن زيد : كانوا يقطعون الطريق .
قوله تعالى : { وتصدون عن سبيل الله } أي : تصرفون عن دين الله من آمن به . { وتبغونها عوجاً } مفسر في [ آل عمران : 99 ] .
قوله تعالى : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم } قال الزجاج : جائز أن يكون المعنى : جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء؛ وجائز أن يكون : كثّر عددَكم بعد أن كنتم قليلاً ، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار ، فكثّرهم .
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
قوله تعالى : { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به طائفة لم يؤمنوا } أي : إن أختلفتم في رسالتي ، فصرتم فريقين ، مصدِّقين ومكذِّبين { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا } بتعذيب المكذبين ، وإنجاء المصدِّقين { وهو خير الحاكمين } لأنه العدل الذي لا يجور .
قوله تعالى : { أو لتعودُنَّ في ملتنا } يعنون : ديننا ، وهو الشرك . قال الفراء : جعل في قوله : «لتعودن» لاماً كجواب اليمين ، وهو في معنى شرط ، ومثله في الكلام : والله لأضربنَّك أو تُقِرّ لي ، فيكون معناه معنى : «إلا» أو معنى : «حتى» . { قال أو لو كنا كارهين } أي : أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها؟! والألف للاستفهام . فان قيل : كيف قالوا : «لتعودن» ، وشعيب لم يكن في كفر قط ، فيعود إليه؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافراً ، ثم آمن ، خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه ، وغلَّبوا لفظهم على لفظه ، لكثرتهم ، وانفراده .
والثاني : أن المعنى : لتصيرُنّ إلى ملتنا؛ فوقع العَود على معنى الابتداء ، كما يقال : قد عاد عليَّ من فلان مكروه ، أي : قد لحقني منه ذلك؛ وإن لم يكن سبق منه مكروه . قال الشاعر :
فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مَرةً ... إليَّ فقد عَادَتْ لَهُنُّ ذُنوْبُ
وقد شرحنا هذا في قوله : { وإلى الله تُرجع الأمور } في سورة [ البقرة : 210 ] ، وقد ذكر معنى الجوابين الزجاج ، وابن الأنباري .
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
قوله تعالى : { قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم } وذلك أن القوم كانوا يدّعون أن الله أمرهم بما هم عليه ، فلذلك سمَّوه مِلَّةً . { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي : في الملة ، { إلا أن يشاء الله } أي : إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها ، { وسع ربُّنا كل شيء علماً } قال ابن عباس : يعلم ما يكون قبل أن يكون .
قوله تعالى : { على الله توكلنا } أي : فيما توعدتمونا به ، وفي حراستنا عن الضلال . { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } قال أبو عبيدة : احكم بيننا ، وأنشد :
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُوْلاً ... بأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
قال الفراء : وأهل عُمان يسمون القاضي : الفاتح والفتَّاح . قال الزجاج : وجائز أن يكون المعنى : أظهِر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف ، فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم .
قوله تعالى : { كأن لم يَغْنَواْ فيها } فيه أربعة أقوال .
أحدها : كأن لم يعيشوا في دارهم ، قاله ابن عباس ، والأخفش . قال حاتم طيىء :
غَنِيْنَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى ... فَكُلاًّ سَقَانَاه بكأْسَيْهِما الدَّهْرُ
فَمَا زَادَنَا بَغْيَاً عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنَانَا ، ولا أزْرَى بأحْسَابِنَا الفَقْرُ
قال الزجاج : معنى غنينا : عشنا . والتصعلك : الفقر ، والعرب تقول للفقير : الصعلوك .
والثاني : كأن لم يتنعَّموا فيها ، قاله قتادة .
والثالث : كأن لم يكونوا فيها ، قاله ابن زيد ، ومقاتل .
والرابع : كأن لم ينزلوا فيها ، قاله الزجاج . قال الأصمعي المغاني : المنازل؛ يقال : غنينا بمكان كذا ، أي : نزلنا به . وقال ابن قتيبة : كأن لم يقيموا فيها ، ومعنى : غنينا بمكان كذا : أقمنا . قال ابن الأنباري : وإنما كرر قوله : { الذين كذبوا شعيباً } للمبالغة في ذمهم؛ كما تقول أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي شتم أعراضنا .
قوله تعالى : { فتولى عنهم } فيه قولان .
أحدهما : أعرض . والثاني : انصرف . { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } قال قتادة : أسمع شعيب قومَه ، وأسمع صالح قومَه ، كما أسمع نبيكم قومَه يوم بدر؛ يعني : أنه خاطبهم بعد الهلاك . { فكيف آسى } أي : أحزن . وقال ابن اسحاق : أصاب شعيباً على قومه حزنٌ شديد ، ثم عاتب نفسه ، فقال : كيف آسى على قوم كافرين .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية } قال الزجاج : يقال لكل مدينة : قرية ، لاجتماع الناس فيها . وقال غيره : في الآية اختصار تقديره : فكذبوه . { إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } وقد سبق تفسير البأساء والضراء في [ الأنعام : 42 ] ، وتفسير التضرع في هذه السورة [ الأعراف : 55 ] . ومقصود الآية : إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بسنَّةِ الله في المكذِّبين ، وتهديد قريش .
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
قوله تعالى : { ثم بَدَّلنا مكان السيئةِ الحسنة } فيه قولان .
أحدهما : أن السيئة : الشدة؛ والحسنة : الرخاء ، قاله ابن عباس .
والثاني : السيئة : الشر؛ والحسنة : الخير ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { حتى عَفوا } قال ابن عباس : كثروا ، وكثرت أموالهم . { وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء } فنحن مثلهم ، يصيبنا ما أصابهم ، يعني : أنهم أرادوا أن هذا دأب الدهر ، وليس بعقوبة . { فأخذناهم بغتة } أي : فجأة بنزول العذاب { وهم لايشعرون } بنزوله ، حتى أهلكهم الله .
قوله تعالى : { لفتحنا عليهم بَرَكاتٍ من السماء والأرض } قال الزجاج : المعنى : أتاهم الغيث من السماء ، والنبات من الأرض ، وجعل ذلك زاكياً كثيراً .
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
قوله تعالى : { أو أمن أهل القرى } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ونافع : «أو أمن أهلُ» باسكان الواو . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «أوَ أمن» بتحريك الواو . وروى ورش عن نافع : «أوَامِنَ» يدغم الهمزة ، ويلقي حركتها على الساكن .
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
قوله تعالى : { أو لم يهد للذين } وقرأ يعقوب «نَهِد» بالنون ، وكذلك في [ طه : 128 ] و [ السجدة : 26 ] . قال الزجاج : من قرأ بالياء ، فالمعنى : أو لم يبيِّن الله لهم . ومن قرأ بالنون ، فالمعنى : أو لم نبيِّن . وقوله تعالى : { ونطبع } ليس بمحمول على «أصبناهم» ، لأنه لو حمل على «أصبناهم» لكان : ولطبعنا . وإنما المعنى : ونحن نطبع على قلوبهم . ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي ، ولفظه لفظ المستقبل ، كما قال : { ان لو نشاء } ، والمعنى : لو شئنا . وقال ابن الانباري : يجوز أن يكون معطوفاً على : أصبنا ، إذ كان بمعنى نُصيب؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال ، كما قال : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } [ الفرقان : 10 ] أي : إن يشأ ، يدل عليه قوله : { ويجعل لك قصوراً } ، قال الشاعر :
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي ، وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
أي : يدفنوا .
قوله تعالى : { فهم لا يسمعون } أي : لا يقبلون ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، قال الشاعر :
دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ ... يَكُوْنَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُوْل
قوله تعالى : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } فيه خمسة أقوال .
أحدها : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذِّبون به يوم أقروا به بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم ، هذا قول أُبيِّ بن كعب .
والثاني : فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذِّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم ، فآمنوا كرهاً حيث أقروا بالألسن ، وأضمروا التكذيب ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثالث : فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذَّبوا به من قبل هلاكهم ، هذا قول مجاهد .
والرابع : فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل شاركوهم في التكذيب ، قاله يمان بن رباب .
والخامس : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذَّبوا قبل رؤيتها .
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قوله تعالى : { وما وجدنا لأكثرهم } قال مجاهد : يعني : القرون الماضية . { من عهد } قال أبو عبيدة : أي : وفاء . قال ابن عباس : يريد : الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم . وقال الحسن : العهد هاهنا : ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئاً .
قوله تعالى : { وإن وجدنا } قال أبو عبيدة : وما وجدنا أكثرهم إلا الفاسقين .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
قوله تعالى : { ثم بعثنا من بعدهم } يعني : الأنبياء المذكورين .
قوله تعالى : { فظلموا بها } قال ابن عباس : فكذَّبوا بها . وقال غيره : فجحدوا بها .
قوله تعالى : { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } «على» بمعنى الباء قال الفراء : العرب تجعل الباء في موضع «على»؛ تقول : رميت بالقوس ، وعلى القوس ، وجئت بحال حسنة ، وعلى حال حسنة . وقال أبو عبيدة : «حقيق» بمعنى : حريص . وقرأ نافع ، وأبان عن عاصم : «حقيق عليَّ» بتشديد الياء وفتحها ، على الاضافة . والمعنى : واجب عليَّ .
قوله تعالى : { قد جئتكم ببينة } قال ابن عباس : يعني : العصا . { فأرسل معي بني إسرائيل } أي : أطلق عنهم؛ وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة . { فاذا هي ثعبان مبين } قال أبو عبيدة : أي : حية ظاهرة . قال الفراء : الثعبان أعظم الحيات ، وهو الذكر . وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس : الثعبان : الحية الذكر .
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
قوله تعالى : { ونزع يده } قال ابن عباس : أدخل يده في جيبه ، ثم أخرجها ، فاذا هي تبرق مثل البرق ، لها شعاع غلب نور الشمس ، فخرَّوا على وجوههم؛ ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت . قال مجاهد : بيضاء من غير برص .
قوله تعالى : { فماذا تأمرون } قال ابن عباس : ما الذي تشيرون به عليَّ؟ وهذا يدل على أنه من قول فرعون ، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله : { من أرضكم } . قال الزجاج : يجوز أن يكون من قول الملأِ ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه ، أو خاطبوه وحده ، لأنه قد يقال للرئيس المطاع : ماذا ترون؟ .
قوله تعالى : { أرْجِئْهُ } قرأ ابن كثير «أرجهؤ» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ . وقرأ أبو عمرو مثله ، غير أنه يضم الهاء ضمة ، من غير أن يبلغ بها الواو؛ وكانا يهمزان { مُرجَؤن } [ التوبة : 106 ] و { ترجىء } [ الأحزاب : 51 ] .
وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجهِ» بكسر الهاء ، ولا يبلغ بها الياء ، ولا يهمز . وروى عنه ورش : «أرجهي» يصلها بياء ، ولا يهمز بين الجيم والهاء . وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع؛ وهي قراءة الكسائي . وقرأ حمزة : «أرجهْ» ساكنة الهاء غير مهموز ، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضل ، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز ، وهي قراءة أبي جعفر ، وكذلك اختلافهم في سورة [ الشعراء : 36 ] . قال ابن قتيبة : أرِّجْهُ : أخّره؛ وقد يهمز ، يقال : أرجأت الشيء ، وأرجيته . ومنه قوله : { ترجي من تشاء منهن } [ الأحزاب : 51 ] . قال الفراء : بنو أسد تقول : أرجيت الأمر ، بغير همز ، وكذلك عامة قيس؛ وبعض بني تميم يقولون : أرجأت الأمر ، بالهمز ، والقراء مولَعون بهمزها ، وترك الهمز أجود .
قوله تعالى : { وأرسل في المدائن } يعني : مدائن مصر ، { حاشرين } أي : من يحشر السحرة إليك ويجمعهم . وقال ابن عباس : هم الشرط .
قوله تعالى : { يأتوك بكل ساحر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابو عمرو ، وعاصم وابن عامر : { ساحرٍ } ، وفي [ يونس : 97 ] { بكل ساحرٍ } ؛ وقرأ حمزة ، والكسائي : «سحّارٍ» في الموضعين؛ ولا خلاف في [ الشعراء : 37 ] { سحّارٍ } قوله تعالى : { إن لنا لأجراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص عن عاصم : { إن لنا لأجراً } مكسورة الألف على الخبر ، وفي [ الشعراء : 41 ] { آينَّ } ممدودة مفتوحة الألف ، غير أن حفصا روى عن عاصم في [ الشعراء : 41 ] { أإن } بهمزتين . وقرأ أبو عمرو : { آين لنا } ممدودة في السورتين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : بهمزتين في الموضعين . قال أبو علي : الاستفهام أشبه بهذا الموضع ، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر ، وإنما استفهموا عنه .
قوله تعالى : { وإنكم لمن المقربين } أي : ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي .
قوله تعالى : { سحروا أعين الناس } قال أبو عبيدة : عَشَّوْا أعين الناس وأخذوها . { واسترهبوهم } أي : خوَّفوهم .
وقال الزجاج : استَدعَوا رهبتهم حتى رهبهم الناس .
قوله تعالى : { فاذا هي تلقَّفُ } وقرأ عاصم : { تلقف } ساكنة اللام خفيفة القاف هاهنا وفي [ طه : 69 ] ، و [ الشعراء : 45 ] . وروى البزّيّ ، وابن فُلَيح عن ابن كثير : { تلقف } بتشديد التاء قال الفراء : يقال : لقفْتُ الشيء ، فأنا ألقَفُه لَقفْاً ولَقَفاناً؛ والمعنى : تبتلع .
قوله تعالى : { ما يأفكون } أي : يكذبون ، لأنهم زعموا أنها حيّات .
قوله تعالى : { فوقع الحق } قال ابن عباس : استبان . { وبطل ما كانوا يعملون } من السحر .
الإشارة إلى قصتهم
اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً .
أحدها : اثنان وسبعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : اثنان وسبعون ألفاً ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال مقاتل .
والثالث : سبعون ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والرابع : اثنا عشر ألفا ، قاله كعب .
والخامس : سبعون ألفاً ، قاله عطاء ، وكذلك قال وهب في رواية ، ألا أنه قال : فاختار منهم سبعة آلاف .
والسادس : سبعمائة ، وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال : كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيَّرين من سبعمائة ألف ، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة .
والسابع : خمسة وعشرون ألفاً ، قاله الحسن .
والثامن : تسعمائة ، قاله عكرمة .
والتاسع : ثمانون ألفاً ، قاله محمد بن المنكدر .
والعاشر : بضعة وثلاثون ألفاً ، قاله السدي .
والحادي عشر : خمسة عشر ألفاً ، قاله ابن اسحاق .
والثاني عشر : تسعة عشر ألفاً ، رواه أبو سليمان الدمشقي .
والثالث عشر : أربع مائة ، حكاه الثعلبي . فأما أسماء رؤسائهم ، فقال ابن اسحاق : رؤوس السحرة ساتور ، وعاذور ، وحُطحُط ، ومُصَفَّى ، وهم الذين آمنوا ، كذا حكاه ابن ماكولا . ورأيت عن غير ابن اسحاق : سابوراً ، وعازوراً . وقال مقاتل : اسم أكبرهم شمعون . قال ابن عباس : ألقوا حبالاً غلاظاً ، وخشباً طُوالا ، فكانت ميلاً في ميل ، فألقى موسى عصاه ، فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم ، قد سدت الأفق ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً ، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيِّهم ، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة ، والناس ينظرون ، وفرعون يضحك تجلُّداً ، فأقبلت الحيَّة نحو فرعون ، فصاح : يا موسى ، يا موسى ، فأخذها موسى ، وعرفت السحرة أن هذا من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخرُّوا سُجَّداً ، وقالوا : آمنا برب العالمين ، فقال فرعون : إياي تعنون ، فقالوا : ربَّ موسى وهارون ، فأصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء . وقال وهب بن منبه : لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها ، فقتل بعضهم بعضاً ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً . وقال السدي : لقي موسى أمير السحرة ، فقال : أرأيت إن غلبتك غدا ، أتؤمن بي؟ فقال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه السحر ، فوالله لئن غلبتني لأومننَّ بك . فان قيل : كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء ، وفعل السحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن مضمون أمره : إن كنتم محقين فألقوا . والثاني : ألقوا على ما يصح ، لا على ما يفسد ويستحيل ، ذكرهما الماوردي . والثالث : إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر ، لأنهم إذا ألقوا ، ألقى عصاه فابتلعت ذلك ، ذكره الواحدي . فان قيل : كيف قال : { وأُلقي السحرة ساجدين } وإنما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب : أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره ، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود ، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحاً وتعظيماً لشأن ما رأوا من الآيات ، ذكره ابن الأنباري . قال ابن عباس : لما آمنت السحرة ، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل .
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
قوله تعالى : { آمنتم به } قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : «ءآمنتم به» بهمزة ومدة على الاستفهام . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين ، الثانية ممدودة . وقرأ حفص عن عاصم : «آمنتم به» على الخبر . وروى ابن الإخريط عن ابن كثير : «قال فرعون وأمنتم به» فقلب همزة الاستفهام واواً ، وجعل الثانية مليَّنة بين بين . وروى قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط ، غير أنه كان يهمز بعد الواو . وقال أبو علي : همز بعد الواو لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام ، وبعد همزة الاستفهام همزة { أفَعَلْتُم } فحققها ولم يخففها .
قوله تعالى : { إن هذا لمكر مكرتموه } قال ابن السائب : لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها { فسوف تعلمون } عاقبة ما صنعتم ، { لأقطعنَّ أيديَكم أرجلَكم من خلاف } وهو قطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى . قال ابن عباس : أول من فعل ذلك ، وأول من صلب ، فرعونُ .
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قوله تعالى : { وما تنقم منا } أي : وما تكره منا شيئاً ، ولا تعطن علينا إلا لأنا آمنا . { ربنا أفرغ علينا صبراً } قال مجاهد : على القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً { وتوفَّنا مسلمين } أي : مخلصين : على دين موسى .
قوله تعالى : { وأنذر موسى وقومه } هذا إِغراء من الملأِ لفرعون . وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان . أحدهما : قتل أبناء القبط ، واستحياء نسائهم ، كما فعلوا ببني اسرائيل ، قاله مقاتل . والثاني : دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته .
قوله تعالى : { ويذرَك } جمهور القراء على نصب الراء؛ وقرأ الحسن برفعها . قال الزجاج : من نصب «ويذرَك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو؛ والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفاً ، فيكون المعنى : أتذر موسى وقومه ، وهو يذرك وآلهتك؟ والأجود أن يكون معطوفاً على «أتذر» فيكون المعنى : أتذر موسى ، وأيَذَرَك موسى؟ أي أتطلق له هذا؟ .
قوله تعالى : { وآلهتك } قال ابن عباس : كان فرعون قد صنع لقومه أصناماً صغاراً ، وأمرهم بعبادتها ، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام ، فذلك قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] . وقال غيره : كان قومه يعبدون تلك الأصنام تقرباً إليه . وقال الحسن : كان يعبد تيساً في السر . وقيل : كان يعبد البقر سراً . وقيل : كان يجعل في عنقه شيئا يعبده . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن محيصن : «والإِهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها . قال الزجاج : المعنى : ويذرك وربوبيتك . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : الإِلاهة : العبادة؛ فالمعنى : ويذرك وعبادة الناس إياك ، قال ابن قتيبة : من قرأ : { وإِلاهتك } أراد ويذرك والشمس التي تعبد ، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهةً . قال الأعشى :
فَمَا أَذْكُرُ الرَّهْبَ حتَّى انْقَلَبْتُ ... قُبيْلَ الإلهَةِ مِنْها قَرِيْبا
يعني : الشمس . والرهب : ناقته . يقول : اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت .
قوله تعالى : { سَنُقَتِّلُ أبناءَهم } قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { سنقتّل } و { يقتّلون ابناءكم } [ الأعراف : 141 ] بالتشديد ، وخففهما نافع . وقرأ ابن كثير : { سَنَقْتُلُ } خفيفة ، { ويقتِّلون } مشددة ، وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه . { وإنا فوقهم قاهرون } أي : عالون بالملك والسلطان . فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم ، فقال موسى : { استعينوا بالله واصبروا } على ما يُفعل بكم { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } . وقرأ الحسن ، وهبيرة عن حفص عن عاصم : «يورِّثها» بالتشديد . فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم .
قوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } فيها قولان . أحدهما : الجنة . والثاني : النصر والظفر .
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
قوله تعالى : { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } في هذا الأذى ستة أقوال .
أحدها : أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية ، قاله الحسن .
والثاني : أن الأول : ذبح الأبناء ، والثاني : إدراك فرعون يوم طلبهم ، قاله السدي .
والثالث : أن الأول أنهم كانوا يسخَّرون في الأعمال إلى نصف النهار ، ويرسَلون في بقيته يكتسبون ، والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب ، قاله جويبر .
والرابع : أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبِن ، وكانوا يعطونهم التبن الذي يخلطونه في الطين؛ والثاني : أنهم كلِّفوا ضرب اللَّبِن وجعلَ التبن عليهم ، قاله ابن السائب .
والخامس : أن الأول : قتل الأبناء واستحياء البنات ، والثاني : تكليف فرعون إياهم مالا يطيقونه ، قاله مقاتل .
والسادس : أن الأول : استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ، والثاني : إعادة ذلك العذاب .
وفي قوله : { من قبل أن تأتينا } قولان .
أحدهما : تأتينا بالرسالة ، ومن بعد ما جئنا بها ، قاله ابن عباس .
والثاني : تأتينا بعهد الله أنه سيخلِّصنا ، ومن بعد ما جئتنا به ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } قال الزجاج : عسى : طمع وإشفاق ، إلا أن ما يُطمِع الله فيه فهو واجب .
قوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض } في هذا الاستخلاف قولان .
أحدهما : أنه استخلاف من فرعون وقومه . والثاني : استخلاف عن الله تعالى ، لأن المؤمنين خلفاء الله في أرضه . وفي الأرض قولان .
أحدهما : أرض مصر ، قاله ابن عباس . والثاني : أرض الشام ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { فينظر كيف تعملون } قال الزجاج : أي : يراه بوقوعه منكم ، لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم ، لا على ما علم أنه سيقع .
قوله تعالى : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } قال أبو عبيدة : مجازُه : ابتليناهم بالجدوب . وآل فرعون : أهل دينه وقومه . وقال مقاتل : هم أهل مصر . قال الفراء : «بالسنين» أي : بالقحط والجدوب عاماً بعد عام . وقال الزجاج : السنون في كلام العرب : الجدوب ، يقال : مستهم السَّنة ، ومعناه : جدب السَّنة ، وشدة السَّنة . وإنما أخذهم بالضراء ، لأن أحوال الشدة ، تُرِقُ القلوب ، وتُرغِّب فيما عند الله وفي الرجوع اليه ، قال قتادة : أما السنون ، فكانت في بواديهم ومواشيهم ، وأما نقص الثمرات ، فكان في أمصارهم وقراهم . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يبس لهم كل شيء ، وذهبت مواشيهم ، حتى يبس نيل مصر ، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له : إن كنت رباً كما تزعم فاملأ لنا نيل مصر ، فقال : غُدْوة يصبِّحكم الماء ، فلما خرجوا من عنده ، قال : أيَّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح ، فيكذِّبوني؟! فلما كان جوف الليل ، اغتسل ، ثم لبس مِدرعة من صوف ، ثم خرج حافياً حتى اتى بطن نيل مصر فقام في بطنه ، فقال : اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء ، فاملأه ، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة . قلت : وهذا الحديث بعيد الصحة ، لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إِلهاً ، ولو صح ، كان إقراره بذلك كاقرار ابليس ، وتبقى مخالفته عناداً .
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
قوله تعالى : { فاذا جاءتهم الحسنة } وهي : الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة { قالوا لنا هذه } أي : نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق ، ولم يعلموا أنه من الله فيشكُروا عليه . { وإن تصبهم سيئة } وهي القحط والجدب والبلاء { يطَّيروا بموسى ومن معه } أي : يتشاءموا بهم . وكانت العرب تزجر الطير ، فتتشاءم بالبارح ، وهو الذي يأتي من جهة الشمال ، وتتبرك بالسانح ، وهو الذي يأتي من جهة اليمين .
قوله تعالى : { ألا إنما طائرهم عند الله } قال أبو عبيدة : «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز . { طائرهم } حظهم ونصيبهم وقال ابن عباس : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي : إن الذي أصابهم من الله . وقال الزجاج : المعنى : ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وُعدوا به في الآخرة ، لا ما ينالهم في الدنيا .
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
قوله تعالى : { وقالوا مهما } قال الزجاج : زعم النحويون أن أصل { مهما } ماما ، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ، ف «ما» الأولى هي : «ما» الجزاء ، و«ما» الثانية ، هي : التي تزاد تأكيداً للجزاء ، ودليل النحويين على ذلك : أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا و«ما» تزاد ، فيه قال الله تعالى : { فاما تثقفنهم } [ الأنفال : 57 ] كقولك : إن تثقفنهم ، وقال : { وإما تعرضنَّ عنهم } [ الاسراء : 28 ] وتكون «ما» الثانية للشرط والجزاء ، والتفسير الأول : هو الكلام ، وعليه استعمال الناس . قال ابن الأنباري : فعلى قول من قال : إن معنى «مه» الكف ، يحسن الوقف على «مه» ، والاختيار أن لا يوقف عليها دون «ما» لأنها في المصحف حرف واحد . وفي الطوفان ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الماء . قال ابن عباس : أُرسل عليهم مطر دائم الليلَ والنهارَ ثمانية أيام ، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو مالك ، ومقاتل ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه الموت ، روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، ووهب بن منبه ، وابن كثير .
والثالث : أنه الطاعون ، نقل عن مجاهد ، ووهب أيضاً . وفي القمَّل سبعة أقوال .
أحدها : أنه السوس الذي يقع في الحنطة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال به .
والثاني : أنه الدَّبى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء . وقال قتادة : القمَّل : أولاد الجراد . وقال ابن فارس : الدَّبى : الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته .
والثالث : أنه دواب سود صغار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير . وقيل : هذه الدواب : هي السوس .
والرابع : أنه الجعلان ، قاله حبيب بن أبي ثابت .
والخامس : أنه القمل ، ذكره عطاء الخراساني ، وزيد بن أسلم .
والسادس : أنه البراغيث ، حكاه ابن زيد .
والسابع : أنه الحَمنان ، واحدتها : حَمنانة ، وهي ضرب من القِردان ، قاله أبو عبيدة . وقرأ الحسن ، وعكرمة ، وابن يعمر : «القُمْل» برفع القاف وسكون الميم .
وفي الدم قولان . أحدهما : أن ماءهم صار دماً ، قاله الجمهور . والثاني : أنه رعاف أصابهم ، قاله زيد بن اسلم .
الإِشارة إلى شرح القصة
قال ابن عباس : جاءهم الطوفان ، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته ، حتى خافوا الغرق ، فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا ، ونؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم ، فكشفه الله عنهم ، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض ، فقالوا : ادع لنا ربك ، فدعا ، فكشف الله عنهم ، فأحرزوا زروعهم في البيوت ، فأرسل الله عليهم القُمَّل ، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى ، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة ، فسألوه ، فدعا لهم ، فكُشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، ولم يكن شيء أشد منها ، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور ، فتلقي أنفسها فيها ، فتفسد طعامهم وتطفىء نيرانهم ، وكانت الضفادع برِّية ، فأورثها الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة ، فسألوه ، فدعا لهم ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فجرت أنهارهم وقُلُبهم دماً ، فلم يقدروا على الماء العذب ، وبنو إسرائيل في الماء العذب ، فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دماً ، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذبٌ لا يقدر عليه ، فقال فرعون : أقسم بالهي يا موسى لئن كشفتَ عنا الرجز لنؤمننَّ لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ، فذهب الدم ، وَعَذُبَ ماؤهم ، فقالوا : والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل .
قوله تعالى : { آيات مفصَّلات } قال ابن قتيبة : بين الآية والآية فصل . قال المفسرون : كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت ، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية ، ثم تأتي الآية الأخرى . قال وهب بن منبه : بين كل آيتين أربعون يوماً . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات ، الجراد والقمّل والضفادع والدم .
وفي قوله : { فاستكبروا } قولان . أحدهما : عن الإيمان . والثاني : عن الانزجار .
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
قوله تعالى : { ولما وقع عليهم الرجز } أي : نزل بهم العذاب . وفي هذا العذاب قولان .
أحدهما : أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أنه العذاب الذي سلَّطه الله عليهم من الجراد والقُمَّل وغير ذلك ، قاله ابن زيد . قال الزجاج : «الرجز» : العذاب ، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب . ومعنى الرجز في العذاب : أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة . وأصل الرجز في اللغة : تتابع الحركات ، فمن ذلك قولهم : ناقة رجزاء ، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها . ومنه رجز الشعر ، لأنه أقصر أبيات الشعر ، والانتقالُ من بيت إلى بيت ، سريعٌ ، نحو قوله :
يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وَأضَعْ
وزعم الخليل أن الرَّجَز ليس بشعر ، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث .
قوله تعالى : { بما عهد عندك } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن معناه : بما أوصاك أن تدعوه به . والثاني : بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك . والثالث : بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن . والرابع : أن ذلك منهم على معنى القسم ، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم .
قوله تعالى : { إلى أجل هم بالغوه } أي : إلى وقت غرقهم . { إذا هم ينكثون } أي : ينقضون العهد .
قوله تعالى : { فانتقمنا منهم } قال أبو سليمان الدمشقي : انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم ، وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم . قال ابن قتيبة : اليم : البحر بالسريانية .
قوله تعالى : { وكانوا عنها غافلين } فيه قولان .
أحدهما : عن الآيات ، وغفلتهم : تركهم الاعتبار بها . والثاني : عن النقمة .
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قوله تعالى : { وأورثنا القوم } يعني بني إسرائيل . { الذين كانوا يُستَضعفون } أي : يُستَذلون بذبح الأبناء ، واستخدام النساء ، وتسخير الرجال . { مشارق الأرض ومغاربها } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : مشارق الشام ومغاربها ، قاله الحسن .
والثاني : مشارق أرض الشام ومصر .
والثالث : أنه على إطلاقه في شرق الأرض وغربها .
قوله تعالى : { التي باركنا فيها } قال ابن عباس : بالماء والشجر .
قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك الحسنى } وهي وعد الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم ، واستخلافهم في الأرض ، وذلك في قوله : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } [ القصص : 5 ] وقد بَيَّنا علة تسمية ذلك كلِّه في [ آل عمران : 146 ] .
قوله تعالى : { بما صبروا } فيه قولان .
أحدهما : على طاعة الله تعالى . والثاني : على أذى فرعون .
قوله تعالى : { ودمَّرنا } أي : أهلكنا { ما كان يصنع فرعون وقومه } من العمارات والمزارع ، والدمار : الهلاك . { وما كانوا يعرشون } أي : يبنون . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { يعرِشون } بكسر الراء هاهنا وفي [ النحل : 68 ] . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بضم الراء فيهما . وقرأ ابن أبي عبلة : «يُعرِّشون» بالتشديد . قال الزجاج : يقال : عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ : إذا بنى .
قوله تعالى : { يعكفون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب : «يَعْكُفُون» بضم الكاف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل : بكسر الكاف وقرأ ابن أبي عبلة : بضم الياء وتشديد الكاف . قال الزجاج : ومعنى { يعكفون على اصنام لهم } : يواظبون عليها ويلازمونها ، يقال : لكل من لزم شيئاً وواظب عليه : عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ . قال قتادة : كان أولئك القوم نزولاً بالرقة ، وكانوا من لخم . وقال غيره : كانت أصنامهم تماثيل البقر . وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعدما رأوا الآيات .
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
قوله تعالى : { إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه } قال ابن قتيبة : مُهلَك . والتبار : الهلاك .
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
قوله تعالى : { قال أغير الله أبغيكم إلهاً } أي : أطلب لكم ، وهذا استفهام إنكار . قال المفسرون ، منهم ابن عباس ، ومجاهد : العالَمون هاهنا : عالَمو زمانهم .
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قوله تعالى : { وإذ أنجيناكم } قرأ ابن عامر : «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد .
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } المعنى : وعدناه انقضاء الثلاثين ليلة . قال ابن عباس : قال موسى لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة ، فلما فصل إلى ربه زاده عشراً ، فكانت فتنتهم في ذلك العشر . فان قيل : لم زيد هذا العشر؟ فالجواب : أن ابن عباس قال : صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن ، فلما انسلخ الشهر ، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم ، فتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه ، فأوحى الله تعالى إليه : لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه ، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام . وقال أبو العالية : مكث موسى على الطور أربعين ليلة . فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه .
فان قيل : ما معنى { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين؟! .
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه للتأكيد . والثاني : ليدل أن العشر ، ليالٍ ، لا ساعات . والثالث : لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين ، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأُتمت بعشر وقد بينا في سورة [ البقرة : 51 ] لماذا كان هذا الوعد .
قوله تعالى : { وأصلحْ } قال ابن عباس : مُرهُم بالإصلاح . وقال مقاتل : ارفق .
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
قوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا } قال الزجاج : أي : للوقت الذي وقَّتنا له . { وكلَّمه ربُّه } أسمعه كلامه ، ولم يكن فيما بينه وبين الله عز وجل فيما سمع أحد . { قال رب أرني أنظر إليك } أي : أرني نفسك .
قوله تعالى : { قال لن تراني } تعلق بهذا نُفاة الرؤية وقالوا : «لن» لنفي الأبد ، وذلك غلط ، لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله : { ولن يتمنَّوه أبداً بما قدمت أيديهم } [ البقرة : 95 ] ثم أخبر عنهم بتمنِّيه في النار بقوله : { يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] ولأن ابن عباس قال في تفسيرها : لن تراني في الدنيا . وقال غيره : هذا جواب لقول موسى : «أرني» ولم يُرد : أرني في الآخرة ، وإنما أراد في الدنيا ، فأُجيب عما سأل . وقال بعضهم : لن تراني بسؤالك . وفي هذه الآية دلالة على جواز الرؤية ، لأن موسى مع علمه بالله تعالى ، سألها ، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها ، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك ، لأن معرفة الأنبياء بالله ليس فيها نقص ، ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية ، ولو استحالت عليه لقال : «لا أُرى» ، ألا ترى أن نوحا لما قال : { إن ابني من أهلي } [ هود : 45 ] أنكر عليه بقوله : { إِنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] . ومما يدل على جواز الرؤية أنه علَّقها باستقرار الجبل ، وذلك جائز غير مستحيل ، فدل على أنها جائزة ، ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علَّقه بمستحيل فقال : { حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط } [ الأعراف : 40 ] .
قوله تعالى : { فان استقر مكانه } أي : ثبت ولم يتضعضع .
قوله تعالى : { فلما تجلَّى ربُّه } قال الزجاج : ظهر ، وبان . { جعله دَكّاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «دكاً» منونة مقصورة هاهنا وفي [ الكهف : 98 ] . وقرأ عاصم : «دكّاً» ها هنا منوَّنة مقصورة ، وفي [ الكهف : 98 ] : «دكاء» ممدودة غير منونة . وقرأ حمزة ، والكسائي : «دكاء» ممدودة غير منونة في الموضعين . قال أبو عبيدة : { جعله دكّاً } أي : مندكّاً ، والدَّك : المستوي؛ والمعنى : مستوياً مع وجه الأرض ، يقال : ناقة دكَّاء ، أي : ذاهبة السنام مستوٍ ظهرها . قال ابن قتيبة : كأن سنامها دُكَّ ، أي : التصق ، قال : ويقال : إن أصل دككتُ : دققت ، فأبدلت القاف كافاً لتقارب المخرجين . وقال أنس بن مالك في قوله : «جعله دكاً» : ساخ الجبل . قال ابن عباس : واسم الجبل : زبير ، وهو أعظم جبل بمدين ، وإن الجبال تطاولت ليتجلَّى لها ، وتواضع زبير فتجلى له .
قوله تعالى : { وخرَّ موسى صعقاً } فيه قولان .
أحدهما : مغشياً عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد .
والثاني : ميتاً ، قاله قتادة ، ومقاتل . والأول أصح ، لقوله : { فلما أفاق } وذلك لا يقال للميت . وقيل : بقي في غشيته يوماً وليلة .
قوله تعالى : { سبحانك تبت إليك } فيما تاب منه ثلاثة أقوال .
أحدها : سؤاله الرؤية ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها . والثالث : اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا .
وفي قوله : { وأنا أول المؤمنين } قولان . أحدهما : أنك لن تُرى في الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أول المؤمنين من بني إسرائيل ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
قوله تعالى : { إني اصطفيتك } فتح ياء «إني» ابن كثير ، وأبو عمرو . وقرأ ابن كثير ، ونافع : «برسالتي» . قال الزجاج : المعنى : اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي ، ولو كان إنما سمع كلام غير الله لما قال : «برسالاتي وبكلامي» لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } في ماهية الألواح سبعة أقوال .
أحدها : أنها زبرجد ، قاله ابن عباس .
والثاني : ياقوت ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : زمرُّد أخضر ، قاله مجاهد .
والرابع : بَرَد ، قاله أبو العالية .
والخامس : خشب ، قاله الحسن .
والسادس : صخر ، قاله وهب بن منبه .
والسابع : زمرد وياقوت ، قاله مقاتل .
وفي عددها أربعة أقوال .
أحدها : سبعة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : لوحان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء . قال : وإنما سماها الله تعالى ألواحاً ، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية ، كقوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } [ الأنبياء : 78 ] يريد : داود وسليمان ، وقوله : { فقد صغت قلوبُكما } [ التحريم : 4 ] .
والثالث : عشرة ، قاله وهب .
والرابع : تسعة ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { من كل شيء } قولان . أحدهما : من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره . والثاني : من الحِكَم والعِبَر .
قوله تعالى : { موعظة } أي : نهياً عن الجهل . { وتفصيلاً } أي : تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام .
قوله تعالى : { فخذها بقوة } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : بجدٍّ وحزم ، قاله ابن عباس .
والثاني : بطاعة ، قاله أبو العالية .
والثالث : بشكر ، قاله جويبر .
قوله تعالى : { وأمْر قومك يأخذوا بأحسنها } إن قيل : كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن المعنى : يأخذوا بحسنها ، وكلها حَسَن ، قاله قطرب . وقال ابن الأنباري : ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق :
إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بنى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
أي : عزيزة طويلة . وقال غيره : «الأحسن» هاهنا صلة ، والمعنى : يأخذوا بها .
والثاني : أن بعض ما فيها أحسن من بعض . ثم في ذلك خمسة أقوال .
أحدها : أنهم أُمروا فيها بالخير ونُهوا عن الشر ، فَفِعْلُ الخير هو الأحسن .
والثاني : أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض ، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، فأُمِروا أن يأخذوا بالأحسن ، ذكر القولين الزجاج . فعلى هذا القول ، يكون المعنى : انهم يتبعون العزائم والفضائل ، وعلى الذي قبله ، يكون المعنى : أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو الطاعة ، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية .
والثالث : أحسنها : الفرائض والنوافل ، وأدونها في الحسن : المباح .
والرابع : أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة ، فتصرف إلى الاشبه بالحق .
والخامس : أن أحسنها : الجمع بين الفرائض والنوافل .
قوله تعالى : { سأُرِيكم دار الفاسقين } فيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها جهنم ، قاله الحسن ، ومجاهد . والثاني : انها دار فرعون وقومه ، وهي مصر ، قاله عطية العوفي . والثالث : أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة ، يريهم إياها عند دخولهم الشام ، قاله قتادة . والرابع : أنها مصارع الفاسقين ، قاله السدي . ومعنى الكلام : سأُرِيكم عاقبة من خالف أمري ، وهذا تهديد للمخالف ، وتحذير للموافق .
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
قوله تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } في هذه الآية قولان .
أحدهما : أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات . والثاني : أنها عامة ، وهو أصح . وفي الآيات قولان .
أحدهما : أنها آيات الكتب المتلوَّة . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها : أمنعُهم فهمها . والثاني : أمنعهم من الإيمان بها . والثالث : أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال .
والثاني : أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها ، فيكون المعنى : أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خلقتُ . وفي معنى يتكبَّرون قولان .
أحدهما : يتكبَّرون عن الإيمان واتباع الرسول .
والثاني : يحقِّرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم .
قوله تعالى : { وإن يروا سبيل الرُّشْدِ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «سبيل الرشد» بضم الراء خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي : «سبيل الرَّشد» بفتح الراء والشين مثقلة .
قوله تعالى : { ذلك بأنَّهم } قال الزجاج : فعل الله بهم ذلك بأنهم { كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي : كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين . ويجوز أن يكون المعنى : وكانوا عن جزائها غافلين .
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
قوله تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده } أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات . { من حُلِّيِّهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم وابن عامر : «من حُليّهم» بضم الحاء . وقرأ حمزة ، والكسائي : «حِليّهم» بكسر الحاء . وقرأ يعقوب : بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء . والحُليّ : جمع حَلْيٍ ، مثل : ثَدْي وثُدِيٍّ ، وهو اسم لما يُتحسَّن به من الذهب والفضة . قال الزجاج : ومن كسر الحاء من «حليهم» أتبع الحاء كسر اللام . والجسد : هو الذي لا يعقل ولا يميز ، إنما هو بمعنى الجثة فقط . قال ابن الانباري : ذِكر الجسد دلالة على عدم الروح منه ، وأن شخصه شخص مثال وصورة ، غير منضم إليهما روح ولا نفس . فأما الخُوار : فهو صوت البقرة ، يقال : خَارَتْ البقرة تَخُورُ ، وَجَأرَتَ تَجْأَرُ؛ وقد نُقِلَ عن العرب انهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم : رَغَا البعير وجَرْجَرَ وهَدَرَ وقَبْقَبَ ، وصَهَل الفرس وحَمْحَمَ ، وشَهَقَ الحمار ونَهَقَ ، وشَحَجَ البغل ، وثَغَتْ الشاة ويَعَرَتْ ، وثَأجَتَ النَّعْجَة ، وبَغَمَ الظبي ونَزَبَ ، وزَأرَ الأسدُ ونَهَتَ ونَأَتَ ، ووَعْوَعَ الذئب ، ونَهَم الفِيْلُ ، وزَقَحَ القِرْدُ ، وَضَبَحَ الثَّعْلَبُ ، وعَوَى الكَلْبُ وَنَبَحَ ، ومَاءتِ السِّنّور ، وَصَأت الفأرة ، ونَغَقَ الغُرَابُ ، معجمةَ الغين ، وزقأ الدِّيك ، وسَقَعَ وصَفَرَ النسْرُ ، وَهَدَرَ الحمام وَهَدَلَ ، ونَقَضَتِ الضَّفَادِع ونقَّت ، وعَزَفَتِ الجِنَّ . قال ابن عباس : كان العجل إذا خار سجدوا ، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وفي رواية أبي صالح عنه : أنه خار خورة واحدة ولم يُتبعها مثلها ، وبهذا قال وهب ، ومقاتل . وكان مجاهد يقول : خواره حفيف الريح فيه؛ وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابو مجلز : «له جُوار» بجيم مرفوعة .
قوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يُكلِّمهم } أي : لا يستطيع كلامهم . { ولا يهديهم سبيلاً } أي : لا يبيِّن لهم طريقاً إلى حجة . { اتخذوه } يعني : اتخذوه إلهاً . { وكانوا ظالمين } قال ابن عباس : مشركين .
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
قوله تعالى : { ولما سُقِط في أيديهم } أي : ندموا . قال الزجاج : يقال للرجل النادم على ما فعل : المتحسر على ما فرّط . قد سُقط في يده ، وأُسقط في يده . وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران الجوني : «سَقَطَ» بفتح السين . قال الزجاج : والمعنى : ولما سَقَط الندمُ في أيديهم ، يشبِّه ما يحصل في القلب وفي النفس بما يُرى بالعين . قال المفسرون : هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى .
قوله تعالى : { لئن لم يرحمنا ربنا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر وعاصم : «يرحْمنا ربُّنا» «ويغفرْ لنا» بالياء والرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، «ترحمنا» «وتغفر لنا» بالتاء ، «ربنا» بالنصب .
قوله تعالى : { غضبان أسِفاً } في الأسِفِ ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الحزين ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي . والثاني : الجزِع ، قاله مجاهد . والثالث : أنه الشديد الغضب ، قاله ابن قتيبة ، والزجاج . وقال أبو الدرداء : الأسف : منزلة وراء الغضب أشدّ منه .
قوله تعالى : { قال } أي لقومه { بئسما خلفتموني من بعدي } فتح ياء «بعديَ» أهل الحجاز ، وأبو عمرو؛ والمعنى : بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل . { أعجِلتم أمر ربكم } قال الفراء : يقال : عَجِلْتُ الأمر والشيء : سبقتُه ، ومنه هذه الآية . وأعجلته : استحثثته . قال ابن عباس : أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟! قال الحسن : يعنيَ وَعْدَ الأربعين ليلة .
قوله تعالى : { وألقى الألواح } التي فيها التوراة . وفي سبب إلقائه إياها قولان .
أحدهما : أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه لما رأى فضائل غير أُمته من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم اشتد عليه ، فألقاها ، قاله قتادة . وفيه بُعد . قال ابن عباس : لما رمى بالألواح فتحطمت ، رُفع منها ستة أسباع ، وبقي سُبع .
قوله تعالى : { وأخذ برأس أخيه } في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال .
أحدها : لحيته وذؤابته . والثاني : شعر رأسه . والثالث : أُذنه . وقيل : إنما فعل به ذلك ، لأنه توهم أنه عصى الله بمُقامه بينهم وتركِ اللحوق به ، وتعريفِه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردهم إلى الحق ، وذلك قوله : { ما منعك إذ رأيتهم ضلُّوا . ألاَّ تتَّبعن } [ طه : 92 ، 93 ] .
قوله تعالى : { ابن أُمَّ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم قال : { ابن أُمَّ } نصباً . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر . عن . عاصم : بكسر الميم ، وكذلك في [ طه : 94 ] قال الزجاج : من فتح الميم ، فلكثرة استعمال هذا الاسم ، ومن كسر ، أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسماً واحداً ، ومن العرب من يقول : «يا ابن أمي» باثبات الياء . قال الشاعر :
يَا ابْنَ أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... أنتَ خَلَّفْتَنِي لدهرٍ شديدِ
وقال أبو علي : يحتمل أن يريد من فتح : «يا ابن أم» أُمَّا ، ويحذف الألف ، ومن كسر «ابن أمي» فيحذف الياء .