كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
وقرأ أبو مجلز ، وأبو المتوكل الناجي : «جنةَ عدن» على التوحيد مع نصب التاء . وقوله : { التي وعد الرحمنُ عباده بالغيب } أي : وعدهم بها ، ولم يَروْها ، فهي غائبة عنهم .
قوله تعالى : { إِنه كان وعده مأتيّاً } فيه قولان .
أحدهما : آتياً ، قال ابن قتيبة : وهو «مفعول» في معنى «فاعل» ، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به . وقال الفراء : إِنما لم يقل : آتياً ، لأن كل ما أتاك ، فأنت تأتيه؛ ألا ترى أنك تقول : أتيت على خمسين سنة ، وأتت عليَّ خمسون [ سنة ] ؟ .
والثاني : مبلوغاً إِليه ، قاله ابن الأنباري . وقال ابن جريج : «وعده» هاهنا : موعوده ، وهو الجنة ، و«مأتيّاً» : يأتيه أولياؤه .
قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغواً } فيه قولان .
أحدهما : أنه التخالف عند شرب الخمر ، قاله مقاتل .
والثاني : ما يلغى من الكلام ويؤثَم فيه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري : اللغو في العربية : الفاسد المطَّرَح .
قوله تعالى : { إِلا سلاماً } قال أبو عبيدة : السلام ليس من اللغو ، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه ، وذلك أنها تضمر فيه ، فالمعنى : إِلا أنهم يسمعون فيها سلاماً . وقال ابن الأنباري : استثنى السلام من غير جنسه ، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود ، لأنهم إِذا لم يسمعوا من اللغوا إِلا السلام ، فليس يسمعون لغواً البتَّة ، وكذلك قوله : { فإنهم عدوٌّ لي إِلا ربَّ العالمين } [ الشعراء : 77 ] ، إِذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين ، فكلُّهم عدو .
وفي معنى هذا السلام قولان .
أحدهما : أنه تسليم الملائكة عليهم ، قاله مقاتل .
والثاني : أنهم لا يسمعون إِلا ما يسلِّمهم ، ولا يسمعون ما يؤثمهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بُكْرة وعَشِيّاً } قال المفسرون : ليس في الجنة بُكْرة ولا عشيَّة ، ولكنَّهم يُؤتَوْن برزقهم على مقدار ما كانوا يعرفون في الغداة والعشي . قال الحسن : كانت العرب لا تعرف شيئاً من العيش أفضل من الغداء والعشاء ، فذكر الله لهم ذلك . وقال قتادة : كانت العرب إِذا أصاب أحدُهم الغداءَ والعشاء أُعجب به ، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيّاً على قدر ذلك الوقت ، وليس ثَمَّ ليل ولا نهار ، وإِنما هو ضوء ونُور . وروى الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى : { بُكْرة وعشيّاً } فقال : ليس في الجنة ليل ولا نهار ، هم في نور أبداً ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بارخاء الحُجُب وإِغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب .
قوله تعالى : { تلك الجنة } الإِشارة إِلى قوله : { فأولئك يدخلون الجنة } .
قوله تعالى : { نُورِث } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي عبلة : بفتح الواو وتشديد الراء . قال المفسرون : ومعنى «نورث» : نعطي المساكن التي كانت لأهل النار - لو آمنوا للمؤمنين . ويجوز أن يكون معنى «نورث» : نعطي ، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف .
وقد شرحنا هذا في [ الأعراف : 43 ] .
قوله تعالى : { وما نتنزَّل إِلا بأمر ربِّك } وقرأ ابن السميفع ، وابن يعمر : «وما يَتنزَّل» بياء مفتوحة .
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» " ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : " أن الملَك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه ، فقال : لعلِّي أبطأتُ ، قال : «قد فعلتَ» ، قال : وما لي لا أفعل ، وأنتم لا تتسوَّكون ، ولا تقصُّون أظفاركم ، ولا تُنَقُّون براجمكم " ، فنزلت الآية ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري : البراجم عند العرب : الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع ، تبدو إِذا جُمعت ، وتغمض إِذا بُسطت . والرواجب : ما بين البراجم ، بين كل برجمتين راجبة .
والثالث : " أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله [ قومه ] عن قصة أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، فلم يدر ما يجيبهم ، ورجا أن يأتيَه جبريل بجواب ، فأبطأ عليه ، فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقَّة شديدة ، فلما نزل جبريل قال له : «أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني ، واشتقتُ إِليك» ، فقال جبريل : إِنِّي كنتُ أَشْوَق ، ولكنِّي عبدٌ مأمور ، إِذا بُعثتُ نزلتُ ، وإِذا حُبستُ احتبستُ " ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان .
أحدهما : لامتناع أصحابه من كمال النظافة ، كما ذكرنا في حديث مجاهد .
والثاني : لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف ، فقال : «غداً أُخبركم» ، ولم يقل : إِن شاء الله؛ وقد سبق هذا في سورة [ الكهف : 24 ] .
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال .
أحدها : خمسة عشر يوماً؛ وقد ذكرناه في ( الكهف ) عن ابن عباس .
والثاني : أربعون يوماً ، قاله عكرمة ، ومقاتل .
والثالث : اثنتا عشرة ليلة ، قاله مجاهد .
والرابع : ثلاثة أيام ، حكاه مقاتل .
والخامس : خمسة وعشرون يوماً ، حكاه الثعلبي . وقيل : إِن سورة ( الضحى ) نزلت في هذا السبب . والمفسرون على أن قوله : «وما نتنزل إِلا بأمر ربِّك» قول جبريل . وحكى الماوردي : أنه قول أهل الجنة إِذا دخلوها ، فالمعنى : ما ننزل هذه الجنان إِلا بأمر الله . وقيل : ما ننزل موضعاً من الجنة إِلا بأمر الله .
وفي قوله : { ما بين أيدينا وما خلفنا } قولان .
أحدهما : ما بين أيدينا : الآخرة ، وما خلفنا : الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل .
والثاني : ما بين أيدينا : ما مضى من الدنيا ، وما خلفنا : من الآخرة ، فهو عكس الأول ، قاله مجاهد . وقال الأخفش : ما بين أيدينا : قبل أن نُخلَق ، وما خلفنا : بعد الفناء .
وفي قوله تعالى : { وما بين ذلك } ثلاثة أقوال .
أحدها : ما بين الدنيا والآخرة ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : ما بين النفختين ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية .
والثالث : حين كوَّنَنا ، قاله الأخفش . قال ابن الأنباري : وإِنما وحَّد ذلك ، والإِشارة إِلى شيئين .
أحدهما : «ما بين أيدينا» .
والثاني : «ما خلفنا» ، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع .
قوله تعالى : { وما كان ربك نَسِيّاً } النَّسِيُّ ، بمعنى الناسي .
وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : ما كان تاركاً لك منذ أبطأ الوحي عنك ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك .
والثاني : أنه عالم بما كان ويكون ، لا ينسى شيئاً ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فاعبُده } أي : وحّده ، لأن عبادته بالشِّرك ليست عبادة ، { واصطبر لعبادته } أي : اصبر على توحيده؛ وقيل : على أمره ونهيه .
قوله تعالى : { هل تعلم له سميّاً } روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم «هل تعلم» ، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء ، لأن آخر مخرج من اللام وقريب من مخارجهن . قال أبو عبيدة : إِذا كان بعد «هل» تاء ، ففيه لغتان ، بعضهم يُبين لام «هل» ، وبعضهم يدغمها .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : مِثْلاً وشبهاً ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : هل تعلم أحداً يسمّى «اللهَ» غيرُه ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له : خالق وقادر ، إِلا هو ، قاله الزجاج .
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قوله تعالى : { ويقول الإِنسان } سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف أخذ عظماً بالياً ، فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول : زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وروى عطاء عن ابن عباس : أنه الوليد بن المغيرة .
قوله تعالى : { لسوف أُخْرَجُ حَيّاً } إِن قيل : ظاهره ظاهر سؤال ، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري .
أحدها : أن ظاهر الكلام استفهام ، ومعناه معنى جحد وإِنكار ، تلخيصه : لستُ مبعوثاً بعد الموت .
والثاني : أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث ، أجابه الله عز وجل بقوله : { أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسان } ، فهو مشتمل على معنى : نعم ، وأنت مبعوث .
والثالث : أن جواب سؤال هذا الكافر في [ يس : 78 ] عند قوله تعالى : { وضرب لنا مَثَلاً } ، ولا يُنكَر بُعْد الجواب ، لأن القرآن كلَّه بمنزلة الرسالة الواحدة ، والسورتان مكيَّتان .
قوله تعالى : { أولا يَذكر الإِنسانُ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بفتح الذال مشددة الكاف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر : «يَذْكُرُ ، ساكنة الذال خفيفة . وقرأ أُبيّ بن كعب ، وأبو المتوكل الناجي : «أَوَلا يتذكَّر الإِنسان» بياء وتاء . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن : «يذْكُر» بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف ، والمعنى : أَوَلا يتذكَّر هذا الجاحد أوَّل خلقه ، فيستدل بالابتداء على الإِعادة؟! { فوربك لنحشرنَّهم } يعني : المكذِّبين بالبعث { والشياطينَ } أي : مع الشياطين ، وذلك أن كل كافر يُحشَر مع شيطانه في سلسلة ، { ثم لنُحْضِرَنَّهم حول جهنَّم } قال مقاتل : أي : في جهنم ، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخلَه ، تقول : جلس القوم حول البيت : إِذا جلسوا داخله مطيفين به . وقيل : يجثون حولها قبل أن يدخلوها .
فأما قوله : { جِثِيّاً } فقال الزجاج : هو جمع جاثٍ ، مثل قاعدٍ وقعودٍ ، وهو منصوب على الحال ، والأصل ضم الجيم ، وجاء كسرها إِتباعاً لكسرة الثاء .
وللمفسرين في معناه خمسة أقوال .
أحدها : قعوداً ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : جماعات جماعات ، روي عن ابن عباس أيضاً . فعلى هذا هو جمع جثْوة وهي المجموع من التراب والحجارة .
والثالث : جثيّاً على الرُّكَب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والزجاج .
والرابع : قياماً ، قاله أبو مالك .
والخامس : قياماً على رُكَبهم ، قاله السدي ، وذلك لضيق المكان بهم .
قوله تعالى : { لَنَنْزِعَنّ مِنْ كل شيعة } أي : لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين { أيُّهم أَشَدُّ على الرحمن عَتِيّاً } أي : أعظمهم له معصية ، والمعنى : أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى ، وبالأكابر جُرْماً ، والرؤوس القادة في الشرِّ . قال الزجاج : وفي رفع «أَيُّهم» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه على الاستئناف ، ولم تعمل «لننزعنَّ» شيئاً ، هذا قول يونس .
والثاني : أنه على معنى الذي يقال لهم : أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل ، واختاره الزجاج ، وقال : التأويل : لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال : أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد :
وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزلٍ ... فأبيت لا حَرِج ولا محروم
المعنى : أبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حَرِج ولا محروم .
والثالث : أن «أيُّهم» مبنية على الضم ، لأنه خالفت أخواتها ، فالمعنى : أيُّهم هو أفضل . وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول : اضرب أيُّهم أفضل ، ولا يَحْسُن : اضرب مَنْ أفْضل ، حتى تقول : من هو أفضل ، ولا يَحْسُن : كُلْ ما أطيب ، حتى تقول : ما هو أطيب ، ولا خُذْ ما أفضل ، حتى تقول : الذي هو أفضل ، فلما خالفت «ما» و«مَنْ» و«الذي» بُنيت على الضم ، قاله سيبويه .
قوله تعالى : { هُمْ أَوْلى بها صِلِيّاً } يعني : أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً ، فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم . و«صِلِيّاً» : منصوب على التفسير ، يقال : صَلي النار يصلاها : إِذا دخلها وقاسى حَرَّها .
قوله تعالى : { وإِنْ منكم إِلا واردها } في الكلام إِضمار تقديره : وما منكم أحد إِلا وهو واردها .
وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان .
أحدهما : أنه عامّ في حق المؤمن والكافر ، هذا قول الأكثرين . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية للكفار . وأكثر الروايات عنه كالقول الأول . قال ابن الأنباري : ووجه هذا أنه لما قال : «لنُحْضِرَنَّهم» وقال : «أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً» كان التقدير : وإِن منهم ، فأبدلت الكاف من الهاء ، كما فعل في قوله : { إِنّ هذا كان لكم جزاءً } [ الانسان : 22 ] المعنى : كان لهم ، لأنه مردود على قوله : { وسقاهم ربُّهم } [ الانسان : 21 ] ، وقال الشاعر :
شَطَّتْ مزارَ العاشقين فأصبحتْ ... عَسِراً عليّ طلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
أراد : طلابها . وفي هذا الورود خمسة أقوال .
أحدها : أنه الدخول . روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الورود : الدخول لا يبقى بَرّ ولا فاجر إِلا دخلها ، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم ، حتى إِن للنار أو قال : لجهنم ضجيجاً من بردهم " وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية ، فقال له : «أمّا أنا وأنت فسندخلها ، فانظر أيُخرجنا الله عز وجل منها ، أم لا؟» فاحتج بقوله تعالى { فأوردهم النار } [ هود : 98 ] وبقوله تعالى : { أنتم لها واردون } [ الأنبياء : 98 ] . وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول : أُنبئت أني وارد ، ولم أُنبَّأ أني صادر . وحكى الحسن البصري : أن رجلاً قال لأخيه : يا أخي هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال : نعم؛ قال : فهل أتاك أنك خارجٌ منها؟ قال : لا؛ قال : ففيم الضحك؟! وقال خالد بن معدان : إِذا دخل أهل الجنة الجنة ، قالوا : ألم يَعِدْنا رَبُّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : بلى ، ولكن مررتم بها وهي خامدة .
وممن ذهب إِلى أنه الدخول : الحسن في رواية ، وأبو مالك .
وقد اعتُرِض على أرباب هذا القول بأشياء . فقال الزجاج : العرب تقول : وردت بلد كذا ، ووردت ماء كذا : إِذا أشرفوا عليه وإِن لم يدخلوا ، ومنه قوله تعالى : { ولما ورد ماءَ مدين } [ القصص : 33 ] ، والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى : { أولئك عنها مبعَدون . لا يسمعون حسيسها } [ الأنبياء : 101 ، 102 ] ، وقال زهير :
فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم
أي : لما بلغن الماء قمن عليه .
قلت : وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج ، فقال : أما الآية الأولى ، فإن موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم ، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل؛ وأما الآية الأخرى : فإنها تضمنت الإِخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها ، وحينئذ لا يسمعون حسيسها . وقد روينا آنفاً عن خالد بن معدان أنهم يمرُّون بها ، ولا يعلمون .
والثاني : أن الورود : الممرُّ عليها ، قاله عبد الله بن مسعود ، وقتادة . وقال ابن مسعود : يَرِد الناس النار ، ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأولُهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحُضْر الفرس [ ثم كالراكب في رحله ] ، ثم كشدِّ الرحل ، ثم كمشيه .
والثالث : أن ورودها : حضورها ، قاله عبيد بن عمير .
والرابع : أن ورود المسلمين : المرور على الجسر ، وورود المشركين : دخولها . قاله ابن زيد .
والخامس : أن ورود المؤمن إِليها : ما يصيبه من الحمَّى في الدنيا ، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال : الحمَّى حظّ كل مؤمن من النار ، ثم قرأ : «وإِنْ منكم إِلا واردها» فعلى هذا مَن حُمَّ من المسلمين ، فقد وردها .
قوله تعالى : { كان على ربك } يعني : الورود { حتماً } والحتم : ايجاب القضاء ، والقطع بالأمر . والمقضيُّ : الذي قضاه الله تعالى ، والمعنى : إِنه حتم ذلك وقضاه على الخلق .
قوله تعالى : { ثم ننجِّي الذين اتَّقَوْا } وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، وابن أبي ليلى ، وعاصم الجحدري : «ثَمَّ» بفتح الثاء . وقرأ الكسائي ، ويعقوب : «نُنْجي» مخففة . وقرأت عائشة ، وأبو بحرية ، [ وأبو الجوزاء الربعي : «ثم يُنجي» بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة . وقرأ أُبيّ بن كعب ] ، وأبو مجلز ، وابن السميفع ، وأبو رجاء : «ننحِّي» بحاء غير معجمة مشددة . وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق ، لأن النجاة : تخليص الواقع في الشيء ، ويؤكِّده قوله تعالى : { ونذر الظالمين فيها } ولم يقل : ونُدخلهم؛ وإِنما يقال : نذَر ونترك لمن قد حصل في مكانه . ومن قال : إِن الورود للكفار خاصة ، قال : معنى هذا الكلام : نخرج المتَّقين من جملة من يدخل النار . والمراد بالمتقين : الذين اتَّقَوْا الشرك ، وبالظالمين : الكفار . وقد سبق معنى قوله تعالى : { جِثِيّاً } [ مريم : 68 ] .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قوله تعالى : { وإِذا تُتْلى عليهم } يعني : المشركين { آياتنا } يعني : القرآن { قال الذين كفروا } يعني : مشركي قريش { للذين آمنوا } أي : لفقراء المؤمنين { أيُّ الفريقين خيرٌ مَقاماً } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم [ مَقاماً ] بفتح الميم . وقرأ ابن كثير بضم الميم . قال أبو علي الفارسي : المقام : اسم المثوى ، إِن فُتحت الميم أو ضُمَّتْ .
قوله تعالى : { وأحسن نديَّاً } والنديُّ والنادي : مجلس القوم ومجتمَعهم . وقال الفراء : النديُّ والنادي ، لغتان . ومعنى الكلام : أنحن خير ، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس ، فأجابهم الله تعالى فقال : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } وقد بينا معنى القرن في [ الأنعام : 6 ] وشرحنا الاثاث في [ النحل : 80 ] .
فأما قوله تعالى : { وَرِئْيَاً } فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «ورئياً» بهمزة بين الراء والياء في وزن : «رِعيا»؛ قال الزجاج : ومعناها : منظراً ، من «رأيت» .
وقرأ نافع ، وابن عامر : «رِيّاً» بياء مشددة من غير همز ، قال الزجاج : لها تفسيران . أحدهما : أنها بمعنى الأولى . والثاني : أنها من الرِّيّ ، فالمعنى : منظرهم مرتوٍ من النعمة ، كأن النعيم بَيِّنٌ فيهم .
وقرأ ابن عباس ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي سريج عن الكسائي : «زيّاً» بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز . قال الزجاج : ومعناها : حسن هيئتهم .
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله تعالى : { قل من كان في الضلالة } أي : في الكفر والعمى عن التوحيد { فليمدد له الرحمن } قال الزجاج : وهذا لفظ أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها ، قال ابن الأنباري : خاطب الله العرب بلسانها ، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر ، يقول أحدهم : إِن زارنا عبد الله فلنُكْرِمْه ، يقصد التوكيد ، وينبِّه على أني أُلزم نفسي إِكرامه؛ ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى : قل يا محمد : مَنْ كان في الضلالة فاللَّهم مُدَّ له في النِّعَم مَدّاً . قال المفسرون : ومعنى مدِّ اللهِ تعالى له : إِمهالُه في الغَيِّ . { حتى إِذا رأوا } يعني الذين مَدَّهم في الضلالة . وإِنما أخبر عن الجماعة ، لأن لفظ «مَن» يصلح للجماعة . ثم ذكر ما يوعدون فقال : { إِمَّا العذاب } يعني : القتل ، والأسر { وإِمَّا الساعة } يعني : القيامة وما وُعدوا فيها من الخلود في النار { فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً } في الآخرة ، أهم ، أم المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنة ، ومكان هؤلاء النار ، { و } يعلمون بالنصر والقتل من { أضعف جنداً } جندهم ، أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا ردٌّ عليهم في قولهم : { أيُّ الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نَدِيّاً } .
قوله تعالى : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } فيه خمسة أقوال .
أحدها : ويزيد الله الذين اهتدَوا بالتوحيد إِيماناً .
والثاني : يزيدهم بصيرةً في دينهم .
والثالث : يزيدهم بزيادة الوحي إِيماناً ، فكلما نزلت سورة زاد إِيمانهم .
والرابع : يزيدهم إِيماناً بالناسخ والمنسوخ .
والخامس : يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ . قال الزجاج : المعنى : إِن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقيناً ، كما جعل جزاء الكافر أن يمدَّه في ضلالته .
قوله تعالى : { والباقيات الصالحات } قد ذكرناها في سورة [ الكهف : 46 ] . قوله تعالى : { وخير مردّاً } المردُّ هاهنا مصدر مثل الردّ ، والمعنى : وخيرٌ ردّاً للثواب على عامليها ، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
قوله تعالى : { أفرأيتَ الذي كفر بآياتنا } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق عن خبَّاب [ بن الأرتِّ ] قال : كنت رجلاً قَيْنَاً [ أي : حداداً ] وكان لي على العاص بن وائل دَيْن ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : [ لا ] والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ، ثم تُبعث . قال : فإني إِذا مِتُّ ثم بُعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد ، فأعطيتك ، فنزلت فيه هذه الآية ، إِلى قوله تعالى : { فرداً } .
والثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وهذا مروي عن الحسن . والمفسرون على الأول .
قوله تعالى : { لأُوتَيَنَّ مالاً وولداً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : بفتح الواو . وقرأ حمزة ، والكسائي : بضم الواو . وقال الفراء : وهما لغتان ، كالعُدم ، والعَدم ، وليس يجمع ، وقيس تجعل الوُلد جمعاً ، والوَلد ، بفتح الواو ، واحداً .
وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه أراد في الجنة على زعمكم .
والثاني : في الدنيا . قال ابن الأنباري : وتقدير الآية : أرأيته مصيباً؟!
قوله تعالى : { أَطَّلَعَ الغيبَ } قال ابن عباس في رواية : أَعَلِمَ ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو ، أم لا؟! وقال في رواية أخرى : أَنَظَر في اللوح المحفوظ؟!
قوله تعالى : { أم اتَّخذ عند الرحمن عهداً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أم قال : لا إِله إِلا الله ، فأرحمه بها؟! قاله ابن عباس .
والثاني : أم قدَّم عملاً صالحاً ، فهو يرجوه؟! قاله قتادة .
والثالث : أم عهد إِليه أنه يدخله الجنة؟! قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { كلاَّ } أي : ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتَى المال والولد . ويجوز أن يكون معنى «كلاَّ» أي : إِنه لم يطَّلع الغيبَ ، ولم يتخذ عند الله عهداً . { سنكتب ما يقول } أي : سنأمر الحفظة بإثبات قوله عليه لنجازيَه به ، { ونَمُدُّ له من العذاب مَدّاً } أي : نجعل بعض العذاب على إِثر بعض . وقرأ أبو العالية الرياحي ، وأبو رجاء العطاردي : «سيكتب» «ويرثه» بياء مفتوحة .
قوله تعالى : { ونرثه ما يقول } فيه قولان .
أحدهما : نرثه ما يقول أنه له في الجنة ، فنجعله لغيره من المسلمين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء .
والثاني : نرث ما عنده من المال ، والولد ، باهلاكنا إِياه ، وإِبطال ملكه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال قتادة . قال الزجاج : المعنى : سنسلبه المال والولد ، ونجعله لغيره .
قوله تعالى : { ويأتينا فرداً } أي : بلا مال ولا ولد .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
قوله تعالى : { واتخَذوا من دون الله آلهة } يعني : المشركين عابدي الأصنام { ليكونوا لهم عِزّاً } قال الفراء : ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة .
قوله تعالى : { كلاَّ } أي : ليس الأمر كما قدَّروا ، { سيكفرون } يعني الأصنام بجحد عبادة المشركين ، كقوله تعالى : { ما كانوا إِيانا يعبدون } [ القصص : 63 ] لأنها كانت جماداً لا تعقل العبادة ، { ويكونون } يعني : الأصنام { عليهم } يعني : المشركين { ضِدّاً } أي : أعواناً عليهم في القيامة ، يكذِّبونهم ويلعنونهم .
قوله تعالى : { ألم تر أنَّا أرسلنا الشياطين } قال الزجاج : في معنى هذا الإِرسال وجهان .
أحدهما : خلَّينا بين الشياطين وبين الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم .
والثاني : وهو المختار : سَلَّطناهم عليهم ، وقيَّضْناهم لهم بكفرهم . { تَؤُزُّهم أَزّاً } أي : تزعجهم إزعاجاً حتى يركبوا المعاصي . وقال الفراء : تزعجهم إِلى المعاصي ، وتغريهم بها . قال ابن فارس : يقال : أزَّه على كذا : إِذا أغراه به ، وأزَّتْ القِدْر : غَلَتْ .
قوله تعالى : { فلا تعجل عليهم } أي : لا تعجل بطلب عذابهم . وزعم بعضهم أن هذا منسوخ بآية السيف ، وليس بصحيح ، { إِنما نَعُدُّ لهم عدّاً } في هذا المعدود ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أنفاسهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال طاووس ، ومقاتل .
والثاني : الأيام ، والليالي ، والشهور ، والسنون ، والساعات ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنها أعمالهم ، قاله قطرب .
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
قوله تعالى : { يوم نحشر المتقين } قال بعضهم : هذا متعلق بقوله : «ويكونون عليهم ضداً ، يوم نحشر المتقين» وقال بعضهم : تقديره : اذكر لهم يوم نحشر المتقين ، وهم الذين اتَّقَوْا الله بطاعته واجتناب معصيته . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «يَوم يحشُر» بياء مفتوحة ورفع الشين «ويَسُوق» بياء مفتوحة ورفع السين . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن البصري ، ومعاذ القارىء ، وأبو المتوكل الناجي : «يوم يُحشَر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المتقون» رفعاً «ويُسَاق» بألف وياء مرفوعة «المجرمون» بالواو على الرفع . والوفد : جمع وافد ، مثل : ركَبْ ، ورَاكِب ، وصَحْب ، وصاحِب . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والفراء : الوفد : الركبان . قال ابن الأنباري : الركبان عند العرب : ركَّاب الإِبل .
وفي زمان هذا الحشر قولان .
أحدهما : أنه من قبورهم إِلى الرحمن ، قاله علي بن أبي طالب .
والثاني : أنه بعد الحساب ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { ونسوق المجرمين } يعني : الكافرين { إِلى جهنم وِرداً } قال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والحسن : عِطَاشاً . قال أبو عبيدة : الوِرد : مصدر الورود . وقال ابن قتيبة : الوِرد : جماعة يَرِدون الماء ، يعني : أنهم عطاش ، لأنه لا يَرِد الماءَ إِلا العطشان . وقال ابن الأنباري : معنى قوله " «وِرْداً» : واردين .
قوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة } أي : لا يشفعون ، ولا يُشفَع لهم .
قوله تعالى : { إِلا من اتَّخذ عند الرحمن عهداً } قال الزجاج : جائز أن يكون «مَن» في موضع رفع على البدل من الواو والنون ، فيكون المعنى : لا يملك الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهداً؛ وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناءٍ ليس من الأول ، فالمعنى : لا يملك الشفاعة المجرمون ، ثم قال : «إِلا» على معنى «لكن» { مَن اتخَذ عند الرحمن عهداً } فإنه يملك الشفاعة . والعهد هاهنا : توحيد الله والإِيمان به . وقال ابن الأنباري : تفسير العهد في اللغة : تقدمة أمر يُعْلَم ويُحْفَظ ، من قولك : عهدت فلاناً في المكان ، أي : عرفته ، وشهدته .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
قوله تعالى : { وقالوا اتَّخَذ الرحمن ولداً } يعني : اليهود ، والنصارى ، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله { لقد جئتم شيئاً إِدّاً } أي : شيئاً عظيماً من الكفر . قال أبو عبيدة : الإِدُّ ، والنُّكْر : الأمر المتناهي العِظَم .
قوله تعالى : { تكاد السموات يتفطَّرن } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «تكاد» بالتاء . وقرأ نافع ، والكسائي : «يكاد» بالياء . وقرءا جميعاً : «يتفطرن» بالياء والتاء مشددة الطاء ، وافقهما ابن كثير ، وحفص عن عاصم في «يتفطَّرن» وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «ينفطرن» بالنون . وقرأ حمزة ، وابن عامر في { مريم } مثل أبي عمرو ، وفي [ عسق : 5 ] مثل ابن كثير . ومعنى «يتفطَّرن منه» : يقاربن الانشقاق من قولكم . قال ابن قتيبة : وقوله تعالى : «هدّاً» أي : سقوطاً .
قوله تعالى : { أن دَعَوْا } قال الفراء : من أن دعوا ، وَلأَن دعوا . وقال أبو عبيدة : معناه : أن جعلوا ، وليس هو من دعاء الصوت ، وأنشد :
أَلا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحاً وَإِن تَغِب ... تَجِدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِح الصَّدْرِ
قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } أي : ما يصلح له ، ولا يليق به اتخاذ الولد ، لأن الولد يقتضي مجانسة ، وكل متخذ ولداً يتخذه من جنسه ، والله تعالى منزَّهٌ عن أن يجانس شيئاً ، أو يجانسه ، فمحال في حقه اتخاذ الولد ، { إِن كلُّ } أي : ما كل { مَنْ في السموات والأرض إِلا آتي الرحمنِ } يوم القيامة { عبداً } ذليلاً خاضعاً . والمعنى : أن عيسى وعزيراً والملائكة عبيد له . قال القاضي أبو يعلى : وفي هذا دلالة على أن الوالد إِذا اشترى ولده ، لم يبق ملكه عليه ، وإِنما يعتق بنفس الشراء ، لأن الله تعالى نفى البُنُوَّة لأجل العبودية ، فدل على أنه لا يجتمع بنوَّةٌ وَرِقٌ .
قوله تعالى : { لقد أحصاهم } أي : علم عددهم { وعدَّهم عدّاً } فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم مع كثرتهم { وكلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً } بلا مال ، ولا نصير يمنعه .
فإن قيل : لأيَّة علَّة وحَّد في «الرحمن» و«آتيه» وجمع في العائد في «أحصاهم ، وعدَّهم» .
فالجواب : أن لكل لفظ توحيد ، وتأويل جمع ، فالتوحيد محمول على اللفظ ، والجمع مصروف إِلى التأويل .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله تعالى : { سيجعل لهم الرحمن وُدّاً } قال ابن عباس : نزلت في علي عليه السلام ، وقال معناه : يحبُّهم ، ويُحبِّبُهم إِلى المؤمنين . قال قتادة : يجعل لهم وُدّاً في قلوب المؤمنين . ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِذا أحب الله عبداً قال : يا جبريل ، إِني أُحب فلاناً فأحبُّوه ، فينادي جبريل في السموات : إِن الله يحب فلاناً فأحبّوه ، فيلقى حبُّه على أهل الأرض فيُحَبُّ » ، وذكر في البغض مثل ذلك . وقال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إِلى الله عز وجل ، إِلا أقبل الله عز وجل بقلوب أهل الإِيمان إِليه ، حتى يرزقَه مودَّتهم ورحمتهم .
قوله تعالى : { فإنما يسَّرناه بلسانك } يعني : القرآن . قال ابن قتيبة : أي ، سهَّلناه ، وأنزلناه بلغتك . واللُّدُّ ، جمع أَلَدٍّ ، وهو الخَصِمُ الجَدِل .
قوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم } هذا تخويف لكفار مكة { هل تُحِسُّ منهم من أحد } قال الزجاج : أي : هل ترى ، يقال : هل أحسستَ صاحبَك ، أي : هل رأيتَه؟ والرِّكز : الصوت الخفيُّ؛ وقال ابن قتيبة : الصوتُ الذي لا يُفْهَم ، وقال أبو صالح : حركة ، [ والله تعالى أعلم ] .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
وهي مكية كلُّها باجماعهم . وفي سبب نزول ( طه ) ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراوح بين قدميه ، يقوم على رِجْل ، حتى نزلت هذه الآية ، قاله [ علي ] عليه السلام .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه القرآن صلَّى هو وأصحابه فأطال القيام ، فقالت قريش : ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إِلا ليشقى ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .
والثالث : أن أبا جهل ، والنضر بن الحارث ، والمطعم بن عدي ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنك لتشقى بترك ديننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
وفي «طه» قراءات . قرأ ابن كثير ، وابن عامر : «طَهَ» بفتح الطاء والهاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر الطاء والهاء . وقرأ نافع : «طه» بين الفتح والكسر ، وهو إِلى الفتح أقرب؛ كذلك قال خلف عن المسيّبي . وقرأ أبو عمرو : بفتح الطاء وكسر الهاء ، وروى عنه عباس مثل حمزة . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين العقيلي ، وسعيد بن المسيب ، وأبو العالية : بكسر الطاء وفتح الهاء . وقرأ الحسن : «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء . وقرأ الضحاك ، ومورِّق : «طِهْ» بكسر الطاء وسكون الهاء .
واختلفوا في معناها على أربعة أقوال .
أحدها : أن معناها : يا رجل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة؛ واختلف هؤلاء بأيِّ لغة هي ، على أربعة أقوال .
أحدها : بالنبطيّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير في رواية ، والضحاك .
والثاني : بلسان عكّ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : بالسريانية ، قاله عكرمة في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية ، وقتادة .
والرابع : بالحبشية ، قاله عكرمة في رواية . قال ابن الأنباري : ولغة قريش وافقت هذه اللغة في المعنى .
والثاني : أنها حروف من أسماء . ثم فيها قولان .
أحدهما : أنها من أسماء الله تعالى . ثم فيها قولان .
أحدهما : أن الطاء من اللطيف ، والهاء من الهادي ، قاله ابن مسعود ، وأبو العالية .
والثاني : أن الطاء افتتاح اسمه «طاهر» و«طيِّب» والهاء افتتاح اسمه «هادي» قاله سعيد بن جبير . والقول الثاني : أنها من غير أسماء الله تعالى . ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الطاء من طابة ، وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و الهاء من مكة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي . والثاني : أن الطاء : طرب أهل الجنة ، والهاء : هوان أهل النار .
والثالث : أن الطاء في حساب الجُمل تسعة ، والهاء خمسة ، فتكون أربعة عشر . فالمعنى : يا أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، حكى القولين الثعلبي .
والثالث : أنه قَسَم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقد شرحنا معنى كونه اسماً في فاتحة ( مريم ) . وقال القرظي : أقسم الله بطَوْله وهدايته؛ وهذا القول قريب المعنى من الذي قبله .
والرابع : أن معناه : طأِ الأرض بقدميك ، قاله مقاتل بن حيان . ومعنى قوله { لتشقى } : لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغتَ ، وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ ، حتى إِنه كان يراوح بين قدميه لطول القيام ، فأُمر بالتخفيف .
قوله تعالى : { إِلاّ تَذْكِرَةً } قال الأخفش : هو بدل من قوله : «لتشقى» ما أنزلناه إِلا تذكرةً ، أي : عظةً .
قوله تعالى : { تنزيلاً } قال الزجاج : المعنى : أنزلناه تنزيلاً ، و { العُلى } جمع العُلَيا ، تقول : سماء عُلْيا ، وسماوات عُلَى ، مثل الكُبرى ، والكُبَر . فأما «الثرى» فهو التراب النديّ . والمفسرون يقولون : أراد الثرى الذي تحت الأرض السابعة .
قوله تعالى : { وإِن تجهر بالقول } أي : ترفع صوتك { فإنه يعلم السِّرَّ } والمعنى : لا تجهد نفسك برفع الصوت ، فإن الله يعلم السرّ . وفي المراد ب «السِّرَّ وأخفى» خمسة أقوال .
أحدها : أن السرّ : ما أسره الإِنسان في نفسه ، وأخفى : ما لم يكن بَعْدُ وسيكون ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثاني : أن السرّ : ما حدَّثتَ به نفسك ، وأخفى : ما لم تلفظ به ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : أن السرّ : العمل الذي يُسِرُّه الإِنسان من الناس ، وأخفى منه : الوسوسةُ ، قاله مجاهد .
والرابع : أن معنى الكلام : يعلم إِسرار عباده ، وقد أخفى سرَّه عنهم فلا يُعْلَم ، قاله زيد بن أسلم ، وابنه .
والخامس : يعلم ما أسرَّه الإِنسان إِلى غيره ، وما أخفاه في نفسه ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { له الأسماء الحسنى } قد شرحناه في [ الأعراف : 180 ] .
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قوله تعالى : { وهل أتاكَ حديث موسى } هذا استفهام تقرير ، ومعناه : قد أتاك . قال ابن الأنباري : وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي «هل» معبرة عن «قد» ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب : " اللهم هل بلَّغتُ " يريد : قد بلَّغت .
قال وهب بن منبِّه : استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الرجوع إِلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، فوُلد له في الطريق في ليلة شاتية ، فقدح فلم يُور الزِّناد ، فبينا هو في مزاولة ذلك ، أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق؛ وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب «الحدائق» فكرهنا إِطالة التفسير بالقصص ، لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه . قال المفسرون : رأى نوراً ، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى . { فقال لأهله } يعنى : امرأته { امكثوا } اي : أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة : «لأَهْلِهُ امْكُثُوا» بضم الهاء هاهنا وفي [ القصص : 29 ] . { إِنِّي آنستُ ناراً } قال الفراء : إِني وجدت ، يقال : هل آنستَ أحداً ، أي : وجدتَ؟ وقال ابن قتيبة : «آنستُ» بمعنى أبصرتُ . فأما القَبَس ، فقال الزجاج : هو ما أخذته من النار في رأس عود أو في رأس فتيلة .
قوله تعالى : { أو أَجِدُ على النّار هدىً } قال الفراء : أراد : هادياً ، فذكره بلفظ المصدر . قال ابن الأنباري : يجوز أن تكون «على» هاهنا بمعنى «عند» ، وبمعنى «مع» ، وبمعنى الباء . وذكر أهل التفسير أنه كان قد ضَلَّ الطريق ، فعلم أن النار لا تخلو من مُوقِد . وحكى الزجاج : أنه ضل عن الماء ، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدلّه على الماء .
قوله تعالى : { فلما أتاها } يعني : النار { نودي يا موسى إِنّي أنا ربُّك } إِنما كرَّر الكناية ، لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإِزالة الشبهة ، ومثله { إِنّي أنا النذير المبين } [ الحجر : 89 ] . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : «أَنِّيَ» بفتح الألف والياء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «إِنِّي» بكسر الألف ، إِلا أن نافعاً فتح الياء . قال الزجاج : من قرأ : «أَنِّي أنا» بالفتح ، فالمعنى : نودي [ بأني أنا ربك ، ومن قرأ بالكسر ، فالمعنى : نودي ] يا موسى ، فقال الله : إِنِّي أنا ربُّك .
قوله تعالى : { فاخلع نعليكَ } في سبب أمره بخلعهما قولان .
أحدهما : أنهما كانا من جلدِ حمارٍ ميت ، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعكرمة .
والثاني : أنهما كانا من جلد بقرة ذُكِّيتْ ، ولكنه أُمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة ، فتناله بركتها ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .
قوله تعالى : { إِنَّكَ بالواد المقدَّس } فيه قولان قد ذكرناهما في [ المائدة : 21 ] عند قوله : { الأرضَ المقدسةَ } .
قوله تعالى : { طُوى } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «طُوى وأنا» غير مُجْراة .
وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «طُوىً» مُجْراة؛ وكلُّهم ضم الطاء . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : «طِوىً» بكسر الطاء مع التنوين . وقرأ عليّ بن نصر عن أبي عمرو : «طِوى» بكسر الطاء من غير تنوين . قال الزجاج : في «طُوى» أربعة أوجه . طُوى ، بضم أوَّله من غير تنوين وبتنوين . فمن نوَّنه ، فهو اسم للوادي . وهو مذكَّر سمي بمذكَّر على فُعَلٍ نحو حُطَمٍ وصُرَدٍ ، ومن لم ينوِّنه ترك صرفه من جهتين .
إِحداهما : أن يكون معدولاً عن طاوٍ ، فيصير مثل «عُمَرَ» المعدول عن عامر ، فلا ينصرف كما لا ينصرف «عُمَر» .
والجهة الثانية : أن يكون اسماً للبقعة ، كقوله : { في البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] ، وإِذا كُسِر ونوِّن فهو مثل مِعىً . والمعنى : المقدَّس مَرَّة بعد مَرَّة ، كما قال عدي بن زيد :
أَعاذِلَ ، إِنَّ اللَّومَ في غَيْرِ كُنْهِهِ ... عليَّ طوىً مِن غَيِّك المُتَردِّد
أي : اللوم المكرَّر عليَّ؛ ومن لم ينوِّن جعله اسماً للبقعة .
[ وللمفسرين في معنى «طوىً» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اسم الوادي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أن معنى «طوى» : طأِ الوادي ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : أنه قدِّس مرتين ، قاله الحسن ، وقتادة ] .
قوله تعالى : { وأنا اخترتُك } أي : اصطفيتُك . وقرأ حمزة ، والمفضل : «وأنَّا» بالنون المشددة «اخترناكَ» بألف . { فاستمع لِما يوحى } أي : للذي يوحى . قال ابن الأنباري : الاستماع هاهنا محمول على الإِنصات ، المعنى : فأنصت لوحيي ، والوحي هاهنا قوله : { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا فاعبدني } أي : وحِّدني ، { وأقم الصلاة لِذِكْرِي } فيه قولان .
أحدهما : أقم الصلاة متى ذكرتَ أن عليكَ صلاةً ، سواء كنتَ في وقتها أو لم تكن ، هذا قول الأكثرين . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نسي صلاة فليصلها إِذا ذكرها ، لا كفارة لها غير ذلك ، وقرأ : { أَقِم الصَّلاة لذِكْرِي } " . والثاني : أقم الصلاة لتَذْكُرَني فيها ، قاله مجاهد . وقيل : إِن الكلام مردود على قوله : { فاستمع } ، فيكون المعنى : فاستمع لما يوحى ، واستمع لذِكْري . وقرأ ابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وابن السميفع : «وأقم الصلاة للذِّكْرى» بلامين وتشديد الذال .
قوله تعالى : { أكادُ أخفيها } أكثر القراء على ضم الألف .
ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين . وقرأ ابن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، ومحمد بن عليّ : أكاد أخفيها من نفسي ، قال الفراء : المعنى : فكيف أُظهركم عليها؟! قال المبرِّد : وهذا على عادة العرب ، فإنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمتُه حتى مِنْ نَفْسي ، أي : لم أُطلع عليه أحداً .
والثاني : أن الكلام تم عند قوله : «أكاد» ، وبعده مضمر تقديره : أكاد آتي بها ، والابتداء : أخفيها ، قال ضابىء البرجمي :
هَمَمْتُ ولَم أَفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي ... تَرَكْتُ على عُثْمانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهْ
أراد : كدتُ أفعل .
والثالث : أن معنى «أكاد» : أريد ، قال الشاعر :
كادَتْ وكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ لَهْو الصَّبابَة مَا مَضَى
معناه : أرادت وأردتُ ، ذكرهما ابن الأنباري .
فإن قيل : فما فائدة هذا الإِخفاء الشديد؟
فالجواب : أنه للتحذير والتخويف ، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوُّه كان أشد حذراً . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة ابن الزبير ، وأبو رجاء العطاردي ، وحميد بن قيس ، «أَخفيها» بفتح الألف . قال الزجاج : ومعناه : أكاد أظهرها ، قال امرؤ القيس :
فإنْ تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ ... وإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ
أي : إِن تدفنوا الداء لا نُظهره . قال : وهذه القراءة أَبْيَن في المعنى ، لأن معنى «أكاد أُظهرها» : قد أخفيتُها وكدت أُظهرها . { لتُجزى كُلُّ نَفْسٍ بما تسعى } أي : بما تعمل . و«لتُجزى» متعلق بقوله : «إِن الساعة آتية» لتجزى ، ويجوز أن يكون على «أقم الصلاة لذكري» لتجزى .
قوله تعالى : { فلا يصدَّنَّك عنها } أي : عن الإِيمان بها { من لا يؤمِنُ بها } أي : من لا يُؤمِن بكونها؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع أُمَّته ، { واتَّبَعَ هواه } أي : مُراده وخالف أمر الله عز وجل ، { فتردى } أي : فتَهلِك؛ قال الزجاج : يقال : رَدِي يَرْدَى : إِذا هلك .
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قوله تعالى : { وما تلك بيمينكَ } قال الزجاج : «تلك» اسم مبهم يجري مجرى «التي» ، والمعنى ما التي بيمينك؟
قوله تعالى : { أتوكَّأُ عليها } التوكُّؤُ : التحامل على الشيء { وأَهُشُّ بها } قال الفراء : أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي؛ قال الزجاج : واشتقاقه من أنّي أُحيل الشيء إِلى الهشاشة والإِمكان . والمآرب : الحاجات ، واحدها : مَأْرُبَة ، ومَأْرَبَة . وروى قتيبة ، وورش : «مآرب» بامالة الهمزة .
فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الله تعالى له : «وما تلك بيمينك» وهو يعلم؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن لفظه لفظ الاستفهام ، ومجراه مجرى السؤال ، ليجيب المخاطَب بالإِقرار به ، فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد ، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء : ما هذا؟ فيقول : ماءٌ ، فتضع عليه شيئاً من الصبغ ، فإن قال : لم يزل هكذا ، قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجة ، هذا قول الزجاج : فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرَّر موسى أنها عصاً لمّا أراد أن يريَه من قدرته في انقلابها حيَّة ، فوقع المُعْجِز بها بعد التثبت في أمرها .
والثاني : أنه لما اطَّلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإِجلال حين التكليم ، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثِقَل ما كان فيه من الخوف ، فأجرى هذا الكلام للاستئناس ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
فإن قيل : قد كان يكفي في الجواب أن يقول : «هي عصاي» ، فما الفائدة في قوله : «أتوكَّأُ عليها» إِلى آخر الكلام ، وإِنما يُشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه أجاب بقوله : «هي عصاي» ، فقيل له : ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جواباً عن سؤال ثانٍ ، قاله ابن عباس ، ووهب .
والثاني : أنه إِنما أظهر فوائدها ، وبيَّن حاجته إِليها ، خوفاً [ من ] أن يأمره بإلقائها كالنعلين ، قاله سعيد ابن جبير .
والثالث : أنه بيَّن منافعها لئلا يكون عابثاً بحملها ، قاله الماوردي .
فإن قيل : فلم اقتصر على ذِكْر بعض منافعها ولم يُطِل الشرح؟ فعنه [ ثلاثة ] أجوبة .
أحدها : أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها .
والثاني : استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد .
والثالث : أنه اقتصر على اللازم دون العارض .
وقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتدفع عنه الهوام ، وتثمر له إِذا اشتهى الثمار . وفي جنسها قولان .
أحدهما : أنها كات من آس الجنة ، قاله ابن عباس .
والثاني : [ أنها ] كانت من عوسج .
فإن قيل : المآرب جمع ، فكيف قال : «أُخرى» ولم يقل : «أُخَر»؟ فالجواب : أن المآرب في معنى جماعة ، فكأنه قال : جماعة من الحاجات أُخرى ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { قال ألقها يا موسى } قال المفسرون : ألقاها ، ظنّاً منه أنه قد أُمر برفضها ، فسمع حِسّاً فالتفتَ فإذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها ، فهرب منها .
وفي وجه الفائدة في إِظهار هذه الآية ليلة المخطابة قولان .
أحدهما : لئلا يخاف منها إِذا ألقاها بين يدي فرعون .
والثاني : ليريَه أن الذي أبعثك إِليه دون ما أريتك ، فكما ذلَّلْتُ لك الأعظم وهو الحية ، أُذلّلُ لكَ الأدنى . ثم إِن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيَّة ، فوضع يده عَليها فعادت عصاً ، فذلك قوله : { سنُعيدها سيرتها الأولى } قال الفراء : طريقتها ، يقول : تردُّها عصى كما كانت . قال الزجاج : و«سيرتها» منصوبة على إِسقاط الخافض وإِفضاء الفعل إِليها ، المعنى : سنُعيدها إِلى سيرتها .
فإن قيل : إِنما كانت العصا واحدة ، وكان إِلقاؤها مَرَّة ، فما وجه اختلاف الأخبار عنها ، فإنه يقول في [ الأعراف : 107 ] : { فإذا هي ثُعبان مُبِين } ، وهاهنا : «حية» ، وفي مكان آخر : { كأنها جانّ } [ النمل : 20 ] ، والجانّ ليست بالعظيمة ، والثعبان أعظم الحيات؟
فالجواب : أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها ، وبالثعبان إِخبار عن انتهاء حالها ، والحيّة اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى . وقال الزجاج : خَلْقُها خَلْق الثعبان العظيم ، واهتزازها وحركتها وخِفَّتها كاهتزاز الجانِّ وخِفَّته .
قوله تعالى : { واضمم يدكَ إِلى جناحكَ } قال الفراء : الجناح من أسفل العَضُد إِلى الإِبط .
وقال أبو عبيدة : الجناح ناحية الجَنْب ، وأنشد :
أَضُمُّهُ للصَّدْر والجَنَاحِ ... قوله تعالى : { تَخْرُجْ بيضاءَ من غير سوءٍ } أي : من غير بَرَص { آيةً أُخرى } أي : دلالة على صدقك سوى العصا . قال الزجاج : ونصب «آيةً» على معنى : آتيناك آية ، أو نؤتيك [ آية ] .
قوله تعالى : { لنريك من آياتنا الكبرى } . إِن قيل : لِمَ لم يقل : «الكُبَر؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه كقوله : { مآرب أخرى } وقد شرحناه ، هذا قول الفراء .
والثاني : أن فيه إِضماراً تقديره : لنريك من آياتنا الآية الكبرى . وقال أبو عبيدة : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لنريك الكبرى من آياتنا .
والثالث : إِنما كان ذلك لوفاق رأس الآي ، حكى القولين الثعلبي .
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قوله تعالى : { إِنه طغى } أي : جاوز الحدَّ في العصيان . قوله تعالى : { اشرح لي صدري } قال المفسرون : ضاق موسى صدراً بما كلِّف من مقاومة فرعون وجنوده ، فسأل الله تعالى أن يُوسِّع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعونَ وجنوده . ومعنى قوله : { يسِّر لي أمري } : سهِّل عليَّ ما بعثتَني له . { واحلُل عُقدة من لساني } قال ابن قتيبة : كانت فيه رُتَّة . قال المفسرون : كان فرعون قد وضع موسى في حِجره وهو صغير ، فجرَّ لحية فرعون بيده ، فهمَّ بقتله ، فقالت له آسية : إِنه لا يعقل ، وسأُريك بيان ذلك ، قدِّم إِليه جمرتين ولؤلؤتين ، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة ، فسأل حَلَّها ليفهموا كلامه .
وأما الوزير ، فقال ابن قتيبة : أصل الوِزَارة من الوِزْر وهو الحِمْلِ ، كأن الوزير قد حمل عن السلطان الثِّقْل . وقال الزجاج : اشتقاقه من الوَزَر ، والوَزَر : الجبل الذي يُعتصم به ليُنجى من الهلكة ، وكذلك وزير الخليفة ، معناه : الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجىء إِلى رأيه . ونصب «هارون» من جهتين . إِحداهما : أن تكون «اجعل» تتعدى إِلى مفعولين ، فيكون المعنى : اجعل هارون أخي وزيري ، فينتصب «وزيراً» على أنه مفعولٌ ثانٍ . ويجوز أن يكون «هارون» بدلاً من قوله : { وزيراً } ، فيكون المعنى : اجعل لي وزيراً من أهلي ، [ ثم ] أبدل هارون من وزير؛ والأول أجود . قال الماوردي : وإِنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيراً ، لأنه لم يُرِد أن يكون مقصوراً على الوزراة حتى يكون شريكاً في النبوَّة ، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح ياء «أخيَ» .
قوله تعالى : { أشْدُدْ به أزري } قال الفراء : هذا دعاء من موسى ، والمعنى : اشْدُد به يا ربِّ أزري ، وأَشْرِكه يا ربِّ في أمري . وقرأ ابن عامر : «أَشدد» بالألف مقطوعة مفتوحة ، «وأُشركه» بضم الألف ، وكذلك يبتدىء بالأَلفين . قال أبو علي : هذه القراءة على الجواب والمجازاة ، والوجه الدعاء دون الإِخبار ، لأن ما قَبْله دعاء ، ولأن الإِشراك في النبوَّة لا يكون إِلا من الله عز وجل ، قال ابن قتيبة : والأَزْر : الظهر ، يقال : آزرت فلاناً على الأمر ، أي : قوَّيته عليه وكنت له فيه ظَهْراً .
قوله تعالى : { وأَشْرِكه في أمري } أي : في النبوَّة معي { كي نسبِّحك } أي : نصلّي لكَ { ونَذْكُرَكَ } بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا من نِعَمِكَ { إِنَّكَ كُنْتَ بنا بصيراً } أي : عالِماً إِذ خَصَصْتَنا بهذه النِّعم .
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
قوله تعالى : { قال قد أُوتِيتَ سؤلك } قال ابن قتيبة : أي : طَلِبَتَكَ ، وهو «فُعْل» من «سَأَلْت» ، أي : أُعطيتَ ما سألتَ .
قوله تعالى : { ولقد مَنَنّا عليكَ } أي : أنعمنا عليكَ { مَرَّة أخرى } قبل هذه المَرَّة . ثم بيَّن متى كانت بقوله : { إِذ أَوحينا إِلى أُمِّك ما يوحى } أي : ألهمناها ما يُلهم مما كان سبباً لنجاتك ، ثم فسر ذلك بقوله : { أن اقذفيه في التابوت } وقذف الشيء : الرمي به .
فإن قيل : ما فائدة قوله : «ما يوحى» وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين .
أحدهما : أن المعنى : أوحينا إِليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إِليها ، إِذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إِليها ، لأنها ليست بنبيّ ، وذلك أنها أُلهمت .
والثاني : أن «ما يوحى» أفاد توكيداً ، كقوله : { فغشّاها ما غشّى } [ النجم : 54 ] . قوله تعالى : { فَلْيُلقِه اليمُّ } قال ابن الأنباري : ظاهر هذا الأمرُ ، ومعناه معنى الخبر ، تأويله : يلقيه [ اليمُّ ] ، ويجوز أن يكون البحر مأموراً بآلة ركَّبها الله تعالى فيه ، فسمع وعقل ، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار . فأما الساحل ، فهو : شط البحر . { يأخذْه عدوٌّ لي وعدوٌّ له } يعني : فرعون . قال المفسرون : اتخذت أُمُّه تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ، ووضعت فيه موسى وأَحكمت بالقار شقوق التابوت ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إِذا بالتابوت ، فأمر الغلمان والجواري بأخذه ، فلما فتحوه رأَوا صبياً من أصبح الناس وجهاً؛ فلما رآه فرعون أحبَّه حُبّاً شديداً ، فذلك قوله : { وألقيتُ عليكَ محبَّة مِنِّي } ، [ قال أبو عبيدة : ومعنى «ألقيتُ عليكَ» أي : جعلتُ لكَ مَحَبَّة مِنّي ] . قال ابن عباس : أَحَبَّه وحبَّبَه إِلى خَلْقه ، فلا يلقاه أحد إِلا أحبَّه من مؤمن وكافر . وقال قتادة : كانت في عينيه مَلاحة ، فما رآه أحد إِلا حبَّه .
قوله تعالى : { ولِتُصْنَع على عيني } وقرأ أبو جعفر : «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام . قال قتادة : لتُغذى على محبتي وإِرادتي . قال أبو عبيدة : على ما أُريد وأُحِبّ . قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غُذي فلان على عيني ، أي : على المَحَبَّة مِنّي . وقال غيره : لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني ، يقال : صنع الرَّجل جاريته : إِذا ربَّاها؛ وصنع فرسه : إِذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولِتُصْنَعَ على عيني ، قدَّرنا مشي أختك وقولها : { هل أَدُلُّكم على من يَكْفُلُه } لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله عز وجل . فأما أُخته ، فقال مقاتل : اسمها مريم . قال الفراء : وإِنما اقتصر على ذِكْر المشي ، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلَّتهم على الظِّئر ، لأن العرب تجتزىء بحذف كثير من الكلام ، وبقليله ، إِذا كان المعنى معروفاً ، ومثله قوله :
{ أنا أُنبِّئكم بتأويله فأرسلون } [ يوسف : 45 ] ، ولم يقل : فأُرسل حتى دخل على يوسف .
قال المفسرون : سبب مشي أُخته أن أُمَّه قالت لها : قُصِّيه ، فاتَّبعت موسى على أثر الماء ، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت لهم أُخته : «هل أدُلُّكم على من يَكْفُلُه» أي : يُرْضِعه ويضمه إِليه ، فقيل لها : ومن هي؟ فقالت : أُمي ، قالوا : وهل لها لبن؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أسنَّ من موسى بثلاث سنين ، فأرسلوها ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : { فرجعناك إِلى أُمِّك } أي : رددناك إِليها { كي تَقَرَّ عينها } بك وبرؤيتك . { وقتلتَ نَفْساً } يعني : القبطي الذي وكزه فقضى عليه ، وسيأتي ذِكْره إِن شاء الله تعالى { فنجَّيناك من الغَمِّ } وكان مغموماً مخافةَ أن يُقْتَل به ، فنجّاه الله بأن هرب إِلى مَدْيَن ، { وفَتَنَّاكَ فُتُوناً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : اختبرناك اختباراً ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أخلصناك إِخلاصاً ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثالث : ابتليناك ابتلاءً ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة . وقال الفراء : ابتليناك بغم القتيل ابتلاءً . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الفتون : وقوعُه في محنة بعد محنة خلَّصه الله منها ، أولها أن أُمَّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إِلقاؤه في البحر ، ثم منعه الرضاع إِلا من ثدي أمه ، ثم جرُّه لحية فرعون حتى همَّ بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدُّرَّة ، ثم قتله القبطيّ ، ثم خروجه إِلى مَدْيَن خائفاً؛ وكان ابن عباس يقصُّ هذه القصص على سعيد بن جبير ، ويقول له عند كل ثلاثة : وهذا من الفُتون يا ابن جبير؛ فعلى هذا يكون «فتنَّاكَ» خلَّصناكَ من تلك المحن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث . والفتون : مصدر .
قوله تعالى : { فلبثتَ سنين } تقدير الكلام : فخرجتَ إِلى أهل مدين . ومدين : بلد شعيب ، وكان على ثمان مراحل من مصر ، فهرب إِليه موسى . وقيل مدين اسم رجل ، وقد سبق هذا [ الأعراف : 86 ] .
وفي قدر لبثه هناك قولان .
أحدهما : عشر سنين؛ قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : ثمان وعشرون سنة ، عشر منهنَّ مهر امرأته ، وثمان عشرة أقام حتى وُلد له ، قاله وهب .
قوله تعالى : { ثم جئتَ على قَدَر } أي : جئتَ لميقاتٍ قدَّرتُه لمجيئكَ قبل خَلْقِك ، وكان ذلك على رأس أربعين سنة ، وهو الوقت الذي يوحى فيه إِلى الأنبياء ، هذا قول الأكثرين . وقال الفراء : «على قَدَرٍ» أي : على ما أراد الله به من تكليمه .
قوله تعالى : { واصطنعتُكَ لنفسي } أي : اصطفيتُك واختصصتك ، والاصطناع : اتخاذ الصنيعة ، وهو الخير تسديه إِلى إِنسان . وقال ابن عباس : اصطفيتك لرسالتي ووحيي { اذهب أنت وأخوك بآياتي } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها العصا واليد . وقد يُذْكَر الاثنان بلفظ الجمع .
والثاني : العصا واليد وحَلُّ العُقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ، ذكرهما ابن الأنباري .
والثالث : الآيات التسع . والأول أصح .
قوله تعالى : { ولا تَنِيَا } قال ابن قتيبة : لا تَضْعُفا ولا تفْتُرا؛ يقال : ونَى يني في الأمر؛ وفيه لغة أخرى : وَنَيَ ، يونى .
وفي المراد بالذِّكْر هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الرسالة إِلى فرعون .
والثاني : أنه القيام بالفرائض والتسبيحُ والتهليل .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قوله تعالى : { اذهبا إِلى فرعون } فائدة تكرار الأمر بالذهاب ، التوكيد . وقد فسرنا قوله : { إِنه طغى } [ طه : 24 ] .
قوله تعالى : { فقولا له قولاً ليِّناً } وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : «ليْنا» باسكان الياء ، أي : لطفياً رفيقاً .
وللمفسرين فيه خمسة أقوال .
أحدها : قولا له : قل : «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له» ، رواه خالد ابن معدان عن معاذ ، والضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنه قوله : { هل لك إِلى أن تَزَكَّى . وأَهْدِيَكَ إِلى ربِّك فتخشى } [ النازعات : 18 ، 19 ] ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثالث : كنِّيَاه ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي . فأما اسمه ، فقد ذكرناه في [ البقرة : 49 ] . وفي كنيته أربعة أقوال .
أحدها : أبو مُرَّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أبو مصعب ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : أبو العباس .
والرابع : أبو الوليد ، حكاهما الثعلبي .
والقول الرابع : قولا له : إِن لكَ ربّاً ، وإِن لكَ مَعَاداً ، وإِن بين يديكَ جَنَّة وناراً ، قاله الحسن .
والخامس : أن القول اللين : أن موسى أتاه ، فقال له : تؤمن بما جئتُ به وتعبد ربَّ العالمين ، على أن لكَ شبابك فلا تهرم ، وتكون مَلِكاً لا يُنزع منك حتى تموت ، فإذا متَّ دخلتَ الجنة ، فأعجبه ذلك؛ فلما جاء هامان ، أخبره بما قال موسى ، فقال : قد كنتُ أرى أن لكَ رأياً ، أنت ربٌّ أردتَ أن تكون مربوباً؟! فقلبه عن رأيه ، قاله السدي . وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية ، فقال : إِلهي هذا رِفقك بمن يقول : أنا إله ، فكيف رِفقك بمن يقول : أنت إِله .
قوله تعالى : { لَعَلَّه يتذكر أو يخشى } قال الزجاج : «لَعَلَّ» في اللغة : ترجٍّ وطمع ، تقول : لَعَلِّي أصير إِلى خير ، فخاطب الله عز وجل العباد بما يعقلون . والمعنى عند سيبويه : اذهبا على رجائكما وطمعكما . والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون ، وقد عَلِم أنه لا يتذكر ولا يخشى ، إِلا أن الحُجَّة إِنما تجب عليه بالآية والبرهان ، وإِنما تُبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيُقبل منها ، أم لا ، وهم يرجون ويطمعون أن يُقبل منهم ، ومعنى «لعلَّ» متصوَّر في أنفسهم ، وعلى تصوُّر ذلك تقوم الحُجَّة . قال ابن الأنباري : ومذهب الفراء في هذا : كي يتذكَّر . وروى خالد بن معدان عن معاذ قال : والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكَّر أو يَخْشى ، لهذه الآية ، وإِنَّه تذكَّر وخشي لمَّا أدركه الغرق . وقال كعب : والذي يحلِفُ به كعب ، إِنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولاً ليِّناً ، وسأقسِّي قلبه فلا يؤمن . قال المفسرون : كان هارون يؤمئذ غائباً بمصر ، فأوحى الله تعالى إِلى هارون أن يتلقَّى موسى ، فتلقَّاه على مرحلة ، فقال له موسى : إِن الله تعالى أمرني أن آتيَ فرعون ، فسألتُه أن يجعلكَ معي؛ فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا : ربَّنا إِننا نخاف .
قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده ، واخبر الله عنه بالتثنية لمَّا ضم إِليه هارون ، فإن العرب قد تُوقع التثنية على الواحد ، فتقول : يا زيد قوما ، يا حرسيُّ اضربا عنقه .
قوله تعالى : { أن يَفْرُط علينا } وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السميفع ، وابن يعمر ، وأبو العالية : «أن يُفْرِط» برفع الياء وكسر الراء . وقرأ عكرمة ، وإِبراهيم النخعي : «أن يَفْرَط» بفتح الياء والراء . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وابن محيصن : «أن يُفْرَط» برفع الياء وفتح الراء . قال الزجاج : المعنى ، أن يبادر بعقوبتنا ، يقال : قد فَرَط منه أمر ، أي : قد بَدَر؛ وقد أفرط في الشيء : إِذا اشتطَّ فيه؛ وفرَّط في الشيء : إِذا قصَّر؛ ومعناه كلُّه : التقدم في الشيء ، لأن الفَرَط في اللغة : المتقدِّم ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " أنا فَرَطُكم على الحوض " . قوله تعالى : { أو أن يطغى } فيه قولان .
أحدهما : يستعصي ، قاله مقاتل .
والثاني : يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا . قال ابن زيد : نخاف أن يعجِّل علينا قبل أن نبلِّغه كلامك وأمرك .
قوله تعالى : { إِنني معكما } أي : بالنصرة والعون { أسمع } أقوالكم { وأرى } أفعالكم . قال الكلبي : أسمعُ جوابَه لكما ، وأرى ما يفعل بكما .
قوله تعالى : { فأَرسِلْ معنا بني إِسرائيل } أي : خلِّ عنهم { ولا تعذِّبهم } وكان يستعملهم في الأعمال الشاقَّة ، { قد جئناكَ بآية من ربِّك } قال ابن عباس : هي العصا . قال مقاتل : أظهر اليد في مقام ، والعصا في مقام .
قوله تعالى : { والسلامُ على من اتَّبع الهُدى } قال مقاتل : على مَنْ آمن بالله . قال الزجاج : وليس يعني به التحيَّة ، وإِنما معناه : أن مَن اتَّبع الهُدى ، سَلِم من عذاب الله وسخطه ، والدليل على أنه ليس بسلام ، أنه ليس بابتداء لقاءٍ وخطاب .
قوله تعالى : { على مَنْ كَذَّب } أي : بما جئنا به وأعرض عنه .
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قوله تعالى : { قال فَمَنْ ربُّكما } في الكلام محذوف معناه معلوم ، وتقديره : فأتَياه فأَدَّيا الرسالة . قال الزجاج : وإِنما لم يقل : فأتَياه ، لأن في الكلام دليلاً على ذلك ، لأن قوله : «فمن ربُّكما» يدل على أنهما أتياه وقالا له .
قوله تعالى : { أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أعطى كُلَّ شيء صورته ، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه ، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم ، وصورة البعير لا كصورة الفرس ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أعطى كل ذكر زوجَه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، فيكون المعنى : أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله .
والثالث : أعطى كل شيء ما يُصْلِحه ، قاله قتادة .
وفي قوله : { ثم هدى } ثلاثة أقوال .
أحدها : هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .
والثاني : هدى للمنكح والمطعم والمسكن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : هدى كل شيء إِلى معيشته ، قاله مجاهد . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، والأعمش ، وابن السميفع ، ونصير عن الكسائي : «أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ» بفتح اللام .
فإن قيل : ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب : أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية ، فلا بد من خالقٍ وهادٍ .
قوله تعالى : { قال فما بال القرون الأولى } اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها ، ولم يكن له بذلك عِلْم ، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون ، فقال : { عِلْمها عند ربِّي } ، هذا مذهب مقاتل . وقال غيره : أراد : إِنِّي رسول ، وأخبار الأمم عِلْم غيب ، فلا علم لي بالغيب .
والثاني : أن مراده من السؤال عنها : لم عُبدت الأصنامُ ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟!
والثالث : أن مراده : ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال : عِلْمها عند الله ، أي : عِلْم أعمالها . وقيل : الهاء في «عِلْمُها» كناية عن القيامة ، لأنه سأله عن بعث الأمم ، فأجابه بذلك .
وقوله : { في كتاب } أراد : اللوح المحفوظ .
قوله تعالى : { لا يضلُّ ربِّي ولا يَنْسى } وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعاصم الجحدري ، وقتادة ، وابن محيصن : «لا يُضِلُّ» بضم الياء وكسر الضاد ، أي : لا يضيِّعه . وقرأ أبو المتوكل ، وابن السميفع : «لا يُضَل» بضم الياء وفتح الضاد . وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال ، والمعنى : لا يخطىء ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم . وقيل : أراد : لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى .
قوله تعالى : { الذي جَعَل لكم الأرض مهاداً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «مهاداً» .
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «مهداً» بغير ألف . والمهاد : الفراش ، والمهد : الفرش . { وسلك لكم } أي : أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها ، { وأنزل من السماء ماءً } يعني : المطر . وهذا آخر الإِخبار عن موسى . ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله : { فأخرجنا به } يعني : بالماء { أزواجاً من نبات شتّى } أي : أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم ، كل صنف منها زوج . و«شتى» لا واحد له من لفظه . { كُلُوا } أي : مما أخرجنا لكم من الثمار { وارعَوْا أنعامكم } يقال : رعى الماشية ، يرعاها : إِذا سرَّحها في المرعى . ومعنى هذا الأمر : التذكير بالنِّعم ، { إِنَّ في ذلكَ لآياتٍ } أي : لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم { لأولي النُّهى } قال الفراء : لذوي العقول ، يقال للرجل : إِنه لذو نُهْيَةٍ : إِذا كان ذا عقل . قال الزجاج : واحد النُّهى : نُهْيَة ، يقال : فلان ذو نُهْيَة ، أي : ذو عقل ينتهي به عن المقابح ، ويدخل به في المحاسن؛ قال : وقال بعض أهل اللغة : ذو النُّهية : الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله ، وهذا حسن أيضاً .
قوله تعالى : { منها خلقناكم } يعني : الأرض المذكورة في قوله : «جعل لكم الأرض مهاداً» . والإِشارة بقوله : «خلقناكم» إِلى آدم ، والبشر كلُّهم منه . { وفيها نُعِيدكم } بعد الموت { ومنها نُخْرِجكم تارة } أي : مَرَّة { أُخرى } بعد البعث ، يعني : كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض .
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
قوله تعالى : { ولقد أريناه } يعني : فرعون { آياتِنا كُلَّها } يعني : التسع الآيات ، ولم ير كلَّ آية لله ، لأنها لا تُحصى ، { فكذَّب } أي : نسب الآيات إِلى الكذب ، وقال : هذا سِحْر { وأبى } أن يؤمن { قال أجئتَنا لتُخرجنا من أرضنا } يعني : مصر { بِسِحْرك } أي : تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها { فلنأْتينَّك بِسِحْرٍ مثلِه } أي : فلنقابلنَّ ما جئتَ به من السِّحر بمثله { فاجعل بيننا وبينكَ موعداً } أي : اضرب بيننا وبينكَ أجَلاً وميقاتاً { لا نُخْلِفُه } أي : لا نجاوزه { نحنُ ولا أنتَ مكاناً } وقيل : المعنى : اجعل بيننا وبينكَ موعداً مكاناً نتواعد لحضورنا ذلك المكان ، ولا يقع مِنَّا خلاف في حضوره . { سوىً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي بكسر السين . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب : «سُوىً» بضمها . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو المتوكل ، وابن أبي عبلة : «مكاناً سَواءً» بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين . وقرأ ابن مسعود مثله ، إِلا أنه كسر السين . قال أبو عبيدة : هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين ، والمعنى : مكاناً تستوي مسافته على الفريقين ، فتكون مسافة كل فريق إِليه كمسافة الفريق الآخر . { قال موعدكم يومُ الزينة } قرأ الجمهور برفع الميم . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، [ وقتادة ] ، وابن أبي عبلة ، وهبيرة عن حفص بنصب الميم . وفي هذا اليوم أربعة أقوال .
أحدها : يوم عيد لهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، والسدي عن أشياخه ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : يوم عاشوراء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : يوم النيروز ، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والرابع : يوم سوق لهم ، قاله سعيد بن جبير .
وأما رفع اليوم ، فقال البصريون : التقدير : وقتُ موعدكم يومُ الزينة ، فناب الموعد عن الوقت ، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إِذا ظهر . فأما نصبه ، فقال الزجاج : المعنى : موعدُكم يقع يوم الزينة ، { وأن يُحْشَر الناس } موضع «أن» رفع ، المعنى : موعدكم حشر الناس { ضحى } أي : إِذا رأيتم الناس قد حُشروا ضحى . ويجوز أن تكون «أن» في موضع خفض عطفاً على الزينة ، المعنى : موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحىً . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «وأن تَحْشُر» بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ» . وعن ابن مسعود ، والنخعي : «وأن يَحشُر» بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ» .
قال المفسرون : أراد بالناس : أهلَ مصر ، وبالضحى : ضحى اليوم ، وإِنما علَّقه بالضحى ، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس ، فيكون أبلغَ في الحجة وأبعدَ من الريبة .
{ فتولَّى فرعون } فيه قولان .
أحدهما : أن المعنى : تولَّى عن الحق الذي أُمِر به .
والثاني : أنه انصرف إِلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى ، { فجمع كيده } أي : مكره وحيلته { ثم أتى } أي : حضر الموعد .
{ قال لهم موسى } أي : للسحرة . وقد ذكرنا عددهم في [ الأعراف : 114 ] .
قوله تعالى : { ويلكم } قال الزجاج : هو منصوب على «ألزمكم الله ويلاً» ويجوز أن يكون على النداء ، كقوله تعالى : { يا ويلنا مَن بعثنا من مرقدنا } [ يس : 52 ] .
قوله تعالى : { لا تفتروا على الله كذباً } قال ابن عباس : لا تشركوا معه أحداً .
قوله تعالى : { فيسحتَكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «فيَسحَتَكم» بفتح الياء ، من «سحت» . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «فيُسحِتكم» بضم الياء ، من «أسحت» . قال الفراء : ويُسحت أكثر ، وهو الاستئصال ، والعرب تقول : سحته الله ، وأسحته ، قال الفرزدق :
وَعَضَّ زَمانٍ يابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
هكذا أنشد البيت الفراء ، والزجاج . ورواه أبو عبيدة : «إِلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلَّفُ» بالرفع . قوله تعالى : { فتنازعوا أمرهم بينهم } يعني : السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى ، وتشاوروا { وأسرُّوا النجوى } أي : أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه . وقيل : من موسى وهارون . وقيل : «أسرُّوا» هاهنا بمعنى «أظهروا» .
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا : إِن كان هذا ساحراً ، فإنا سنغلبه ، وإِن يكن من السماء كما زعمتم ، فله أمره ، قاله قتادة .
والثاني : أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا : ما هذا بقول ساحر ، ولكن هذا كلام الرب الأعلى ، فعرفوا الحقَّ ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه ، وإِلى موسى وعصاه ، فنُكسوا على رؤوسهم ، وقالوا إِن هذان لساحران ، قاله الضحاك ، ومقاتل .
والثالث : أنهم { قالوا إِنْ هذان لساحران . . . } الآيات ، قاله السدي .
واختلف القراء في قوله تعالى : { إِنْ هذان لساحران } فقرأ أبو عمرو بن العلاء : «إِنَّ هذين» على إِعمال «إِنَّ» وقال : إِني لأستحيي من الله أن أقرأ «إِنْ هذان» . وقرأ ابن كثير : «إِنْ» خفيفه «هذانّ» بتشديد النون . وقرأ عاصم في رواية حفص : «إِنْ» خفيفة «هذان» خفيفة أيضاً . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «إِنّ» بالتشديد «هاذان» بألف ونون خفيفة . فأما قراءة أبي عمرو ، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة ، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } في سورة [ النساء : 162 ] . وأما قراءة عاصم ، فمعناها : ما هذان إِلا ساحران ،
كقوله تعالى : { وإِنْ نظنُّك لمن الكاذبين } [ الشعراء : 186 ] أي : ما نظنك إِلا من الكاذبين ، وأنشدوا في ذلك :
ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً ... حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ
أي : ما قتلت إِلا مسلماً . قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة ، ما روي عن أُبيِّ ابن كعبٍ أنه قرأ «ما هذان إِلا ساحران» ، وروي عنه : «إِن هذان إِلا ساحران» ، ورويت عن الخليل «إِنْ هذان» بالتخفيف ، والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل . فأما قراءة الأكثرين بتشديد «إِنَّ» وإِثبات الألف في قوله : «هاذان» فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : هي لغة بلحارث بن كعب .
وقال ابن الأنباري : هي لغة لبني الحارث بن كعب ، وافقتها لغة قريش . قال الزجاج : وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب ، وهو رأس من رؤوس الرواة : أنها لغة لكنانة ، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد ، يقولون : أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان ، وأنشدوا :
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ ... مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
ويقول هؤلاء : ضربته بين أُذناه . وقال النحويون القدماء : هاهنا هاء مضمرة ، المعنى : إِنه هذان لساحران . وقالوا أيضاً : إِن معنى «إِنَّ» : نعم «هذان لساحران» ، وينشدون :
ويَقْلنَ شَيْبٌ قد عَلاَ ... كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ
قال الزجاج : والذي عندي ، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد ، وعلى إِسماعيل بن إِسحاق ابن حماد بن زيد ، فقبلاه ، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا ، وهو أن «إِنَّ» قد وقعت موقع «نعم» ، والمعنى : نعم هذان لهما الساحران ، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة . وأستحسن هذه القراءة ، لأنها مذهب أكثر القراء ، وبها يُقرأ . وأستحسن قراءة عاصم ، والخليل ، لأنهما إِمامان ، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى . ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف . وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال : «ألف» «هذان» هي ألف «هذا» والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية ، كما فرقت نون «الذين» بين الواحد والجمع .
قوله تعالى : { ويذهبا بطريقتكم } وقرأ أبان عن عاصم : «ويُذهِبا» بضم الياء وكسر الهاء . وقرأ ابن مسعود ، وأُبَيُّ بن كعب ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو رجاء العطاردي : «ويذهبا بالطريقة» بألف ولام ، مع حذف الكاف والميم . وفي الطريقة قولان .
أحدهما : بدينكم المستقيم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه ، يقال : فلان حسن الطريقة .
والثاني : بأمثلكم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : بأُولي العقل ، والأشراف ، والأسنان . وقال الشعبي : يصرفان وجوه الناس إِليهما . قال الفراء : الطريقة : الرجال الأشراف ، تقول العرب للقوم الأشراف : هؤلاء طريقة قومهم ، وطرائق قومهم .
فأما «المثلى» فقال أبو عبيدة : هي تأنيث الأمثل . تقول في الإِناث : خذ المثلى منهما ، وفي الذكور : خذ الأمثل . وقال الزجاج : ومعنى المثلى والأمثل : ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال : هذا أمثل قومه؛ قال : والذي عندي أن في الكلام محذوفاً ، والمعنى : يذهبا بأهل طريقتكم المثلى ، وقول العرب : هذا طريقة قومه ، أي : صاحب طريقتهم .
قوله تعالى : { فأجمعوا كيدكم } قرأ الأكثرون : «فأجمِعوا» بقطع الألف من «أجمعت» . والمعنى : ليكن عزمكم مجمعاً عليه ، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم . قال الفراء : والإِجماع : الإِحكام والعزيمة على الشيء ، تقول : أجمعت على الخروج ، وأجمعت الخروج ، تريد : أزمعت ، قال الشاعر :
يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أغْدُونَ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَع
يريد : قد أُحكم وعُزم عليه . وقرأ أبو عمرو : «فاجمَعوا» بفتح الميم من «جمعت» ، يريد : لا تَدَعوا من كيدكم شيئاً إِلا جئتم به . فأما كيدهم ، فالمراد به : سحرهم ومكرهم .
قوله تعالى : { ثم ائتُوا صَفَّاً } أي : مُصْطَفِّين مجتمعين ، ليكون أنظم لأموركم ، وأشدَّ لهيبتكم . قال أبو عبيدة : «صفاً» أي : صفوفاً . وقال ابن قتيبة : «صفاً» بمعنى : جمعاً . قال الحسن : كانوا خمسة وعشرين صفاً ، كلُّ ألف ساحر صفٌّ .
قوله تعالى : { وقد أفلح اليوم من استعلى } قال ابن عباس : فاز من غلب .
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قوله تعالى : { بل ألقوا } قال ابن الأنباري : دخلت «بل» لمعنى : جحد في الآية الأولى ، لأن الآية الأولى إِذا تُؤمِّلتْ وُجِدتْ مشتملة على : إِما أن تلقي ، وإِما أن لا تلقي .
قوله تعالى : { وعِصِيُّهم } قرأ الحسن ، وأبو رجاء العطاردي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو الجوزاء : «وعُصيُّهم» برفع العين .
قوله تعالى : { يُخيَّل إِليه } وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن أبي عبلة : «تُخيَّلُ» بالتاء ، «إِليه» أي : إِلى موسى . يقال : خُيِّل إِليه : إِذا شُبِّه له . وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء . وقال : إِنما خيِّل إِلى موسى ، فالجواب : أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلاً ، وليس بحقيقة ، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت ، وليس ذلك بحيَّات ، فأما السحر ، فإنه يؤثِّر ، وهو أنواع . وقد سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أثر فيه ، ولعن العاضهة ، وهي الساحرة .
قوله تعالى : { فأوجس في نفسه خيفةً موسى } قال ابن قتيبة : أضمر في نفسه خوفاً . وقال الزجاج : أصلها «خِوفة» ولكن الواو قلبت ياءً لانكسار ما قبلها .
وفي خوفه قولان .
أحدهما : أنه خوف الطبع البشري .
والثاني : أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى ، خاف أن يلتبس على الناس أمره ، ولا يؤمنوا ، فقيل له : { لا تخف إِنك أنت الأعلى } عليهم بالظَّفَر والغَلَبة . وهذا أصح من الأول .
قوله تعالى : { وَأَلْقِ ما في يمينك } يعني : العصا { تلقفْ } وقرأ ابن عامر : «تلقَّفُ ما» برفع الفاء وتشديد القاف . وروى حفص عن عاصم : «تلقف» خفيفة . وكان ابن كثير يشدِّد التاء من «تلقف» يريد : «تتلقف» . وقرأ ابن مسعود ، وأُبَيُّ بن كعب ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء : «تلقم» بالميم . وقد شرحناها في [ الأعراف : 117 ] ، { إِنما صنعوا كيدُ ساحر } قرأ حمزة ، والكسائى ، وخلف : «كيد سحر» . وقرأ الباقون : «كيد ساحر» بألف ، والمعنى : إِن الذي صنعوا كيد ساحر ، أي : عمل ساحر . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «إِنما صنعوا كيدَ» بنصب الدال . { ولا يفلح الساحر } قال ابن عباس : لا يسعد حيثما كان . وقيل : لا يفوز . وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ، ثم قرأ { ولا يفلح الساحر حيث أتى } ، قال : لا يأمن حيث وجد " . قوله تعالى : { قال آمنتم له } قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ، وورش عن نافع : «آمنتم له» على لفظ الخبر . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «آمنتم له» بهمزة ممدودة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «أآمنتم له» بهمزتين الثانية ممدودة .
قوله تعالى : { إِنه لكبيركم } قال ابن عباس : يريد معلِّمكم .
قال الكسائي : الصبي بالحجاز إِذا جاء من عند معلِّمه ، قال : جئت من عند كبيري .
قوله تعالى : { ولأصلبنَّكم في جذوع النخل } «في» بمعنى «على» ، ومثله : { أم لهم سُلَّم يستمعون فيه } [ الطور : 38 ] . { ولتعلمُنَّ } أيُّها السحرة { أيُّنا أشدُّ عذاباً } لكم { وأبقى } أي : أدوَم ، أنا على إِيمانكم ، أو ربُّ موسى على تركهم الإِيمان به؟ { قالوا لن نؤثرك } أي : لن نختارك { على ما جاءنا من البينات } يعنون اليد والعصى .
فإن قيل : لم نسبوا الآيات إِلى أنفسهم بقولهم : «جاءنا» وإِنما جاءت عامة لهم ولغيرهم .
فالجواب : أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم ، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر ، كان ذلك في حق غيرهم أبْيَن وأوضح ، وكانوا هم لمعرفته أخص .
وفي قوله تعالى : { والذي فطرنا } وجهان ذكرهما الفراء ، والزجاج .
أحدهما : أن المعنى : لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات ، وعلى الذي فطرنا .
والثاني : أنه قسم ، تقديره : وحقِّ الذي فطرنا .
قوله تعالى : { فاقض ما أنت قاض } أي : فاصنع ما أنت صانع . وأصل القضاء : عمل باحكام { إِنما تقضي هذه الحياة الدنيا } قال الفراء : «إِنما» حرف واحد ، فلهذا نصب : «الحياة الدنيا» . ولو قرأ قارىء برفع «الحياة» لجاز ، على أن يجعل «ما» في مذهب «الذي» ، كقولك : إِن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا . وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو المتوكل : «إِنما تُقضى» بضم التاء على مالم يُسمَّ فاعله ، «الحياةُ» برفع التاء . قال المفسرون : والمعنى : إِنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا ، لا في الآخرة .
قوله تعالى : { ليغفر لنا } يعنون الشرك { وما أكرهتنا عليه } أي : والذي أكرهتنا عليه ، أي : ويغفر لنا إِكراهك إِيَّانا على السحر .
فإن قيل : كيف قالوا : أكرهتنا ، وقد قالوا : «أإِن لنا لأجراً» ، وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين؟ فعنه أربعة أجوبة .
أحدها : أن فرعون كان يكره الناس على تعلّم السِّحر ، قاله ابن عباس . قال ابن الأنباري : كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلِّموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون ، وذلك لشغفه بالسحر ، ولما خامر قلبه من خوف موسى ، فالإِكراه على السحر ، هو الإِكراه على تعلُّمه في أول الأمر .
والثاني : أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم : «أئن لنا لأجراً» ورأوا ذكرَه الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين ، جزعوا من ملاقاته بالسحر ، وحذروا أن يظهر عليهم فيطَّلع على ضعف صناعتهم ، فتفسد معيشتهم ، فلم يقنع فرعون منهم إِلا بمعارضة موسى ، فكان هذا هو الإِكراه على السحر .
والثالث : أنهم خافوا أن يُغلَبوا في ذلك الجمع ، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسُّوَق ، وأكرههم فرعون على فعل السحر .
والرابع : أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم ، وكان سبب ذلك السحر ، ذكره هذه الأقوال ابن الأنباري .
قوله تعالى : { والله خير } أي : خير منك ثواباً إِذا أُطيع { وأبقى } عقاباً إِذا عُصي ، وهذا جواب قوله : «ولتعلمُنَّ أيُّنا أشد عذاباً وأبقى»؛ وهذا آخر الإِخبار عن السحرة .
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قوله تعالى : { إِنَّه من يأت ربه مجرماً } يعني : مشركاً { فإنَّ له جهنم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة تنفعه .
[ أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله :
أَلاَ مَنْ لِنَفْسٍ لاَ تَمُوتُ فَيَنْقَضي ... شَقَاهَا وَلاَ تَحْيَا حَياةً لَها طَعْمُ
قوله تعالى : { قد عمل الصالحات } قال ابن عباس : قد أدَّى الفرائض ، { فأولئك لهم الدرجات العلى } يعني : درجات الجنة ، وبعضها أعلى من بعض . والعلى ، جمع العليا ، وهو تأنيث الأعلى . قال ابن الأنباري : وإِنما قال : «فأولئك» ، لأن «مَن» تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع . فإذا غلب لفظها ، وُحِّد الراجع إِليها ، وإِذا بُيِّن تأويلها ، جُمع المصروف إِليها .
قوله تعالى : { وذلك } يعني الثواب { جزاءُ من تزكى } أي : تطهَّر من الكفر والمعاصي .
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قوله تعالى : { أن أَسْرِ بعبادي } أي : سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر { فاضرب لهم طريقاً } أي : اجعل لهم طريقاً { في البحر يَبَساً } قرأ أبو المتوكل ، والحسن ، والنخعي : «يَبْساً» باسكان الباء . وقرأ الشعبي ، وأبو رجاء ، وابن السميفع : «يابساً» بألف . قال أبو عبيدة : اليبس ، متحرك الحروف ، بمعنى اليابس ، يقال : شاة يبس ، أي : يابسة ليس لها لبن . وقال ابن قتيبة : يقال لليابس : يَبَس ، ويَبْس .
قوله تعالى : { لا تخاف } قرأ الأكثرون بألف . وقرأ أبان ، وحمزة عن عاصم : «لا تخفْ» . قال الزجاج : من قرأ «لا تخاف» ، فالمعنى : لست تخاف ، ومن قرأ : «لا تخفْ» ، فهو نهي عن الخوف . قال الفراء : قرأ حمزة : «لا تخفْ» بالجزم ، ورفع «ولا تخشى» على الاستئناف ، كقوله تعالى : { يُولُّوكم الأدبار ثم لا ينصرون } [ آل عمران : 111 ] استأنف ب «ثم» ، فهذا مثله ، ولو نوى حمزة بقوله : «ولا تخش» الجزم وإِن كانت فيه الياء ، كان صواباً . قال ابن قتيبة : ومعنى { دركاً } لحاقاً . قال المفسرون : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنَا ، وهذا البحر بين أيدينا ، فأنزل الله على موسى { لا تخاف دركاً } أي : من فرعون { ولا تخشى } غرقاً في البحر .
قوله تعالى : { فأَتْبَعهم فرعون } قال ابن قتيبة : لحقهم . وروى هارون عن أبي عمرو : «فاتَّبعهم» بالتشديد . وقال الزجاج : تبع الرجل الشيء ، وأتبعه ، بمعنى واحد . ومن قرأ بالتشديد ، ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود . ومن قرأ «فأتبعهم» ، فمعناه : ألحق جنوده بهم ، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ ، وجائز أن لا يكون ، إِلا أنه قد كان معهم . { فغشيَهم من اليم ما غشيَهم } أي : فغشيهم من ماء البحر ما غرَّقهم . وقال ابن الأنباري : ويعني بقوله : «ما غشيهم» البعض الذي غشيهم ، لأنه لم يغشَهم كل مائِهِ . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وأبو رجاء ، والأعمش : «فغشَّاهم من اليم ما غشَّاهم» بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء .
قوله تعالى : { وأضل فرعونُ قومَه } أي : دعاهم إِلى عبادته { وما هدى } أي : [ ما ] أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة . وهذا تكذيب له في قوله : { وما أهديكم إِلا سبيل الرشاد } [ غافر : 29 ] .
قوله تعالى : { وواعدناكم جانبَ الطورِ الأيمنَ } لأخذ التوراة . وقد ذكرنا في [ مريم : 52 ] معنى «الأيمن» ، وذكرنا في [ البقرة : 57 ] «المن والسلوى» .
[ قوله تعالى : { كلوا } أي : وقلنا لهم : كلوا ] .
قوله تعالى : { ولا تطغَوْا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا تبطروا في نعمي [ فتظلموا ] .
والثاني : لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين .
والثالث : لا تدَّخروا منه لأكثر من يوم وليلة .
قوله تعالى : { فيحلَّ عليكم غضبي } أي : فتجب لكم عقوبتي . والجمهور قرؤوا «فيحِل» بكسر الحاء { ومن يحلِل } بكسر اللام . وقرأ الكسائي : «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام . قال الفراء : والكسر أحب إِليَّ ، لأن الضم من الحلول ، ومعناه : الوقوع ، و«يحل» بالكسر ، يجب ، وجاء التفسير بالوجوب ، لا بالوقوع .
قوله تعالى : { فقد هوى } أي : هلك .
قوله تعالى : { وإِني لغفَّار } الغفار : الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أُخرى ، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته ، وأصل الغفر : الستر ، وبه سمي [ زِئْبَر ] الثوب : غفراً ، لأنه يستر سداه . فالغفار : الستار لذنوب عباده ، المسبل عليهم ثوب عطفه .
قوله تعالى : { لمن تاب } قال ابن عباس : لمن تاب من الشرك { وآمن } أي : وحَّد الله وصدَّقه ، { وعمل صالحاً } أدَّى الفرائض .
وفي قوله تعالى : { ثم اهتدى } ثمانية أقوال .
أحدها : علم أن لعمله هذا ثواباً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لم يشكّك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : علم أن ذلك توفيق من الله [ له ] ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والرابع : لزم السنة والجماعة ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : استقام ، قاله الضحاك .
والسادس : لزم الإِسلام حتى يموت عليه ، قاله قتادة .
والسابع : اهتدى كيف يعمل ، قاله زيد بن أسلم .
والثامن : اهتدى إِلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ثابت البناني .
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قوله تعالى : { وما أعجلك عن قومك يا موسى } قال المفسرون : لما نجَّى الله تعالى بني إِسرائيل وأغرق فرعون ، قالوا : يا موسى ، لو أتيتنا بكتاب من عند الله ، فيه الحلال والحرام والفرائض ، فأوحى الله [ إِليه يَعِدُهُ ] أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلَّمه فيه ، فاختار سبعين ، فذهبوا معه إِلى الطور لأخذ التوراة ، فعَجِل موسى من بينهم شوقاً إِلى ربه ، وأمرهم بلحاقه ، فقال الله تعالى له : ما الذي حملك على العجلة عن قومك ، { قال هم أولاء } أي : هؤلاء { على أثري } ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، وعاصم الجحدري : «على إِثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء . وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وابن يعمر ، برفع الهمزة وسكون الثاء . وقرأ أبو رجاء ، وأبو العالية : بفتح الهمزة وسكون الثاء . والمعنى : هم بالقرب مني يأتون بعدي { وعجلت إِليك ربِّ لترضى } أي : لتزداد رضىً ، { قال فإنَّا قد فتنَّا قومك } قال الزجاج : ألقيناهم في فتنة ومحنة ، واختبرناهم .
قوله تعالى : { من بعدك } أي : من بعد انطلاقك من بينهم { وأضلَّهم السامريّ } أي : كان سبباً لإِضلالهم . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : «وأضلُّهم» برفع اللام . وقد شرحنا في [ البقرة : 52 ] سبب اتخاذ السامري العجل ، وشرحنا في [ الأعراف : 150 ] معنى قوله تعالى : { غضبان أسفاً } .
قوله تعالى : { ألم يعدْكم ربكم وَعْداً حسناً } أي : صدقاً ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : إِعطاء التوراة .
والثاني : قوله : { لئن أقمتم الصلاة } إِلى قوله : { لأكفِّرن عنكم سيآتكم . . . } الآية : [ المائدة : 13 ] ، وقوله : { وإِني لغفار لمن تاب } [ طه : 82 ] .
والثالث : النصر والظَّفَر .
قوله تعالى : { أفطال عليكم العهد } أي : مدة مفارقتي إِياكم { أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضب من ربِّكم } أن تصنعوا صنيعاً يكون سبباً لغضب ربكم { فأخلفتم موعدي } أي : عهدي ، وكانوا قد عاهدوه أنه إِن فكَّهم الله من مَلَكَة آل فرعون ، أن يعبدوا الله ولا يشركوا به ، ويقيموا الصلاة ، وينصروا الله ورسله . { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : بكسر الميم ، وقرأ نافع ، وعاصم : بفتح الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي : بضم الميم . قال أبو علي : وهذه لغات . وقال الزجاج : المُلْك ، بالضم : السلطان والقدرة . والمِلْك ، بالكسر : ما حوته اليد . والمَلْك ، بالفتح : المصدر ، يقال : ملكت الشيء أملكه ملكاً .
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال .
أحدها : ما كنا نملك الذي اتُّخذ منه العجلُ ، ولكنها كانت زينة آل فرعون ، فقذفناها ، قاله ابن عباس .
والثاني : بطاقتِنا ، قاله قتادة ، والسدي .
والثالث : لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البليَّة ، قاله ابن زيد .
والرابع : لم يملك مؤمنونا سفهاءنا ، ذكره الماوردي .
فيخرَّج فيمن قال هذا لموسى قولان .
أحدهما : أنهم الذين لم يعبُدوا العجل .
والثاني : عابدوه .
قوله تعالى : { ولكنَّا حُمّلنا أوزاراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «حُمِّلْنا» بضم الحاء وتشديد الميم .
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «حملنا» خفيفة . والأوزار : الاثقال . والمراد بها : حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر . فمن قرأ «حُمِّلنا» بالتشديد ، فالمعنى : حَمَّلنَا [ ها ] موسى ، أمَرَنا باستعارتها من آل فرعون ، { فقذفناها } أي : طرحناها في الحفيرة . وقد ذكرنا سبب قذفهم إِياها في سورة [ البقرة : 52 ] .
قوله تعالى : { فكذلك ألقى السامري } فيه قولان .
أحدهما : أنه ألقى حلياً كما ألقَوْا .
والثاني : ألقى ما كان معه من تراب حافر فرس جبريل . وقد سبق شرح القصة في [ البقرة : 52 ] ، وذكرنا في [ الأعراف : 148 ] معنى قوله تعالى : { عجلاً جسداً له خوار } .
قوله تعالى : { فقالوا هذ إِلهكم } هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتُتنوا .
قوله تعالى : { فنسي } في المشار إِليه بالنسيان قولان .
أحدهما : أنه موسى . ثم في المعنى ثلاثة أقوال .
أحدها : هذا إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إِلهه ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : فنسي موسى الطريق إِلى ربه ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : فنسي موسى إِلهه عندكم ، وخالفه في طريق آخر ، قاله قتادة .
والثاني : أنه السامري ، والمعنى : فنسي السامريُّ إِيمانه وإِسلامه ، قاله ابن عباس . وقال مكحول : فنسي ، أي : فترك السامريُّ ما كان عليه من الدين . وقيل : فنسي أن العجل لا يرجع إِليهم قولاً ، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً . فعلى هذا القول ، يكون قوله تعالى : { فنسي } من إِخبار الله عز وجل عن السامري . وعلى ما قبله ، فيمن قاله قولان .
أحدهما : أنه السامريُّ .
والثاني : بنو إِسرائيل .
قوله تعالى : { أفلا يرون ألاَّ يرجعُ } قال الزجاج : المعنى : أفلا يرون أنه لا يرجع «إِليهم قولاً» .
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قوله تعالى : { ولقد قال لهم هارون من قبل } أي : من قبل أن يأتي موسى { يا قوم إِنما فتنتم به } أي : ابتليتم { وإِن ربَّكم الرحمنُ } لا العجل ، { قالوا لن نبرح عليه عاكفين } أي : لن نزال مقيمين على عبادة العجل { حتى يرجع إِلينا موسى } فلما رجع موسى { قال يا هارون ما منعك إِذ رأيتهم ضلُّوا } بعبادة العجل { ألا تتَّبعني } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «ألا تتبعني» بياء في الوصل ساكنة ، ويقف ابن كثير بالياء ، وأبو عمرو بغير ياء . وروى إِسماعيل بن جعفر عن نافع : «ألا تتبعنيَ أفعصيت» بياء منصوبة . وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بغير ياء في الوصل ، والوقف . والمعنى : ما منعك من اتباعي . و«لا» كلمة زائدة .
وفي المعنى ثلاثة أقوال .
أحدها : تسير ورائي بمن معك من المؤمنين ، وتفارقهم . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن تناجزهم القتال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : في الإِنكار عليهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { أفعصيت أمري } وهو قوله في وصيته إِياه «اخلفني في قومي وأصلح» . قال المفسرون : ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضباً منه عليه . وهذا وإِن لم يذكر هاهنا ، فقد ذكر في [ الأعراف : 150 ] فاكتُفي بذلك ، وقد شرحنا هناك معنى «يا ابن أم» واختلاف القراء فيها .
قوله تعالى : { ولا برأسي } أي : بشعر رأسي . وهذا الغضب كان لله عز وجل ، لا لنفسه ، لأنه وقع في نفسه أن هارون عصى الله بترك اتِّباع موسى .
قوله تعالى : { إِني خشيتُ } أي : إِن فارقتُهم واتبعتك { أن تقول فرَّقت بين بني إِسرائيل } وفيه قولان .
أحدهما : باتباعي إِياك ومن معي من المؤمنين .
والثاني : بقتالي لبعضهم ببعض .
وفي قوله تعالى : { ولم ترقب قولي } قولان .
أحدهما : لم ترقب قولي لك : «اخلفني في قومي وأصلح» .
والثاني : لم تنتظر أمري فيهم .
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قوله تعالى : { فما خطبك يا سامري } أي : ما أمرك وشأنك الذي دعاك إِلى ما صنعت؟! قال ابن الأنباري : وبعض اللغويين يقول : الخطب مشتق من الخطاب . المعنى : ما أمرُك الذي تخاطب فيه؟!
واختلفوا في اسم السامري على قولين .
أحدهما : موسى أيضاً ، قاله وهب بن منبه ، وقال : كان ابن عم موسى بن عمران .
والثاني : ميخا ، قاله ابن السائب .
وهل كان من بني إِسرائيل ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : لم يكن منهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : كان من عظمائهم ، وكان من قبيلة تسمى «سامرة» ، قاله قتادة . وفي بلده قولان .
أحدهما : كرمان ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : باجرما ، قاله وهب .
قوله تعالى : { بَصُرْتُ بما لم يَبْصُروا به } وقرأ حمزة والكسائي : «تَبصروا» ، بالتاء . فعلى قراءة الجمهور أشار إِلى بني إِسرائيل ، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع . قال أبو عبيدة : علمت ما لم تعلموا . قال : وقوم يقولون : بصرت ، وأبصرت سواء ، بمنزلة أسرعت ، وسَرُعت . وقال الزجاج : يقال : بصُر الرجل يبصُر : إِذا صار عليماً بالشيء ، وأبصر يبصر : إِذا نظر . قال المفسرون : فقال له موسى : وما ذاك؟ قال : رأيت جبريل على فرس ، فأُلقي في نفسي : أن اقبض من أثرها { فقبضت قبضة } ، وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن ، ومعاذ القارىء : «قبصة» بالصاد . وقال الفراء : والقبضة بالكفِّ كلِّها ، والقبصة بالصاد بأطراف الأصابع . قال ابن قتيبه : ومثل هذا : الخضم بالفم كله ، والقضم بأطراف الأسنان ، والنضخ أكثر من النضح ، والرجز : العذاب ، والرجس : النتن ، والهُلاس في البدن ، والسُّلاس في العقل ، والغلط في الكلام ، والغلت في الحساب ، والخصر : الذي يجد البرد ، والخرص : الذي يجد البرد والجوع ، والنار الخامدة : التي قد سكن لَهَبها ولم يطفأ جمرها ، والهامدة : التي طفئت فذهبت البتَّة ، والشُّكْد : العطاء ابتداءً ، فإن كان جزاءً فهو شُكْم ، والمائح : الذي يدخل البئر فيملأ الدلو ، والماتح : الذي ينزعها .
قوله تعالى : { فنبذتها } أي : فقذفتها في العجل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : «فنبذتها» بالإِدغام { وكذلك } أي : وكما حدثتك { سوَّلتْ لي نفسي } أي : زيَّنتْ لي { قال } موسى { اذهب } أي : من بيننا { فإن لك في الحياة } أي : ما دمت حياً { أن تقول لا مساس } أي : لا أَمسُّ ولا أُمَسُّ ، فصار السامريُّ يهيم في البرِّيَّة مع الوحش والسباع ، لا يمسَّ أحداً ، ولاَ يمَسُّه أحدٌ ، عاقبه الله بذلك ، وألهمه أن يقول : «لا مساس» ، وكان إِذا لقيَ أحداً يقول : لا مساس ، أي : لا تقربني ، ولا تمسني ، وصار ذلك عقوبة لولده ، حتى إِن بقاياهم اليوم ، فيما ذكر أهل التفسير ، بأرض الشام يقولون ذلك . وحكي أنه إِن مس واحدٌ من غيرهم واحداً منهم ، أخذتهما الحمَّى في الحال .
قوله تعالى : { وإِن لك موعداً } أي : لعذابك يوم القيامة { لن تُخلَفَه } أي : لن يتأخر عنك .
ومن كسر لام «تخلف» أراد : لن تغيب عنه .
قوله تعالى : { وانظر إِلى إِلهك } يعني : العجل { الذي ظَلْت } قال ابن عباس : معناه : أقمت عليه . وقال الفراء : معنى «ظلت» : فعلته نهاراً . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر : «ظُلت» برفع الظاء . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : «ظِلت» بكسر الظاء . وقال الزجاج : «ظَلت» و«ظلت» بفتح الظاء ، وكسرها ، فمن فتح ، فالأصل فيه : «ظللت» ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر ، وبقيت الظاء على فتحها ، ومن قرأ : «ظِلت» بالكسر ، حوَّل كسرة اللام على الظاء . ومعنى { عاكفاً } مقيماً ، { لنحرِّقنَّه } قرأ الجمهور «لنحرقنَّه» بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء . وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو رزين ، وابن معمر : «لنَحْرقنه» بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة . وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وقتادة : «لنحرقنه» برفع النون وإِسكان الحاء وكسر الراء مخففة . قال الزجاج : إِذا شدد ، فالمعنى : نحرقه مرة بعد مرة . وتأويل «لنحرقنَّه» : لنبردنَّه ، يقال : حرقت أحرُق وأحْرِق : إِذا بردت الشيء . والنسف : التذرية . وجاء في التفسير : أن موسى أخذ العجل فذبحه . فسال منه دم ، لأنه كان قد صار لحماً ودماً ، ثم أحرقه بالنار ، ثم ذراه في البحر ، ثم أخبرهم موسى عن إِلههم ، فقال : { إِنما إِلهكم الله الذي لا إِله إِلا هو } أي : هو الذي يستحق العبادة ، لالعجل ، { وسع كل شيءٍ علماً } أي : وسع علمه كل شيء .
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
قوله تعالى : { كذلك نقص عليك } أي : كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه ، نقص عليك { من أنباء ما قد سبق } أي : من أخبار من مضى ، والذِّكْر هاهنا : القرآن { من أعرض عنه } فلم يؤمن ، ولم يعمل بما فيه { فإنه يحمل يوم القيامة } وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري : «يُحَمَّل» برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم ، { وزراً } أي : إِثماً { خالدين فيه } أي : في عذاب ذلك الوزر { وساءَ لهم } قال الزجاج : المعنى : وساء الوزر لهم يوم القيامة { حِملاً } ، و«حملاً» منصوب على التمييز .
قوله تعالى : { يوم ينفخ في الصور } قرأ أبو عمرو : «ننفخ» بالنون . وقرأ الباقون من السبعة : «ينفخ» بالياء على ما لم يسم فاعله . وقرأ أبو عمران الجوني : «يوم ينفخ» بياء مفتوحة ورفع الفاء ، وقد سبق بيانه . { ونحشر المجرمين } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وطلحة بن مصرِّف : «ويحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين . وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وأبو عمران : «ويحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المجرمون» بالواو . قال المفسرون : والمراد بالمجرمين : المشركون . { يومئذ زُرْقاً } وفيه قولان .
أحدهما : عُمياً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال ابن قتيبة : بيض العيون من العمى ، قد ذهب السواد ، والناظر .
والثاني : زُرق العيون من شدة العطش ، قاله الزهري . والمراد : أنه يشوِّه خَلْقَهم بسواد الوجوه ، وزرق العيون .
قوله تعالى : { يتخافتون بينهم } أي : يسارّ بعضهم بعضاً { إِن لبثتم } أي : ما لبثتم إِلا عشر ليال . وهذا على طريق التقليل ، لا على وجه التحديد .
وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان .
أحدهما : القبور . ثم فيه قولان . أحدهما : أنهم عَنَوا طول ما لبثوا فيها ، روى أبو صالح عن ابن عباس : إِن لبثتم بعد الموت إِلا عشراً . والثاني : ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ ، فيستقلُّون مدة لبثهم لهول ما يعاينون ، حكاه علي ابن أحمد النيسابوري .
والقول الثاني : أنهم عَنَوا لبثهم في الدنيا ، قاله الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { إِذ يقول أمثلهم طريقة } أي : أعقلهم ، وأعدلهم قولاً { إِن لبثتم إِلا يوماً } فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله تعالى : { ويسألونك عن الجبال } سبب نزولها أن رجالاً من ثقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا يا محمد : كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { فقل ينسفها ربي نسفاً } قال المفسرون : النسف : التذرية . والمعنى : يصيِّرها رِمالاً تسيل سيلاً . ثم يصيِّرها كالصوف المنفوش ، تطيِّرها الرياح فتستأصلها { فيذرها } أي : يدَع أماكنها من الأرض إِذا نسفها { قاعاً } قال ابن قتيبة : القاع من الأرض : المستوي الذي يعلوه الماء ، والصفصف : المستوي أيضاً ، يريد : أنه لا نبت فيها .
قوله تعالى : { لا ترى فيها عِوَجاً ولا أَمْتاً } في ذلك ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المراد بالعِوَج : الأودية ، وبالأمَتْ : الرَّوابي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وكذلك قال مجاهد : العِوَج : الانخفاض ، والأمَتْ : الارتفاع ، وهذا مذهب الحسن . وقال ابن قتيبة : الأمَتْ : النَّبَك .
والثاني : أن العِوَج : المَيْل ، والأَمْت : الأثَرَ مثل الشِّراك ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أن العِوَج : الصدع ، والأَمْت : الأَكَمة .
قوله تعالى : { يومئذ يَتَّبعون الداعي } قال الفراء : أي : يتَّبعون صوت الداعي للحشر ، لا عِوَج لهم عن دعائه : لا يقدرون أن لا يتَّبِعوا .
قوله تعالى : { وخَشَعَت الأصوات } أي : سكنت وخفيت { فلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً } وفيه ثلاثة أقوال .
أَحدها : وطْء الأقدام ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد في رواية ، واختاره الفراء ، والزجاج .
والثاني : تحريك الشفاه بغير نطق ، رواه سعيد بن جيير عن ابن عباس .
والثالث : الكلام الخفيّ ، روي عن مجاهد . وقال أبو عبيدة : الصوت الخفيّ .
قوله تعالى : { يومئذ لا تَنْفَع الشفاعة } يعني : لا تنفع أحداً { إِلا من أَذِنَ له الرحمن } أي : إِلا شفاعة من أَذِن له الرحمن ، أي : أَذِن أن يُشْفَع له ، { ورضي له قولاً } أي : ورضي للمشفوع فيه قولاً ، وهو الذي كان في الدنيا من أهل «لا إِله إِلا الله» . { يعلم ما بين أيديهم } الكناية راجعة إِلى الذين يتَّبعون الداعي . وقد شرحنا هذه الآية في سورة [ البقرة : 255 ] .
وفي هاء «به» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله تعالى ، قاله مقاتل .
والثاني : إِلى «ما بين أيديهم وما خلفهم» ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وعَنَتِ الوجوه } قال الزجاج : «عَنَتْ» في اللغة : خضعت ، يقال : عنا يعنو : إِذا خضع ، ومنه قيل : أُخِذتْ البلاد عَنْوَةً : إِذا أُخذتْ غَلَبة ، وأُخذتْ بخضوع من أهلها . والمفسرون : على أن هذا في يوم القيامة ، إِلا ما روي عن طلق بن حبيب : هو وضع الجبهة والأنف والكفّين والرُّكبتين وأطراف القدمين على الأرض للسجود . وقد شرحنا في آيةالكرسي معنى { الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] .
قوله تعالى : { وقد خاب مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } قال ابن عباس : خَسِر من أشرك بالله .
قوله تعالى : { ومَن يعملْ مِنَ الصالحات وهو مؤمن } «مِنْ» هاهنا للجنس . وإِنما شرط الإِيمان ، لأن غير المؤمن لا يُقبَل عملُه ، ولا يكون صالحاً ، { فلا يخاف } أي : فهو لا يخاف . وقرأ ابن كثير : «فلا يَخَفْ» على النهي .
قوله تعالى : { ظُلْماً ولا هَضماً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : لا يخاف أن يُظلَم فيُزاد في سيِّئاته ، ولا أن يُهضَم من حسناته ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : لا يخاف أن يُظلَم فيزاد من ذَنْب غيره ، ولا أن يُهضم من حسناته ، قاله قتادة .
والثالث : أن لا يخاف أن يؤاخَذ بما لم يعمل ، ولا يُنتقص من عمله الصالح ، قاله الضحاك .
والرابع : لا يخاف أن لا يُجزَى بعمله ، ولا أن يُنقَص من حَقِّه ، قاله ابن زيد . قال اللغويون : الهَضْم : النَّقْص ، تقول العرب : هضمتُ لك من حَقِّي ، أي : حَطَطْتُ ، ومنه : فلان هضيم الكَشْحَيْن ، أي : ضامر الجنبين ، ويقال : هذا شيء يهضم الطعام ، أي : ينقص ثِقْله . وفرق بعض المفسرين بين الظُّلم والهَضْم ، فقال : الظُّلم : منع الحق كلِّه ، والهضم : منع البعض ، وإِن كان ظُلْماً أيضاً .
قوله تعالى : { وكذلك أنزلناه } أي : وكما بيَّنَّا في هذه السورة ، أنزلناه ، أي : أنزلنا هذا الكتاب { قرآناً عربيّاً وصرَّفنا فيه من الوعيد } أي : بيَّنَّا فيه ضروب الوعيد . قال قتادة : يعني : وقائعه في الأمم المكذِّبة .
قوله تعالى : { لعلَّهم يَتَّقون } أي : ليكون سبباً لاتِّقائهم الشرك بالاتِّعاظ بِمَنْ قبلهم { أو يُحْدِثُ لهم } أي : يجدِّد لهم القرآن ، وقيل : الوعيد { ذِكْراً } أي : اعتباراً ، فيتذكَّروا به عِقاب الأمم ، فيعتبروا . وقرأ ابن مسعود ، وعاصم الجحدري : «أو نُحْدِثُ» بنون مرفوعة .
قوله تعالى : { فتعالى الله } أي : جَلَّ عن إِلحاد الملحِدين وقول المشركين في صفاته ، { المَلِكُ } الذي بيده كلُّ شيء ، { الحَقُّ } وقد ذكرناه في [ يونس : 32 ] .
قوله تعالى : { ولا تَعْجَل بالقرآن } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن جبريل كان يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالسورة والآي فيتلوها عليه ، فلا يفرغ جبريل من آخرها حتى يتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً لطم امرأته ، فجاءت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فنزلت هذه الآية ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى { الرجال قوامون على النساء } [ النساء 34 ] ، قاله الحسن البصري .
قوله تعالى : { مِنْ قَبْلِ أن يُقضى إِليكَ وَحْيُه } وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ويعقوب : «نَقْضِيَ» بالنون وكسر الضاد وفتح الياء «وَحْيَه» بنصب الياء .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه ، هذا على القول الأول .
والثاني : لا تُقرىء أصحابك حتى نبيِّن لك معانيه ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : لا تسأل إِنزاله قبل أن يأتيك الوحي ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وقل ربِّ زِدْنِي عِلْماً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : زِدْني قرآناً ، قاله مقاتل . والثاني : فهماً . والثالث : حفظاً ، ذكرهما الثعلبي .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله تعالى : { ولقد عَهِدْنا إِلى آدم } أي : أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة { مِنْ قَبْلُ } أي : مِنْ قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإِيمان بي ، وهم الذين ذكرهم في قوله : { لعلَّهم يَتَّقون } ، والمعنى : أنهم إِن نقضوا العهد ، فإن آدم قد عَهِدنا إِليه { فَنَسِيَ } .
وفي هذا النسيان قولان .
أحدهما : أنه التَّرك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والمعنى : ترك ما أُمِر به .
والثاني : أنه من النسيان الذي يخالف الذِّكْر ، حكاه الماوردي .
وقرأ معاذ القارىء ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : «فَنُسّيَ» برفع النون وتشديد السين .
قوله تعالى : { ولم نَجِدْ له عَزْماً } العَزْمُ في اللغة : توطينُ النفس على الفعل . وفي المعنى أربعة أقوال .
أحدها : لم نجد له حفظاً ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والمعنى : لم يحفظ ما أُمِر به .
والثاني : صبراً ، قاله قتادة ، ومقاتل ، والمعنى : لم يصبر عمَّا نُهي عنه .
والثالث : حزماً ، قاله ابن السائب . قال ابن الأنباري : وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم . وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب .
والرابع : عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب ، ذكره الماوردي . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ البقرة : 34 ] إِلى قوله تعالى : { فلا يخرجنَّكما من الجَنَّة فتشقى } قال المفسرون : المراد به نَصَب الدُّنيا وتعبها من تكلُّف الحرث والزرع والعجن والخَبزْ وغير ذلك . قال سعيد بن جبير : أُهبط إِلى آدم ثور أحمر ، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه ، فذلك شقاؤه . قال العلماء : والمعنى : فتشقَيا؛ وإِنما لم يقل : فتشقيا ، لوجهين .
أحدهما : أن آدم هو المخاطَب ، فاكتفى به ، ومثله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] ، قاله الفراء .
والثاني : أنه لما كان آدم هو الكاسب ، كان التعب في حَقِّه أكثر ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { إِن لكَ ألاَّ تجوع فيها ولا تَعْرى } قرأ أُبيّ بن كعب : «لا تُجاع ولا تُعرى» بالتاء المضمومة والألف . { وأنَّكَ لا تظمأُ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «وأَنَّكَ» مفتوحة الألف . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «وإِنَّكَ» بكسر الألف . قال أبو علي : من فتح ، حمله على أن لك أن لا تجوع ، وأن لك أن لا تظمأ ، ومن كسر ، استأنف .
قوله تعالى : { لا تَظْمَأُ فيها } أي : لا تعطش . يقال : ظمىء الرجل ظَمأً ، فهو ظمآن ، أي : عطشان . ومعنى { لا تَضْحَى } لا تبرز للشمس فيصيبك حَرُّها ، لأنه ليس في الجنة شمس .
قوله تعالى : { هل أَدُلُّكَ على شجرة الخُلْد } أي : على شجرةٍ مَنْ أكل منها لم يَمُتْ { ومُلْكٍ لا يَبْلَى } جديده ولا يفنى . وما بعد هذا مفسر في [ الأعراف : 22 ] .
وفي قوله تعالى : { فغوى } قولان .
أحدهما : ضلَّ طريق الخلود حيث أراده من قِبَل المعصية .
والثاني : فسد عليه عيشه ، لأن معنى الغيّ : الفساد .
قال ابن الأنباري : وقد غلط بعض المفسرين ، فقال : معنى «غوى» : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم ، كما يقال : غوى الفصيل : إِذا أكثر من لبن أَمِّه فبشم فكاد يهلك ، وهذا خطأٌ من وجهين .
أحدهما : أنه لا يقال من البشم : غَوَى يَغْوِي ، وإِنما يقال : غَوِي يَغْوَى .
والثاني : أن قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة } [ الأعراف : 22 ] يدل على أنهما لم يُكثِرا ، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إِلى الإِكثار . قال ابن قتيبة : فنحن نقول في حق آدم : عصى وغوى كما قال الله عز وجل ، ولا نقول : آدم عاصٍ وغاوٍ ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه : قد قطعه وخاطه ، ولا تقول : هذا خياط ، حتى يكون معاوداً لذلك الفعل ، معروفاً به .
قوله تعالى : { ثم اجتباه ربُّه } قد بيَّنَّا الاجتباء في [ الأنعام : 87 ] . { فتاب عليه وهدى } أي : هداه للتوبة . { قال اهْبِطا } في المشار إِليهما قولان .
أحدهما : آدم وإِبليس ، قاله مقاتل .
والثاني : آدم وحواء ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ومعنى قوله تعالى : { بعضكم لبعض عدوٌ } آدم وذريته ، وإِبليس وذريته ، والحية أيضاً؛ وقد شرحنا هذا في [ البقرة : 36 ] .
قوله تعالى : { فمن اتَّبَعَ هُدَاي } أي : رسولي وكتابي { فلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى } قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه سوء الحساب ، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم قرأ هذه الآية .
قوله تعالى : { ومن أعرض عن ذِكْري } قال عطاء : عن موعظتي . وقال ابن السائب : عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه .
قوله تعالى : { فإنَّ له معيشةً ضَنْكاً } قال أبو عبيدة : معناه : معيشة ضيِّقة ، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق ، فهو ضَنك ، وأنشد :
وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ ... وقال الزجاج : الضَّنْك أصله في اللغة : الضِّيق والشدَّة .
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال .
أحدها : أنها عذاب القبر ، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة " وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، والسدي .
والثاني : أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : شِدَّة عيشه في النار ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . قال ابن السائب : وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم .
والرابع : أن المعيشة الضَّنْك : كسب الحرام ، روى الضحاك عن ابن عباس قال : المعيشة الضَّنْك : أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها ، وله معيشة حرام يركض فيها .
قال الضحاك : فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث ، وبه قال عكرمة .
والخامس : أن المعيشة الضَّنْك : المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه ، رواه العوفي عن ابن عباس .
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال .
أحدها : القبر .
والثاني : الدنيا .
والثالث : جهنم .
وفي قوله تعالى : { ونحشره يوم القيامة أعمى } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «أعمى» «حشرتَني أعمى» بفتح الميمين . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما . وقرأ نافع بين الكسر والفتح . ثم في هذا العمى للمفسرين قولان .
أحدهما : أعمى البصر ، روى أبو صالح عن ابن عباس قال : إِذا أُخرج من القبر خرج بصيراً ، فإذا سيق إِلى المحشر عمي .
والثاني : أعمى عن الحُجَّة ، قاله مجاهد ، وأبو صالح . قال الزجاج : معناه : فلا حُجَّة له يهتدي بها ، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل .
قوله تعالى : { كذلك } أي : الأمر كذلك كما ترى { أتتكَ آياتنا فنسيتَها } أي : فتركتَها ولم تؤمن بها؛ وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار . { وكذلك } أي : وكما ذكرنا { نجزي من أسرف } أي : أشرك ، { ولَعذاب الآخرة أشدُّ } من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر { وأبقى } لأنه يدوم .
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لهم } أي : أفلم يتبيَّن لكفار مكة إِذا نظروا آثار مَنْ أهلكْنا مِنَ الأمم؛ وكانت قريش تتَّجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك ، فذلك قوله تعالى : { يمشون في مساكنهم } . وروى زيد عن يعقوب : «أفلم نَهْدِ» بالنون .
قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقتْ من ربِّك } في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إِلى يوم القيامة ، وقيل : إِلى يوم بدر ، وقيل : إِلى انقضاء آجالهم { لكان لزاماً } أي : لكان العذاب لزاماً ، أي : لازماً لهم . واللِّزام : مصدر وُصف به العذاب . قال الفراء وابن قتيبة : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : ولولا كلمة وأَجَل مسمّىً لكان لزاماً .
قوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إِلى أن يحكم الله فيهم ، ثم حكم فيهم بالقتل ، ونسخ بآية السيف إِطلاق الصّبر .
قوله تعالى : { وسبِّح بحمد ربِّك } أي : صلِّ له بالحمد له والثناء عليه { قبل طلوع الشمس } : يريد الفجر { وقبل غروبها } يعني : العصر { ومن آناء الليل } الآناء : الساعات ، وقد بيَّنَّاها في [ آل عمران : 113 ] ، { فسبِّح } أي : فصلِّ .
وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال .
أحدها : المغرب والعشاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثاني : جوف الليل ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : العشاء ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والرابع : أول الليل وأوسطه وآخره ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وأطرافَ النهار } المعنى : وسبِّح أطرافَ النهار . قال الفراء : إِنما هم طَرَفان ، فخرجا مخرج الجمع ، كقوله تعالى : { إِن تتوبا إِلى الله فقد صَغَتْ قلوبُكما } [ التحريم : 4 ] .
وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الظُّهر ، قاله قتادة؛ فعلى هذا ، إِنما قيل لصلاة الظهر : أطراف النهار ، لأن وقتها عند الزوال ، فهو طَرَف النِّصف الأول وطرف النِّصف الثاني .
والثاني : أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح ، قاله ابن زيد؛ وهذا على أن الفجر في ابتداء الطَّرف الأول ، والمغرب في انتهاء الطَّرف الثاني .
والثالث : أنها الفجر والظهر والعصر؛ فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول ، والظهر والعصر من الطرف الثاني ، حكاه الفراء .
قوله تعالى : { لعلَّك ترْضَى } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : «ترضى» بفتح التاء . وقرأ الكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بضمها . فمن فتح ، فالمعنى : لعلَّك ترضى ثواب الله الذي يُعطيك . ومَنْ ضمَّها ، ففيه وجهان .
أحدهما : لعلَّكَ ترضى بما تُعطى .
والثاني : لعلَّ الله أن يرضاك .
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
قوله تعالى : { ولا تَمُدَّنَّ عينيكَ } سبب نزولها ، ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فأرسلني إِلى رجل من اليهود يبيع طعاماً ، فقال : قل له : إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «بعني كذا وكذا من الدقيق ، أو أسلفني إِلى هلال رجب» ، فأتيته فقلت له ذلك ، فقال اليهودي : والله لا أبيعه ولا أسلفه إِلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه ، فقال : «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته ، وإِني لأمين في السماء أمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إِليه» " ، فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا . قال أُبيّ بن كعب : من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسراتٍ على الدنيا . وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر [ الحجر : 88 ] .
قوله تعالى : { زهرةَ الحياة الدنيا } وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والزهري ، ويعقوب : «زَهَرة» بفتح الهاء . قال الزجاج : وهو منصوب بمعنى «متَّعنا» ، لأن معنى «متَّعنا» : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة ، { لنفتنهم فيه } أي : لنجعل ذلك فتنة لهم . وقال ابن قتيبة : لنختبرهم . قال المفسرون : زهرة الدنيا : بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته ، وهو من زهرة النبات وحسنه .
قوله تعالى : { ورزق ربِّك خير وأبقى } فيه قولان .
أحدهما : أنه ثوابه في الآخرة .
والثاني : القناعة .
قوله تعالى : { وأْمُرْ أهلكَ بالصلاة } قال المفسرون : المراد بأهله : قومه ومن كان على دينه : ويدخل في هذا أهل بيته .
قوله تعالى : { واصطبر عليها } أي : واصبر على الصلاة { لا نسألكَ رزقاً } أي : لا نكلِّفك رزقاً لنفسك ولا لِخَلقنا ، إِنما نأمرك بالعبادة ورزقُكَ علينا ، { والعاقبةُ للتقوى } أي : وحُسن العاقبة لأهل التقوى . وكان بكر بن عبد الله المزني إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال : قوموا فصلُّوا ، ثم يقول : بهذا أمر الله تعالى ورسوله ، ويتلو هذه الآية .
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قوله تعالى : { وقالوا } يعني : المشركين { لولا } أي : هلاّ { يأتينا } محمد { بآية من ربِّه } أي : كآيات الأنبياء ، نحو الناقة والعصا ، { أوَلَم يأتهم } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «تأتهم» بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «يأتهم» بالياء .
قوله تعالى : { بيِّنة ما في الصحف الأولى } أي : أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لمَّا سألوا الآيات ثم كفروا بها ، فما يؤمِّنهم أن تكون حالُهم في سؤال الآيات كحال أولئك؟! { ولو أنَّا أهلكناهم } يعني : مشركي مكة { بعذاب من قبله } في الهاء قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى الكتاب ، قاله مقاتل .
والثاني : إِلى الرسول ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { لقالوا } يوم القيامة { ربَّنا لولا } أي : هلاّ { أرسلتَ إِلينا رسولاً } يدعونا إِلى طاعتك { فنتَّبع آياتك } أي : نعمل بمقتضاها { من قبل أن نَذِلَّ } بالعذاب { ونَخْزَى } في جهنم . وقرأ ابن عباس ، وابن السميفع ، وأبو حاتم عن يعقوب : «نُذَلَّ» «ونُخْزَى» برفع النون فيهما ، وفتح الذال . { قل } لهم يا محمد : { كُلٌّ } منا ومنكم { متربِّص } أي : نحن نتربَّص بكم العذاب في الدنيا ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر { فتربَّصوا } أي : فانتظروا { فستعلمون } إِذا جاء أمر الله { مَنْ أصحابُ الصِّراط السَّويِّ } أي : الدِّين المستقيم { ومَنِ اهتدى } من الضلالة ، أنحن ، أم أنتم؟ وقيل : هذه منسوخة بآية السيف ، وليس بشيء .
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف نعلمه .
قوله عز وجل : { اقترب } افتعل ، من القُرْب ، يقال : قَرُبَ الشيء واقترب . وهذه الآية نزلت في كفار مكة . وقال الزجاج : اقترب للناس وقت حسابهم . وقيل : اللام في قوله : { للناس } بمعنى : «مِنْ» . والمراد بالحساب : محاسبة الله لهم على أعمالهم .
وفي معنى قُرْبِهِ قولان .
أحدهما : أنه آتٍ ، وكلُّ آتٍ قريبٌ .
والثاني : لأن الزمان لِكثرة ما مضى وقِلَّة ما بقي قريبٌ .
قوله تعالى : { وهُمْ في غفلة } أي : عمَّا يفعل الله بهم ذلك اليوم { معرضون } عن التأهُّب له . وقيل : «اقترب للناس» عامٌّ ، والغفلة والإِعراض خاص في الكفار ، بدلالة قوله تعالى : { ما يأتيهم من ذِكْرٍ من ربهم مُحْدَثٍ } ، وفي هذا الذِّكْر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا تكون الإِشارة بقوله : «مُحْدَثٍ» إِلى إِنزاله له ، لأنه أُنْزِل شيئاً بعد شيء .
والثاني : أنه ذِكْر من الأذكار ، وليس بالقرآن ، حكاه أبو سليمان الدمشقي . وقال النقاش : هو ذِكْر من رسول الله ، وليس بالقرآن .
والثالث : أنه رسول الله ، بدليل قوله في سياق الآية : { هل هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكم } ، قاله الحسن ابن الفضل .
قوله تعالى : { إِلا استَمَعُوه وهم يلعبون } قال ابن عباس : يستمعون القرآن مستهزئين .
قوله تعالى : { لاهيةً قلوبُهم } أي : غافلةً عما يُراد بهم . قال الزجاج : المعنى : إِلا استمعوه لاعبين لاهيةً قلوبهم؛ ويجوز أن يكون منصوباً بقوله : «يلعبون» . وقرأ عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : «لاهيةٌ» بالرفع .
قوله تعالى : { وأسرُّوا النَّجوى } أي : تناجَوا فيما بينهم ، يعني المشركين . ثم بيَّن مَنْ هم فقال : { الذين ظَلَمُوا } أي : أَشْرَكوا بالله . و«الذين» في موضع رفع على البدل من الضمير في «وأَسَرُّوا» . ثم بيَّن سِرَّهم الذي تناجَوْا به فقال : { هل هذا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكم } أي : آدميٌّ ، فليس بملك؛ وهذا إِنكار لنبوَّته . وبعضهم يقول : «أسرُّوا» هاهنا بمعنى : أظهروا ، لأنه من الأضداد .
قوله تعالى : { أفتأتون السِّحر } أي : أفتقبلون السِّحر { وأنتم تعلمون } أنه سِحْر؟! يعنون أن متابعة محمد صلى الله عليه وسلم متابعةُ السِّحر . { قُل ربِّي } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «قل ربي» . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «قال ربِّي» ، وكذلك هي في مصاحف الكوفيين ، وهذا على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يعلم القول ، أي : لا يخفى عليه شيء يقال في السماء والأرض ، فهو عالم بما أسررتم . { بل قالوا } قال الفراء : رَدَّ ب «بل» على معنى تكذيبهم ، وإِن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم ، لأن معناه الإِخبار عن الجاحدين ، وأعلمَ أن المشركين كانوا قد تحيَّروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلفت أقوالهم فيه ، فبعضهم يقول : هذا الذي يأتي به سِحْر ، وبعضهم يقول : أضغاث أحلام ، وهي الأشياء المختلطة تُرى في المنام؛ وقد شرحناها في [ يوسف : 44 ] ، وبعضهم يقول : افتراه ، أي : اختلقه ، وبعضهم يقول : هو شاعر فليأتنا بآية كالناقة والعصا ، فاقترحوا الآيات التي لا إِمهال بعدها .
قوله تعالى : { ما آمنتْ قبلَهم } يعني : مشركي مكة { مِنْ قرية } وصف القرية ، والمراد أهلها ، والمعنى : أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات ، لم يؤمنوا بالآيات لمَّا أتتهم ، فكيف يؤمن هؤلاء؟! وهذه إِشارة إِلى أن الآية لا تكون سبباً للإِيمان ، إِلا أن يشاء الله .
قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إِلا رجالاً } هذا جواب قولهم : «هل هذا إِلاّ بَشَر مِثْلُكم» .
قوله تعالى : { نُوحي إِليهم } قرأ الأكثرون : «يوحَى» بالياء . وروى حفص عن عاصم : «نُوحي» بالنون . وقد شرحنا هذه الآية في [ النحل : 43 ] .
قوله تعالى : { وما جعلناهم } يعني الرسل { جَسَداً } قال الفراء : لم يقل : أجساداً ، لأنه اسم الجنس . قال مجاهد : وما جعلناهم جسداً ليس فيهم روح . قال ابن قتيبة : ما جعلنا الانبياء قبله أجساداً لا تأكل الطعام لا تموت فنجعله كذلك . قال المبرد وثعلب جميعاً : العرب إِذا جاءت بين الكلام بجحدين ، كان الكلام إِخباراً ، فمعنى الآية : إِنما جعلناهم جسداً ليأكلوا الطعام . قال قتادة : المعنى : وما جعلناهم جسداً إِلا ليأكلوا الطعام .
قوله تعالى : { ثم صَدَقْناهم الوعدَ } يعني : الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك مكذِّبيهم { فأنجيناهم ومَنْ نشاء } وهم الذين صدَّقوهم { وأهلكنا المُسْرِفين } يعني : أهل الشِّرك؛ وهذا تخويف لأهل مكة . ثم ذكر منَّته عليهم بالقرآن فقال : { لقد أنزلنا إِليكم كتاباً فيه ذِكْرُكم } ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فيه شرفكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : فيه دِينكم ، قاله الحسن ، يعني : فيه ما تحتاجون إِليه من أمر دينكم .
والثالث : فيه تذكرة لكم لِمَا تلقَونه من رَجعة أو عذاب ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أفلا تعقلون } ما فضَّلْتُكم به على غيركم .
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
ثم خوَّفهم فقال : { وكم قصمنا } قال المفسرون واللغويون : معناه : وكم أهلكنا ، وأصل القصم : الكسر . وقوله : { كانت ظالمة } ، أي : كافرة ، والمراد : أهلها . { فلما أَحَسُّوا بأسنا } أي : رأَوا عذابنا بحاسَّة البصر { إِذا هم منها يَرْكُضون } أي : يَعْدُون ، وأصل الرَّكْض : تحريكُ الرِّجلين ، يقال : رَكَضْتُ الفَرَس : إِذا أَعْدَيته بتحريك رِجليكَ فعدا .
قوله تعالى : { لا تَرْكُضوا } قال المفسرون : هذا قول الملائكة لهم : { وارجعوا إِلى ما أُترفتم فيه } أي : إِلى نعَمكم التي أترفتْكم ، وهذا توبيخ لهم .
وفي قوله : { لعلكم تُسأَلون } قولان .
أحدهما : تُسألون من دنياكم شيئاً ، استهزاءً بهم ، قاله قتادة .
والثاني : تُسأَلون عن قتل نبيِّكم ، قاله ابن السائب . فلما أيقنوا بالعذاب { قالوا يا ويلنا إِنَّا كنَّا ظالمين } بكفرنا ، وقيل : بتكذيب نبيِّنا . { فما زالت تلك دعواهم } ، أي : ما زالت تلك الكلمة التي هي «يا ويلنا إِنَّا كنَّا ظالمين» قولهم يردِّدونها { حتى جعلناهم حصيداً } بالعذاب ، وقيل : بالسيوف { خامدين } ، أي : ميتين كخمود النار إِذا طُفِئَتْ .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
قوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } أي : لم نخلق ذلك عبثاً ، إِنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيَّتِنا ليعتبر الناس بخَلْقه ، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إِلا لخالقه ، لنجازيَ أولياءنا ، ونعذِّبَ أعداءنا .
قوله تعالى : { لو أردنا أن نَتَّخذ لهواً } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن المشركين لما قالوا : الملائكة بنات الله والآلهة بناته ، نزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن نصارى نجران قالوا : إِن عيسى ابن الله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال .
أحدها : الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال السدي . قال الزجاج : المعنى : لو أردنا أن نتخذ ولداً ذا لهوٍ نُلْهَى به .
والثاني : المرأة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة .
والثالث : اللعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
قوله تعالى : { لاتَّخذناه من لَدُنَّا } قال ابن جريج : لاتَّخذنا نساءً أو ولداً من أهل السماء ، لا من أهل الأرض . قال ابن قتيبة : وأصل اللهو : الجماع ، فكُنِّي عنه باللهو ، كما كُنِّيَ عنه بالسِّرِّ ، والمعنى : لو فعلنا ذلك لاتَّخذناه من عندنا ، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده ، لا عند غيره .
وفي قوله { إِنْ كنا فاعلين } قولان .
أحدهما : أن «إِنْ» بمعنى «ما» ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
والثاني : أنها بمعنى الشرط . قال الزجاج : والمعنى : إِن كنا نفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله؛ قال : والقول الأول قول المفسرين ، والثاني : قول النحويين ، وهم يستجيدون القول الأول أيضاً ، لأن «إِنْ» تكون في موضع النفي ، إِلا أنَّ أكثر ما تأتي مع اللام ، تقول : إِن كنت لَصالحاً ، معناه : ما كنت إِلاَّ صالحاً .
قوله تعالى : { بل } أي : دع ذاك الذي قالوا ، فإنه باطل { نقذف بالحق } أي : نسلّط الحق وهو القرآن { على الباطل } وهو كذبهم { فَيَدْمَغُهُ } قال ابن قتيبة : أي : يكسره ، وأصل هذا إِصابة الدماغ بالضرب ، وهو مقتل { فإذا هو زاهق } أي : زائل ذاهب . قال المفسرون : والمعنى : إِنا نبطل كذبهم بما نبيِّن من الحق حتى يضمحلَّ ، { ولكم الويل مما تَصِفُون } أي : من وصفكم الله بما لا يجوز { وله من في السموات والأرض } يعني : هم عبيده ومُلْكه { ومَنْ عنده } يعني : الملائكة .
وفي قوله : { ولا يَسْتَحْسِرُون } ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يرجعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : لا ينقطعون ، قاله مجاهد . وقال ابن قتيبة : لا يعيَون ، والحَسِر : المنقطع الواقف إِعياءً وكلالاً .
والثالث : لا يملُّون ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { لا يَفْتُرون } قال قتادة : لا يسأَمون . وسئل كعب : أما يَشْغَلُهم شأن؟ أما تَشْغَلُهم حاجة؟ فقال للسائل : يا ابن أخي ، جُعل لهم التسبيحُ كما جُعل لكم النَّفَسُ ، ألستَ تأكل وتشرب وتقوم وتجلس وتجيء وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس؟! فكذلك جُعل لهم التسبيح .
ثم إِن الله تعالى عاد إِلى توبيخ المشركين فقال : { أم اتَّخَذوا آلهة من الأرض } لأن أصنامهم من الأرض هي ، سواء كانت من ذهب أو فضة أو خشب أو حجارة { هُمْ } يعني : الآلهة { يُنْشِرون } أي : يُحْيُون الموتى . وقرأ الحسن : «يَنشُرون» بفتح الياء وضم الشين . وهذا استفهام بمعنى الجحد ، والمعنى : ما اتخذوا آلهة تَنْشُر ميتاً . { لو كان فيهما } يعني : السماء والأرض { آلهةٌ } يعني : معبودين { إِلا الله } قال الفراء : سوى الله . وقال الزجاج : غير الله .
قوله تعالى : { لفَسَدَتَا } أي : لخربتا وبطلتا وهلكَ من فيهما ، لوجود التمانع بين الآلهة ، فلا يجري أمر العالَم على النظام ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعداً لم يَسْلَم من الخلاف .
قوله تعالى : { لا يُسأَل عمَّا يَفْعَل } أي : عمَّا يَحْكُم في عباده من هدي وإِضلال ، وإِعزاز وإِذلال ، لأنه المالك للخلق ، والخلق يُسأَلون عن أعمالهم؛ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم ، ولمَّا أبطل عز وجل أن يكون إِله سواه من حيث العقل بقوله : { لفسدتا } ، أبطل ذلك من حيث الأمر فقال : { أم اتَّخَذوا من دونه آلهة } وهذا استفهام إِنكار وتوبيخ { قل هاتوا برهانكم } على ما تقولون ، { هذا ذِكْر مَنْ معي } يعني : القرآن خبر مَن معي على ديني ممن يتبعني إِلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية { وذِكْر مَنْ قبلي } يعني : الكتب المنزلة ، والمعنى : هذا القرآن ، وهذه الكتب التي أُنزلت قبله ، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إِله سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به . قال الزجاج : قيل لهم : هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أخبر أُمَّته بأن لهم إلهاً غير الله! .
قوله تعالى : { بل أكثرهم } يعني : كفار مكة { لا يعلمون الحقَّ } وفيه قولان .
أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني : التوحيد ، قاله مقاتل . { فهم مُعْرِضُون } عن التفكُّر والتأمُّل وما يجب عليهم من الإِيمان .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى : { مِنْ رسولٍ إِلا نوحِى } قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «إِلا نوحي» بالنون؛ والباقون بالياء .
قوله تعالى : { وقالوا اتَّخَذ الرحمن ولداً } في القائلين لهذا قولان .
أحدهما : أنهم مشركو قريش ، قاله ابن عباس . وقال ابن إِسحاق : القائل لهذا النضر بن الحارث .
والثاني : أنهم اليهود ، قالوا : إِن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة ، قاله قتادة . فعلى القولين ، المراد بالولد : الملائكة ، وكذلك المراد بقوله : { بل عباد مُكْرَمون } ، والمعنى : بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم ، { لا يسبقونه بالقول } ، أي : لا يتكلَّمون إِلا بما يأمرهم به . وقال ابن قتيبة : لا يقولون حتى يقول ، ثم يقولون عنه ، ولا يعملون حتى يأمرهم .
قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم } أي : ما قدَّموا من الأعمال { وما خَلْفَهم } ما هم عاملون ، { ولا يشفعون } يوم القيامة ، وقيل : لا يستغفرون في الدنيا { إِلا لِمَن ارتضى } أي : لِمَن رضي عنه ، { وهم مِنْ خشيته } أي : من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إِلى المفعول ، { مُشْفِقون } أي : خائفون . وقال الحسن : يرتعدون . { ومَنْ يَقُل منهم } أي : من الملائكة . قال الضحاك في آخرين : هذه خاصة لإِبليس ، لم يَدْعُ أحد من الملائكة إِلى عبادة نفسه سواه ، قال أبو سليمان الدمشقي : وهذا قول من قال إِنه من الملائكة ، فإن إِبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إِلى الأرض ، ومن قال : إِنه ليس من الملائكة ، قال : هذا على وجه التهديد ، وما قال أحد من الملائكة ذلك .
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قوله تعالى : { أولم ير الذين كفروا } أي : أولم يعلموا . وقرأ ابن كثير : «ألم ير الذين كفروا» بغير واو بين الألف واللام ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة ، { أنَّ السموات والأرض كانتا رَتْقاً ففتقناهما } قال أبو عبيدة : السموات جمع ، والأرض واحدة ، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إِذا أشركوا بين جمع وبين واحد؛ والرَّتْق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء ، ومعنى الرَّتْق : الذي ليس فيه ثقب . قال الزجاج : المعنى : كانتا ذواتَي رَتْق ، فجعلهما ذوات فتق ، وإِنما لم يقل : «رَتْقَيْنِ» لأن الرَّتق مصدر .
وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال .
أحدها : أن السموات كانت رَتْقاً لا تُمْطِر ، وكانت الأرض رَتْقاً لا تُنْبِت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات . رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد في رواية ، والضحاك في آخرين .
والثاني : أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففتقهما الله تعالى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .
والثالث : أنَّه فَتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعاً ، ومن السماء ست سموات فصارت سبعاً ، رواه السدي عن أشياخه ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .
قوله تعالى : { وجَعَلْنَا من الماء كلَّ شيء حيٍّ } وقرأ معاذ القارىء ، وابن أبي عبلة ، وحميد بن قيس : «كلَّ شيء حيّاً» بالنصب .
وفي هذا الماء قولان .
أحدهما : أنه الماء المعروف ، والمعنى : جعلنا الماء سبباً لحياة كل حيٍّ ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه النُّطفة ، قاله أبو العالية .
قوله تعالى : { وجعلنا في الأرض رواسي } قد فسرناه في [ النحل 15 ] .
قوله تعالى : { وجعلنا فيها } أي : في الرواسي { فِجَاجاً } ، قال أبو عبيدة : هي المسالك . قال الزجاج : الفِجَاج جمع فَجّ ، وهو كل منخَرق بين جبلين ، ومعنى { سُبُلاً } طرقاً . قال ابن عباس : جعلنا من الجبال طُرُقاً كي تهتدوا إِلى مقاصدكم في الأسفار . قال المفسرون : وقوله : «سبلاً» تفسير للفِجَاج ، وبيان أن تلك الفِجَاج نافذة مسلوكة ، فقد يكون الفَجُّ غير نافذ . { وجعلنا السماء سقفاً } أي : هي للأرض كالسقف .
وفي معنى { محفوظاً } قولان .
أحدهما : بالنجوم من الشياطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : محفوظاً من الوقوع إِلا باذن الله ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وهُمْ } يعني : كفار مكة { عن آياتها } أي : شمسها وقمرها ونجومها ، قال الفراء : وقرأ مجاهد : «عن آيتها» فوحَّده ، فجعل السماء بما فيها آية؛ وكلٌّ صوابٌ .
قوله تعالى : { كلٌّ } يعني : الطوالع { في فَلَك } قال ابن قتيبة : الفَلَك : مدار النجوم الذي يضمُّها ، وسمَّاه فَلَكاً ، لاستدارته . ومنه قيل : فَلْكَة المِغْزَل ، وقد فَلكَ ثَدْيُ المرأة . قال أبو سليمان : وقيل : إِن الفَلَك كهيئة الساقية من ماء مستديرة دون السماء وتحت الأرض ، فالأرض وسطها ، والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفَلَك ، وليس الفَلَك يُديرها . ومعنى «يَسْبَحون» : يَجْرُون . قال الفراء : لمَّا كانت السِّباحة من أفعال الآدميين ، ذُكِرَتْ بالنون ، كقوله : { رأيتُهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] ، لأن السجود من أفعال الآدميين .
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
قوله تعالى : { وما جعلنا لِبَشَرٍ مِنْ قبلك الخُلْدَ } سبب نزولها أن ناساً قالوا : إِن محمداً لا يموت ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : ما خلَّدنا قبلكَ أحداً من بني آدم؛ والخُلْد : البقاء الدائم . { أفإن مِتَّ فَهُمُ الخالدون } يعني : مشركي مكة ، لأنهم قالوا : { نتربَّص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] .
قوله تعالى : { ونبلُوكم بالشرِّ والخير } قال ابن زيد : نختبركم بما تحبُّون لننظر كيف شكركم ، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم .
قوله تعالى : { وإِلينا يُرْجَعون } [ قرأ ابن عامر : «تَرجعون» بتاء مفتوحة . وروى ابن عباس عن أبي عمرو : «يُرجعون» ] بياء مضمومة . وقرأ الباقون بتاء مضمومة .
قوله تعالى : { وإِذا رآكَ الذين كَفَروا } قال ابن عباس : يعني المستهزئين ، وقال السدي : نزلت في أبي جهل ، مَرَّ به رسول الله ، فضحك وقال : هذا نَبيُّ بني عبد مناف . و«إِن» بمعنى «ما» ومعنى { هُزُواً } مهزوءاً به { أهذا الذي يَذْكُر آلهتكم } أي : يعيب أصنامكم ، وفيه إِضمار «يقولون» ، { وهم بِذِكْر الرحمن هم كافرون } وذلك أنهم قالوا : ما نعرف الرحمن ، فكفروا بالرحمن .
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
قوله تعالى : { خُلِقَ الإِنسانُ من عَجَلٍ } وقرأ أبو رزين العُقيلي ، ومجاهد ، والضحاك : «خَلَقَ الإنسانَ» بفتح الخاء واللام ونصب النون . وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب .
وفي المراد بالإِنسان هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : النضر بن الحارث ، وهو الذي قال : { اللهم إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك . . . } الآية [ الانفال : 32 ] ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : آدم عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي في آخرين .
والثالث : أنه اسم جنس ، قاله علي بن أحمد النيسابوري؛ فعلى هذا يدخل النضر ابن الحارث وغيره في هذا وإِن كانت الآية نزلت فيه .
فأمَّا من قال : أُرِيدَ به آدم ، ففي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنه خُلق عجولاً ، قاله الأكثرون . فعلى هذا يقول : لما طُبع آدم على هذا المعنى ، وُجد في أولاده ، وأورثهم العَجَل .
والثاني : خُلق بعَجَل ، استَعجل بخَلْقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة ، وهو آخر الأيام الستة ، قاله مجاهد .
فأما من قال : هو اسم جنس ، ففي معنى الكلام قولان .
أحدهما : خُلِقَ عَجُولاً؛ قال الزجاج : خوطبت العرب بما تعقل ، والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب : إِنما خُلقتَ من لَعِب ، يريدون المبالغة في وصفه بذلك .
والثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والمعنى : خُلقتِ العجلة في الإِنسان ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { سأُريكم آياتي } فيه قولان .
أحدهما : ما أصاب الأمم المتقدِّمة؛ والمعنى : إِنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين ، قاله ابن السائب .
والثاني : أنها القتل ببدر ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فلا تستعجلون } أثبت الياء في الحالين يعقوب .
قوله تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد } يعنون : القيامة . { لو يعلم الذين كفروا } جوابه محذوف ، والمعنى : لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا ، { حين لا يكفُّون } أي : لا يدفعون { عن وجوههم النار } إِذا دخلوا { ولا عن ظهورهم } لإِحاطتها بهم { ولا هم يُنصَرون } أي : يُمنَعون مما نزل بهم ، { بل تأتيهم } يعني : الساعة { بغتةً } فجأَةً { فَتَبْهَتُهم } تحيِّرهم؛ وقد شرحنا هذا عند قوله : { فبُهت الذي كفر } [ البقرة : 258 ] ، { فلا يستطيعون ردَّها } أي : صرفها عنهم ، ولا هم يُمْهَلون لتوبة أو معذرة . ثم عزّى نبيّه ، فقال : { ولقد استهزىء برسل من قبلك } أي : كما فعل بك قومك { فحاق } أي نزل { بالذين سَخِروا منهم } أي : من الرسل { ما كانوا به يستهزؤون } يعني : العذاب الذي كانوا استهزؤوا به .
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
قوله تعالى : { قل من يكلؤكم } المعنى : قل لهؤلاء المستعجِلين بالعذاب : من يحفظكم من بأس الرحمن إِن أراد إِنزاله بكم؟! وهذا استفهام إِنكار ، أي : لا أحد يفعل ذلك ، { بل هم عن ذِكْر ربِّهم } أي : عن كلامه ومواعظِهِ { مُعْرِضون } لا يتفكَّرون ولا يعتبرون . { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وهاهنا تم الكلام . ثم وصف آلهتهم بالضعف ، فقال : { لا يستطيعون نصر أنفسهم } والمعنى : من لا يقدر على نصر نفسه عمّا يُراد به ، فكيف ينصُر غيره؟!
قوله تعالى : { ولا هم } في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم الكفار وهو قول ابن عباس .
والثاني : أنهم الأصنام ، قاله قتادة .
وفي معنى { يُصْحَبُونَ } أربعة أقوال .
أحدها : يُجارُون ، رواه العوفي عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : والمعنى : لا يجيرهم منَّا أحدٌ ، لأن المجير صاحب لجاره .
والثاني : يُمنعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : يُنصرون ، قاله مجاهد .
والرابع : لا يُصحبون بخير ، قاله قتادة .
ثم بيَّن اغترارهم بالإِمهال ، فقال : { بل متَّعنا هؤلاء وآباءَهم } يعني أهل مكة { حتى طال عليهم العُمُر } فاغترُّوا بذلك ، { أفلا يرون أنا نأتي الأرض نَنْقُصُها من أطرافها } قد شرحناه في [ الرعد : 41 ] ، { أفَهُمُ الغالبون } أي : مع هذه الحال ، وهو نقص الأرض ، والمعنى : ليسوا بغالبين ، ولكنَّهم المغلوبون . { قل إِنما أُنذرِكُم } أي : أُخَوِّفكم { بالوحي } أي : بالقرآن ، والمعنى : إنني ما جئتُ به من تلقاء نفسي ، إنِما أُمِرْتُ فبلَّغتُ ، { ولا يسمع الصُّمُّ الدُّعاءَ } وقرأ ابن عامر : «ولا تُسْمِعُ» بالتاء مضمومة «الصُّمَّ» نصباً . وقرأ ابن يعمر ، والحسن : «ولا يُسْمَعُ» بضم الياء وفتح الميم «الصُّمُّ» بضم الميم . شبَّه الكفار بالصُمّ الذين لا يسمعون نداء مناديهم؛ ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا ، كالصُمِّ لا يفيدهم صوت مناديهم . { ولئن مسَّتهم } أي : أصابتهم { نَفْحَةٌ } قال ابن عباس : طرف . وقال الزجاج : المراد أدنى شيء من العذاب ، { ليقولُنَّ ياويلنا } والويل ينادي به كلُّ من وقع في هلَكة .
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
قوله تعالى : { ونضعُ الموازينَ القِسْطَ } قال الزجاج : المعنى : ونضع الموازين ذوات القسط ، والقسط : العدل ، وهو مصدر يوصف به ، يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط . قال الفراء : القسط من صفة الموازين وإِن كان موحَّداً ، كما تقول : أنتم عدل ، وأنتم رضىً . وقوله : { ليوم القيامة } و«في يوم القيامة» سواء . وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول [ الأعراف : 8 ] .
فإن قيل : إِذا كان الميزان واحداً ، فما المعنى بذكر الموازين؟
فالجواب : أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنةً بعد وزنة ، سمِّيت موازين .
قوله تعالى : { فلا تُظْلَم نفس شيئاً } أي : لا يُنْقَص محسن من إِحسانه ، ولا يُزاد مسيء على إِساءته { وإِن كان مثقالَ حَبَّة } أي : وزن حبة . وقرأ نافع : «مثقالُ» برفع اللام . قال الزجاج : ونصب «مثقالَ» على معنى : وإِن كان العمل مثقال حبة . وقال أبو علي الفارسي : وإِن كان الظُّلامة مثقال حبة ، لقوله تعالى : { فلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئاً } . قال : ومن رفع ، أسند الفعل إِلى المثقال ، كما أسند في قوله تعالى : { وإِن كان ذو عُسْرة } [ البقرة : 280 ] .
قوله تعالى : { أتينا بها } أي : جئنا بها . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد : «آتينا» ممدودة ، أي : جازينا بها .
قوله تعالى : { وكفى بنا حاسبين } قال الزجاج : هو منصوب على وجهين ، أحدهما : التمييز ، والثاني : الحال .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التوارة التي فرَّق بها بين الحلال والحرام ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون ، قاله ابن زيد .
والثالث : النصر والنجاة لموسى ، وإِهلاك فرعون ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وضياءً } روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة؛ قال الزجاج : وكذلك قال بعض النحويين أن المعنى : الفرقان ضياء ، وعند البصرين : أن الواو لا تُزاد ولا تأتي إِلا بمعنى العطف ، فهي هاهنا مثل قوله تعالى : { فيها هدىً ونورٌ } [ المائدة : 44 ] . قال المفسرون : والمعنى أنهم استضاؤوا بالتوراة حتى اهتدَوا بها في دينهم . ومعنى قوله تعالى : { وذِكْراً للمتَّقين } أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه . { الذين يخشون ربَّهم بالغيب } فيه أربعة أقوال .
أحدها : يخافونه ولم يرَوه ، قاله الجمهور .
والثاني : يخشَون عذابه ولم يروه ، قاله مقاتل .
والثالث : يخافونه من حيث لا يراهم أحد ، قاله الزجاج .
والرابع : يخافونه إِذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم إِذا كانوا بين الناس ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم عاد إِلى ذِكْر القرآن ، فقال : { وهذا } يعني : القرآن { ذِكْرٌ } لمن تذكَّر به ، وعظة لمن اتَّعظ { مباركٌ } أي : كثير الخير { أفأنتم } يا أهل مكة { له مُنْكِرون } أي : جاحدون؟! وهذا استفهام توبيخ .
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قوله تعالى : { ولقد آتينا إِبراهيم رُشْدَهُ } أي : هُداه { مِنْ قَبْلُ } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من قبل بلوغه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : آتيناه ذلك في العِلْم السابق ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : مِنْ قَبْل موسى وهارون ، قاله الضحاك . وقد أشرنا إِلى قصة إِبراهيم في [ الأنعام : 75 ] .
قوله تعالى : { وكُنَّا به عالِمين } أي : علمنا أنه موضع لإِيتاء الرُّشد . ثم بيَّن متى آتاه فقال : { إِذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } يعني : الأصنام . والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بِخَلْق من خَلْق الله تعالى ، وأصله من مثَّلث الشيء بالشيء : إِذا شبَّهته به . وقوله : { التي أنتم لها } أي : على عبادتها { عاكفون } أي : مقيمون ، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدَوا بهم ، فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءَهم في ضلال مبين ، { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } يعنون : أجادٌّ أنتَ ، أم لاعب؟!
قوله تعالى : { لأكيدنَّ أصنامكم } الكيد : احتيال الكائد في ضرّ المكيد . والمفسرون يقولون : لأكيدنها بالكسر { بعد أن تُوَلُّوا } أي : تذهبوا عنها ، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إِليه ولا يخلِّفون بالمدينة أحداً ، فقالوا لإِبراهيم : لو خرجتَ معنا إِلى عيدنا أعجبكَ دِيننا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ، قال : إِني سقيم ، وألقى نفسه ، وقال سِرّاً منهم : «وتالله لأكيدنَّ أصنامكم» ، فسمعه رجل منهم ، فأفشاه عليه ، فرجع إِلى بيت الأصنام ، وكانت فيما ذكره مقاتل بن سليمان اثنين وسبعين صنماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب ، فكسرها ، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير ، فذلك قوله : { فجعلهم جُذاذاً } قرأ الأكثرون : «جُذاذاً» بضم الجيم . وقرأ أبو بكر الصدّيق ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن محيصن ، والأعمش ، والكسائي : «جِذاذاً» بكسر الجيم . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأيوب السختياني ، وعاصم الجحدري : «جَذاذاً» بفتح الجيم . وقرأ الضحاك ، وابن يعمر : «جَذذاً» بفتح الجيم من غير ألف . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو حيوة ، وابن وثَّاب : «جُذذاً» بضم الجيم من غير ألف . قال أبو عبيدة : أي : مستأصَلين ، قال جرير :
بَني المهلَّب جَذَّ اللهُ دَابِرَهُم ... أَمْسَوْا رَمَاداً فلا أصلٌ ولا طَرَفُ
أي : لم يَبْقَ منهم شيء ، ولفظ «جُذاذ» يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث . وقال ابن قتيبة : «جُذاذاً» أي : فُتاتاً ، وكلُّ شيء كسرتَه فقد جَذَذْتَه ، ومنه قيل للسَّويق : الجذيذ . وقرأ الكسائي : «جِذاذاً» بكسر الجيم على أنه جمع جَذيذ ، مثل ثَقيل وثِقال ، وخَفيف وخِفاف . والجذيذ بمعنى : المجذوذ ، وهو المكسور . { إِلا كبيراً لهم } أي : كسر الأصنامَ إِلا أكبرها . قال الزجاج : جائز أن يكون أكبرها في ذاته ، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إِياه ، { لعلَّهم إِليه يَرْجِعون } ، في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى الصنم . ثم فيه قولان .
أحدهما : لعلهم يرجعون إِليه فيشاهدونه ، هذا قول مقاتل .
والثاني : لعلهم يرجعون إِليه بالتهمة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
والثاني : أنها ترجع إِلى إِبراهيم . والمعنى : لعلهم يرجعون إِلى دين إِبراهيم بوجوب الحُجَّة عليهم ، قاله الزجاج .
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم { قالوا مَنْ فعل هذا بآلهتنا إِنه لمن الظالمين } أي : قد فعل ما لم يكن له فِعْلُه ، فقال الذي سمع إِبراهيم يقول : «لأكيدن أصنامكم» : { سمعنا فتى يَذْكرهم } قال الفراء : أي : يَعيبهم؛ نقول للرجل : لئن ذكرتَني لتندمنَّ ، تريد : بسوء .
قوله تعالى : { فَأْتُوْا به على أعيُن الناس } أي : بمرأىً منهم ، لا تأتُوا به خفْيةً . قال أبو عبيدة : تقول العرب إِذا أُظهر الأمر وشُهر : كان ذلك على أعين الناس .
قوله تعالى : { لعلهم يَشهدون } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة .
والثاني : يشهدون أنه فعل ذلك ، قاله السدي .
والثالث : يشهدون عقابه وما يُصنَع به ، قاله محمد بن إِسحاق .
قال المفسرون : فانطلَقوا به إِلى نمرود ، فقال له : { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إِبراهيم؟ قال بل فعله كبيرهم هذا } غضب أن تُعبَد معه الصغار ، فكسرها ، { فاسألوهم إِن كانوا يَنْطِقون } من فَعَلَه بهم؟! وهذا إِلزام للحُجَّة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النُّطق .
واختلف العلماء في وجه هذا القول من إِبراهيم عليه السلام على قولين .
أحدهما : أنه وإِن كان في صورة الكذب ، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له ، لا يصلح أن يكون إِلهاً ، ومثله قول الملَكين لداود : { إِنَّ هذا أخي } [ ص : 23 ] ولم يكن أخاه { له تسع وتسعون نعجة } [ ص : 23 ] ، ولم يكن له شيء ، فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل ، وأنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب؛ ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً .
والثاني : أنه من معاريض الكلام؛ فروي عن الكسائي أنه [ كان ] يقف عند قوله تعالى : { بل فعله } ويقول معناه : فعله مَنْ فعله ، ثم يبتدىء { كبيرهم هذا } . قال الفراء : وقرأ بعضهم : «بل فعلّه» بتشديد اللام ، يريد : فلعلَّه كبيرهم هذا . وقال ابن قتيبة : هذا من المعاريض ، ومعناه : إِن كانوا ينطقون ، فقد فعله كبيرهم ، وكذلك قوله : { إِني سقيم } [ الصافات : 89 ] أي : سأسقم ، ومثله { إِنكَ ميِّت } [ الزمر : 30 ] أي : ستموت ، وقوله : { لا تؤاخذني بما نسيتُ } [ الكهف : 74 ] قال ابن عباس : لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، والمعنى : لا تؤاخذني بنسياني ، ومن هذا قصة الخصمين { إِذ تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] ، ومثله { وإِنّا أو إِيّاكم لعلى هُدىً } [ سبأ : 24 ] ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيراً ، فتبلغ إِرادتها بوجهٍ هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح . وروي أن قوماً من الأعراب خرجوا يمتارون ، فلما صدروا ، خالف رجل في بعض الليل إِلى عكْم صاحبه ، فأخذ منه بُرّاً وجعله في عِكْمه ، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان ، رأى عِكْمه يشول ، وعِكْم صاحبه يثقل ، فأنشأ يقول :
عِكْم تغشَّى بعضَ أعكام القوم ... لَمْ أَرَ عِكْماً سَارقاً قبل اليوم
فخوَّن صاحبه بوجهٍ هو ألطف من التصريح . قال ابن الأنباري : كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إِبراهيم ثلاث كذبات " قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر ، وليس بكذب . قال المصنف : وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه ، وأنه من المعاريض ، والمعاريض لا تُذم ، خصوصاً إِذا احتيج إِليها ، روى عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما يسرُّني أنّ لي بما أعلم من معاريض القول مِثْل أهلي ومالي ، وقال النخعي : لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم . وقال ابن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز : " إِن الجنَّة لا تدخلها العجائز " ، أراد قوله تعالى : { إِنّا أنشأناهُنَّ إِنشاءً } [ الواقعة : 35 ] ، " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالاً ، فيقول : «ما أُخت خالك منك»؟ ، وقال لامرأة : «مَنْ زوجُك»؟ فسمَّته له ، فقال : «الذي في عينيه بياض»؟ ، وقال لرجل : «إِنا حاملوك على ولد ناقة» ، وقال له العباس : ما ترجو لأبي طالب؟ فقال : «كل خير أرجوه من ربِّي» " ، وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سأله أحد : مَنْ هذا بين يديك؟ يقول : هادٍ يهديني . وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له ، فقالت له : وعلى فراشي أيضا؟! فجحد ، فقالت له : فاقرأ القرآن ، فقال :
وفينا رَسُولُ الله يَتْلُو كتابَه ... إِذا انشقَّ مشهورٌ مِنَ الصُّبْح طالِع
يَبِيتُ يُجَافي جنْبَهُ عن فِراشه ... إِذا استثقلتْ بالكافرين المَضاجعُ
فقالت : آمنتُ بالله ، وكذبت بصري ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فضحك وأعجبه ما صنع . وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري : كيف لبنها؟ قال : احلبْ في أيِّ إِناءٍ شئتَ ، قال : كيف الوِطاء؟ قال افرش ونم ، قال : كيف نجاؤها؟ قال : إِذا رأيتَها في الإِبل عرفتَ مكانها ، علِّق سوطكَ وسِرْ ، قال : كيف قُوَّنها؟ قال : احمل على الحائط ما شئتَ؛ [ فاستصراها ] فلم يَرَ شيئاً مما وصف ، فرجع إِليه ، فقال : لم أرَ فيها شيئاً مما وصفتَها به ، قال : ما كذبتك ، قال : أَقِلْني ، قال : نعم . وخرج شريح من عند زياد وهو مريض ، فقيل له : كيف وجدت الأمير؟ قال : تركتُه يأمر ويَنهى ، فقيل له : ما معنى يأمر وينهى؟ قال : يأمر بالوصية ، وينهى عن النَّوح . وأخذ محمد بن يوسف حجراً المدري فقال : العن علياً ، فقال : إِن الأمير أمرني أن ألعن علياً محمد بن يوسف ، فالعنوه ، لعنه الله . وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن عليّ ، فقال : لعن اللهُ من لعن اللهُ ولعن عليٌّ ، ثم قال : إِن [ هذا ] الأمير قد أبى إِلا أن ألعن علياً ، فالعنوه ، لعنه الله .
وامتحنت الخوارج رجلاً من الشيعة ، فجعل يقول : أنا مِنْ عليّ ومِنْ عثمان بريء . وخطب رجل امرأةً وتحته أخرى ، فقالوا : لا نزوِّجك حتى تطلِّق امرأتك ، فقال : اشهدوا أني قد طلقت ثلاثاً ، فزوَّجوه ، فأقام مع المرأة الأولى ، فادَّعوا أنه قد طلّق ، فقال : أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلَّقتُها ، ثم فلانة فطلَّقتُها ، ثم فلانة فطلَّقتُها؟ قالوا : بلى ، قال : فقد طلَّقتُ ثلاثاً . وحكي أن رجلاً عثر به الطائف ليلة ، فقال له : من أنت؟ فقال :
أنا ابنُ الذي لا يُنْزَل الدهرَ قِدرُه ... وإِن نزلتْ يوماً فسَوف تعود
ترى الناسَ أفواجاً إِلى ضوءِ ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
فظنَّ الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة ، فلما أصبح سأل عنه ، فإذا هو ابن باقلائي . ومثل هذا كثير .
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
قوله تعالى : { فرجعوا إِلى أنفسهم } فيه قولان .
أحدهما : رجع بعضهم إِلى بعض .
والثاني : رجع كلٌّ منهم إِلى نفسه متفكِّراً .
قوله تعالى : { فقالوا إِنكم أنتم الظالمون } فيه خمسة أقوال .
أحدها : حين عبدتم من لا يتكلم ، قاله ابن عباس .
والثاني : حين تتركون آلهتكم وحدها ، وتذهبون ، قاله وهب بن منبه .
والثالث : في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير ، روي عن وهب أيضاً .
والرابع : لإِبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام ، قاله ابن إِسحاق ، ومقاتل .
والخامس : أنتم ظالمون لإِبراهيم حين سألتموه ، وهذه أصنامكم حاضرة ، فاسألوها ، ذكره ابن جرير .
قوله تعالى : { ثم نُكِسوا على رؤوسهم } وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : «نُكِّسوا» برفع النون وكسر الكاف مشددة . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «نَكَسوا» بفتح النون والكاف مخفَّفة . قال أبو عبيدة : «نُكِسوا» : قُلِبوا ، تقول : نكستُ فلاناً على رأسه : إِذا قهرته وعلوته .
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال .
أحدها : أدركتْهم حيرةٌ ، فقالوا : { لقد علمتَ ما هؤلاءِ يَنْطِقُون } ، قاله قتادة .
والثاني : رجعوا إِلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : انقلبوا على إِبراهيم يحتجُّون عليه بعد أن أقرُّوا له ولاموا أنفسهم في تهمته ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : { لقد علمتَ } إِضمار «قالوا» ، وفي هذا إِقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النُّطق ، فحينئذ توجهت لإِبراهيم الحُجَّة ، فقال موبّخاً لهم : { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم } أي : لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئاً { ولا يضرُّكم } إِذا لم تعبدوه ، وفي هذا حثٌّ لهم على عبادة من يملك النفع والضُّر ، { أفٍّ لكم } قال الزجاج : معناه : النتن لكم؛ فلما ألزمهم الحجة غضبوا ، فقالوا : { حرِّقوه } . وذُكر في التفسير أن نمرود استشارهم ، بأيِّ عذاب أعذِّبه ، فقال رجل : حرِّقوه ، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إِلى يوم القيامة .
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
قوله تعالى : { وانصروا آلهتكم } أي : بتحريقه ، لأنه يَعيبها { إِن كنتم فاعلين } أي : ناصريها .
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إِبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنَوا له حَيْراً طول جداره ستون ذراعاً إِلى سفح جبل منيف ، ونادى منادي الملك : أيها الناس احتطبوا لإِبراهيم ، ولا يتخلفنَّ عن ذلك صغير ولا كبير ، فمن تخلَّف أُلقي في تلك النار ، ففعلوا ذلك أربعين ليلة ، حتى إِن كانت المرأة لتقول : إِن ظفرتُ بكذا لأحتطبنَّ لنار إِبراهيم ، حتى إِذا كان الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحَيْر وقذفوا فيه النار ، فارتفع لهبها ، حتى إِن كان الطائر ليمرُّ بها فيحترق من شدة حرِّها ، ثم بنَوا بنياناً شامخاً ، وبنَوا فوقه منجنيقاً ، ثم رفعوا إِبراهيم على رأس البنيان ، فرفع إِبراهيم رأسه إِلى السماء ، فقال : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل؛ فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربَّنا إِبراهيمُ يُحرَق فيكَ ، فائذن لنا في نصرته؛ فقال : أنا أعلمُ به ، وإِن دعاكم فأغيثوه؛ فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وقيل : ست وعشرين ، فقال : «حسبي الله ونعم الوكيل» . فاستقبله جبريل ، فقال : يا إِبراهيم ألكَ حاجة؟ قال : أمّا إِليك فلا ، قال جبريل : فسل ربَّك ، فقال : «حسبي من سؤالي علْمُه بحالي» ، فقال الله عز وجل : { يا نارُ كوني بَرْداً وسلاماً على إِبراهيم } ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إِلا طُفئت وظنَّت أنها عُنيت . وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها . وقال ابن عباس : لو لم يُتبع بردها سلاماً لمات إِبراهيم من بردها . قال السدي : فأخذت الملائكة بضَبْعَي إِبراهيم فأجلسوه على الأرض ، فإذا عين من ماءٍ عذْب ، وورد أحمر ، ونرجس . قال كعب ووهب : فما أحرقت النار من إِبراهيم إِلا وَثاقه ، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام ، وقال غيرهما : أربعين أو خمسين يوماً ، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة ، فألبسه القميص ، وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه . وإِن آزر أتى نمرود فقال : أئذن لي أن أُخرِج عظام إِبراهيم فأدفنها ، فانطلق نمرود ومعه الناس ، فأمر بالحائط فنُقب ، فإذا إِبراهيم في روضة تهتزُّ وثيابه تندى ، وعليه القميص وتحته الطنفسة والملَك إِلى جنبه ، فناداه نمرود : يا إِبراهيم ، إِن إلهك الذي بلغتْ قُدرته هذا لكبيرٌ ، هل تستطيع أن تخرج؟ قال : نعم ، فقام إِبراهيم يمشي حتى خرج ، فقال : مَن الذي رأيتُ معك؟ قال ملَك أرسله إِليَّ ربِّي ليؤنسني ، فقال نمرود : إِني مقرِّب لإِلهك قرباناً لِما رأيتُ من قدرته ، فقال : إِذن لا يقبل الله منكَ ما كنتَ على دينك ، فقال : يا إِبراهيم ، لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبح له ، فذبح القربان وكفَّ عن إِبراهيم .
قال المفسرون : ومعنى «كُوني بَرْداً» أى : ذات برد «وسلاماً» أي : سلامة . { وأرادوا به كيداً } وهو التحريق بالنار { فجعلناهم الأخسرين } وهو أن الله تعالى سلَّط البعوض عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم ، ودخلت واحدة في دماع نمرود حتى أهلكته ، والمعنى : أنهم كادوه بسوء ، فانقلب السوء عليهم .
قوله تعالى : { ونجَّيناه } أي : من نمرود وكيده { ولوطاً } وهو ابن أخي إِبراهيم ، وهو لوط بن هاران بن تارح ، وكان قد آمن به ، فهاجرا من أرض العراق إِلى الشام . وكانت سارة مع ابراهيم في قول وهب . وقال السدي : إِنما هي إبنة ملك حرَّان ، لقيها إِبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها ، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم .
فأما قوله تعالى { إِلى الأرض التي باركنا فيها } ، ففيها قولان .
أحدهما : أنها أرض الشام ، وهذا قول الأكثرين . وبَرَكتها : أن الله عزّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها ، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار .
والثاني : أنها مكة ، رواه العوفي عن ابن عباس . والأول أصح .
قوله تعالى : { وَوَهبْنا له } يعني : إِبراهيم { إِسحاق ويعقوب نافلة } ، وفي معنى النافلة قولان .
أحدهما : أنها بمعنى الزيادة ، والمراد بها : يعقوب خاصة ، فكأنه سأل واحداً ، فأُعطي اثنين ، وهذا مذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والفراء .
والثاني : أن النافلة بمعنى العطية ، والمراد : بها إِسحاق ويعقوب ، وهذا مذهب مجاهد ، وعطاء . قوله تعالى : { وكُلاًّ جعلنا صالحين } يعني : إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب . قال أبو عبيدة : «كُلٌّ» يقع خبره على لفظ الواحد ، لأن لفظه لفظ الواحد ، ويقع خبره على لفظ الجميع ، لأن معناه معنى الجميع .
قوله تعالى : { وجعلناهم أئمة } أي : رؤوساً يُقتدى بهم في الخير { يَهْدون بأمرنا } أي : يَدْعون الناس إِلى ديننا بأمرنا إِيَّاهم بذلك { وأوحينا إِليهم فعل الخيرات } قال ابن عباس : شرائع النبوَّة . وقال مقاتل : الأعمال الصالحة . { وإِقامَ الصلاة } قال الزجاج : حذفُ الهاء من «إِقامة الصلاة» قليلٌ في اللغة ، تقول : أقام إِقامة ، والحذف جائز ، لأن الإِضافة عوض من الهاء .
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله تعالى : { ولوطاً آتيناه حكماً } قال الزجاج : انتصب «لوط» بفعل مضمر ، لأن قبله فعلاً ، فالمعنى : وأوحينا إِليهم وآتينا لوطاً . وذكر بعض النحويين : أنه منصوب على «واذكر لوطاً» ، وهذا جائز ، لأن ذِكْر إِبراهيم قد جرى ، فحُمل لوط على معنى : واذكر .
قال المفسرون : لمَّا هاجر لوط مع إِبراهيم ، نزل إِبراهيم أرض فلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من إِبراهيم ، فبعثه الله نبيّاً .
فأما «الحُكم» ففيه قولان .
أحدهما : أنه النبوَّة ، قاله ابن عباس .
والثاني : الفهم والعقل ، قاله مقاتل . وقد ذكرنا فيه أقوالاً في سورة [ يوسف : 22 ] . وأما «القرية» هاهنا ، فهي سَدُوم ، والمراد أهلها ، والخبائث : أفعالهم المنكَرة ، فمنها إِتيان الذكور وقطع السبيل ، إِلى غير ذلك مما قد ذكره الله عز وجل عنهم في مواضع [ هود : 78 والحجر : 69 ] .
قوله تعالى : { وأدخلناه في رحمتنا } أي : بانجائه من بينهم .
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قوله تعالى : { ونوحاً } المعنى : واذكر نوحاً ، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء { إِذ نادى } أي : دعا على قومه { مِنْ قَبْلُ } أي : مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ . فأما الكرب العظيم ، فقال ابن عباس : هو الغرق وتكذيب قومه .
قوله تعالى : { ونصرناه من القوم } أي : منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ . وقيل : «من» بمعنى «على» .
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قوله تعالى : { وداود وسليمان إِذ يحكمان في الحرث } وفيه قولان .
أحدهما : أنه كان عنباً ، قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وشريح .
والثاني : كان زرعاً ، قاله قتادة .
{ إِذ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القوم } قال ابن قتيبة : أي : رَعَتْ ليلاً ، يقال : نَفَشَت الغنمُ بالليل ، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ ، والواحد : نَافِشٌ ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار . قال قتادة : النَّفَش بالليل ، والهَمَل بالنهار . وقال ابن السكِّيت : النَّفَش : أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ .
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً ، فاختصما إِلى داود ، فقال لصاحب الحرث : لك رقاب الغنم ، فقال سليمان : أوَ غير ذلك؟ قال : ما هو؟ قال : ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم ، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم ، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم ، فقال داود : قد أصبتَ القضاءَ ، ثم حكم بذلك ، فذلك قوله : { وكُنَّا لِحُكمهم شاهدين } وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : داود وسليمان ، فذكرهما بلفظ الجمع ، لأن الاثنين جمع ، هذا قول الفراء .
والثاني : أنهم داود وسليمان والخصوم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : «وكنا لِحُكمها» على التثنية . ومعنى «شاهدِين» : أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء . { ففهَّمْناها سليمان } يعني : القضية والحكومة . وإِنما كنى عنها ، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم ، { وكُلاًّ } منهما { آتينا حُكماً } وقد سبق بيانه . قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه ، وعَذَر دواد باجتهاده .
فصل
قال أبو سليمان الدمشقي : كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد ، ولم يكن نصّاً ، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا . قال القاضي أبو يعلى : وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه ، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان ، وهو قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً ، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها ، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا ، لأن داود حكم بالضمان ، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا مالم يَثْبُت نَسْخُه . فإن قيل : فقد ثبت نسخ هذا الحكم ، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك؛ قيل : الآية تضمنت أحكاماً ، منها وجوب الضمان وكيفيته ، فالنسخ حصل على كيفيَّته ، ولم يحصل على أصله ، فوجب التعلُّق به ، وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه : أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل .
قوله تعالى : { وسخَّرْنا مع داود الجبال يسبِّحن } تقدير الكلام : وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود . قال أبو هريرة : كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر ، وقال غيره : كان إِذا وجد فترةً ، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح .
قوله تعالى : { وكُنَّا فاعلين } أي : لذلك . قال الزجاج : المعنى : وكنّا نقدر على ما نريده .
قوله تعالى : { وعلَّمْناه صنعةَ لَبُوس لكم } في المراد باللَّبوس قولان .
أحدهما : الدُّروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد ، قاله قتادة .
والثاني : أن اللَّبوس : السلاح كلُّه من درع إِلى رمح ، قاله أبو عبيدة . وقرأ أبو المتوكل ، وابن السميفع : «لُبوس» بضم اللام .
قوله تعالى : { لِتُحْصِنَكُمْ } قرأ ابن كثير . ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «لِيُحْصِنَكُمْ» بالياء . وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم : «لِتُحْصِنَكُمْ» بالتاء . وروى أبو بكر عن عاصم : «لِنُحْصِنَكُمْ» بالنون خفيفة . وقرأ أبو الدرداء ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة : «لِتُحَصِّنَكُمْ» بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وحميد بن قيس : «لِتَحَصُّنِكُمْ» بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو المتوكل ، ومجاهد : «لِنُحَصِّنَكُمْ» بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها . وقرأ معاذ القارىء ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : «لِيُحْصِنَّكُمْ» بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون . فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه . قال أبو علي الفارسي : أن يكون الفاعل اسم الله ، لتقدُّم معناه ، ويجوز أن يكون اللباس ، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضرباً منه ، ويجوز أن يكون داود ، ويجوز أن يكون التعليم ، وقد دل عليه «علَّمْناه» .
ومن قرأ بالتاء ، حمله على المعنى ، لأنه الدرع .
ومن قرأ بالنون ، فلتقدمُّ قوله : «وعلَّمناه» .
ومعنى «لِتُحْصِنَكُمْ» : لِتُحْرِزَكم وتمنعكم { مِنْ بأسكم } يعني : الحرب .
قوله تعالى : { ولسليمان الرِّيحَ } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة الحضرمي : «الرِّياحُ» بألف مع رفع الحاء . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : بالألف ونصب الحاء ، والمعنى : وسخَّرْنا لسليمان الريح { عاصفةً } أي : شديدة الهبوب { تجري بأمره } يعني : بأمر سليمان { إِلى الأرض التي باركْنا فيها } وهي أرض الشام ، وقد مَرَّ بيان بركتها في هذه السورة [ الأنبياء : 72 ] ؛ والمعنى : أنها كانت تسير به إِلى حيث شاء ، ثم تعود به إِلى منزله بالشام .
قوله تعالى : { وكُنَّا بِكُلِّ شيء عالِمين } علمنا أن ما نُعطي سليمان يدعوه إِلى الخضوع لربِّه .
قوله تعالى : { ومن الشياطين من يغوصون له } قال أبو عبيدة : «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث . قال المفسرون : كانوا يغوصون في البحر ، فيستخرجون الجواهر ، { ويعملون عملاً دون ذلك } قال الزجاج : معناه : سوى ذلك ، { وكُنَّا لهم حافظين } أن يُفسدوا ما عملوا . وقال غيره : أن يخرجوا عن أمره .
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قوله تعالى : { وأيُّوبَ إِذ نادى ربَّه } أي : دعا ربَّه { أنِّي } وقرأ أبو عمران الجوني : «إِني» بكسر الهمزة ، { مَسَّنيَ الضُّرُّ } وقرأ حمزة : «مَسَّنِيْ» بتسكين الياء ، أي : أصابني الجَهْد ، { وأنت أرحم الراحمين } أي : أكثرهم رحمة ، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إِذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت .
الإِشارة إِلى قصته
ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه ، وكان كثير الإِحسان . فقال إِبليس : يا رب سلِّطني على ماله وولده وكان له ثلاثة عشر ولداً فإن فعلتَ رأيتَه كيف يُطيعني ويَعصيكَ ، فقيل له : قد سلَّطْتُكَ على ماله وولده ، فرجع إِبليس فجمع شياطينه ومردته ، فبعث بعضهم إِلى دوابِّه ورعاته ، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر ، وجاء إِبليس في صورة قيِّمه ، فقال : يا أيوب ألا أراك تصلِّي وقد أقبلتْ ريح عاصف فاحتملت دوابَّك ورعاتها حتى قذفَتْها في البحر؟ فلم يردَّ عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته ، ثم قال الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مِنِّي ، فانصرف خائباً ، ثم أرسل بعض الشياطين إِلى جنانه وزروعه ، فأحرقوها ، وجاء فأخبره ، فقال مثل ذلك ، فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه ، فأهلكوهم ، وجاء فأخبره ، فحمد الله ، وقال لإِبليس وهو يظنه قيِّمه في ماله : لو كان فيكَ خير لقبضكَ معهم ، فانصرف خائباً ، فقيل له : كيف رأيتَ عبدي أيوب؟ قال : يا ربِّ سلِّطني على جسده فسوف ترى ، قيل له : قد سلَّطْتُكَ على جسده ، فجاء فنفخ في إِبهام قدميه ، فاشتعل فيه مثل النار ، ولم يكن في زمانه أكثر بكاءً منه خوفاً من الله تعالى ، فلما نزل به البلاء لم يبكِ مخافة الجزع ، وبقي لسانُه للذِّكر ، وقلبه للمعرفة والشُّكر ، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه ، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ، ووقعت به حكّة لا يملكها ، فحكَّ بأظفاره حتى سقطت ، ثم بالمسوح ، ثم بالحجارة ، فأنتن جسمه وتقطَّع ، وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشاً على كُناسة ، ورفضه الخلق سوى زوجته ، واسمها رحمة بنت إِفراييم بن يوسف بن يعقوب ، فكانت تختلف إِليه بما يصلحه ، وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد ، قال : كان ملك يظلم الناس ، فكلَّمه في ذلك جماعة من الأنبياء ، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه ، فأوحى الله إِليه : تركتَ كلامَه من أجل خيلك؟! لأطيلنَّ بلاءك .
واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال .
أحدها : ثماني عشرة سنة ، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : سبع سنين ، قاله ابن عباس ، وكعب ، ويحيى بن أبي كثير .
والثالث : سبع سنين وأشهر ، قاله الحسن .
والرابع : ثلاث سنين ، قاله وهب .
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال .
أحدها : [ أنه ] اشتهى إِداماً ، فلم تُصبه امرأته حتى باعت قرناً من شعرها ، فلما علم ذلك ، قال : «مسَّني الضُّر» ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله ، فلما انتهى أجل البلاء ، يسّر له الدعاء ، فاستجاب له ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أن نفراً من بني إِسرائيل مرُّوا به ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه هذا إِلا بذنْب عظيم ، فعند ذلك قال : «مسَّني الضُّر» ، قاله نوف البكالي . وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان له أخوان ، فأتياه يوماً فوجدا ريحاً ، فقالا : لو كان الله علم منه خيراً ما بلغ به كلّ هذا ، فما سمع شيئاً أشدَّ عليه من ذلك ، فقال : اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم أَبِت ليلةً شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني ، فصُدِّق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم ألبس قميصاً وأنا أعلم مكان عارٍ فصدِّقني ، فصُدِّق وهما يسمعان ، فخرَّ ساجداً ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشفَ ما بي ، فكشف الله عز وجل ما به .
والرابع : أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة ، فقال : ليذبح أيوب هذه لي وقد بَرَأ ، فجاءت فأخبرته ، فقال : إِن شفاني الله لأجلدنَّك مائة جلدة ، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها عنه ، فذهبتْ ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق ، خرَّ ساجداً وقال : «مسَّني الضُّر» ، قاله الحسن .
والخامس : أن الله تعالى أوحى إِليه وهو في عنفوان شبابه : إِني مبتليك ، قال : يا رب ، وأين يكون قلبي؟ قال : عندي ، فصبَّ عليه من البلاء ما سمعتم ، حتى إِذا بلغ البلاء منتهاه ، أوحى إِليه أني معافيكَ ، قال : يا رب ، وأين يكون قلبي؟ قال : عندك ، قال : «مسَّني الضُّر» ، قاله إِبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدّثنا به عنه .
والسادس : أن الوحي انقطع عنه أربعين يوماً ، فخاف هجران ربِّه ، فقال : «مسَّني الضُّر» ، ذكره الماوردي .
فإن قيل : أين الصبر ، وهذا لفظ الشكوى؟
فالجواب : أن الشكوى إِلى الله لا تنافي الصبر ، وإِنما المذموم الشكوى إِلى الخَلْق ، ألم تسمع قول يعقوب : { إِنما أشكو بَثِّي وحُزْني إِلى الله } [ يوسف : 86 ] . قال سفيان بن عيينة : وكذلك من شكا إِلى الناس ، وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله ، لم يكن ذلك جزعاً ، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل في مرضه : " أجدني مغموماً " و " أجدني مكروباً " ، وقوله : " بل أنا وارأساه " . قوله تعالى : { وآتيناه أهله } يعني : أولاده { ومِثْلَهُمْ معهم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم ، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وقتادة . وروى أبو صالح عن ابن عباس : كانت امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات ، فنُشِروا له؛ وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات .
والثاني : أنهم كانوا قد غُيِّبوا عنه ولم يموتوا ، فآتاه إِياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة ، رواه هشام عن الحسن .
والثالث : آتاه الله أجور أهله في الآخرة ، وآتاه مثلهم في الدنيا ، قاله نوف ، ومجاهد .
والرابع : آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة ، حكاه الزجاج .
قوله تعالى : { رحمةً مِنْ عندنا } أي : فعلنا ذلك به رحمةً مِنْ عندنا ، { وذِكرى } أي : عِظةً { للعابدين } قال محمد بن كعب : من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب ، فليقل : إِنه قد أصاب من هو خيرٌ مني .
قوله تعالى : { وذا الكفل } اختلفوا هل كان نبيّاً ، أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنه لم يكن نبيّاً ، ولكنه كان عبداً صالحاً ، قاله أبو موسى الأشعري ، ومجاهد . ثم اختلف أرباب هذا القول في علَّه تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رجلاً كان يصلِّي كلَّ يوم مائة صلاة فتوفي ، فكفل بصلاته ، فسمِّي : ذا الكفل ، قاله أبو موسى الأشعري .
والثاني : أنه تكفل للنبيّ بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ، فسمِّي : ذا الكفل ، قاله مجاهد .
والثالث : أن ملِكاً قَتل في يوم ثلاثمائمة نبيٍّ ، وفرَّ منه مائة نبيٍّ ، فكفلهم ذو الكفل ، يطعمهم ويسقيهم حتى أُفلتوا ، فسمِّي : ذا الكفل ، قاله ابن السائب .
والقول الثاني : أنه كان نبيّاً ، قاله الحسن ، وعطاء . قال عطاء : أوحى الله تعالى [ إِلى ] نبيّ من الأنبياء : إِني أُريد قبض روحك ، فاعرض مُلكك على بني إِسرائيل ، فمن تكفَّل لك بأنه يصلِّي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع مُلككَ إِليه ، ففعل ذلك ، فقام شابّ فقال : أنا أتكفَّل لك بهذا ، فتكفَّل به ، فوفى ، فشكر اللهُ له ذلك ، ونبَّأه ، وسمِّي : ذا الكفل . وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفل : " أنه كان رجلاً لا ينزع عن ذنب ، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها ، فبكت ، وقالت : ما فعلتُ هذا قطّ ، فقام عنها تائباً ، ومات من ليلته ، فأصبح مكتوباً على بابه : قد غفر الله للكفل " ؛ والحديث معروف ، وقد ذكرتُه في «الحدائق» ، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل ، وهذا غلط ، لأن ذلك اسمه الكفل ، والمذكور في القرآن يقال له : ذو الكفل ، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها ، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا . وإِذا قلنا : إِنه نبيّ ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال . وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر رحمه الله تعالى ، فوافقني ، وقال : ليس هذا بذاك .
قوله تعالى : { كُلٌّ من الصابرين } أي : على طاعة الله وترك معصيته ، { وأدخلناهم في رحمتنا } في هذه الرحمة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الجنة ، قاله ابن عباس .
والثاني : النبوَّة ، قاله مقاتل .
والثالث : النِّعمة والموالاة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله تعالى : { وذا النُّون } يعني : يونس بن متّى . والنون : السمكة؛ أُضيف إِليها لابتلاعها إِياه .
قوله تعالى : { إِذ ذهب مغاضِباً } قال ابن قتيبة : المُغاضَبة : مُفاعَلة ، وأكثر المفاعَلة من اثنين ، كالمناظَرة والمجادَلة والمخاصَمة ، وربما تكون من واحد ، كقولك : سافرت ، وشارفت الأمر ، وهي هاهنا من هذا الباب . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : «مُغْضَباً» باسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف .
واختلفوا في مغاضبته لمن كانت؟ على قولين .
أحدهما : أنه غضب على قومه ، قاله ابن عباس ، والضحاك . وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الله تعالى أوحى إِلى نبي يقال له : شعيا : أن ائت فلاناً الملك ، فقل له : يبعث نبيّاً أميناً إِلى بني إِسرائيل ، وكان قد غزا بني إِسرائيل ملك ، وسبا منهم الكثير ، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إِلى ذلك الملك ليكلِّمه حتى يرسلَهم ، فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله باخراجي؟ قال : لا ، قال : فهل سماني لك؟ قال : لا ، قال : فهاهنا غيري من الأنبياء ، فألَحُّوا عليه ، فخرج مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه ، هذا مروي عن ابن عباس؛ وقد زدناه شرحاً في [ يونس : 98 ] .
والثاني : أنه عانى من قومه أمراً صعباً من الأذى والتكذيب ، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجراً ، وما ظنَّ أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة ، ذكره ابن الأنباري . وقد روي عن وهب بن منبه ، قال : لما حُملت عليه أثقالُ النبوَّة ، ضاق بها ذرعاً ولم يصبر ، فقذفها من يده وخرج هارباً .
والثالث : أنه لمَّا أوعدهم العذاب ، فتابوا ورُفع عنهم ، قيل له : ارجع إِليهم ، فقال : كيف أرجع فيجدوني كاذباً؟ فانصرف مغاضباً لقومه ، عاتباً على ربِّه . وقد ذكرنا هذا في [ يونس : 98 ] .
والثاني : أنه خرج مغاضباً لربِّه ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وعروة . وقال أبو بكر النقاش : المعنى : مغاضباً من أجل ربِّه ، وإِنما غضب لأجل تمرُّدهم وعصيانهم . وقال ابن قتيبة : كان مَغِيظاً عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم ، مشتهياً أن ينزل العذاب بهم ، فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه .
قوله تعالى : { فظَنَّ أن لن نَقْدِرَ عليه } وقرأ يعقوب : «يُقَدَّر» بضم الياء وتشديد الدال وفتحها . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي ليلى : «يُقْدَرَ» بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها . وقرأ أبو عمران الجوني : «يَقْدِرَ» بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة . وقرأ الزهري ، وابن يعمر ، وحميد بن قيس : «نُقَدِّرَ» بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها . ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن لن نقضي عليه بالعقوبة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك . قال الفراء : معنى الآية : فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة ، والعرب تقول : قَدَر ، بمعنى : قَدَّر ، قال أبو صخر :
ولا عَائداً ذاكَ الزمانُ الذي مضى ... تباركتَ مَا تَقْدِرْ يَكُنْ ولكَ الشُّكرُ
أراد : ما تقدِّر ، وهذا مذهب الزجاج .
والثاني : فظن أن لن نضيِّق عليه ، قاله عطاء . قال ابن قتيبة : يقال : فلان مُقَدَّر عليه ، ومُقَتَّر عليه ، ومنه قوله تعالى : { فَقَدَرَ عليه رِزقَه } [ الفجر : 16 ] أي : ضيَّق عليه فيه . قال النقاش : والمعنى : فظن أن لن يضيّق عليه الخروج ، فكأنَّه ظن أن الله قد وسّع له ، إِن شاء أن يقيم ، وإِن شاء أن يخرج ، ولم يؤذّن له في الخروج .
والثالث : أن المعنى : فظن أنه يعجز ربه ، فلا يقدر عليه ، رواه عوف عن الحسن . وقال ابن زيد ، وسليمان التيمي : المعنى : أفظنَّ أن لن نَقْدِر عليه؛ فعلى هذا الوجه يكون استفهاماً قد حُذفت ألفه؛ وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة ، ولا يتصوّر إِلا مع تقدير الاستفهام ، ولا أعلم له وجهاً إِلا أن يكون استفهام إِنكار ، تقديره : ما ظنّ عجزنا ، فأين يهرب منا؟! .
قوله تعالى : { فنادى في الظلمات } فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، قاله سعيد ابن جبير ، وقتادة ، والأكثرون .
والثاني : أن حوتاً جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه ، فنادى في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة البحر ، قاله سالم ابن أبي الجعد .
والثالث : أنها ظلمة الماء ، وظلمة مِعى السمكة ، وظلمة بطنها ، قاله ابن السائب . وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرج الله عنه ، كلمة أخي يونس : فنادى في الظلمات أن لا إِله إِلا أنت ، سبحانك إِني كنت من الظالمين " قال الحسن : وهذا اعتراف [ من ] يونس بذنْبه وتوبة من خطيئته . قوله تعالى : { فاستجبنا له } أي : أجبناه { ونجَّيناه من الغَمِّ } أي : من الظلمات { وكذلك نُنْجِي المؤمنين } إِذا دعونا . وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ : «نُجّي المؤمنين» بنون واحدة مشددة الجيم؛ قال الزجاج : وهذا لَحْنٌ لا وجه له ، وقال أبو علي الفارسي : غلط الراوي عن عاصم ، ويدل على هذا إِسكانه الياء من «نُجّي» ونصب «المؤمنين» ، ولو كان على ما لم يُسم فاعله ما سكّن الياء ، ولرفع «المؤمنين» .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
قوله تعالى : { لا تذرني فرداً } أي : وحيداً بلا ولد { وأنت خير الوارثين } أي : أفضل من بقي حياً بعد ميت .
قوله تعالى : { وأصلحنا له زوجه } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أُصلحت للولد بعد أن كانت عقيماً ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .
والثاني : أنه كان في لسانها طول ، وهو البذاء ، فأُصلحت ، قاله عطاء . وقال السدي : كانت سليطة فكفَّ عنه لسانها .
والثالث : أنه كان خُلُقها سيّئاً ، قاله محمد ابن كعب .
قوله تعالى : { إِنهم كانوا يسارعون في الخيرات } أي : يبادرون في طاعة الله . وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : زكريا ، وامرأته ، ويحيى .
والثاني : جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة .
قوله تعالى : { ويدعوننا } وقرأ ابن مسعود ، وابن محيصن : «ويدعونا» بنون واحدة .
قوله تعالى : { رَغَباً ورَهَباً } أي : رغباً فيما عندنا ، ورهباً منا . وقرأ الأعمش : «رُغْباً ورُهْباً» بضم الراءين وجزم الغين والهاء ، وهما لغتان مثل النُّحْل ، والنَحَل ، والسُّقْم ، والسَّقَم ، { وكانوا لنا خاشعين } أي : متواضعين .
قوله تعالى : { والتي أحصنت فرجها } فيه قولان .
أحدهما : أنه مخرج الولد ، والمعنى : منعته مما لا يحل . وإِنما وُصِفَتْ بالعفاف لأنها قُذفت بالزنا .
والثاني : أنه جيب درعها . ومعنى الفرج في اللغة : كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق ، فهو يسمى فرجاً . وهذا أبلغ في الثناء عليها ، لأنها إِذا منعت جيب درعها ، فهي لنفسها أمنع .
قوله تعالى : { فنفخنا فيها } أي : أمرنا جبريل ، فنفخ في درعها ، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ . وأضاف الروح إِليه إِضافة الملك ، للتشريف والتخصيص { وجعلناها وابنها آية } قال الزجاج : لما كان شأنهما واحداً ، كانت الآية فيهما آية واحدة ، وهي ولادة من غير فحل . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «آيتين» على التثنية .
قوله تعالى : { إِنَّ هذه أُمَّتُكم } قال ابن عباس : المراد بالأُمَّة هاهنا : الدّين . وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم أُمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معنى قول مقاتل .
والثاني : أنهم الأنبياء عليهم السلام ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم ذكر أهل الكتاب ، فذمَّهم بالاختلاف ، فقال تعالى : { وتقطَّعوا أمرهم بينهم } أي : اختلفوا في الدِّين ، { فمن يعمل من الصالحات } أي : شيئاً من الفرائض وأعمال البِرِّ { فلا كفران لسعيه } أي : لا نجحد ما عمل ، قاله ابن قتيبة ، والمعنى : أنه يقبل منه ، ويثاب عليه { وإِنا له كاتبون } ذلك ، نأمر الحفظة أن يكتبوه لنجازيَه به .
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
قوله تعالى : { وحرام على قرية } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وحرام» بألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف ، وهما لغتان . يقال : حِرْم وحرام . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني : «حَرْمٌ» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة . وقرأ سعيد بن جبير : «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وعكرمة ، والضحاك : «وحَرِمَ» بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف . وقرأ سعيد بن المسيب ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف .
وفي معنى قوله تعالى : «وحرام» قولان .
أحدهما : واجب ، قاله ابن عباس ، وأنشدوا في معناه :
فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً ... عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو
أي : واجب .
والثاني : أنه بمعنى العزم ، قاله سعيد بن جبير . وقال عطاء : حتم من الله . والمراد بالقرية : أهلها .
ثم في معنى الآية أربعة أقوال .
أحدها : واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها ، هذا قول قتادة؛ وقد روي عن ابن عباس نحوه .
والثالث : أن «لا» زائدة؛ والمعنى : حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا ، قاله ابن جريج ، وابن قتيبة في آخرين .
والرابع : أن الكلام متعلق بما قبله ، لأنه لما قال : «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار؛ فمعنى الآية : وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل ، لأنهم لا يتوبون ، هذا قول الزجاج .
فإن قيل : كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله ، ورجوعهم بعد الموت ليس إِليهم؟
فالجواب : أن المعنى : مُنعوا من ذلك ، كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه ، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع .
قوله تعالى : { حتى إِذا فُتِحَتْ يأجوجُ ومأجوجُ } وقرأ ابن عامر : «فُتِّحت» بالتشديد ، والمعنى : فُتح الردم عنهم { وهم من كل حَدب } قال ابن قتيبة : من كل نشَز من الأرض وأكَمة { يَنْسِلون } من النَّسَلان : وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع ، كمشي الذئب إِذا بادر ، والعَسَلان مثله . وقال الزجاج : الحَدَبُ : كل أَكَمَة ، و«يَنْسِلون» : يُسرعون . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وعاصم الجحدري : «يَنْسُلون» بضم السين .
وفي قوله تعالى : { وهم } قولان .
أحدهما : أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج ، قاله الجمهور .
والثاني : إِلى جميع الناس؛ فالمعنى : وهم يُحشَرون إِلى الموقف ، قاله مجاهد . والأول أصح .
فإن قيل : أين جواب «حتى»؟ ففيه قولان .
أحدهما : أنه قوله تعالى : { واقترب الوعد الحق } والواو في قوله تعالى : «واقترب» زائدة ، قاله الفراء .
قال : ومثله { حتى إِذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ، وقوله تعالى : { فلما أسلما وتله للجبين ، وناديناه } [ الصافات : 103 ، 104 ] ، المعنى : نادينا . وقال عبد الله بن مسعود : الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج ، كالحامل المتمّ ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً .
والثاني : أنه قول محذوف في قوله : { يا ويلنا } ، فالمعنى : حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد ، قالوا : يا ويلنا . قال الزجاج : هذا قول البصريين . فأما { الوعد الحق } فهو القيامة .
قوله تعالى : { فإذا هي } في «هي» أربعة أقوال .
أحدها : أن «هي» كناية عن الأبصار ، والأبصار تفسير لها ، كقول الشاعر :
لَعَمْرُو أبِيها لا تَقُولُ ظَعِينَتي ... أَلاَ فَرَّعَنِّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ
فذكر الظعينة ، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها» . والثاني : أن «هي» [ ضمير فصل ، و ] عمادٌٌ ، ويصلح في موضعها «هو» ، ومثله قوله : { إِنه أنا الله } [ النمل : 9 ] ، وقوله : { فإنها لا تعمى الأبصار } [ الحج : 46 ] ، وأنشدوا :
بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فهَل هو مَرفوع بما هَاهُنا رأْس
ذكرهما الفراء .
والثالث : أن يكون تمام الكلام عند قوله : «هي» على معنى : فإذا هي بارزة واقفة ، يعني : من قربها ، كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : { شاخصة } ، ذكره الثعلبي .
والرابع : أن «هي» كناية عن القصة ، والمعنى : القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . قال المفسرون : تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة ، ويقولون : { يا ويلنا قد كنا } أي : في الدنيا { في غفلة من هذا } أي : عن هذا { بل كنا ظالمين } أنفسنا بكفرنا ومعاصينا . ثم خاطب أهل مكة ، فقال : { إِنكم وما تعبدون من دون الله } يعني : الأصنام { حَصَبُ جهنم } وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعمر بن عبد العزيز : «حَطَب» بالطاء . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وابن السميفع : «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة . وقرأ عروة ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو حيوة ، ومعاذ القارىء : «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن محيصن : «حَصْب» بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة . قال الزجاج : من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه : كلُّ ما يرمى به فيها ، ومن قرأ «حطب» فمعناه : ما تُوقَد به ، ومن قرأ بالضاد المعجمة ، فمعناه : ما تهيج به النار وتُذْكى به . قال ابن قتيبة : الحصَب : ما أُلقي فيها ، وأصله من الحَصْباء ، وهو : الحصى ، يقال : حصبتُ فلاناً : إِذا رميتَه ، حَصْباً ، بتسكين الصاد ، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب ، بفتح الصاد .
قوله تعالى : { أنتم } يعني : العابدين والمعبودين { لها واردون } أي : داخلون . { لو كان هؤلاء } يعني : الأصنام { آلهةً } على الحقيقة { ما وردوها } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إِشارة إِلى الأصنام ، والمعنى : لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار .
والثاني : أنه إِشارة إِلى عابديها ، فالمعنى : لو كانت الأصنام آلهة ، منعت عابديها دخول النار .
والثالث : أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها ، بدليل قوله تعالى : { وكلٌّ فيها خالدون } يعني : العابد والمعبود .
قوله تعالى : { لهم فيها زفير } قد شرحنا معنى الزفير في [ هود : 106 ] . وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار ، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم ، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل . وقال ابن مسعود : إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار ، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ، فلا يسمعون شيئاً ، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه .
والثاني : أن السماع أُنْسٌ ، والله لا يحب أن يؤنسَهم ، قاله عون بن عمارة .
والثالث : إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
قوله تعالى : { إِن الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى } سبب نزولها أنه " لما نزلت «إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» شَقَّ ذلك على قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، فجاء ابن الزّبعرى ، فقال : ما لكم؟ قالوا : شتم آلهتنا ، قال : وما قال؟ فأخبروه ، فقال : ادعوه لي ، فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ، هذا شيء لآلهتنا خاصة ، أو لكل من عُبد من دون الله؟ قال : «لا ، بل لكل من عُبد من دون الله» ، فقال ابن الزِّبعرى : خُصمْتَ وربِّ هذه البنية ، ألستَ تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيراً عبد صالح ، فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيراً ، فضج أهل مكة " ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال الحسين بن الفضل : إِنما أراد بقوله : { وما تعبدون } الأصنام دون غيرها . لأنه لو أراد الملائكة والناس ، لقال : «ومَنْ» ، وقيل : «إِنَّ» بمعنى : «إِلاَّ» ، فتقديره : إِلا الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى ، وهي قراءة ابن مسعود ، وأبي نهيك ، فإنهما قرءا : «إِلا الذين» . وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية ، فقال : أنا منهم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن .
وفي المراد بالحسنى قولان .
أحدهما : الجنة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني : السعادة ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { أولئك عنها } أي : عن جهنم ، وقد تقدم ذكرها { مُبْعَدُون } والبعد : طول المسافة ، والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء إِذا مَرَّ قريباً منك . قال ابن عباس : لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إِذا نزلوا منازلهم من الجنة .
قوله تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وابن محيصن ، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي : «لا يُحْزِنُهُم» بضم الياء وكسر الزاي .
وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال .
أحدها : أنه النفخة الآخرة ، رواه العوفي عن ابن عباس؛ وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } .
والثاني : أنه إِطباق النار على أهلها ، رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثالث : أنه ذبح الموت بين الجنة والنار ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال ابن جريج .
والرابع : أنه حين يؤمر بالعبد إِلى النار ، قاله الحسن البصري .
وفي مكان تلقّي الملائكة لهم قولان .
أحدهما : إِذا قاموا من قبورهم ، قاله مقاتل .
والثاني : على أبواب الجنة ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { هذا يومُكم } فيه إِضمار : «يقولون» هذا يومكم { الذي كنتم توعدون } فيه الجنة .
قوله تعالى : { يوم نَطْوي السماءَ } وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر : «تُطْوى» بتاء مضمومة «السماءُ» بالرفع؛ وذلك بمحو رسومها ، وتكدير نجومها ، وتكوير شمسها ، { كطيِّ السِّجِلِّ للكتاب } قرأ الجمهور : «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام .
وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، ومحبوب عن أبي عمرو : «السِّجْلِ» بكسر السين وإِسكان الجيم خفيفة . وقرأ أبو السماك كذلك ، إِلا أنه فتح الجيم .
قوله تعالى : { للكتاب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «للكتاب» . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «للكتب» على الجمع .
وفي السّجل أربعة أقوال .
أحدها : أنه مَلك ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والسدي .
والثاني : أنه كاتِب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثالث : أن السجل بمعنى : الرجل ، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس ، قال : السجل : هو الرجل . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : وقد قيل : «السجل» بلغة الحبشة : الرجل .
والرابع : أنه الصحيفة . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وابن قتيبة . وقرأت على شيخنا أبي منصور ، قال : قال أبو بكر ، يعني ابن دريد : السجل : الكتاب ، والله أعلم؛ ولا ألتفت إِلى قولهم : إِنه فارسي معرب ، والمعنى : كما يُطوى السجل على ما فيه من كتاب . و«اللام» بمعنى «على» . وقال بعض العلماء : المراد بالكتاب : المكتوب ، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة ، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب .
ثم استأنف ، فقال تعالى : { كما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْق نُعيده } الخلق هاهنا مصدر ، وليس بمعنى المخلوق .
وفي معنى الكلام أربعة أقوال .
أحدها : كما بدأناهم في بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرلاً ، كذلك نعيدهم يوم القيامة؛ روي عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاةً غرلاً كما خُلقوا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده " ؛ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد .
والثاني : أن المعنى : إِنا نُهلك كل شيء كما كان أول مرة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أن السماء تمطر أربعين يوماً كمني الرجال ، فينبتون بالمطر في قبورهم ، كما ينبتون في بطون أُمَّهاتهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : أن المعنى : قُدرتنا على الإِعادة كقُدرتنا على الابتداء ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وَعْداً } قال الزجاج : هو منصوب على المصدر ، لأن قوله تعالى : «نعيده» بمعنى : وعدنا هذا وعداً ، { إِنّا كُنّا فاعلين } أي : قادرين على فعل ما نشاء . وقال غيره : إِنا كنا فاعلين ما وَعَدْنا .
قوله تعالى : { ولقد كَتَبْنَا في الزَّبور من بعد الذِّكْر } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن الزَّبور جميع الكتب المنزَلة من السماء ، و«الذِّكْر» : أُمُّ الكتاب الذي عند الله ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد ، وابن زيد ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير ، فإنه قال : الزبور : التوارة والإِنجيل والقرآن ، والذِّكر : الذي في السماء .
والثاني : أن الزبور : الكتب ، والذِّكر : التوراة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أن الزبور : القرآن ، والذِّكْر : التوراة والإِنجيل ، قاله سعيد بن جبير في رواية .
والرابع : أن الزبور : زبور داود ، والذِّكْر : ذِكْر موسى ، قاله الشعبي . وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها أرض الجنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون .
والثاني : أرض الدنيا ، وهو منقول عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : الأرض المقدسة ، قاله ابن السائب .
وفي قوله تعالى : { يرثها عباديَ الصالحون } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وفي رواية : ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح .
والثاني : بنو إِسرائيل ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنه عامّ في كل صالح ، قاله بعض فقهاء المفسرين .
قوله تعالى : { إِن في هذا } يعني : القرآن { لَبَلاغاً } أي : لَكِفاية؛ والمعنى : أن من اتَّبع القرآن وعمل به ، كان القرآن بلاغه إِلى الجنة .
وقوله تعالى : { لقوم عابدين } قال كعب : هم أُمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلُّون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان .
قوله تعالى : { وما أرسلناكَ إِلا رحمة للعالَمين } قال ابن عباس : هذا عامّ للبَرِّ والفاجر ، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن كفر به صُرفت عنه العقوبة إِلى الموت والقيامة . وقال ابن زيد : هو رحمة لمن آمن به خاصة .
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قوله تعالى : { فهل أنتم مسلمون } قال ابن عباس : فهل أنتم مخلِصون له العبادة؟ قال أهل المعاني : هذا استفهام بمعنى الأمر .
قوله تعالى : { فإن تَوَلَّوا } أي : أَعْرَضُوا ولم يؤمنوا { فقل آذنتُكم على سواءٍ } في معنى الكلام قولان .
أحدهما : نابذتُكم وعاديتُكم وأعلمتُكم ذلك ، فصرتُ أنا وأنتم على سواءٍ قد استوينا في العلم بذلك ، وهذا من الكلام المختصر ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : أعلمتكم بالوحي إِليَّ لتستووا في الإِيمان به ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وإِن أدري } أي : وما أدري { أقريبٌ أم بعيد ما توعدون } بنزول العذاب بكم . { إِنه يعلم الجهر } وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم { متى هذا الوعد } [ يس : 48 ] ، و { ما تَكْتُمون } إِسرارُهم أن العذاب لا يكون .
قوله تعالى : { لَعَلَّهُ فتنةٌ لكم } في هاء «لَعَلَّه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى ما آذنهم به ، قاله الزجاج .
والثاني : إِلى العذاب؛ فالمعنى : لعل تأخير العذاب عنكم فتنة ، قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي . ومعنى الفتنة هاهنا : الاختبار ، { ومتاعٌ إِلى حين } أي : تستمعون إِلى انقضاء آجالكم . { قُلْ رَبِّ } وروى حفص عن عاصم : «قال رَبِّ» { احكم } قرأ أبو جعفر : «ربُّ احكم» بضم الباء . وروى زيد عن يعقوب : «ربِّيَ» بفتح الياء «أَحْكَمُ» بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم . ومعنى «احكم بالحق» أي : بعذاب كفار قومي الذي نزوله حقٌّ ، فحكَم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام؛ والمعنى على هذا : افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق . ومعنى { على ما تصفون } أي : من كذبكم وباطلكم . وقرأ ابن عامر ، والمفضل عن عاصم : «يصفون» بالياء .
فإن قيل : فهل يجوز على الله أن يحكُم بغير الحق؟
فالجواب : أن المعنى : احكم بحكمك الحق ، كأنه استعجل النصر عليهم .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
فصل في نزولها
روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلُّها ، غير آيتين نزلتا بالمدينة : قوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } والتي تليها [ الحج : 13 ، 12 ] . وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية إِلا أربع آيات نزلت بمكة ، وهي قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول . . . } إِلى آخر الأربع [ الحج : 53 - 57 ] . وقال عطاء بن يسار : نزلت بمكة إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة : { هذان خصمان } واللتان بعدها [ الحج : 20 - 22 ] . وقال أبو سليمان الدمشقي : أولها مدني إِلى قوله تعالى : { وبشر المحسنين } [ الحج : 38 ] وسائرها مكي . وقال الثعلبي : هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة ، وهي قوله تعالى : { هذان خصمان } [ الحج : 20 ] إِلى قوله تعالى : { الحميد } [ الحج : 25 ] . وقال هبة الله بن سلامة : هي من أعاجيب سور القرآن ، لأن فيها مكياً ، ومدنياً ، وحضرياً ، وسفرياً ، وحربياً ، وسلمياً ، وليلياً ، ونهارياً ، وناسخاً ، ومنسوخاً .
فأما المكي ، فمن رأس الثلاثين منها إِلى آخرها .
وأما المدني ، فمن رأس خمس وعشرين إِلى رأس ثلاثين .
وأما الليليُّ ، فمن أولها إِلى آخر خمس آيات .
وأما النهاريُّ ، فمن رأس خمس [ آيات ] إِلى رأس تسع .
وأما السفري ، فمن رأس تسع إِلى اثنتي عشرة .
وأما الحضري ، فإلى رأس العشرين [ منها ] ، نسب إِلى المدينة ، لقرب مدَّته .
قوله تعالى : { اتقوا ربكم } أي : احذروا عقابه { إِنَّ زلزلة الساعة } الزلزلة : الحركة على الحالة الهائلة .
وفي وقت هذه الزلزلة قولان .
أحدهما : أنها يوم القيامة بعد النشور . " روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : «إِن زلزلة الساعة شيء عظيم» وقال : تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرَّبُّ عز وجل آدم عليه السلام : ابعث بعثاً إِلى النار " ، فذكر الحديث . وروى أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم : قم ، فابعث بعث النار ، فيقول : يا رب ، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلى النار ، فحينئذ يشيب المولود ، وتضع كل ذات حمل حملها " ، وقرأ الآية . وقال ابن عباس : زَلْزَلَةُ الساعة : قِيَامُها ، يعني أنها تُقارِب قيام الساعة ، وتكون معها . وقال الحسن ، والسدي : هذه الزلزلة تكون يوم القيامة .
والثاني : أنها تكون في الدنيا قبل القيامة ، وهي من أشراط الساعة ، قاله علقمة ، والشعبي ، وابن جريج . وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب ، قال ست آيات قبل القيامة ، بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إِذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إِذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت ، واضطربت ، ففزع الجن إِلى الإِنس ، والإِنس إِلى الجن ، واختلطت الدواب ، والطير ، والوحش ، فماج بعضهم في بعض ، فقالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إِلى البحور ، فإذا هي نار تَأجَّج ، فبينما هم كذلك إِذ تصدَّعت الأرض إِلى الأرض السابعة ، والسماء إِلى السماء السابعة ، فينما هم كذلك إِذ جاءتهم الريح فماتوا .
وقال مقاتل : هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى ، وذلك أن منادياً ينادي من السماء : يا أيها الناس أتى أمر الله ، فيفزعون فزعاً شديداً فيشيب الصغير ، وتضع الحوامل .
قوله تعالى : { شيء عظيم } أي : لا يوصف لعِظَمه .
قوله تعالى : { يوم ترونها } يعني : الزلزلة { تذهل كل مرضعة عما أرضعت } فيه قولان .
أحدهما : تسلو عن ولدها ، وتتركه ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : تُشْغَل عنه ، قاله قطرب ، ومنه قول ابن رواحة :
ويذهل الخليل عن خليله ... وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن أبي عبلة : «تُذهِل» برفع التاء وكسر الهاء «كلَّ» بنصب اللام . قال الأخفش : وإِنما قال : «مرضعة» ، لأنه أراد والله أعلم الفعل ، ولو أراد الصفة فيما نرى ، لقال : «مرضع» . قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ، وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ، لأن بعد البعث لا تكون حبلى .
قوله تعالى : { وتَرى الناس سُكارى } وقرأ عكرمة ، والضحاك ، وابن يعمر ، «وتُرى» بضم التاء . ومعنى «سكارى» : من شدة الخوف { وما هم بسُكارى } من الشراب ، والمعنى : ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم ، لشدة ما يمرُّ بهم ، يضطربون اضطراب السكران من الشراب . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : «سَكْرى وما هم بسَكْرى» وهي قراءة ابن مسعود . قال الفراء : وهو وجه جيد ، لأنه بمنزلة الهَلْكى والجَرْحى . وقرأ عكرمة ، والضحاك ، وابن السميفع : «سَكارى وما هم بسَكارى» بفتح السين والراء وإِثبات الألف ، { ولكن عذاب الله شديد } فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه .
قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله } قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث . وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان كلَّما نزل شيء من القرآن كذَّب به ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه زعم أن الملائكة بنات الله ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه قال : لا يقدر الله على إِحياء الموتى ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { بغير علم } أي : إِنما يقوله بإغواءِ الشيطان ، لا بعلم { ويتَّبع } ما يسوِّل له { كلَّ شيطانٍ مَريدٍ } وقد ذكرنا معنى «المريد» في سورة [ النساء : 117 ] .
قوله تعالى : { كُتب عليه أَنَّه من تولاه } «كُتب» بمعنى : قُضي والهاء في «عليه» وفي «تولاه» كناية عن الشيطان . ومعنى الآية : قضي على الشيطان أَنَّه يُضِلُّ مَن اتَّبعه . وقرأ أبو عمران الجوني : «كَتب» بفتح الكاف «أنه» بفتح الهمزة [ «فإنه» بكسر الهمزة ] . وقرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، وابن أبي ليلى ، والضحاك ، وابن يعمر : «إِنه» «فإِنه» بكسر الهمزة فيهما . وقد بيَّنَّا معنى «السعير» في سورة [ النساء : 10 ] .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
قوله تعالى : { يا أيها الناس } يعني : أهل مكة { إِن كنتم في ريب من البعث } أي : في شك من القيامة { فإنا خلقناكم من تراب } يعني : خَلْقَ آدم { ثم من نطفة } يعني : خَلْقَ ولده ، والمعنى : إِن شككتم في بعثكم فتدبَّروا أمر خلقكم وابتدائكم ، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين الابتداء والاعادة . فأما النطفة ، فهي المني . والعلقة : دم عبيط جامد . وقيل سميت علقة لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به ، فإذا جفَّت فليست علقةً . والمضغة : لحمة صغيرة . قال ابن قتيبة : وسميت بذلك ، لأنه بقدر ما يُمضغ ، كما قيل : غرفة لقدر ما يُغرَف .
قوله تعالى : { مخلَّقةٍ وغيرِ مخلَّقةٍ } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أن المخلَّقة : ما خُلق سويّاً ، وغير المخلَّقة : ما ألقته الأرحام من النطف ، وهو دم قبل أن يكون خَلْقاً ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أن المخلَّقة : ما أُكمل خَلْقه بنفخ الروح فيه ، وهو الذي يولَد حيّاً لتمامٍ ، وغير المخلَّقة : ما سقط غير حيٍّ لم يكمل خَلْقُه بنفح الروح فيه ، هذا معنى قول ابن عباس .
والثالث : أن المخلَّقة : المصوَّرة ، وغير المخلَّقة : غير مصوَّرة ، قاله الحسن .
والرابع : أن المخلَّقة وغير المخلَّقة : السقط ، تارة يسقط نطفة وعلقة ، وتارة قد صُوِّر بعضه ، وتارة قد صُوِّر كلُّه ، قاله السدي .
والخامس : أن المخلَّقة : التامة ، وغير المخلَّقة : السقط ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { لنبيِّنَ لكم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : خلقناكم لنبيِّن لكم ما تأتون وما تذَرون .
والثاني : لنبيِّن لكم في القرآن بُدُوَّ خَلْقِكم ، وتنقُّلَ أحوالكم .
والثالث : لنبيِّن لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم .
والرابع : لنبيِّن لكم أن البعث حق .
وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن أبي عبلة : «ليبيِّن لكم» لكم بالياء .
قوله تعالى : { ونقرُّ في الأرحام } وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء : «ويُقَرُّ» بباء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو إِسحاق السَّبيعي : «ويُقِرَّ» بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء . والذي يُقَرُّ في الأرحام ، هو الذي لا يكون سقطاً ، { إِلى أجلٍ مسمى } وهو أجل الولادة { ثم نخرجكم طفلاً } قال أبو عبيدة : هو في موضع «أطفال» ، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع ، قال الله تعالى : { والملائكةُ بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] أي : ظهراء ، وأنشد :
فَقُلْنا أسلِموا إِنَّا أَخوكم ... فقد بَرِئتْ من الإِحَنِ الصدورُ
وأنشد أيضاً :
في حَلْقكم عظمٌ وقد شَجينا ... وقال غيره : إِنما قال : «طفلاً» فوحَّد ، لأن الميم في قوله تعالى : { نخرجكم } قد دلَّت على الجميع ، فلم يحتج إِلى أن يقول : أطفالاً .
قوله تعالى : { ثم لتبلغوا } فيه إِضمار ، تقديره : ثم نعمِّركم لتبلغوا أشدكم ، وقد سبق معنى «الأشُد» [ الأنعام : 153 ] ، { ومنكم من يُتَوفَّى } من قبل بلوغ الأشُدِّ { ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر } وقد شرحناه في [ النحل : 70 ] .
ثم إِن الله تعالى دلَّهم على إِحيائه الموتى باحيائه الأرض ، فقال تعالى : { وترى الأرض هامدة } قال ابن قتيبة : أي : ميتة يابسة ، ومثله : همدت النار : إِذا طفئت فذهبت .
قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء } يعني : المطر { اهتزَّت } أي : تحرَّكت للنبات ، وذلك أنها ترتفع عن النبات إِذا ظهر ، فهو معنى قوله تعالى : { وربت } أي : ارتفعت وزادت . وقال المبرِّد : أراد : اهتزَّ نباتها وربا ، فحذف المضاف . قال الفراء : وقرأ أبو جعفر المدني : «وربأَت» بهمزة مفتوحة بعد الباء . فإن كان ذهب إِلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم ، أي : أنه يرتفع ، وإِلا ، فهو غلط .
قوله تعالى : { وأنبتت من كل زوج بهيج } قال ابن قتيبة : من كل جنس حَسَنٍ يبهج ، أي : يسرُّ ، وهو فعيل في معنى فاعل .
قوله تعالى : { ذلك } قال الزجاج : المعنى : الأمر ذلك كما وصف لكم ، والأجود أن يكون موضع «ذلك» رفعاً ، ويجوز أن يكون نصباً على معنى : فعل الله ذلك بأنه هو الحق .
قوله تعالى : { وأن الساعة } أي : ولتعلموا أن الساعة { آتية } .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل } قد سبق بيانه . وهذا مما نزل في النضر أيضاً . والهدى : البيان والبرهان .
قوله تعالى : { ثانيَ عِطفه } العِطف : الجانب . وعِطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه الإِنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي . قال الزجاج : «ثانيَ» منصوب على الحال ، ومعناه : التنوين ، معناه : ثانياً عِطفه . وجاء في التفسير : أن معناه : لاوياً عنقه ، وهذا يوصف به المتكبِّر ، والمعنى : ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّراً .
قوله تعالى : { ليُضلَّ } أي : ليصير أمره إِلى الضلال ، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل ، فإن أمره يصير إِلى ذلك ، { له في الدنيا خزي } وهو ما أصابه يوم بدر ، وذلك أنه قُتل . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ يونس : 70 ] إِلى قوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } وفي سبب نزول هذه الآية قولان .
أحدهما : أن ناساً من العرب كان يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : نحن على دينك ، فإن أصابوا معيشةً ، ونُتِجَتْ خَيْلُهم ، وَوَلَدَتْ نساؤُهم الغلمانَ اطمأنُّوا وقالوا : هذا دينُ حقٍّ ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا : هذا دين سوءٍ ، فينقلبون عن دينهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا معنى قول ابن عباس ، وبه قال الأكثرون .
والثاني : " أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده ، فتشاءم بالإِسلام ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني ، فقال : «إِن الإِسلام لا يقال» . فقال : إِني لم أُصِب في ديني هذا خيراً ، أذهب بصري ومالي وولدي ، فقال : «يا يهودي : إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب» " ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
قوله تعالى : { على حرف } قال مجاهد ، وقتادة : «على شكٍّ» ، قال أبو عبيدة : كل شاكٍّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم . وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكِّن منه ، فشبِّه به الشاكُّ ، لأنه قّلِقٌ في دينه على غير ثبات ، ويوضحه قوله تعالى : { فإن أصابه خير } أي : رخاءٌ وعافية { اطمأنَّ به } على عبادة الله { وإِن أصابته فتنة } اختبار بجدب وقلّة مال { انقلب على وجهه } أي : رجع عن دينه إِلى الكفر . والمعنى : انصرف إِلى وجهه الذي توجه منه ، وهو الكفر ، { خسر الدنيا } حيث لم يظفر بما أراد منها ، { و } خسر { الآخرة } بارتداده عن الدين . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو مجلز ، ومجاهد ، وطلحة بن مصرف ، وابن أبي عبلة ، وزيد عن يعقوب : «خاسِرَ الدنيا» بألف قبل السين ، وبنصب الراء «والآخرةِ» بخفض التاء . { يدعو } هذا المرتد ، أي : يعبد { مالا يضره } إِن لم يعبده { ولا ينفعه } إِن أطاعه { ذلك } الذي فعل { هو الضلال البعيد } عن الحق { يدعو لَمَن ضَرُّه } قال بعضهم : اللام صلة ، والمعنى : يدعو مَن ضره . وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير ، والمعنى : يدعو مَنْ لضرِّه { أقربُ من نفعه } ، قال : وشرح هذا أن اللام لليمين والتوكيد ، فحقُّها أن تكون أول الكلام ، فقدِّمت لتجعل في حقِّها . قال السدي : ضره في الآخرة بعبادته إِياه أقربُ من نفعه .
فإن قيل : فهل للنفع من عبادة الصنم وجه؟
فالجواب : أنه لا نفع من قِبَلِه أصلاً ، غير أنه جاء على لغة العرب ، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون : هذا بعيد .
قوله تعالى : { لبئس المولى ولبئس العشير } قال ابن قتيبة : المولى : الولي ، والعشير : الصاحب ، والخليل .
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قوله تعالى : { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } قال مقاتل : نزلت في نفر من أسد ، وغطفان ، قالوا : إِنا نخاف أن لا يُنْصَرَ محمدٌ ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود ، وإِلى نحو هذا ذهب أبو حمزة الثمالي ، والسدي . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإِشارة بهذه الآية إِلى الذين انصرفوا عن الإِسلام ، لأن أرزاقهم ما اتَّسعت ، وقد شرحنا القصة في قوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } .
وفي هاء «ينصره» قولان .
أحدهما : أنها ترجع على «مَن» ، والنصر : بمعنى الرزق ، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء ، وبه قال مجاهد . قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر ، فقال : مَنْ ينصرني نصره الله ، أي : من يعطيني أعطاه الله ، ويقال : نصر المطر أرض كذا ، أي : جادها ، وأحياها ، قال الراعي :
[ إِذا أدبر الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم ] وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
والثاني : أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً ، رواه التميمي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وقتادة . قال ابن قتيبة : وهذه كناية عن غير مذكور ، وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، وآخرون من المشركين ، يريدون اتَّباعه ، ويخشَوْن أن لا يتم أمره ، فقال هذه الآية للفريقين . ثم في معنى [ هذا ] النصر قولان .
أحدهما : أنه الغلبة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنه الرزق ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { فليمدد بسبب إِلى السماء } في المراد بالسماء قولان .
أحدهما : سقف بيته ، والمعنى : فليشدد حبلاً في سقف بيته ، فليختنق به { ثم ليقطع } الحبل ليموت مختنقاً ، هذا قول الأكثرين . ومعنى الآية : ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله ، لأنه إِذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم .
والثاني : أنها السماء المعروفة ، والمعنى : فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن قدر ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { ثم لْيقطع } قرأ أبو عمرو ، وابن عامر : «ثم لِيقطع» «ثم لِيقضوا» [ الحج : 29 ] بكسر اللام . زاد ابن عامر «ولِيوفوا» [ الحج : 29 ] «ولِيطوفوا» [ الحج : 29 ] بكسر اللام أيضاً . وكسر ابن كثير لام «ثم لِيقضوا» فحسب . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : بسكون هذه اللامات ، وكذلك في كل القرآن إِذا كان قبلها واوٌ أو فاءٌ [ أو ] ثم ، قال الفراء : من سكَّن فقد خفف ، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء ، فأكثر كلام العرب تسكينها ، وقد كسرها بعضهم . قال أبو علي : الأصل الكسر ، لأنك إِذا ابتدأت قلت : ليقم زيد .
قوله تعالى : { هل يذهبن كيدُه } قال ابن قتيبة : المعنى : هل تُذهبن حيلتُه غيظَه ، والمعنى : ليجهد جهده .
قوله تعالى : { وكذلك } أي : ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن { أنزلناه } يعني : القرآن . وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى : { إِن الله يفصل بينهم } أي : يقضي { يوم القيامة } بينهم بادخال المؤمنين الجنة ، والآخرين النار { إِن الله عل كل شيء } من أعمالهم { شهيد } .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قوله تعالى : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدَّوابُّ } أي : ألم تعلم . وقد بيَّنَّا في سورة [ النحل : 49 ] معنى السجود في حق من يعقل ، ومن لا يعقل .
قوله تعالى : { وكثير من الناس } يعني : الموحدين الذين يسجدون لله .
وفي قوله تعالى : { وكثير حق عليه العذاب } قولان .
أحدهما : أنهم الكفار ، وهم يسجدون ، وسجودهم سجود ظلّهم ، قاله مقاتل .
والثاني : أنهم لا يسجدون؛ والمعنى : وكثير من الناس أبى السجود ، فحق عليه العذاب ، لتركه السجود ، هذا قول الفراء .
قوله تعالى : { ومن يُهن اللهُ } أي : من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ ، { إِن الله يفعل ما يشاء } في خلقه من الكرامة والإِهانة .
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
قوله تعالى : { هذان خصمان } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر ، حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابنَي ربيعة ، والوليد ابن عتبة ، هذا قول أبي ذر .
والثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتاباً ، ونبيُّنا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد ، وآمنا بنبيِّكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبيَّنا ، ثم كفرتم به حسداً ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثالث : أنها في جميع المؤمنين ، والكفار ، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وعطاء ، ومجاهد .
والرابع : أنها نزلت في اختصام الجنة والنار ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، قاله عكرمة .
فأما قوله تعالى : { هذان } وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن كثير : «هاذانّ» بتشديد النون «خصمان» ، فمعناه : جمعان ، وليسا برجلين ، ولهذا قال تعالى : { اختصموا } ولم يقل : اختصما؛ على أنه قرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «اختصما» .
وفي خصومتهم ثلاثة أقوال .
أحدها : في دين ربِّهم ، وهذا على القولين الأوليين .
والثاني : في البعث ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه خصام مفاخرة ، على قول عكرمة .
قوله تعالى : { قطِّعت لهم ثياب } أي : سُوِّيت وجُعلت لباساً . قال ابن عباس : قُمُص من نار . وقال سعيد بن جبير : المراد بالنار هاهنا : النحاس . فأما «الحميم» فهو الماء الحارُّ { يُصهر به } قال الفراء : يذاب به ، يقال : صهرت الشحم بالنار . قال المفسرون : يذاب بالماء الحارِّ { ما في بطونهم } من شحم أو مِعىً حتى يخرج من أدبارهم ، وتنضج الجلود فتتسقاط من حرِّه ، { ولهم مقامع } قال الضحاك : هي المطارق . وقال الحسن : إِن النار ترميهم بلهبها ، حتى إِذا كانوا في أعلاها ، ضُرِبوا بمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفاً ، فإذا انتهوا إِلى أسفلها ، ضربهم زفير لهبها ، فلا يستقرُّون ساعة . قال مقاتل : إِذا جاشت جهنم ، ألقتهم في أعلاها ، فيريدون الخروج ، فتتلقَّاهم خزنة جهنم بالمقامع ، فيضربونهم ، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إِلى قعرها . وقال غيره : إِذا دفعتهم النار ، ظنوا أنها ستقذفهم خارجاً منها ، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد .
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
قوله تعالى : { ولؤلؤٍ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «ولؤلو» بالخفض . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «ولؤلؤاً» بالنصب . قال أبو علي : من خفص ، فالمعنى : يحلَّون أساور من ذهب ومن لؤلؤٍ؛ ومن نصب قال : ويحلَّوْن لؤلؤاً .
قوله تعالى : { وهُدُوا } أي : أُرْشِدوا في الدنيا { إِلى الطيِّب من القول } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه «لا إِله إِلا الله ، والحمد لله» قاله ابن عباس . وزاد ابن زيد : «والله أكبر» .
والثاني : القرآن ، قاله السدي .
والثالث : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، حكاه الماوردي .
فأما «صراط الحميد» فقال ابن عباس : هو طريق الإِسلام .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
قوله تعالى : { ويصدُّون عن سبيل الله } أي : يمنعون الناس من الدخول في الإِسلام . قال الزجاج : ولفظ «يصدون» لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ، لأن معنى «الذين كفروا» : الذين هم كافرون ، فكأنه قال : إِن الكافرين والصَّادِّين؛ فأما خبر «إِنَّ» فمحذوف ، فيكون المعنى : إِن الذين هذه صفتهم هلكوا .
وفي «المسجد الحرام» قولان .
أحدهما : جميع الحرم . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كانوا يرون الحرم كلَّه مسجداً .
والثاني : نفس المسجد ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { الذي جعلناه للناس } هذا وقف التمام .
وفي معناه قولان .
أحدهما : جعلناه للنَّاس كلِّهم ، لم نخصَّ به بعضهم دون بعض ، هذا على أنه جميع الحرم .
والثاني : جعلناه قبلةً لصلاتهم ، ومنسكاً لحجِّهم ، وهذا على أنه نفس المسجد . وقرأ ابراهيم النخعي ، وابن أبي عبلة ، وحفص عن عاصم : «سواءً» بالنصب ، فيتوجه الوقف على «سواء» ، وقد وقف بعض القراء كذلك . قال أبو علي الفارسي : أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم ، فصار المعنى : الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء . فأما العاكف : فهو المقيم ، والبادي : الذي يأتيه من غير أهله ، وهذا من قولهم : بدا القوم : إِذا خرجوا من الحضر إِلى الصحراء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «البادي» بالياء ، غير أن ابن كثير وقف بياء ، وأبو عمرو بغير ياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، والمسيّبي عن نافع بغير ياء في الحالتين .
ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحقَّ بالمنزل من الآخر ، غير أنه لا يُخرَج أحدٌ من بيته ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة؛ وإِلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة ، وأحمد؛ ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام ، هذا على أن المسجد : الحرم كلّه .
والثاني : أنهما يستويان في تفضيله وحرمته وإِقامة المناسك به ، هذا قول الحسن ، ومجاهد . و [ منهم ] من أجاز بيع دور مكة ، وإِليه يذهب الشافعي . وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرم ، ويجوز أن يراد نفس المسجد .
قوله تعالى : { ومن يرد فيه بالحاد } الإِلحاد في اللغة : العدول عن القصد ، والباء زائدة ، كقوله تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، وأنشدوا :
بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ
المعنى : وأسفله ينبت المرخ؛ وقال آخر :
هُنَّ الحرائر لا ربَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سودُ المحاجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
وقال آخر :
نحن بَنو جَعْدة أربابُ الفَلَج ... نَضرِب بالسَّيف ونرجو بالفَرَج
هذا قول جمهور اللغويين . قال ابن قتيبة : والباء قد تزاد في الكلام ، كهذه الآية ، وكقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] { وهزِّي إِليك بجذع النخلة } [ مريم : 24 ] { بأيِّكم المفتون } [ القلم : 6 ] { تُلْقُون إِليهم بالمودَّة } [ الممتحنة : 1 ] { عيناً يشرب بها } [ الانسان : 6 ] أي : يشربها؛ وقد تزاد «من» ، كقوله تعالى :
{ ما أُريد منهم من رزق } [ الذاريات : 57 ] ، وتزاد «اللام» كقوله تعالى : { الذين هم لربهم يرهبون } [ الأعراف : 154 ] ، والكاف ، كقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ، و«عن» ، كقوله تعالى : { يخالِفون عن أمره } [ النور : 63 ] ، و«إِنَّ» ، كقوله تعالى : { فإنَّه ملاقيكم } [ الجمعة : 8 ] ، و«إِنْ» الخفيفة ، كقوله تعالى : { فيما إِن مكنَّاكم فيه } [ الأحقاف : 26 ] ، و«ما» ، كقوله تعالى : { عما قليل ليصبحنَّ نادمين } [ المؤمنون : 40 ] ، و«الواو» كقوله تعالى : { وتَلَّه للجبين ، وناديناه } [ الصافات : 103 ، 104 ] .
وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال .
أحدها : أنه الظلم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : هو عمل سيئة؛ فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي ، وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال : لا تحتكروا الطعام بمكة ، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم .
والثاني : أنه الشرك ، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة .
والثالث : الشرك والقتل ، قاله عطاء .
والرابع : أنه استحلال محظورات الإِحرام ، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضاً .
والخامس : استحلال الحرام تعمُّداً ، قاله ابن جريج .
فإن قيل : هل يؤاخذ الإِنسان إِن أراد الظلم بمكة ، ولم يفعله؟
فالجواب من وجهين .
أحدهما : أنه إِذا همَّ بذلك في الحرم خاصَّة ، عوقب ، هذا مذهب ابن مسعود ، فإنه قال : لو أن رجلاً همَّ بخطيئة ، لم تكتب عليه ما لم يعملها ، ولو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت ، وهو ب «عَدَنِ أَبْيَن» ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم . وقال الضحاك : إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى ، فتكتب عليه ولم يعملها . وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة ، كما تضاعف الحسنات . وسئل الإِمام أحمد : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال : لا ، إِلا بمكة لتعظيم البلد . وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها؛ وقد جاور جابر بن عبد الله ، وكان ابن عمر يقيم بها .
والثاني : أن معنى : «ومن يرد» : من يعمل . قال أبو سليمان الدمشقي : هذا قول سائر من حفظنا عنه .
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قوله تعالى : { وإِذ بوَّأْنا لإِبراهيم } قال ابن عباس : جعلنا . وقال مقاتل : دللناه عليه . وقال ثعلب : وإِنما أدخل اللام ، على أنَّ «بوَّأْنا» في معنى : جعلنا ، فيكون بمعنى : { ردف لكم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم . وقد شرحنا كيفية بناء البيت في [ البقرة : 129 ] .
قوله تعالى : { أن لا تشرك بي شيئاً } المعنى : وأوحينا إِليه ذلك ، { وطهر بيتيَ } حرَّك هذه الياء ، نافع وحفص عن عاصم . وقد شرحنا الآية في [ البقرة : 125 ] .
وفي المراد ب «القائمين» قولان .
أحدهما : القائمون في الصلاة ، قاله عطاء ، والجمهور .
والثاني : المقيمون بمكة ، حكي عن قتادة .
قوله تعالى : { وأذِّن في الناس بالحج } قال المفسرون : لما فرغ إِبراهيم من بناء البيت ، أمره الله تعالى أن يؤذِّن في الناس بالحج ، فقال إِبراهيم : يا رب ، وما يبلغ صوتي؟ قال أذِّن ، وعليَّ البلاغ ، فعلا على جبل أبي قبيس ، وقال يا أيها الناس : إِن ربكم قد بنى بيتاً ، فحجُّوه ، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج ، فأجابوه : لبيك اللهم لبيك . والأذان بمعنى النداء والإِعلام ، والمأمور بهذا الأذان ، إِبراهيم في قول الجمهور ، إِلا ماروي عن الحسن أنه قال : المأمور به محمد صلى الله عليه وسلم . والناس هاهنا : اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور ، إِلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه قال : عنى بالناس أهل القبلة .
واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إِليه إِبراهيم ، فكأنه قد أتى إِبراهيم ، لأنه أجاب نداءه . وواحد الرجال هاهنا : راجل ، مثل صاحب ، وصحاب ، والمعنى : يأتوك مشاةً . وقد روي أن إِبراهيم وإِسماعيل حجّا ماشيين ، وحج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إِلى مكة ، والنجائب تُقَاد معه . وحج الإِمام أحمد ماشياً مرتين أو ثلاثاً .
قوله تعالى : { وعلى كل ضامرٍ } أي : ركباناً على ضُمَّر من طول السفر . قال الفراء : و«يأتين» فعل للنوق . وقال الزجاج : «يأتين» على معنى الإِبل . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «يأتون» بالواو .
قوله تعالى : { من كل فج عميق } أي : طريق بعيد . وقد ذكرنا تفسير الفجِّ عند قوله تعالى : { وجعلنا فيها فجاجاً } [ الانبياء : 31 ] .
قوله تعالى : { ليشهدوا } أي : ليحضروا { منافع لهم } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : التجارة ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : منافع الآخرة ، قاله سعيد بن المسيب ، والزجاج في آخرين .
والثالث : منافع الدارين جميعاً ، قاله مجاهد . وهو أصح ، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة ، وإِنما الأصل قصدُ الحج ، والتجارة تَبَع .
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال .
أحدها : أنها أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عمر ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والشافعي .
والثاني : تسعة أيام من العشر ، قاله أبو موسى الأشعري .
والثالث : يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده ، رواه نافع عن ابن عمر ، ومقسم عن ابن عباس .
والرابع : أنها أيام التشريق ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء الخراساني ، والنخعي ، والضحاك .
والخامس : أنها خمسة أيام ، أولها يوم التروية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والسادس : ثلاثة أيام ، أولها يوم عرفة ، قاله مالك بن أنس . وقيل : إِنما قال : «معلومات» ، ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها . قال الزجاج : والذِّكْر هاهنا يدل على التسمية على ما يُنحَر ، لقوله تعالى : { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ؛ قال القاضي أبو يعلى : ويحتمل أن يكون الذِّكر المذكور هاهنا : هو الذِّكر على الهدايا الواجبة ، كالدم الواجب لأجل التمتع والقران ، ويحتمل أن يكون الذِّكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق ، لأن الآية عامَّة في ذلك .
قوله تعالى : { فكلوا منها } يعني : الأنعام التي تُنحر؛ وهذا أمر إِباحة . وكان أهل الجاهلية لا يستحلُّون أكل ذبائحهم ، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز ، غير أن هذا إِنما يكون في الهدي المتطوَّع به ، فأما دم التمتع والقران ، فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه ، وقال الشافعي : لا يجوز ، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : من كل الهدي يؤكل ، إِلا ما كان من فداءٍ أو جزاءٍ أو نذر . فأما «البائس» فهو ذو البؤس ، وهو شدة الفقر .
قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : حلق الرأس ، وأخذ الشارب ، ونتف الإِبط ، وحلق العانة ، وقص الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والوقوف بعرفة ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : مناسك الحج ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر .
والثالث : حلق الرأس ، قاله مجاهد .
والرابع : الشعر ، والظفر ، قاله عكرمة .
والقول الأول أصح . لأن التفث : الوسخ ، والقذارة : من طول الشعر والأظفار والشعث . وقضاؤه : نقضه ، وإِذهابه . والحاج مغبَّر شعث لم يدَّهن ، ولم يستحدَّ ، فإذا قضى نسكه ، وخرج من إِحرامه بالحلق ، والقلم ، وقص الأظفار ، ولبس الثياب ، ونحو ذلك ، فهذا قضاء تفثه . قال الزجاج : وأهل اللغة لا يعرفون التفث إِلا من التفسير ، وكأنه الخروج من الإِحرام إِلى الإِحلال .
قوله تعالى : { وليوفوا نذورهم } وروى أبو بكر عن عاصم : «ولْيوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء . قال ابن عباس : هو نحر ما نذروا من البُدن . وقال غيره : ما نذروا من أعمال البرِّ في أيام الحج ، فإن الإِنسان ربما نذر أن يتصدق إِن رزقه الله رؤية الكعبة ، وقد يكون عليه نذور مطلقة ، فالأفضل أن يؤدِّيَها بمكة .
قوله تعالى : { وليطوَّفوا بالبيت العتيق } هذا هو الطواف الواجب ، لأنه أُمر به بعد الذبح ، والذبح إِنما يكون في يوم النحر ، فدل على أنه الطواف المفروض .
وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أقوال .
أحدها : لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة . روى عبد الله بن الزبير ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِنما سمى الله البيت : العتيق ، لأن الله أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبَّار قط " وهذا قول مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أن معنى العتيق : القديم ، قاله الحسن ، وابن زيد .
والثالث : لأنه لم يملك قط ، قاله مجاهد في رواية ، وسفيان بن عيينة .
والرابع : لأنه أُعتق من الغرق زمان الطوفان ، قاله ابن السائب . وقد تكلَّمنا في هذه السورة في «ليقضوا» «وليوفوا» «وليطوفوا» .
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
قوله تعالى : { ذلك } أي : الأمر ذلك ، يعني : ما ذكر من أعمال الحج { ومن يعظِّم حرمات الله } فيجتنب ما حرم الله عليه في الإِحرام تعظيماً لأمر الله . قال الليث : الحرمة : مالا يحلُّ انتهاكه . وقال الزجاج : الحرمة : ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه .
قوله تعالى : { فهو } يعني : التعظيم { خير له عند ربه } في الآخرة { وأُحلَّت لكم الأنعام } وقد سبق بيانها [ المائدة : 1 ] { إِلا ما يتلى عليكم } تحريمه ، يعني [ به ] : ما ذكر في [ المائدة : 3 ] من المنخنقة وغيرها . وقيل : وأُحلت لكم الأنعام في حال إِحرامكم ، إِلا ما يتلى عليكم في الصيد ، فإنه حرام .
قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس } أي : دعوه جانباً ، قال الزجاج : و«مِن» هاهنا ، لتخليص جنس من أجناس ، المعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن . وقد شرحنا معنى الرجس في [ المائدة : 90 ] .
وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال .
أحدها : شهادة الزور ، قاله ابن مسعود .
والثاني : الكذب ، قاله مجاهد .
والثالث : الشرك ، قاله أبو مالك .
والرابع : أنه قول المشركين في الأنعام : هذا حلال ، وهذا حرام ، قاله الزجاج ، قال : وقوله تعالى : { حنفاء لله } منصوب على الحال ، وتأويله : مسلمين لا يُنسَبون إِلى دين غير الإِسلام . ثم ضرب الله مثلاً للمشرك ، فقال : { ومن يشرك بالله } إِلى قوله : { سحيق } ، والسحيق : البعيد .
واختلفوا في قراءة «فتخطَفُه» فقرأ الجمهور : «فتخطَفُه» بسكون الخاء من غير تشديد الطاء . وقرأ نافع : بتشديد الطاء . وقرأ أبو المتوكل ، ومعاذ القارىء : بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء . وقرأ أبو رزين ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران [ الجوني ] : بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء . وقرأ الحسن ، والأعمش : بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء . وكلُّهم فتح الطاء .
وفي المراد بهذا المثَل قولان .
أحدهما : أنه شبَّه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه ، بالذي يَخِرُّ من السماء ، قاله قتادة .
والثاني : أنه شبَّه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة ، بحال الهاوي من السماء ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { ذلك } أي : الأمر ذلك الذي ذكرناه { ومن يعظم شعائر الله } قد شرحنا معنى الشعائر في [ البقرة : 158 ] .
وفي المراد بها هاهنا قولان .
أحدهما : أنها البدن . وتعظيمها : استحسانها ، واستسمانها { لكم فيها منافع } قبل أن يُسمِّيَها صاحبها هدياً ، أو يشعرها ويوجبها ، فإذا فعل ذلك ، لم يكن له من منافعها شيء ، روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك . وقال عطاء ابن أبي رباح : لكم في هذه الهدايا منافع بعد إِيجابها وتسميتها هدايا إِذا احتجتم إِلى شيء من ذلك أو اضطررتم إِلى شرب ألبانها { إِلى أجل مسمَّى } وهو أن تُنحَر .
والثاني : أن الشعائر : المناسك ومشاهد مكة؛ والمعنى : لكم فيها منافع بالتجارة إِلى أجلٍ مسمَّى ، وهو الخروج من مكة ، رواه أبو رزين عن ابن عباس .
وقيل : لكم فيها منافع من الأجر والثواب في قضاء المناسك إِلى أجل مسمى ، وهو انقضاء أيام الحج .
قوله تعالى : { فإنها } يعني الأفعال المذكورة ، من اجتناب الرجس وقول الزور ، وتعظيم الشعائر . وقال الفراء : «فإنها» يعني الفعلة { من تقوى القلوب } ، وإِنما أضاف التقوى إِلى القلوب ، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب .
قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّها } أي : حيث يَحِلُّ نحرها { إِلى البيت } يعني : عند البيت ، والمراد به : الحرم كلُّه ، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت ، ولا في المسجد ، هذا على القول الاول؛ وعلى الثاني ، يكون المعنى : ثم مَحِلّ الناس من إِحرامهم إِلى البيت ، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
قوله تعالى : { ولكل أُمَّة جعلنا منسكاً } قرأ حمزة ، والكسائي ، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين ، وقرأ الباقون بفتحها . فمن فتح أراد المصدر ، من نَسَكَ يَنْسُكُ ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع . ومعنى الآية : لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، وإِنما خص بهيمة الأنعام ، لأنها المشروعة في القُرَب . والمراد من الآية : أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة ، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة .
قوله تعالى : { فإلهكم إِله واحد } أي : لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه { فله أسلموا } أي : انقادوا واخضعوا . وقد ذكرنا معنى الإِخبات في [ هود : 23 ] وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه .
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
قوله تعالى : { والبُدْنَ } وقرأ الحسن ، وابن يعمر برفع الدال . قال الفراء : يقال : بُدْن وبُدُن ، والتخفيف أجود وأكثر ، لأن كل جمع كان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه ، خُفِّف ، مثل أَكَمَة وأُكْم ، وأَجَمَة وأُجْم ، وخَشَبَة وخشب . وقال الزجاج : «البُدْنَ» منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر ، والمعنى : وجعلنا البُدْنَ؛ وإِن شئتَ رفعتها على الإِستئناف ، والنصب أحسن ، ويقال : بُدْن وبُدُن وبَدَنة ، مثل قولك : ثُمْر وثُمُر وَثَمرة؛ وإِنما سمِّيت بَدَنَة ، لأنها تَبْدُن ، أي : تسمن .
وللمفسرين في البُدْن قولان .
أحدهما : أنها الإِبل والبقر ، قاله عطاء .
والثاني : الإِبل خاصة ، حكاه الزجاج ، وقال : الأول قول أكثر فقهاء الأمصار . قال القاضي أبو يعلى : البدنة : اسم يختص الإِبل في اللغة ، والبقرة تقوم مقامها في الحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .
قوله تعالى : { جعلناها لكم من شعائر الله } أي : جعلنا لكم فيها عبادة لله ، من سَوْقها إِلى البيت ، وتقليدها ، وإِشعارها ، ونحرها ، والإِطعام منها ، { لكم فيها خير } وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة ، { فاذكروا اسم الله عليها } أي : على نحرها ، { صَوَافّ } وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة : «صَوافن» بالنون . وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن يعمر : «صَوافي» بالياء . قال الزجاج : «صَوافَّ» منصوبة على الحال ، ولكنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف؛ أي : قد صفَّت قوائمها ، والمعنى : اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها ، والبعير يُنحَر قائماً ، وهذه الآية تدل على ذلك . ومن قرأ : «صوافن» فالصافن : التي تقوم على ثلاث ، والبعير إِذا أرادوا نحره ، تُعقل إِحدى يديه ، فهو الصافن ، والجميع : صوافن . هذا ومن قرأ : «صوافيَ» بالياء وبالفتح بغير تنوين ، فتفسيره : خوالص ، أي : خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحداً . { فإذا وجبت جنوبها } أي : إِذا سقطت إِلى الأرض ، يقال : وَجَبَ الحائط وَجْبَة ، إِذا سقط . ووَجَبَ القلب وَجِيباً : إِذا تحرك من فزع . واعلم أن نحرها قياماً سُنَّة ، والمراد بوقوعها على جُنوبها : موتها ، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة ، وهذا في الأضاحي .
قوله تعالى : { وأَطْعِموا القانعَ والمُعْتَرَّ } وقرأ الحسن : «والمُعْتَرِ» بكسر الراء خفيفة . وفيهما ستة أقوال .
أحدها : أن القانع : الذي يَسأل ، والمعترّ : الذي يتعرَّض ولا يسأل ، رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، واختاره الفراء .
والثاني : أن القانع : المتعفّف ، والمعترّ : السائل ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والنخعي ، وعن الحسن كالقولين .
والثالث : أن القانع : المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعترّ : الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : القانع : جارك الذي يقنع بما أعطيته ، والمعترّ : الذي يتعرَّض ولا يسأل ، وهذا مذهب القرظي .
فعلى هذا يكون معنى القانع : أن يقنع بما أُعطي . ومن قال : هو المتعفف ، قال : هو القانع بما عنده .
والرابع : القانع : أهل مكة ، والمعترّ : الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة ، رواه خصيف عن مجاهد .
والخامس : القانع : الجار وإِن كان غنيّاً ، والمعترّ : الذي يعترُّ بك ، رواه ليث عن مجاهد .
والسادس : القانع : المسكين السائل ، والمعترّ : الصَّديق الزائر ، قاله زيد ابن أسلم . قال ابن قتيبة : يقال : قَنَع يَقْنَع قُنوعاً : إِذا سأل ، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة : إِذا رضي ، ويقال في المعتر : اعترَّني واعتراني وعَرَاني . وقال الزجاج : مذهب أهل اللغة أن القانع : السائل ، يقال : قَنَع يَقْنَع قُنُوعاً : إِذا سأل ، فهو قانع ، قال الشماخ :
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع
أي : من السؤال؛ ويقال : قَنِعَ قَنَاعة : إِذا رضي ، فهو قَنِع ، والمعترُّ والمعتري واحد .
قوله تعالى : { كذلك } أي : مثل ما وصفنا من نحرها قائمة { سخَّرناها لكم } نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون { لعلكم تَشْكُرون } أي : لكي تَشْكُروا .
قوله تعالى : { لن ينال اللهَ لحومُها } وقرأ عاصم الجحدري ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «لن تنال اللهَ لحومُها» بالتاء { ولكن تنالُه التقوى } بالتاء أيضاً .
سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال المفسرون : ومعنى الآية : لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها ، وإِنما يُرفع إِليه التقوى؛ وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم . فمن قرأ «تناله التقوى» بالتاء ، فإنه أنث للفظ التقوى . ومن قرأ : «يناله» بالياء ، فلأن التقوى والتُّقى واحد . والإِشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله ، وإِنما يتقبل ما يتقونه به ، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة .
قوله تعالى : { كذلك سَخَّرها } قد سبق تفسيره [ الحج : 37 ] ، { لتُكَبِّروا الله على ما هداكم } أي : على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجِّه ، وذلك أن يقول : الله أكبر على ما هدانا ، { وبَشِّر المحسنين } قال ابن عباس : يعني : الموحِّدين .
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قوله تعالى : { إِن الله يدافع عن الذين آمنوا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يدفع» «ولولا دفع الله» بغير ألف ، وهذا على مصدر «دَفَع» . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «إِن الله يدافع» بألف «ولولا دفع» بغير ألف ، وهذا على مصدر «دافعَ» ، والمعنى : يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم . قال الزجاج : والمعنى : إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم ، فإن الله يدفع عن حزبه . وال «خَوَّان» فَعّال من الخيانة ، والمعنى : أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله ، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته ، فهو خوَّان .
قوله تعالى : { أُذِنَ للَّذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِمُوا } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «أَذِنَ» بفتح الألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم : «أُذِنَ» بضمها .
قوله تعالى : { للذين يقاتَلون } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر التاء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : بفتحها . قال ابن عباس : " كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم : «اصبروا ، فإني لم أُومر بالقتال» " حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي أول آية أُنزلت في القتال . وقال مجاهد : هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين ، فأدركهم كفار قريش ، فأُذن لهم في قتالهم . قال الزجاج : معنى الآية : أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا . { بأنهم ظُلموا } أي : بسبب ما ظُلموا . ثم وعدهم النصر بقوله : { وإِنَّ الله على نصرهم لقدير } ولا يجوز أن تقرأ بفتح «إِن» هذه من غير خلاف بين أهل اللغة ، لأن «إِنَّ» إِذا كانت معها اللام ، لم تُفتح أبداً . وقوله : { إِلا أن يقولوا ربُّنا الله } معناه : أُخرِجوا لتوحيدهم .
قوله تعالى : { ولولا دَفْعُ الله الناسَ } قد فسرناه في [ البقرة : 251 ] .
قوله تعالى : { لهدِّمت } قرأ ابن كثير ، ونافع : «لَهُدِمَتْ» خفيفة ، والباقون بتشديد الدال .
فأما الصوامع ، ففيها قولان .
أحدهما : أنها صوامع الرهبان ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وابن زيد .
والثاني : أنها صوامع الصابئين ، قاله قتادة ، وابن قتيبة .
فأما البِيَع ، فهي جمع بِيعة ، وهي بِيَع النصارى .
وفي المراد بالصلوات قولان .
أحدهما : مواضع الصلوات . ثم فيها قولان .
أحدهما : أنها كنائس اليهود ، قاله قتادة ، والضحاك ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : قوله تعالى : { وصلوات } هي كنائس اليهود ، وهي بالعبرانية «صلوثا» .
والثاني : أنها مساجد الصابئين ، قاله أبو العالية .
والقول الثاني : أنها الصلوات حقيقة ، والمعنى : لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين ، لانقطعت الصلوات في المساجد ، قاله ابن زيد .
فأما المساجد ، فقال ابن عباس : هي مساجد المسلمين . وقال الزجاج : معنى الآية : لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيَع ، وفي زمن محمد المساجد .
وفي قوله : { يُذْكَرُ فيها اسم الله } قولان .
أحدهما : أن الكناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات ، قاله الضحاك .
والثاني : إِلى المساجد خاصة ، لأن جميع المواضع المذكورة ، الغالب فيها الشِّرك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه } أي : من ينصر دينه وشرعه .
قوله تعالى : { الذين إِن مكَّنَّاهم في الأرض } قال الزجاج : هذه صفة ناصِرِيه . قال المفسرون : التمكين في الأرض : نصرتهم على عدوّهم ، والمعروف : لا إِله إِلا الله ، والمنكر الشِّرك . قال الأكثرون : وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال القرظي : هم الولاة .
قوله تعالى : { ولله عاقبة الأمور } أي : إِليه مرجعها ، لأن كلَّ مُلك يَبْطُل سوى مُلكه .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله تعالى : { ثم أَخَذْتُهم } أي : بالعذاب { فكيف كان نَكير } أثبت الياء في «نكير» يعقوب [ في الحالَيْن ] ، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل ، والمعنى : كيف [ أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك؟! والمعنى : إِني ] أنكرتُ عليهم أبلغ إِنكار ، وهذا استفهام معناه التقرير .
قوله تعالى : { أهلكتُها } قرأ أبو عمرو : «أهلكتُها» بالتاء . والباقون : «أهلكناها» بالنون .
قوله تعالى : { وبئر معطَّلة } قرأ ابن كثير ، [ وعاصم ] ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «وبئر» مهموز . وروى ورش عن نافع بغير همز ، والمعنى : وكم بئرٍ معطَّلة ، أي : متروكة { وقصر مَشِيد } فيه قولان .
أحدهما : مجصَّص ، قاله ابن عباس ، وعكرمة . قال الزجاج : أصل الشِّيد : الجصُّ والنُّورة ، وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد .
والثاني : طويل ، قاله الضحاك ، ومقاتل . وفي الكلام إِضمار ، تقديره : وقصر مشيد معطَّل أيضاً ليس فيه ساكن .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
قوله تعالى : { أفلم يَسِيروا } قال المفسرون : أفلم يَسِر قومك في أرض اليمن والشام { فتكونَ لهم قلوب يَعْقِلون بها } إِذا نظروا آثار من هلك { أو آذان يَسْمَعون بها } أخبار الأمم المكذّبة { فإنها لا تعمى الأبصار } قال الفراء : الهاء في قوله : «فإنها» عماد ، والمعنى : أن أبصارهم لم تعم ، وإِنما عميت قلوبهم . وأما قوله : { التي في الصدور } فهو توكيد ، لأن القلب لا يكون إِلا في الصدر ، ومثله : { تلك عَشَرة كاملة } [ البقرة 196 ] ، { يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] ، { يقولون بأفواههم } [ آل عمران 167 ] .
قوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } قال مقاتل : نزلت في النضر بن الحارث القرشي . وقال غيره : هو قولهم له : { متى هذا الوعد } [ الملك 25 ] ونحوه من استعجالهم ، { ولن يُخْلِف الله وعده } في إِنزال العذاب بهم في الدنيا ، فأنزله بهم يوم بدر ، { وإِن يوماً عند ربِّك } أي : من أيام الآخرة { كألف سنة مما تَعُدُّون } من أيام الدنيا . قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تَعُدُّون» بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : «يَعُدُّون» بالياء .
فإن قيل : كيف انصرف الكلام من ذِكْر العذاب إِلى قوله : «وإِن يوماً عند ربِّك»؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا ، فقيل لهم : لن يخلف الله وعده في إِنزال العذاب بكم في الدنيا ، وإِن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سنيِّ الدنيا ، فكيف تستعجلون بالعذاب؟! فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ، هذا قول الفراء .
والثاني : وإِن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم ، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة ، إِلا أن الله تفضَّل عليهم بالإِمهال ، هذا قول الزجاج .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله تعالى : { ورِزقٌ كريم } يعني به [ الرزق ] الحَسَن في الجنة .
قوله تعالى : { والذين سَعَوا في آياتنا } أي : عملوا في إِبطالها { مُعاجِزين } قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «مُعجِزين» بغير ألف . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «مُعاجِزين» بألف . قال الزجاج : «مُعاجِزين» . أي : ظانِّين أنهم يُعجزوننا ، لأنهم ظنوا أنهم لا يُبعثون وأنه لا جنة ولا نار ، قال : وقيل في التفسير : مُعاجِزين : معانِدين ، وليس هو بخارج عن القول الأول؛ و«معجزين» تأويلها : أنهم كانوا يعجِّزون من اتَّبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويثبِّطونهم عنه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله تعالى : { وما أَرْسَلْنا من قبلك من رسول } الآية . قال المفسرون : سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة ( النجم ) قرأها حتى بلغ قوله : { أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] ، فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإِن شفاعتهن لترتجى؛ فلما سمعت قريش بذلك فرحوا ، فأتاه جبريل ، فقال : ماذا صنعتَ؟ تلوتَ على الناس مالم آتِكَ به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً ، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه ، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا . قال العلماء المحققون : وهذا لا يصح ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا ، ولو صح ، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات ، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا ، كما قال الله عز وجل : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه } [ فصِّلت : 26 ] . قال : وفي معنى «تمنى» قولان .
أحدهما : تلا ، قاله الأكثرون ، وأنشدوا :
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ... وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال آخر :
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ... تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
والثاني : أنه من الأُمنية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه ، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه ، قاله محمد بن كعب القرظي .
قوله تعالى : { فيَنْسَخُ الله ما يُلقي الشيطان } أي : يُبطله ويُذهبه { ثم يُحْكِمُ الله آياته } قال مقاتل : يُحْكِمُها من الباطل .
قوله تعالى : { ليجعل } اللام متعلقة بقوله : «ألقى الشيطان» ، والفتنة هاهنا بمعنى البلية والمحنة . والمرضُ : الشك والنفاق . { والقاسيةِ قلوبهم } يعني : الجافية عن الإِيمان . ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم ، والشقاق : غاية العدواة .
قوله تعالى : { ولِيَعْلَمَ الذين أوتوا العلم } وهو التوحيد والقرآن ، وهم المؤمنون . وقال السدي : التصديق بنسخ الله .
قوله تعالى : { أنّه الحق } إِشارة إِلى نسخ ما يلقي الشيطان؛ فالمعنى : ليعلموا أن نسخ ذلك وإِبطاله حق من الله { فيؤمنوا } بالنسخ { فتُخْبِتَ له قلوبهم } أي : تخضع وتَذِلّ . ثم بيَّن بباقي الآية أن هذا الإِيمان والإِخبات إِنما هو بلطف الله وهدايته .
قوله تعالى : { في مِرْيَة منه } أي : في شكّ .
وفي هاء «منه» أربعة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إِلى قوله : تلك الغرانيق العلى .
والثاني : أنها ترجع إِلى سجوده في سورة ( النجم ) . والقولان عن سعيد بن جبير ، فيكون المعنى : إِنهم يقولون : ما بالُه ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها؟!
والثالث : أنها ترجع إِلى القرآن ، قاله ابن جريج .
والرابع : أنها ترجع إِلى الدِّين ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { حتى تأتيَهم الساعة } وفيها قولان .
أحدهما : القيامة تأتي مَنْ تقوم عليه من المشركين ، قاله الحسن .
والثاني : ساعة موتهم ، ذكره الواحدي .
قوله تعالى : { أو يأتيَهم عذاب يوم عقيم } فيه قولان .
أحدهما : أنه يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله عكرمة ، والضحاك . وأصل العقم في الولادة ، يقال : امرأة عقيم لا تلد ، ورجل عقيم لا يولد له ، وأنشدوا :
عُقْمِ النِّساءُ فلا يَلِدْنَ شَبْيَهه ... إِن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ
وسميت الريح العقيم بهذا الاسم ، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر ، فقيل لهذا اليوم : عقيم ، لأنه لم يأت بخير .
فعلى قول من قال : هو يوم بدر ، في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير ، قاله الضحاك .
والثاني : لأنهم لم يُنْظَروا فيه إِلى الليل ، بل قُتلوا قبل المساء ، قاله ابن جريج .
والثالث : لأنه لا مثْل له في عِظَم أمره ، لقتال الملائكة فيه ، قاله يحيى بن سلام .
وعلى قول من قال : هو يوم القيامة ، في تسميته بذلك قولان .
أحدهما : لأنه لا ليلة له ، قاله عكرمة .
والثاني : لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج ، ذكره بعض المفسرين .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
قوله تعالى : { المُلْكُ يومئذ } أي : يوم القيامة { لله } من غير منازع ولا مدَّع { يحكُم بينهم } أي : بين المسلمين والمشركين؛ وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها . ثم ذكر فضل المهاجرين فقال : { والذين هاجروا في سبيل الله } أي : من مكة إِلى المدينة .
وفي الرزق الحسن قولان .
أحدهما : أنه الحلال ، قاله ابن عباس .
والثاني : رزق الجنة ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ثم قُتِلوا أو ماتوا } وقرأ ابن عامر : «قُتِّلوا» بالتشديد .
قوله تعالى : { لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلاً } [ وقرأ نافع بفتح الميم ] { يرضونه } يعني : الجنة . والمدخل يجوز أن يكون مصدرا ، فيكون المعنى : ليدخلنهم إدخالاً يكرمون به فيرضونه؛ ويجوز أن يكون بمعنى المكان . و«مَدخلاً» بفتح الميم على تقدير : فيدخلون مدخلاً . { وإِن الله لعليم } بنيّاتهم { حليم } عنهم .
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قوله تعالى : { ذلك } قال الزجاج : المعنى : الأمر ذلك ، أي : الأمر ما قصصنا عليكم { ومن عاقب بمثل ما عُوقب به } والعقوبة : الجزاء؛ والأول ليس بعقوبة ، ولكنه سمي عقوبةً ، لاستواء الفعلين في جنس المكروه ، كقوله : { وجزاء سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلها } [ الشورى : 40 ] لما كانت المجازاة إِساءة بالمفعول به سمِّيت سيِّئة ، ومثله : { الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] ، قاله الحسن . ومعنى الآية : من قاتل المشركين كما قاتلوه { ثُمَّ بُغِيَ عليه } أي : ظُلم باخراجه عن منزله . وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلةٍ بقيت من المحرَّم ، فقاتلوهم ، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبوا إِلا القتال ، فثبت المسلمون ، ونصرهم الله على المشركين ، ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، وقال : { إِن الله لعفوٌّ } عنهم { غفور } لقتالهم في الشهر الحرام .
قوله تعالى : { ذلك } أي : ذلك النصر { بأنَّ الله } القادر على ما يشاء . فمن قُدرته أنه { يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل وأنّ الله سميع } لدعاء المؤمنين { بصير } بهم حيث جعل فيهم الإِيمان والتقوى ، { ذلك } الذي فعل من نصر المؤمنين { بأن الله هو الحقُّ } أي : هو الإِله الحق { وأنَّ ما يَدْعُون } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «يدعون» بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بالتاء ، والمعنى : وأنَّ ما يعبدون { من دونه هو الباطل } .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
قوله تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً } يعني : المطر { فتصبح الأرض مخضرَّة } بالنبات . وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال : معنى الكلام التنبيه ، كأنه قال : أتسمع ، أنزل الله من السماء ماءً فكان كذا وكذا . وقال ثعلب : معنى الآية عند الفراء خبر ، كأنه قال : اعلم أن الله ينزِّل من السماء ماءً فتصبح ، ولو كان استفهاماً والفاء شرطاً لنصبه .
قوله تعالى : { إِن الله لطيف } أي : باستخراج النبات من الأرض رزقاً لعباده { خبير } بما في قلوبهم عند تأخير المطر . وقد سبق معنى الغني الحميد في [ البقرة 267 ] .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
قوله تعالى : { ألم تر أن الله سخَّر لكم ما في الأرض } يريد البهائم التي تُركَب { ويُمسك السماء أن تقع على الأرض إِلا بإذنه } قال الزجاج : كراهة أن تقع . وقال غيره : لئلا تقع { إِن الله بالناس لرؤوف رحيم } فيما سخَّر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم . { وهو الذي أحياكم } بعد أن كنتم نطفاً ميتة { ثم يُميتكم } عند آجالكم { ثم يُحييكم } للبعث والحساب { إِن الإِنسان } يعني : المشرك { لكفور } لِنعَم الله إِذ لم يوحِّده .
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
قوله تعالى : { لكلِّ أُمَّة جعلنا مَنْسَكاً } قد سبق بيانه في هذه السورة [ الحج : 34 ] { فلا يُنَازِعُنَّكَ في الأمر } أي : في الذبائح ، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الذبيحة ، فقالوا : كيف تأكلون ما قتَلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون : الميتة .
فإن قيل : إِذا كانوا هم المنازعين له ، فكيف قيل : «فلا يُنَازِعُنَّكَ في الأمر»؟
فقد أجاب عنه الزجاج ، فقال : المراد : النهي له عن منازعتهم ، فالمعنى : لا تنازعنَّهم ، كما تقول للرجل : لا يخاصمنَّك فلان في هذا أبداً ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إِلا من اثنين ، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إِلا باثنين ، فإذا قلت : لا يجادلنَّك فلان ، فهو بمنزلة : لا تجادلنَّه ، ولا يجوز هذا في قولك : لا يضربنَّك فلان وأنت تريد : لا تضربنَّه ، [ ولكن ] لو قلت : لا يضاربنَّك فلان ، لكان كقولك : لا تضاربنَّ ، ويدل على هذا الجواب قوله : { وإِن جادلوك } .
قوله تعالى : { وادع إِلى ربِّك } أي : إِلى دينه والإِيمان به . و«جادلوك» بمعنى : خاصموك في أمر الذبائح ، { فقل الله أعلمُ بما تعملون } من التكذيب ، فهو يجازيكم به . { الله يحكم بينكم يوم القيامة } أي : يقضي بينكم { فيما كنتم فيه تختلفون } من الدِّين ، أي : تذهبون إِلى خلاف ما ذهب إِليه المؤمنون؛ وهذا أدب حسن علَّمه الله عباده ليردُّوا به مَن جادل على سبيل التعنُّت ، ولا يجيبوه ، ولا يناظروه .
فصل
قال أكثر المفسرين : هذا نزل قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بآية السيف . وقال بعضهم : هذا نزل في حق المنافقين ، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلَتات تدل على شركهم ، ثم يجادِلون على ذلك ، فوكل أمرهم إِلى الله تعالى ، فالآية على هذا محكمة .
قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } هذا استفهام يراد به التقرير؛ والمعنى : قد علمتَ ذلك ، { إِنَّ ذلك } يعني ما يجري في السموات والأرض { في كتاب } يعني : اللوح المحفوظ ، { إِن ذلك } أي : عِلْم الله بجميع ذلك { على الله يسير } سهل لا يتعذَّر عليه العلم به .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قوله تعالى : { ويَعْبُدون } يعني : كفار مكة { ما لم ينزّل به سلطاناً } أي : حُجة { وما ليس لهم به علْم } أنه إِله ، { وما للظالمين } يعني : المشركين { من نصير } أي : مانع من العذاب . { وإِذا تُتْلى عليهم آياتنا } يعني : القرآن؛ والمنكر هاهنا بمعنى الإِنكار ، فالمعنى : أثر الإِنكار من الكراهة ، وتعبيسُ الوجوه ، معروف عندهم . { يكادون يَسْطُون } أي : يبطشون ويُوقِعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدَّة الغيظ ، يقال : سطا عليه ، وسطا به : إِذا تناوله بالعنف والشدة . { قل } لهم يا محمد : { أفأنبِّئكم بشرٍّ مِنْ ذلكم } أي : بأشدَّ عليكم وأكره إِليكم من سماع القرآن ، ثم ذكر ذلك فقال : { النارُ } أي : هو النار .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
قوله تعالى : { يا أيها الناس ضُرب مَثَل } قال الأخفش : إِن قيل : أين المَثَل؟
فالجواب : أنه ليس هاهنا مثَل ، وإِنما المعنى : يا أيها الناس ضُرب لي مَثَل ، أي : شبّهت بي الأوثان { فاستمعوا } لهذا المثل . وتأويل الآية : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمِعوا حالها؛ ثم بيَّن ذلك بقوله : { إِن الذين تدْعُون } أي : تعبدون { من دون الله } ، وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وابن أبي عبلة : «يدعون» بالياء المفتوحة . وقرأ ابن السميفع ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري : «يُدْعون» بضم الياء وفتح العين ، يعني : الأصنام ، { لن يَخْلُقوا ذُباباً } والذباب واحد ، والجمع القليل : أذِبَّة ، والكثير : الذّبّان ، مثل : غُراب وأَغْرِبة وغِرْبان؛ وقيل : إِنما خص الذُّباب لمهانته واستقذاره وكثرته . { ولو اجتمعوا } يعني : الأصنام { له } أي : لخَلْقِه ، { وإِن يَسلبهم } يعني : الأصنام؛ قال ابن عباس : كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجفّ ، فيأتي الذباب فيختلسه . وقال ابن جريج : كانوا إِذا طيَّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء ، كالعسل ونحوه ، فيقع عليها الذباب فيسلبها إِياه ، فلا تستطيع الآلهة ولا مَنْ عبَدها أن يمنعه ذلك . وقال السدي : كانوا يجعلون للآلهة طعاماً ، فيقع الذباب عليه فيأكل منه . قال ثعلب : وإِنما قال : { لا يستنقذوه منه } فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين ، إِذ كانوا يعظِّمونها ويذبحون لها وتُخاطَب ، كقوله : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] لمَّا خاطبهم جعلهم كالآدميين ، ومثله : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] ، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في [ الأعراف : 191 ] عند قوله تعالى : { وهم يُخْلَقون } .
قوله تعالى : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : الطالب : الذباب يطلب ما يسلبُه من الطيِّب الذي على الصنم ، والمطلوب : الصنم يطلب الذباب منه سَلْبَ ما عليه ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : الطالب : عابد الصنم يطلب التقرُّب بعبادته ، والمطلوب : الصنم ، هذا معنى قول الضحاك ، والسدي .
قوله تعالى : { ما قَدَرُوا الله حق قدره } أي : ما عظّموه حق عظمته ، إِذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له { إِن الله لقويّ } لا يُقْهَر { عزيز } لا يُرَام .