كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
قوله تعالى : { وإِلى مدين } قد ذكرناه في [ الأعراف : 85 ] .
قوله تعالى : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } أي : لاتطفِّفوا؛ وكانوا يطفِّفون مع كفرهم .
قوله تعالى : { إِني أراكم بخير } فيه قولان :
أحدهما : أنه رُخْص الأسعار ، قاله ابن العباس ، والحسن ، ومجاهد .
والثاني : سَعَةُ المال ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال قتادة ، وابن زيد . وقال الفراء : أموالكم كثيرة ، وأسعاركم رخيصة ، فأي حاجة بكم إِلى سوء الوزن والكيل؟!
قوله تعالى : { وإِني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه غلاء السعر ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : القحط والجدب والغلاء .
والثاني : العذاب في الدنيا ، وهوالذي أصابهم ، قاله مقاتل .
والثالث : عذاب النار في الآخرة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { أوفوا المكيال والميزان بالقسط } أي : أتمُّوا ذلك بالعدل . والإِيفاء : الإِتمام . { ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين } بنقص المكيال والميزان .
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قوله تعالى : { بقيَّةُ الله خير لكم } فيه ثمانية أقوال :
أحدها : ما أبقي الله لكم الحلال بعد إِيفاء الكيل والوزن ، خير من البخس ، قاله ابن عباس .
والثاني : رزق الله خير لكم ، روى عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال سفيان .
والثالث : طاعة الله خير لكم ، قاله مجاهد ، والزجاج .
والرابع : حظُّكم من الله خير لكم ، قاله قتادة .
والخامس : رحمة الله خير لكم ، قاله ابن زيد .
والسادس : وصية الله خير لكم ، قاله الربيع .
والسابع : ثواب الله في الآخرة خير لكم ، قال مقاتل .
والثامن : مراقبة الله خير لكم ، ذكره الفراء . وقرأ الحسن البصري : «تقية الله خير لكم» بالتاء .
قوله تعالى : { إِن كنتم مؤمنين } شرطَ الإِيمان في كونه خيراً لهم ، لأنهم إِن كانوا مؤمنين بالله عز وجل ، عرفوا صحة ما يقول . وفي قوله : { وما أنا عليكم بحفيظ } ثلاثة أقوال :
أحدها : ما أُمرْتُ بقتالكم وإِكراهكم على الإِيمان .
والثاني : ما أُمرتُ بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا .
والثالث : ما أحفظكم من عذاب الله إِن نالكم .
قوله تعالى : { أصلواتك تأمرك } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : «أصلاتك» على التوحيد .
وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال : أحدها : دينة ، قاله عطاء . والثاني : قراءته ، قاله الأعمش . والثالث : أنها الصلوات المعروفة . وكان شعيب كثيرَ الصلاة .
قوله تعالى : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } قال الفراء : معنى الآية : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟
وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان .
أحدهما : أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف ، قاله ابن عباس؛ فالمعنى : قد تراضينا فيما بيننا بذلك .
والثاني : أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير ، فنهاهم عن ذلك ، قاله ابن زيد . وقال القرظي : عُذِّبوا في قطعهم الدراهم . قال ابن الأنباري : وقرأ الضحاك بن قيس الفهري «ما تشاء» بالتاء ، ونسق «أن تفعل» على «أن تترك» ، واستغنى عن الإِضمار . قال سفيان الثوري : في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك ، وابن أبي عبلة : «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بالتاء فيهما؛ ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري .
وفي قوله : { إِنك لأنت الحليم الرشيد } أربعة أقوال :
أحدها : أنهم قالوه استهزاءً به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفراء .
والثاني : أنهم قالوا له : إِنك لأنت السفيه الجاهل ، فكنى بهذا عن ذلك ، ذكره الزجاج .
والثالث : أنهم سبّوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد ، فأثنى الله عز وجل عليه فقال : بل إِنك لأنت الحليم الرشيد ، لا كما قال لك الكافرون ، حكاه أبو سليمان الدمشقي عن أبي الحسن المصيصي .
والرابع : أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة ، وقالوا : أنت حليم رشيد ، فَلِمَ تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ حكاه الماوردي ، وذهب إِلى نحوه ابن كيسان .
قوله تعالى : { إِن كنتُ على بيِّنةٍ من ربي } قد تقدم تفسيره [ هود 28 و 63 ] . وفي قوله : { ورزقني منه رزقاً حسناً } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الحلال؛ قال ابن عباس : وكان شعيب كثيرَ المال .
والثاني : النبوَّة . والثالث : العلم والمعرفة .
قال الزجاج : وجواب الشرط هاهنا متروك ، والمعنى : إِن كنت على بينة من ربي ، أتبع الضلال؟ فترك الجواب ، لعلم المخاطَبين بالمعنى ، وقد مرَّ مثل هذا .
قوله تعالى : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه . وقال الزجاج : ما أقصد بخلافكم القصد إِلى ارتكابه .
قوله تعالى : { إِن أريد إِلا الإِصلاح ماستطعت } أي : ما أريد بما آمركم به إِلا إِصلاح أموركم بقدر طاقتي . وقدر طاقتي : إِبلاغكم لا إِجباركم .
قوله تعالى : { وما توفيقي إِلا بالله } فتح تاء «توفيقي» أهل المدينة ، وابن عامر . ومعنى الكلام : ما أصابتي الحق في محاولة صلاحكم إِلا بالله . { عليه توكلت } أي : فوضت أمري ، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم : { لنخرجنَّك يا شعيب } [ الأعراف 88 ] . { وإِليه أنيب } أي : أرجع .
قوله تعالى : { لا يجرمنَّكم شِقاقيَ } حرك هذه الياء ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع . قال الزجاج : لا تكسبنَّكم عداوتكم إِيايَ أن تعذَّبوا .
قوله تعالى : { وما قوم لوط منكم ببعيد } فيه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا قريباً من مساكنهم .
والثاني : أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط . قال الزجاج : كان إِهلاك قوم لوط أقرب الإِهلاكات التي عرفوها . قال ابن الأنباري : إِنما وحَّد بعيداً ، لأنه أزاله عن صفة القوم ، وجعله نعتاً مكان محذوف ، تقديره : وما قوم لوط منكم بمكان بعيد .
قوله تعالى : { إِن ربي رحيم ودود } قد سبق معنى الرحيم .
فأما الودود : فقال ابن الأنباري : معناه : المحب لعباده ، من قولهم : ودِدت الرجل أوَدُّه وُدّاً ووِدّاً ، ويقال : ودِدت الرجل وِداداً وَ ودادة ووِدادة . وقال الخطابي : هو اسم مأخوذ من الوُدِّ؛ وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون فعولاً في محل مفعول ، كما قيل : رجل هيوب ، بمعنى مهيب ، وفرس رَكوب ، بمعنى مركوب ، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرَّفونه من إِحسانه إليهم .
والوجه الآخر : أن يكون بمعنى الوادّ ، أي : أنه يودّ عباده الصالحين ، بمعنى أنه يرضى عنهم بِتَقَبُّلِ أعمالهم؛ ويكون معناه : أن يودِّدهم إِلى خلقه كقوله : { سيجعل لهم الرحمن وُدّاً } [ مريم 96 ] .
قوله تعالى : { ما نفقه كثيراً مما تقول } قال ابن الأنباري : معناه : ما نفقه صحة كثير مما تقول ، لأنهم كانوا يتديَّنون بغيره ، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه .
قوله تعالى : { وإِنَّا لنراك فينا ضعيفاً } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : ضريراً؛ قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : كان أعمى ، قال الزجاج : ويقال : إِن حِمير تسمي المكفوف : ضعيفاً .
والثاني : ذليلاً ، قاله الحسن ، وأبو روق ، ومقاتل .
وزعم أبو رَوْق أن الله لم يبعث نبياً أعمى ، ولا نبياً به زمانة .
والثالث : ضعيف البصر ، قاله سفيان .
والرابع : عاجزاً عن التصرف في المكاسب ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ولولا رهطك لرجمناك } قال الزجاج : لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ، والرجم من سيء القتلات ، وكان رهطه من أهل ملَّتهم ، فلذلك أظهروا الميل إِليهم والإِكرام لهم . وذكر بعضهم أن الرجم هاهنا بمعنى الشتم والأذى .
قوله تعالى : { وما أنت علينا بعزيز } فيه قولان :
أحدهما : بكريم . والثاني : بممتنع أن نقتلك .
قوله تعالى : { أرهطيَ أعزَّ عليكم من الله } وأسكن ياء «رهطي» أهل الكوفة ، ويعقوب ، والمعنى : أتراعون رهطي فيَّ ، ولا تراعون الله فيَّ؟
قوله تعالى : { واتخذتموه وراءكم } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله تعالى ، قاله الجمهور . قال الفراء : المعنى : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم . قال الزجاج : والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر : قد جعل فلان هذا الأمر بظهر ، قال الشاعر :
تميمَ بنَ قيس لا تكونَنَّ حَاجَتي ... بظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جَوَابُها
والثاني : أنها كناية عما جاء به شعيب ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { إِن ربي بما تعملون محيط } أي : عالم بأعمالكم ، فهو يجازيكم بها . وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله : { سوف تعلمون } [ الأنعام135 ] .
فإن قال قائل : كيف قال هاهنا { سوف } وفي سورة أخرى { فسوف } [ الأنعام 135 ] .
فالجواب : أن كلا الأمرين حسن عند العرب ، إِن أدخلوا الفاء ، دلُّوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله ، وإِن أسقطوها ، بَنَوْا الكلام الأول على أنه قد تم ، وما بعده مستأنف ، كقوله : { إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً } [ البقرة 67 ] ، والمعنى : فقالوا : أتتخذنا ، بالفاء ، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها . قال امرؤ القيس :
فقالتْ يَمينَ اللهِ مالَكَ حِيلةٌ ... وَمَا إِنْ أرَى عَنْكَ الغَوَاية تَنْجلي
خَرَجْتُ بِها أمْشي تَجُرّ وَرَاءَنا ... عَلى إِثرِنَا أذْيَالَ مِرطٍ مُرحَّلِ
قال ابن الأنباري : أراد فخرجتُ ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها . ويروى : فقمت بها أمشي .
قوله تعالى : { وارتقبوا إِني معكم رقيب } قال ابن عباس : ارتقبوا العذاب ، فإني أرتقب الثواب .
قوله تعالى : { وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ } قال المفسرون : صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم . قال محمد بن كعب : عُذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب ، أخذتهم رجفة في ديارهم ، حتى خافوا أن تسقط عليهم ، فخرجوا منها فأصابهم حرٌّ شديد ، فبعث الله الظُلَّةَ ، فتنادَوا : هلم إِلى الظل؛ فدخلوا جميعاً في الظُلَّة ، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم . قال ابن عباس : لم تعذَّب أمتان قط بعذاب واحد ، إلا قوم شعيب وصالح ، فأما قوم صالح ، فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب ، فأخذتهم من فوقهم ، نشأت لهم سحابة كهيئة الظُلَّة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم ، فَأَتَوْها يستظلُّون تحتها فأحرقتهم .
قوله تعالى : { كما بَعِدت ثمود } أي : كما هلكت ثمود .
قال ابن قتيبة : يقال : بَعِدَ يَبْعَدُ : إِذا كان بُعْده هلكة؛ وبَعُدَ يبعُد : إِذا نأى .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } قال الزجاج : بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته . { وسلطان مبين } أي : حجة بيِّنة .
قوله تعالى : { فاتَّبَعوا أمر فرعون } وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إِلهاً . { وما أمر فرعون برشيد } أي : مرشد إِلى خير .
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
قوله تعالى : { يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة } قال الزجاج : يقال : قَدَمْت القوم أقدُمهم ، قَدْماً وقُدوما : إِذا تقدمتهم؛ والمعنى : يقدمهم إِلى النار؛ ويدل عليه قوله : { فأوردهم النار } قال ابن عباس : أوردهم بمعنى أدخلهم . وقال قتادة : يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار .
قوله تعالى : { وبئس الورد المورود } قال المفسرون : الوِرد : الموضع الذي ترِده . وقال ابن الأنباري : الوِرد : مصدر معناه : الورود ، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود؛ فتلخيص الحرف : وبئس المدخل المدخول النار .
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قوله تعالى : { وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة } .
في هذه اللعنة قولان :
أحدهما : أنها في الدنيا الغرق ، وفي الآخرة عذاب النار ، هذا قول الكلبي ، ومقاتل .
والثاني : أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين ، وفي الآخرة من الملائكة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { بئس الرفد المرفود } قال ابن قتيبة : الرفد : العطية؛ يقول : اللعنة بئس العطية؛ يقال : رفَدته أرفِده : إِذا أعطيته وأعنته . والمرفود : المعطى .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
قوله تعالى : { ذلك من أنباء القرى } يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلَكة . { نقصُّه عليك } أي : نخبرك به . { منها قائم وحصيد } قال قتادة : القائم : ما يرى مكانه ، والحصيد : لا يرى أثره . وقال ابن قتيبة : القائم : الظاهر العين ، والحصيد : الذي قد أبيد وحُصد . وقال الزجاج : القائم : ما بقيت حيطانه ، والحصيد : الذي خُسِف به وما قد امَّحى أثره .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
قوله تعالى : { وما ظلمناهم } أي : بالعذاب والإِهلاك . { ولكن ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي . { فما أغنت عنهم آلهتهم } أي : فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئاً { لمَّا جَاءَ أَمْرُ ربك } بالهلاك . { وما زادوهم } يعني الآلهة { غير تتبيب } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه التخسير ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . والثاني : أنه الشر ، قاله ابن زيد . والثالث : التدمير والإِهلاك ، قاله أبو عبيدة .
فإن قيل : الآلهة جماد ، فكيف قال : «زادوهم»؟ فعنهْ جوابان :
أحدهما : وما زادتهم عبادتها .
والثاني : أنها في القيامة تكون عوناً عليهم فتزيدهم شرَّاً .
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قوله تعالى : { وكذلك أَخْذُ ربك } أي : وكما ذُكر من إِهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أَخْذُ ربك . { إِذا أخذ القرى وهي ظالمة } وصف القرى بالظلم ، والمراد أهلها . وقال ابن عباس : الظلم هاهنا : بمعنى الكفر .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
قوله تعالى : { إِن في ذلك لآية } يعني : ما ذُكر من عذاب الأمم وأخْذِهم . والآية : العبرة والعظة . { ذلك يوم مجموع له الناس } لأن الخلق يُحشرون فيه ، ويَشهده البَرُّ والفاجر ، وأهل السماء والأرض . . { وما نؤخره } وروى زيد عن يعقوب ، وأبو زيد عن المفضل «وما يؤخره بالياء» والمعنى : وما نؤخر ذلك اليوم إِلا لوقت معلوم لا يعلمه إِلا الله .
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
قوله تعالى : { يوم يأت } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي : «يوم يأتي» بياء في الوصل ، وحذفوها في الوقف؛ غير أن ابن كثير كان يقف بالياء ، ويصل بالياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف . قال الزجاج : الذي يختاره النحويون «يوم يأتي» باثبات الياء ، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء ، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً . وقد حكى الخليل ، وسيبويه ، أن العرب تقول : لا أدرِ ، فتحذف الياء ، وتجتزىء بالكسرة ، ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال . وقال الفراء : كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور ، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم ، فإن العرب تحذفها وتجتزىء بالكسرة من الياء ، وبالضمة من الواو ، وأنشدني بعضهم :
كفّاك كَفٌّ مَا تُلِيْقُ دِرْهَمَا ... جُوْدَاً وأُخْرى تُعْطِ بالسَّيفِ الدِّما
قال المفسرون : وقوله : { يوم يأتي } يعني : يأتي ذلك اليوم ، لا تكلَّم نفس إِلا بإذن الله ، فكل الخلائق ساكتون ، إِلا من أذن الله له في الكلام . وقيل : المراد بهذا الكلام الشفاعة .
قوله تعالى : { فمنهم شقي } قال ابن عباس : منهم من كُتبت عليه الشقاوة ، ومنهم من كُتبت له السعادة .
قوله تعالى : { لهم فيها زفير وشهيق } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الزفير كزفير الحمار في الصدر ، وهو أول ما ينهق ، والشهيق كشهيق الحمار في الحلق ، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل ، والفراء . وقال الزجاج : الزفير : شديد الأنين وقبيحه ، والشهيق : الأنين الشديد المرتفع جداً ، وهما من أصوات المكروبين . وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق .
والثاني : أن الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدور ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والربيع بن أنس . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف . وقال ابن فارس : الشهيق ضد الزفير ، لأن الشهيق ردُّ النَّفَس ، والزفير إِخراج النَّفَس . وقال غيره : الزفير : الشديد ، مأخوذ من الزَّفْر ، وهو الحَمل على الظهر لشدته؛ والشهيق : النَّفَس الطويل الممتد ، مأخوذ من قولهم : جبل شاهق ، أي : طويل .
والثالث : أن الزفير زفير الحمار ، والشهيق شهيق البغال ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } المعروف فيه قولان .
أحدهما : أنها السموات المعروفة عندنا ، والأرض المعروفة؛ قال ابن قتيبة ، وابن الأنباري : للعرب في معنى الأبد الفاظ؛ تقول : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السموات والأرض ، وما اختلفت الجِرَّة والدِرَّة ، وما أطّت الإِبل ، في أشباه لهذا كثيرة ، ظناً منهم أن هذه الأشياء لا تتغير ، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم .
والثاني : أنها سموات الجنة والنار وأرضهما .
قوله تعالى : { إِلا ما شاء ربك } في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال .
أحدها : أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : أنه استثناء لا يفعله ، تقول : والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك على ضربه ، ذكره الفراء ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس : «إِلا ما شاء ربك» قال : فقد شاء أن يخلَّدوا فيها . قال الزجاج : وفائدة هذا ، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم ، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً .
والثالث : أن المعنى : خالدين فيها أبداً ، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم ، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال ، قاله ابن مسعود .
والرابع : أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول : لو كان معنا رجل إِلا زيد ، أي : سوى زيد؛ فالمعنى : خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة ، وهذا اختيار الفراء . قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام أن تقول : لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ؛ تريد : سوى ما شئتَ أن أزيدك .
والخامس : أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا ، فهم في شروط القيامة؛ فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب ، فالمعنى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة ، ذكره الزجاج . وقال ابن كيسان : الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب؛ قال ابن قتبية : فالمعنى : خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك ، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل ، وإن كانتا قد تتغيَّران . واستثنى المشيئة من دوامهما ، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ، لا في الجنة ، ولا في النار .
والسادس : أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً ، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر؛ وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر ، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك ، ذكره الزجاج أيضاً .
والسابع : أن «إِلا» بمعنى «كما» ومنه قوله : { ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إِلا ما قد سلف } [ النساء 22 ] ، ذكره الثعلبي .
فأما الاستثناء في حق أهل الجنة ، ففيه ستة أقوال :
أحدها : أنه استثناء لا يفعله .
والثاني : أن «إِلا» بمعنى «سوى» .
والثالث : أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور .
والرابع : أنه بمعنى : إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يُذكر .
والخامس : أن «إِلا» ك «ما» ، وهذه الأقوال قد سبق شرحها .
والسادس : أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين ، ثم أُدخل الجنة ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل . قال ابن قتيبة : فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار ، فكأنه قال : إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة ، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربك من إِدخال المذنبين النارَ مدَّةً .
واختلف القراء في «سعِدوا» فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «سَعِدوا» بفتح السين . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بضمها ، وهما لغتان .
قوله تعالى : { عطاءً غير مجذوذ } نُصب عطاء بما دل عليه الكلام ، كأنه قال : أعطاهم النعيم عطاءً . والمجذوذ : المقطوع؛ قال ابن قتيبة : يقال : جذذت ، وجددت ، وجذفت ، وجدفت : إِذا قطعت .
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
قوله تعالى : { فلا تك في مرية } أي : فلا تك يا محمد في شك { مما يعبد هؤلاء } المشركون من الأصنام ، أنه باطل وضلال ، إِنما يقلِّدون آباءهم ، { وإِنا لموفُّهم نصيبهم } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ما قدِّر لهم من خير وشر ، قاله ابن عباس . والثاني : نصيبهم من الرزق ، قاله أبو العالية . والثالث : نصيبهم من العذاب ، قاله ابن زيد . وقال بعضهم : لا ينقصهم من عذاب آبائهم .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { فاختُلف فيه } فمن مصدِّق به ومكذِّب كما فعل قومك بالقرآن . قال المفسرون : وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك } قال ابن عباس : يريد : إِني أخَّرت أمتك إِلى يوم القيامة ، ولولا ذلك لعجَّلت عقاب من كذبك . وقال ابن قتيبة : لولا نَظِرةٌ لهم إِلى يوم الدين لقُضي بينهم في الدنيا . وقال ابن جرير : سبقت من ربك أنه لا يعجِّل على خلقه بالعذاب ، لقضي بين المصدِّق منهم والمكذِّب باهلاك المكذب وإِنجاء المصدق .
قوله تعالى : { وإِنهم لفي شك منه } أي : من القرآن { مريب } أي : موقع للريب .
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قوله تعالى : { وإِن كُلاًّ } يشير إِلى جميع من قصَّ قصته في هذه السورة . وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة . وقيل : المعنى : وإِن كلاًّ لخلق أو بشر { ليوفينَّهم } . قرأ أبو عمرو ، والكسائي «وإِنَّ» مشددة النون ، «لما» خفيفة . واللام في «لما» لام التوكيد ، دخلت على «ما» وهي خبر «إِنّ» واللام في «لَيوفينَّهم» اللام التي يُتلقَّى بها القَسم ، والتقدير : والله ليوفينَّهم ، ودخلت «ما» للفصل بين اللامين . قال مكي بن أبي طالب : وقيل : إِن «ما» زائدة ، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللَّذَيْن يتلقَّيان القسم ، وكلاهما مفتوح ، ففُصل ب «ما» بينهما . وقرأ ابن كثير «وإِنْ» بالتخفيف ، وكذلك «لما» قال سيبويه : حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول : إِنْ عَمْراً لمنطلق ، فيخففون «إِنّ» ويُعملونها ، وأنشد :
وَوَجْهٍ حَسَنِ النَّحرِ ... كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «وإِن» خفيفة ، «لمَّا» مشددة ، والمعنى : وما كلاًّ إِلا؛ وهذا كما تقول : سألتك لمَّا فعلت ، وإِلاَّ فعلت ، ومثله قوله : { إِن كل نفس لما عليها حافظ } [ الطارق 4 ] . وقرأ حمزة ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وإِنّ» بالتشديد ، «لمّا» بالتشديد أيضاً . قال أبو علي : هذه قراءة مشكلة ، لأنه كما لا يحسن : إِنَّ زيداً إِلا منطلق ، كذلك لا يحسن تثقيل «إِنَّ» وتثقيل «لمّا» . وحكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل في «لمّا» ولم يُبعد فيما قال . وقال مكي بن أبي طالب : الأصل فيها «لَمِن ما» ثم أدغمت النون في الميم ، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ ، فحذفت الميم المكسورة؛ والتقدير : وإِنَّ كلاًّ لمِن خَلْقٍ ليوفينَّهم ، قال : وقيل : التقدير : «لَمَن ما» بفتح الميم في «مَن» فتكون «ما» زائدة ، وتحذف إِحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ؛ والتقدير : لَخلقٌ ليوفينَّهم ، ومعنى الكلام : ليوفينَّهم جزاء أعمالهم .
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
قوله تعالى : { فاستقم كما أُمرت } قال ابن عيينة : استقم على القرآن . وقال ابن قتيبة : امض على ما أمرت به .
قوله تعالى : { ومن تاب معك } قال ابن عباس : من تاب معك من الشرك .
قوله تعالى : { ولا تَطْغَواْ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لا تطغوا في القرآن ، فتُحلّوا وتحرِّموا مالم آمركم به ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه ، قاله ابن زيد .
والثالث : لا تخلطوا التوحيد بشك ، قاله مقاتل .
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قوله تعالى : { ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا } روى عبد الوارث عن أبي عمرو : «تَركُنوا» بفتح التاء وضم الكاف ، وهي قراءة قتادة . وروى هارون عن أبي عمرو «تَركِنوا» بفتح التاء وكسر الكاف . وروى محبوب عن أبي عمرو : «تِركَنوا» بكسر التاء وفتح الكاف . وقرأ ابن أبي عبلة «تُركَنوا» بضم التاء وفتح الكاف على مالم يُسم فاعله . وفي المراد بهذا الركون أربعة أقوال :
أحدها : لا تميلوا إِلى المشركين ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا تَرضوا أعمالهم ، قاله أبو العالية .
والثالث : لا تلحقوا بالمشركين ، قاله قتادة .
والرابع : لا تُداهنوا الظلمة ، قاله السدي ، وابن زيد .
وفي قوله : { فتمسكم النار } وجهان . أحدهما : فتصيبكم النار ، قاله ابن عباس . والثاني : فيتعدَّى إِليكم ظلمهم كما تتعدَّى النار إِلى إِحراق ما جاورها ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وما لكم من دون الله من أولياء } أي : ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب .
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قوله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار } أما سبب نزولها ، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إِني أخذت امرأة في البستان فقبَّلتها ، وضممتُها ، إِليَّ وباشرتُها ، وفعلتُ بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار . . . } الآية ، فدعا الرجل فقرأها عليه ، فقال عمر : أهي له خاصَّة ، أم للناس كافَّة؟ قال : «لا ، بل للناس كافة» . وفي رواية أخرى عن ابن مسعود : أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، فأتى رسول الله ، فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية ، فقال الرجل : أليَ هذه الآية؟ فقال : «لمن عمل بها من أمتي» وقال معاذ بن جبل : كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب من امرأة مالا يحل له ، فلم يدَع شيئاً يصيبه الرجل من امرأته إِلا أصابه منها ، غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " توضأ وضوءاً حسناً ، ثم قم فصلِّ " . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال معاذ : أهي له خاصة ، أم للمسلمين عامة؟ فقال : «بل هي للمسلمين عامة» . واختلفوا في اسم هذا الرجل ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : هو عمرو بن غزيّة الأنصاري ، وفيه نزلت هذه الآية ، كان يبيع التمر ، فأتته امرأة تبتاع منه تمراً ، فأعجبته ، فقال : إِن في البيت تمراً أجود من هذا ، فانطلقي معي حتى أعطيك منه؛ فذكر نحو حديث معاذ وقال مقاتل : هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري . وذكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري . وذُكر في الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، أله خاصة؟ ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أبو اليسر صاحب القصة . والثاني : معاذ بن جبل . والثالث : عمر بن الخطاب .
فأما التفسير ، فقوله : { وأقم الصلاة } أي : أتم ركوعها وسجودها .
فأما طرفا النهار ، ففي الطرف الأول قولان :
أحدهما : أنه صلاة الفجر ، قاله الجمهور . والثاني : أنه الظهر ، حكاه ابن جرير . وفي الطرف الثاني ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه صلاة المغرب ، قاله ابن عباس ، وابن زيد . والثاني : العصر ، قاله قتادة . وعن الحسن كالقولين . والثالث : الظهر ، والعصر ، قاله مجاهد ، والقرظي . وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة .
قوله تعالى : { وزُلَفاً من الليل } وقرأ أبو جعفر ، وشيبة «و زُلُفاً» بضم اللام . قال أبو عبيدة : الزُلَف : الساعات ، واحدها : زُلْفَة ، أي : ساعة ومنزلة وقربة ، ومنه سميت المزدلفة ، قال العجّاج :
ناجٍ طواه الأينُ مما أوجفا ... طَيَّ اللَّيَالي زُلَفاً فزُلَفا
سَماوَةَ الهِلاَل حَتَّى احْقَوْقَفَا ... قال ابن قتيبة : ومنه يقال : أزلفني كذا عندك ، أي : أدناني؛ والمزالف : المنازل والدَّرَج ، وكذلك الزُّلَف .
وفيها للمفسرين قولان :
أحدهما : أنها صلاة العتمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وعوف عن الحسن ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد .
والثاني : أنها صلاة المغرب والعشاء ، روي عن ابن عباس أيضاً ، ورواه يونس عن الحسن ، ومنصور عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، ومقاتل ، والزجاج .
قوله تعالى : { إِن الحسنات يُذهبن السيئات } في المراد بالحسنات قولان :
أحدهما : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن المسيب ، ومسروق ، ومجاهد ، والقرظي ، والضحاك ، والمقاتلان : ابن سليمان ، وابن حيان .
والثاني : أنها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إِله إِلا الله ، والله أكبر ، رواه منصور عن مجاهد . والأول أصح ، لأن الجمهور عليه ، وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ، وقال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم صلى الظهر ، غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح ، ومن صلى العصر ، غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر ، ومن صلى المغرب ، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر ، ثم صلى العشاء ، غُفر له ما بينها وبين صلاة المغرب ، ثم لعله أن يبيت ليلته يتمرَّغ ، ثم إِن قام فتوضأ وصلى الصبح ، غُفر له ما بينه وبين صلاة العشاء ، وهن الحسنات يذهبن السيئات " . فأما السيئات المذكورة هاهنا ، فقال المفسرون : هي الصغائر من الذنوب . وقد روى معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني؛ قال : " اتق الله حيثما كنت» ، قال : قلت : زدني؛ قال : «أتبع السيئة الحسنة تمحها» ، قلت : زدني؛ قال : «خالِقِ الناس بخُلُق حسن " . قوله تعالى : { ذلك ذكرى للذاكرين } في المشار إِليه ب «ذلك» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه القرآن . والثاني : إِقام الصلاة . والثالث : جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة ، والنهي عن الطغيان ، وترك الميل إِلى الظالمين ، والقيام بالصلاة .
وفي المراد بالذكرى قولان .
أحدهما : أنه بمعنى التوبة . والثاني : بمعنى العِظة .
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قوله تعالى : { واصبر } فيما أُمر بالصبر عليه قولان :
أحدهما : لما يلقاه من أذى قومه . والثاني : الصلاة .
وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال :
أحدها : المصلُّون ، قاله ابن عباس . والثاني : المخلصون ، قاله مقاتل . والثالث : أنهم المحسنون في أعمالهم ، قاله أبو سليمان .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
قوله تعالى : { فلولا كان من القرون } قال ابن عباس ، والفراء : المعنى : فلم يكن . وقال ابن قتيبة : المعنى : فهلاَّ كان من القرون من قبلكم أولو بقية . وروى ابن جماز عن أبي جعفر «أولو بِقْيَةٍ» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء .
وفي معنى «أولو بقيَّة» ثلاثة أقوال .
أحدها : أولو دين ، قاله ابن عباس . قال ابن قتيبة : يقال : قوم لهم بقية ، وفيهم بقية : إِذا كانت بهم مُسكة وفيهم خير . والثاني : أولو تمييز . والثالث : أولو طاعة ، ذكرهما الزجاج ، وقال : إِذا قلت : فلان فيه بقية ، فمعناه : فيه فضل .
قوله تعالى : { إِلا قليلاً } استثناء منقطع ، أي : لكنّ قليلاً ممن أنجينا منهم ممن نهى عن الفساد . قال مقاتل : لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إِلا قليلاً ممن أنجينا من العذاب مع الرسل .
قوله تعالى : { واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } أي : اتبعوا مع ظلمهم ما أُترفوا فيه مع استدامة نعيمهم ، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم . قال الفراء : آثروا اللذات على أمر الآخرة . قال : ويقال : اتبعوا ذنوبهم السيئة إِلى النار .
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
قوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } فيه قولان :
أحدهما : بغير جرم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : بشرك ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان . وفي قوله : { وأهلها مصلحون } ثلاثة أقوال :
أحدها : ينتصف بعضهم من بعض ، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير . قال أبو جعفر الطبري : فيكون المعنى : لايهلكهم إِذا تناصفوا وإِن كانوا مشركين ، وإِنما يهلكهم إِذا تظالموا .
والثاني : مصلحون لأعمالهم ، متمسكون بالطاعة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : مؤمنون ، قاله مقاتل .
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قوله تعالى : { ولو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناس أمةً واحدةً } قال ابن عباس : لو شاء أن يجعلهم كلَّهم مسلمين لفعل .
قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين } في المشار إِليهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الحق وأهل الباطل ، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ فيكون المعنى : إِن هؤلاء يخالفون هؤلاء .
والثاني : أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
قوله تعالى : { إِلا من رحم ربك } قال ابن عباس : هم أهل الحق . وقال الحسن : أهل رحمة اللة لايختلفون .
قولة تعالى : { ولذلك خلقهم } في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال :
أحدها : أنه يرجع إِلى ماهم عليه . قال ابن عباس : خلقهم فريقين ، فريقاً يُرحم فلا يختلف ، وفريقاً لا يُرحم يختلف .
والثاني : أنه يرجع إِلى الشقاء والسعادة ، قاله ابن عباس أيضاً ، واختاره الزجاج ، قال : لأن اختلافهم مؤدِّيهم إِلى سعادة وشقاوة . قال ابن جرير : واللام في قوله : «ولذلك» بمعنى «على» .
والثالث : أنه يرجع إِلى الاختلاف ، رواه مبارك عن الحسن .
والرابع : أنه يرجع إِلى الرحمة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة؛ فعلى هذا يكون المعنى : ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم .
قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } قال ابن عباس : وجب قول ربك : { لأملأن جهنم } من كفار الجِنَّة ، وكفار الناس .
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله تعالى : { وكلاً نقصُّ } قال الزجاج : «كلاً» منصوب ب «نقص» ، المعنى : كل الذي تحتاج إِليه من أنباء الرسل نقص عليك . و «ما» منصوبة بدلاً من كل ، المعنى : نقص عليك ما نثبِّت به فؤادك؛ ومعنى تثبيت الفؤاد تسكين القلب هاهنا ، ليس للشك ، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر كان القلب أثبت .
قوله تعالى : { وجاءك في هذه الحق } في المشار إِليه ب «هذه» أربعة أقوال :
أحدها : أنها السورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير وأبو العالية ، ورواه شيبان عن قتادة .
والثاني : أنها الدنيا ، فالمعنى : وجاءك في هذه الدنيا ، رواه سعيد عن قتادة؛ وعن الحسن كالقولين .
والثالث : أنها الأقاصيص المذكورة .
والرابع : أنها هذه الآية بعينها ، ذكر القولين ابن الأنباري .
وفي المراد بالحق هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها البيان . والثاني : صدق القصص والأنباء . والثالث : النبوة .
فإن قيل : أليس قد جاءه الحق في كل القرآن ، فلم خص هذه السورة؟
فالجواب أنا إِن قلنا : إِن الحق النبوة ، فالإِشارة ب «هذه» إِلى الدنيا ، فيكون المعنى : وجاءك في هذه الدنيا النبوة ، فيرتفع الإِشكال . وإِن قلنا : إِنها السورة ، فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أن المراد بالحق البيان ، وهذه السورة جمعت من تبيين إِهلاك الأمم ، وشرح مآلهم ، ما لم يجمع غيرها ، فبان أثر التخصيص ، وهذا مذهب بعض المفسرين .
والثاني : أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ، ولهذا يقول الناس : فلان في الحق : إذا كان في الموت ، وإِن لم يكن قبله في باطل ، ولكن لتعظيم ما هو فيه ، فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره ، وهذا مذهب الزجاج .
والثالث : أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها ، وإِن كان في غيرها حق أيضاً ، فهو كقوله : { والصلاةِ الوسطى } [ البقرة 238 ] ، وقوله : { وجبريل وميكال } [ البقرة 98 ] ، وهذا مذهب ابن الأنباري .
والرابع : أن المعنى : وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور ، قاله ابن جرير الطبري .
قوله تعالى : { وموعظة وذكرى للمؤمنين } أي : يتعظون إِذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم .
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
قوله تعالى : { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } هذا تهديد ووعيد ، والمعنى : اعملوا ما أنتم عاملون ، فستعلمون عاقبة أمركم ، { وانتظروا } ما يِعدكم الشيطان { إِنا منتظرون } ما يعِدنا ربنا .
فصل
قال المفسرون : وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم ، والاقتناع بإنذارهم ، وهي منسوخة بآية السيف .
واعلم أنه إِذا قلنا : إِن المراد بالآية التهديد ، لم يتوجه نسخ .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
قوله تعالى : { ولله غيب السموات والأرض } أي : علم ما غاب عن العباد فيهما . { وإِليه يُرجَع الأمرُ كلُّه } قرأ نافع ، وحفص عن عاصم «يُرجع الأمر كله» بضم الياء . وقرأ الباقون ، وأبو بكر عن عاصم «يَرجع» بفتح الياء ، والمعنى : إِن كل الأمور ترجع إِليه في المعاد . { فاعبده } أي : وحِّده . { وتوكَّلْ عليه } أي : ثِقْ به . { وما ربك بغافل عما يعملون } قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «تعملون» بالتاء . وقرأ الباقون بالياء . قال أبو علي : فمن قرأ بالياء ، فالمعنى : قل لهم : وما ربك بغافل عما يعملون . ومن قرأ بالتاء ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمِنهم وكافِرهم ، فهو أعم من الياء ، وهذا وعيد ، والمعنى : إِنه يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة «هود» .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
فصل في نزولها .
هي مكية بالإِجماع . وفي سبب نزولها قولان . أما القول الأول ، فروي عن سعد بن أبي وقاص . قال : أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليهم زماناً ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : { آلر . تلك آيات الكتاب المبين } إِلى قوله : { نحن نقص عليك أحسن القصص } ، فتلاه عليهم زماناً ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا ، فأنزل الله تعالى { الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23 ] كل ذلك يؤمرون بالقرآن . وقال عون بن عبد الله : ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلَّة ، فقالوا : يا رسول الله حدِّثنا ، فأنزل الله عز وجل { الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23 ] ، ثم إِنهم ملوّا مَلَّة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله ، فوق الحديث ، ودون القرآن ، يعنون القصص ، فأنزل الله { نحن نقص عليك أحسن القصص } ، فأراد الحديث ، فدلهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص ، فدلهم على أحسن القصص . والثاني : رواه الضحاك عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف ، فأنزل الله عز وجل { الر تلك آيات الكتاب المبين . إِنا أنزلناه قرآنا عربياً } وذلك أن التوراة بالعبرانية ، والإِنجيل بالسريانية ، وأنتم قوم عرب ، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه . وقد بينا تفسير أول هذه السورة في أول ( يونس ) ، إِلا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السورة ، فقال : لما لحق أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مللٌ وسآمة ، فقالوا له : حدثنا بما يزيل عنا هذا الملل ، فقال : «تلك الأحاديث التي تقدرون الانتفاع بها وانصراف الملل ، هي آيات الكتاب المبين» .
وفي معنى { المبين } خمسة أقوال .
أحدها : البيِّن حلاله وحرامه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم ، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل . والثالث : البيِّن هداه ورشده ، قاله قتادة . والرابع : المبيِّن للحق من الباطل . والخامس : البيِّن إِعجازه فلا يعارَض ، ذكرهما الماوردي .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قوله تعالى : { إِنا أنزلناه } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الكتاب ، قاله الجمهور . والثاني : إِلى خبر يوسف ، ذكره الزجاج ، وابن القاسم .
قوله تعالى : { قرآنا عربياً } قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة [ النساء : 82 ] . وقد اختلف الناس ، هل في القرآن شيء بغير العربية ، أم لا ، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية . وقال أبو عبيدة : من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول ، واحتج بقوله : { إِنا جعلناه قرآناً عربياً } [ الزخرف : 3 ] وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب ، مثل «سجيل» و«المشكاة» و«اليم» و«الطور» و«أباريق» و«إِستبرق» وغير ذلك . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال أبو عبيد : وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة ، ولكنهم ذهبوا إِلى مذهب ، وذهب هو إِلى غيره ، وكلاهما مصيب إِن شاء الله ، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال : أولئك على الأصل ، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربياً بتعريبها إِياه ، فهي عربية في هذه الحالة ، أعجمية الأصل ، فهذا القول يصدِّق الفريقين جميعاً .
قوله تعالى : { لعلكم تعقلون } قال ابن عباس : لكي تفهموا .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
قوله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } قد ذكرنا سبب نزولها في أول الكلام . وقد خُصَّت بسبب آخر ، فروي عن سعيد بن جبير قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إِلى سلمان ، فقالوا : حدِّثنا عن التوراة فانها حسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى { نحن نقص عليك أحسن القصص } يعني : قصص القرآن أحسن مما في التوراة . قال الزجاج : والمعنى نحن نبين لك أحسن البيان ، والقاصُّ ، الذي يأتي بالقصة على حقيقتها . قال : وقوله : { بما أوحينا إِليك } أي : بوحينا إِليك هذا القرآن .
قال العلماء : وإِنما سميت قصة يوسف أحسن القصص ، لأنها جمعت ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والأنعام ، وسير الملوك ، والمماليك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء ، وحيلهن ، وذكر التوحيد ، والفقه ، والسرّ ، وتعبير الرؤيا ، والسياسة ، والمعاشرة ، وتدبير المعاش ، والصبر على الأذى ، والحلم؛ والعزّ ، والحكم ، إِلى غير ذلك من العجائب .
قوله تعالى : { وإِن كنت } في «إِن» قولان :
أحدهما : أنها بمعنى «قد» . والثاني : بمعنى «ما»
قوله تعالى : { من قبله } قال ابن عباس : من قبل نزول القرآن . { لَمِن الغافلين } عن علم خبر يوسف وما صنع به إِخوته .
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قوله تعالى : { إِذ قال يوسف لأبيه } في «إِذ» قولان :
أحدهما : أنها صلة للفعل المتقدِّم ، والمعنى : نحن نقص عليك إِذ قال يوسف .
والثاني : أنها صلة لفعل مضمر ، تقديره : اذكر إِذ قال يوسف ، ذكرهما الزجاج ، وابن الأنباري .
قوله تعالى : { يا أبت } قرأ أبو جعفر ، وابن عامر بفتح التاء ، ووقفا بالهاء ، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء ، وقرأ الباقون بكسر التاء . فمن فتح التاء ، أراد : يا أبتا ، فحذف الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة دالة على الألف ، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء . ومن وقف على الهاء ، فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف . وقرأ أبو جعفر أحد عشر ، وتسعة عشر ، بسكون العين فيهما .
وفي مارآه يوسف قولان :
أحدهما : أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ، وهو قول الأكثرين . قال الفراء : وإِنما قال : «رأيتهم» على جمع ما يعقل ، لأن السجود فعل ما يعقل ، كقوله : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] . قال المفسرون : كانت الكواكب في التأويل إِخوته ، والشمس أمه ، والقمر أباه ، فلما قصَّها على يعقوب أشفق من حسد إِخوته . وقال السدي : الشمس أبوه ، والقمر خالته ، لأن أمه كانت قد ماتت .
والثاني : أنه رأى أبويه وإِخوته ساجدين له ، فكنى عن ذكرهم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة . فأما تكرار قوله : { رأيتهم } فقال الزجاج : إِنما كرره لمَّا طال الكلام توكيداً .
وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال :
أحدها : سبع سنين . والثاني : اثنتا عشرة سنة والثالث : سبع عشرة سنة .
قال المفسرون : علم يعقوب أن إِخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه ، فقال : { لا تقصص رؤياك على إِخوتك فيكيدوا لك كيداً } ، قال ابن قتيبة : يحتالوا لك حيلة ويغتالوك . وقال غيره : اللام صلة ، والمعنى : فيكيدوك . والعدو المبين : الظاهر العداوة .
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قوله تعالى : { وكذلك يجتبيك ربك } قال الزجاج ، وابن الأنباري : ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة ، يختارك ربك ويصطفيك من بين إِخوتك . وقد شرحنا في [ الأنعام : 87 ] معنى الاجتباء . وقال ابن عباس : يصطفيك بالبنوة .
قوله تعالى : { ويعلمك من تأويل الأحاديث } فيه ثلاثة اقوال :
أحدها : أنه تعبير الرؤيا ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، فعلى هذا سمي تأويلاً لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إِليه .
والثاني : أنه العلم والحكمة ، قاله ابن زيد .
والثالث : تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتب ، ذكره الزجاج . قال مقاتل : و«من» هاهنا صلة .
قوله تعالى : { ويتم نعمته عليك } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بالنبوة ، قاله ابن عباس .
والثاني : باعلاء الكلمة .
والثالث : بأن أحوج إِخوته إِليه حتى أنعم عليهم ، ذكرهما الماوردي .
وفي { آل يعقوب } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم ولده ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر ، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف ، قاله مقاتل . والثالث : أهله ، قاله أبو عبيدة ، واحتج بأنك إِذا صغَّرت الآل ، قلت : أُهيل .
قوله تعالى : { كما أتمها على أبويك من قبل إِبراهيم وإِسحق } قال عكرمة : فنعمته على إِبراهيم أن نجاه من النار ، ونعمته على إِسحاق أن نجاه من الذبح .
قوله تعالى : { إِن ربك عليم } أي : عليم حيث يضع النبوة { حكيم } في تدبير خلقه .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
قوله تعالى : { لقد كان في يوسف وإِخوته } أي : في خير يوسف وقصة إِخوته { آيات } أي : عِبَر لمن سأل عنهم ، فكل حال من أحواله آية . وقرأ ابن كثير «آيةٌ» . قال المفسرون : وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف ، فأخبرهم بها كما في التوراة ، فعجبوا من ذلك .
وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال :
أحدها : الدلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم ، ولا نظر في الكتب . والثاني ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه . والثالث : صدق رؤياه وصحة تأويله . والرابع : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة . والخامس : حدوث السرور بعد اليأس .
فإن قيل : لم خص السائلين ، ولغيرهم فيها آيات أيضاً؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أن المعنى : للسائلين وغيرهم ، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم ، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله : { تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] .
والثاني : أنه إِذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية ، كان لغيرهم آية أيضاً؛ وإِنما خص السائلين ، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر .
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
قوله تعالى : { إِذ قالوا } يعني إِخوة يوسف . { لَيُوسُفُ وأخوه } يعنون ابن يامين . وإِنما قيل له : ابن يامين ، لأن أمه ماتت نفساء . ويامين بمعنى الوجع ، وكان أخاه لأمه وأبيه . والباقون إِخوته لأبيه دون أمه .
فأما العصبة ، فقال الزجاج : هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضاً في الفعل ، ويتعصب بعضهم لبعض .
وللمفسرين في العصبة ستة أقوال :
أحدها : أنها ما كان أكثر من عشرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنها ما بين العشرة إِلى الأربعين ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال قتادة . والثالث : أنها ستة أو سبعة ، قاله سعيد بن جبير . والرابع : أنها من عشرة إِلى خمسة عشر ، قاله مجاهد . والخامس : الجماعة ، قاله ابن زيد ، وابن قتيبة ، والزجاج . والسادس : عشرة ، قاله مقاتل . وقال الفراء : العصبة عشرة فما زاد .
قوله تعالى : { إِن أبانا لفي ضلال مين } فيه ثلاثة اقوال :
أحدها : لفي خَطَأٍ من رأيه ، قاله ابن زيد . والثاني : في شَقَاءٍ ، قاله مقاتل؛ والمراد به عناء الدنيا . والثالث : لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا ، لأن نفعنا له أعم . قال الزجاج : ولو نسبوه إِلى الضلال في الدين كانوا كفاراً ، إِنما أرادوا : إِنه قدَّم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر .
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قوله تعالى : { اقتلوا يوسف } قال أبو علي : قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي : «مبينٌ اقتلوا» بضم التنوين ، لأن تحريكه يلزم لالتقاء السكانين ، فحركوه بالضم ليُتبعوا الضمة الضمة ، كما قالوا : «مدٌ» و«ظُلُمات» . وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، بكسر التنوين ، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا . «مدَّ» «ظُلُمات» . قال المفسرون : وهذا قولهم بينهم { أو اطرحوه أرضاً } قال الزجاج : نصب «أرضاً» على إِسقاط «في» ، وأفضى الفعل إِليها؛ والمعنى : أو اطرحوه أرضاً يبعد بها عن أبيه . وقال غيره : أرضاً تأكله فيها السباع .
قوله تعالى : { يخلُ لكم وجه أبيكم } أي : يفرغ لكم من الشغل بيوسف . { وتكونوا من بعده } أي : من بعد يوسف . { قوماً صالحين } فيه قولان : أحدهما : صالحين بالتوبة من بعد قتله ، قاله ابن عباس .
والثاني : يصلح حالكم عند أبيكم ، قاله مقاتل . وفي قصتهم نكتة عجيبة ، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب ، وكذلك المؤمن لا ينسى التوبة وإِن كان مرتكباً للخطايا .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى : { قال قائل منهم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبه ، والسدي ، ومقاتل . والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد . والثالث : روبيل ، قاله قتادة ، وابن إِسحاق . فأما غيابة الجب ، فقال أبو عبيدة : كل شيء غيَّب عنك شيئاً فهو غيابة ، والجب : الرَّكية التي لم تطو . وقال الزجاج : الغيابة : كل ما غاب عنك ، أو غيَّب شيئاً عنك ، قال المنخِّل :
فإنْ أنا يَوْماً غيَّبَتْني غَيَابَتي ... فسِيروا بِسَيْري في العشيرة والأهْلِ
والجب : البئر التي لم تطو؛ سميت جباً من أجل أنها قُطعت قطْعاً ، ولم يحدث فيها غير القطع من طي وما أشبهه . وقال ابن عباس : «في غيابة الجب» أي : في ظلماته . وقال الحسن : في قعره . وقرأ نافع : «غيابات الجب» فجعل كل منه غيابة . وروى خارجة عن نافع : «غيَّابات» بتشديد الياء . وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : «غيبة الجب» بغير ألف مع إِسكان الياء . وأين كان هذا الجب ، فيه قولان :
أحدهما : بأرض الأردن ، قاله وهب . وقال مقاتل : هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب . والثاني : ببيت المقدس ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { يلتقطه بعض السيارة } قال ابن عباس : يأخذه بعض من يسير . { إِن كنتم فاعلين } أي : إِن أضمرتم له ما تريدون . وأكثر القراء قرؤوا «يلتقطه» بالياء . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بالتاء . قال الزجاج : وجميع النحويين يجيزون ذلك ، لأن بعض السيارة سيارة ، فكأنه قال : تلتقطه سيارة بعض السيارة . وقال ابن الأنباري : من قرأ بالتاء ، فقد أنَّث فعل بعض ، وبعض مذكر ، وإِنما فعل ذلك حملاً على المعنى ، إِذ التأويل : تلتقطه السيارة ، قال الشاعر :
رأت مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مني ... كما أخَذَ السِّرارُ مِنَ الهِلاَلِ
أراد : رأت السنين ، وقال الآخر :
طُولُ الليالي أَسْرَعتْ في نَقْضي ... طَوَيْنَ طُوِلي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
أراد : الليالي ، أسرعت ، وقال جرير :
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ المَدِينَةِ والْجِبَالُ الخُشَّعُ
أراد : تواضعت المدينة ، وقال الآخر :
وتشْرَقُ بالْقَوْلِ الَّذي قد أَذَعْتُهُ ... كما شَرقتْ صدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
أراد : كما شرقت القناة .
قال المفسرون : فلما عزم القوم على كيد يوسف ، قالوا لأبيه : { مالك لا تأمنّا } قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإِدغام النون الأولى في الثانية والإِشارة إِلى إِعراب النون المدغمة بالضم؛ قال مكي : لأن الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى ، وبقي الإِشمام يدل على ضمة النون الأولى . والإِشمام : هو ضم شفتيك من غير صوت يُسمع ، فهو بعد الإِدغام وقبل فتحه النون الثانية . وابن كيسان يسمي الإِشمام الإِشارة ، ويسمى الرَّوم إِشماماً؛ والرَّوْم : صوت ضعيف يُسمع خفياً . وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إِشمام إِلى إِعراب المدغم . وقرأ الحسن «مَالَكَ لا تأمُنّا» بضم الميم .
وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل ، والمعنى : مالك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا ، فانه قد كبر ولا يعلم شيئاً من أمر المعاش { وإِنا له لناصحون } فيما أشرنا به عليك؛ { أرسله معنا غداً } إِلى الصحراء . وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وذلك أنهم قالوا له : أرسله معنا ، فقال إِني لَيَحْزُنُني أن تذهبوا به ، فقالوا : مالك لا تأمنا .
قوله تعالى : { نرتع ونلعب } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما ، والعين ساكنه؛ وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب .
وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال :
أحدها : نَلْهُ ، قاله الضحاك . والثاني : نَسْعَ ، قاله قتادة . والثالث : نأكل؛ يقال : رتعت الإِبل : إِذا رعت ، وأرتعتها : إِذا تركتها ترعى . قال الشاعر :
وَحْبِيبٍ لي إِذَا لاَقَيْتُهُ ... وإِذَا يَخْلُوا لَهُ لَحْمِي رَتَعْ
أي : أكله ، هذا قول ابن الأنباري ، وابن قتيبة . وقرأ عاصم ، و حمزة والكسائي : «يرتع ويلعب» بالياء فيهما وجزْم العين والباء ، يعنون «يوسف» . وقرأ نافع : «نرتعِ» بكسر العين من «نرتع» من غير بلوغ إِلى الياء . قال ابن قتيبة : ومعناها : نتحارس ، ويرعى بعضنا بعضاً ، أي : يحفظ؛ ومنه يقال : رعاك الله ، أي : حفظك . وقد رويت عن ابن كثير أيضاً «نرتعي» باثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف . وقرأ أنس ، وأبو رجاء «نُرتِعْ» بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين ، و «نلعبْ» بالنون . قال أبو عبيدة : أي : نرتع إِبلنا .
فأما قوله : { ونلعب } فقال ابن عباس : نلهو .
فإن قيل : كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذِكر اللعب؟
فالجواب : من وجهين . أحدهما : أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء ، قاله أبو عمرو بن العلاء . والثاني : أنهم عَنَوْا مباح اللعب ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : { إِني ليحزنني أن تذهبوا به } أي : يحزنني ذهابكم به ، لأنه يفارقني فلا أراه . { وأخاف أن يأكلَهُ الذئب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع . وقرأ الكسائي ، وأبو جعفر ، وشيبة بغير همز . قال أبو علي : «الذئب» مهموز في الأصل . يقال : تذاءَبَتِ الريح : إِذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب .
وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : { وأنتم عنه غافلون } فيه قولان :
أحدهما : غافلون في اللعب . والثاني : مشتغلون برعيتكم .
قوله تعالى : { لئن أكله الذئب ونحن عُصْبَةٌ } أي : جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه { إِنا إِذاً لخاسرون } أي : عاجزون . قال ابن الأنباري : ومن قرأ «عصبةً» بالنصب ، فتقديره : ونحن نجتمع عصبة .
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } في الكلام اختصار وإِضمار ، تقديره : فأرسله معهم فلما ذهبوا . { وأجمعوا } أي : عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب .
الإِشارة إِلى قصة ذهابهم
قال المفسرون : قالوا ليوسف : أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد؟ قال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، قال : أفعل ، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب ، فقالوا : يا أبانا إِن يوسف قد أحب أن يخرج معنا ، فقال : ما تقول يا بني؟ قال : نعم يا أبت ، قد أرى من إِخوتي اللين واللطف ، فأنا أحب أن تأذن لي ، فأرسله معهم ، فلما أصحروا ، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، وأغلظوا له القول ، وجعل يلجأ إِلى هذا ، فيضربه ، وإِلى هذا ، فيؤذيه ، فلما فطن لما قد عزموا عليه ، جعل ينادي : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إِخوته لأَحَزْنَكَ ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك ، وضيَّعوا وصيَّتك ، وجعل يبكي بكاءً شديداً . قال الضحاك عن ابن عباس : فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جثم على صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلاً يا أخي لا تقتلني ، قال : يا ابن راحيل صاحبَ الأحلام ، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ، ولوى عنقه ليكسرها ، فنادى يوسف : يا يهوذا اتق الله فيّ ، وخل بيني وبين مَنْ يريد قتلي ، فأدركته له رحمة ، فقال يهوذا : يا إِخوتاه ، ألا أدلكم على أمرٍ هو خير لكم وأرفق به؟ قالوا : وما ذاك؟ قال : تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السيارة ، قالوا : نفعل؛ فانطلفوا به إِلى الجب ، فخلعوا قميصه ، فقال : يا إِخوتاه ، لِمَ نزعتم قميصي؟ ردوه عليَّ أستر به عورتي ويكون كفناً لي في مماتي؛ فأخرج الله له حجراً في البئر مرتفعاً من الماء ، فاستقرت عليه قدماه . وقال السدي : جعلوا يدلونه في البئر ، فيتعلق بشفير البئر؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إِخوتاه ، ردوا عليَّ قيمصي أتوارى به ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً ، فدلّوه في البئر ، حتى إِذا بلغ نصفها ألقوه إِرادة أن يموت ، فكان في البئر ماءٌ فسقط فيه ، ثم أوى إِلى صخرة فيها فقام ، عليها؛ فلما أَلْقَوْهُ في الجب جعل يبكي ، فنادوه ، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام . وقال كعب : جمعوا يديه إِلى عنقه ونزعوا قميصه ، فبعث الله إِليه مَلَكاً ، فحلَّ عنه وأخرج له حجراً من الماء ، فقعد عليه؛ وكان يعقوب قد أدرج قميص إِبراهيم الذي كساه الله إِياه يوم أُلْقي في النار في قصبة ، وجعلها في عنق يوسف ، فألبسه إِياه الملك حينئذ ، وأضاء له الجب . وقال الحسن : أُلقي في الجب ، فَعَذُبَ ماؤه ، فكان يغنيه عن الطعام والشراب؛ ودخل عليه جبريل ، فأنس به ، فلما أمسى ، نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إِنك إِذا خرجت عني استوحشت ، فقال : إِذا رهبت شيئاً فقل : يا صريخ المستصرخين ، وياغوث المستغيثين ، ويا مفرِّج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري .
فلما قالها حفّته الملائكة ، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام ، وكان إِخوته يرعون حول الجب . وقال محمد بن مسلم الطائفي : لما أُلقي يوسف في الجُبِّ ، قال : ياشاهداً غير غائب ، ويا قريباً غير بعيد ، ويا غالباً غير مغلوب ، اجعل لي فرجاً مما أنا فيه؛ قال : فما بات فيه .
وفي مقدار سنِّة حين أُلقي في الجب أربعة أقوال :
أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله الحسن .
والثاني : ست سنين ، قاله الضحاك .
والثالث : سبع عشرة ، قاله ابن السائب ، وروي عن الحسن أيضاً .
والرابع : ثمان عشرة .
قوله تعالى : { وأوحينا إِليه } فيه قولان :
أحدهما : أنه إِلهام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه وحي حقيقة .
قال المفسرون : أُوحي إِليه لتخبرنّ إِخوتك بأمرهم ، أي : بما صنعوا بك وأنت عالٍ عليهم .
وفي قوله : { وهم لا يشعرون } قولان :
أحدهما : لا يشعرون أنك يوسف وقت إِخبارك لهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثاني : لا يشعرون بالوحي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبئنهم»؛ وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إِليه» . قال حميد : قلت للحسن : أيحسد المؤمنُ المؤمنَ؟ قال : لا أبالك ، ما نسّاك بني يعقوب؟
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
قوله تعالى : { وجاؤوا أباهم عشاء يبكون } وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وابن السميفع ، والأعمش : «عشاء» بضم العين .
قال المفسرون : جاؤوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب ، فلما سمع صوتهم فزع ، وقال : مالكم يا بَنِيَّ ، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما اصابكم؟ وأين يوسف؟ { قالوا : يا أبانا إِنا ذهبنا نستبق } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ننتضل ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة ، قال : والمعنى ، يسابق بعضنا بعضاً في الرمي ، والثاني : نشتد ، قاله السدي . والثالث : نتصيد ، قاله مقاتل . فيكون المعنى على الأول : نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهماً؛ وعلى الثاني : نستبق على الأقدام؛ وعلى الثالث : للصيد .
قوله تعالى : { وتركنا يوسف عند متاعنا } أي : ثيابنا . { وما أنت بمؤمن لنا } أي : بمصدِّق .
وفي قوله : { ولو كنا صادقين } قولان :
أحدهما : أن المعنى : وإِن كنا قد صدقنا ، قاله ابن إِسحاق . والثاني : لو كنا عندك من أهل الصدق لا تهمتنا في يوسف لمحبتك إِياه ، وظننت أنا قد كذبناك ، قاله الزجاج .
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى : { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } قال اللغويون : معناه : بدم مكذوب فيه ، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولاً ، فيقولون للكذب مكذوب ، وللعقل معقول ، وللجلد مجلود ، قال الشاعر :
حتَّى إِذا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْماً وَلاَ لِفُؤَادِهِ مَعْقُولاَ
أراد : عقلاً . وقال الآخر :
قد والذي سَمَكَ السماءَ بِقُدْرَةٍ ... بُلغ العَزَاءُ وأُدْرِكَ المَجْلُوْدُ
يريد : أُدرك الجلد . ويقولون : ليس لفلان عقد رأي ، ولا معقود رأي ، ويقولون : هذا ماء سكْب ، يريدون : مسكوباً ، وهذا شراب صب ، يريدون : مصبوباً ، وماء غور ، يعنون : غائراً ، ورجل صوم ، يريدون : صائماً ، وامرأة نَوْح ، يريدون : نائحة؛ وهذا الكلام مجموع قول الفراء ، والأخفش ، والزجاج ، وابن قتيبة في آخرين .
قال ابن عباس : أخذوا جدياً فذبحوه ، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ، وأتوه به وليس فيه خرق ، فقال : كذبتم ، لو كان أكله الذئب لخرّق القميص . وقال قتادة : كان دم ظبية . وقرأ ابن أبي عبلة : «بدمٍ كذباً» بالنصب . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية : «بدم كدب» بالدال غير معجمة ، أي : بدم طريّ .
قوله تعالى : { بل سَوَّلَتْ } أي : زَيَّنَتْ { لكم أنفسكم أمراً } غير ما تصفون { فصبر جميل } قال الخليل : المعنى : فشأني صبر جَميل ، والذي أعتقده صبر جميل . وقال الفراء : الصبر مرفوع ، لأنه عزّى نفسه وقال : ما هو إِلا الصبر ، ولو أمرهم بالصبر ، لكان نصباً . وقال قطرب : المعنى : فصبري صبر جميل . وقرأ ابن مسعود ، وأُبيّ ، وأبو المتوكل : «فصبراً جميلاً» بالنصب . قال الزجاج : والصبر الجميل ، لا جزع فيه ، ولا شكوى إِلى الناس .
قوله تعالى : { والله المستعان على ما تصفون } فيه قولان .
أحدهما : على ما تصفون من الكذب . والثاني : على احتمال ما تصفون .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قوله تعالى : { وجاءت سيارة } أي : قوم يسيرون { فأرسلوا واردهم } قال الأخفش : أنّث السيارة وذكّر الوارد ، لأن السيارة في المعنى للرجال . وقال الزجاج : الوارد : الذي يَرِدُ الماء ليستقي للقوم .
وفي اسم هذا الوارد قولان .
أحدهما : مالك بن ذُعْر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إِبراهيم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : مجلث بن رعويل ، قاله وهب بن منبه .
قوله تعالى : { فأدلى دَلْوَهُ } أي : أرسلها . قال الزجاج : يقال : أدليت الدلو : إِذا أرسلتها لتملأها ودلوتها : إِذا أخرجتها . { قال يا بشراي } قرأه ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يا بشرايَ» بفتح الياء وإِثبات الألف . وروى ورش عن نافع «بشرايْ» و«محيايْ» [ الأنعام : 162 ] و«مثواي» [ يوسف : 23 ] بسكون الياء . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «يا بشرى» بألف بغير ياء . وعاصم بفتح الراء ، وحمزة ، والكسائي يميلانها . قال الزجاج : من قرأ «يا بشراي» فهذا النداء تنبيه للمخاطبين ، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل؛ فالمعنى : أبشروا ، ويا أيها البشرى هذا من أوانك ، وكذلك إِذا قلت : يا عجباه ، فكأنك قلت : اعجبوا ، ويا أيها العجب هذا من حينك؛ وقد شرحنا هذا المعنى [ هود 69 و 74 ] .
فأما قراءة من قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى : يا من حضر ، هذه بشرى . ويجوز أن يكون المعنى : يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين . وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى . وقال ابن الأنباري : يجوز فيه هذه الأقوال ، ويجوز أن يكون اسم امرأة . وقرأ أبو رجاء ، وابن أبي عبلة : «يا بُشْرَيَّ» بتشديد الياء وفتحها من غير ألف . قال ابن عباس : لما أدلى دَلْوَه؛ تعلق يوسف بالحبل فنظر إِليه فإذا غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقال لأصحابه : البشرى ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : هذا غلام في البئر ، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه ، واستخرجوه من الجُبِّ ، فقال بعضهم لبعض : اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألونكم الشركة فيه ، فإن قالوا : ما هذا؟ فقولوا : استبضعنَاه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر؛ فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر ، فنظروا ، فإذا هم بالقوم ومعهم يوسف ، فقالوا لهم : هذا غلام أبق منا ، فقال مالك بن ذعر : فأنا أشتريه منكم ، فباعوه بعشرين درهماً وحُلَّة ونعلين ، وأسره مالك بن ذعر من أصحابه ، وقال : استبضعَناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر .
قوله تعالى : { وأسرُّوه بضاعة } قال الزجاج : «بضاعةً» منصوب على الحال ، كأنه قال : وأسرّوه جاعليه بضاعة . وقال ابن قتيبة : أسرّوا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة . في الفاعلين لذاك قولان :
أحدهما : أنهم واردو الجب . أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ، وتواصَوا أنه بضاعة استبضعهم إِياها أهل الماء؛ وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : أنهم إِخوته ، أسروّا أمره ، وباعوه ، وقالوا : هو بضاعة لنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى : { والله عليم بما يعملون } يعمّ الباعة والمشترين .
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
قوله تعالى : { وشروه } هذا حرف من حروف الأضداد ، تقول : شريت الشيء ، بمعنى بعته؛ وشريته؛ بمعنى اشتريته . فإن كان بمعنى باعوه ، ففيهم قولان .
أحدهما : أنهم إِخوته ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنهم السيارة ، ولم يبعه إِخوته ، قاله الحسن ، وقتادة . وإِن كان بمعنى اشتروه ، فإنهم السيارة .
قوله تعالى : { بثمن بَخْسٍ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الحرام ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة في آخرين .
والثاني : أنه القليل ، قاله عكرمة ، والشعبي ، قال ابن قتيبة : البخس : الخسيس الذي بُخس به البائع .
والثالث : الناقص ، وكانت الدراهم عشرين درهماً في العدد ، وهي تنقص عن عشرين في الميزان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { دراهم معدودة } قال الفراء : إِنما قيل : «معدودة» ليُستدَل بها على القلَّة . وقال ابن قتيبة : أي : يسيرة ، سهل عددها لقلَّتها ، فلو كانت كثيرة لثقل عددها . وقال ابن عباس : كانوا في ذلك الزمان لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً ، وقيل : إِنما لم يَزِنُوها لزهدهم فيه .
وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال :
أحدها : عشرون درهماً ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب بن منبِّه ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ، ومقاتل في آخرين .
والثاني : عشرون درهماً وحُلَّة ، ونعلان ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : اثنان وعشرون درهماً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والرابع : أربعون درهماً ، قاله عكرمة في رواية ، وابن إِسحاق .
والخامس : ثلاثون درهماً ، ونعلان ، وحُلَّة ، وكانوا قالوا له بالعبرانية : إِما أن تُقرَّ لنا بالعبودية ، وإِما أن نأخذَك منهم فنقتلَك ، قال : بل أُقرُّ لكم بالعبودية ، ذكره إِسحاق بن بشر عن بعض أشياخه .
قال المفسرون : اقتسموا ثمنه ، فاشترَوا به نعالاً وخفافاً .
وكان بعض الصالحين يقول : والله ما يوسف وإِن باعه أعداؤه بأعجبَ منك في بيعكَ نفسَكَ بشهوةِ ساعةٍ من معاصيك .
قوله تعالى : { وكانوا فيه من الزاهدين } الزهد : قلَّة الرغبة في الشيء .
وفي المشار إِليهم قولان : أحدهما : أنهم إِخوته ، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا ، في هاء «فيه» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى يوسف ، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى ، قاله الضحاك ، وابن جريج . والثاني : أنها ترجع إِلى الثمن . وفي علَّة زهدهم قولان : أحدهما : رداءته . والثاني : أنهم قصدوا بُعد يوسف ، لا الثمن .
والثاني : أنهم السيارة الذين اشترَوه .
وفي علَّة زهدهم ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم ارتابوا لقلة ثمنه . والثاني : أن إِخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإِباق . والثالث : لأنهم علموا أنه حر .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه من مصر } قال وهب : لما ذهبت به السيارة إِلى مصر ، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع ، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنَه مسكاً ، ووزنه ورِقاً ، ووزنه حريراً ، فاشتراه بذلك الثمن رجل يقال له : قطفير ، وكان أمين فرعون وخازنه ، وكان مؤمناً . وقال ابن عباس : إِنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين ديناراً ، وزوجَيْ نعل ، وثوبَيْن أبيضين ، فلما رجع إِلى منزله قال لامرأته : أكرمي مثواه . وقال قوم : اسمه أُطفير .
وفي اسم المرأة قولان : أحدهما : راعيل بنت رعاييل ، قاله ابن إِسحاق . والثاني : أزليخا بنت تمليخا ، قاله مقاتل . قال ابن قتيبة : «أكرمي مثواه» يعني أكرمي منزله ومقامه عندك ، من قولك : ثويت بالمكان : إِذا أقمت به . وقال الزجاج : أحسني إِليه في طول مُقامه عندنا . قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرَّس في يوسف ، فقال لامرأته : «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا» وابنة شعيب حين قالت : { يا أبت استأجره } [ القصص 26 ] ، وأبو بكر حين استخلف عمر .
وفي قوله : { عسى أن ينفعَنَا } قولان :
أحدهما : يكفيَنَا إِذا بلغ أمورنا . والثاني : بالربح في ثمنه .
قوله تعالى : { أو نتخذه ولداً } قال ابن عباس : نتبنَّاه . وقال غيره : لم يكن لهما ولد ، وكان العزيز لا يأتي النساء .
قوله تعالى : { وكذلك مكنَّا ليوسف } أي : وكما أنجيناه من إِخوته وأخرجناه من ظلمة الجُبِّ ، مكنَّا له في الأرض ، أي : ملَّكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها . { ولنعلِّمه } قال ابن الأنباري : إِنما دخلت الواو في «ولنعلِّمه» لفعل مضمر هو المجتلب للام ، والمعنى : مكنَّا ليوسف في الأرض ، واختصصناه بذلك لكي نعلِّمه من تأويل الأحاديث . وقد سبق تفسير «تأويل الأحاديث» [ يوسف 6 ] . { والله غالب على أمره } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله ، فالمعنى : أنه غالب على ما أراد من قضائه ، وهذا معنى قول ابن عباس .
والثاني : أنها ترجع إِلى يوسف ، فالمعنى : غالب على أمر يوسف حتى يبلِّغه ما أراده له ، وهذا معنى قول مقاتل . وقال بعضهم : والله غالب على أمره حيث أمر يعقوبُ يوسفَ أن لا يقصَّ رؤياه على إِخوته ، فعلموا بها ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوه ، فكادوه ، ثم أراد إِخوة يوسف قَتْلَه ، فلم يقدَّر لهم ، ثم أرادوا أن يلتقطه بعض السيارة فيندرس أمره ، فعلا أمره ، ثم باعوه ليكون مملوكاً ، فغلب أمره حتى ملك ، وأرادوا أن يعطفوا أباهم ، فأباهم ، ثم أرادوا أن يغرّوا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقَوْه على القميص ، فلم يَخْفَ عليه ، ثم أرادوا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين ، فنسوا ذنبهم إِلى أن أقرُّوا به بعد سنين . فقالوا : { إِنا كنا خاطئين } [ يوسف 97 ] ، ثم أرادوا أن يمحوا محبَّته من قلب أبيه ، فازدادت ، ثم أرادت أزليخا أن تلقي عليه التهمة بقولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } [ يوسف 25 ] ، فغلب أمره ، حتى شهد شاهد من أهلها ، وأراد يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي ، فنسي الساقي حتى لبث في السجن بضع سنين .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قوله تعالى : { ولما بلغ أشده } قد ذكرنا معنى الأشد في [ الأنعام : 152 ] ، واختلف العلماء في المراد به هاهنا على ثمانية أقوال : أحدها : أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة . والثاني : ثماني عشرة سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة . والثالث : أربعون سنة ، قاله الحسن . والرابع : بلوغ الحلم ، قاله الشعبي ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، وابنه . والخامس : عشرون سنة ، قاله الضحاك . والسادس : أنه من نحو سبع عشرة سنة إِلى نحو الأربعين ، قاله الزجاج . والسابع : أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة ، حكاه ابن قتيبة . والثامن : ثلاثون سنة ، ذكره بعض المفسرين .
قوله تعالى : { آتيناه حكماً } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه الفقه والعقل ، قاله مجاهد .
والثاني : النبوَّة ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنه جُعل حكيماً ، قاله الزجاج ، قال : وليس كل عالم حكيماً ، إنما الحكيم : العالم المستعمِل علمه ، الممتنع به من استعمال ما يجهَّل فيه .
والرابع : أنه الإِصابة في القول ، ذكره الثعلبي . قال اللغويون : الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ ، ويمنع منهما ، ويردُّ النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر ، ومنه : حكمَة الدابة . وأصل أحكمت في اللغة : منعت ، وسمي الحاكم حاكماً ، لأنه يمنع من الظلم والزيغ .
وفي المراد بالعلم هاهنا قولان . أحدهما : الفقه . والثاني علم الرؤيا .
قوله تعالى : { وكذلك نجزي المحسنين } أي : ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف وحراسته ، نثيب من أحسن عمله ، واجتنب المعاصي ، فننجِّيه من الهلكة ، ونستنفذه من الضلالة فنجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف .
وفي المراد بالمحسنين هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : الصابرون على النوائب . والثاني : المهتدون ، رويا عن ابن عباس . والثالث : المؤمنون . قال محمد بن جرير : هذا ، وإِن كان مخرج ظاهره على كل محسن ، فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : كما فعلتُ بيوسف بعد مالقي من البلاء فمكَّنته في الأرض وآتيته العلم ، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
قوله تعالى : { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } أي : طلبت منه المواقعة ، وقد سبق اسمها . قال الزجاج : المعنى : راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال . { وقالت هيت لك } قرأ ابن كثير : «هَيْتُ لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء . وقرأ نافع ، وابن عامر : «هِيتَ لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب . وروى الحُلواني عن هشام عن ابن عامر مثله ، إِلا أنه همزه . قال أبو علي الفارسي : هو خطأ . وروي عن ابن عامر : «هِئْتُ لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وقتادة . قال الزجاج : هو من الهيئة ، كأنها قالت : تهيأت لك . وعن ابن محيصن ، وطلحة بن مصرف ، مثل قراءة ابن عباس؛ إِلا أنها بغير همز ، وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء ، وهي قراءة أبي رزين ، وحميد . وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز ، وهي قراءة أبي العالية . وقرأ ابن خثيم مثله ، إِلا أنه لم يهمز . وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز ، وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : «هُيِّئتُ لك» برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة . وقرأ أُبَيُّ بن كعب : «ها أنا لك» . وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز . قال الزجاج : وهو أجود اللغات ، وأكثرها في كلام العرب ، ومعناها : هلم لك ، أي : أقبل على ما أدعوك إِليه ، وقال الشاعر :
أَبْلِغْ أمِيْرَ المُؤْمِنْينَ أَخَا العِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا ... أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا ... أي : فأقبل وتعال . وقال ابن قتيبة : يقال : هيَّت فلان لفلان : إِذا دعاه وصاح به ، قال الشاعر :
قد رابني أنَّ الكَرِيَّ أَسْكَتَا ... لو كانَ مَعْنِيَّاً بها لَهَيَّتَا
أي : صار ذا سكوت . واختلف العلماء في قوله : «هيت لك» بأي لغة هي ، على أربعة أقوال :
أحدها : أنها عربية ، قاله مجاهد . وقال ابن الأنباري : وقد قيل : إِنها من كلام قريش ، إِلا أنها مما درس وقلَّ في أفواههم آخراً ، فأتى الله به ، لأن أصله من كلامهم ، وهذه الكلمة لا مصدر لها ، ولا تصرُّف ، ولا تثنية ، ولا جمع ، ولا تأنيث ، يقال للاثنين : هيت لكما ، وللجميع : هيت لكم ، وللنسوة : هيت لَكُنَّ .
والثاني : أنها بالسريانية ، قاله الحسن .
والثالث : بالحورانية ، قاله عكرمة ، والكسائي . وقال الفراء : يقال : إِنها لغة لأهل حوران ، سقطت إِلى أهل مكة فتكلموا بها .
والرابع : أنها بالقبطية ، قاله السدي .
قوله تعالى : { قال معاذ الله } قال الزجاج : هو مصدر ، والمعنى : أعوذ بالله أن أفعل هذا ، يقال : عذت عياذاً ومعاذاً ومعاذة . { إنه ربي } . أي : إِن العزيز صاحبي { أحسن مثواي } ، قال : ويجوز أن يكون «إِنه ربي» يعني الله عز وجل «أحسن مثواي» أي : توّلاني في طول مُقامي .
قوله تعالى : { إِنه لا يفلح الظالمون } أي : إِن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم . وقيل : الظالمون هاهنا : الزناة .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قوله تعالى : { ولقد همَّت به } الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع . فأما همّ أزليخا ، فقال المفسرون : دعته إِلى نفسها واستلقت له . واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال :
أحدها : أنه كان من جنس همِّها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهمّ بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمَّين . واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه . قالوا : ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيء الهمِّ ، ويوجب له علوَّ المنازل ، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ، فقالوا : ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله . فقال أحدهم : اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إِلا بمائة دينار ، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة ، أُرعدتْ وقالت : إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار ، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا ، فزال ثلث الحجر . والحديث معروف ، وقد ذكرته في «الحدائق» فعلى هذا نقول : إِنما همت ، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة ، فصارت مصرَّة على الزنا . فأما هو ، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب ، وحديث النفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً ، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرّون " ، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب ، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب . وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال : إِذا كانت عزماً ، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة ، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله : «قال معاذ الله إِنه ربي» وقولِه : «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء» وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية .
فإن قيل : فقد سوّى القرآن بين الهمتين ، فلم فرقتم؟
فالجواب : أن الاستواء وقع في بداية الهمة ، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعد همته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها ، بدليل هربه منها ، وقولِه : «معاذ الله» ، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إِلى العزم . ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل ، فإنه لو كان هذا ، دل على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا .
والقول الثاني : أنها همت به أن يفترشها ، وهمّ بها ، أي : تمنَّاها أن تكون له زوجة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والقول الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، فلما رأى البرهان ، لم يقع منه الهم ، فقُدِّم جواب «لولا» عليها ، كما يقال : قد كنتَ من الهالكين ، لولا أن فلاناً خلَّصك ، لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر :
فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ ... لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ
أراد : لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي ، فقدم الجواب . وإِلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب ، فأما البيت المستشهَد به ، فمن اضطرار الشعراء ، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدِّم ما حكمه التأخير ، ويؤخِّر ما حكمه التقديم ، ويعدل عن الاختيار إِلى المستقبح للضرورة ، قال الشاعر :
جَزَى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ ... بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً
تقديره : جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه ، فاضطر إِلى تقديم الرب ، وقال الآخر :
لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً ... أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ
أراد : لما جفا مصعباً إِخوانه ، وأنشد الفراء :
طَلَباً لعُرْفِكَ يابْنَ يحيى بَعْدَمَا ... تَتَقَطَّعَت بي دونَكَ الأَسْبَابُ
فزاد تاء على «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى ... فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي
فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :
هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا
فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره . ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة ، لأنها من ضرورات الشعراء .
والقول الرابع : أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه ، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه ، لأنها تقول : راودني فمنعته فضربني ، ذكره ابن الأنباري .
والقول الخامس : أنه همّ بالفرار منها ، حكاه الثعلبي ، وهو قول مرذول ، أفَتراه أراد الفرار منها ، فلما رأى البرهان ، أقام عندها؟! قال بعض العلماء : كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء ، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه ، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم ، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة .
قال الحسن : إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيراً لهم ، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته . يعني الحسن : أن الحجة للأنبياء ألزم ، فاذا قبل التوبة منهم ، كان إِلى قبولها منكم أسرع . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه قال : " ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها ، إِلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهم ولم يعملها " . قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } جواب «لولا» محذوف . قال الزجاج : المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به . قال ابن الأنباري : لزنا ، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه .
وفي البرهان ستة أقوال :
أحدها : أنه مُثّل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نُودي يا يوسف ، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئاً ، فنودي الثانية ، فلم يعط على النداء شيئاً ، فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام ، فخرجت شهوته من أنامله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله ، فأدبر هارباً ، وقال : وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا . وقال أبو صالح عن ابن عباس : رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً على شفتيه . وقال الحسن : مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه . وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن سيرين ، والضحاك في آخرين . وقال عكرمة : كل ولد يعقوب ، قد ولد له اثنا عشر ولداً ، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً ، فنُقص بتلك الشهوة ولداً .
والثاني : أنه جبريل عليه السلام . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : مثِّل له يعقوب فلم يزدجر ، فنودي : أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره ، فوثب .
والثالث : أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين؟ قالت : أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة ، فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى ، قاله علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، والضحاك .
والرابع : أن الله بعث إِليه ملكاً ، فكتب في وجه المرأة بالدم : { ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلا } قاله الضحاك عن ابن عباس . وروي عن محمد بن كعب القرظي : أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها ، وفي رواية أخرى عنه ، أنه رآها مكتوبة في الحائط .
وروى مجاهد عن ابن عباس قال : بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم ، وفيها مكتوب { ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32 ] ، فقام هارباً ، وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب { واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله . . . . . } [ البقرة 281 ] ، فقام هارباً ، فلما عاد ، قال الله تعالى لجبرئيل : أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟! . وقال وهب بن منبه : ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] ، فانصرفا ، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب { وإِنَّ عليكم لحافظين . كراماً كاتبين } [ الأنفطار : 11-12 ] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب { ولا تقربوا الزنا . . . } الآية ، فعاد ، فعادت الرابعة وعليها مكتوب { واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله } ، فولَّى يوسف هارباً .
الخامس : أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب ، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم . وقال ابن إِسحاق : يقال : إِن البرهان خيال سيِّده ، رآه عند الباب فهرب .
والسادس : أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله ، فرأى تحريم الزنا ، روي عن محمد بن كعب القرظي ، قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه ، وهي البرهان ، وهذا هو القول الصحيح ، وما تقدَّمه فليس بشيء ، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير» . وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح .
قوله تعالى : { كذلك } أي : كذلك أريناه البرهان { لنصرف عنه السوء } وهو خيانة صاحبه { والفحشاءَ } ركوبَ الفاحشة { إِنه من عبادنا المخلصين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر اللام ، والمعنى : إِنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح اللام ، أرادوا : من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش . وبعض المفسرين يقول : السوء : الزنى ، والفحشاء : المعاصي .
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قوله تعالى : { واستبقا الباب } يعني يوسف والمرأة ، تبادرا إِلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه ، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج ، وأرادت هي إِن سبقت إِمساك الباب لئلا يخرج ، فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه ، فجذبته إِليها ، فقدَّت قميصه من دبر ، أي : قطعته من خلفه ، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له . قال المفسرون : قطعت قميصه نصفين ، فلما خرجا ، ألفيا سيدها ، أي : صادفا زوجها عند الباب ، فحضرها في ذلك الوقت كيد ، فقالت سابقةً بالقول مبرِّئةً لنفسها من الأمر { ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً } قال ابن عباس : تريد الزنا { إِلا أن يسجن } أي : ما جزاؤه إِلا السجن { أو عذاب أليم } تعني الضرب بالسياط ، فغضب يوسف حينئذ وقال : { هي راودتني } . وقال وهب ابن منبِّه : قال له العزيز حينئذ : أخنتني يا يوسف في أهلي ، وغدرتَ بي ، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك؟ فقال حينئذ : { هي راودتني عن نفسي } .
قوله تعالى : { وشهد شاهد من أهلها } وذلك أنه لما تعارض قولاهما ، احتاجا إِلى شاهد يُعلَم به قول الصادق .
وفي ذلك الشاهد ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان صبياً في المهد ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وهلال بن يساف في آخرين .
والثاني : أنه كان من خاصة الملك ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس . وقال أبو صالح عن ابن عباس : كان ابن عم لها ، وكان رجلاً حكيماً ، فقال : قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب ، فإن كان شقُّ القميص من قدَّامه فأنتِ صادقة وهو كاذب ، وإِن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة ، وقال بعضهم : كان ابن خالة المرأة .
والثالث : أنه شقُّ القميص ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وفيه ضعف ، لقوله : «من أهلها» .
فإن قيل : كيف وقعت شهادة الشاهد هاهنا معلَّقة بشرط ، والشارط غير عالم بما يشرطه؟
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما : أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه ، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا ، فعلم ، غير أنه أوقع في شهادته شرطاً ليَلزم المخاطبين قبولُ شهادته من جهة العقل والتمييز ، فكأنه قال : هو الصادق عندي ، فإن تدبر تم ما أشترطه لكم ، عقلتم قولي . ومثل هذا قول الحكماء : إِن كان القَدَر حقاً ، فالحرص باطل ، وإِن كان الموت يقيناً ، فالطمأنينة إِلى الدنيا حمق .
والجواب الثاني : أن الشاهد لم يقطع بالقول ، ولم يعلم حقيقة ما جرى ، وإِنما قال ما قال على جهة إِظهار ما يسنح له من الرأي ، فكان معنى قوله : «وشهد شاهد» أعلم وبيَّن . فقال : الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقَف على الخائن . فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل . فإن قلنا : إِنه صبي في المهد ، كان دخول الشرط مصحِّحاً لبراءة يوسف ، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شك .
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى : { فلما رأى قميصه } في هذا الرائي والقائل : { إِنه من كيدكن } قولان :
أحدهما : أنه الزوج . والثاني : الشاهد .
وفي هاء الكناية في قوله : «إِنه من كيدكن» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى تمزيق القميص ، قاله مقاتل .
والثاني : إِلى قولها : «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً» فالمعنى : قولكِ هذا من كيدكن ، قاله الزجاج .
والثالث : إِلى السوء الذي دعته إِليه ، ذكره الماوردي . قال ابن عباس : «إِن كيدكن» أي : عملكن «عظيم» تخلطن البريء والسقيم .
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
قوله تعالى : { يوسف أعرض عن هذا } المعنى : يا يوسف أعرض .
وفي القائل له هذا قولان :
أحدهما : أنه ابن عمها وهو الشاهد ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الزوج ، ذكره جماعة من المفسرين . قال ابن عباس : أَعرضْ عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد ، واكتمه عليها . وروى الحلبي عن عبد الوراث : «يوسف أعرَضَ عن هذا» بفتح الراء على الخبر .
قوله تعالى : { واستغفري لذنبك } فيه قولان :
أحدهما : استعفي زوجك لئلا يعاقبَكِ ، قاله ابن عباس .
والثاني : توبي من ذنبكِ فإِنكِ قد أثمتِ .
وفي القائل لهذا قولان . أحدهما : ابن عمها . والثاني : الزوج .
قوله تعالى : { إِنكِ كنتِ من الخاطئين } يعني : من المذنبين . قال المفسرون : ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء ، وهو قوله : { وقال نسوة في المدينة } ، وفي عددهن قولان :
أحدهما : أنهن كن أربعاً : امرأة ساقي الملك ، وامرأة صاحب دواته ، وامرأة خبَّازه ، وامرأة صاحب سجنه ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهن خمس ، امرأة الخبَّاز ، وامرأة الساقي ، وامرأة السجَّان ، وامرأة صاحب الدواة ، وامرأة الآذن ، قاله مقاتل .
فأما العزيز ، فهو بلغتهم الملك ، والفتى بمعنى العبد . قال الزجاج : كانوا يسمون المملوك فتى . وإِنما تكلم النسوة في حقها ، طعناً فيها ، وتحقيقاً لبراءة يوسف .
قوله تعالى : { قد شغفها حباً } أي : بلغ حبُّه شَغاف قلبها .
وفي الشَّغاف أربعة أقوال :
أحدها : أنه جلدةٌ بين القلب الفؤاد ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أنه غلاف القلب ، قاله أبو عبيدة . قال ابن قتيبة : ولم يُرِدِ الغلاف ، إِنما أراد القلب ، يقال : شغفت فلاناً : إِذا أصبت شغافه ، كما يقال : كبدته : إِذا أصبت كبده ، وبطنته : إِذا أصبت بطنه .
والثالث : أنه حَبَّة القلب وسويداؤه .
والرابع : أنه داءٌ يكون في الجوف في الشراسيف ، وأنشدوا :
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُوْنَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ... دُخُوْلَ الشَّغافِ تَبْتَغِيْهِ الأَصَابِعُ
ذكر القولين الزجاج . وقال الأصمعي : الشَّغاف عند العرب : داءٌ يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن ، والشَّراسيف : مقاطّ رؤوس الأضلاع ، واحدها : شُرسوف .
وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعلي بن الحسين ، والحسن البصري ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين . قال الفراء : كأنه ذهب بها كل مذهب ، والشَّعَف : رؤوس الجبال .
قوله تعالى : { إِنا لنراها في ضلال مبين } أي : عن طريق الرشد ، لحبها إِياه . والمبين : الظاهر .
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى : { فلما سمعت } يعني : امرأة العزيز ، { بمكرهن } وفيه قولان .
أحدهما : أنه قولهن وعيبهن لها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة قال الزجاج : وإِنما سمي هذا القول مكراً ، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها ، واستكتمتهن ، فمكرن وأفشين سرها .
والثاني : أنه مكر حقيقة ، وإِنما قلن ذلك مكراً بها لتريَهنّ يوسف ، قاله ابن إِسحاق .
قوله تعالى : { وأعتدت } قال الزجاج : أفعلت من العتاد ، وكل ما اتخذته عُدَّةً لشيء فهو عتاد ، والعتاد : الشيء الثابت اللازم . وقال ابن قتيبة : أعتدت بمعنى أعدَّت . فأما المتكأ ، ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه المجلس ، فالمعنى : هيأت لهن مجلساً ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال الزجاج : المتكأ : ما يُتَّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث .
والثالث : أنه الطعام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة . قال ابن قتيبة : يقال : اتكأنا عند فلان : إِذا طعمنا ، قال جميل بن معمر :
فَظَلِلْنَا في نَعْمةٍ واتَّكأْنا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ
والأصل في هذا أن من دَعَوْتَه ليطعم ، أعددت له التُّكأة للمقام والطمأنينة ، فسمي الطعام متَّكأً على الاستعارة . قال الأزهري : إِنما قيل للطعام : متكأ ، لأن القوم إِذا قعدوا على الطعام اتكؤوا ، ونُهيت هذه الأمة عن ذلك . وقرأ مجاهد «مُتْكاً» بإسكان التاء خفيفة ، وفيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه الأُتْرُجّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ويحيى بن يعمر في آخرين ، ومنه قول الشاعر :
نَشْرَبُ الإِثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَاً ... وترى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا
يريد : الأُتْرُجّ .
والثاني : أنه الطعام أيضاً ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه كل شيء يُحَزُّ بالسكاكين ، قاله الضحاك .
والرابع : أنه الزُّماورد ، روي عن الضحاك أيضاً . وقد روي عن جماعة أنهم فسروا المتَّكأَ بما فسروا به المُتك ، فروي عن ابن جريج أنه قال : المتَّكأُ : الأترج ، وكل ما يُحَزُّ بالسكاكين . وعن الضحاك قال : المتَّكأُ : كل ما يُحَزُّ بالسكاكين . وفرق آخرون بين القراءتين ، فقال مجاهد : من قرأ «متَّكَأً» بالتثقيل ، فهو الطعام ، ومن قرأ بالتخفيف ، فهو الأُتْرُجُّ . قال ابن قتيبة : من قرأ «مُتْكاً» فإنه يريد الأترج ، ويقال : الزُّماورد . وأياً ما كان ، فإني لا أحسبه سمي مُتْكاً إِلا بالقطع ، كأنه مأخوذ من البَتْك ، فأبدلت الميم منه باءً ، كما يقال : سَمَد رأسه وسَبَده : إِذا استأصله ، وشر لازم ، ولازب ، والميم تبدل من الباء كثيراً ، لقرب مخرجيهما .
قوله تعالى : { وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً } إِنما فعلت ذلك ، لأن الطعام الذي قدمتْ لهن يحتاج إِلى السكاكين . وقيل : كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها . قال وهب بن منبه : ناولت كل واحدة منهن أُتْرُجَّةً وسكيناً ، وقالت لهن : لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن ، ثم قالت ليوسف : اخرج عليهن . قال الزجاج : إِن شئت ضممت التاء من قوله : «وقالت» .
وإِن شئت كسرت ، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء ، ومن ضم التاء ، فلثقل الضمة بعد الكسرة . ولم يمكنه أن لا يخرج ، لأنه بمنزلة العبد لها . وذكر بعض أهل العلم أنها إِنما قالت : «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهن» ، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به ، ومثله { إِنما نطعمكم لوجه الله . . . } الآية [ الانسان 9 ] ، لم يقولوا ذلك ، إِنما أضمروه ، ويدل على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسَن : اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة ، مافعل .
وفي قوله : { أَكْبَرْنَهُ } قولان :
أحدهما : أَعْظَمْنَهُ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد .
والثاني : حِضْنَ ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وروى علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال : حضن من الفَرَح ، قال : وفي ذلك يقول الشاعر :
نَأْتي النساءَ لدى أطهارِهِنَّ ولا ... نأتي النساءَ إِذا أكبرنَ إِكبارا
وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد ، واختاره ابن الأنباري ، وردّه بعض اللغويين ، فروي عن أبي عبيدة أنه قال : ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حِضن» ، ولكن عسى أن يكنّ من شدة ما أعظمنه حضن ، وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره .
قوله تعالى : { وقطَّعن أيدَيهن } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : حَزَزْنَ أيديَهن ، وكن يحسبن أنهن يقطّعن طعاماً ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني : قطّعن أيدَيهن حتى ألقينها ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : كلَمن الأكُفَّ وأبنَّ الأنامل ، قاله وهب بن منبه .
قوله تعالى : { وقلن حاشا لله } قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين ، واتفقوا على حذف الألف في الوقف ، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل ، والباقون حذفوا . وهذه الكلمة تستعمل في موضعين . أحدهما : الاستثناء ، والثاني : التبرئة من الشر . والأصل «حاشا» وهي مشتقة من قولك : كنت في حشا فلان ، أي : في ناحيته . والحشا : الناحية ، وأنشدوا :
بأيِّ الحَشَا أَمْسَى ... الخَلِيْطُ المُبَايِنُ
أي : بأي النواحي ، والمعنى : صار يوسف في حشاً من أن يكون بشراً ، لفرط جماله . وقيل : صار في حشاً مما قرفته به امرأة العزيز . وقال ابن عباس ، ومجاهد : «حاش لله» بمعنى : معاذ الله . قال الفراء : و «بشراً» منصوب ، لأن الباء قد استعملت فيه ، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إِلا بالباء ، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه ، فنصبوا على ذلك ، وكذلك قوله : { ماهن أمهاتِهم } [ المجادلة : 2 ] ، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء ، فإذا أسقطوها ، رفعوا ، وهو أقوى الوجهين في العربية . قال الزجاج : قوله : الرفع أقوى الوجيهن ، غلط ، لأن كتاب الله أقوى اللغات ، ولم يقرأ بالرفع أحد . وزعم الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين القدماء أن «بشراً» منصوب ، لأنه خبر «ما» و «ما» بمنزلة «ليس» . قلت : وقد قرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، و عكرمة ، ومعاذ القارئ في آخرين : «ما هذا بشر» بالرفع .
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعبٍ ، وأبو الجوزاء ، وأبو السَّوَّار : «ما هذا بِشِرىً» بكسر الباء والشين مقصوراً منونّاً . قال الفراء : أي : ما هذا بمشترى . وقرأ ابن مسعود : «بشراءٍ» بالمد والهمز مخفوضاً منونّاً .
قوله تعالى : { إِنْ هذا إِلا مَلَكٌ } قرأ أُبَيٌّ ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو حيوة ، والجحدري : «ملِك» بكسر اللام .
قوله تعالى : { فذلكن الذي لمتنّني فيه } قال المفسرون : لما ذهلت عقولهن فقطَّعن أيدَيهن ، قالت لهن ذلك .
فإن قيل : كيف أشارت إِليه وهو حاضر بقولها : «فذلكن»؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما : أنها أشارت ب «ذلكن» إِلى يوسف بعد انصرافه من المجلس .
والثاني : أن في الكلام إِضمار «هذا» تقديره : فهذا ذلكن . ومعنى «لمتنّني فيه» أي : في حبه . ثم أقرت عندهن ، فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي : امتنع .
قوله تعالى : { وليكونن من الصاغرين } قال الزجاج : القراءة الجيدة تخفيف «وليكوننْ» والوقف عليها بالألف ، لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف ، تقول : اضربنْ زيداً ، وإِذا وقفت قلت : اضربا . وقد قرئت «وليكوننَّ» بتشديد النون ، وأكرهُها ، لخلاف المصحف ، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء . والصاغرون : المذَلُّون .
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إِلي } قال وهب بن منبه : لما قالت : «فذلكن الذي لمتنّني فيه» قلن : لا لوم عليكِ ، قالت : فاطلبن إِلى يوسف أن يسعفني بحاجتي ، فقلن : يا يوسف افعل ، فقالت : لئن لم يفعل لأخلدنَّه السجن ، فعند ذلك قال . { رب السجن أحب إِلي } . وقرأ يعقوب : «السَّجن» بفتح السين هاهنا فحسب . قال الزجاج : من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان ، فيكون المعنى : نزول السجن أحب إِليَّ من ركوب المعصية ، ومن فتح ، فعلى المصدر ، المعنى : أن أُسجن أحب إِلي . { وإِلاَّ تصرفْ عني كيدهن } أي : إِلاَّ تعصمني { أصب إِليهن } أي : أمِل إِليهن . يقال : صبا إِلى اللهو يصبو صَبْواً وصُبُوّاً وصَباءً : إِذا مال . وقال ابن الأنباري : ومعنى هذا الكلام : اللهم اصرف عني كيدهن ، ولذلك قال : { فاستجاب له ربُّه } .
قال : فإن قيل : إِنما كادته امرأة العزيز وحدها ، فكيف قال «كيدهن»؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إِلى البصرة في السفن ، وهو لم يخرج إِلا في سفينة واحدة .
والثاني : أن المكنيَّ عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها .
والثالث : أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالَمين اللاتي لهن مثل كيدها .
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قوله تعالى : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } في المراد بالآيات ثلاثة أقوال : أحدها : أنها شق القميص ، وقضاء ابن عمها عليها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها قدّ القميص ، وشهادة الشاهد ، وقطع الأيدي ، وإِعظام النساء إِياه ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والثالث : جَمَاله وعِفَّتُه ، ذكره الماوردي . قال وهب بن منبه : فأشار النسوة عليها بسحنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن ، وقلن : متى سجنتيه قطع ذلك عنكِ قَالَةَ الناس التي قد شاعت ، ورأوا أنكِ تبغضينه ، ويذلُّه السجن لك ، فلما انصرفن عادت إِلى مراودته فلم يزدد إِلا بُعداً عنها ، فلما يئست ، قالت لسيدها : إِن هذا العبد قد فضحني ، وقد أبغضتُ رؤيته ، فائذن لي في سجنه ، فأذن لها ، فسجنتْه وأضرَّتْ به . وقال السدي : قالت : إِما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري ، وإِما أن تحبسه كما حبستني ، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف . قال الزجاج : كان العزيز أمر بالإِعراض فقط ، ثم تغيَّر رأيه عن ذلك . قال ابن الأنباري : وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : «ثم بدا لهم» أي : ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه .
والثاني : ثم بدا لهم في يوسف بَدءٌ ، فقالوا : والله لنسجننَّه ، فاللام جواب يمين مضمرة . فأما الحين ، فهو يقع على قصير الزمان وطويله .
وفي المراد به هاهنا للمفسرين خمسة أقوال :
أحدها : خمس سنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : سنة ، روي عن ابن عباس أيضاً . والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة . والرابع : إِلى انقطاع القالَة ، قاله عطاء . والخامس : أنه زمان غير محدود ، ذكره الماوردي ، وهذا هو الصحيح ، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة ، وإِنما ذكر المفسرون قدر مالبث .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قوله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } قال الزجاج : فيه دليل على أنه حبس ، وإِن لم يُذكر ذلك . و «فتيان» جائز أن يكونا حَدَثين أو شيخين ، لأنهم يسمون المملوك فتى . قال ابن الأنباري : إِنما قال : «فتيان» لأنهما كانا مملوكين ، والعرب تسمي المملوك فتى ، شاباً كان أو شيخاً . قال المفسرون : عُمِّر ملك مصر فملُّوه : فدسُّوا إِلى خبَّازه وصاحب شرابه أن يسمَّاه ، فبلغه ذلك فحبسهما ، فكان يوسف قال لأهل السجن : إِني أعبِّر الأحلام ، فقال أحد الفتيين : هلم فلنجرب هذا العبد العبراني .
واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها كانت كذباً ، وإِنما سألاه تجريباً ، قاله ابن مسعود ، والسدي .
والثاني : أنها كانت صدقاً ، قاله مجاهد ، وابن إِسحاق .
والثالث : أن الذي صُلب منهما كان كاذباً ، وكان الآخر صادقاً ، قاله أبو مجلز .
قوله تعالى : { قال أحدهما } يعني الساقي { إِني أَراني } أي : في النوم { أعصر خمراً } أي : عنباً . وفي تسمية العنب خمراً ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه سماه باسم ما يؤول إِليه ، لأن المعنى لا يلتبس . كما يقال : فلان يطبخ الآجُرَّ ويعمل الدبس ، وإِنما يطبخ اللبِن ويصنع التمر ، وهذا قول أكثر المفسرين . قال ابن الأنباري : وإِنما كان كذلك ، لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل ، كقولهم : فلان يطبخ آجُرَّاً .
والثاني : أن الخمر في لغة أهل عُمان اسم للعنب ، قاله الضحاك ، والزجاج . قال ابن القاسم : وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها . والثالث : أن المعنى : أعصر عنب خمر ، وأصل خمر ، وسبب خمر ، فحذف المضاف ، وخلفه المضاف إِليه ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف 82 ] . قال أبو صالح عن عن ابن عباس : رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومَين ، فقال : ما شأنكما؟ قالا : رأينا رؤيا ، قال : قُصَّاها عليَّ ، قال الساقي : إِني رأيت كأني دخلت كرماً فجنيت ثلاثة عناقيد عنب ، فعصرتهن في الكأس ، ثم أتيت به الملك فشربه ، وقال الخباز : رأيت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز ، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها ، { نبئنا بتأويله } أي : أخبرنا بتفسيره . وفي قوله : { إِنا نراك من المحسنين } خمسة أقوال :
أحدها : أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزّي الحزين ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والثاني : إِنا نراك محسناً إِن أنبأتنا بتأويله ، قاله ابن إِسحاق .
والثالث : إِنا نراك من العالِمين قد أحسنت العلم ، قاله الفراء . قال ابن الأنباري : فعلى هذا يكون مفعول الإِحسان محذوفاً ، كما حُذف في قوله : { وفيه يَعصرون } [ يوسف 49 ] يعني العنب والسمسم . وإِنما علموا أنه عالم ، لنشره العلم بينهم .
والرابع : إِنا نراك ممن يحسن التأويل ، ذكره الزجاج .
والخامس : إِنا نراك محسناً إِلى نفسك بلزومك طاعة الله ، ذكره ابن الأنباري .
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه } في معنى : الكلام قولان :
أحدهما : لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في اليقظة إِلا أخبرتكما به قبل أن يصل إِليكما ، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام ، وهو قول الحسن .
والثاني : لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في المنام إِلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة ، هذا قول السدي . قال ابن عباس : فقالا له : وكيف تعلم ذلك ، ولست بساحر ، ولا عرّاف ، ولا صاحب نجوم؛ فقال : { ذلكما مما علَّمني ربي } .
فإن قيل : هذا كله ليس بجواب سؤالهما ، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أنه لما علم أن أحدهما مقتول ، دعاهما إِلى نصيبهما من الآخرة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما ، قاله ابن جريج .
والثالث : أنه ابتدأ بدعائهما إِلى الإِيمان قبل جواب السؤال ، قاله الزجاج .
والرابع : أنه ظنهما كاذبَين في رؤياهما ، فعدل عن جوابهما ليُعرضا عن مطالبته بالجواب فلما ألحّا أجابهما ، ذكره ابن الأنباري . فأما الملَّة فهي الدين . وتكرير قوله : { هم } للتوكيد .
قوله تعالى : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } قال ابن عباس : يريد : أن الله عصمنا من الشرك { ذلك من فضل الله علينا } أي : اتِّباعنا الإِيمان بتوفيق الله . { وعلى الناس } يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه . وقال ابن عباس : «ذلك من فضل الله علينا» أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إِليهم ، { ولكنَّ أكثر الناس } من أهل مصر { لا يشكرون } نعم الله فيوحِّدونه .
قوله تعالى : { أأرباب متفرقون } يعني : الأصنام من صغير وكبير { خيرٌ } أي : أعظم صفة في المدح { أم الله الواحد القهار } يعني أنه أحق بالإِلهية من الأصنام؟ فأما الواحد ، فقال الخطابي : هو الفرد الذي لم يزل وحده ، وقيل : هوالمنقطع القرين ، المعدوم الشريك والنظير ، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلَّفة ، فإن كل شيء سواه يُدعى واحداً من جهة ، غير واحد من جهات ، والواحد لا يثنَّى من لفظه ، لايقال : واحدان . والقهار : الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة ، وقهر الخلق كلَّهم بالموت . وقال غيره : القهار : الذي قهر كل شيء فذلَّلَه ، فاستسلم وذلَّ له .
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
قوله تعالى : { ما تعبدون من دونه } إِنما جمع في الخطاب لهما ، لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما . وقوله : «من دونه» أي من دون الله { إِلا أسماءً } يعني : الأرباب والآلهة ، ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام ، فكأنها أسماء فارغة ، فكأنهم يعبدون الأسماء ، لأنها لا تصح معانيها . { ما أنزل الله بها من سلطان } أي : من حجة بعبادتها . { إِن الحكم إِلا لله } أي : ما القضاء والأمر والنهي إِلا له . { ذلك الدّين القيِّم } أي : المستقيم يشير إِلى التوحيد .
{ ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } فيه قولان :
أحدهما : لا يعلمون أنه لا يجوز عبادة غيره . والثاني : لا يعلمون ماللمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب .
قوله تعالى : { أمَّا أحدكما فيسقي ربَّه خمراً } الرب هاهنا : السيد . قال ابن السائب : لما قص الساقي رؤياه على يوسف ، قال له : ما أحسن ما رأيت! أما الأغصان الثلاثة ، فثلاثة أيام ، يبعث إِليك الملك عند انقضائها ، فيردك إِلى عملك ، فتعود كأحسن ما كنت فيه ، وقال للخبَّاز : بئس ما رأيت ، السلال الثلاث ، ثلاثة أيام ، ثم يبعث إِليك الملك عند انقضائهن ، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك ، فقالا : ما رأينا شيئاً ، فقال : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي : فُرغ منه ، وسيقع بكما ، صدقتما أو كذبتما .
فإن قيل : لم حتّم على وقوع التأويل ، وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله ، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله ، فلما قال : «قضي الأمر» دل على أنه بوحي .
والثاني : أنه لم يحتم ، بدليل قوله : «وقال للذي ظنَّ أنه ناجٍ منهما» ، قال أصحاب هذا الجواب : معنى «قضي الأمر» : قُطع الجواب الذي التمستماه من جهتي ، ولم يعنِ أن الأمر واقع بكما . وقال أصحاب الجواب الأول : الظن هاهنا بمعنى العلم .
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قوله تعالى : { وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما } يعني الساقي .
وفي هذا الظن قولان :
أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الظن الذي يخالف اليقين ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { اذكرني عند ربك } أي : عند صاحبك ، وهو الملك ، وقل له : إِن في السجن غلاماً حُبس ظلماً . واسم الملك : الوليد بن الريّان .
قوله تعالى : { فأنساه الشيطان ذكر ربه } فيه قولان :
أحدهما : فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن إِسحاق .
والثاني : فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه ، وأمره بذكر الملك ابتغاءَ الفرج من عنده ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، والزجاج ، وهذا نسيان عمد ، لا نسيان سهو ، وعكسه القول الذي قبله .
قوله تعالى : { فلبث في السجن بضع سنين } أي : غير ماكان قد لبث قبل ذلك . عقوبة له على تعلُّقه بمخلوق .
وفي البضع تسعة أقوال :
أحدها : ما بين السبع والتسع ، روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشاً عند نزول { آلم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا احتطت ، فإن البضع ما بين السبع إِلى التسع " والثاني : اثنتا عشرة سنة ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة . والرابع : أنه ما بين الخمس إِلى السبع ، قاله الحسن . والخامس : أنه ما بين الأربع إِلى التسع ، قاله مجاهد . والسادس : ما بين الثلاث إِلى التسع ، قاله الأصمعي ، والزجاج . والسابع : أن البضع يكون بين الثلاث والتسع العشر ، قاله قتادة . والثامن : أنه ما دون العشرة ، قاله الفراء ، وقال الأخفش : البضع : من واحد إِلى عشرة . والتاسع : أنه مالم يبلغ العقد ولا نصفه ، قاله أبو عبيدة : قال ابن قتيبة : يعني ما بين الواحد إِلى الأربعة . وروى الأثرم عن أبي عبيدة : البضع : ما بين ثلاث وخمس .
وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال :
أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أربع عشرة ، قاله الضحاك .
والثالث : سبع سنين ، قاله قتادة . قال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي «اذكرني عند ربك» قيل له : يا يوسف ، أتخذت من دوني وكيلاً؟ لأطيلنَّ حبسك ، فبكى ، وقال : يارب ، أنسى قلبي كَثرةُ البلوى ، فقلت كلمة ، فويل لإِخوتي .
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قوله تعالى : { وقال الملك } يعني ملك مصر الأكبر { إِني أرى } يعني في المنام ، ولم يقل : رأيت ، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل : أرى ، بمعنى رأيت . قال وهب بن منبه : لما انقضت المدة التي وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه ، دخل عليه جبريل إِلى السجن ، فبشَّره بالخروج وملكِ مصر ولقاءِ أبيه ، فلما أمسى الملك من ليلتئذ ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر ، في آثارهن سبع عجاف ، فأقبلت العجاف على السمان ، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إِلى القرنين ، ولم يزد في العجاف شيء ، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن ، ولم يزدد في اليابسات شيء ، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم ، فقالوا : { أضغاث أحلام } . قال الزجاج : والعجاف التي قد بلغت في الهزال الغاية . والملأ : الذين يُرجع إِليهم في الأمور ويقتدى برأيهم ، واللام في قوله : { للرؤيا } دخلت على المفعول للتبيين ، المعنى : إِن كنتم تعبرون . ثم بيّن باللام فقال . «للرؤيا» ومعنى عبرتُ الرؤيا وعبَّرتها : أخبرت بآخر ما يؤول إِليه أمرها ، واشتقاقه من عبر النهر ، وهو شاطىء النهر ، فتأويل عبرت النهر : بلغت إِلى عِبْره ، أي : إِلى شطه وهو آخر عرضه .
وذكر ابن الأنباري في اللام قولين :
أحدهما : أنها للتوكيد .
والثاني : أنها أفادت معنى «إِلى» والمعنى : إِن كنتم توجّهون العبارة إِلى الرؤيا .
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
قوله تعالى : { قالوا أضغاث أحلام } قال أبو عبيدة : واحدها ضِغث ، مكسورة ، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات ، تُجمع من الرؤيا كما يُجمع الحشيش ، فيقال : ضغث ، أي : ملء كف منه . وقال الكسائي : الأضغاث : الرؤيا المختلطة . وقال ابن قتيبة : «أضغاث أحلام» أي : أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل ، فيكون فيها ضروب مختلفة . وقال الزجاج : الضغث في اللغة : الحزمة والباقة من الشيء ، كالبقل وما أشبهه ، فقالوا له : رؤياك أخلاط أضغاث ، أي : حزم أخلاط ، ليست برؤيا بيِّنه ، { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } أي : ليس للرؤيا المخلتطة عندنا تأويل . وقال غيره : وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين . والأحلام : جمع حُلُم ، وهو ما يراه الإِنسان في نومه مما يصح ومما يبطل .
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
قوله تعالي : { وقال الذي نجا منهما } يعني الذي تخلص من القتل من الفتيين ، وهو الساقي ، { وادَّكر } اي : تذكر شأن يوسف وما وصَّاه به . قال الزجاج : وأصل ادَّكر : اذتكر ، ولكن التاء ابدلت منها الدال ، وأدغمت الذال في الدال . وقرأ الحسن : «واذَّكر» بالذال المشددة . وقوله : { بعد أمة } أي : بعد حين ، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن ، وقد سبق بيانه . وقرأ ابن عابس ، والحسن «بعد أَمَةً» أراد : بعد نسيان .
فإن قيل : هذا يدل على أن الناسي في قوله : «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو الساقي ، ولا شك أن من قال : إِن الناسي يوسف يقول : لم ينس الساقي .
فالجواب : أن من قال : إِن يوسف نسي ، يقول : معنى قوله : «وادَّكر» ذكر ، كما تقول العرب : احتلب بمعنى حلب ، واغتدى بمعنى غدا ، فلا يدل إِذاً على نسيان سبقه . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : إِنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إِلى تأويل رؤياه ، خوفاً من أن يكون ذكره ليوسف سبباً لذكره الذنب الذي من أجله حبس ، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري .
قوله تعالى : { أنا أنبئكم بتأويله } أي : من جهة يوسف { فأرسلون } أثبت الياء فيها وفي { ولا تقربون } [ يوسف : 60 ] { أن تفنِّدون } [ يوسف : 94 ] يعقوب في الحالين ، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع ، تعظيماً ، وقيل : خاطبه وخاطب أتباعه . وفي الكلام اختصار ، المعنى : فأرسلوه فأتى يوسف فقال : يا يوسف يا أيها الصدّيق . والصدّيق : الكثير الصدق ، كما يقال : فسّيق ، وسكّير ، وقد سبق بيانه [ النساء : 69 ] .
قوله تعالى : { لعلّي أرجع إِلى الناس } يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه . وفي قوله : { لعلهم يعلمون } قولان :
أحدهما : يعلمون تأويل رؤيا الملك . والثاني : يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك .
وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلِّي» قولين : أحدهما : أن «لعل» الأولى متعلقة بالإِفتاء . والثانية مبنية على الرجوع ، وكلتاهما بمعنى «كي» .
والثاني : أن الأولى بمعنى «عسى» والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين ، وهذا هو الجواب عن قوله : { لعلهم يعرفونها إِذا انقلبوا إِلى أهلهم لعلهم يرجعون } [ يوسف : 63 ] قال المفسرون : كان سيِّده العزيز قد مات ، واشتغلت عنه امرأته . وقال بعضهم : لم يكن العزيز قد مات ، فقال يوسف للساقي : قل للملك : هذه سبع سنين مُخصِبات ، ومن بعدهن سبع سنين شداد ، إِلا أن يُحتال لهن ، فانطلق الرسول إِلى الملك فأخبره ، فقال له الملك : ارجع إِليه فقل له : كيف يُصنع؟ فقال : { تزرعون سبع سنين دَأَباً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم «دأْباً» ساكنة الهمزة ، إِلا أن أبا عمرو كان إِذا أدرج القراءة لم يهمزها . وروى حفص عن عاصم «دأَباً» بفتح الهمزة . قال أبو علي : الأكثر في «دأب» الإِسكان ، ولعل الفتح لغة ، ومعنى «دأَباً» أي : زراعة متوالية على عادتكم ، والمعنى : تزرعون دائبين .
فناب «دأب» عن «دائبين» . وقال الزجاج : المعنى : تدأبون دأباً ، ودل على تدأبون «تزرعون» والدأب : الملازمة للشيء والعادة .
فإن قيل : كيف حكم بعلم الغيب ، فقال : «تزرعون» ولم يقل : إِن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أنه كان بوحي من الله عز وجل .
والثاني : أنه بنى على علم ما علّمه الله من التأويل الحق ، فلم يشك .
والثالث : أنه أضمر «إِن شاء الله» كما أضمر إِخوته في قولهم : { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا } [ يوسف : 65 ] ، فاضمروا الاستثناء في نياتهم ، لأنهم على غير ثقة مما وعدوا ، ذكره ابن الأنباري .
والرابع : أنه كالآمر لهم ، فكأنه قال : ازرعوا .
قوله تعالى : { فذروه في سنبله } فإنه أبقى له ، وأبعد من الفساد . والشِّداد : المجدبات التي تشتد على الناس . { يأكلن } أي : يُذهبن ما قدمتم لهن في السنين المخصبات ، فوصف السنين بالأكل ، وإِنما يؤكل فيها ، كما يقال : ليل نائم .
قوله تعالى : { إِلا قليلاً مما تحصنون } أي : تحرزون وتدَّخرون .
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قوله تعالى : { ثم يأتي من بعد ذلك عام } إِن قيل : لِمَ أشار إِلى السنين وهي مؤنثة ب «ذلك»؟
فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم :
أحدهما : أن السبع مؤنثه ، ولا علامة للتأنيث في لفظها ، فأشبهت المذكّر ، كقوله : { السماءُ منفطرٌ به } [ المزمل : 18 ] فذكّر منفطراً لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث ، قال الشاعر :
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... وَلاَ أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
فذكرّ «أبقل» لِما وصفنا .
والثاني : أن «ذلك» إِشارة إِلى الجدب ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبي . قال قتادة : زاده الله علم عام لم يسألوه عنه .
قوله تعالى : { فيه يغاث الناس } فيه قولان :
أحدهما : يصيبهم الغيث ، قاله ابن عباس . والثاني : يغاثون بالخصب . ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وفيه يعصرون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «يعصرون» بالياء . وقرأ حمزة ، والكسائي بالتاء ، فوجَّها الخطاب إِلى المستفتين .
وفي قوله «يعصرون» خمسة أقوال :
أحدها : يعصرون العنب والزيت والثمرات ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والجمهور .
والثاني : «يعصرون» بمعنى يحتلبون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال : تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لِسَعَةِ خيرهم واتِّساع خصبهم ، واحتج بقول الشاعر :
فما عِصْمةُ الأعْرَابِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم ... طَعَامٌ وَلاَ دَرٌّ مِنَ المَالِ يُعْصَرُ
أي : يُحلب .
والثالث : ينجون ، وهو من العَصَر ، والعَصَر : النجاء ، والعُصْرة : المنجاة . ويقال : فلان في عُصْرة : إِذا كان في حصن لا يُقدَر عليه ، قال الشاعر :
صَادِياً يَسْتغيث غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كان عُصْرةَ المَنْجُودِ
أي : غياثاً للمغلوب المقهور ، وقال عدي :
لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي
هذا قول أبي عبيده .
والرابع : يصيبون ما يحبون ، روي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال : المعتصر : الذي يصيب الشيء ويأخذه ، ومنه هذه الآية . ومنه قول ابن أحمر :
فإنَّما العَيْشُ بريّانِه ... وأَنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصَر
والخامس : يعطون ويفضِلون لِسَعَةِ عيشهم ، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة . وقرأ سعيد بن جبير : «يُعصَرون» بضم الياء وفتح الصاد . وقال الزجاج : أراد : يُمطرون من قوله : { وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً } [ النبأ : 14 ] .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به } قال المفسرون : لما رجع الساقي إِلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه ، وقع في نفسه صحة ما قال ، فقال : ائتوني بالذي عبّر رؤياي ، فجاءه الرسول ، فقال : أجب الملك ، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قُرف به ، فقال : { ارجع إِلى ربك } يعني الملك { فاسأله ما بال النسوة } وقرأ ابن أبي عبلة : «النُّسوة» بضم النون ، والمعنى : فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي ، وإِنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة ، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده . وظاهر قوله : { إِن ربي بكيدكن عليم } أنه يعني الله تعالى ، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز ، والمعنى : أنه يعلم براءتي . وقد روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إِلى الخروج ، فقال صلى الله عليه وسلم " إن الكريم بن الكريم بن الكريم [ ابن الكريم ] يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم ، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم جاءني الداعي لأجبت " . وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال :
أحدها : أنه خلطها بالنسوة ، لحسن عِشرةٍ فيه وأدبٍ ، قاله الزجاج .
والثاني : لأنها زوجة ملك ، فصانها .
والثالث : لأن النسوة شاهدات عليها له .
والرابع : لأن في ذكره لها نوع تهمة ، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي .
قال المفسرون : فرجع الرسول إِلى الملك برسالة يوسف ، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز ، فقال : { ما خطبكن } أي : ما شأنكن وقصتكن { إِذْ راودتُّنَ يوسف } .
فإن قيل : إِنما راودته واحدة ، فلم جمعن؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه جمعهن في السؤال ليُعلم عينُ المراوِدة .
والثاني : أن أزليخا راودته على نفسه ، وراوده باقي النسوة على القبول منها .
والثالث : أنه جمعهنَّ في الخطاب ، والمعنى لواحدة منهن ، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إِذا أُمن من اللبس ، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء : " إِنكن أكثر أهل النار " ، فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { قلن حاش لله } قال الزجاج : قرأ الحسن بتسكين الشين ، ولا اختلاف بين النحويين أن الإِسكان غير جائز ، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز ، ولا هو من كلام العرب . فأعلم النسوةُ الملكَ براءة يوسف من السوء ، فقالت امرأة العزيز : { الآن حصحص الحق } أي : برز وتبين ، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة ، أي : بانت حصة الحق وجهته من حصة جهة الباطل . وقال ابن القاسم : «حصحص» بمعنى وضح وانكشف ، تقول العرب : حصحص البعير في بروكه : إِذا تمكن ، وأثَّر في الأرض ، وفرَّق الحصى .
وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإِقرار قولان :
أحدهما : أنها لما رأت النسوة قد برّأنه ، قالت : لم يبق إِلا أن يُقبِلن علي بالتقرير ، فأقرت ، قاله الفراء .
والثاني : أنها أظهرت التوبة وحققت صدق يوسف ، قاله الماوردي .
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
قوله تعالى : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال مقاتل : «ذلك» بمعنى هذا . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه ، لقرب الخبر من أصحابه ، فصار كالمشاهد الذي يشار إِليه بهذا ، ولمّا كان متقضياً ، أمكن أن يشار إِليه بذلك ، لأن المقتضّي كالغائب .
واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يوسف ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئاً ثم تصله بالحكاية عن آخر . ونظير هذا قوله : { يريد أن يخرجكم من أرضكم } [ الأعراف : 110 ] هذا قول الملأ { فماذا تأمرون } قول فرعون . ومثله { وجعلوا أعزَّة أهلها أذلَّة } [ النمل : 34 ] هذا قول بلقيس { وكذلك يفعلون } قول الله تعالى . ومثله { مَنْ بَعَثَنَا من مرقدنا } [ يس : 52 ] هذا قول الكفار ، فقالت الملائكة : { هذا ما وعد الرحمن } وإِنما يجوز مثل هذا في الكلام ، لظهور الدلالة على المعنى .
واختلفوا ، أين قال يوسف هذا؟ على قولين :
أحدهما : أنه لما رجع الساقي إِلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك ، قال : حينئذ «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جريج .
والثاني : أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك ، رواه عطاء عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ذلك ليعلم } أي : ذلك الذي فعلت من ردِّي رسول الملك ، ليعلم .
واختلفوا في المشار إِليه بقوله : «ليعلم» وقوله : { لم أخنه } على أربعة أقوال :
أحدها : أنه العزيز ، والمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته { بالغيب } أي : إِذا غاب عني ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : أن المشار إِليه بقوله : «ليعلم» الملك ، والمشار إِليه بقوله : «لم أخنه» العزيز ، والمعنى : ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أن المشار إِليه بالشيئين ، الملك ، فالمعنى : ليعلم الملك أني لم أخنه ، يعني الملك أيضاً ، بالغيب .
وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان :
أحدهما : لكون العزيز وزيره ، فالمعنى : لم أخنه في امرأة وزيره ، قاله ابن الأنباري .
والثاني : لم أخنه في بنت أخته ، وكانت أزليخا بنت أخت الملك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : أن المشار إِليه بقوله : «ليعلم» الله ، فالمعنى : ليعلم الله أني لم أخنه ، روي عن مجاهد ، قال ابن الأنباري : نسبَ العلم إِلى الله في الظاهر ، وهو في المعنى للمخلوقين ، كقوله : { حتى نعلم المجاهدين منكم } [ محمد : 31 ] .
فإن قيل : إِن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك ، فكيف قال : «ليعلم» ولم يقل : لتعلم ، وهو يخاطبه؟
فالجواب : أنا إِن قلنا : إِنه كان حاضراً عند الملك ، فانما آثر الخطاب بالياء توقيراً للملك ، كما يقول الرجل للوزير : إِن رأى الوزير أن يوقّع في قصتي . وإِن قلنا : إِنه كان غائباً ، فلا وجه لدخول التاء ، وكذلك إِن قلنا : إِنه عنى العزيز ، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ .
والقول الثاني : أنه قول امرأة العزيز ، فعلى هذا يتصل بما قبله ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه .
والثالث : أنه قول العزيز ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب ، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته ، حكى القولين الماوردي .
قوله تعالى : { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } قال ابن عباس : لا يصوِّب عمل الزناة ، وقال غيره : لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله تعالى : { وما أبرِّىء } في القائل لهذا ثلاثة أقوال ، وهي التي تقدمت في الآية قبلها .
فالذين قالوا : هو يوسف ، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال :
أحدها : أنه لما قال : «ليعلم أني لم أخُنه بالغيب» غمزه جبريل ، فقال : ولا حين هممتَ؟ فقال : «وما أبرىء نفسي» ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون .
والثاني : أن يوسف لما قال : «لم أخنه» ، ذكر أنه قد همّ بها فقال : «وما أبرىء نفسي» ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنه لما قال ذلك ، خاف أن يكون قد زكَّى نفسه ، فقال : «وما أبرىء نفسي» ، قاله الحسن .
والرابع : أنه لما قاله ، قال له الملك الذي معه : اذكر ما هممتَ به ، فقال : «وما أبرىء نفسي» ، قاله قتادة .
والخامس : أنه لما قاله ، قالت امرأة العزيز : ولا يوم حللتَ سراويلك؟ فقال : «وما أبرىء نفسي» ، قاله السدي .
والذين قالوا : هذا قول امرأة العزيز ، فالمعنى : وما أبرىء نفسي أني كنت راودته .
والذين قالوا : هو العزيز ، فالمعنى : وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف ، لأنه قد خطر لي .
قوله تعالى : { لأمَّارة بالسوء } قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ويعقوب إِلا رويساً : «بالسوء إِلا» بتحقيق الهمزتين . وقرأ أبو عمرو ، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى ، وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً . وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين ، مثل : «السُّوء عِلاَّ» وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واواً ، وأدغمها في الواو التي قبلها ، فتصير واواً مكسورة مشددة قبل همزة «إِلا» .
قوله تعالى : { إِلا ما رحم ربي } قال ابن الأنباري : قال اللغويون : هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد . قال أبو صالح عن ابن عباس : المعنى : إِلا من عصم ربي . وقيل : «ما» بمعنى «من» . قال الماوردي : ومن قال : هو قول امرأة العزيز ، فالمعنى : إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته ، أو في نزعها عنه . ومن قال : هو قول العزيز ، فالمعنى : إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن ، أو يثبِّته ، فلا يعجل . قال ابن الأنباري : والقول بأن هذا قول يوسف ، أصح ، لوجين :
أحدهما : لأن العلماء عليه . والثاني : لأن المرأة كانت عابدة وثن ، وما تضمنته الآية ، أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله عز وجل . وقال المفسرون : فلما تبين الملك عذر يوسف وعَلِم أمانته ، قال : { ائتوني به أستخلصه لنفسي } أي : أجعله خالصاً لي ، لا يشركني فيه أحد .
فإن قيل : فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك : «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» فكيف قال الملك : «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟!
فالجواب : أن أرباب هذا القول يقولون : أمر الملك باحضاره ليقلِّده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا .
قال وهب : لما دخل يوسف على الملك ، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً ، كان كلما كلَّمه بلسان ، أجابه يوسف بذلك اللسان ، فعجب الملك ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فقال : إِني أحب أن أسمع رؤياي منك شِفاهاً ، فذكرها له ، قال : فما ترى أيها الصِّدِّيق؟ قال : أرى أن تزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة ، وتجمع الطعام ، فيأتيك الناس فيمتارون ، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد ، فقال الملك : ومن لي بهذا؟ فقال يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض» . قال ابن عباس : ويريد بقوله : { مكين أمين } أي : قد مكَّنتكَ في ملكي وائتمنتكَ فيه . وقال مقاتل : المكين : الوجيه ، والأمين : الحافظ .
قوله تعالى : { اجعلني على خزائن الأرض } أي : خزائن أرضك .
وفي المراد بالخزائن قولان :
أحدهما : خزائن الأموال ، قاله الضحاك ، والزجاج .
والثاني : خزائن الطعام فحسب ، قاله ابن السائب . قال الزجاج : وإِنما سأل ذلك ، لأن الأنبياء ، بُعثوا بالعدل ، فعلم أنه لا أحد أقوَم بذلك منه .
وفي قوله : { إِني حفيظ عليم } ثلاثة أقوال :
أحدها : حفيظ لِما ولَّيتني ، عليم بالمجاعة متى تكون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : حفيظ لما استودعتني ، عليم بهذه السنين ، قاله الحسن .
والثالث : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن ، قاله السدي ، وذلك أن الناس كانوا يَرِدُون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة .
واختلفوا ، هل وَّلاه الملك يومئذ ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه وَّلاه بعد سنة ، روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أَخَّر ذلك سنة " . وذكر مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن يوسف قال إِني حفيظ عليم إِن شاء الله ، لملك من وقته " قال مجاهد : أسلم الملك على يد يوسف . وقال أهل السِّيَر : أقام في بيت الملك سنة ، فلما انصرمت ، دعاه الملك ، فتوَّجه ، وردَّاه بسيفه ، وأمر له بسرير من ذهب ، وضرب عليه كِلَّةً من إِستبرق ، فجلس على السرير كالقمر ، ودانت له الملوك ، ولزم الملك بيته ، وفوَّض أمره إِليه ، وعزل قُطَفِير عما كان عليه ، وجعل يوسف مكانه ، ثم إِن قطفير هلك في تلك الليالي ، فزوَّج الملكُ يوسفَ بامرأة قطفير ، فلما دخل عليها ، قال : أليس هذا خيراً مما تريدين؟ فقالت : أيها الصِّدِّيق لا تلمني ، فاني كنت امرأة حسناء في مُلك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، فغلبتني نفسي ، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء ، فولدت له ابنين ، إِفَراييم ومِيشا ، واستوسق له ملك مصر .
والقول الثاني : أنه ملَّكه بعد سنة ونصف ، حكاه مقاتل عن ابن عباس .
والثالث : أنه سلَّم إِليه الأمر من وقته ، قاله وهب ، وابن السائب .
فان قيل : كيف قال يوسف : «إني حفيظ عليم» ولم يقل : إِن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخِّر تمليكُه ، على ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه أضمر الاستثناء ، كما أضمروه في قولهم : { ونمير أهلها } .
والثالث : أنه أراد أن حفظي وعِلمي يزيدان على حفظ غيري وعِلمه ، فلم يحتج هذا إِلى الاستثناء ، لعدم الشك فيه ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .
فإن قيل : كيف مدح نفسه بهذا القول ، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع؟
فالجواب : أنه لما خلا مدحُه لنفسه من بغي وتكبر ، وكان مراده به الوصول إِلى حق يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله ، كان ذلك جميلاً جائزاً ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " أنا أكرم ولد آدم على ربه " ، وقال علي بن أبي طالب عليه السلام : والله ما من آية إِلا وأنا أعلم أبِليل نزلت ، أم بنهار . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإِبل لأتيته . فهذه الأشياء ، خرجت مخرج الشكر لله ، وتعريف المستفيد ما عند المفيد ، ذكر هذا محمد بن القاسم . قال القاضي أبو يعلى : في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للانسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه ، وأنه ليس من المحظور في قوله : { فلا تزكُّوا أنفسكم } [ النجم : 32 ] .
قوله تعالى : { وكذلك مكَّنَّا ليوسف } في الكلام محذوف ، تقديره : اجعلني على خزائن الأرض ، قال : قد فعلت ، فحُذف ذلك ، لأن قوله : «وكذلك مكنا ليوسف» يدل عليه ، والمعنى : ومثل ذلك الإِنعام الذي أنعما عليه في دفع المكروه عنه ، وتخليصه من السجن ، وتقريبه من قلب الملك ، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر { يتبوَّأ منها حيث يشاء } قال ابن عباس : ينزل حيث أراد . وقرأ ابن كثير ، والمفضل : «حيث نشاء» بالنون .
قوله تعالى : { نصيب برحمتنا } أي : نختصُّ بنعمتنا من النبوَّة والنجاة { مَن نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } يعني المؤمنين . يقال : إِن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم ، وحُلِيِّهم ، ومواشيهم ، وعقارهم ، وعبيدهم ، ثم بأولادهم ، ثم برقابهم ، ثم قال للملك : كيف ترى صُنع ربي؟ فقال الملك : إِنما نحن لك تبع ، قال : فإني أُشهد الله وأُشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم . وكان يوسف لا يَشبع في تلك الأيام ، ويقول : إِني أخاف أن أنسى الجائع .
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قوله تعالى : { ولأجر الآخرة خير } المعنى : ما نُعطي يوسف في الآخرة ، خير مما أعطيناه في الدنيا ، وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصبر .
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
قوله تعالى : { وجاء إِخوة يوسف } روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما فوَّض الملك إِلى يوسف أمْر مصر ، تلطَّف يوسف للناس ، ولم يزل يدعوهم إِلى الإِسلام ، فآمنوا به وأحبُّوه ، فلما أصاب الناسَ القحطُ ، نزل ذلك بأرض كنعان ، فأرسل يعقوبُ ولده للميرة ، وذاع أمر يوسف في الآفاق ، وانتشر عدله ورحمته ورأفته ، فقال يعقوب : يا بَني ، إِنه قد بلغني أن بمصر ملكاً صالحاً ، فانطلقوا إِليه وأقرئوه مني السلام ، وانتسبوا له لعله يعرفكم ، فانطلقوا فدخلوا عليه ، فعرفهم وأنكروه ، فقال : من أين أقبلتم؟ قالوا : من أرض كنعان ، ولنا شيخ يقال له : يعقوب ، وهو يقرئك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال : لعلكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي ، فقالوا : لا والله ، ولكنَّا من كنعان ، أصابنا الجَهد ، فأمرَنا أبونا أن نأتيَك ، فقد بلغه عنك خير ، قال : فكم أنتم؟ قالوا : أحد عشر أخاً ، وكنا اثني عشر فأكل أحدَنا الذئبُ ، قال : فمن يعلم صدقكم؟ ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : لما دخلوا عليه كلَّموه بالعبرانية ، فأمر الترجمان فكلَّمهم ليشبِّه عليهم ، فقال للترجمان : قل لهم : أنتم عيون ، بعثكم ملككم لتنظروا إِلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود ، فقالوا : لا ، ولكنا قوم لنا أب شيخ كبير ، وكنا اثني عشر ، فهلك منا واحد في الغنم ، وقد خلّفنا عند أبينا أخاً له من أمه ، فقال : إِن كنتم صادقين ، فخلِّفوا عندي بعضكم رهنا ، وائتوني بأخيكم ، فحبس عنده شمعون .
واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين .
أحدهما : أنه عرفهم برؤيتهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه ما عرفهم حتى تعرَّفوا إِليه ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وهم له منكرون } قال مقاتل : لا يعرفونه .
وفي علَّة كونهم لم يعرفوه قولان :
أحدهما : أنهم جاؤوه مقدِّرين أنه ملك كافر ، فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك .
والثاني : أنهم عاينوا من زِيِّه وحليته ما كان سبباً لإِنكارهم . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لا بساً ثياب حرير ، وفي عنقه طوق من ذهب .
فإن قيل : كيف يخفى من قد أُعطي نصف الحسن ، وكيف يشتبه بغيره؟
فالجواب : أنهم فارقوه طفلاً ورأوه كبيراً ، والأحوال تتغير ، وما توهموا أنه ينال هذه المرتبة . وقال ابن قتيبة : معنى كونه أُعطي نصف الحسن ، أن الله جعل للحسن غاية وحدّاً ، وجعله لمن شاء من خَلقه ، إِما للملائكة ، أو للحور ، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن ، فكأنه كان حُسناً مقارباً لتلك الوجوه الحسنة ، وليس كما يزعم الناس من أنه أُعطي هذا الحسن ، وأُعطي الناس كلُّهم نصف الحسن .
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
قوله تعالى : { ولما جهَّزَهم بِجَهَازِهم } يقال : جهَّزت القوم تجهيزاً : إِذا هيأت لهم ما يصلحهم ، وجهاز البيت : متاعه . قال المفسرون : حمل لكل رجل منهم بعيراً ، وقال : { ألا ترون أني أوفي الكيل } أي : أُتمه ولا أَبْخَسُه ، { وأنا خير المنزِلين } يعني : المضِيفين ، وذلك أنه أحسنَ ضيافتهم . ثم أوعدهم على ترك الإِتيان بأخيهم ، فقال : { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي } وفيه قولان :
أحدهما : أنه يعني به : فيما بعد ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنه منعهم الكيل في الحال ، قاله وهب بن منبه .
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قوله تعالى : { قالوا سنراود عنه أباه } أي : نطلبه منه ، والمراودة : الاجتهاد في الطلب .
وفي قوله : { وإِنا لفاعلون } ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى : وإِنا لجاؤوك به . وضامنون لك المجيء به ، هذا مذهب الكلبي .
والثاني : أنه توكيد ، قاله الزجاج ، فعلى هذا ، يكون الفعل الذي ضمِنوه عائداً إِلى المراودة ، فيصح معنى التوكيد .
والثالث : وإِنما لمديمون المطالبة به لأبينا ، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه ، وهذا غير المراودة ، ذكره ابن الأنباري .
فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه ، وهو يعلم مافي ذلك من إِدخال الحزن على أبيه؟ فعنه خمسة أجوبة :
أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه ، وهذا الأظهر .
والثاني : أنه طلبه لا ليحبسه ، فلما عرفه قال : لا أفارقك يا يوسف ، قال : لا يمكنني حبسك إِلا أن أنسبك إِلى أمر فظيع ، قال : أفعل ما بدا لك ، قاله كعب .
والثالث : أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف .
والرابع : ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه .
والخامس : ليعجِّل سرور أخيه باجتماعه به قبل إِخوته . وكل هذه الأجوبة مدخوله ، إِلا الأول ، فانه الصحيح . ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه ، قال : لما جمع الله بين يوسف ويعقوب ، قال له يعقوب : بيني وبينك هذه المسافة القريبة ، ولم تكتب إِليَّ تعرِّفني؟! فقال : إِن جبريل أمرني أن لا أعرِّفك ، فقال له : سل جبريل ، فسأله ، فقال : إِن الله أمرني بذلك ، فقال : سل ربك ، فسأله ، فقال : قل ليعقوب : خفتَ عليه الذئب ، ولم تُؤَمنِّي؟
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
قوله تعالى : { وقال لفتيته } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «لفتيته» وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «لفتيانه» قال أبو علي : الفتية جمع فتى في العدد القليل ، والفتيان في الكثير . والمعنى : قال لغلمانه : { اجعلوا بضاعتهم } وهي التي اشترَوا بها الطعام { في رحالهم } ، والرحل : كل شيء يُعَدُّ للرحيل . { لعلهم يعرفونها } أي : ليعرفوها { إِذا انقلبوا } أي : رجعوا { إِلى أهلهم ، لعلهم يرجعون } أي : لكي يرجعوا .
وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال :
أحدها : أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورِق ما يرجعون به مرة أخرى ، فجعل دراهمهم في رحالهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه أراد أنهم إِذا عرفوها ، لم يستحلُّوا إِمساكها حتى يردُّوها ، قاله الضحاك .
والثالث : أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإِخوته مع حاجتهم إِليه ، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده تكرماً وتفضلاً ، ذكره ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي .
والرابع : ليعلموا أنّ طلبه لعَوْدهم لم يكن طمعاً في أموالهم ، ذكره الماوردي .
والخامس : أنه أراهم كرمه وبِرَّه ليكون أدعى إِلى عَوْدهم .
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
قوله تعالى : { فلما رجعوا إِلى أبيهم } قال المفسرون : لما عادوا إِلى يعقوب ، قالوا : يا أبانا ، قَدِمنا على خير رجل ، أنزلنا ، وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته .
وفي قوله : { مُنع منا الكيل } قولان قد تقدما في قوله : { فلا كيل لكم عندي } [ يوسف 61 ] .
فإن قلنا : إِنه لم يكل لهم ، فلفظ «مُنع» بَيِّن .
وإِن قلنا : إِنه خوّفهم منع الكيل ، ففي المعنى قولان :
أحدهما : حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت ، كما تقول للرجل : دخلت والله النار بما فعلت .
والثاني : أن المعنى : يا أبانا يُمنع منا الكيل إِن لم ترسله معنا ، فناب «مُنع» عن «يُمنع» كقوله : { يَحْسَبُ أنَّ ماله أخلده } [ الهمزة 3 ] أي : يخلده ، وقولِه : { ونادى أصحابُ النار } [ الأعراف 50 ] ، { وإِذ قال الله يا عيسى } [ المائدة 116 ] أي : وإِذ يقول ، ذكرهما ابن الأنباري .
قوله تعالى : { فأرسل معنا أخانا نكتَل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «نكتل» بالنون . وقرأ حمزة ، والكسائي : «يكتل» بالياء . والمعنى : إِن أرسلته معنا اكتلنا ، وإِلا فقد مُنعنا الكيل . قوله تعالى : { هل آمنكم عليه } أي : لا آمنكم إِلا كأمني على يوسف ، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إِذ خانوه . { فالله خير حفظاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «حفظاً» ، والمعنى : خير حفظاً من حفظكم . وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص عن عاصم : «خير حافظاً» بألف . قال أبو علي : ونصبُه على التمييز دون الحال .
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
قوله تعالى : { ولما فتحوا متاعهم } يعني أوعية الطعام { وجدوا بضاعتهم } التي حملوها ثمناً للطعام { رُدَّت } قال الزجاج : الأصل «رُدِدَتْ» ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وبقيت الراء مضمومة . ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال ، كما فُعل ذلك في : قيل ، وبيع ، ليدل على أن أصل الدال الكسر .
قوله تعالى : { ما نبغي } في «ما» قولان :
أحدهما : أنها استفهام ، المعنى : أي شيء نبغي وقد رُدَّت بضاعتنا إِلينا .
والثاني : أنها نافية ، المعنى : ما نبغي شيئاً ، أي : لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إِليه ، بل تكفينا هذه في الرجوع إِليه ، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعَود . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو حيوة «ما تبغي» بالتاء ، على الخطاب ليعقوب .
قوله تعالى : { ونمير أهلنا } أي : نجلب لهم الطعام . قال ابن قتيبة : يقال : مار أهله يميرهم مَيْراً ، وهو مائر لأهله : إِذا حمل إِليهم أقواتهم من غير بلده .
قوله تعالى : { ونحفظ أخانا } فيه قولان :
أحدهما : نحفظ أخانا بنيامين الذي ترسله معنا ، قاله الأكثرون .
والثاني : ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذه رهينة عنده ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ونزداد كيل بعير } أي : وِقْر بعير ، يعنون بذلك نصيب أخيهم ، لأن يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حِمل بعير .
قوله تعالى : { ذلك كيل يسير } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ذلك كيل سريع ، لا حبس فيه ، يعنون : إِذا جاء معنا ، عجَّل الملك لنا الكيل ، قاله مقاتل .
والثاني : ذلك كيل سهل على الذي نمضي إِليه ، قاله الزجاج .
والثالث : ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يُقنعُنا ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : { حتى تؤتون موثقاً من الله } أي : تعطوني عهداً أثق به ، والمعنى : حتى تحلفوا لي بالله { لتأتُنَّني به } أي : لتَرُدُّنَّه إِلي . قال ابن الأنباري : وهذه اللام جواب لمضمَر ، تلخيصه : وتقولوا : والله لتأتُنّني به .
قوله تعالى : { إِلا أن يحاط بكم } فيه قولان :
أحدهما : أن يهلك جميعكم ، قاله مجاهد .
والثاني : أن يُحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإِتيان به ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فلما آتَوْه موثقهم } أي : أعطَوْه العهد وفيه قولان :
أحدهما : أنهم حلفوا له بحق محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من ربه ، قاله الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنهم حلفوا بالله تعالى ، قاله السدي .
قوله تعالى : { قال الله على ما نقول وكيل } فيه قولان :
أحدهما : أنه الشهيد . والثاني : كفيل بالوفاء ، رُويا عن ابن عباس .
قوله تعالى : { لا تدخلوا من باب واحد } قال المفسرون : لما تجهزوا للرحيل ، قال لهم يعقوب : «لا تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد» .
وفي المراد بهذا الباب قولان :
أحدهما : أنه أراد باباً من أبواب مصر ، وكان لمصر أربعة أبواب ، قاله الجمهور .
والثاني : أنه أراد الطرق لا الأبواب ، قاله السدي ، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس .
وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه خاف عليهم العين ، وكانوا أُولي جمال وقوة ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه خاف أن يُغتَالوا لِما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة ، قاله وهب بن منبه .
والثالث : أنه أحب أن يلقَوا يوسف في خَلوة ، قاله إِبراهيم النخعي .
قوله تعالى : { وما أُغني عنكم من الله من شيء } أي : لن أدفع عنكم شيئاً قضاه الله ، فإنه إِن شاء أهلككم متفرقين ، ومصداقه في الآية التي بعدها { ما كان يغني عنهم من الله من شيء إِلا حاجةً في نفس يعقوب قضاها } وهي إِرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم . قال الزجاج : «إِلا حاجة» استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكنْ حاجةٌ في نفس يعقوب قضاها . قال ابن عباس : «قضاها» أي : أبداها وتكلم بها .
قوله تعالى : { وإِنه لذو عِلْم لما علَّمناه } فيه سبعة أقوال :
أحدها : إِنه حافظ لما علَّمناه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : وإِنه لذو علم أن دخلوهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله شيئاً ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : وإِنه لعامل بما عُلِّم ، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري : سمي العمل علماً ، لأنه العلم أول أسباب العمل .
والرابع : وإِنه لمتيقن لوعدنا ، قاله الضحاك .
والخامس : وإِنه لحافظ لوصيِّتنا ، قاله ابن السائب .
والسادس : وإِنه لعالم بما علَّمناه أنه لا يصيب بنيه إِلا ما قضاه الله ، قاله مقاتل .
والسابع : وإِنه لذو علم لتعليمنا إِياه ، قاله الفراء .
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
قوله تعالى : { ولما دخلوا على يوسف } يعني إِخوته { آوى إِليه أخاه } يعني بنيامين . وكان أخاه لأبيه وأمه ، قاله قتادة ، وضمه إِليه وأنزله معه ، قال ابن قتيبة : يقال آويتُ فلاناً إِليَّ . بمد الألف : إِذا ضممتَه إِليك ، وأويت إِلى بني فلان ، بقصر الألف : إِذا لجأت إِليهم .
وفي قوله : { قال إِني أنا أخوك } قولان :
أحدهما : أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب ، وأدخل أخاه ، فقال له : ما اسمك؟ فقال : بنيامين ، قال : فما اسم أمك؟ قال : راحيل بنت لاوَي ، فوثب إِليه فاعتنقه ، فقال : «إِني أنا أخوك» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وكذلك قال ابن إِسحاق : أخبره أنه يوسف .
والثاني : أنه لم يعترف له بذلك ، وإِنما قال : أنا أخوك مكان أخيك الهالك ، قاله وهب بن منبه . وقيل : إِنه أجلسهم كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحيداً يبكي ، وقال : لو كان أخي حياً لأجلسني معه ، فضمَّه يوسف إِليه ، وقال : إِني أرى هذا وحيداً ، فأجسله معه على مائدته . فلما جاء الليل ، نام كل اثنين على منام ، فبقي وحيداً ، فقال يوسف : هذا ينام معي . فلما خلا به ، قال هل لك أخ من أمك؟ قال كان لي أخ من أمي فهلك ، فقال : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال : أيها الملك ، ومن يجد أخاً مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف ، وقام إِليه فاعتنقه ، وقال : { إِني أنا أخوك } يوسف { فلا تبتئس } قال قتادة : لا تأس ولا تحزن ، وقال الزجاج : لا تحزن ولا تستكِنْ . قال ابن الأنباري : «تبتئس» : تفتعل ، من البؤس ، وهو الضُرُّ والشدة ، أي : لا يلحقنَّك بؤس بالذي فعلوا .
قوله تعالى : { بما كانوا يعملون } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا يعيِّرون يوسف وأخاه بعبادة جدِّهما أبي أُمهما للأصنام ، فقال : لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرِّقونك ، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر :
فَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلي وَلَمْ أَدَعْ ... لِمَنْ كَانَ بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعَا
وقال آخر :
وانْضَحْ جَوانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا ... فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ
أراد : فقد كان ، وهذا مذهب مقاتل .
والثالث : لا تحزن بما عملوا من حسدنا ، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنّا ، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن إِسحاق .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قوله تعالى : { فلما جهزهم بجهازهم } قال المفسرون : أوفى لهم الكيل ، وحمَّل ل «بنيامين» بعيراً باسمه كما حمَّل لهم ، وجعل السقاية في رحل أخيه ، وهي الصواع ، فهما اسمان واقعان على شيء واحد ، كالبُرِّ والحنطة ، والمائدة والخُوان . وقال بعضهم : الاسم الحقيقي : الصواع ، والسقاية وصف ، كما يقال : كوز ، وإِناء ، فالاسم الخاص : الكوز . قال المفسرون : جعل يوسف ذلك الصاع مكيالاً لئلا يُكال بغيره . وقيل : كال لإِخوته بذلك ، إِكراماً لهم . قالوا : ولما ارتحل إِخوة يوسف وأمعنوا ، أرسل الطلب في أثرهم ، فأُدركوا وحبسوا ، { ثم أذَّن مؤذِّن } قال الزجاج : أعلم مُعْلم ، يقال : آذنته بالشيء ، فهو مؤذن به ، أي : أعلمته ، وآذنت : أكثرت الإِعلام بالشيء ، يعني : أنه إِعلام بعد إِعلام . { أيتها العير } يريد : أهل العير ، فأنث لأنه جعلها للعير . قال الفراء : لا يقال : عير ، إِلا لأصحاب الإِبل . وقال أبو عبيدة : العير : الإِبل المرحولة المركوبة . وقال ابن قتيبة : العير : القوم على الإِبل .
فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يُسرِّق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أن المعنى : إِنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب ، قاله الزجاج .
والثاني : أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه ، فكان غير كاذب في قوله ، قاله ابن جرير .
والثالث : أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف .
والرابع : أن المعنى : إِنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم ، كقوله : { ذق إِنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان 49 ] أي : عند نفسك ، لا عندنا ، وقولِ النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إِبراهيم ثلاث كَذَبات " أي : قال قولاً يشبه الكذب ، وليس به .
قوله تعالى : { قالوا } يعني : إِخوة يوسف { وأقبوا عليهم } فيه قولان .
أحدهما : على المؤذن وأصحابه .
والثاني : أقبل المنادي ومن معه على إِخوة يوسف بالدعوى . { ماذا تفقدون } مالذي ضلَّ عنكم؟ { قالوا نفقد صواع الملك } قال الزجاج : الصواع هو الصاع بعينه ، وهو يذكّر ويؤنّث ، وكذلك الصاع يذكّر ويؤنّث . وقد قرىء : «صياع» بياء ، وقرىء : «صَوْغ» بغين معجمة ، وقرىء : «صَوع» بعين غير معجمة مع فتح الصاد ، وضمها ، وقرأ أبو هريرة : «صاع الملك» وكل هذه لغات ترجع إِلى معنى واحد ، إِلا أن الصوغ ، بالغين المعجمة ، مصدر صغت ، وُصف الإِناء به ، لأنه كان مصوغاً من ذهب .
واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال :
أحدها : أنه كان قدحاً من زبرجد .
والثاني : أنه كان من نحاس ، رويا عن ابن عباس .
والثالث : أنه كان شربة من فضة مرصَّعة بالجوهر ، قاله عكرمة .
والرابع : كان كأساً من ذهب ، قاله ابن زيد .
والخامس : كان من مِسٍّ ، حكاه الزجاج .
وفي صفته قولان :
أحدهما : أنه كان مستطيلاً يشبه المكوك . والثاني : أنه كان يشبه الطاس .
قوله تعالى : { ولمن جاء به } يعني الصواع { حمل بعير } من الطعام { وأنا به زعيم } أي : كفيل لمن ردَّه بالحِمل ، يقوله المؤذِّن .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قوله تعالى : { قالوا تالله } قال الزجاج : «تالله» بمعنى : والله ، إِلا أن التاء لا يقسم بها إِلا في الله عز وجل . ولا يجوز : تالرحمن لأفعلن ، ولا : تربي لأفعلن . والتاء تُبدل من الواو ، كما قالوا في وُراث : تراث ، وقالوا : يتَّزن ، وأصله : يوتزن ، من الوزن . قال ابن الأنباري : أبدلت التاء من الواو ، كما أبدلت في التخمة والتراث والتُجاه ، وأصلهن من الوخمة والوراث والوجاه ، لأنهن من الوِخامة والوِراثة والوَجه . ولا تقول العرب : تالرحمن ، كما قالوا : تالله ، لأن الاستعمال في الإِقسام كثر بالله ، ولم يكن بالرحمن ، فجاءت التاء بدلاً من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله .
قوله تعالى : { لقد علمتم } يعنون يوسف { ما جئنا لنفسد في الأرض } أي : لنظلم أحداً أو نسرق .
فإن قيل : كيف حلفوا على عِلم قوم لا يعرفونهم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه .
أحدها : أنهم قالوا ذلك ، لأنهم ردّوا الدراهم ولا يستحلُّوها ، فالمعنى : لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع ، فكيف نستحل صاعكم ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثاني : لأنهم لما دخلوا مصر كعموا أفواه إِبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئاً ، وكان غيرهم لا يفعل ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحداً .
قوله تعالى : { فما جزاؤه } المعنى : قال المنادي وأصحابه : فما جزاؤه . قال الأخفش : إِن شئت رددت الكناية إِلى السارق ، وإِن شئت رددتها إِلى السرق .
قوله تعالى : { إِن كنتم كاذبين } أي : في قولكم ، { وما كنا سارقين } . { قالوا } : يعني إِخوة يوسف { جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } أي : يُستعبَد بذلك . قال ابن عباس : وهذه كانت سُنَّة آل يعقوب .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قوله تعالى : { فبدأ بأوعيتهم } قال المفسرون : انصرف بهم المؤذن إِلى يوسف ، وقال : لا بد من تفتيش أمتعتكم ، { فبدأ } يوسف { بأوعيتهم قبل وعاء أخيه } لإِزالة التهمة ، فلما وصل إِلى وعاء أخيه ، قال : ما أظن هذا أخذ شيئاً ، فقالوا : والله لا نبرح حتى تنظر في رحله ، فهو أطيب لنفسك . فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع ، فذلك قوله : { ثم استخرجها } .
وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إِلى السرقة ، قاله الفراء .
والثاني : إِلى السقاية ، قاله الزجاج .
والثالث : إِلى الصواع على لغة من أنَّثه ، ذكره ابن الأنباري . قال المفسرون : فأقبلوا على بنيامين ، وقالوا : أي شيء صنعت؟! فضحتنا وأزريت بأبيك الصدِّيق ، فقال : وضع هذا في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم ، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به .
قوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف } فيه أربعة أقوال :
أحدها : كذلك صنعنا له ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : احتلنا له ، والكيد : الحيلة ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : أردنا ليوسف ، ذكره ابن القاسم .
والرابع : دبَّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إِلى حبسه . قال ابن الأنباري : لما دبَّر الله ليوسف ما دبَّر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إِخوتُه ، شُبِّه بالكيد من المخلوقين ، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه .
قوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } في المراد بالدين هاهنا قولان :
أحدهما : أنه السلطان ، فالمعنى : في سلطان الملك ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه القضاء ، فالمعنى : في قضاء الملك ، لأن قضاء الملك ، أن من سرق إِنما يُضرب ويُغرَّم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه ، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب ، فأجرى الله على ألسنة إِخوته أن جزاء السارق الاسترقاق ، فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفاً حتى أظفره بمراده بمشيئة الله ، فذلك معنى قوله : { إِلا أن يشاء الله } . وقيل : إِلا أن يشاء الله إِظهار علَّة يستحق بها أخاه .
قوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } وقرأ يعقوب «يرفع درجاتِ من يشاء» بالياء فيهما . وقرأ أهل الكوفة «درجاتٍ» بالتنوين ، والمعنى : نرفع الدرجات بصنوف العطاء ، وأنواع الكرامات ، وابواب العلوم ، وقهر الهوى ، والتوفيق للهدى ، كما رفعنا يوسف . { وفوق كل ذي علم عليم } أي : فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم مَن هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إِلى الله تعالى ، والكمال في العلم معدوم من غيره .
وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى : يوسف أعلم من إِخوته ، وفوقه من هو أعلم منه .
والثاني : أنه نبَّه على تعظيم العِلم ، وبيَّن أنه أكثر من أن يُحاط به .
والثالث : أنه تعليم للعالم التواضع لئلا يُعجب .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قوله تعالى : { قالوا } يعني : إِخوة يوسف { إِن يسرق } يعنون بنيامين { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون يوسف . قال المفسرون : عوقب يوسف ثلاث مرات ، قال للساقي : «اذكرني عند ربك» فلبث في السجن بضع سنين ، وقال للعزيز : «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» ، فقال له جبريل : ولا حين هممت؟ فقال : «وما أُبرىء نفسي» ، وقال لإِخوته : «إِنكم لسارقون» ، فقالوا : «إِن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» .
وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة أقوال .
أحدها : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني المجاعة ، فيطعمه للمساكين ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنه سرق مكحلة لخالته ، رواه أبو مالك عن ابن عباس .
والثالث : أنه سرق صنماً لجده أبي أمه ، فكسره وألقاه في الطريق ، فعيَّره إِخوته بذلك ، قاله سعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وقتادة .
والرابع : أن عمة يوسف وكانت أكبر ولد إِسحاق كانت تحضن يوسف وتحبُّه حباً شديداً ، فلما ترعرع ، طلبه يعقوب ، فقالت : ما أقدر أن يغيب عني ، فقال : والله ما أنا بتاركه ، فعمدت إِلى منطقة إِسحاق ، فربطتها على يوسف تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إِسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها مع يوسف ، فأخبرت يعقوب ذلك ، وقالت : والله إِنه لي أصنع فيه ما شئت ، فقال : أنت وذاك ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، فذاك الذي عيَّره به إِخوته ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والخامس : أنه جاءه سائل يوماً ، فسرق شيئاً ، فأعطاه السائل ، فعيَّروه بذلك . وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان بيضة ، قاله مجاهد . والثاني : أنه شاة ، قاله كعب . والثالث : دجاجة ، قاله سفيان بن عيينة .
والسادس : أن بني يعقوب كانوا على طعام ، فنظر يوسف إِلى عَرْق ، فخبأه ، فعيَّروه بذلك ، قاله عطية العوفي ، وإِدريس الأودي . قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلِّها ما يوجب السرقة ، لكنها تشبه السرقة ، فعيَّره إِخوته بذلك عند الغضب .
والسابع : أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إِليه ، قاله الحسن . وقرأ أبو رزين ، وابن أبي عبلة : «فقد سُرِّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها .
قوله تعالى : { فأسرَّها يوسف في نفسه } في هاء الكناية ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى الكلمة التي ذُكرت بعد هذا ، وهي قوله : { أنتم شر مكاناً } ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنها ترجع إِلى الكلمة التي قالوها في حقه ، وهي قولهم : «فقد سرق أخ له من قبل» ، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا يكون المعنى : أسرَّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها .
والثالث : أنها ترجع إِلى الحُجة ، المعنى : فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { أنتم شرُّ مكانا } فيه قولان :
أحدهما : شرٌّ صنيعاً من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : شرٌّ منزلة عند الله ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { والله أعلم بما تصفون } فيه قولان :
أحدهما : تقولون ، قاله مجاهد . والثاني : بما تكذبون ، قاله قتادة . قال الزجاج : المعنى : والله أعلم أسرق أخ له ، أم لا . وذكر بعض المفسرين أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه ، نقر الصواع ، ثم أدناه من أذنه ، فقال : إِنَّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلاً ، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه ، فقال بنيامين : أيها الملك ، سل صواعك عن أخي ، أحيّ هو؟ فنقره ، ثم قال : هو حي وسوف تراه ، فقال : سل صواعك ، من جعله في رحلي؟ فنقره ، وقال : إِنَّ صواعي هذا غضبان ، وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل ، وكان بنو يعقوب إِذا غضبوا لم يطاقوا ، فإِذا مسَّ أحدهم الآخر ذهب غضبه ، فقال : والله أيها الملك لتتركنَّا ، أو لأصيحنَّ صيحةً لا يبقى بمصر امرأة حامل إِلا أَلقتْ ما في بطنها ، فقال يوسف لابنه : قم إِلى جنب روبيل فامسسه ، ففعل الغلام ، فذهب غضبه ، فقال روبيل : ما هذا؟! إِن في هذا البلد من ذرية يعقوب؟ قال يوسف : ومَن يعقوب؟ فقال : أيها الملك ، لا تذكر يعقوب ، فانه إِسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل . الله فلمَّا لم يجدوا إِلى خلاص أخيهم سبيلاً ، سألوه أن يأخذ منهم بديلاً به ، فذلك قوله : { يا أيها العزيز إِنَّ له أباً شيخاً كبيراً } أي : في سِنِّه ، وقيل : في قَدره ، { فخذ أحدنا مكانَه } أي : تستعبده بدلاً عنه { إِنَّا نراك من المحسنين } فيه قولان :
أحدهما : فيما مضى . والثاني : إِن فعلت . { قال معاذَ الله } قد سبق تفسيره [ يوسف : 33 ] ، والمعنى : أعوذ بالله أن نأخذ بريئاً بسقيم .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
قوله تعالى : { فلما استيأسوا منه } أي : أيسوا .
وفي هاء «منه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى يوسف ، فالمعنى : يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم .
والثاني : إِلى أخيهم ، فالمعنى : يئسوا من أخيهم .
قوله تعالى : { خلصوا نجياً } أي : اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم ، يتناجَون ويتناظرون ويتشاورون ، يقال : قوم نجي ، والجمع أنجية ، قال الشاعر :
إِني إِذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ... وَاضّطربَتْ أَعْنَاقُهم كالأَرْشِيَهْ
وإِنما وحد «نجياً» لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين ، والجمع والمؤنث بلفظ واحد وقال الزجاج : انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إِلى أبيهم وليس معهم أخوهم .
قوله تعالى : { قال كبيرهم } فيه قولان :
أحدهما : أنه كبيرهم في العقل ، ثم فيه قولان :
أحدهما : أنه يهوذا ، ولم يكن أكبرهم سناً ، وإِنما كان أكبرهم سناً روبيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، ومقاتل .
والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه كبيرهم في السن وهو روبيل ، قاله قتادة ، والسدي .
قوله تعالى : { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله } في حفظ أخيكم وردِّه إِليه { ومن قبل ما فرطتم في يوسف } قال الفراء : «ما» في موضع رفع ، كأنه قال : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف . وإِن شئت جعلتها نصباً ، المعنى : ألم تعلموا هذا ، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف . وإِن شئت جعلت «ما» صلة ، كأنه قال : ومن قبل فرَّطتم في يوسف . قال الزجاج : وهذا أجود الوجوه ، أن تكون «ما» لغواً .
قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض } أي : لن أخرج من أرض مصر ، يقال : بَرِح الرجل بَراحاً : إِذا تنحّى عن موضعه . { حتى يأذن لي } قال ابن عباس : حتى يبعث إِليَّ أن آتيه ، { أو يحكم الله لي } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أو يحكم الله لي ، فيردَّ أخي عليّ .
والثاني : يحكم الله لي بالسيف ، فأحارب من حبس أخي .
والثالث : يقضي في أمري شيئاً ، { وهو خير الحاكمين } أي : أعدلهم وأفضلهم .
قوله تعالى : { إِن ابنك سرق } وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وابن أبي سريج عن الكسائي : «سُرِّق» بضم السين وتشديد الراء وكسرها .
قوله تعالى : { وما شهدنا إِلا بما علمنا } فيه قولان :
أحدهما : وما شهدنا عليه بالسرقة إِلا بما علمنا ، لأنا رأينا المسروق في رحله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : وما شهدنا عن يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إِلا بما علمنا من دينك ، قاله ابن زيد .
وفي قوله : { وما كنا للغيب حافظين } ثمانية أقوال :
أحدها : أن الغيب هو الليل ، والمعنى : لم نعلم ما صنع بالليل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلاً .
والثاني : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، ومكحول .
قال ابن قتيبة : فالمعنى : لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينَّك به أنه يسرق فيؤخذ .
والثالث : لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق ، رواه عبد الوهاب عن مجاهد .
والرابع : لم نعلم أنه سرق للملك شيئاً ، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق ، قاله ابن زيد .
والخامس : أن المعنى : قد رأينا السرقة قد أُخذت من رحله ، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرَّقوه ، قاله ابن إِسحاق .
والسادس : ما كنا لغيب ابنك حافظين ، إِنما نقدر على حفظه في محضره ، فإِذا غاب عنا ، خفيت عنا أموره .
والسابع : لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به ، ذكرهما ابن الأنباري .
والثامن : لم نعلم أنك تُصَابُ به كما أُصبتَ بيوسف ، ولو علمنا لم نذهب به ، قاله ابن كيسان .
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
قوله تعالى : { واسأل القرية } المعنى : قولوا لأبيكم : سل أهل القرية { التي كنا فيها } يعنون مصر { والعير التي أقبلنا فيها } أي : وأهل العير ، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : وسل القرية والعير فانها تعقل عنك لأنك نبي ، والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم ، فعلى هذا تسلم الآية من إِضمار .
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
قوله تعالى : { قال بل سوّلت لكم أنفسكم } في الكلام اختصار ، والمعنى : فرجعوا إِلى أبيهم فقالوا له ذلك ، فقال لهم هذا ، وقد شرحناه في اول السورة [ يوسف : 18 ] .
واختلفوا لأي علَّة قال لهم هذا القول ، على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه ظن أن الذي تخلَّف منهم ، إِنما تخلف حيلة ومكراً ليصدِّقهم ، قاله وهب بن منبه .
والثاني : أن المعنى : سوَّلت لكم أنفسكم أنّ خروجكم بأخيكم يجلب نفعاً ، فجرَّ ضرراً ، قاله ابن الأنباري .
والثالث : سوَّلت لكم أنه سرق ، وما سرق .
قوله تعالى : { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } يعني : يوسف وبنيامين وأخاهما المقيم بمصر ، وقال مقاتل : أقام بمصر يهوذا وشمعون ، فأراد بقوله . «أن يأتيني بهم» يعني : الأربعة .
قوله تعالى : { إِنه هو العليم } أي : بشدة حزني ، وقيل : بمكانهم ، { الحكيم } فيما حكم عليّ .
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قوله تعالى : { وتولَّى عنهم } أي : أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب ، وانفرد بحزنه ، وهيَّج عليه ذِكر يوسف { وقال يا أسفى على يوسف } قال ابن عباس : يا طول حزني على يوسف . قال ابن قتيبة : الأسف : أشد الحسرة . قال سعيد بن جبير : لقد أُعطيتْ هذه الأمة عند المصيبة مالم يُعْطَ الأنبياء قبلهم { إِنا لله وإِنا إِليه راجعون } [ البقرة : 156 ] ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب؛ إِذ يقول : «يا أسفى على يوسف» .
فإن قيل : هذا لفظ الشكوى ، فأين الصبر؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه شكا إِلى الله تعالى ، لا مِنْهُ .
والثاني : أنه أراد به الدعاء ، فالمعنى : يارب ارحم أسفي على يوسف . وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يُعنى به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه : يا إِلهي ارحم أسفي ، أو أنت راءٍ أسفي ، وهذا أسفي ، فنادى الأسف في اللفظ ، والمنادى في المعنى سواه ، كما قال : «يا حسرتنا» والمعنى : يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا ، قال : والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إِذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثِّم ولم يشكُ إِلا إِلى ربه فلما كان قوله : «يا أسفى» شكوى إِلى ربه ، كان غير ملوم . وقد روي عن الحسن أن أخاه مات ، فجزع الحسن جزعاً شديداً ، فعوتب في ذلك ، فقال : ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال : «يا أسفى على يوسف» .
قوله تعالى : { وابيضت عيناه من الحزن } أي : انقلبت إِلى حال البياض . وهل ذهب بصره ، أم لا؟ فيه قولان :
أحدهما : أنه ذهب بصره ، قاله مجاهد .
والثاني : ضعف بصره لبياضٍ تغشّاه من كثرة البكاء ، ذكره الماوردي . وقال مقاتل : لم يُبصر بعينيه ست سنين .
قال ابن عباس : وقوله : «من الحزن» أي : من البكاء ، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه ، فلما كان الحزن سبباً للبكاء ، سمي البكاء حزناً . وقال ثابت البُناني : دخل جبريل على يوسف ، فقال : أيها الملَك الكريم على ربه ، هل لك علِم بيعقوب؟ قال : نعم . قال : ما فعل ، قال : ابيضت عيناه ، قال : ما بلغ حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فهل له على ذلك من أجر؟ قال : أجر مائة شهيد . وقال الحسن البصري : ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنة ، وما جفَّت عينه ، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره .
قوله تعالى : { فهو كظيم } الكظيم بمعنى الكاظم ، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، قاله ابن قتيبة : وقد شرحنا هذا عند قوله : { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] .
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قوله تعالى : { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف } قال ابن الأنباري : معناه : والله ، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها : تالله لا تفتأ ، فلما كان موضعها معلوماً خفف الكلام بسقوطها من ظاهره ، كما تقول العرب : والله أقصدك أبداً ، يعنون : لا أقصدك ، قال امرؤ القيس :
فَقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي
يريد : لا أبرح . وقالت الخنساء :
فَأَقْسَمْتُ آسَى عَلَى هَالِكٍ ... أَو اسْأَلُ نَائِحَةً مَالَهَا
أرادت : لا آسى ، وقال الآخر :
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِن ال ... عُرْفِ وَلاَ الحَامِلُونَ مَاحَمَلُوا
تاللهِ أَنْسَى مُصِيْبتي أَبَدَاً ... مَا أَسْمَعَتْني حَنِيْنَها الإِبِلُ
وقرأ أبو عمران ، وابن محيصن ، وأبو حيوة : «قالوا بالله» بالباء ، وكذلك كل قسم في القرآن . وأما قوله : «تفتأ» فقال المفسرون وأهل اللغة : معنى «تفتأ» تزال ، فمعنى الكلام : لا تزال تذكر يوسف ، وأنشد أبو عبيدة :
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتدَّعي ... ويَلْحَقُ منها لاَحِقٌ وتقطَّعُ
وأنشد ابن القاسم :
فَمَا فَتِئَتْ مِنَّا رِعَالٌ كَأنَّها ... رِعَالٌ القَطَا حَتَّى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ
قوله تعالى : { حتى تكون حرضاً } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه الدَّنِف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : يقال : أحرضه الحزن ، أي : أدنفه . قال أبو عبيدة : الحرض : الذي قد أذابه الحزن أو الحُب ، وهي في موضع مُحْرَض . وأنشد :
إِني امرؤٌ لجَّ بي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتى بَلِيتُ وحَتَى شفَّني السَّقَم
أي : أذابني . وقال الزجاج : الحرض : الفاسد في جسمه ، والمعنى : حتى تكون مدنفاً مريضاً .
والثاني : أنه الذاهب العقل ، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال ابن إِسحاق : الفاسد العقل . قال الزجاج : وقد يكون الحرض : الفاسد في أخلاقه .
والثالث : أنه الفاسد في جسمه وعقله ، يقال : رجل حارض وحرض ، فحارض ، يثنَّي ويُجمع ويُؤنث ، وحرض لا يُجمع ولا يثنَّى ، لأنه مصدر ، قاله الفراء .
والرابع : أنه الهرم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .
قوله تعالى : { أو تكون من الهالكين } يعنون : الموتى .
فان قيل : كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير؟
فالجواب : أن في الكلام إِضماراً ، تقديره : إِن هذا في تقديرنا وظننا .
قوله تعالى : { إِنما أشكو بَثِّي } قال ابن قتيبة : البثُّ : أشد الحزن ، سمي بذلك ، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثَّه .
قوله تعالى : { إِلى الله } المعنى : إِني لا أشكو إِليكم ، وذلك لما عنَّفوه بما تقدم ذِكره . وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه قال : " كان ليعقوب أخ مؤاخٍ ، فقال له ذات : يوم يا يعقوب ، مالذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوَّس ظهرك؟ قال : أمَّا الذي أذهب بصري ، فالبكاء على يوسف ، وأما الذي قوَّس ظهري ، فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب إِن الله يقرئك السلام ويقول لك ، أما تستحي أن تشكو إِلى غيري؟ فقال : إِنما أشكو بثّي وحزني إِلى الله ، فقال جبريل : الله أعلم بما تشكو ، ثم قال يعقوب : أي رب ، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبتَ بصري ، وقوَّستَ ظهري ، فاردد عليَّ ريحاني أشمه شمَّة قبل الموت ، ثم اصنع بي يا رب ما شئت ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب ، إِن الله يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر ، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك ، اصنع طعاماً للمساكين ، فإن أحب عبادي إِليّ ، المساكين ، وتدري لم أذهبتُ بصرك ، وقوّست ظهرك ، وصنع إِخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة ، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم ، فلم تطعموه منها . فكان يعقوب بعد ذلك إِذا أراد الغداء أمر منادياً فنادى : ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدَّ مع يعقوب ، وإِذا كان صائماً ، أمر منادياً فنادى : من كان صائماً فليُفطر مع يعقوب "
وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إِلى يعقوب : أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال : لا ، قال : لأنك شويت عناقاً وقتَّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه . وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها ، وهي تخور ، فلم يرحمها .
فإن قيل : كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً؟
فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى ، وهو الأظهر .
والثاني : لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله ، شدة فاقتهم .
والثالث : أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرِّج نفسه إِلى كمال السرور . والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء . وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيماً ، ولا يقدر على دفع سببه .
قوله تعالى : { وأعلم من الله مالا تعلمون } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أعلم من سلامة يوسف مالا تعلمون . قال ابن السائب : وذلك أن ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب : هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا .
والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته مالا تعلمون ، قاله عطاء .
والرابع : أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ، قاله السدي ، قال : ولذلك قال لهم : { اذهبوا فتحسسوا } . وقال وهب بن منبه : لما قال له ملك الموت : ما قبضت روح يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : { اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } . قال أبو عبيدة : «تحسسوا» أي : تخبَّروا والتمِسوا في المظانّ .
فان قيل : كيف قال «من يوسف» والغالب أن يقال : تحسست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما : أن المعنى : عن يوسف ، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب : حدثني فلان من فلان ، يعنون عنه .
والثاني : أن «مِن» أوثرت للتبعيض ، والمعنى : تحسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف .
قوله تعالى : { ولا تيأسوا من رَوْحِ الله } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد .
والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم . قال الأصمعي : الروح : الاستراحة من غم القلب . وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله ، { إِنه لاييأس من رَوْح الله إِلا القوم الكافرون } لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قوله تعالى : { فلما دخلوا عليه } في الكلام محذوف . تقديره : فخرجوا إِلى مصر ، فدخلوا على يوسف ، ف { قالوا : يا أيها العزيز } وكانوا يسمُّون ملكهم بذلك ، { مسَّنا وأهلنا الضرُّ } يعنون الفقر والحاجة { وجئنا ببضاعة مزجاة } .
وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال :
أحدها : أنها كانت دراهم ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنها كانت متاعاً رثّاً كالحبل والغرارة ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس .
والثالث : كانت أَقِطاً قاله الحسن .
والرابع : كانت نعالاً وأدَماً ، رواه جويبر عن الضحاك .
والخامس : كانت سويق المُقْل ، روي عن الضحاك أيضاً .
والسادس : حبة الخضراء وصنوبر ، قاله أبو صالح .
والسابع : كانت صوفاً وشيئاً من سمن ، قاله عبد الله بن الحارث .
وفي المزجاة خمسة أقوال :
أحدها : أنها القليلة . روى العوفي عن ابن عباس قال : دراهم غير طائلة ، وبه قال مجاهد ، وابن إِسحاق ، وابن قتيبة . قال الزجاج : تأويله في اللغة أن التزجية : الشيء الذي يدافَع به ، يقال : فلان يزجي العيش ، أي : يدفع بالقليل ويكتفي به ، فالمعنى : جئنا ببضاعة إِنما ندافع بها ونتقوَّت ، وليست مما يُتَّسع به ، قال الشاعر :
الوَاهِبُ المائَةَ الهِجَانَ وَعَبْدَهَا ... عُوذَاً تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا
أي : تدفع أطفالها .
والثاني : أنها الرديئة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : إِنما قيل للرديئة : مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها ، قال : وهي من الإِزجاء ، والإِزجاء عند العرب : السَّوق والدفع ، وأنشد :
لِيَبْكِ على مِلحانَ ضيفٌ مُدفَّع ... وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلاَ
أي : تسوقه .
والثالث : الكاسدة ، رواه الضحاك أيضاً عن ابن عباس .
والرابع : الرثّة ، وهي المتاع الخَلَق ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس .
والخامس : الناقصة ، رواه أبو حصين عن عكرمة .
قوله تعالى : { فأوف لنا الكيل } أي : أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا .
قوله تعالى : { وتصدق علينا } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : تصدَّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي . قال ابن الأنباري : كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدُّق ، وليس به .
والثاني : بردِّ أخينا ، قال ابن جريج . قال : وذلك أنهم كانوا أنبياء ، والصَّدَقَةُ لا تحل للأنبياء .
والثالث : وتصدَّق علينا بالزيادة على حقِّنا ، قاله ابن عيينة ، وذهب إِلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو سليمان الدمشقي ، وأبو الحسن الماوردي ، وأبو يعلى بن الفراء .
قوله تعالى : { إِن الله يجزي المتصدقين } أي : بالثواب . قال الضحاك : لم يقولوا : إِن الله يجزيك إِن تصدقت علينا ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن .
قوله تعالى : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } في سبب قوله لهم هذا ، ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أخرج إِليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر ، وفي آخر الكتاب : «وكتب يهوذا» فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا : هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبدٍ كان لنا ، فقال يوسف عند ذلك : إِنكم تستحقون العقوبة ، وأمر بهم ليُقتَلوا ، فقالوا : إِن كنت فاعلاً ، فاذهب بأمتعتنا إِلى يعقوب ، ثم أقبل يهوذا على بعض إِخوته ، وقال : قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده ، فكيف به إِذا أُخبر بهُلكنا أجمعين؟ فرقَّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره ، وقال لهم هذا القول ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
الثاني : أنهم لما قالوا : «مسَّنا وأهلنا الضرُّ» أدركته الرحمة ، فقال لهم هذا ، قاله ابن إِسحاق .
والثالث : أن يعقوب كتب إِليه كتاباً : إِن رددتَ ولدي ، وإِلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابعَ من ولدك ، فبكى ، وقال لهم هذا .
وفي «هل» قولان :
أحدهما : أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام . قال ابن الأنباري : والمعنى : ما أعظم ما ارتكبتم ، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق ، وهذا مثل قول العربي : أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يرد بذلك الاستفهام ، ولكن يريد تفظيع الأمر ، قال الشاعر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... لم يرد الاستفهام ، إِنما أراد أن هذا غير مرجوٍّ عندهم . قال : ويجوز أن يكون المعنى : هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله : { لتنبِّئنَّهم بأمرهم } .
والثاني : أن «هل» بمعنى «قد» ذكره بعض أهل التفسير .
فان قيل : فالذي فعلوا بيوسف معلوم ، فما الذي فعلوا بأخيه ، وما سعَوا في حبسه ولا أرادوه؟
فالجواب من وجوه . أحدها : أنهم فرَّقوا بينه وبين يوسف ، فنغَّصوا عيشه بذلك . والثاني : أنهم آذوْهُ بعد فُقْدِ يوسف . والثالث : أنهم سبّوه لما قُذف بسرقة الصاع .
وفي قوله : { إِذ أنتم جاهلون } أربعة أقوال :
أحدها : إِذ أنتم صبيان ، قاله ابن عباس .
والثاني : مذنبون ، قاله مقاتل .
والثالث : جاهلون بعقوق الأب ، وقطع الرحم ، وموافقة الهوى .
والرابع : جاهلون بما يؤول إِليه أمر يوسف ، ذكرهما ابن الأنباري .
قوله تعالى : { أئنك لأنت يوسف } قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وابن محيصن : «إِنك» على الخبر ، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين ، وأدخل بعضهم بينهما ألفاً .
واختلف المفسرون ، هل عرفوه ، أم شبّهوه؟ على قولين .
أحدهما : أنهم شبّهوه بيوسف ، قاله ابن عباس في رواية .
والثاني : أنهم عرفوه ، قاله ابن إِسحاق . وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه تبسم ، فشبَّهوا ثناياه بثنايا يوسف ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه ، وكان ليعقوب مثلها ، ولإِسحاق مثلها ، ولسارة مثلها ، فلما وضع التاج عن رأسه ، عرفوه ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أنه كشف الحجاب ، فعرفوه ، قاله ابن إِسحاق .
قوله تعالى : { قال أنا يوسف } قال ابن الأنباري : إِنما أظهر الاسم ، ولم يقل : أنا هو ، تعظيماً لما وقع به من ظلم إِخوته ، فكأنه قال : أنا المظلوم المستحَلُّ منه ، المراد قتلُه ، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني ، ولهذا قال : { وهذا أخي } وهم يعرفونه ، وإِنما قصد : وهذا المظلوم كظلمي .
قوله تعالى : { قد منَّ الله علينا } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بخير الدنيا والآخرة .
والثاني : بالجمع بعد الفرقة .
والثالث : بالسلامة ثم بالكرامة .
قوله تعالى : { إِنه من يتق ويصبر } قرأ ابن كثير في رواية قنبل : «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف ، وقرأ الباقون بغير ياء الحالين .
وفي معنى الكلام أربعة أقوال :
أحدها : من يتق الزنى ويصبر على البلاء .
والثاني : من يتق الزنى ويصبر على العزبة .
والثالث : من يتق الله ويصبر على المصائب ، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس .
والرابع : يتق معصية الله ويصبر على السجن ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي : أجر مَنْ كان هذا حاله .
قوله تعالى : { لقد آثرك الله علينا } أي : اختارك وفضَّلك .
وبماذا عنوا أنه فضَّله فيه؟ أربعة أقوال :
أحدها : بالملك ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : بالصبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : بالحلم والصفح عنا ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه .
قوله تعالى : { وإِن كنا لخاطئين } قال ابن عباس : لمذنبين آثمين في أمرك . قال ابن الأنباري : ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» وإِن كان «أخطأَ» على ألسن الناس أكثر من «خطىء يخطأ» لأن معنى خطىء يخطأ ، فهو خاطىء : آثم ، ومعنى أخطأ يخطىء ، فهو مخطىء : ترك الصواب ولم يأثم ، قال الشاعر :
عِبَادُكَ يَخْطَأونَ وَأَنْتَ رَبٌّ ... بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ
أراد : يأثمون . قال : ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات لأن «خاطئين» أشبه بما قبلها .
وذكر الفراء في معنى «إِن» قولين :
أحدهما : وقد كنا خاطئين . والثاني : وما كنا إِلا خاطئين .
قوله تعالى : { لا تثريب عليكم اليوم } قال أبو صالح عن ابن عباس : لا أعيِّركم بعد اليوم بهذا أبداً . قال ابن الأنباري : إِنما أشار إِلى ذلك اليوم ، لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة . وقال ثعلب : قد ثرَّب فلان على فلان : إِذا عدَّد عليه ذنوبه . وقال ابن قتيبة : لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم ، وأصل التثريب : الإِفساد ، يقال : ثرَّب علينا : إِذا أفسد ، وفي الحديث : " إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ ، ولا يثرِّب " أي : لا يعيِّرها بالزنى ، قال ابن عباس : جعلهم في حِلّ ، وسأل الله المغفرة لهم . وقال السدي : لما عرّفهم نفسه ، سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصَه ، وقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلَّقاً في عنق يوسف لما أُلقي في الجب ، وكان من الجنة ، وقد سبق ذكره [ يوسف : 18 ، 25 ، 26 ، 27 ، 28 ] .
قوله تعالى : { يأت بصيراً } قال أبو عبيدة : يعود مبصراً .
فان قيل : من أين قطع على الغيب؟
فالجواب : أن ذلك كان بالوحي إِليه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وائتوني بأهلكم أجمعين } قال الكلبي : كان أهله نحواً من سبعين إِنساناً .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قوله تعالى : { ولما فصلت العير } أي : خرجت من مصر متوجهة إِلى كنعان . وكان الذي حمل القميص يهوذا . قال السدي : قال يهوذا ليوسف : أنا الذي حملت القميص إِلى يعقوب بدم كذب فأحزنتُه ، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرَّه ، فحمله ، قال ابن عباس : فخرج حافياً حاسراً يعدو ، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها .
قوله تعالى : { قال لهم أبوهم } يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده { إِني لأجد ريح يوسف } . ومعنى أجد : أشم ، قال الشاعر :
وَلَيْسَ صَرِيْرُ النَّعْشِ مَاتَسْمَعُونَه ... وَلَكِنَّها أَصْلاَبُ قَوْمٍ تَقَصَّف
وَلَيْسَ فَتِيقُ المِسْكِ مَاتَجِدُونَه ... وَلَكِنَّه ذَاكَ الثَّنَاءُ المُخلَّفُ
فان قيل : كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر ، ولم يجد ريحه من الجب وبعد خروجه منه ، والمسافة هناك أقرب؟
فعنه جوابان . أحدهما : أن الله تعالى أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البلية التي يتكامل بها الأجر ، وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضِّي البلاء ومجيء الفرج .
والثاني : أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلَّقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه . فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب ، فعلم أن الرائحة من جهة ذلك القميص . قال مجاهد : هبت ريح فضربت القميص ، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إِلا ما كان من ذلك القميص ، فمن ثم قال : { إِني لأجد ريح يوسف } . وقيل : إِن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها ، فلذلك يستروح كل محزون إِلى ريح الصبا ، ويجد المكروبون لها رَوْحاً ، وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق ، قال أبو صخر الهذلي :
إِذا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيْجُني ... نَسِيْمُ الصَّبا مِنْ حَيْثُ يطَّلِعُ الفَجْرُ
قال ابن عباس : وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخاً .
قوله تعالى : { لولا أن تفنِّدونِ } فيه خمسة أقوال .
أحدها : تُجهِّلونِ ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثاني : تسفِّهونِ ، رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وقتادة ، ومجاهد في رواية . وقال في رواية أخرى : لولا أن تقولوا : ذهب عقلك .
والثالث : تكذِّبونِ ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك .
والرابع : تهرِّمونِ ، قاله الحسن ، ومجاهد في رواية . قال ابن فارس : الفَنَد : إِنكار العقل من هرم .
والخامس : تعجِّزونِ ، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : تسفِّهون وتعجِّزون وتلومون ، وأنشد :
يَاصَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي ... فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أَمْرٍ بِمَرْدُودِ
قال ابن جرير : وأصل التفنيد : الإِفساد ، وأقوال المفسرين تتقارب معانيها ، وسمعت الشيخ أبا محمد إبن الخشاب يقول : قوله : «لولا أن تفنِّدون» فيه إِضمار ، تقديره : لأخبرتكم أنه حيّ .
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
قوله تعالى : { قالوا تالله إِنك لفي ضلالك القديم } قال ابن عباس : بنو بنيه خاطبوه بهذا ، وكذلك قال السدي : هذا قول بني بنيه ، لأن بنيه كانوا بمصر .
وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بمعنى الخطأ ، قاله ابن عباس ، وابن زيد . والثاني : أنه الجنون ، قاله سعيد بن جبير . والثالث : الشقاء والعناء ، قاله مقاتل ، يريد بذلك شقاء الدنيا .
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قوله تعالى : { فلما أن جاء البشير } فيه قولان :
أحدهما : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبه ، والسدي ، والجمهور . والثاني : أنه شمعون ، قاله الضحاك .
فان قيل : ما الفرق بين قوله هاهنا : { فلما أن جاء } وقال في موضع : { فلما جاءهم } [ البقرة : 89 ] .
فالجواب : أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعاً ، فدخول «أن» لتوكيد مُضِّي الفعل ، وسقوطها للاعتماد على إِيضاح الماضي بنفسه ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ألقاه } يعني القميص { على وجهه } يعني يعقوب { فارتدَّ بصيراً } ، الارتداد : رجوع الشيء إِلى حال قد كان عليها . قال ابن الأنباري : إِنما قال : ارتد ، ولم يقل : رُدَّ ، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إِلى المفعولِين ، كقولهم : طالت النخلة ، والله أطالها ، وتحركت الشجرة ، والله حركها . قال الضحاك : رجع إِليه بصره بعد العمى ، وقوّته بعد الضعف ، وشبابه بعد الهرم ، وسروره بعد الحزن .
وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال : لما جاء البشيرُ يعقوبَ ، قال : على أيِّ دين تركت يوسف؟ قال : على الإِسلام ، قال : الآن تمت النعمة .
قوله تعالى : { ألم أقل لكم إِني أعلم من الله مالا تعلمون } فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل .
قوله تعالى : { يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا ، لأنه نبيّ مجاب الدعوة . { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه أخَّرهم لانتظار الوقت الذي هو مَظِنَّة الإِجابة ، ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أخَّرهم إِلى ليلة الجمعة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيِّف وعشرين سنة .
والثاني : إِلى وقت السّحَر من ليلة الجمعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال طاووس : فوافق ذلك ليلة عاشوراء .
والثالث : إِلى وقت السَّحَر ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . قال الزجاج : إِنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإِجابة الدعاء ، لا أنه ضَنَّ عليهم بالاستغفار ، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام .
والقول الثاني : أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد . قال عطاء الخراساني : طلبُ الحوائج إِلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألا ترى إِلى قول يوسف : «لا تثريب عليكم اليوم» وإِلى قول يعقوب : «سوف أستغفر لكم ربي»
والثالث : أنه أخَّرهم ليسأل يوسف ، فان عفا عنهم ، استغفر لهم ، قاله الشعبي . وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا : يا أبانا إِنْ عفا الله عنا ، وإِلا فلا قُرَّة عين لنا في الدنيا ، فدعا يعقوبُ وأمَّن يوسف ، فلم يُجب فيهم عشرين سنة ، ثم جاء جبريل فقال : إِن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعفا عما صنعوا به ، واعتقد مواثيقهم من بَعْدُ على النبوَّة .
قال المفسرون : وكان يوسف قد بعث مع البشير إِلى يعقوب جَهازاً ومائتي راحلة ، وسأله أن يأتيه بأهله وولده . فلما ارتحل يعقوب ودنا من مصر ، استأذن يوسف الملِك الذي فوقه في تلقِّي يعقوب ، فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ، فخرج في أربعة آلاف من الجند ، وخرج معهم أهل مصر .
وقيل : إِن الملك خرج معهم أيضاً . فلما التقى يعقوب ويوسف ، بكيا جميعاً ، فقال يوسف : يا أبت بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك ، أما علمتَ أن القيامة تجمعني وإِياك؟ قال : أي بني ، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع .
وقيل : إِن يعقوب ابتدأه بالسلام ، فقال السلام عليكم يا مذهب الأحزان .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
قوله تعالى : { فلما دخلوا على يوسف } يعني : يعقوب وولده .
وفي هذا الدخول قولان :
أحدهما : أنه دخول أرض مصر ، ثم قال لهم : { ادخلوا مصر } يعني البلد .
والثاني : أنه دخول مصر ، ثم قال لهم : «ادخلوا مصر» أي : استوطنوها .
وفي قوله : { آوى إِليه أبويه } قولان :
أحدهما : أبوه وخالته ، لأن أمه كانت قد ماتت ، قاله ابن عباس والجمهور .
والثاني : أبوه وأمه ، قاله الحسن ، وابن إِسحاق .
وفي قوله : { إِن شاء الله آمنين } أربعة أقوال .
أحدها : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فالمعنى : سوف أستغفر لكم ربي إِن شاء الله ، إِنه هو الغفور الرحيم ، هذا قول ابن جريج .
والثاني : أن الاستثناء يعود إِلى الأمن . ثم فيه قولان . أحدهما : أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم . والثاني : أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ، فلا يدخلون إِلا بجوارهم .
والثالث : أنه يعود إِلى دخول مصر ، لأنه قال لهم هذا حين تلقَّاهم قبل دخولهم ، على ما سبق بيانه .
والرابع : أن «إِن» بمعنى : «إِذ» كقوله : { إِن أَرَدْنَ تحصُّناً } [ النور : 33 ] . قال ابن عباس : دخلوا مصر يومئذ وهم نيِّف وسبعون من ذكر وأنثى ، وقال ابن مسعود : دخلوا وهم ثلاثة وتسعون ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قوله تعالى : { ورفع أبويه على العرش } في «أبويه» قولان قد تقدما في الآية التي قبلها . والعرش هاهنا : سرير المملكة ، أجلس أبويه عليه { وخرّوا له } يعني : أبويه وإِخوته .
وفي هاء «له» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى يوسف ، قاله الجمهور . قال أبو صالح عن ابن عباس : كان سجودهم كهيأة الركوع كما يفعل الأعاجم . وقال الحسن : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرؤيا . قال ابن الأنباري : سجدوا له على جهة التحية ، لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدهر يحيِّى بعضهم بعضاً بالسجود والانحناء ، فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى أنس بن مالك قال : " قال رجل : يا رسول الله أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له؟ قال : لا " . والثاني : أنها ترجع إِلى الله ، فالمعنى : وخرُّوا لله سجَّداً ، رواه عطاء ، والضحاك عن ابن عباس ، فيكون المعنى : أنهم سجدوا شكراً لله إِذ جمع بينهم وبين يوسف .
قوله تعالى : { هذا تأويل رؤياي } أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ، فأراه الله ذلك في اليقظة .
واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال :
أحدها : أربعون سنة ، قاله سلمان الفارسي ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، ومقاتل .
والثاني : اثنتان وعشرون سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : ثمانون سنة ، قاله الحسن ، والفضيل بن عياض .
والرابع : ست وثلاثون سنة ، قاله سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي .
والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله قتادة .
والسادس : سبعون سنة ، قاله عبد الله بن شوذب .
والسابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن إِسحاق .
قوله تعالى : { وقد أحسن بي } أي : إِليّ . والبَدْوُ : البَسْطُ من الأرض . وقال ابن عباس : البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية .
قوله تعالى : { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إِخوتي } أي : أفسد بيننا : قال أبو عبيدة : يقال : نزغ بينهم يَنْزَغ ، أي : أفسد وهيَّج ، وبعضهم يكسر زاي ينزِغ . { إِن ربي لطيف لما يشاء } أي : عالم بدقائق الأمور . وقد شرحنا معنى «اللطيف» في [ الأنعام : 102 ] .
فان قيل : قد توالت على يوسف نعم خمسة ، فما اقتصاره على ذِكر السجن ، وهلاّ ذكرالجُبَّ ، وهو أصعب؟
فالجواب من وجوه .
أحدها : أنه ترك ذِكر الجُبِّ تكرماً ، لئلا يذكِّر إِخوته صنيعهم ، وقد قال : «لا تثريب عليكم اليوم» .
والثاني : أنه خرج من الجُبِّ إِلى الرق ، ومن السجن إِلى الملك ، فكانت هذه النعمة أوفى .
والثالث : أن طول لبثه في السجن كان عقوبة له ، بخلاف الجُبِّ ، فشكر الله على عفوه .
قال العلماء بالسِّيَر : أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعاً وعشرين سنة . وقال بعضهم : سبع عشرة سنة في أهنأ عيش ، فلما حضرته الوفاة أوصى إِلى يوسف أن يُحمَل إِلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إِسحاق ، ففعل به ذلك ، وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة ، ثم إِن يوسف تاق إِلى الجنة ، وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنَّى الموت ، قال ابن عباس ، وقتادة : ولم يتمنَّ الموتَ نبيّ قبله ، فقال : { ربِّ قد آتيتني من الملك } يعني : ملك مصر { وعلَّمتني من تأويل الأحاديث } وقد سبق تفسيرها [ يوسف : 6 ] .
وفي «مِنْ» قولان :
أحدهما : أنها صلة ، قاله مقاتل . والثاني : أنها للتبعيض ، لأنه لم يؤتَ كلَّ الملك ، ولا كلَّ تأويل الأحاديث .
قوله تعالى : { فاطر السموات والأرض } قد شرحناه في [ الأنعام : 6 ] .
{ أنت وليي } أي : الذي تلي أمري . { توفَّني مسلماً } قال ابن عباس : يريد : لا تسلبني الإِسلام حتى تتوفاني عليه . وكان ابن عقيل يقول : لم يتمنَّ يوسف الموت ، وإِنما سأل أن يموت على صفة . والمعنى : توفني إِذا توفيتني مسلماً ، قال الشيخ : وهذا الصحيح .
قوله تعالى : { وألحقني بالصالحين } والمعنى : ألحقني بدرجاتهم ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الجنة ، قاله عكرمة .
والثاني : آباؤه إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب ، قاله الضحاك : قالوا : فلما احتُضر يوسف ، أوصى إِلى يهوذا ، ومات ، فتشاحَّ الناس في دفنه ، كل يُحبُّ أن يُدفن في محلَّته رجاءَ البركة ، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إِلى الجميع ، فدفنوه في صندوق من رخام ، فكان هنالك إِلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان . قال الحسن : مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب } أي : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإِخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك ، فأنزله الله عليك دليلاً على نبوَّتك . { وما كنت لديهم } أي : عند إِخوة يوسف { إِذ أجمعوا أمرهم } أي : عزموا على إِلقائه في الجب { وهم يمكرون } بيوسف ، وفي هذا احتجاج على صحة نبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يشاهد تلك القصة ، ولا كان يقرأ الكتاب ، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز ، فدلَّ على أنه أخبر بوحي .
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
قوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } قال ابن الأنباري : إِن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإِخوته ، فشرحها شرحاً شافياً ، وهو يؤمِّل ان يكون ذلك سبباً لإِسلامهم ، فخالفوا ظنه ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعزَّاه الله تعالى بهذه الآية . قال الزجاج : ومعناها : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهدَيهم . { وما تسألهم عليه } أي : على القرآن وتلاوته وهدايتك إِياهم { من أجر ، إِن هو } أي : ما هو إِلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم .
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
قوله تعالى : { وكأيِّن } أي : وكم { من آية } أي : علامة ودلالة تدلهم .
على توحيد الله ، من أمر السموات والأرض . { يمرُّون عليها } أي : يتجاوزونها غير متفكرين ولا معتبرين .
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قوله تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إِلا وهم مشركون } فيهم ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم المشركون ، ثم في معناها المتعلق بهم قولان : أحدهما : أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ، رواه أبوصالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . والثاني : أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبَّيك اللهم لبَّيك ، لبَّيك لا شريك لك ، إِلا شريكاً هو لكْ ، تملكه وما ملك ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنهم النصارى ، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ، ومع ذلك يشركون به ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنهم المنافقون ، يومنون في الظاهر رئاء الناس ، وهم في الباطن كافرون ، قاله الحسن .
فان قيل : كيف وصف المشرك بالإِيمان؟
فالجواب : أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان ، وإِنما المعنى : أن أكثرهم ، مع إِظهارهم الإِيمان بألسنتهم مشركون .
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
قوله تعالى : { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } قال ابن قتيبة : الغاشية : المجلِّلة تغشاهم . وقال الزجاج : المعنى : يأتيهم ما يغمرهم من العذاب . والبغتة : الفجأة من حيث لم تتوقع .
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قوله تعالى : { قل هذه سبيلي } المعنى : قل يا محمد للمشركين : هذه الدعوة التي أدعو إِليها ، والطريقة التي أنا عليها ، سبيلي ، أي : سُنَّتي ومنهاجي . والسبيل تذكَّر وتؤنَّث ، وقد ذكرنا ذلك في [ آل عمران : 195 ] . { أدعوا إِلى الله على بصيرة } أي : على يقين . قال ابن الأنباري : وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إِلى الله عز وجل ، لأنه إِذا تلا القرآن ، فقد دعا إِلى الله بما فيه . ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : { إِلى الله } ثم ابتدأ فقال : { على بصيرة أنا ومن اتَّبعني } .
قوله تعالى : { وسبحان الله } المعنى : وقل سبحان الله تنزيهاً له عما أشركوا .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً } هذا نزل من أجل قولهم : هلاّ بعث الله ملكاً ، فالمعنى : كيف تعجَّبوا من إِرسالنا إِياك ، وسائر الرسل كانوا على مثل حالك { يوحى إِليهم } ؟ وقرأ حفص عن عاصم : «نوحي» بالنون . والمراد بالقرى : المدائن . وقال الحسن : لم يبعث الله نبيّاً من أهل البادية ، ولا من الجن ، ولا من النساء ، قال قتادة : لأن أهل القرى أعلم وأحلم من اهل العَمود .
قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض } يعني : المشركين المنكرين نبوَّتك { فينظروا } إِلى مصارع الأمم المكذِّبة فيعتبروا بذلك . { ولَدَار الآخرة } يعني : الجنة { خير } من الدنيا { للذين اتقوا } الشرك . قال الفراء : أضيفت الدار إِلى الآخرة ، وهي الآخرة ، لأن العرب قد تضيف الشيء إِلى نفسه إِذا اختلف لفظه ، كقوله : { لَهُوَ حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 96 ] والحق : هو اليقين ، وقولهم : أتيتك عام الأول ، ويوم الخميس .
قوله تعالى : { أفلا يعقلون } قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحفص ، والمفضَّل ، ويعقوب : «تعقلون» بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، والمعنى : أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا .
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله تعالى : { حتى إِذا استيأس الرسل } المعنى متعلق بالآية الأولى ، فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً ، فدعَوا قومهم ، فكذَّبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إِذا استيأس الرسل ، وفيه قولان :
أحدهما : استيأسوا من تصديق قومهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : من أن نعذِّب قومهم ، قاله مجاهد . { وظنوا أنهم قد كُذبوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «كُذِّبوا» مشددة الذال مضمومة الكاف ، والمعنى : وتيقَّن الرسل أن قومهم قد كذَّبوهم ، فيكون الظن هاهنا بمعنى اليقين ، هذا قول الحسن ، وعطاء ، وقتادة . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «كُذِبوا» خفيفة ، والمعنى : ظن قومهم أن الرسل قد كُذِبوا فيما وُعدوا به من النصر ، لأن الرسل لا يظنون ذلك . وقرأ أبو رزين ، ومجاهد ، والضحاك : «كَذَبوا» بفتح الكاف والذال خفيفة ، والمعنى : ظن قومهم أيضاً أنهم قد كَذَبوا ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { جاءهم نصرنا } يعني : الرسل { فنُنْجِيْ من نشاء } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «فننجي» بنونين ، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، وحفص ، جميعاً عن عاصم ، ويعقوب : «فَنُجِّيَ» مشدده الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة ، يعني : المؤمنين ، نَجَوْا عند نزول العذاب .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم } أي : في خبر يوسف وإِخوته . وروى عبد الوارث كسر القاف ، وهي قراءة قتادة ، وأبي الجوزاء . { عبرة } أي : عظة { لأولي الألباب } أي : لذوي العقول السليمة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : ما جرى ليوسف من إِعزازه وتمليكه بعد استعباده ، فإنَّ من فَعَلَ ذلك به ، قادر على إِعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وتعلية كلمته .
والثاني : أن من تفكَّر ، علم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ، مع كونه أمَّياً ، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة مِنْ قِبَل نفسه ، فاستدل بذلك على صحة نبوَّته .
قوله تعالى : { ما كان حديثاً يُفترى } في المشار إِليه قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة .
والثاني : ما تقدم من القصص ، قاله ابن إِسحاق ، فعلى القول الأول ، يكون معنى قوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه } : ولكن كان تصديقاً لما بين يديه من الكتب { وتفصيل كل شيء } يُحتاج إِليه من أمور الدين { وهدىً } بياناً { ورحمةً لقوم يؤمنون } أي : يصدقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وعلى القول الثاني : وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإِخوته .
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
قوله تعالى : { المر } قد ذكرنا في سورة ( البقرة ) جملةً من الكلام في معاني هذه الحروف . وقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال :
أحدها : أن معناها : أنا الله أعلم وأرى ، رواه أبو الضحى عنه . والثاني : أنا الله أرى ، رواه سعيد بن جبير عنه . والثالث : أنا الله الملِك الرحمن ، رواه عطاء عنه .
قوله تعالى : { تلك آيات الكتاب } في «تلك» قولان ، وفي «الكتاب» قولان قد تقدمت في أول ( يونس ) .
قوله تعالى : { والذي أُنزل إِليك من ربك الحق } يعني : القرآن وغيره من الوحي { ولكنَّ أكثر الناس لا يؤمنون } قال ابن عباس : يعني : أهل مكة . قال الزجاج : لما ذكر أنهم لا يؤمنون ، عرَّف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال : { الله الذي رفع السموات بغير عمد } قال أبو عبيدة : العَمَد : متحرك الحروف بالفتحة ، وبعضهم يحركها بالضمة ، لأنها جمع عمود ، وهو القياس ، لأن كل كلمة هجاؤها أربعة أحرف الثالث منها ألِف أو ياء أو واو ، فجميعه مضموم الحروف ، نحو رسول ، والجمع : رسل ، وحمار ، والجمع : حُمُر ، غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها بالحركة والفتحة ، نحو عمود ، وأديم ، وإِهاب ، قالوا : أَدَم ، وأَهَب . ومعنى «عمدٍ» سَوارٍ ، ودعائم ، وما يَعْمِد البناء . وقرأ أبو حيوة : «بغير عُمُد» بضم العين والميم .
وفي قوله : { ترونها } قولان :
أحدهما : أن هاء الكناية ترجع إِلى السموات ، فالمعنى : ترونها بغير عَمَد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والجمهور . وقال ابن الأنباري : «ترونها» خبر مستأنف ، والمعنى : رفع السموات بلا دعامة تمسكها ، ثم قال : «ترونها» أي : ماتشاهدون من هذا الأمر العظيم ، يغنيكم عن إِقامة الدلائل عليه .
والثاني : أنها ترجع إِلى العَمَد ، فالمعنى : إِنها بعمد لا ترونها ، رواه عطاء ، والضحاك عن ابن عباس ، وقال : لها عَمَد على قاف ، ولكنكم لا ترون العَمَد ، وإِلى هذا القول ذهب مجاهد ، وعكرمة ، والأول أصح .
قوله تعالى : { وسخر الشمس والقمر } اي : ذلَّلهما لما يُراد منهما { كل يجري لأجل مسمى } أي : إِلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا . { يدبِّر الأمر } أي : يصرِّفه بحكمته . { يفصِّل الآيات } أي : يبيِّن الآيات التي تدل أنه قادر على البعث لكي توقنوا بذلك . وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، والنخعي . «ندبِّر الأمر نفصِّل الآيات» بالنون فيهما .
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
قوله تعالى : { وهو الذي مَدَّ الأرض } قال ابن عباس : بسطها على الماء .
قوله تعالى : { وجعل فيها رواسي } قال الزجاج : أي جبالاً ثَوابِت ، يقال : رسا الشيء يرسوا رُسُوّاً ، فهو راسٍ : إِذا ثبت . و { جعل فيها زوجين اثنين } أي : نوعين . والزوج : الواحد الذي له قرين من جنسه . قال المفسرون : ويعني بالزوجين : الحلو والحامض ، والعذب والملح ، والأبيض والأسود .
قوله تعالى : { يغشي الليل النهار } قد شرحناه في [ الأعراف : 45 ] .
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قوله تعالى : { وفي الأرض قِطَعٌ متجاورات } فيها قولان :
أحدهما : أنها الأرض السَّبِخة ، والأرض العذبة ، تنبت هذه ، وهذه إِلى جنبها لا تنبت ، هذا قول ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، والضحاك .
والثاني : أنها القرى المتجاورات ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، وهو يرجع إِلى معنى الأول .
قوله تعالى : { وزرع ونخيل } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : { وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ صنوانٍ } رفعاً في الكُلِّ . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «وزرعٍ ونخيلٍ صنوانٍ «وغيرِ صنوانٍ» خفضاً في الكُلِّ . قال أبو علي : من رفع ، فالمعنى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنَّات ، وفي الأرض زرع ، ومن خفض حمله على الأعناب ، فالمعنى : جنَّاتٌ من أعناب ، ومن زرع ، ومن نخيل .
قوله تعالى : { صنوان وغير صنوان } هذا من صفة النخيل . قال الزجاج : الصنوان : جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ ، ومعناه : أن يكون الأصل واحداً وفيه النخلتان والثلاثُ والأربع . وكذلك قال المفسرون : الصنوان : النخل المجتمع وأصله واحد ، وغير صنوان : المتفرِّق . وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي ، وابن جبير ، وقتادة : «صُنوانٌ» بضم الصاد . قال الفراء : لغة أهل الحجاز «صِنوانٍ» بكسر الصاد ، وتميم وقيس يضمون الصاد .
قوله تعالى : { تسقى بماء واحد } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «تسقى» بالتاء ، «ونفضِّل» بالنون ، وقرأ حمزة ، والكسائي «تسقى» بالتاء أيضاً ، لكنهما أمالا القاف . وقرأ الحسن «ويفضِّل» بالياء . وقرأ عاصم ، وابن عامر «يُسقى» بالياء ، «ونفضِّل» بالنون ، وكلُّهم كسر الضاد . وروى الحلبي عن عبد الوارث ضمَّ الياء من «يُفضَّل» وفتح الضاد ، «بعضُها» برفع الضاد . وقال الفراء : من قرأ «تُسقى» بالتاء ذهب إِلى تأنيث الزرع ، والجنَّات ، والنخيل ، ومن كسر ذهب إِلى النبت ، وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد ، وأُكْلُه مختلف حامِض وحُلو ، ففي هذا آية . قال المفسرون : الماء الواحد : ماء المطر ، والأُكُل : الثمر ، بعضه أكبر من بعض ، وبعضه أفضل من بعض ، وبعضه حامض وبعضه حلو ، إِلى غير ذلك ، وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين ، لأنه لو كان حدوث الثمر على طبع الأرض والهواء ، والماء ، وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب الحدوث ، فلما وقع الاختلاف ، دلَّ على مدبِّرٍ قادر ، { إِن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون } أنه لا تجوز العبادة إِلا لمن يقدر على هذا .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
قوله تعالى : { وإِن تعجب } أي : من تكذيبهم وعبادتهم مالا ينفع ولا يضر بعدما رأوا من تأثير قُدرة الله عز وجل في خلق الأشياء ، فإنكارهم البعث موضعُ عجب . وقيل : المعنى : وإِن تعجب بما وقفت عليه من القِطَع المتجاورات وقدرةِ ربك في ذلك ، فعجب جحدهم البعث ، لأنه قد بان لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل من القدرة .
قوله تعالى : { أإذا كنا تراباً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «آيذا كنا تراباً آينَّا» جميعاً بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمدُّ الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدٍّ . وقرأ نافع «آيذا» مثل أبي عمرو ، واختُلف عنه في المَدِّ ، وقرأ «إِنا لفي خلق» مكسورة على الخبر . وقرأ عاصم ، وحمزة «أإذا كُنَّا» «أإِنا» بهمزتين فيهما . وقرأ ابن عامر «إِذا كُنَّا تراباً» مكسورة الألِف من غير استفهام ، «أإنا» يهمز ثم يَمُدُّ ثم يهمز على وزن : عاعِنَّا . وروي عن ابن عامر أيضاً «أإِذا» بهمزتين لا ألِف بينهما .
والأغلال جمع غُلٍّ ، وفيها قولان . أحدهما : أنها أغلال يوم القيامة ، قاله الأكثرون . والثاني : أنها الأعمال التي هي أغلال ، قاله الزجاج .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قوله تعالى : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها نزلت في كفار مكة ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب ، استهزاءً منهم بذلك ، قاله ابن عباس .
والثاني : في مشركي العرب ، قاله قتادة .
والثالث : في النضر بن الحارث حين قال : اللهم إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك ، قاله مقاتل .
وفي السيئة والحسنة قولان :
أحدهما : بالعذاب قبل العافية ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : بالشرِّ قبل الخير ، قاله قتادة .
فأما { المَثُلات } فقرأ الجمهور بفتح الميم . وقرأ عثمان ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وابن أبي عبلة برفع الميم .
ثم في معناها قولان :
أحدهما : أنها العقوبات ، قاله ابن عباس . وقال الزجاج : المعنى : قد تقدَّم من العذاب ما هو مثله وما فيه نكال ، لو أنهم اتعظوا . وقال ابن الأنباري : المُثْلَةُ : العقوبة التي تُبقي في المعاقَب شَيْناً بتغيير بعض خَلْقِه ، من قولهم : مثَّل فلان بفلان ، إِذا شان حَلْقَه بقَطْعِ أنفه أو أُذُنِهِ ، أو سملِ عينيه ونحو ذلك .
والثاني : أن المثلاتِ : الأمثالُ التي ضربها الله عز وجل لهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة .
قوله تعالى : { وإِن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قال ابن عباس : لذو تجاوزٍ عن المشركين إِذا آمنوا ، وإِنه لشديد العقاب للمصرِّين على الشرك . وقال مقاتل : لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب ، وإِنه لشديد العقاب إذا عذَّب .
فصل
وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : { إِن الله لا يغفر أن يُشرك به } [ النساء : 48 ] ، والمحققون على أنها محكَمة .
قوله تعالى : { لولا أُنزل عليه آية من ربه } «لولا» بمعنى هلاَّ ، والآية التي طلبوها ، مثلُ عصا موسى وناقة صالح . ولم يقنعوا بما رأوا ، فقال الله تعالى : { إِنما أنت منذر } أي : مخوِّفٌ عذاب الله ، وليس لك من الآيات شيء .
وفي قوله : { ولكُلِّ قوم هادٍ } ستة أقوال :
أحدها : أن المراد بالهادي : اللهُ عز وجل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والنخعي ، فيكون المعنى : إِنما إِليك الإِنذار ، والله الهادي .
والثاني : أن الهادي : الداعي ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أن الهادي : النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، وابن زيد ، فالمعنى : ولكل قوم نبيٌّ ينذرهم .
والرابع : أن الهادي : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ، قاله عكرمة ، وأبو الضحى ، والمعنى : أنت منذرٌ ، وأنت هادٍ .
والخامس : أن الهادي : العملُ ، قاله أبو العالية .
والسادس : أن الهاديَ : القائدُ إِلى الخير أو إِلى الشر قاله أبو صالح عن ابن عباس .
وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره ، فقال :
" أنا المنذِر» وأومأ بيده إِلى منكب عليٍّ ، فقال : «أنت الهادي يا عليُّ بك يُهتدى من بعدي " قال المصنف : وهذا من موضوعات الرافضة .
ثم إِن الله تعالى أخبرهم عن قدرته ، رداً على منكري البعث ، فقال : { الله يعلم ما تَحمِل كُلُّ أنثى } أي : من علقة أو مُضغة ، أو زائد أو ناقص ، أو ذكَرٍ أو أنثى ، أو واحد أو اثنين أو أكثر ، { وما تغيض الأرحام } أي : وما تنقص ، { وما تزداد } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : ما تغيض : بالوَضع لأقل من تسعة أشهر ، وما تزداد : بالوضع لأكثر من تسعة أشهر ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : وما تغيض : بالسِّقْطِ الناقص ، وما تزداد : بالولد التامِّ ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وعن الحسن كالقولين .
والثالث : وما تغيض : بإراقة الدم في الحَمْل حتى يتضاءل الولد ، وما تزداد : إِذا أمسكَتِ الدمَ فيعظم الولد ، قاله مجاهد .
والرابع : ما تغيض الأرحام : مَنْ ولدته من قبل ، وما تزداد : مَنْ تلده من بعد ، روي عن قتادة ، والسُّدِّي .
قوله تعالى : { وكل شيء عنده بمقدار } أي : بقدر . قال أبو عبيدة : هو مِفعالٌ من القَدَرِ . قال ابن عباس : عَلِمَ كُلِّ شيء فقدَّره تقديراً .
قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } قد شرحنا ذلك في [ الأنعام : 6 ] . و { الكبير } بمعنى : العظيم . ومعناه : يعود إِلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلوِّ ، فهو أكبر من كُلِّ كبير ، لأن كل كبير يصغر بالإِضافة إِلى عظمته . ويقال : «الكبير» الذي كَبُر عن مشابهة المخلوقين .
فأمّا { المتعال } فقرأ ابن كثير «المتعالي» بياء في الوصل والوقف ، وكذلك روى عبد الوارث عن أبي عمرو ، وأثبتها في الوقف دون الوصل ابنُ شَنْبُوذَ عن قُنْبُل ، والباقون بغير ياء في الحالين . والمتعالي هو المتنزِّه عن صفات المخلوقين ، قال الخطّابي : وقد يكون بمعنى العالي فوق خَلْقه . وروي عن الحسن أنه قال : المتعالي عمّا يقول المشركون .
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
قوله تعالى : { سواء منكم } قال ابن الأنباري : ناب «سواءٌ» عن مُستوٍ ، والمعنى : مستوٍ منكم { من أسرَّ القول } أي : أخفاه وكتمه { ومن جهر به } أعلنه وأظهره ، والمعنى : أن السِرَّ والجهر سواء عنده .
قوله تعالى : { ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار } فيه قولان .
أحدهما : أن المستخفي : هو المستتر المتواري في ظلمة الليل ، والسارب بالنهار : الظاهر المتصرِّف في حوائجه . يقال : سرَبتِ الإِبل تَسرِب : إِذا مضت في الأرض ظاهرةً ، وأنشدوا :
أرى كُلَّ قَوْمٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِم ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فَهْو سَارِبُ
أي : ذاهب . ومعنى الكلام : أن الظاهر والخفيِّ عنده سواء ، هذا قول الأكثرين . وروى العوفي عن ابن عباس : «ومَنْ هو مستخف» قال : صاحب رِيبة بالليل ، فإذا خرج بالنهار ، أرى الناسَ أنه بريء من الإِثم .
والثاني : أن المستخفيَ بالليل : الظاهر ، والساربَ بالنهار : المستتر ، يقال : انسرب الوحش : إِذا دخل في كِناسِهِ ، وهذا قول الأخفش ، وذكره قطرب أيضاً ، واحتج له ابن جرير بقولهم : خَفَيْتُ الشيء : إِذا أظهرتَه ، ومنه { أكاد أَخفيها } [ طه : 15 ] بفتح الألف ، أي : أُظهرها ، قال : وإِنما قيل للمتواري : ساربٌ ، لأنه صار في السرَبِ مستخفياً .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله تعالى : { له معقبات } في هاء «له» أربعة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثاني : إِلى الملك من ملوك الدنيا ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : إِلى الإِنسان ، قاله الزجاج .
والرابع : إِلى الله تعالى ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي .
وفي المعقِّبات قولان :
أحدهما : أنها الملائكة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة في آخرين . قال الزجاج : والمعنى : للإنسان ملائكة يعتقبون ، يأتي بعضهم بِعَقِب بعض . وقال أكثر المفسرين : هم الحَفَظَة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل ، إِذا مضى فريق ، خلف بعده فريق ، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر . وقال قوم ، منهم ابن زيد : هذه الآية خاصة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عزم عامر بن الطُّفَيْل وأربد بن قيس على قتله ، فمنعه الله منهما ، وأنزل هذه الآية .
والقول الثاني : أن المعقِّبات حُرَّاس الملوك الذين يتعاقبون الحَرْس ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعكرمة . وقال الضحّاك : هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى .
وفي قوله : { يحفظونه من أمر الله } سبعة أقوال :
أحدها : يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون ، هذا على قول من قال : هي في المشركين المحترسين من أمر الله .
والثاني : أن المعنى : حِفْظُهم له من أمر الله ، قاله ابن عباس ، وابن جُبير ، فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به .
والثالث : يحفطونه بأمر الله ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة . قال اللغويون : والباء تقوم مقام «مِنْ» وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض .
والرابع : يحفظونه من الجن ، قاله مجاهد ، والنخعي . وقال كعب : لولا أن الله تعالى وكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعَوْرَاتِكم ، إِذاً لتخطَّفَتْكم الجن . وقال مجاهد : ما من عَبْدٍ إِلا ومَلَكٌ موكّل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوامِّ ، فإذا أراده شيء ، قال : وراءك وراءك ، إِلا شيء قد قضي له أن يصيبه . وقال أبو مجلز : جاء رجل من مُراد إِلى عليّ عليه السلام ، فقال : احترس ، فإن ناساً من مُراد يريدون قتلك ، فقال : إِن مع كل رجل ملَكين يحفظانه مما لم يقدَّر ، فاذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه ، وإِن الأجل جُنَّة حصينة .
والخامس : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والمعنى : له معقِّبات من أمر الله يحفظونه ، قاله أبو صالح ، والفراء .
والسادس : يحفظونه لأمر الله فيه حتى يُسْلِموه إِلى ما قدِّر له ، ذكره أبو سليمان الدمشقي ، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : يحفظونه من أمر الله ، حتى إِذا جاء القَدَر خلّوا عنه . وقال عكرمة : يحفظونه لأمر الله .
والسابع : يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، قاله ابن جُريج . قال الأخفش : وإِنما أنَّث المعقّبات لكثرة ذلك منها ، نحو النسَّابة ، والعلاَّمة ، ثم ذكَّر في قوله : «يحفظونه» لأن المعنى مذكَّر .
قوله تعالى : { إِن الله لا يغيِّر ما بقوم } أي : لايسلبهم نِعَمَهُ { حتى يغيِّروا ما بأنفسهم } فيعملوا بمعاصيه . قال مقاتل : ويعني بذلك كفار مكة .
قوله تعالى : { وإِذا أراد الله بقوم سوءاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه العذاب . والثاني : البلاء .
قوله تعالى : { فلا مَرَدَّ له } أي : لا يردُّه شيء ولا تنفعه المعقِّبات . { وما لهم من دونه } يعني : من دون الله { من والٍ } أي : من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
قوله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } فيه أربعة أقوال :
أحدها : خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال قتادة : فالمسافر خاف أذاه ومشقَّته والمقيم يرجو منفعته .
والثاني : خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .
والثالث : خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به ، ذكره الزجاج .
والرابع : خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب ، ذكره الماوردي . وكان ابن الزبير إِذا سمع صوت الرعد يقول : إِن هذا وعيد شديد لأهل الأرض .
قوله تعالى : { وينشىء السحاب الثقال } أي : ويخلق السحاب الثقال بالماء . قال الفراء : السحاب ، وإِن كان لفظه واحداً ، فانه جمع واحدته سحابة ، جُعل نعته على الجمع ، كما قال : { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } [ الرحمن 76 ] ولم يقل : أخضرَ ، ولا حسنٍ .
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قوله تعالى : { ويسبِّح الرعد بحمده } فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم الملَك الذي يزجر السحاب ، وصوته : تسبيحه ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه الصوت المسموع . وإِنما خُص الرعد بالتسبيح ، لأنه من أعظم الأصوات . قال ابن الأنباري : وإِخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز ، كما يقول القائل : قد غمَّني كلامك .
قوله تعالى : { والملائكة من خيفته } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله عز وجل ، وهو الأظهر . قال ابن عباس : يخافون الله ، وليس كخوف ابن آدم ، لا يعرف أحدهم مَنْ على يمينه ومَنْ على يساره ، ولا يَشْغَله عن عبادة الله شيء .
والثاني : أنها ترجع إِلى الرعد ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها نزلت في أربد بن قيس ، وعامر ابن الطُفَيل ، أتيا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان الفتك به ، فقال : «اللهم اكفنيهما بما شئت» ، فأما أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاحٍ فأحرقته ، وأما عامر فأصابته غُدّة فهلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، هذا قول الأكثرين ، منهم ابن جريج ، وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأُمه .
والثاني : أنها نزلت في رجل جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : حدِّثني يا محمد عن إِلهك ، أياقوت هو؟ أذهبٌ هو؟ فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته ، ونزلت هذه الآية ، قاله عليّ عليه السلام . قال مجاهد : وكان يهودياً . وقال أنس بن مالك : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بعض فراعنة العرب يدعوه إِلى الله تعالى فقال للرسول : وما الله ، أمِن ذهب هو ، أم مِن فضة ، أم من نحاس؟ فرجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارجع إِليه فادعه» ، فرجع ، فأعاد عليه الكلام ، إِلى أن رجع إِليه ثالثة ، فبينما هما يتراجعان الكلام ، إِذ بعث الله سحابة حيال رأسه ، فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، ونزلت هذه الآية .
والثالث : أنها في رجل أنكر القرآن وكذَّب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، ونزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وهم يجادلون في الله } فيه قولان :
أحدهما : يكذِّبون بعظَمة الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : يخاصِمون في الله ، حيث قال قائلهم : أهو من ذهب ، أم من فضة؟ على ما تقدم بيانه .
قوله تعالى : { وهو شديد المحال } فيه خمسة أقوال :
أحدها : شديد الأخذ ، قاله عليّ عليه السلام .
والثاني : شديد المكر ، شديد العداوة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : شديد العقوبة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وقال مجاهد في رواية عنه : شديد الانتقام . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة والمكر والنكال ، وأنشد للأعشى :
فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُن المج ... د ، غزيرُ النَّدى ، شديدُ المِحال
إِن يُعاقِب يكُنْ غَراماً وإِن يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يُبالي
وقال ابن قتيبة : شديد المكر واليد ، وأصل المحال : الحيلة .
والرابع : شديد القوَّة ، قاله مجاهد . قال الزجاج : يقال ما حلتُه مِحالاً : إِذا قاويته حتى تبيَّن له أيكما الأشد ، والمَحَل في اللغة : الشدة .
والخامس : شديد الحقد ، قاله الحسن البصري فيما سمعناه عنه مسنداً من طرق ، وقد رواه عنه جماعة من المفسرين منهم ابن الأنباري ، والنقاش ، ولا يجوز هذا في صفات الله تعالى . قال النقاش : هذا قول مُنكرٌ عند أهل الخبر والنظر في اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفةً من صفات الله عز وجل . والذي أختاره في هذا ما قاله عليّ عليه السلام : شديد الأخذ ، يعني : أنه إِذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته .
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
قوله تعالى : { له دعوة الحق } فيه قولان :
أحدهما : أنها كلمة التوحيد ، وهي لا إِله إِلا الله ، قاله عليّ ، وابن عباس ، والجمهور ، فالمعنى : له من خَلقه الدعوة الحق ، فأضيفت الدعوة إِلى الحق ، لاختلاف اللفظين .
والثاني : أن الله عز وجل هو الحق ، فمن دعاه دعا الحق ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { والذين يدعون من دونه } يعني : الأصنام يدعونها آلهة . قال أبو عبيدة : المعنى : والذين يدعون غيره من دونه .
قوله تعالى : { لا يستجيبون لهم } أي : لا يجيبونهم .
قوله تعالى : { إِلا كباسط كفَّيه إِلى الماء } فيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه العطشان يمدُّ يده إِلى البئر ليرتفع الماء إِليه وما هو ببالغه ، قاله عليّ عليه السلام ، وعطاء .
والثاني : أنه الرجل العطشان قد وضع كفَّيه في الماء وهو لا يرفعهما ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أنه الرجل يدعو الماءَ بلسانه ويشير إِليه بيده فلا يأتيه أبداً ، قاله مجاهد .
والخامس : أنه الباسط كفَّيه ليقبض على الماء حتى يؤدِّيَه إِلى فيه ، لا يتم له ذلك ، والعرب : تقول من طلب مالا يجد فهو القابض على الماء ، وأنشدوا :
وإِنِّي وإِيَّاكم وشَوْقاً إِليكُمُ ... كقابضِ ماءٍ لم تَسِقْهُ أنامِلُهْ
أي : لم تحمله ، والوَسْق : الحِمْلُ ، وقال آخر :
فأصبحتُ مما كان بَيْني وبَيْنَها ... مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ الماءَ باليَدِ
هذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { وما دعاء الكافرين إِلا في ضلال } فيه قولان :
أحدهما : وما دعاء الكافرين ربَّهم إِلا في ضلال ، لأن أصواتهم محجوبة عن الله ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : وما عبادة الكافرين الأصنامَ إِلا في خسران وباطل ، قاله مقاتل .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله تعالى : { ولله يسجد من في السموات } أي : من الملائكة ، ومَن في الأرض من المؤمنين { طوعاً وكرهاً } .
وفي معنى سجود الساجدين كَرها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه سجود مَنْ دخل في الإِسلام بالسيف ، قاله ابن زيد .
والثاني أنه سجود ظِلِّ الكافر ، قاله مقاتل .
والثالث : أن سجود الكاره تذلُّله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر .
قوله تعالى : { وظلالهم } أي : وتسجد ظلال الساجدين طوعاً وكَرهاً ، وسجودُها : تمايلها من جانب إِلى جانب ، وانقيادها للتسخير بالطُّول والقِصَر . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : الظِّل ما كان بالغَدَوات قبل انبساط الشمس ، والفيءُ ما كان بعد انصراف الشمس ، وإِنما سُمِّي فيئاً ، لأنه فاء ، أي : رجع إِلى الحال التي كان عليها قبل ان تنبسط الشمس ، وما كان سوى ذلك فهو ظِلٌّ ، نحو ظِلِّ الإِنسان ، وظل الجدار ، وظل الثوب ، وظل الشجرة ، قال حُمَيد بن ثور :
فلا الظِّلُّ من بَرْد الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ... ولا الفَيءُ مِن بَرْدِ العَشِيِّ تَذوق
وقال لبيد :
بينما الظِّلُّ ظَلِيلٌ مُوْنِقٌ ... طَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْه فاضْمَحَلّ
وقال آخر :
أيا أَثلاَتِ القَاعِ مِنْ بَطْنِ تُوضِحٍ ... حَنِيْنِي إِلى أَظْلالِكُنَّ طَوِيلُ
وقيل : إِن الكافر يسجد لغير الله ، وظلُّه يسجد لله . وقد شرحنا معنى الغُدُوِّ والآصال في [ الأعراف : 7 ] .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
قوله تعالى : { قل من رب السموات والأرض قل الله } إِنما جاء السؤال والجواب من جهة ، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء ، فلما لم ينكروا ، كان كأنهم أجابوا . ثم ألزمهم الحُجة بقوله : { قل أفاتخذتم من دونه أولياء } يعني : الأصنام توليتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، فكيف لغيرهم؟! ثم ضرب مثلاً للذي يعبد الأصنام والذي يعبد الله بقوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } يعني المشرك والمؤمن { أم هل تستوي الظلمات والنور } وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «تستوي» بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «يستوي» بالياء . قال أبو علي : التأنيث حسنٌ ، لأنه فعلُ مؤنثٍ ، والتذكير سائغ ، لأنه تأنيث غير حقيقي . ويعني بالظلمات والنور : الشركَ والإِيمان . { أم جعلوا لله شركاء } قال ابن الأنباري : معناه : أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهام إِنكار ، والمعنى : ليس الأمر على هذا ، بل إِذا فكَّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق ، وغيره لا يخلق شيئاً .
قوله تعالى : { قل الله خالق كل شيء } قال الزجاج : قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء ، وقد ذكرنا في [ يوسف : 39 ] معنى الواحد القهار .
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قوله تعالى : { أنزل من السماء ماءً } يعني : المطر { فسالت أودية } وهي جمع وادٍ ، وهو كل منفرَج بين جبلين يجتمع إِليه ماء المطر فيسيل { بقدرها } أي : بمبلغ ما تحمل ، فإن صَغُر الوادي ، قلَّ الماء ، وإِن هو اتسع ، كَثُر . وقرأ الحسن ، وابن جبير ، وأبو العالية ، وأيوب ، وابن يعمر ، وأبو حاتم عن يعقوب : «بقَدْرِها» بإسكان الدال . وقوله : «فسالت أودية» توسُّع في الكلام ، والمعنى : سالت مياهها ، فحُذف المضاف ، وكذلك قوله : «بقدَرِها» أي : بقدر مياهها . { فاحتمل السيل زَبَداً رابياً } أي : عالياً فوق الماء ، فهذا مثل ضربه الله عز وجل . ثم ضرب مثلاً آخر ، فقال : { ومما توقِدون عليه في النار } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «توقِدون عليه» بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بالياء . قال أبو علي : من قرأ بالتاء ، فَلِما قبله من الخطاب ، وهو قوله : «أفاتخذتم» ، ويجوز أن يكون خطاباً عامّاً للكافّة ، ومن قرأ بالياء فلأَنَّ ذِكر الغَيبة قد تقدم في قوله : «أم جعلوا لله شركاء» .
ويعني بقوله { ومما توقدون عليه } ما يدخل إِلى النار فيُذاب من الجواهر { ابتغاء حِلية } يعني : الذهب والفضة { أو متاع } يعني : الحديد والصُّفْر والنحاس والرصاص تُتخذ منه الأواني والأشياء التي يُنتفع بها ، { زَبَدٌ مثله } أي : له زَبَد إِذا أُذيب مثل زَبَد السَّيل ، فهذا مثل آخر .
وفيما ضُرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه القرآن ، شُبِّه نزوله من السماء بالماء ، وشُبِّه قلوبُ العِباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك ، والعقل والجهل ، فيستكنّ فيها ، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر ، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شَكِّه وكفره ، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبَد وكخبَث الحديد لا يُنتفع به .
والثاني : أنه الحق والباطل ، فالحق شُبِّه بالماء الباقي الصافي ، والباطل مشبَّه بالزَّبد الذاهب ، فهو وإِن علا على الماء فانه سيمَّحِق ، كذلك الباطل ، وإِن ظهر على الحق في بعض الأحوال ، فإن الله سيُبطله .
والثالث : أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فمثَل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفَع به ، ومثَل الكافر واعتقاده وعمله كالزبَد .
قوله تعالى : { كذلك } أي : كما ذُكر هذا ، يضرب الله مَثل الحق والباطل . وقال أبو عبيدة : كذلك يمثِّل الله الحق ويمثِّل الباطل .
فأما الجُفاء ، فقال ابن قتيبة : هو ما رمى به الوادي إِلى جنَباته ، يقال : أجفأتِ القِدرُ بزَبَدها : إِذا ألقته عنها . قال ابن فارس : الجُفاء : ما نفاه السيل ، ومنه اشتقاق الجَفاء . وقال ابن الأنباري : «جُفاءً» أي : بالياً متفرقاً . قال ابن عباس : إِذا مُسَّ الزَّبَد لم يكن شيئاً .
قوله تعالى : { وأما ما ينفع الناس } من الماء والجواهر التي زال زَبَدها { فيمكث في الأرض } فيُنتفع به { كذلك } يبقى الحق لأهله .
قوله تعالى : { للذين استجابوا لربهم } يعني : المؤمنين ، { والذين لم يستجيبوا له } يعني : الكفار . قال أبو عبيدة : استجبت لك واستجبتك سواء ، وهو بمعنى : أجبت .
وفي الحُسنى ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها الجنة ، قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني : أنها الحياة والرزق ، قاله مجاهد . والثالث : كل خير من الجنة فما دونها ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { لا فتدَوْا به } اي : لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، ولا يُقبل منهم . وفي سوء الحساب ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها المناقشة بالأعمال ، رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس . وقال النخعي : هو أن يحاسَب بذنبه كله ، فلا يُغفر له منه شيء .
والثاني : أن لا تُقبل منهم حسنة ، ولا يُتجاوز لهم عن سيئة .
والثالث : أنه التوبيخ والتقريع عند الحساب .
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
قوله تعالى : { أفمن يعلم أن ما أُنزل إِليك من ربك الحق كمن هو أعمى } قال ابن عباس : نزلت في حمزة ، وأبي جهل . { إِنما يتذكر } أي : إِنما يتَّعظ ذوو العقول . والتذكُّر : الاتعاظ .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
قوله تعالى : { الذين يوفون بعهد الله } في هذا العهد قولان :
أحدهما : أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم .
والثاني : ما أمرهم به وفرضه عليهم . وفي الذي أمر الله به ، عز وجل ، أن يوصل ، ثلاثة أقوال قد نسبناها إِلى قائلها في أول سورة [ البقرة : 27 ] ، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفاً .
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قوله تعالى : { والذين صبروا } أي : على ما أُمروا به { ابتغاء وجه ربهم } أي : طلباً لرضاه { وأقاموا الصلاة } أتمُّوها { وأنفقوا مما رزقناهم } من الأموال في طاعة الله . قال ابن عباس : يريد بالصلاة : الصلوات الخمس ، وبالإِنفاق : الزكاة .
قوله تعالى : { ويدرؤون } أي : يدفعون { بالحسنة السيئة } . وفي المراد بهما خمسة أقوال :
أحدها : يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل ، قاله ابن عباس . والثاني : يدفعون بالمعروف المنكر ، قاله سعيد بن جبير . والثالث : بالعفو الظلمَ ، قاله جُوَيبر . والرابع : بالحلم السفهَ ، كأنهم إِذا سُفه عليهم حَلُموا ، قاله ابن قتيبة .
والخامس : بالتوبة الذنْبَ ، قاله ابن كيسان .
قوله تعالى : { أولئك لهم عقبى الدار } قال ابن عباس : يريد : عقباهم الجنة ، أي : تصير الجنة آخر أمرهم .
قوله تعالى : { ومن صلح } وقرأ ابن أبي عبلة : «صلُح» بضم اللام . ومعنى «صلح» آمن ، وذلك أن الله تعالى ألحق بالمؤمن أهله المؤمنين إِكراماً له ، لتقرَّ عينُه بهم . { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } قال ابن عباس : بالتحية من الله والتحفة والهدايا .
قوله تعالى : { سلام عليكم } قال الزجاج : أُضمر القول هاهنا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . وفي هذا السلام قولان :
أحدهما : أنه التحية المعروفة ، يدخل الملَك فيسلِّم وينصرف . قال ابن الأنباري : وفي قول المسلِّم : سلام عليكم ، قولان : أحدهما : أن السلام : اللهُ عز وجل ، والمعنى : الله عليكم ، أي : على حفظكم . والثاني : أن المعنى : السلامة عليكم ، فالسلام جمع سلامة .
والثاني : أن معناه : إِنما سلَّمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرِّها بصبركم في الدنيا .
وفيما صبروا عليه خمسة أقوال :
أحدها : أنه أمر الله ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : فضول الدنيا ، قاله الحسن .
والثالث : الدِّين .
والرابع : الفقر ، رويا عن أبي عمران الجَوني .
والخامس : أنه فقد المحبوب ، قاله ابن زيد .
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
قوله تعالى : { والذين ينقضون عهد الله } قد سبق تفسيره في سورة [ البقرة : 27 ] . وقال مقاتل : نزلت في كفار أهل الكتاب .
قوله تعالى : { أولئك لهم اللعنة } أي : عليهم .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
قوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء } أي : يوسِّع على من يشاء { ويقدر } أي : يضيِّق . { وفرحوا بالحياة الدنيا } قال ابن عباس : يريد مشركي مكة ، فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغَوْا وكذَّبوا الرسل .
قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة } أي : بالقياس إِليها { إِلا متاع } أي : كالشيء الذي يُتمتع به ، ثم يفنى .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
قوله تعالى : { ويقول الذين كفروا } نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل آيات الأنبياء . { قل إِن الله يُضل من يشاء } أي : يردُّه عن الهدى كما ردَّكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها ، { ويهدي إِليه من أناب } أي : رجع إِلى الحق ، وإِنما يرجع إِلى الحق من شاء اللهُ رجوعه ، فكأنه قال : ويهدي من يشاء .
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله تعالى : { الذين آمنوا } هذا بدل من قوله : { أناب } ، والمعنى : يهدي الذين آمنوا ، { وتطمئن قلوبهم بذِكر الله } في هذا الذِّكر قولان :
أحدهما : أنه القرآن . والثاني : ذِكر الله على الإِطلاق .
وفي معنى هذه الطمأنينة قولان :
أحدهما : أنها الحُب له والأُنس به . والثاني : السكون إِليه من غير شك ، بخلاف الذين إِذا ذُكر الله اشمأزت قلوبهم .
قوله تعالى : { ألا بذِكر الله } قال الزجاج : «ألا» حرف تنبيه وابتداء ، والمعنى : تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين ، لأن الكافر غير مطمئن القلب .
قوله تعالى : { طوبى لهم } فيه ثمانية أقوال :
أحدها : أنه اسم شجرة في الجنة . روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما طوبى؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ، وقال أبو هريرة : طوبى : شجرة في الجنة ، يقول الله عز وجل لها : تفتَّقي لعبدي عما شاء ، فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجمها ، وعن الإِبل بأزمَّتها : وعمَّا شاء من الكسوة . وقال شهر بن حوشب : طوبى : شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها أغصانها ، من وراء سور الجنة ، وهذا مذهب عطية ، وشمر بن عطية ، ومغيث بن سُمَي ، وأبي صالح .
والثاني : أنه اسم الجنة بالحبشية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . قال المصنف : وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مَسْجوح قال : طوبى : اسم الجنة بالهندية ، وممن ذهب إِلى أنه اسم الجنة عكرمة ، وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : أن معنى طوبى لهم : فرح وقُرَّة عين لهم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أن معناه : نُعمى لهم ، قاله عكرمة في رواية ، وفي رواية أخرى عنه : نِعم مالهم .
والخامس : غبطة لهم ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .
والسادس : أن معناه : خير لهم ، قاله النخعي في رواية ، وفي أخرى عنه قال : الخير والكرامة اللَّذان أعطاهم الله . وروى معمر عن قتادة قال : يقول الرجل للرجل : طوبى لك ، أي : أصبتَ خيراً ، وهي كلمة عربية .
والسابع : حسنى لهم ، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن .
والثامن : أن المعنى : العيش الطِّيب لهم . «و طوبى» عند النحويين : فُعلى من الطيب ، هذا قول الزجاج . وقال ابن الأنباري : تأويلها : الحال المستطابة ، والخَلَّة المستلَذَّة ، وأصلها : «طُيْبى» فصارت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت في «مُوقن» والأصل فيه «مُيْقن» لأنه مأخوذ من اليقين ، فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واواً .
قوله تعالى : { وحسن مآب } المآب : المرجع والمنقلَب .
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قوله تعالى : { كذلك أرسلناك } أي : كما أرسنا الأنبياء قبلك .
قوله تعالى : { وهم يكفرون بالرحمن } في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لكفار قريش : اسجدوا للرحمن ، قالوا : وما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية ، وقيل لهم : إِن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي ، هذا قول الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية ، كتب عليّ عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن إِلا مسيلمة ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل .
والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً في الحِجْر يدعو ، وأبو جهل يستمع إِليه وهو يقول : يا رحمن ، فولى مُدْبراً إِلى المشركين فقال : إِن محمداً كان ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين! فنزلت هذه الآية ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى : { وإِليه متاب } قال أبو عبيدة : هو مصدر تُبت إِليه .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله تعالى : { ولو أن قرآناً سُيِّرت به الجبال } سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو وسَّعت لنا أودية مكة بالقرآن ، وسيَّرت جبالها فاحترثناها ، وأحييت من مات منا ، فنزلت هذه الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال الزبير بن العوّام : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يسيِّر عنا هذه الجبال ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنزرع ، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم ، أو يصيّر هذه الصخرة ذهباً فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إِلا أن كذَّب بها الأولون } [ الاسراء : 59 ] . ومعنى قوله : { أو قطِّعت به الأرض } أي : شقِّقت فجُعلت أنهاراً ، { أو كلِّم به الموتى } أي : أُحيوا حتى كلّموا .
واختلفوا في جواب «لو» على قولين :
أحدهما : أنه محذوف . وفي تقدير الكلام قولان : أحدهما : أن تقديره : لكان هذا القرآن ، ذكره الفراء ، وابن قتيبة . قال قتادة : لو فُعل هذا بقرآن غيرِ قرآنكم . لفُعل بقرآنكم . والثاني : أن تقديره : لو كان هذا كلّه لما آمنوا . ودليله قوله تعالى : { ولو أننا نزَّلنا إِليهم الملائكة . . . } إِلى آخر الآية [ الأنعام : 111 ] ، قاله الزجاج .
والثاني : أن جواب «لو» مقدَّم ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ، ولو أنزلنا عليهم ما سألوا ، ذكره الفراء أيضاً .
قوله تعالى : { بل لله الأمر جميعاً } أي : لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإِذا لم يشأْ ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات . ثم أكد ذلك بقوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : أفلم يتبيَّن ، رواه العَوفي عن ابن عباس ، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك ، ويقول : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، ومقاتل .
والثاني : أفلم يعلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : ويقال : هي لغة للنَّخَع «ييأس» بمعنى «يعلم» قال الشاعر :
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارِسَ زَهْدَمِ
وإِنما وقع اليأس في مكان العلِم ، لأن في علمك الشيء وتيقُّنك به يأسَك من غيره .
والثالث : أن المعنى : قد يئس الذين آمنوا أن يَهدوا واحداً ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً ، قاله أبو العالية .
والرابع : أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون ، قاله الكسائي . وقال الزجاج : المعنى عندي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إِيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون ، لأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً .
قوله تعالى : { ولا يزال الذين كفروا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم جميع الكفار ، قاله ابن السائب . والثاني : كفار مكة ، قاله مقاتل .
فأما القارعة ، فقال الزجاج : هي في اللغة : النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم .
وفي المراد بها هاهنا قولان :
أحدهما : أنها عذاب من السماء ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : السرايا والطلائع التي كان يُنفِذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عكرمة .
وفي قوله : { أو تَحُلُّ قريباً من دارهم } قولان :
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أو تَحُلُّ أنت يا محمد ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .
والثاني : أنها القارعة ، قاله الحسن .
وفي قوله : { حتى يأتيَ وعد الله } قولان :
أحدهما : فتح مكة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : القيامة ، قاله الحسن .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } يعني : نفسه عز وجل . ومعنى القيام هاهنا : التولي لأمور خَلقه ، والتدبير لأرزاقهم وآجالهم ، وإِحصاء أعمالهم للجزاء ، والمعنى : أفمن هو مجازي كلّ نفس بما كسبت ، يثيبها إِذا أحسنت ، ويأخذها بما جنت ، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام؟ قال الفراء : فتُرك جوابه ، لأن المعنى معلوم ، وقد بيَّنه بعد هذا بقوله : { وجعلوا لله شركاء } كأنه قيل : كشركائهم .
قوله تعالى : { قل سمَّوهم } أي : بما يستحقونه من الصفات وإِضافةِ الأفعال إِليهم إِن كانوا شركاء لله كما يُسمى الله بالخالق ، والرازق ، والمحيي ، والمميت ، ولو سمَّوهم بشيء من هذا لكذبوا .
قوله تعالى : { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } هذا استفهام منقطع مما قبله ، والمعنى : فإن سمَّوهم بصفات الله ، فقل لهم : أتنبئونه ، أي : أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه شريكاً ، ولو كان لَعَلِمَه .
قوله تعالى : { أم بظاهر من القول } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أم بظن من القول ، قاله مجاهد . والثاني : بباطل ، قاله قتادة . والثالث : بكلام لا أصل له ولا حقيقة .
قوله تعالى : { بل زُيِّن للذين كفروا مكرُهم } قال ابن عباس : زين لهم الشيطان الكفر .
قوله تعالى : { وصدّوا عن السبيل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «وَصَدُّوا» بفتح الصاد ، ومثله في ( حم المؤمن ) [ غافر : 37 ] . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «وصُدُّوا» بالضم فيهما . فمن فتح ، أراد : صَدُّوا المسلمين ، إِما عن الإِيمان ، أو عن البيت الحرام . ومن ضم ، أراد : صدهم الله عن سبيل الهدى .
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
قوله تعالى : { لهم عذاب في الحياة الدنيا } وهو القتل ، والأسر ، والسقم ، فهو لهم في الدنيا عذاب ، وللمؤمنين كفَّارة ، { ولعذاب الآخرة أشق } أي : أشد { وما لهم من الله من واق } أي : مانع يقيهم عذابه .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قوله تعالى : { مَثَل الجنة } أي : صفتها أن الأنهار تجري من تحتها ، هذا قول الجمهور ، وقال ثعلب : خبر المثَل مُضمَر قبله ، والمعنى : فيما نصف لكم مَثَل الجنة ، وفيما نقصُّه عليكم خبر الجنة { أُكُلُها دائم } قال الحسن : يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا { وظلُّها } لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس .
قوله تعالى : { تلك عقبى الذين اتقوا } أي : عاقبة أمرهم المصير إِليها .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم مسلمو اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل : هم عبد الله بن سلام وأصحابه .
والثاني : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله قتادة .
والثالث : مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي . والذي أُنزل إِليه : القرآن ، فرح به المسلمون وصدَّقوه ، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب ، لأنه صدَّق ما عندهم . وقيل : إِن عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب ، ساءهم قِلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذِكره في التوراة ، فلما نزل ذِكره فرحوا ، وكفر المشركون به ، فنزلت هذه الآية .
فأما الأحزاب ، فهم الكفار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاداة ، وفيهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم اليهود والنصارى ، قاله قتادة .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله ابن زيد .
والثالث : بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى ، قاله مقاتل .
والرابع : كفار قريش ، ذكره الماوردي .
وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه ذِكر الرحمن والبعثِ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
والثاني : أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوَّته .
والثالث : أنهم عرفوا صِدقه ، وأنكروا تصديقه ، ذكرهما الماوردي .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
قوله تعالى : { وكذلك أنزلناه } أي : وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم ، أنزلنا عليك القرآن { حكماً عربياً } قال ابن عباس : يريد ما فيه من الفرائض . وقال أبو عبيدة : ديناً عربيّاً .
قوله تعالى : { ولئن اتبعت أهواءهم } فيه قولان :
أحدهما : في صلاتك إِلى بيت المقدس { بعد ما جاءك من العِلم } أن قبلتك الكعبة ، قاله ابن السائب .
والثاني : في قبول ما دعوك إِليه من مِلَّة آبائك ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { مالك من الله من وليّ } أي : مالك من عذاب الله من قريب ينفعك { ولا واق } يقيك .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك . . . } الآية ، سبب نزولها أن اليهود عيَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة التزويج ، وقالوا : لو كان نبياً كما يزعم ، شغلته النبوَّة عن تزويج النساء ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الآية : أن الرسل قبلك كانوا بشراً لهم أزواج ، يعني النساء ، وذريَّة ، يعني : الأولاد . { وما كان لرسول أن يأتي بآية إِلا بإذن الله } أي : بأمره ، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات .
قوله تعالى : { لكل أجل كتاب } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لكل أجل من آجال الخَلق كتاب عند الله ، قاله الحسن .
والثاني : أنه من المقدّم والمؤخّر ، والمعنى : لكل كتاب ينزل من السماء أجل . قاله الضحاك والفراء .
والثالث : لكل أجل قدَّره الله عز وجل ، ولكل أمر قضاه ، كتاب أُثبت فيه ، ولا تكون آية ولا غيرها إِلا بأجل قد قضاه الله في كتاب ، هذا معنى قول ابن جرير .
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : «ويثبت» ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «ويثبِّت» مشددة الباء مفتوحة الثاء . قال أبو علي : المعنى : ويثبِّته ، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبِت على ثمانية أقوال :
أحدها : أنه عامّ ، في الرزق ، والأجل ، والسعادة . والشقاوة ، وهذا مذهب عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج .
والثاني : أنه الناسخ والمنسوخ ، فيمحو المنسوخ ، ويثبت الناسخ ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والقرظي ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : «يمحو الله ما يشاء» أي : ينسخ من القرآن ما يشاء «ويثبت» أي : يدعه ثابتاً لا ينسخه ، وهو المُحكَم .
والثالث : أنه يمحو ما يشاء ، ويثبت ، إِلا الشقاوة والسعادة ، والحياة والموت ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ودليل هذا القول ، ما روى مسلم في «صحيحه» من حديث حذيفة بن أَسِيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة ، يقول الملَك الموكَّل : أذَكر أم أنثى؟ فيقضي الله تعالى ، ويكتب الملَك ، فيقول : أشقي ، أم سعيد؟ فيقضي الله ، ويكتب الملَك ، فيقول : عمله وأجله؟ فيقضي الله ، ويكتب الملَك ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها " . والرابع : يمحو ما يشاء ويثبت ، إِلا الشقاوة والسعادة لا يغيَّران ، قاله مجاهد .
والخامس : يمحو من جاء أجله ، ويُثبت من لم يجىء أجله ، قاله الحسن .
والسادس : يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها ، روي عن سعيد بن جبير .
والسابع : يمحو ما يشاء بالتوبة ، ويثبت مكانها حسنات ، قاله عكرمة .
والثامن : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك ، وأبو صالح . وقال ابن السائب : القول كلُّه يُكتَب ، حتى إِذا كان في يوم الخميس ، طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلتُ ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحوه ، وهو صادق ، ويُثبت ما فيه الثواب والعقاب .
قوله تعالى : { وعنده أُمُّ الكتاب } قال الزجاج : أصل الكتاب . قال المفسرون : وهو اللوح المحفوظ الذي أُثبت فيه ما يكون ويحدث وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت " وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هما كتابان ، كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أُمُّ الكتاب لا يغيَّر منه شيء .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله تعالى : { وإِمّا نُرينَّك بعض الذي نعدهم } أي : من العذاب وأنت حيٌّ أو { نتوفَّينَّك } قبل أن نريَك ذلك ، فليس عليك إِلا أن تبلّغ ، { وعلينا الحساب } قال مقاتل : يعني الجزاء . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : «فإنما عليك البلاغ» نُسخ بآية السيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
قوله تعالى : { أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } فيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضحاك . قال مقاتل : «أولم يروا» يعني : كفار مكة «أنا نأتي الأرض» يعني : أرض مكة «ننقصها من أطرافها» يعني : ما حولها .
والثاني : أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
والثالث : أنه نقص أهلها وبركتها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال الشعبي : نقص الأنفس والثمرات .
والرابع : أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والخامس : أنه موت أهلها ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة .
قوله تعالى : { والله يحكم لا معقِّب لحكمه } قال ابن قتيبة : لا يتعقَّبه أحد بتغيير ولا نقص . وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة [ البقرة : 202 ] .
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
قوله تعالى : { وقد مكر الذين من قبلهم } يعني : كفار الأمم الخالية ، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم ، كما مكرت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه . { فلله المكر جميعاً } يعني : أن مَكر الماكرين مخلوق له ، ولا يضرُّ إِلا بإرادته؛ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين له . { يعلم ماتكسب كل نفس } من خير وشر ، ولا يقع ضرر إِلا بإذنه . { وسيعلم الكافر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وسيعلم الكافر» . قال ابن عباس : يعني : أبا جهل . وقال الزجاج : الكافر هاهنا : اسم جنس . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «الكفار» على الجمع .
قوله تعالى : { لمن عقبى الدار } أي : لمن الجنة آخر الأمر .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله تعالى : { ويقول الذين كفروا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى . والثاني : كفار قريش . { قل كفى بالله شهيداً } أي : شاهداً { بيني وبينكم } بما أظهرَ من الآيات ، وأبان من الدلالات على نبوَّتي .
قوله تعالى : { ومن عنده علم الكتاب } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنهم علماء اليهود والنصارى ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه عبد الله بن سلام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعِكرمة ، وابن زيد ، وابن السائب ، ومُقاتل .
والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق ، منهم عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداريّ ، قاله قتادة .
والرابع : أنه جبريل عليه السلام ، قاله سعيد بن جُبير .
والخامس : أنه علي بن أبي طالب ، قاله ابن الحنفية .
والسادس : أنه بنيامين ، قاله شمر .
والسابع : أنه الله تعالى ، روي عن الحسن ، ومجاهد ، واختاره الزجاج واحتجَّ له بقراءة من قرأ : «ومِنْ عِندِه عُلِمَ الكتابُ» وهي قراءة ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة ، ومجاهد ، وأبي حيوة . ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي : «ومِنْ» بكسر الميم «عِندِه» بكسر الدال «عُلِمَ» بضم الميم وكسر اللام وفتح الميم «الكتابُ» بالرفع . وقرأ الحسن «ومِنْ» بكسر الميم «عندِه» بكسر الدال «عِلْمُ» بكسر العين وضمِّ الميم «الكتابِ» مضاف ، كأنه قال : أُنزل من عِلم الله عز وجل .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
قوله تعالى : { الر } قد سبق بيانه [ يونس : 1 ] . وقوله : { كتابٌ } قال الزجاج : المعنى : هذا كتاب ، والكتاب ، القرآن .
وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الظلمات : الكفر ، والنور : الإِيمان ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أن الظلمات : الضلالة ، والنور : الهدى ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : أن الظلمات : الشكُّ ، والنور : اليقين ، ذكره الماوردي .
وفي قوله : { بإذن ربهم } ثلاثة أقوال :
أحدها : بأمر ربهم ، قاله مقاتل .
والثاني : بتوفيق ربهم ، قاله أبو سليمان .
والثالث : أنه الإِذن نفسه ، فالمعنى : بما أَذِن لك من تعليمهم ، قاله الزجاج ، قال : ثم بيَّن ما النُّور ، فقال : { إِلى صراط العزيز الحميد } قال ابن الأنباري : وهذا مِثْلُ قول العرب : جلست إِلى زيد ، إِلى العاقل الفاضل ، وإِنما تُعاد «إِلى» بمعنى التعظيم للأمر ، قال الشاعر :
إِذَا خَدِرَتْ رِجْلي تَذَكّرْتُ مَنْ لَهَا ... فَنَادَيْتُ لُبْنَى بِاسْمِهَا وَدَعَوْتُ
دَعَوْتُ الَّتِي لَوَ أَنَّ نَفْسِي تُطِيعُنِي ... لأَلْقَيْتُها من حُبِّها وقضَيتُ
فأعاد «دعوت» لتفخيم الأمر .
قوله تعالى : { اللهِ الذي له ما في السموات } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «الحميدِ اللهِ» على البدل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبان ، والمفضَّل : «الحميدِ . اللهُ» رفعاً على الاستئناف ، وقد سبق بيان ألفاظ الآية .
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
قوله تعالى : { الذين يستحبُّون الحياة الدنيا } أي : يؤثرونها { على الآخرة } قال ابن عباس : يأخذون ما تعجَّل لهم منها تهاوُناً بأمر الآخرة .
قوله تعالى : { ويَصُدُّون عن سبيل } أي : يمنعون الناس من الدخول في دِينه ، { ويبغونها عِوَجاً } قد شرحناه في [ آل عمران : 99 ] .
قوله تعالى : { أولئك في ضلال } أي : في ذهاب عن الحق { بعيد } من الصواب .
قوله تعالى : { إِلا بلسان قومه } أي : بلُغتهم . قال ابن الأنباري : ومعنى اللغة عند العرب : الكلام المنطوق به ، وهو مأخوذ من قولهم : لَغا الطائر يَلْغُو : إِذا صَوَّت في الغَلَس . وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجُحدري : «إِلاَّ بِلُسُنِ قومه» برفع اللام والسين من غير ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بِلِسْنِ قومه» بكسر اللام وسكون السين من غير ألف .
قوله تعالى : { ليُبيِّن لهم } أي : الذي أُرسل به فيفهمونه عنه . وهذا نزل ، لأن قريشاً قالوا : ما بال الكتب كلِّها أعجمية ، وهذا عربي!
قوله تعالى : { أن أَخرج قومك } قال الزجاج : «أن» مفسِّر ، والمعنى : قلنا له : أَخرج قومك . وقد سبق بيان الظلمات والنور [ البقرة : 257 ] .
وفي قوله : { وذكِّرهم بأيام الله } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها نِعَمُ الله ، رواه أُبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وابن قتيبة .
والثاني : أنها وقائع الله في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد ، وابن السائب ، ومقاتل .
والثالث : أنها أيام نِعَم الله عليهم وأيام نِقَمِه ممن كَفر من قوم نوح وعاد وثمود ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { إِن في ذلك } يعني : التذكير { لآيات لكل صبَّار } على طاعة الله وعن معصيته { شَكور } لأنعُمه . والصبَّار : الكثير الصبر ، والشَّكور : الكثير الشُّكر ، وإِنما خصه بالآيات ، لانتفاعه بها . وما بعد هذا مشروح في سورة [ البقرة : 49 ] .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قوله تعالى : { وإِذ تأذَّن ربُّكم } مذكور في [ الأعراف : 167 ] .
وفي قوله : { لئن شكرتم لأزيدنكم } ثلاثة أقوال :
أحدها : لئن شكرتم نِعَمي لأزيدنكم من طاعتي ، قاله الحسن .
والثاني : لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي ، قاله الربيع .
والثالث : لئن وحَّدتموني لأزيدنكم خيراً في الدنيا ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { ولئن كفرتم } قولان .
أحدهما : أنه كفر بالتوحيد . والثاني : كفران النِّعَم .
قوله تعالى : { فإن الله لغني حميد } أي : غني عن خَلْقه ، محمود في أفعاله ، لأنه إِمّا متفضِّل بفعله ، أو عادل .
قوله تعالى : { لا يعلمهم إِلا الله } قال ابن الأنباري : أي : لا يحصي عددهم إِلا هو ، على أن الله تعالى أهلك أُمماً من العرب وغيرها ، فانقطعت أخبارهم ، وعفَت آثارهم ، فليس يعلمهم أحد إِلا الله .
قوله تعالى : { فرَدُّوا أيديَهم في أفواههم } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنهم عضُّوا أصابعهم غيظاً ، قاله ابن مسعود ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : «في» هاهنا بمعنى : «إِلى» ومعنى الكلام : عضُّوا عليها حَنَقاً وغيظاً ، كما قال الشاعر :
يَرُدُّون في فيه عَشْرَ الحَسودِ ... يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يَعَضَّ على أصابعه العشر ، ونحوه قول الهذلي :
قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُهُ ... فأضحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا
يقول : قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعضِّ ، فأضحى يعضُّ عليَّ وظيف الذارع .
والثاني : أنهم كانوا إِذا جاءهم الرسول فقال : إِني رسول ، قالوا له : اسكت ، وأشاروا بأصابعهم إِلى أفواه أنفسهم ، رَدَّاً عليه وتكذيباً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنهم لما سمعوا كتاب الله ، عجّوا ورجعوا بأيديهم إِلى أفواههم ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والرابع : أنهم وضعوا أيديَهم على أفواه الرسل . ردَّاً لقولهم ، قاله الحسن .
والخامس : أنهم كذَّبوهم بأفواههم ، وردُّوا عليهم قولهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والسادس : أنه مَثَلٌ ، ومعناه : أنهم كَفُّوا عما أُمروا بقبوله من الحق ، ولم يؤمنوا به . يقال : رَدَّ فلان يده إِلى فمه ، أي : أمسك فلم يُجِب ، قاله أبو عبيدة .
والسابع : رَدُّوا ما لَوْ قبلوه لكان نِعَماً وأياديَ من الله ، فتكون الأيدي بمعنى : الأيادي ، و«في» بمعنى : الباء ، والمعنى : رَدُّوا الأياديَ بأفواههم ذكره الفراء ، وقال : قد وجدنا مِن العرب مَن يجعل «في» موضعَ الباء ، فيقول : أدخلك الله بالجنة ، يريد : في الجنة ، وأنشدني بعضهم :
وأَرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورهطِهِ ... ولكنَّني عن سَنْبَسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ
فقال : أرغب فيها ، يعني : بنتاً له ، يريد : أرغب بها ، وسَنْبَسُ : قبيلة .
قوله تعالى : { وقالوا إِنا كفرنا بما أُرسلتم به } أي : على زعمكم أنكم أُرسلتم ، لا أنهم أقرُّوا بإرسالهم . وباقي الآية قد سبق تفسيره [ هود : 62 ] . { قالت رسلهم أفي الله شك } هذا استفهام إِنكار ، والمعنى ، لا شك في الله ، أي : في توحيده { يدعوكم } بالرسل والكتب { ليغفرَ لكم من ذنوبكم } قال أبو عبيدة : «مِن» زائدة ، كقوله :
{ فما منكم من أَحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] ، قال أبو ذؤيب :
جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الحُبِّ لمَّا شَكَوتِهِ ... وما إِن جزاكِ الضِّعْفَ مِن أَحَدٍ قَبْلي
أي : أَحَدٌ . وقوله : { ويؤخِّرَكم إِلى أَجَل مسمّى } وهو الموت ، والمعنى : لا يعاجلكم بالعذاب . { قالوا } للرسل { إِن أنتم } أي : ما أنتم { إِلا بَشَر مِثلنا } أي : ليس لكم علينا فضل ، والسلطان : الحُجَّة . قالت الرسل : { إِن نحن إِلا بَشَر مثلكم } فاعترفوا لهم بذلك ، { ولكنَّ الله يمنُّ على من يشاء } يعنون : بالنبوَّة والرسالة ، { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إِلا بإذن الله } أي : ليس ذلك من قِبَل أنفسنا .
قوله تعالى : { وقد هدانا سُبُلَنَا } فيه قولان :
أحدهما : بيَّن لنا رشدنا . والثاني : عرَّفنا طريق التوكل . وإِنما قُصَّ هذا وأمثالُه على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتديَ بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم .
قوله تعالى : { لنُهلكنَّ الظالمين } يعني : الكافرين بالرسل . وقوله تعالى : { مِن بعدهم } أي : بعد هلاكهم . { ذلك } الإِسكان { لمن خاف مقامي } قال ابن عباس : خاف مُقامه بين يديَّ . قال الفراء : العرب قد تضيف أفعالها إِلى أنفسها ، وإِلى ما أُوقِعَتْ عليه ، فتقول : قد ندمت على ضربي إِياك ، وندمت على ضربك ، فهذا من ذاك ، ومِثْله { وتجعلون رزقكم } [ الواقعة : 82 ] أي : رزقي إِياكم .
قوله تعالى : { وخاف وعيد } أثبت ياء «وعيدي» في الحالين يعقوب ، وتابعه ورش في الوُصْل .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قوله تعالى : { واستفتحوا } يعني : استنصروا . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وابن مُحَيصن : «واستفتِحوا» بكسر التاء على الأمر . وفي المشار إِليهم قولان :
أحدهما : أنهم الرسل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنهم الكفار ، واستفتاحهم : سؤالهم العذاب ، كقولهم : { ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا } [ ص : 16 ] وقولهم : { إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك . . . } الآية [ الأنفال : 32 ] ، هذا قول ابن زيد .
قوله تعالى : { وخاب كل جبَّار عنيد } قال ابن السائب : خسر عند الدعاء ، وقال مقاتل : خسر عند نزول العذاب ، وقال أبو سليمان الدمشقي : يئس من الإِجابة . وقد شرحنا معنى الجبَّار والعنيد في [ هود : 59 ] .
قوله تعالى : { من ورائه جهنم } فيه قولان :
أحدهما : أنه بمعنى القُدَّام ، قال ابن عباس ، يريد : أمامه جهنم . وقال أبو عبيدة : «من ورائه» أي : قُدّامه وأمامه ، يقال : الموت من ورائك ، وأنشد :
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَان سَمْعي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمي تَمِيمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا
والثاني : أنها بمعنى : «بَعْد» ، قال ابن الأنباري : «من ورائه» أي : من بعد يأسه ، فدلَّ «خاب» على اليأس ، فكنى عنه ، وحملت «وراء» على معنى : «بَعْد» كما قال النابغة :
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ للمرءِ مَذْهَبُ
أراد : ليس بَعْد الله مَذهب . قال الزجاج : والوراء يكون بمعنى الخَلْف والقُدَّام ، لأن ما بين يديك وما قُدَّامك إِذا توارى عنك فقد صار وراءك ، قال الشاعر :
أَلَيْسَ وَرَائَي إِن تَرَاخَتْ مَنِيتَّي ... لُزُومُ العَصَا تُحنَى عليها الأَصَابِع
قال : وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة . وسئل ثعلب : لم قيل : الوراء للأمام؟ فقال : الوراء : اسم لما توارى عن عينك ، سواء أكان أمامك أو خلفك . وقال الفراء : إِنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر ، تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد . ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك : هو وراءك ، ولا للرجُل : وراءك : هو بين يديك .
قوله تعالى : { ويُسقى من ماءٍ صديد } قال عكرمة ، ومجاهد ، واللغويون : الصديد : القيح والدَّم ، قاله قتادة ، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه .
وقال القرظي : هو غُسالة أهل النار ، وذلك مايسيل من فروج الزناة . وقال ابن قتيبة : المعنى : يُسقى الصديدَ مكانَ الماء ، قال : ويجوز أن يكون على التشبيه ، أي : ما يُسقَى ماءٌ كأنه صديد .
قوله تعالى : { يتجرَّعه } والتجرع : تناول المشروب جُرعة جُرعة ، لا في مرة واحدة ، وذلك لشدة كراهته له ، وإنما يُكرهه على شربه .
قوله تعالى : { ولا يكاد يُسيغه } قال الزجاج : لا يقدر على ابتلاعه ، تقول : ساغ لي الشيء ، وأسغته . وروى أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُقرَّب إِليه فيكرهه ، فإذا أُدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطَّع أمعاءه حتى يخرج من دبره " .