كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
قوله تعالى : { إِذا نَكَحْتُم المُؤْمِنات } قال الزجاج : معنى { نَكَحْتُم } : تزوَّجتم . ومعنى { تَمَسَّوهُنَّ } تَقْربوهن . وقرأ حمزة ، والكسائي : { تُمَاسُّوهُنَّ } بألف .
قوله تعالى : { فما لكم عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تعتدُّونها } أجمع العلماء أنه إِذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عِدَّة؛ وعندنا أن الخلوة توجب العِدَّه وتقرِّر الصَّداق ، خلافاً للشافعي .
قوله تعالى : { فمتِّعوهُنَّ } المراد به من لم يُسمِّ لها مهراً ، لقوله في [ البقرة : 236 ] { أو تَفْرِضوا لَهُنَّ فريضةً } وقد بيَّنَّا المتعة هنالك وكان سعيد بن المسيّب وقتادة يقولان : هذه الآية منسوخة بقوله : { فنِصْفُ ما فَرَضْتم } [ البقرة : 237 ] .
قوله تعالى : { وسَرِّحوهُنّ سَرَاحاً جميلاً } أي : من غير إِضرار . وقال قتادة : هو طلاقها طاهراً من غير جماع . وقال القاضي أبو يعلي : الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق ، لأنه قد ذكر الطلاق ، وإِنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها ، وأن عليه تخليتها من يده وحِباله .
فصل
واختلف العلماء فيمن قال : إِن تزوجتُ فلانة فهي طالق ، ثم تزوجها؛ فعندنا أنها لا تطلق ، وهو قول ابن عباس ، وعائشة ، والشافعي ، واستدل أصحابنا بهذه الآية ، وأنه جعل الطلاق بَعد النكاح . وقال سماك بن الفضل : النِّكاح عُقدة ، والطلاق يَحُلُّها ، فكيف يحلُّ عقدة لم تُعقد؟! فجُعل بهذه الكلمة قاضياً على «صنعاء» . وقال أبو حنيفة : ينعقد الطلاق ، فاذا وُجد النكاح وقع . وقال مالك : ينعقد ذلك في خصوص النساء ، وهو إِذا كان في امرأة بعينها ، ولا ينعقد في عمومهن . فأما إِذا قال : إِن ملكتُ فلاناً فهو حُرّ ، ففيه عن أحمد روايتان .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
قوله تعالى : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لكَ أزواجكَ } ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلَّها له ، فقال : { أزواجَك اللاَّتي آتيتَ أُجورهُنَّ } أي : مهورهُنَّ ، وهُنَّ اللَّواتي تزوَّجْتَهُنَّ بصداق { وما ملكتْ يمينُك } يعني الجواري { مِمَّا أفاء اللّهُ عليك } أي : ردَّ عليك من الكفار ، كصفيَّة وجُوَيرية ، فانه أعتقهما وتزوجهما { وبناتِ عمِّك وبناتِ عمَّاتك } يعني نساء قريش { وبتاتِ خالك وبناتِ خالاتك } يعني نساء بني زُهْرة { اللاَّتي هاجرن معك } إِلى المدينة . قال القاضي أبو يعلى : و [ ظاهر ] هذا يدلُّ على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يَحِلَّ له نكاحها . وقالت أُمُّ هانىء : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إِليه بعذر ، ثم أنزل اللّهُ تعالى : { إِنَّا أَحللنا لك أزواجك } إِلى قوله : { اللاَّتي هاجَرْنَ معك } ، قالت : فلم أكن لأحَلَّ له ، لأنِّي لم أُهاجِر معه ، كنتُ من الطُّلَقاء؛ وهذا يدلُّ مِنْ مذهبها أنَّ تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر مَنْ لم تُهاجِر .
وذكر بعض المفسرين : أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ ، ولم يذكر ناسخه . وحكى الماوردي في ذلك قولين .
أحدهما : أن الهجرة شرط في إِحلال النساء له على الإِطلاق .
والثاني : أنه شرط في إِحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات .
قوله تعالى : { وامرأةً مؤمنةً } أي : وأَحلَلْنا لك امرأة مؤمنة { إِنْ وهبتْ نَفْسَها } لك ، { إِن أراد النبيُّ أن يَستنكحها } أي : إِن آثر نكاحها { خالصةً لكَ } أي : خاصة . قال الزجّاج : وإِنما قال : { إِن وهبتْ نَفْسَها للنبيِّ } ، ولم يقل : «لك» ، لأنه لو قال : «لك» ، جاز أن يُتوهَّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاز في بنات العمِّ وبنات العمَّات . { وخالصةً } منصوب على الحال .
وللمفسرين في معنى { خالصةً } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المراة إِذا وهبت له نفسها ، لم يلزمه صَداقُها دون غيره من المؤمنين ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب .
والثاني : أنَّ له أن يَنْكِحها بِلاَ وليّ ولا مَهْر دون غيره ، قاله قتادة .
والثالث : خالصةً لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين ، وهذا قول الشافعي ، وأحمد .
وفي المرأة التي وهبتْ له نَفْسها أقوال .
أحدها : أُمّ شَريك . والثاني : خولة بنت حكيم . ولم يدخل بواحدة منهما . وذكروا أن لبلى بنت الخطيم وهبت نفسها له فلم يقبلها . قال ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له . وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث؛ وعن الشعبي : أنها زينب بنت خزيمة . والأول : أصح .
قوله تعالى : { قد عَلِمْنَا ما فَرَضْنا عليهم } أي : على المؤمنين غيرك { في أزواجهم } وفيه قولان .
أحدهما : أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة ، قاله مجاهد .
والثاني : أن لا يتزوج الرجل المرأة إِلاَّ بوليّ وشاهدَين وصَدَاق ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وما مَلَكَتْ أيمانُهم } أي : وما أَبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور .
قوله تعالى : { لِكَيْلا يكونَ عليكَ حَرَجٌ } هذا فيه تقديم؛ المعنى : أَحللْنا لك أزواجك ، إِلى قوله : { خالصةً لك من دون المؤمنين } { لكيلا يكون عليك حرج } .
قوله تعالى : { تُرْجِي من تشاءُ مِنْهُنَّ } قرأ ابن كثير ، وأبوعمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { تُرْجِىء } مهموزاً؛ وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بغير همز . وسبب نزولها أنه لمَّا نزلت آية التخيير المتقدِّمة ، أشفقْنَ أن يُطَلَّقْنَ ، فقُلْنَ : يا نبيَّ الله ، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودَعْنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو رزين .
وفي معنى الآية أربعة أقوال .
أحدها : تطلِّق من تشاء من نسائك ، وتُمْسِك من تشاء من نسائك ، قاله ابن عباس .
والثاني : تترُك نكاح من تشاء ، وتَنْكِح من نساء أُمَّتك من تشاء ، قاله الحسن .
والثالث : تَعْزِل من شئتَ من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق ، وتأتي من تشاء فلا تَعْزِلها . قاله مجاهد .
والرابع : تَقْبَل من تشاء من المؤمنات اللواتي يَهَبْنَ أنفُسَهُنَّ ، وتترُك من تشاء ، قاله الشعبي ، وعكرمة .
وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحَبة نسائه كيف شاء من غير إِيجاب القِسْمة عليه والتسوية بينهنّ ، غير أنه كان يسوِّي بينهنّ . وقال الزُّهري : ما عَلِمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أرجأ منهنَّ أحداً ، ولقد آواهنَّ كلَّهنَّ حتى مات . وقال أبو رزين : آوى عائشة ، وأُم سلمة ، وحفصة ، وزينب ، وكان قَسْمُه من نَفْسه وماله فيهنَّ سواءً . وأرجأ سَوْدة ، وجُوَيرية ، وصفيَّة ، وأُمَّ حبيبة ، وميمونة ، وكان يَقْسِم لهنَّ ما شاء . وكان أراد فراقهنَّ فقُلن : اقسم لنا ما شئتَ ، ودَعْنا على حالنا . وقال قوم : إِنَّما أرجأ سَودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة ، فتوفي وهو يَقْسِم لثمان .
قوله تعالى : { وتُؤوي } أي : تضم ، { ومن ابتغيتَ ممَّن عَزَلْتَ } أي : إِذا أردتَ أن تُؤوي إِليك امرأةً ممَّن عزلتَ من القسمة { فلا جُنَاحَ عليكَ } أي : لا مَيْلَ عليك بلَوْم ولا عَتْب { ذلكَ أدنى أن تَقَرَّ أعيُنُهُنَّ } أي : ذلك التخيير الذي خيَّرناك في صُحبتهنّ أقرب إِلى رضاهنّ . والمعنى : إِنهنّ إِذا عَلِمن أنَّ هذا أَمر من الله ، كان أطيبَ لأنفُسهنّ . وقرأ ابن محيصن ، وأبو عمران الجوني : { أن تُقِرَّ } بضم التاء وكسر القاف { أعيُنَهُنَّ } بنصب النون . { ويَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : بما أعطيتَهُنّ من تقريب وتأخير { واللّهُ يعلم ما في قلوبكم } من المَيْل إِلى بعضهنّ . والمعنى : إِنما خيَّرناك تسهيلاً عليك .
قوله تعالى : { لا يَحِلُّ لكَ النِّساءُ } كلُّهم قرأ : { لا يَحِلُّ } بالياء ، غير أبي عمرو ، فانه قرأ بالتاء؛ والتأنيث ليس بحقيقي ، إِنما هو تأنيث الجمع ، فالقراءتان حسنتان .
وفي قوله { مِنْ بَعْدُ } ثلاثة أقوال .
أحدها : من بعد نسائك اللواتي خيرتَهُنَّ فاخترنَ اللّهَ ورسولَه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين ، وهُنَّ التِّسع ، فصار [ مقصوراً ] عليهنّ ممنوعاً من غيرهن وذكر أهل العِلْم أن طلاقه لحفصة وعَزْمه على طلاق سَوْدة كان قبل التخيير .
والثاني : من بعد الذي أحلَلْنا لك ، فكانت الإِباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله : { إِنَّا أَحلَلْنَا لكَ أزواجَكَ } إِلى قوله : { خالصةً لكَ } ؛ قاله أُبيُّ بن كعب ، والضحاك .
والثالث : لا تَحِلُّ لك النساء غير المُسْلِمات كاليهوديّات والنصرانيّات والمشركات ، وتَحِلُّ لك المسلمات ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ولا أن تَبَدَّلَ بهنَّ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ ، قاله الضحاك .
والثاني : أن تبدِّل بالمسلمات المشركات ، قاله مجاهد في آخرين .
والثالث : أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته ، وهذه كانت عادة للجاهلية ، قاله أبو هريرة ، وابن زيد .
قوله تعالى : { إِلاَّ ما مَلَكَتْ يمينُك } يعني الإِماء .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : إِلا أن تَملك بالسَّبي ، فيَحِلّ لك وطؤها وإِن كانت من غير الصِّنف الذي أحلَلْتُه لك؛ وإِلى هذا أومأ أُبيُّ بن كعب في آخرين .
والثاني : إِلاَّ أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثالث : إِلاَّ أن تبدِّل أَمَتَك بأَمَة غيرك ، قاله ابن زيد .
قال أبو سليمان الدمشقي : وهذه الأقوال جائزة ، إِلاَّ أنَّا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين ، ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت .
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها منسوخة بقوله : { إِنَّا أَحْلَلْنا لك أزواجك } ، وهذا مروي عن عليٍّ ، وابن عباس ، وعائشة ، وأم سلمة ، وعلي بن الحسين ، والضحاك . وقالت عائشة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحِلَّ له النساء ، قال أبو سليمان الدمشقي : يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات .
والقول الثاني : أنها محكمة؛ ثم فيها قولان .
أحدهما : أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ ، ولم ينسخ هذا ، قاله الحسن ، وابن سيرين ، وأبو أُمامة بن سهل ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث .
والثاني : أن المراد بالنساء هاهنا : الكافرات ، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
قوله تعالى : { يا أيُّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيِّ . . . } الآية . في سبب نزولها ستة أقوال .
القول الأول : أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك ، " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم ، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون ، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام ، فلم يقوموا ، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام ، وقعد ثلاثة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فاذا القوم جلوس ، فرجع ، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا ، وجئتُ فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه " ، وأنزل الله تعالى هذه الآية .
والثاني : أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيَّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك ، ثم يأكلون ولا يخرُجون ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن عمر بن الخطاب قال : قلت يا رسول الله! إِن نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجر ، فلو أمرتَهُنَّ أن يَحْتَجِبْنَ ، فنزلت آية الحجاب ، أخرجه البخاري من حديث أنس ، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر ، كلاهما عن عمر .
والرابع : أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت زينب : يا ابن الخطاب ، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية ، قاله ابن مسعود .
والخامس : أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك ، فلا يفعل ، فخرجت سَوْدَةُ ليلة ، فقال عمر : قد عرفناكِ يا سَوْدَة - حرصاً على أن ينزل الحجاب - فنزل الحجاب ، رواه عكرمة عن عائشة .
والسادس : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم معه بعض أصحابه ، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة ، وكانت معهم ، فكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت آية الحجاب ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { إِلا أنْ يُؤْذَنَ لكم إِلى طعام } أي : أن تُدْعَوا إليه { غيرَ ناظرِين } أي : منتظرين { إِنَاهُ } . قال الزجاج : موضع «أنْ» نصب؛ والمعنى : إِلا بأن يؤذَنَ لكم ، أو لأَنْ يؤذَنَ ، و «وغير» منصوبة على الحال؛ والمعنى : إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين . و { وإِنَاهُ } : نُضجه وبلوغه .
قوله تعالى : { فانتشروا } أي : فاخرُجوا .
قوله تعالى : { ولا مُستأنِسِين لحديث } المعنى : ولا تدخُلوا مستأنِسِين ، أي : طالبي الأُنس لحديث ، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدَّثون طويلاً ، وكان ذلك يؤذيه ، ويستحيي أن يقول لهم : قوموا ، فعلَّمهم الله الأدب ، فذلك قوله : { والله لا يستحيي من الحقِّ } أي : لا يترُك ان يُبيّن لكم ما هو الحقّ { وإِذا سألتُموهُنَّ متاعاً } أي : شيئاً يُستمتَع به ويُنتَفع به من آلة المنزل { فاسألوهُنَّ مِنْ وراءِ حجاب ذلكُم أطهر } أي : سؤالكم إِيَّاهُنَّ المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ { لِقُلوبكم وقُلوبِهِنَّ } من الرِّيبة .
قوله تعالى : { وما كان لكم أن تُؤْذُوا رسولَ الله } أي : ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء . قال أبو عبيدة : و «كان» من حروف الزوائد . والمعنى : ما لكم أن تُؤذوا رسول الله { ولا أن تَنْكِحُوا أزواجَه مِنْ بَعده أبداً } . روى عطاء عن ابن عباس ، قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجتُ عائشة ، فأنزل الله ما أَنزل . وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله .
قوله تعالى : { إِنَّ ذلكم } يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان عند الله عظيماً } أي : ذنْباً عظيم العقوبة .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
قوله تعالى : { إِن تُبْدُوا شيئاً أو تُخْفُوه } قيل : إِنها نزلت فيما أبداه القائل : لئن مات رسول الله لأتزوجنّ عائشة .
قوله تعالى : { لا جُناح عليهنَّ في آبائهنَّ } قال المفسرون : لمَّا نزلت آية الحجاب ، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ونحن أيضاً نُكَلِّمُهُنَّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى : { لا جُناح عليهن في آبائهنَّ } أي : في أن يَرَوْهُنَّ ولا يحتجبْنَ عنهم ، إِلى قوله : { ولا نسائهنَّ } قال ابن عباس : يعني نساء المؤمنين ، لأن نساء اليهود والنصارى يَصِفْنَ لأزواجهن نساءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن رأينهنّ .
فان قيل : ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا؟ فعنه جوابان :
أحدهما : لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما ، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها ، لأنهما ينعتانها لأبنائهما ، هذا قول الشعبي وعكرمة .
والثاني : لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا ، قاله الزجاج .
فأما قوله : { ولا ما ملكتْ أيمانُهنَّ } ففيه قولان .
أحدهما : أنه أراد الإِماء دون العبيد ، قاله سعيد بن المسيب .
والثاني : أنه عامّ في العبيد والإِماء . قال ابن زيد : كُنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجِبْن من المماليك . وقد سبق بيان هذا في سورة [ النور : 31 ] .
قوله تعالى : { واتَّقِينَ الله } أي : أن يراكنَّ غير هؤلاء { إِنَّ الله كان على كل شيء شهيداً } أي : لم يَغِب عنه شيء .
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قوله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيّ } في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدَّمت في هذه السورة [ الأحزاب : 43 ] .
قوله تعالى : { صلُّوا عليه } " قال كَعْب بن عُجْرَة : قلنا : يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : قولوا : «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صلَّيت على [ آل ] إِبراهيم ، إِنَّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على [ آل ] إِبراهيم ، إِنك حميد مجيد» " ، أخرجه البخاري ومسلم . ومعنى قوله : «قد علمنا التسليم عليك» : ما يقال في التشهد : «السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته» . وذهب ابن السائب إِلى أن معنى التسليم : سلِّموا لِمَا يأمركم به .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يؤذون الله ورسوله } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفيَّة بنتُ حيَيّ ، قاله ابن عباس .
والثاني : نزلت في المصوِّرين ، قاله عكرمة .
والثالث : في المشركين واليهود والنصارى ، وصفوا الله بالولد وكذَّبوا رسوله وشجُّوا وجهه وكسروا رَباعيَته وقالوا : مجنون شاعر ساحر كذَّاب . ومعنى أذى الله : وصفُه بما هو منزَّه عنه ، وعصيانُه؛ ولعنُهم في الدنيا : بالقتل والجلاء ، وفي الآخرة : بالنار .
قوله تعالى : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرِّجة فضربها وكفَّ ما رأى من زينتها ، فذهبت إِلى أهلها تشكو ، فخرجوا إِليه فآذَوْه ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في الزُّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إِذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيرَون المرأة فيدنون منها فيغمزونها؛ وإِنما كانوا يؤذون الإِماء ، غير أنه لم تكن الأَمَة تُعرَف من الحرة ، فشكون ذلك إِلى أزواجهنّ ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي .
والثالث : أنها نزلت فيمن تكلَّم في عائشة وصفوان بن المعطِّل بالإِفك ، قاله الضحاك .
والرابع : أن ناساً من المنافقين آذَوا عليّ بن أبي طالب ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
قال المفسرون : ومعنى الآية : يرمونهم بما ليس فيهم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله تعالى : { يا أيُّها النبيُّ قل لأزواجك . . . } الآية ، سبب نزولها أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل ، فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا : هذه حُرَّة ، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا : أَمَة ، فآذَوها ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي .
قوله تعالى : { يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهنَّ } قال ابن قتيبة : يَلْبَسْنَ الأرْدية . وقال غيره : يغطِّين رؤوسهنّ ووجوهن ليُعلَم أنهنَّ حرائر { ذلك أدنى } أي : أحرى وأقرب { أن يُعْرَفْنَ } أنهنَّ حرائر { فلا يؤذَين } .
قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون } أي : عن نفاقهم { والذين في قلوبهم مرض } أي : فجور : وهم الزناة { والمُرْجِفون في المدينة } بالكذب والباطل ، يقولون : أتاكم العدوّ ، وقُتلت سراياكم وهُزمت { لَنُغْريَنَّك بهم } أي : لَنُسلِّطنَّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم . قال المفسرون : وقد أُغري بهم ، فقيل له : { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] ، وقال يوم الجمعة «اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق ، قم يا فلان فانك منافق» { ثم لا يجاورونك فيها } أي : في المدينة { إِلاَّ قليلاً } حتى يهلكوا ، { ملعونين } منصوب على الحال؛ أي : لا يجاورونك إِلاَّ وهم ملعونون { أينما ثُقِفوا } أي : وُجِدوا وأُدركوا { أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً } معنى الكلام : الأمر ، أي : هذا الحكم فيهم ، { سُنَّةَ الله } أي : سنَّ في الذين ينافقون الأنبياء ويُرجِفون بهم أن يُفعل بهم هذا .
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قوله تعالى : { يسألُكَ النَّاسُ عن الساعة } قال عروة : الذي سأله عنها عُتبة بن ربيعة .
قوله تعالى : { وما يُدريك } أي : أيّ شيء يُعْلِمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى : أنت لا تعرف ذلك؛ ثم قال : { لعلَّ الساعة تكون قريباً } .
فإن قيل : هلاَّ قال : قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه أراد الظَّرف ، ولو أراد صفة الساعة بعينها ، لقال : قريبة ، هذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أن المعنى راجع إِلى البعث ، أو إِلى مجيء الساعة .
والثالث : أن تأنيث الساعة غير حقيقي ، ذكرهما الزجاج . وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه [ البقرة : 159 ، النساء : 10 ، الاسراء : 97 ] .
فأما قوله : { وأطعنا الرسول } فقال الزجاج : الاختيار الوقف بألف ، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات ، وإِنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلَّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تمّ؛ وقد أشرنا إِلى هذا في قوله { الظنُّونا } [ الأحزاب : 1 ] .
قوله تعالى : { أطعنا سادتنا وكُبَراءنا } أي : أشرافنا وعظماءنا . قال مقاتل : هم المُطْعِمون في غزوة بدر . وكلُّهم قرأوا : { سادتَنا } على التوحيد ، غير ابن عامر ، فانه قرأ : { سادتِنا } على الجمع مع كسر التاء ، ووافقه المفضَّل ، ويعقوب ، إِلا أبا حاتم { فأضلونا السبيل } أي : عن سبيل الهدى ، { ربَّنا آتهم } يعنون السادة { ضِعفين } أي : ضعفي عذابنا ، { والعنهم لعناً كبيراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبوعمرو ، وحمزة ، والكسائي : { كثيراً } بالثاء . وقرأ عاصم ، وابن عامر : { كبيراً } بالباء . وقال أبو علي : الكثرة أشبه بالمِرار المتكررة من الكِبَر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
قوله تعالى : { لا تكونوا كالذين آذَوا موسى } أي : لا تؤذوا محمداً كما آذى بنو إِسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم . وفي ما آذَوا به موسى أربعة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا : هو آدَر ، فذهب يوماً يغتسل ، ووضع ثوبه على حجرٍ ، ففرَّ الحجر بثوبه ، فخرج في طلبه ، فرأَوه فقالوا : واللّهِ ما به من بأس . والحديث مشهور في الصحاح كلِّها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد ذكرتُه باسناده في «المغني» و «الحدائق» . قال ابن قتيبة : والآدَر عظيم الخُصيتين .
والثاني : أن موسى صَعِد الجبل ومعه هارون ، فمات هارون ، فقال بنو إِسرائيل : أنت قتلتَه ، فآذَوه بذلك ، فأمر اللّهُ تعالى الملائكةَ فحملته حتى مرَّت به على بني إِسرائيل ، وتكلَّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إِسرائيل أنه مات ، فبرَّأه الله من ذلك ، قاله عليّ عليه السلام .
والثالث : أن قارون استأجر بغيّاً لتقذِف موسى بنفسها على ملأٍ من بني إِسرائيل فعصمها الله وبرّأ موسى من ذلك ، قاله أبو العالية .
والرابع : أنهم رمَوه بالسِّحر والجنون ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { وكان عِنْدَ الله وجيهاً } قال ابن عباس : كان عند الله حَظيّاً لا يسألُه شيئاً إِلاَّ أعطاه . وقد بيَّنَّا معنى الوجيه في [ آل عمران : 45 ] . وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، وأبو حيوة : { وكان عَبْداً لِلّهِ } بالتنوين والباء ، وكسر اللام .
قوله تعالى : { وقولوا قولاً سديداً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : صواباً ، قاله ابن عباس .
والثاني : صادقاً ، قاله الحسن .
والثالث : عدلاً ، قاله السدي .
والرابع : قصداً ، قاله ابن قتيبة .
ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه «لا إِله إِلا الله» ، قاله ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني : أنه العدل في جميع الأقوال والأعمال ، قاله قتادة .
والثالث : في شأن زينب وزيد ، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ما لا يصلُح ، قاله مقاتل بن حيّان .
قوله تعالى : { يُصْلِح لكم أعمالكم } فيه قولان .
أحدهما : يتقبَّل حسناتكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : يزكِّي أعمالكم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فقد فاز فوزاً عظيماً } أي : نال الخير وظَفِر به .
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنا الأمانة } فيها قولان .
أحدهما : أنها الفرائض ، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، إِن أدَّتها أثابها ، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها ، فكرهتْ ذلك؛ وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير : عُرضت الأمانة على آدم فقيل له : تأخذها بما فيها ، إِن أطعتَ غفرتُ لك ، وإِن عصيتَ عذَّبتُك ، فقال : قَبِلتُ ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب . وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة ، والضحاك ، والجمهور .
والثاني : أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها . روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت ، وقال للأرض ، فأبت ، وقال للجبال ، فأبت ، فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك ، فلما انطلق آدم ، قتل قابيلُ هابيلَ ، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه ، فذلك حيث يقول الله عز وجل : { إِنّا عَرَضْنا الأمانة } إِلى قوله { وحَمَلَها الإِنسانُ } وهو ابن آدم ، فما قام بها .
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال : يا ربِّ ، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له : اعرض خلافتك على جميع الخلق ، فعرضها ، فكلٌّ أباها غير ولده .
وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السماوات والأرض قولان .
أحدهما : أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان ، وأفهمهنَّ خطابه ، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ ، ولم يُرد بقوله : { أبَيْنَ } المخالَفَة ، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة ، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً ، و { أشفقن } بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أن المراد بالآية : إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة ، قاله الحسن .
وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال .
أحدها : آدم في قول الجمهور .
والثاني : قابيل في قول السدي .
والثالث : الكافر والمنافق ، قاله الحسن .
والرابع : جميع الناس ، قاله ثعلب .
قوله تعالى : { إِنَّه كان ظَلوماً جَهولاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : ظَلوماً لنفسه ، غِرّاً بأمر ربِّه ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : ظَلوماً لنفسه ، جَهولاً بعاقبة أمره ، قاله مجاهد .
والثالث : ظَلوماً بمعصية ربِّه ، جَهولاً بعقاب الأمانة ، قاله ابن السائب .
وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال ، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال : إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته ، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له ، فأمّا السماوات والأرض فقالتا : { أتَيْنَا طائعِين } [ فصلت : 11 ] ، وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله ، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله ، فعرَّفنا اللّهُ تعالى أنَّ السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة ، لأنها أدَّتها ، وأداؤها : طاعة الله وترك معصيته ، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها ، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم ، وكذلك قال الحسن : { وحملها الإِنسان } أي : الكافر والمنافق حَمَلاها ، أي : خانا ولم يُطيعا؛ فأمّا من أطاع ، فلا يقال : كان ظلوماً جهولاً .
قوله تعالى : { ليعذِّب اللّهُ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوبَ اللّهُ على المؤمنين والمؤمنات } قال ابن قتيبة : المعنى : عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله ، ويظهر إِيمانه المؤمنين فيتوب الله عليهم ، أي : يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قوله تعالى : { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } مُلْكاً وخَلْقاً { وله الحَمْدُ في الآخرة } يَحَمَدُه أولياؤه إِذا دخلوا الجنَّة ، فيقولون : { الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَه } [ الزمر : 74 ] { الحمدُ لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] { الحمدُ لله الذي أذهب عنَّا الحَزَنَ } [ فاطر : 34 ] .
{ يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرض } من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك { وما يَخْرُجُ منها } من زرع ونبات وغير ذلك { وما يَنْزِلُ من السماء } من مطر أو رزق أو ملَك { وما يَعْرُجُ فيها } من ملَك أو عمل أو دُعاءٍ .
{ وقال الذين كفروا } يعني مُنْكِري البعث { لا تأتينا الساعةُ } أي : لا نُبْعَث .
قوله تعالى { عالِمِ الغيب } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : { عالِمِ الغيب } بكسر الميم؛ وقرأ نافع ، وابن عامر ، برفعها . وقرأ حمزة ، والكسائي : { علاَّمِ الغيب } بالكسر ولام قبل الألف . قال أبو علي : من كسر ، فعلى معنى : الحمدُ للّهِ عالِم الغيب؛ ومن رفع ، جاز أن يكون { عَالِمُ الغيب } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو عالِمُ الغيب ، ويجوز أن يكون ابتداءً ، خبره { لا يَعْزُب عنه } ؛ و { علاَّم } أبلغ من «عالم» . وقرأ الكسائي وحده : { لا يَعْزِِبُ } بكسر الزاي؛ وهما لغتان .
قوله تعالى : { ولا أصغرُ مِنْ ذلك } وقرأ ابن السميفع ، والنخعي ، والأعمش : { ولا أصغرَ مِنْ ذلك ولا أكبرَ } بالنصب فيهما .
قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنوا } قال الزجاج : المعنى : بلى وربِّي لنأتينَّكم المُجازاة وقال ابن جرير : المعنى : أَثبثَ مثقال الذرَّة وأصغر منه في كتاب مبين ، ليَجْزِيَ الذين آمنوا ، وليُريَ الذين أوتوا العلم .
قوله تعالى : { مِنْ رِجْزٍ أليمٌ } قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، [ والمفضل ] : { مِنْ رِجْزٍ أليمٌ } رفعاً؛ والباقون بالخفض فيهما .
وفي { الذين أوتوا العِلْم } قولان .
أحدهما : أنهم مؤمنو أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { الذي أُنْزِلَ إِليك مِن ربِّك } يعني القرآن { هو الحَقّ } قال الفراء : «هو» عماد ، فلذلك انتصب الحقّ . وما أخللنا به فقد سبق في مواضع [ الحج : 51 ، 52 ، البقرة : 130 ، 267 ] .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } وهُم مُنْكِرو البعث . قال بعضهم لبعض : { هل نَدُلُّكُم على رَجُلٍ ينبِّئُكم } أي : يقول لكم : إِنَّكم { إِذا مُزِّقتم كلَّ ممزَّق } أي : فُرِّقتم كل تفريق؛ والممزَّق هاهنا مصدر بمعنى التمزيق { إِنَّكم لفي خَلْق جديد } أي : يجدَّد خَلْقكم للبعث . ثم أجاب بعضُهم فقالوا : { أَفْترى على الله كَذِباً } حين زعم أنَّا نُبعث؟! وألف { أَفْترى } ألف استفهام ، وهو استفهام تعجب وإِنكار ، { أم به جِنَّة } أي : جنون؟! فردَّ اللّهُ عليهم فقال : { بل } أي : ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون ، بل { الذين لا يؤمنون بالآخرة } وهم الذين يجحدون البعث { في العذاب } إِذا بُعثوا في الآخرة { والضَّلال البعيد } من الحق في الدنيا .
ثم وعظهم فقال : { أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفهم مِنَ السماء والأرض } وذلك أن الإِنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قُدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله؛ فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم؛ وأنا القادر عليهم ، إِن شئتُ خسفتُ بهم الأرض ، وإِن شئتُ أسقطتُ عليهم قطعة من السماء ، { إِنَّ في ذلك } أي : فيما يَرَون من السماء والأرض { لآيةً } تدلُّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم { لكلِّ عبد مُنيب } أي : راجعٍ إِلى طاعة الله ، متأمِّلٍ لِمَا يرى .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله تعالى : { ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً } وهو النُّبوَّة والزَّبور وتسخير الجبال والطير ، إِلى غير ذلك ممَّا أنعم اللّهُ به عليه { يا جبالُ أوِّبي معه } وروى الحلبي عن عبد الوارث : { أُوْبي } بضم الهمزة وتخفيف الواو . قال الزجاج : المعنى : وقلنا : يا جبال أوِّبي معه ، أي : رجِّعي معه . والمعنى : سبِّحي معه ورجِّعي التسبيح . ومن قرأ : { أُوْبي } ، معناه : عودي في التسبيح معه كلما عاد . وقال ابن قتيبة : { أوِّبي } أي : سبِّحي ، وأصل التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كلَّه ، وينزل ليلاً ، فكأنه أراد : ادأَبي النهار [ كلَّه ] بالتسبيح إِلى الليل .
قوله تعالى : { والطََّيْرَ } وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة : { والطَّيْرُ } بالرفع . فأما قراءة النصب ، فقال أبو عمرو بن العلاء : هو عطف على قوله : { ولقد آتينا داود مِنَّا فضلاً } { والطَّيْرَ } أي : وسخَّرْنا له الطَّيْرَ . قال الزجاج : ويجوز أن يكون نصباً على النداء ، كأنه قال : دعَوْنا الجبالَ والطيرَ ، فالطير معطوف على موضع الجبال ، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب؛ قال : وأما الرفع ، فمن جهتين ، إِحداهما : أن يكون نسقاً على ما في { أوِّبي } ، فالمعنى : يا جبال رجِّعي التسبيح معه أنتِ والطير؛ والثانية : على النداء ، المعنى : يا جبال ويا أيُّها الطير أوِّبي [ معه ] .
قال ابن عباس : كانت الطير تسبِّح معه إِذا سبَّح ، وكان إِذا قرأ لم تبق دابَّة إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه . وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال : سبِّحي ، وللطير : أجيبي ، ثم يَأخذ هو في تلاوة الزَّبور بين ذلك بصوته الحسن ، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيبَ منه .
قوله تعالى : { وألنَّا له الحديد } أي : جعلناه ليِّناً . قال قتادة : سخَّر اللّهُ له الحديد بغير نار ، فكان يسوِّيه بيده ، لا يُدخله النار ، ولا يضربه بحديدة ، وكان أول من صنع الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح .
قوله تعالى : { أَنِ اعْمَلْ } قال الزجاج : معناه : وقلنا له : اعْمَل ، ويكون في معنى «لأن يعمل» { سابغات } أي : دروعاً سابغات ، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف .
قال المفسرون : كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء ، فيعمل الدِّرع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير ، فيأكل ويتصدق . والسابغات : الدروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تَفْضُل عنه فيجرّها على الأرض .
{ وقَدِّر في السَّرْدِ } أي : اجعله على قدر الحاجة . قال ابن قتيبة : السَّرْدُ : النَّسْج ، ومنه يقال لصانع الدُّروع : سَرَّادٌ وزَرّادٌ ، تبدل من السين الزاي ، كما يقال : سرّاط وزرّاط . وقال الزجاج : السَّرْدُ في اللغة : تَقْدِمَةُ الشيء إِلى الشيء تأني به متَّسقاً بعضُه في إِثر بعض متتابعاً . ومنه قولهم : سَرَدَ فلان الحديثَ .
وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : عدِّل المسمار في الحَلْقة ولا تصغِّره فيقلق ، ولا تُعظِّمه فتنفصم الحَلْقة ، قاله مجاهد .
والثاني : لا تجعل حِلَقَه واسعة فلا تَقي صاحبها ، قاله قتادة . قوله تعالى : { واعْمَلوا صالحاً } خطاب لداود وآله .
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قوله تعالى : { ولِسليمان الرِّيح } قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى : وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ . وروى أبو بكر ، والمفضل عن عاصم : { الرِّيحُ } رفعاً ، أي : له تسخيرُ الريح . وقرأ أبو جعفر : { الرِّياح } على الجمع .
{ غُدُوُّها شَهْرٌ } قال قتادة : تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار ، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار ، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين . قال الحسن : لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها ، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح ، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل ، وبينهما مسيرة شهر للمسرع .
قوله تعالى : { وأَسَلْنَا له عَيْنَ القِطْرِ } قال الزجاج : القِطْر : النُّحاس ، وهو الصُّفْر ، أُذيب مذ ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب .
قال المفسرون : أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار ، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار ، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء؛ وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان .
قوله تعالى : { ومن الجن } المعنى : وسخَّرنا له من الجن { من يعمل بين يديه باذن ربِّه } أي : بأمره؛ سخَّرهم الله له ، وأمرهم بطاعته؛ والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له { ومَنْ يَزِغْ منهم } أي : يَعْدِل { عن أمرنا } له بطاعة سليمان { نُذِقْه من عذاب السعير } ؛ وهل هذا في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه قولان .
أحدهما : في الآخرة ، قاله الضحاك .
والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل .
وقيل : إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار ، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط .
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها المساجد ، قاله مجاهد ، وابن قتيبة .
والثاني : القصور ، قاله عطية .
والثالث : المساجد والقصور ، قاله قتادة . وأما التماثيل ، فهي الصُّوَر؛ قال الحسن : ولم تكن يومئذ محرَّمة؛ ثم فيها قولان .
أحدهما : أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه ، قاله الضحاك .
والثاني : أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين ، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم ، قاله ابن السائب .
وفي ما كانوا يعملونها منه قولان .
أحدهما : من النُّحاس ، قاله مجاهد .
والثاني : من الرُّخام والشَّبَه ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وجِفَانٍ كالجَوَابي } الجِفَان : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة؛ والجَوَابي؛ جمع جابِيَة ، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء ، أي : يُجمع . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { كالجَوَابي } بياء ، إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف ، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف . قال الزجاج : وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ ، وكان الأصل الوقف بالياء ، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها .
قال المفسرون : كانوا يصنعون [ له ] القِصَاع كحياض الإِبل ، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .
قوله تعالى : { وقدورٍ راسياتٍ } أي : ثوابت؛ يقال : رسا يرسو : إِذا ثبت .
وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان .
أحدهما : أن أثافيها منها ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها لا تُنزل لِعِظَمها ، قاله ابن قتيبة .
قال المفسرون : وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها ، يأكل من القِدْر ألف رجل .
قوله تعالى : { اعْمَلوا آلَ داوُدَ شكْراً } المعنى : وقلنا : اعملوا بطاعة الله شكراً له على ما آتاكم .
قوله تعالى : { فلمَّا قضينا عليه الموتَ } يعني على سليمان . قال المفسرون : كانت الإِنس تقول : إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد ، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه ، فمات ، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان ، فخرَّ فعلموا بموته ، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب .
وقيل : إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته ، فأخفاه الله عنهم حولاً .
وفي سبب سؤاله قولان .
أحدهما : لأن الجن كانوا يقولون للانس إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب ، فأراد تكذيبهم .
والثاني : لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة .
فاما { دابَّة الأرض } فهي : الأَرَضَة . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري : { دابَّة الأرض } بفتح الراء .
والمِنْسأة : العصا . قال الزجاج : وإِنما سمِّيت مِنْسأة ، لأنه يُنْسَأُ بها ، أي : يُطْرَدُ ويُزْجَر . قال الفراء : أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة ، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها .
قوله تعالى : { فلَّما خَرَّ } أي : سقط { تبينَّت الجنُّ } أي : ظهرت ، وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب ، ولو علموا { ما لَبِثوا في العذاب المُهين } أي : ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً . وقيل : تبيَّنت الجن ، أي : عَلِمت لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب ، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها . وروى رويس عن يعقوب { تُبُيِّنَتْ } برفع التاء والباء وكسر الياء .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قوله تعالى : { لقد كان لِسَبَأٍ في مساكنهم آيةٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { في مَسَاكِنِهم } . وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم { مَسْكَنِهم } بفتح الكاف من غير ألف . وقرأ الكسائي ، وخلف : { مَسْكِنِهم } بكسر الكاف ، وهي لغة .
قال المفسرون : المراد بسبأٍ هاهنا : القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يَشْجُب ابن يَعْرُب بن قحطان؛ وقد ذكرنا في سورة [ النمل : 22 ] الخلاف في هذا ، وأن قوماً يقولون : هو اسم بلد ، وليس باسم رجل . وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ : { لِسَبأَ } بالفتح وترك الصَّرْف ، جعله اسماً للقبيلة ، ومن صرف وكسر ونوَّن ، جعله اسماً للحيِّ واسماً لرجل؛ وكلٌّ جائزٌ حسن . و { آيةٌ } رفعٌ ، اسم «كان» ، و { جَنَّتان } رفع على نوعين ، أحدهما : أنه بدل من «آية» .
والثاني : على إِضمار ، كأنَّه لمَّا قيل : «آيةٌ» ، قيل : الآية جنَتَّان .
الإِشارة إِلى قصتهم .
ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت [ قومَها ] جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم ، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها ، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه ، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا ، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها ، فأبت ، فقالوا : لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ ، فقالت : إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول ، فقالوا : فانَّا نُطيعك ، فجاءت إِلى واديهم - وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام - فأمرتْ به ، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة ، وحبستْ الماء من وراء السد ، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم ، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة ، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذِكره [ النمل : 29 44 ] ، وبقُوا بعدها على حالهم . وقيل : إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها ، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون ، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه ، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله ، فأخصبت أرضُهم ، وكَثُرت فواكههم ، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها ، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه ، ولم يكن [ يُرى ] في بلدهم حيَّة ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل ، فيموت القمل لطيب هوائها . وقيل لهم : { كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربِّكم واشكُروا له بلدةٌ طيِّبةٌ } أي : هذه بلدة طيِّبة ، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة ، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي { وربٌّ غفورٌ } أي : واللّهُ ربٌّ غفور ، وكانت ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً ، فكذَّبوا الرُّسل ، ولم يُقِرُّوا بنِعم الله ، فذلك قوله : { فأَعْرضْوا } أي : عن الحقّ ، وكذَّبوا أنبياءهم { فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أن العَرِم : الشديد ، رواه عليّ بن أبي طالب عن ابن عباس . وقال ابن الأعرابي : العَرِم : السَّيل الذي لا يُطاق .
والثاني : [ أنه ] اسم الوادي ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك ، ومقاتل .
والثالث : أنه المُسَنَّاة ، قاله مجاهد ، وأبو ميسرة ، والفراء ، وابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : العَرِم : جمع عَرِمَة ، وهي : السِّكْر والمُسَنَّاة .
والرابع : أن العَرِم : الجُرَذ الذي نقب عليهم السِّكْر ، حكاه الزجاج .
وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان .
أحدهما : أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً ، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال قتادة والضحاك في آخرين : بعث اللّهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد - والخُلْد : الفأر الأعمى - فنقبه من أسفله ، فأغرق اللّهُ [ به ] جنَّاتهم ، وخرَّب به أرضهم .
والثاني : أنه أرسل عليهم ماءً أحمر ، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي ، ولم يكن الماء أحمر من السد ، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وبدَّلْناهم بجنَّتيهم } يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه { جنَّتين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { أُكُلٍ } بالتنوين . وقرأ أبو عمرو : { أُكُلِ } بالإِضافة . وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع ، وثقَّلها الباقون . أمَّا الأُكُل ، فهو الثمر .
وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الأراك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور؛ فعلى هذا ، أُكُلُه : ثمره؛ ويسمَّى ثمر الأراك : البَرِير .
والثاني : أنه كل شجرة ذات شوك ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله ، قاله المبرِّد والزجّاج . فعلى هذا القول ، الخَمْط : اسم للمأكول ، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل؛ وعلى ما قبله ، هو اسم شجرة ، والأُكُل ثمرها ، فيحسُن قراءة من أضاف .
فأمَّا الأَثْل ، ففيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الطَّرْفاء ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه السَّمُر ، حكاه ابن جرير .
والثالث : أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه .
قوله تعالى : { وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ } فيه تقديم ، وتقديره : وشيء قليل من سِدْر ، وهو شجر النّبق . والمعنى أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر . قال قتادة : بينا شجرُهم من خير الشجر ، إِذ صيَّره اللّهُ من شرِّ الشجر .
قوله تعالى : { ذلكَ جَزَيناهم } أي : ذلك التبديل جزيناهم { بما كفروا وهل نُجازي إِلا الكَفُورَ } .
فان قيل : قد يُجازى المؤمنُ والكافر ، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى ، فيقال في أفصح اللغة : جزى اللّهُ المؤمن ، ولا يقال : جازاه ، لأن «جازاه» بمعنى كافأه ، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها ، مكافأة له ، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه ، هذا قول الفراء .
والثاني : أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه ، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب ، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته ، هذا قول الزجاج .
وقال طاووس : الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له ، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ .
قوله تعالى : { وجَعَلْنا بينهم } هذا معطوف على قوله تعالى : { لقد كان لسَبَأٍ } ؛ والمعنى : كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم { وبين القرى التي باركنا فيها } وهي : قرى الشام؛ وقد سبق بيان معنى البَرَكَة فيها [ الانبياء : 71 ] ، هذا قول الجمهور . وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل : قد عرفنا نعمة الله علينا ، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة ، فردَّ عليهم النِّعمة ، وجعل لهم قُرىً ظاهرة ، فعادوا إِلى الفساد وقالوا : باعد بين أسفارنا ، فَمُزِّقوا .
قوله تعالى : { قُرىً ظاهرةً } أي : متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض { وقدَّرْنا فيها السَّير } فيه قولان .
أحدهما : أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية ، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { سِيروا فيها } والمعنى : وقلنا لهم : سيروا فيها { لياليَ وأيَّاماً } أي : ليلاً ونهاراً { آمنين } من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب ، وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان ، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى { فقالوا ربَّنا بَعِّدْ بين أسفارنا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { بَعِّد } بتشديد العين وكسرها . وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة : { باعِدْ } بألف وكسر العين . وعن ابن عباس كالقراءتين . قال ابن عباس : إِنهم قالوا : لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي ، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها . قال أبو سليمان الدمشقي : لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله ، أنكروا أن يكون ماهم فيه نعمة ، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم . وقرأ يعقوب : [ { ربُّنا } برفع الباء ] { باعَدَ } بفتح العين والدال ، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإِخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم . وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو عبد الرحمن [ السلمي ] ، وأبو رجاء ، وابن السميفع ، وابن أبي عبلة : { بَعُدَ } برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف ، على طريق الشِّكاية إِلى الله عز وجل . وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو عمران الجوني : { بُوعِدَ } برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين .
قوله تعالى : { وظَلَمُوا أنفُسَهم } فيه قولان .
أحدهما : بالكفر وتكذيب الرُّسل .
والثاني : بقولهم { بَعِّدْ بين أسفارنا } .
{ فجعلْناهم أحاديث } لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم { ومزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّق } أي : فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق ، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد ، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ { إِنَّ في ذلك } أي : فيما فُعِل بهم { لآياتٍ } أي : لَعِبَراً { لكلِّ صبَّار } عن معاصي الله { شَكورٍ } لِنِعَمه .
قوله تعالى : { ولقد صدَّق عليهم إِبليسُ ظنَّه } { عليهم } بمعنى «فيهم» ، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم ، فوجدهم كذلك .
وإِنما قال : { ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم } [ النساء : 119 ] بالظنِّ ، لا بالعِلْم ، فمن قرأ : { صَدَّق } بتشديد الدال ، فالمعنى : حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فالمعنى : صَدَق عليهم في ظنِّه بهم .
وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم أهل سبأ .
والثاني : سائر المطيعين لإِبليس .
قوله تعالى : { وما كان له عليهم من سُلطان } قد شرحناه في قوله : { ليس لكَ عليهم سُلطان } [ الحجر : 42 ] . قال الحسن : واللّهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء ، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور .
قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي : ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين . وقرأ الزهري : { إِلاَّ لِيُعْلَمَ } بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله . وقرأ ابن يعمر : { لِيَعْلَمَ } بفتح الياء .
وفي المراد بعِلْمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناها في أول [ العنكبوت : 3 ] .
{ وربُّكَ على كل شيء } من الشكِّ والإِيمان { حفيظ } ، وقال ابن قتيبة : والحفيظ بمعنى الحافظ . قال الخطّابي : وهو فَعِيل بمعنى فاعل ، كالقدير ، والعليم ، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها ، ويحفظ عباده من المَهالك ، ويحفظ عليهم أعمالهم ، ويعلم نيَّاتِهم ، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب ، ويحرسُهم من مكايد الشيطان .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الذين زعمتم } المعنى : قل للكفار : ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة ، أو يكشفوا عنكم بليَّة . ثم أخبر عنهم فقال : { لا يَمْلِكون مثقال ذرَّة في السَّموات ولا في الأرض } أي : من خير وشرّ ونفع وضُرّ { وما لهم فيهما من شِرْكٍ } لم يشاركونا في شيء من خلقهما ، { وماله } أي : وما لله { منهم } أي : من الآلهة { من ظَهير } أي : من مُعِين على شيء .
{ ولا تَنْفَعُ الشَّفاعةُ عنه إِلاَّ لِمَن أَذِنَ له } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : { أُذِنَ له } بفتح الألف . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : { أُذِنَ له } برفع الألف وعن عاصم كالقراءتين . أي : لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة ، وقيل : حتى يؤذَن له فيمن يشفع . وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا : إِن هذه الآلهة تشفع لنا .
{ حتّى إِذا فُزِّعَ عن قُلوبهم } قرأ الأكثرون : { فُزِّعَ } بضم الفاء وكسر الزاي . قال ابن قتيبة : خُفِّفَ عنها الفَزَع . وقال الزجاج : معناه : كُشِف الفَزَع عن قلوبهم . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب ، وأبان : { فَزَعَ } بفتح الفاء والزاي ، والفعل لله عز وجل . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن يعمر : { فرغ } بالراء غير معجمة ، وبالغين معجمة ، وهو بمعنى الأول ، لأنها فرغت من الفزع . وقال غيره : بل فرغت من الشك والشِّرك .
وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم الملائكة . وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ، ولم يذكره في الآية ، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله . وفي سبب فَزَعهم قولان .
أحدهما : أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى . روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِذا تكلَّم اللّهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل ، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل : ماذا قال ربُّك؟ قال : فيقول : الحق ، فينادون : الحقّ الحقّ » وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذا قضى اللّهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربُّكم ، قالوا : للذي قال الحقَّ { وهو العلي الكبير } » . والثاني : أنهم يفزعون من قيام الساعة . وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا ، قولان .
أحدهما : أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، ثم بعث اللّهُ محمداً ، أنزَل اللّهُ جبريل بالوحي ، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة ، فصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ، ومقاتل ، وابن السائب .
وقيل : لمَّا علموا بالإِيحاء إِلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فزعوا ، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة .
والثاني : أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا ، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد ، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرُّون سُجَّداً ، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة ، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم ، رواه الضحاك عن ابن مسعود .
والقول الثاني : أن الذي أُشير إِليهم المشركون؛ ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أن المعنى : حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت إِقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربُّكم في الدنيا؟ قالوا : الحقّ ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار ، قاله الحسن ، وابن زيد .
والثاني : حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة ، قيل لهم : ماذا قال ربُّكم؟ قاله مجاهد .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله تعالى : { قل مَنْ يرزُقُكم مِنَ السموات } يعني المطر { والأرضِ } يعني النبات والثمر . وإِنما أُمر أن يسأل الكفار عن هذا ، احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزُق هو المستحِقُّ للعبادة ، وهم لا يُثبتون رازقاً سواه ، ولهذا قيل له : { قُلِ اللّهُ } لأنهم لا يُجيبون بغير هذا؛ وهاهنا تم الكلام . ثم أمره أن يقول لهم : { وإِنَّا أو إِيَّاكم لَعَلَى هُدىً أو في ضلال مُبينٍ } مذهب المفسرين أن «أو» هاهنا بمعنى الواو . وقال أبو عبيدة : معنى الكلام : وإِنَّا لَعَلَى هُدى ، وإِنَّكم لفي ضلالُ مبين . وقال الفراء : معنى : «أو» عند المفسرين معنى الواو ، وكذلك هو في المعنى ، غير أن العربيَّة على غير ذلك ، لا تكون «أو» بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوَّض ، كما تقول : إِن شئت فَخُذ درهماً أو اثنين ، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين ، وليس له أن يأخذ ثلاثة؛ وإِنما معنى الآية : وإِنّا لضالُّون أو مهتدون ، وإِنكم أيضاً لضالُّون أو مهتدون ، وهو يَعْلَمُ أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالُّ ، كما تقول للرجل تكذِّبه : واللّهِ إِنَّ أحدنا لكاذب - وأنت تعنيه - فكذَّبْتَه تكذيباً غير مكشوف؛ ويقول الرجل : والله لقد قَدِم فلان ، فيقول له من يَعْلَم كذبه : قل : إِن شاء الله ، فيكذِّبه بأحسنَ من تصريح التكذيب؛ ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبحونها ، فيقول : قاتَعَه الله ، ويقول بعضهم : كاتعه الله؛ ويقولون : جوعاً ، دعاءً على الرجل ، ثم يستقبحونها فيقولون : جوداً ، وبعضهم يقول : جوساً؛ ومن ذلك قولهم : ويحك وويسك ، وإِنما هي في معنى { ويلك } إِلا أنها دونها .
قوله تعالى : { قل لا تُسألون عمَّا أَجرمنا } أي : لا تؤاخَذون به { ولا نُسألُ عمَّا تَعلمون } من الكفر والتكذيب؛ والمعنى : إِظهار التبرِّي منهم . وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف ، ولا وجه لذلك .
قوله تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بيننا ربُّنا } يعني عند البعث في الآخرة { ثُمَّ يَفْتَحُ بيننا } أي يقضي { بالحقِّ } أي : بالعدل { وهو الفتَّاح } القاضي { العليمُ } بما يقضي { قل } للكفار { أرونيَ الذين أَلحقتم به شركاء } أي : أَعلِموني من أيِّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلُقون ولا يرزُقون { كَلاَّ } ردع وتنبيه؛ والمعنى : ارتدِعوا عن هذا القول ، وتنبَّهوا عن ضلالتكم ، فليس الأمر على ما أنتم عليه .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله تعالى : { وما أرسلناكَ إِلاَّ كافَّةً للنَّاس } أي : عامَّة لجميع الخلائق . وفي الكلام تقديم ، تقديره : وما أرسلناك إِلاَّ للناس كافَّةً . وقيل : معنى { كافة للناس } : تكفُّهم عمَّا هُم عليه من الكفر ، والهاء فيه للمبالغة .
{ ويقولون متى هذا الوَعْدُ } يعنون العذاب الذي يَعِدُهم به في يوم القيامة؛ وإِنما قالوا هذا ، لأنهم يُنْكرون البعث ، { قُلْ لكُم ميعادُ يوم } وفيه قولان .
أحدهما : أنه يوم الموت عند النَّزْع والسّياق ، قاله الضحاك .
والثاني : يوم القيامة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قوله تعالى : { وقال الذين كَفَروا } يعني مشركي مكَّة { لن نؤمِن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } يعنون التوراة والإِنجيل ، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا : إِنّ صفة محمد في كتابنا ، فكفر أهلُ مكَّة بكتابهم .
ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال : { ولو ترى إِذ الظالمون } يعني مشركي مكة { موقوفون عند ربِّهم } في الآخرة { يَرْجِعُ بعضُهم إِلى بعض القولَ } أي : يَرُدُّ بعضُهم على بعض في الجدال واللَّوم { يقول الذين استُضعفوا } وهم الأتباع { للذين استكبروا } وهم الأشراف والقادة : { لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين } أي : مصدِّقين بتوحيد الله؛ والمعنى : أنتم منعتمونا عن الإِيمان؛ فأجابهم المتبوعون فقالوا : { أنحن صددناكم عن الهُدى } أي : منعناكم عن الإِيمان { بعد إِذ جاءكم } به الرسول؟ { بل كنتم مجرمين } بترك الإِيمان - وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبباً للعداوة في الآخرة - فردَّ عليهم الأتباع فقالوا : { بل مَكْرُ الليلِ والنهارِ } أي : بل مكرُكم بنا في الليل والنهار . قال الفراء : وهذا ممَّا تتوسع فيه العرب لوضوح معناه ، كما يقولون : ليله قائم ، ونهاره صائم ، فتضيف الفعل إِلى غير الآدميين ، والمعنى لهم . وقال الأخفش : وهذا كقوله : { مِنْ قريتك التي أخرجَتْكَ } [ محمد : 13 ] ، قال جرير :
لقد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلانَ في السُّرَى ... ونِمْتِ وَما لَيْلُ المَطِيِّ بِنائمِ
وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري : { بل مَكَرَ } بفتح الكاف والراء { الليلُ والنهارُ } برفعهما . وقرأ ابن يعمر : { بل مَكْرُ } باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها { الليلَ والنهارَ } بنصبهما .
قوله تعالى : { إِذ تأمُروننا أن نكفُر بالله } وذلك أنهم كانوا يقولون لهم : إِنَّ دِيننا حقّ ومحمد كذّاب ، { وأَسرُّوا النَّدامة } وقد سبق بيانه في [ يونس : 54 ] .
قوله تعالى : { وجَعَلْنا الأغلالَ في أعناق الذين كَفَروا } إِذا دخلوا جهنم غُلَّت أيديهم إِلى أعناقهم ، وقالت لهم خَزَنة جهنم : هل تُجَزون إِلا ما كنتم تعملون في الدنيا . قال أبو عبيدة : مجاز «هل» هاهنا مجاز الإِيجاب ، وليس باستفهام؛ والمعنى : ما تُجزَون إِلا ما كنتم تعملون .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{ وما أرسَلْنا في قرية من نذير } أي : نبيّ يُنْذِر { إِلاَّ قالَ مُتْرَفوها } وهم أغنياؤها ورؤساؤها .
قوله تعالى : { وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً } . في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم المُتْرَفون من كل أُمَّة .
والثاني : مشركو مكة ، فظنوا من جهلهم أن الله خوَّلهم المال والولد لكرامتهم عليه ، فقالوا : { وما نحن بمعذَّبين } لأن الله أحسن إِلينا بما أعطانا فلا يعذِّبنا ، فأخبر أنه { يبسُط الرِّزق لمن يشاء ويَقْدِر } ؛ والمعنى أنَّ بَسْطَ الرِّزق وتضييقه ابتلاءٌ وامتحان ، لا أنَّ البَسْطَ يدلُّ على رضى الله ، ولا التضييق يدل على سخطه { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } ذلك . ثم صرح بهذا المعنى بقوله { وما أموالُكم ولا أولادُكم بالَّتي تقرّبُكم عندنا زُلْفى } قال الفراء : يصلُح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعاً ، لأن الأموال جمع والأولاد جمع؛ وإِن شئتَ وجَّهتَ «التي» إِلى الأموال ، واكتفيتَ بها من ذِكْر الأولاد؛ وأنشد لمرّار الأسدي :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقد شرحنا هذا في قوله : { ولا يُنْفِقونها في سبيل الله } [ التوبة : 34 ] وقال الزجاج : المعنى : وما أموالكم بالتي تقرِّبكم ، ولا أولادكم بالذين يقرِّبونكم ، فحُذف اختصاراً . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن ، وأَبو الجوزاء : { باللاتي تقرِّبكم } . قال الأخفش : و { زُلْفى } هاهنا اسم مصدر ، كأنه قال : تقرِّبكم عندنا ازْدِلافاً . وقال ابن قتيبة : { زُلْفى } أي : قُرْبى ومَنْزِلةً عِندنا .
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ } قال الزجاج : المعنى : ما تقرِّبُ الأموالُ إِلاَّ من آمن وعمل بها في طاعة الله ، { فأولئك لهم جزاءُ الضِّعف } والمراد به هاهنا عشر حسنات ، تأويله : لهم جزاءُ الضِّعف الذي قد أعلمتُكم مقداره . وقال ابن قتيبة : لم يُرِدْ فيما يَرى أهلُ النظر - والله أعلم أنهم يُجازَون بواحدٍ مثله ، ولا اثنين ، ولكنه أراد جزاء التضعيف ، وهو مِثْل يُضَمُّ إِلى مِثْلٍ ما بَلَغ ، وكأنَّ الضِّعفَ الزيادةُ ، فالمعنى : لهم جزاءُ الزيادة . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكل ، ورويس ، وزيد عن يعقوب : { لهم جزاءً } بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلاً { الضِّعفُ } بالرفع . وقرأ أبو الجوزاء ، وقتادة ، وأبو عمران الجوني : { لهم جزاءٌ } بالرفع والتنوين { الضِّعفُ } بالرفع .
قوله تعالى : { وهم في الغُرُفات } يعني [ في ] غُرَف الجنة ، وهي البيوت فوق الأبنية . وقرأ حمزة : { في الغُرْفة } على التوحيد؛ أراد اسم الجنس . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل : { في الغُرْفات } بضم الغين وسكون الراء مع الألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : بضم الغين وفتح الراء مع الألف { آمنون } من الموت والغير . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ الحج : 51 ، الرعد : 26 ] إِلى قوله : { وما أَنفقتم من شيء فهو يُخْلِفُه } أي : يأتي ببدله ، يقال : أخلف اللّهُ له وعليه : إِذا أبدل ما ذهب عنه وفي معنى الكلام أربعة أقوال .
أحدهما : ما أنفقتم من غير إِسراف ولا تقتير فهو يُخْلِفُه ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : ما أنفقتم في طاعته ، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر ، قاله السدي .
والثالث : ما أنفقتم في الخير والبِرِّ فهو يُخْلِفه ، إِمَّا أن يعجِّلَه في الدنيا ، أو يدَّخرَه لكم في الآخرة ، قاله ابن السائب .
والرابع : أن الإِنسان قد يُنفق ماله في الخير ولا يرى له خَلَفاً أبداً؛ وإِنما معنى الآية : ما كان من خَلَف فهو منه ، ذكره الثعلبي .
قوله تعالى : { وهو خير الرَّازِقِين } لمَّا دار على الألسن أن السلطان يرزُق الجند ، وفلان يرزق عياله ، أي : يعطيهم ، أخبر أنه خير المُعْطِين .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قوله تعالى : { ويوم يحشُرُهم جميعاً } يعني المشركين؛ وقال مقاتل : يعني الملائكة ومَنْ عَبَدها { ثُمَّ يقولُ للملائكة أهؤلاء إِيَّاكم كانوا يعبُدونَ } وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين؛ فنزَّهت الملائكةُ ربَّها عن الشِّرك ف { قالوا سبحانك } أي : تنزيهاً لك مما أضافوه إِليك من الشركاء { أنت وليُّنا مِنْ دونهم } أي : نحن نتبرَّأُ إِليك منهم ، ما تولَّينا ولا اتَّخذناهم عابدين ، ولسنا نريد وليّاً غيرك . { بل كانوا يعبُدون الجِنَّ } أي : يُطيعون الشياطين في عبادتهم إِيَّانا { أكثرُهم بهم } أي : بالشياطين { مُؤْمِنون } أي : مصدِّقون لهم فيما يُخبرونهم من الكذب أن الملائكةَ بناتُ الله ، فيقول الله تعالى : { فاليومَ } يعني في الآخرة { لا يملكُ بعضُكم لبعض } يعني العابدين والمعبودين { نَفْعاً } بالشفاعة { ولا ضَرّاً } بالتعذيب { ونقولُ للَّذين ظَلَموا } فعبدوا غير الله { ذُوقوا عذاب النَّار . . . } الآية .
ثم أخبر أنهم يكذِّبون محمداً والقرآن بالآية التي تلي هذه ، وتفسيرها ظاهر .
ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بيِّنة ، ولم يكذِّبوا محمداً عن يقين ، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبيّ يخبرهم بفساد أمره ، فقال : { وما آتيناهم من كُتُب يدرُسونها } قال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إِليهم نبيّاً قبل محمد؛ وهذا محمول على الذين أنذرهم نبيُّنا [ محمد ] صلى الله عليه وسلم ؛ وقد كان إِسماعيل نذيراً للعرب .
ثم أخبر عن عاقبة المكذِّبين قبلهم مخوِّفاً لهم ، فقال : { وكذَّب الذين مِنْ قبلهم } يعني الأمم الكافرة { وما بَلَغوا معشار ما آتيناهم } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوَّة والمال وطول العمر ، قاله الجمهور .
والثاني : ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحُجَّة والبرهان .
والثالث : ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم ، حكاهما الماوردي .
والمِعشار : العُشر . والنَّكير : اسم بمعنى الإِنكار . قال الزجاج : والمعنى : فكيف كان نكيري؛ وإِنما حُذفت الياءُ ، لأنَّه آخر آية .
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّما أَعِظُكم } أي : آمُرُكم وأُوصيكم { بواحدة } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها «لا إِله إِلا الله» ، رواه ليث عن مجاهد .
والثاني : طاعة الله ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثالث : أنها قوله : { أن تَقُوموا لله مثنى وفُرادى } ، قاله قتادة . والمعنى : أن التي أَعِظُكم بها ، قيامُكم وتشميركم لطلب الحق ، وليس بالقيام على الأقدام . والمراد بقوله { مثنى } أي : يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمراد ب { فُرادى } : أن يتفكَّر الرجل وحده ، ومعنى الكلام : لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده ، ولْيَخْلُ بغيره ، ولْيُناظِر ، ولْيَسْتَشِر ، فَيَسْتَدِلَّ بالمصنوعات على صانعها ، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه ، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه : هَلُمَّ فلْنَتَصادق هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ . وتم الكلام عند قوله : { ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جِنَّة } ، وفيه اختصار تقديره : ثم تتفكَّروا لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون ، { إِنْ هو إِلاَّ نذير لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديدٍ } في الآخرة .
قوله تعالى : { قل ما سألتُكم مِنْ أَجْر } على تبليغ الرسالة { فَهُو لكم } والمعنى : ما أسألكم شيئاً؛ ومثله قول القائل : ما لي في هذا فقد وهبتُه لك ، يريد : ليس لي فيه شيء .
قوله تعالى : { قُلْ إِنْ ربِّي يَقْذِفُ بالحقِّ } أي يُلقي الوحي إِلى أنبيائه { عَلاَّمُ الغُيوبِ } وقرأ أبو رجاء : { عَلاَّمَ } بنصب الميم .
{ قُلْ جاء الحقُّ } وهو الإِسلام والقرآن .
وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الشيطان ، لا يخلُق أحداً ولا يبعثُه ، قاله قتادة .
والثاني : أنه الأصنام ، لا تُبدئ خَلْقاً ولا تُحيي ، قاله الضحاك . وقال أبو سليمان : لا يبتدىء الصنم من عنده كلاماً فيُجاب ، ولا يرُدُّ ما جاء من الحق بحُجَّة .
والثالث : أنه الباطل الذي يُضادُّ الحق؛ فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحقِّ ، فلم تَبْقَ منه بقيَّة يُقبِل بها أو يُدبِر أو يُبدىء أو يعيد ، ذكره جماعة من المفسرين .
قوله تعالى : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فانَّما أَضِلُّ على نفسي } أي : إِثم ضلالتي على نفسي ، وذلك أنَّ كُفَّار مكَّة زعموا أنه قد ضَلَّ حين ترك دين آبائه ، { وإِنِ اهتَديتُ فَبِما يوحي إِليَّ ربِّي } من الحكمة والبيان .
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله تعالى : { ولو تَرى إِذْ فَزِعوا } في زمان هذا الفزع قولان .
أحدهما : أنه حين البعث من القبور ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه عند ظهور العذاب في الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة . وقال سعيد بن جبير : هو الجيش الذي يُخسف به بالبيداء ، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقُوا ، وهذا حديث مشروح في التفسير ، وأن هذا الجيش يؤمُّ البيت الحرام لتخريبه ، فيُخسف بهم . وقال الضحاك وزيد ابن أسلم : هذه الآية فيمن قُتل يوم بدر من المشركين .
قوله تعالى : { فلا فَوْتَ } المعنى : فلا فَوْتَ لهم ، أي : لا يُمكنهم أن يفوتونا { وأُخِذوا من مكان قريب } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من مكانهم يوم بدر ، قاله زيد بن أسلم .
والثاني : من تحت أقدامهم بالخسف ، قاله مقاتل .
والثالث : من القبور ، قاله ابن قتيبة . وأين كانوا ، فهُم من الله قريب .
قوله تعالى : { وقالوا } أي : حين عاينوا العذاب { آمَنَّا به } في هاء الكناية أربعة أقوال .
أحدها : أنها تعود إِلى الله عز وجل ، قاله مجاهد .
والثاني : إِلى البعث ، قاله الحسن .
والثالث : إِلى الرسول ، قاله قتادة .
والرابع : إِلى القرآن ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وأنَّى لهم التَّنَاوُشُ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : { التَّنَاوُشُ } غير مهموز . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، والمفضل عن عاصم : بالهمز . قال الفراء : من همز جعله من «نأشْتُ» ، ومن لم يهمز ، جعله من «نُشْتُ» ، وهما متقاربان؛ والمعنى : تناولتُ الشيء ، بمنزلة : ذِمْتُ الشيءَ وذأمْتُه : إِذا عِبْتَه؛ وقد تناوش القومُ في القتال : إِذا تناول بعضُهم بعضاً بالرِّماح ، ولم يتدانَوا كُلَّ التداني ، وقد يجوز همز «التَّنَاؤش» وهي من «نُشْتُ» لانضمام الواو ، مثل قوله : { وإِذا الرُّسُّل أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] . وقال الزجّاج : من همز «التَّنَاؤش» فلأنّ واو التَّنَاوُش مضمومة ، وكُلُّ واو مضمونة ضمَّتُها لازمة ، إِن شئتَ أبدلت منها همزة ، وإِن شئتَ لم تبدل ، نحو : أدؤر . وقال ابن قتيبة : معنى الآية : وأنَّى لهم التَّناوُشُ لِمَا أرادوا بلوغَه وإِدراكُ ما طلبوا من التَّوبة { من مكانٍ بعيدٍ } وهو الموضع الذي تُقْبَل فيه التوبةُ . وكذلك قال المفسرون : أنَّى لهم بتناول الإِيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟!
قوله تعالى : { وقد كَفَروا به } في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدَّمت في قوله { آمنَّا به } [ سبأ : 52 ] . ومعنى { مِنْ قَبْلُ } أي : في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة { ويَقْذِفون بالغيب } أي : يَرْمُون بالظّنِّ { مِنْ مكانٍ بعيدٍ } وهو بُعدهم عن العلم بما يقولون .
وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم يظُنُّون أنهم يُرَدُّون إِلى الدنيا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه قولهم في الدنيا : لا بعث لنا ولا جنة ولا نار ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثالث : أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو ساحر ، هو كاهن ، هو شاعر ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وحِيل بينهم وبين ما يَشتهون } أي : مُنع هؤلاء الكفار مما يشتهون ، وفيه ستة أقوال .
أحدها : انه الرجوع إِلى الدنيا ، قاله ابن عباس .
والثاني : الأهل والمال والولد ، قاله مجاهد .
والثالث : الإِيمان ، قاله الحسن .
والرابع : طاعة الله ، قاله قتادة .
والخامس : التوبة ، قاله السدي .
والسادس : حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خُسف بهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { كما فُعِلَ } وقرأ ابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وأبو عمران : { كما فَعَل } بفتح الفاء والعين { بأشياعهم مِنْ قَبْلُ } قال الزجّاج : أي بمن كان مذهبُه مذهبَهم . قال المفسرون : والمعنى : كما فُعل بنُظَرائهم من الكفار مِنْ قَبْل هؤلاء ، فانهم حِيل بينهم وبين ما يشتهون . وقال الضحاك : هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة { إِنَّهم كانوا في شَكّ } من البعث ونزول العذاب بهم { مُرِيبٍ } أي : مُوقِعٍ لِلرِّيبة والتُّهمة .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قوله تعالى : { الحمدُ لله فاطِرِ السَّموات والأرض } أي : خالِقُهما مبتدئاً على غير مِثال . قال ابن عباس : ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم أعرابيَّان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتُها ، أي : ابتدأتُها .
قوله تعالى : { جاعِلِ الملائكةِ } وروى الحلبي والقزَّاز عن عبد الوارث : { جاعِلٌ } بالرفع والتنوين { الملائكةَ } بالنصب { رُسُلاً } يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور { أُولي أجنحة } أي : أصحاب أجنحة ، { مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ } فبعضُهم له جناحان ، وبعضُهم [ له ] ثلاثة ، وبعضهم له أربعة ، و { يزيدُ في الخَلْق ما يشاء } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه زاد في خَلْق الملائكة الأجنحة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : يَزيد في الأجنحة ما يشاء ، رواه عبّاد بن منصور عن الحسن ، وبه قال مقاتل .
والثالث : أنه الخلق الحسن ، رواه عوف عن الحسن .
والرابع : أنه حُسن الصوت ، قاله الزهري ، وابن جريج .
والخامس : المَلاحة في العينين ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { ما يَفْتَحِ اللّهُ للنَّاس مِنْ رحمةٍ } أي : من خير ورزق ، وقيل : أراد بها المطر { فلا مُمْسِكَ لها } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن أبي عبلة : { فلا مُمْسِكَ له } . وفي الآية تنبيه على أنه لا إِله إِلا هو ، إِذ لا يستطيع أحدٌ إِمساك ما فتَحَ وفَتْح ما أمسك .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله تعالى : { يا أيَّها النَّاس اذكُروا نعمة الله عليكم } قال المفسرون : الخطاب لأهل مكة ، و { اذكُروا } بمعنى : «احفظوا» ، ونعمة الله عليهم : إِسكانهم الحَرَم ومنع الغارات عنهم .
{ هل مِنْ خالقٍ غيرُ الله } وقرأ حمزة والكسائي : { غيرِ الله } بخفض الراء؛ قال أبو علي : جعلاه صفة على اللفظ ، وذلك حَسَنٌ لإِتباع الجرِّ . وهذا استفهام تقرير وتوبيخ؛ والمعنى : لا خالق سواه { يرزُقُكم من السماء } المطر ( و ) من { الأرض } النبات . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الأنعام : 95 ، آل عمران : 184 ، البقرة : 210 ، لقمان : 33 ] إِلى قوله : { إِنَّ الشيطان لكم عَدُوٌّ } أي : إِنه يريد هلاككم { فاتَّخِذوه عَدُوّاً } أي : أنزِلوه من أنفُسكم منزلة الأعداء ، وتجنَّبوا طاعته { إِنَّما يدعو حِزبه } أي : شيعته إِلى الكفر { لِيكونوا من أصحاب السَّعير } .
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله تعالى : { أفَمَنْ زُيِّنَ له سُوءُ عمله } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة ، قاله ابن عباس .
والثاني : في أصحاب الأهواء والمِلل التي خالفت الهُدى ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله أبو قلابة .
فان قيل : أين جواب { أفَمَنْ زُيِّن له } ؟ .
فالجواب : من وجهين ذكرهما الزجاج .
أحدهما : أن الجواب محذوف؛ والمعنى : أفَمَنْ زُيِّن له سُوء عمله كمن هداه الله؟! ويدُلُّ على هذا قوله : { فانَّ الله يُضِلُّ من يشاء ويَهدي من يشاء } .
والثاني : أن المعنى : أفَمَنْ زُيِّن له سوء عمله فأضلَّه اللّهُ ذهبتْ نفسُك عليهم حسرات؟! ويدلُّ على هذا قوله : { فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حَسَراتٍ } . وقرأ أبو جعفر { فلا تُذْهِبْ } بضم التاء وكسر الهاء { نَفْسَكَ } بنصب السين .
وقال ابن عباس : لا تغتمَّ ولا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَسْرة على تركهم الإِيمان .
قوله تعالى : { فتُثيرُ سحاباً } أي : تُزعجه من مكانه؛ وقال أبو عبيدة : تجمعُه وتجيء به ، و { سُقْناه } بمعنى : «نسوقه»؛ والعرب قد تضع «فَعَلْنَا» في موضع «نَفْعَلُ» ، وأنشدوا :
إِن يَسْمَعُوا رِيبَةً طاروا بها فَرَحاً ... مِنِّي ومَا سَمعوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا
المعنى : يَطيروا ويَدفِنوا .
قوله تعالى : { كذلك النُّشور } وهو الحياة . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : كما أحيا اللّهُ الأرض بعد موتها يُحيي الموتى يوم البعث . روى أبو رزين العقيلي ، " قال : قلت : يا رسول الله : كيف يُحيي اللّهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ فقال : «هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً؟ ثم مررتَ به يهتزُّ خَضِراً؟» قلت : نعم ، قال : «فكذلك يُحيي اللّهُ الموتى ، وتلك آيتُه في خَلْقه» " . والثاني : كما أحيا اللّهُ الأرض المينة بالماء ، كذلك يُحيي الله الموتى بالماء . قال ابن مسعود : يرسِلُ اللّهُ تعالى ماءً من تحت العرش كمنِيِّ الرجال ، قال : فتنبت لُحْمانهم وجُسْمانهم من ذلك الماء ، كما تنبت الأرض من الثرى ، ثم قرأ هذه الآية . وقد ذكرنا في [ الأعراف : 57 ] نحو هذا الشرح .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله تعالى : { من كان يُريد العِزَّة } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من كان يريد العزَّة بعبادة الأوثان { فللّه العِزَّةُ جميعاً } ، قاله مجاهد .
والثاني : من كان يريد العزَّة فليتعزَّز بطاعة الله ، قاله قتادة . وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم : أنا العزيز ، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز "
والثالث : من كان يريد عِلْم العزَّة لِمن هي ، فانها لله جميعاً ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { إِليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ } وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والنخعي ، والجحدري ، والشيزري عن الكسائي : { يُصْعَدُ الكلامُ الطَّيِّبُ } وهو توحيده وذِكْره { والعملُ الصَّالح يَرْفَعُهُ } قال علي بن المديني : الكِلَم الطَّيِّب : لا إِله إِلا الله ، والعمل الصالح : أداء الفرائض واجتناب المحارم .
وفي هاء الكناية في قوله «يرفعه» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى الكَلِم الطَّيِّب؛ فالمعنى : والعمل الصالح يرفع الكَلِم الطَّيِّب ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك . وكان الحسن يقول : يُعْرَض القولُ على الفعل ، فان وافق القولَ الفعلُ قُبِل ، وإِن خالف رُدَّ .
والثاني : أنها ترجع إِلى العمل الصالح ، فالمعنى : والعمل الصالح يرفعُه الكَلِم الطَّيِّب ، فهو عكس القول الأول ، وبه قال أبو صالح ، وشهر بن حوشب . فاذا قلنا : إِن الكَلِم الطَّيِّب هو التوحيد ، كانت فائدة هذا القول أنه لا يُقْبَلُ عملٌ صالح إِلا من مُوحِّد .
والثالث : أنها ترجع إِلى الله عز وجل؛ فالمعنى : والعمل الصالح يرفعُه اللّهُ إِليه ، أي : يَقْبَلُه ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { والذين يمكُرون السَّيِّئات } قال أبو عبيدة : يمكرون : بمعنى : يكتسِبون ويجترحِون . ثم في المشار إِليهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنهم أصحاب الرِّياءَ ، قاله مجاهد ، وشهر بن حوشب .
والثالث : أنهم الذين يعملون السَّيِّئات ، قاله قتادة ، وابن السائب .
والرابع : أنهم قائلو الشِّرك ، قاله مقاتل .
وفي معنى { يَبُورُ } قولان .
أحدهما : يَبْطُلُ ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : يَفْسُدُ قاله الزجاج .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله تعالى : { واللّهُ خَلقكم من تراب } يعني آدم { ثُمَّ من نُطفة } يعني نسله { ثم جَعَلكم أزواجاً } أي : أصنافاً ، ذكوراً وإِناثاً؛ قال قتادة : زوَّج بعضهم ببعض .
قوله تعالى : { وما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي : ما يطُول عمر أحد { ولا يُنْقَصُ } وقرأ الحسن ، ويعقوب : { يَنْقُصُ } بفتح الياء وضم القاف { مِنْ عُمُره } في هذه الهاء قولان .
أحدهما : أنها كناية عن آخر ، فالمعنى : ولا يُنْقَص من عمر آخر؛ وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في آخرين . قال الفراء : وإِنما كني عنه كأنه الأول ، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول ، كأنه قال : ولا يُنْقَصُ من عمر مُعَمَّر ، ومثله في الكلام : عندي درهم ونصفه؛ والمعنى : ونصف آخر .
والثاني : أنها ترجع إِلى المُعَمَّر المذكور؛ فالمعنى : ما يذهب من عمر هذا المُعَمَّر يومٌ أو ليلة إِلاَّ وذلك مكتوب؛ قال سعيد بن جبير : مكتوب في أول الكتاب : عمره كذا وكذا سنة ، ثم يُكتب أسفل من ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهبت ثلاثة ، إِلى أن ينقطع عُمُره؛ وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين .
فأما الكتاب ، فهو اللوح المحفوظ .
وفي قوله { إِنَّ ذلك على الله يسيرٌ } قولان .
أحدهما : أنه يرجع إِلى كتابة الآجال .
والثاني : إِلى زيادة العُمُر ونقصانه .
قوله تعالى : { وما يستوي البحران } يعني العذب والمِلْح؛ وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه [ الفرقان : 53 ، النحل : 14 ، آل عمران : 27 ، الرعد : 2 ] إِلى قوله : { ما يَمْلِكون من قِطْمير } قال ابن عباس : هو القِشْر الذي يكون على ظهر النَّواة .
قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهم لا يَسْمَعوا دُعاءُكم } لأنهم جماد { ولو سَمِعُوا } بأن يخلق الله لهم أسماعاً { ما استجابوا لكم } أي : لم يكن عندهم إِجابة { ويومَ القيامة يكفُرون بشِرككم } أي : يتبرَّؤون من عبادتكم { ولا يُنَبِّئُكَ } يا محمد { مِثْلُ خبير } أي : عالِم بالأشياء ، يعني نفسه عز وجل؛ والمعنى أنه لا أَخْبَرَ منه عز وجل بما أَخبر أنَّه سيكون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ يا أيُّها النَّاسُ أنتم الفقراء إِلى الله } أي : المحتاجون إِليه { واللّهُ هو الغنيُّ } عن عبادتكم { الحميد } عند خلقه باحسانه إِليهم . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ إبراهيم : 19 ، الأنعام : 164 ] إِلى قوله : { وإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نَفْس مُثْقَلة بالذُّنوب { إِلى حِمْلها } الذي حملتْ من الخطايا { لا يُحْمَلْ منه شيءٌ ولو كان } الذي تدعوه { ذا قربى } ذا قرابة { إِنما تُنْذِرُ الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم بالغيب } أي : يخشونه ولم يَرَوه؛ والمعنى : إِنما تَنفع بانذارك أهل الخشية ، فكأنك تُنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع ، { ومن تَزَكَّى } أي : تطهَّر من الشِّرك والفواحش ، وفعلَ الخير { فانَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسه } أي : فصلاحُه لنَفْسه { وإِلى الله المَصيرُ } فيجزي بالأعمال .
{ وما يستوي الأعمى والبصير } يعني المؤمن والمشرك ، { ولا الظلُّمُاتُ } يعني الشِّرك والضَّلالات { ولا النُّورُ } الهدى والإِيمان ، { ولا الظِّلُّ ولا الحَرورُ } فيه قولان .
أحدهما : ظِلُّ اللَّيل وسَمُوم النهار ، قاله عطاء .
والثاني : الظِّلُّ : الجَنَّة ، والحَرُور : النَّار ، قاله مجاهد . قال الفراء : الحَرُور بمنزلة السَّمُوم ، وهي الرِّياح الحارَّة . والحَرُور تكون بالنَّهار وبالليل ، والسَّمُوم لا تكون إِلا بالنَّهار . وقال أبو عبيدة : الحَرُور تكون بالنَّهار مع الشمس ، وكان رؤبة يقول : الحَرور باللَّيل ، والسَّمُوم بالنَّهار .
قوله تعالى : { وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ } فيهم قولان .
أحدهما : أن الأحياء : المؤمنون ، والأموات : الكفار .
والثاني : أن الأحياء : العقلاء ، والأموات : الجُهَّال . وفي «لا» المذكورة في هذه الآية قولان .
أحدهما : أنها زائدة مؤكِّدة .
والثاني : أنها نافية لاستواء أحد المذكورَين مع الآخر .
قال قتادة : هذه أمثال ضربها اللّهُ تعالى للمؤمن والكافر ، يقول : كما لا تستوي هذه الأشياء ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن .
{ إِنَّ الله يُسْمِعُ من يشاء } أي : يُفهم من يريد إِفهامه { وما أنت بِمُسْمِعٍ مَنْ في القُبور } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والجحدري : { بِمُسْمِعِ مَنْ } على الإِضافة؛ يعني الكفار ، شبههم بالموتى ، { إِن أنتَ إِلاَّ نذير } قال بعض المفسرين : نُسخ معناها بآية السيف .
قوله تعالى : { وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فيها نذير } أي : ما من أُمَّة إِلا قد جاءها رسول . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ آل عمران : 184 ، الحج : 44 ] إِلى قوله : { فكيف كان نَكيرِِ } أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب ، وافقه في الوصل ورش .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قوله تعالى : { ومن الجبال جُدَدٌ بِيضٌ } أي : ومِمَّا خَلَقْنا من الجبال جُدَدٌ . قال ابن قتيبة : الجُدَدُ : الخُطوط والطَّرائق تكون في الجبال ، فبعضُها بِيض ، وبعضُها حُمر ، وبعضُها غرابيبُ سودٌ ، والغَرابيب جمع غِرْبِيبٍ ، وهو الشديد السواد ، يقال : أسْودُ غِرْبِيبٌ ، وتمام الكلام عند قوله : { كذلك } ، يقول : من الجبال مختلِفٌ ألوانه ، { ومِنَ النَّاس والدَّوابِّ والأنعام مختلِفٌ ألوانُه كذلك } أي : كاختلاف الثمرات . قال الفراء : وفي الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : وسودٌ غرابيب ، لأنه يقال : أسودُ غِرْبيبٌ ، وقلّما يقال : غربيب أسود . وقال الزجاج : المعنى : ومن الجبال غرابيبُ سود ، وهي ذوات الصخر الأَسْود . وقال ابن دريد : الغِرْبيب : الأَسْود ، أحسِبُ أن اشتقاقه من الغُراب .
وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال .
أحدها : الطرائق السُّود ، قاله ابن عباس .
والثاني : الأودية السود ، قاله قتادة .
والثالث : الجبال السود ، قاله السدي .
ثم ابتدأ فقال : { إِنَّما يخشى اللّهَ مِنْ عِباده العُلَماءُ } يعني العلماء بالله عزَّ وجل . قال ابن عباس : يريد : إِنَّما يخافُني مِنْ خَلْقي مَنْ عَلِم جبروتي وعِزَّتي وسلطاني . وقال مجاهد والشعبي : العالِم من خاف اللّهَ . وقال الربيع بن أنس : من لم يَخْش اللّهَ فليس بعالِم .
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَتْلُون كتاب الله } يعني قُرَّاء القرآن ، فأثنى عليهم بقراءة القرآن؛ وكان مطرّف يقول : هذه آية القُرَّاء .
وفي قوله : { يَتْلُونَ } قولان .
أحدهما : يقرؤون .
والثاني : يَتبَّعون . قال أبو عبيدة : { وأقاموا الصلاة } بمعنى ويُقيمون ، وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها .
قوله تعالى : { يَرْجُونَ تجارة } قال الفراء : هذا جواب قوله : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ } . قال المفسرون : والمعنى : يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد { لِيُوَفِّيَهم أُجورهم } أي : جزاء أعمالهم { ويَزيدَهم منْ فضله } قال ابن عباس : سوى الثواب مالم تر عين ولم تسمع أُذن .
فأما الشَّكور ، فقال الخطّابي : هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة ، فيُثيب عليه الكثير من الثواب ، ويُعطي الجزيل من النِّعمة ، ويرضي باليسير من الشُّكر؛ ومعنى الشُّكر المضاف إِليه : الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد ، والقبول له ، وإِعظام الثواب عليه؛ وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشَّكور ترغيب الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت ، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل ، ولا يتركوا اليسير منه .
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرثْنا الكتابَ } في «ثُمَّ» وجهان .
أحدهما : أنها بمعنى الواو .
والثاني : أنها للترتيب . والمعنى : أنزلنا الكتب المتقدِّمة ، ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتابَ { الذين اصطَفَيْنا } وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن . وفي الكتاب قولان .
أحدهما : أنه اسم جنس ، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عز وجل ، وهذا يخرَّج على القولين . فان قلنا : الذين اصطُفوا أُمَّة محمد ، فقد قال ابن عباس : إِن الله أورث أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم كلَّ كتاب أنزله . وقال ابن جرير الطبري : ومعنى ذلك : أورثهم الإِيمانَ بالكتب كلِّها - وجميع الكتب تأمر باتِّباع القرآن - فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها؛ واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه : { والذي أَوْحَيْنَا إِليكَ من الكتاب هو الحَقُّ } وأتبعه بقوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتاب } فعلمنا أنهم أُمَّةٌ محمد ، إِذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إِلى قوم ، ولم تكن أُمَّةٌ على عهد نبينا انتقل إِليهم كتابٌ من قوم كانوا قبلهم غير أُمَّته . فان قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أَورثْنا كلَّ كتاب أُنزل على نبيٍّ ذلك النبيَّ وأتباعَه .
والقول الثاني : أن المراد بالكتاب القرآن .
وفي معنى { أَوْرَثْنا } قولان .
أحدهما : أَعْطَيْنا ، لأنَّ الميراث عطاء ، قاله مجاهد .
والثاني : أخَّرْنا ، ومنه الميراث ، لأنه تأخّر عن الميت؛ فالمعنى : أخَّرْنا القرآنَ عن الأُمم السالفة وأعطيناه هذه الأُمَّة ، إِكراماً لها ، ذكره بعض أهل المعاني .
قوله تعالى : { فمِنهم ظالم لنفسه } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه صاحب الصغائر؛ روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سابقُنا سابق ، ومقتصدُنا ناجٍ ، وظالمُنا مغفورٌ له " وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ، قال : " كلُّهم في الجنة "
والثاني : أنه الذي مات على كبيرة ولم يَتُب منها ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أنه الكافر ، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس ، وقد رواه ابن عمر مرفوعاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أُنزل عليه الكتاب ، كما قال : { وإِنُّه لَذِكْرٌ لَك ولِقَومِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي : لَشَرف لكم ، وكم من مُكْرَم لم يَقبل الكرامة!
والرابع : أنه المنافق ، حكي عن الحسن . وقد روي عن الحسن أنه قال : الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته ، والمقتصد : الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته ، والسابق : من رَجَحت حسناتُه . وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية ، فقال : سابقُنا أهل جهادنا ، ومقتصدِنا أهل حَضَرنا ، وظالمُنا أهل بدونا .
قوله تعالى : { ومنهم سابِقٌ } وقرأ أبو المتوكل ، والجحدري ، وابن السميفع : { سَبَّاقٌ } مثل : فَعَّال { بالخيرات } أي : بالأعمال الصالحة إِلى الجنة ، أو إِلى الرَّحمة { باذن الله } أي : بارادته وأمره { ذلك هو الفضل الكبير } يعني إِيراثهم الكتاب .
ثم أخبر بثوابهم ، فجمعهم في دخول الجنة فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها } قرأ أبو عمرو وحده : { يُدْخَلُونَها } بضم الياء؛ وفتحها الباقون ، وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : { ولُؤْلُؤاً } بالنصب . وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى ، وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية . والآية مفسرة في سورة [ الحج : 23 ] . قال كعب : تحاكت مناكبُهم وربِّ الكعبة ، ثم أُعطوا الفضل بأعمالهم .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
ثم أخبر عمَّا يقولون عند دخولها ، وهو قوله : { الحمدُ لله الذي أَذهب عنَّا الحَزَنَ } الحَزَن والحُزْن واحد ، كالبَخَل والبُخْل .
وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال .
أحدها : أنه الحزن لطول المقام في المحشر . روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمَّا السابق ، فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصِد ، فيحاسَب حساباً يسيراً ، وأما الظَّالم لنفسه ، فانه حزين في ذلك المقام " فهو الحزن والغم ، وذلك قوله تعالى : { الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن } .
والثاني : أنه الجوع ، رواه أبو الدرداء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ولا يصح ] ، وبه قال شمر بن عطية . وفي لفظ عن شمر أنه قال : الحزن : هَمُّ الخُبز ، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحزن : هَمُّ الخُبز في الدنيا .
والثالث : أنه حزن النار ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والرابع : حزنهم في الدنيا على ذُنوب سلفت منهم ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والخامس : حزن الموت ، قاله عطية .
والآية عامَّة في هذه الأقوال وغيرها ، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه ، وإِنما حزنوا على ذُنوبهم وما يوجبه الخوف .
قوله تعالى : { الذي أحلَّنا } أي : أنزلنا { دارَ المُقامة } قال الفراء : المُقامة هي الإِقامة ، والمَقامة : المجلس ، بالفتح لا غير ، قال الشاعر :
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقامَاتٍ وأنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأعْدَاءِ تأْوِيبِ
قوله تعالى : { مِنْ فَضْلِه } قال الزجاج : أي : بتفضُّله ، لا بأعمالنا . والنَّصَبُ : التَّعَب . واللُّغوب : الإِعياء من التَّعب . ومعنى { لُغُوب } : شيء يُلْغِب؛ أي : لا نتكلّف شيئاً نُعَنّى منه .
قوله تعالى : { لا يُقْضى عليهم فيموتوا } أي : لايهلكون فيستريحوا ممَّا هُمْ فيه ، ومثله : { فوكزه موسى فقضى عليه } [ القصص : 51 ] . قوله تعالى : { كذلك نَجْزي كُلِّ كَفورٍ } وقرأ أبو عمرو : { يُجزى } بالياء { كُلُّ } برفع اللام . وقرأ الباقون : { نَجزي } بالنون «كُلَّ» بنصب اللام .
قوله تعالى : { وهم يَصْطَرِخُون فيها } وهو افتعال من الصُّراخ : والمعنى : يستغيثون ، فيقولون : { ربَّنا أَخْرِجنا نعملْ صالحاً } أي : نوحِّدك ونُطيعك { غيرَ الذي كُنَّا نَعملُ } من الشِّرك والمعاصي؛ فوبَّخهم الله تعالى بقوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكم } قال أبو عبيدة : معناه التقرير ، وليس باستفهام؛ والمعنى : أولم نعمِّركم عُمُراً يتذكرَّ فيه من تَذَكَّر؟!
وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال .
أحدها : أنه سبعون سنة ، قال ابن عمر : هذه الآية تعبير لأبناء السبعين .
والثاني : أربعون سنة .
والثالث : ستون سنة ، رواهما مجاهد عن ابن عباس ، وبالأول منهما قال الحسن ، وابن السائب .
والرابع : ثماني عشرة سنة ، قاله عطاء ، ووهب بن منبّه ، وأبو العالية ، وقتادة .
قوله تعالى : { وجاءكم النَّذير } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه الشيب ، قاله ابن عمر ، وعكرمة ، وسفيان بن عيينة؛ والمعنى : أَوَلَمْ نعمِّرْكم حتى شِبتم؟! .
والثاني : النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة ، وابن زيد ، وابن السائب ، ومقاتل .
والثالث : موت الأهل والأقارب .
والرابع . الحمّى ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { فذُوقوا } يعني : العذاب { فما للظالمين من نصير } أي : من مانع يَمنع عنهم . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ المائدة : 7 ] إِلى قوله : { خلائفَ في الأرض } وهي الأُمَّة التي خَلَفَتْ مَنْ قَبْلها ورأت فيمن تقدَّمها ما ينبغي أن تَعتبر به { فمن كَفَر فعليه كُفره } أي : جزاء كفره .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
قوله تعالى : { أرأيتُم شركاءكم } المعنى : أَخبِروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم ، بأيّ شيءٍ أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشيءٍ خلقوه من الارض ، أم شارَكوا خالق السموات في خَلْقها؟! ثم عاد إِلى الكفار فقال : { أم آتيناهم كتاباً } يأمرهم بما يفعلون { فَهُمْ على بيِّنة منه } ؟! قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : { على بيِّنةٍ } على التوحيد . وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { بيِّناتٍ } جمعاً . والمراد : البيان بأنَّ مع الله شريكاً { بل إِنْ يَعِدُ الظَّالمون } يعني المشركين يَعِدُ { بعضُهم بعضاً } أنَّ الأصنام تَشفع لهم ، وأنّه لا حساب عليهم ولا عقاب . وقال مقاتل : ما يَعِدُ الشيطانُ الكفَّار من شفاعة الآلهة إِلاَّ باطلاً .
قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا } أي : يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع . قال الفراء : { ولئن } بمعنى «ولو» ، و «إِن» بمعنى «ما» ، فالتقدير : ولو زالتا ما أمسكهما من أحد . وقال الزجاج : لمَّا قالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، كادت السمواتُ يتفطَّرْن والجبالُ أن تَزُول والأرضُ أن تنشقَّ ، فأمسكها الله عز وجل؛ وإِنَّما وحَّد { الأرض } مع جمع { السموات } ، لأن الأرض تدل على الأَرَضِين . { ولَئِن زالتا } تحتمل وجهين .
أحدهما : زوالهما يوم القيامة .
والثاني : أن يقال تقديرًا : وإِن لم تزولا ، وهذا مكان يَدُلُّ على القدرة ، غير أنه ذكر الحِلْم فيه ، لأنه لمَّا أمسكهما عند قولهم : { اتخذ الرحمن ولداً } [ مريم : 88 ] ، حَلُم فلم يُعَجِّل لهم العقوبة .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قوله تعالى : { وأقسَموا بالله جَهْدَ أَيْمانهم } يعني كفار مكة ، حلفوا بالله قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم { لَئِن جاءهم نذير } أي : رسول { لَيَكُونُنَّ أَهدى } أي : أَصْوَبَ دِيناً { مِنْ إِحدى الأُمم } يعني : اليهود والنصارى الصابئين { فلمَّا جاءهم نذير } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { ما زادهم } مجيئُه { إِلاَّ نُفُوراً } أي : تباعُداً عن الهُدى ، { استكباراً في الأرض } أي : عتوّاً على الله وتكبُّراً عن الإِيمان به . قال الاخفش : نصب { استكباراً } على البدل من النفور . قال الفراء : المعنى : فعلوا ذلك استكباراً { ومَكْرَ السَّيِّءِ } ، فأضيف المكر إِلى السَّيِّءِ ، كقوله : { وإِنَّه لَحَقُّ اليَقين } [ الحاقة : 51 ] ، وتصديقه في قراءة عبد الله : { ومَكْراً سَيِّئاً } ، والهمزة في { السَّيِّءِ } مخفوضة ، وقد جزمها الأعمش وحمزة ، لكثرة الحركات؛ قال الزجّاج : وهذا عند النحويِّين الحُذَّاق لَحْن ، إِنّما يجوز في الشِّعر اضطراراً . وقال أبو جعفر النحاس : كان الأعمش يقف على { مَكْرَ السَّيّ } فيترك الحركة ، وهو وقف حَسَنٌ تامّ ، فغَلِط الراوي؛ فروى أنه كان يَحْذِفُ الإِعراب في الوصل ، فتابع حمزة الغالط ، فقرأ في الإِدراج بترك الحركة .
وللمفسرين في المراد ب { مكر السَّيِّءِ } قولان .
أحدهما : أنه الشِّرك . قال ابن عباس : عاقبة الشِّرك لا تَحُلُّ إِلا بمن أشرك .
والثاني : أنه المَكْر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { فهل ينظُرون } أي : ينتظِرون { إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِين } أي : إِلاَّ أن يَنْزِل العذاب بهم كما نَزَل بالأمم المكذِّبة قبلهم { فلن تَجِد لِسُنَّةِ الله } في العذاب { تبديلاً } وإِن تأخَّر { ولن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلاً } أي : لا يَقْدِر أحدٌ أن يحوِّل العذاب عنهم إِلى غيرهم .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قوله تعالى : { ولو يؤاخِذ اللّهُ النَّاسَ بما كَسَبوا } هذا عامٌّ ، وبعضهم يقول : أراد بالناس المشركين . والمعنى : لو واخذهم بأفعالهم لعجَّل لهم العقوبة . وقد شرحنا هذه الآية في [ النحل : 61 ] . وما أخللنا به فقد سبق بيانه [ يوسف : 109 ، الروم : 9 ، الأعراف : 34 ، النحل : 61 ] .
قوله تعالى : { فانَّ اللّهَ كان بِعِباده بَصيراً } قال ابن جرير : بصيراً بمن يتسحقُّ العُقوبة ومَن يستوجب الكرامة .
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
وفي قوله : ( يس ) خمسة أقوال .
أحدها : أن معناها : يا إنسان ، بالحبشية ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومقاتل .
والثاني : أنها قَسَم أقسم اللهُ به ، وهو من أسمائه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أن معناها : يا محمد ، قاله ابن الحنفية ، والضحاك .
والرابع : أن معناها : يا رجُل ، قاله الحسن .
والخامس : اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء : " يس " بفتح الياء وكسر النون . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة : بفتح الياء والنون جميعاً . وقرأ أبو حصين الأسدي : بكسر الياء وإظهار النون . قال الزجاج : والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السُّوَر ، وبعض العرب يقول : { يسنَ والقرآن } بفتح النون . وهذا جائز في العربية لوجهين .
أحدهما : أن «يس» اسم للسورة ، فكأنه قال : اتْلُ يس ، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف . والثاني : أنهُ فتح لالتقاء الساكنين ، والتسكين أجود ، لأنه حرف هجاء .
قوله تعالى : { والقرآن الحكيم } هذا قَسَم ، وقد سبق معنى " الحكيم " [ البقرة : 32 ] ، قال الزجّاج : وجوابه : { إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ } ؛ وأحسنُ ما جاء في العربيّة أن يكون " لَمِنَ المَُرْسَلِينَ " خبر " إنَّ " ، ويكون قوله : { على صِراطٍ مستقيمٍ } خبراً ثانياً ، فيكون المعنى : إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ، إِنَّكَ على صِراطٍ مستقيم . ويجوز أن يكون { على صِراطٍ } من صلة { المُرْسَلِين } ، فيكون المعنى : إِنَكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ الذين أُرسِلوا على طريقة مستقيمة .
قوله تعالى : { تنزيلَ العزيزِ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { تنزيلُ } برفع اللام . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { تنزيلَ } بنصب اللام . وعن عاصم كالقراءتين . قال الزجاج : من قرأ بالنصب ، فعلى المصدر ، على معنى : نزَّل اللهُ ذلك تنزيلاَ ، ومن قرأ بالرفع ، فعلى معنى : الذي أُنزلَ إليكَ تنزيلُ العزيز . وقال الفراء : من نصب ، أراد إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ تنزيلاً حَقاَ مُنزَلاً ويكون الرفع على الاستئناف ، كقوله : { ذلك تنزيل العزيز } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رزين ، وأبو العالية ، والحسن ، والجحدري : { تنزيلِ } بكسر اللام . وقال مقاتل : هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه ، الرحيمِ بخَلْقه .
قوله تعالى : { لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤهم } في " ما " قولان .
أحدهما : أنها نفي ، وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين .
والثاني : أنها بمعنى " كما " ، قاله مقاتل . وقيل : هي بمعنى " الذي " .
قوله تعالى : { فَهُمْ غافلون } أي : عن حُجج التوحيد وأدلة البعث .
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{ لقد حَقَّ القولُ } فيه قولان .
أحدهما : وجب العذاب .
والثاني : سبق القول بكفرهم .
قوله تعالى : { على أكثرهم } يعني أهل مكة ، وهذه إِشارة إِلى إِرادة الله تعالى السابقة لكفرهم { فهم لا يؤمنون } لِمَا سبق من القَدَر بذلك .
{ إنَّا جَعَلْنا في أعناقهم أغلالاً } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها مَثَلٌ ، وليس هناك غُلٌّ حقيقة ، قاله أكثر المحقِّقين ، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها مَثَل لمنعهم عن كل خير ، قاله قتادة . والثاني : لحبسهم عن الإِنفاق في سبيل الله بموانع كالأَغلال ، قاله الفراء ، وابن قتيبة . والثالث : لمنعهم من الإِيمان بالله ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني : أنها موانع حسِّيَّة مَنَعَتْ كما يَمنع الغُلُّ؛ قال مقاتل بن سليمان : حلف أبو جهل لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصليِّ لَيَدْمَغَنَّهُ ، فجاءه وهو يصليِّ ، فرفع حجراً فيَبِسَتْ يدُه والتصق الحجر بيده ، فرجَع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر ، فقام رجل منهم فأخذ الحجر ، فلمَّا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمَسَ اللهُ على بصره فلم يره ، فرجَع إلى أصحابه فلم يُبْصِرهم حتى نادَوْه ، فنزل في أبي جهل : { إِنّا جَعَلْنا في أعناقهم أغلالاً . . . } الآية . ونزل في الآخر : { وجَعَلْنا مِنْ بين أيديهم سَدّاً } .
والقول الثالث : أنه على حقيقته ، إلاَّ أنَّه وَصْفٌ لِمَا سيُنْزِلُه اللهُ تعالى بهم في النار ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { فهي إلى الأذقان } قال الفراء : « فهي » كناية عن الأيمان ، ولم تُذْكَر ، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في اليمين والعنق جامعاً لهما ، فاكتُفيَ بذكر أحدهما عن صاحبه . وقال الزجّاج : « هي » كناية عن الأيدي ، ولم يذكرها إيجازاً ، لأن الغُلَّ يتضمن اليد والعنق ، وأنشد :
وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِيني
وإنما قال : أَيُّهما ، لأنه قد علم أن الخير والشرَّ معرَّضان للإنسان . قال الفراء : والذَّقْن : أسفل اللَّحْيَيْن ، والمُقْمَحُ : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، قال أبو عبيده : كل رافعٍ رأسَه فهو مُقَامِح وقَامِح ، والجمع قِماح ، فإن فُعل ذلك بإنسان فهو مُقْمَح ، ومنه هذه الآية . وقال ابن قتيبة : يقال بعيرٌ قامِحٌ وإبلٌ قِماحٌ : إذا رَوِيَتْ من الماء فقَمَحَتْ ، قال الشاعر وذكر سفينة :
ونحنُ على جَوانِبِها قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِمَاحِ
وقال الأزهري : المُراد أنَّ أيديهم لمّا غُلَّت عند أعناقهم ، رَفَعَتْ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسَهم ، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إيَّاها .
قوله تعالى : { وجَعَلْنا مِنْ بينِ أيديهم سَدّاً } قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بفتح السين ، والباقون : بضمها ، وقد تكلَّمنا على الفَرْق [ بينهما ] في [ الكهف : 94 ] . وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : منعناهم عن الإِيمان بموانع ، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر .
والثاني : حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظُّلمة لمّا قصدوه بالأذى .
قوله تعالى : { فأَغشيناهم } قال ابن قتيبة : أغشينا عيونَهم وأعميناهم عن الهُدىَ . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن يعمر : { فأغشيناهم } بعين غير معجمة . ثم ذكر أن الإِنذارَ لا ينفعهم لإِضلاله إيَّاهم بالآية التي بعد هذه . ثم أخبر عمَّن ينفعُه الإِنذارُ بقوله : { إنَّما تُنْذِرُ } أي : إنَّما يَنفع إِنذارُك { مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } وهو القرآن ، فعمل به { وخَشي الرَّحمنَ بالغَيب } وقد شرحناه في [ الأنبياء : 49 ] ، والأجر الكريم : الحَسَن ، وهو الجنة . { إِنَّا نَحْنُ نُحْيي المَوْتى } للبعث { وَنكْتُبُ ما قدَّموا } من خير وشرٍّ في دنياهم . وقرأ النخعي والجحدري : « ويُكْتُبُ » بياء مرفوعة وفتح التاء « وآثارُهم » برفع الراء .
وفي أثارهم ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها خُطاهم بأرجُلهم ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة . قال أبو سعيد الخدري : شَكَت بنو سَلِمَةَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعْدَ منازلهم من المسجد ، فأنزل الله تعالى : { ونَكَتُبُ ما قدَّموا وآثارهم } ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « عليكم منازلَكم ، فإنَّما تُكتَبُ آثارُكم » ، وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز : لو كان اللهُ مُغْفِلاً شيئاً ، لأغفل ما تعفِّي الرِّياحُ من أثرَ قَدَم ابن آدم .
والثاني : أنها الخُطا إلى الجمعة ، قاله أنس بن مالك .
والثالث : ما أثَروا من سُنَّة حسنة أو سيِّئة يُعْمَل بها بعدهم ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
قوله تعالى : { وكُلَّ شيء } وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : « وكُلٌّ » برفع اللام ، أي : مِنَ الأعمال ( أحصيناه ) أي : حَفِظْناه { في إِمامٍ مُبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله تعالى : { واضرب لهم مَثَلاً } المعنى : صف لأهل مكة مثلاً؛ أي : شِبْهاً . وقال الزجاج : المعنى : مَثَلَ لهم مَثَلاً { أصحابَ القرية } وهو بدل من مَثَل ، كأنه قال : اذكُرْ لهم أصحابَ القرية . وقال عكرمة ، وقتادة : هذه القرية هي أنطاكية .
{ إذ أَرْسَلْنَا إليهم اثنين } وفي اسميهما ثلاثة أقوال :
أحدها : صادق وصدوق ، قاله ابن عباس ، وكعب .
والثاني : يوحنا وبولس ، قاله وهب بن منبه .
والثالث : تومان وبولس ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فعزَّزْنا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : « فعَزَّزْنا » بتشديد الزاي . قال ابن قتيبة : المعنى : قوَّيْنَا وشدَّدْنَا ، يقال : تعزَّز لحمُ النّاقة : إذا صَلُب . وقرأ أبو بكر ، والمفضَّل عن عاصم : « فعَزَزْنا » خفيفة ، قال أبو علي : أراد : فغَلَبْنا . قال مقاتل : واسم هذا الثالث شمعون ، وكان من الحواريِّين ، وهو وصيُّ عيسى عليه السلام . قال وهب : وأوحى اللهُ إلى شمعون يُخبره خبر الاثنين ويأمره بنُصرتهما ، فانطلق يؤمُّهما . وذكرَ الفراء أن هذا الثالث كان قد أُرسل قبلَهما؛ قال : ونراه في التنزيل كأنه بعدهما ، وإنما المعنى : فعزَّزنا بالثالث الذي قبلهما ، والمفسرون على أنه إنما أُرسل لنُصرتهما ، ثُمَّ إِنَّ الثالث إِنما يكون بعد ثانٍ ، فأمَّا إِذا سبق الاثنين فهو أوَّل؛ وإنِّي لأتعجب من قول الفراء .
واختلف المفسِّرون فيمن أَرسلَ هؤلاء الرُّسل على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى أرسلهم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وكعب ، ووهب .
والثاني : أن عيسى أَرسلهم . وجاز أن يُضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله ، قاله قتادة ، وابن جريج .
قوله تعالى : { قالوا ما أنتم إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُهنَا } أي : مالكم علينا فضل في شيء { وما أنزل الرَّحمنُ مِنْ شيءٍ } أي : لم يُنزِل كتاباً ولم يُرسِل رسولاً . وما بعده ظاهر إلى قوله : { قالوا إِنَّا تطيَّرْنا بكم } وذلك أن المطر حُبس عنهم ، فقالوا : إِنَّما أصابنا هذا من قِبلَكم { لئن لم تَنتهوا } أي : تسكتُوا عنا { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي : لَنَقْتُلَنَّكم .
{ قالوا طائرُكم معكم } أي : شُؤْمُكم معكم بكفركم ، لا بنا { أئنْ ذُكِّرتُم } قرأ ابن كثير : { أين ذُكِّرْتم } بهمزة واحدة بعدها ياء؛ وافقه أبو عمرو ، إلاَّ أنه كان يَمُدُّ . قال الأخفش : معناه : حيث ذُكِّرتم ، أي : وُعِظتم وخُوِّفتم ، وهذا استفهام جوابه محذوف ، تقديره : أئن ذُكِّرتم تطيَّرتم بنا؟! وقيل : أئن ذُكِّرتم قُلتم هذا القول؟ والمسِرفون هاهنا المشرِكون .
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قوله تعالى : { وجاءَ مِنْ أقصى المدينة رَجُلٌ يسِعى } واسمه حبيب النجّار ، وكان مجذوماً ، وكان قد آمن بالرُّسل لمَّا وردوا القرية ، وكان منزلهُ عند أقصى باب من أبواب القرية ، فلمَّا بلغه أنَّ قومه قد كذَّبوا الرُّسل وهمُّوا بقتلهم ، جاء يسعى ، فقال ما قصَّه اللهُ علينا إلى قوله : { وهم مُهْتَدون } يعني الرُّسل ، فأخذوه ورفعوه إلى الملِك . فقال له الملِك : أفأنت تَتبعهم؟ فقال : { وماليَ } أسكن هذه الياء حمزة ، وخلف ، ويعقوب { لا أعبُدُ الذي فَطَرني } أي : وأيُّ شيء لي إِذا لم أعبُد خالقي { وإليه تُرْجَعونَ } عند البعث ، فيَجزِيكم بكُفركم؟!
فإن قيل : لِمَ أضاف الفِطرةَ إلى نفسه والبعثَ إليهم وهو يَعلم أنَّ الله قد فطَرهم جميعاً كما يَبعثهم جميعاً؟
فالجواب : أن إيجاد الله تعالى نِعمة يوجب الشُّكر ، والبعثُ في القيامة وعيدٌ يوجب الزَّجر ، فكانت إِضافةُ النِّعمة إِلى نفسه أظهرَ في الشُّكر ، وإِضافةُ البعث إِلى الكافر أبلغ في الزَّجر .
ثم أَنكر عبادة الأصنام بقوله : { أَأَتَّخِذُ مِنْ دونه آلهة } .
قوله تعالى : { لا تُغْنِ عنِّي شفاعتُهم } يعني أنه لا شفاعة لهم فتُغْني ، { ولا يُنْقِذونِ } أثبت ها هنا الياء في الحالين يعقوب ، وورش . والمعنى : لا يخلِّصوني من ذلك المكروه . { إنِّي إِذاً } فتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو .
قوله تعالى : { إنّي آمنتُ بربِّكم } فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو .
وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان :
أحدهما : أنه خاطب قومه بذلك ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أنه خاطب الرُّسل .
ومعنى { فاسمَعونِ } اشهَدوا لي بذلك ، قاله الفراء . وقال أبو عبيدة : المعنى : فاسمَعوا منِّي . وأثبت ياء « فاسمَعوني » في الحالين يعقوب . قال ابن مسعود : لمَّا خاطب قومه بذلك ، وطئوه بأرجُلهم . وقال السدي : رمَوْه بالحجارة ، وهو يقول : اللهّم اهْدِ قَومي .
قوله تعالى : { قيل ادخُلِ الجَنَّة } لمَّا قتلوه فلقي الله ، قيل له : « ادخُل الجَنَّة » ، فلمَّا دخلها { قال ياليت قَوْمِي يَعْلَمونَ بِما غَفَرَ لي ربِّي } ، وفي « ما » قولان :
أحدهما : أنها مع « غَفَرَ » في موضع مصدر؛ والمعنى : بغُفران الله لي .
والثاني : أنها بمعنى « الذي » ، فالمعنى : ليتهم يَعلمون بالذي غَفَرَ لي [ به ] ربِّي فيؤمنون ، فنصحهم حياً وميتاً .
فلمَّا قتلوه عجَّل اللهُ لهم العذاب ، فذلك قوله تعالى : { وما أَنزَلْنا على قومه } يعنى قوم حبيب { مِنْ بَعْدِه } أي : مِنْ بَعْدِ قتله { مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ } يعني الملائكة ، أي : لم ينتصر منهم بجُند من السَّماء { وما كُنَّا } نُنْزِلهم على الأُمم إذا أهلكناهم . وقيل : المعنى : ما بعثْنا إليهم بعده نبيّاً ، ولا أنزلنا عليهم رسالة .
{ إنْ كانت إلاَّ صيحةً واحدةً } قال المفسِّرون : أخذ جبريل عليه السلام بِعِضَادَتَي باب المدينة ، ثم صاح بهم صيحة واحدة ، فإذا هم ميّتون لا يُسْمَع لهم حِسٌّ ، كالنَّار إِذا طُفئت ، وهو قوله تعالى : { فإذا هم خامدون } أي : ساكنون كهيأة الرَّماد الخامد .
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قوله تعالى : { يا حَسْرَةً على العِبَاد } قال الفراء : المعنى : يالها حَسْرَة على العباد . وقال الزجاج : الحَسْرَةُ أن يَرْكَبَ الإِنسان من شِدَّة الندم مالا نهاية له حتى يبقى قلبُه حَسِيراً . وفي المتحسِّر على العباد قولان :
أحدهما : أنهم يتحسَّرون على أنفسهم ، قال مجاهد والزجاج : استهزاؤهم بالرُّسل كان حسرةً عليهم في الآخرة . وقال أبو العالية : لمَّا عايَنوا العذاب ، قالوا : يا حسرتنا على المرسَلين ، كيف لنا بهمُ الآن حتى نؤمِن .
والثاني : أنه تحسُّر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرُّسل ، قاله الضحاك .
ثم خوَّف كُفَّاَر مكَّة فقال : { ألم يَرَوا } أي : ألم يَعْلَموا { كم أهلكْنا قبلهم من القرون } فيعتبروا ويخافوا أن نعجِّل لهم الهلاك كما عجِّل لمن أُهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟! . قال الفراء : وأَلِف { أنَّهم } مفتوحة ، لأن المعنى : ألم يَرَوا أنَّهم إِليهم لا يرجعون . وقد كسرها الحسن ، كأنه لم يُوقِع الرؤية على « كم » ، فلم يوقِعها على { أنّ } ، وإِن استأنفتَها كسرتَها .
قوله تعالى : { وإِنْ كُلٌّ لَمَا } وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة : « لَمَّا » بالتشديد ، { جميعٌ لدينا مُحضَرون } أي : إِن الأُمم يُحضَرون يوم القيامة ، فيجازَون بأعمالهم . قال الزجاج : من قرأ « لَمَا » بالتخفيف ، ف { ما } زائدة مؤكِّدة ، والمعنى : وإِنْ كُلُّ لَجميعٌ ، ومعناه : وما كُلُّ إِلاَّ جميع لدينا مُحضَرون . ومن قرأ « لَمَّا » بالتشديد ، فهو بمعنى « إلاَّ » تقول : « سألتُكَ لَمَّا فعلتَ » وإلاَّ فعلتَ .
{ وآيةٌ لهم الأرضُ المَيْتَةُ } وقرأ نافع : { المَيِّتَةُ } بالتشديد ، وهو الأصل ، والتخفيف أكثر ، وكلاهما جائز؛ { وآيةٌ } مرفوعة بالابتداء ، وخبرها « لهم » ، ويجوز أن يكون خبرها « الأرضُ الميتةُ »؛ والمعنى : وعلامةٌ تدلُّهم على التوحيد وأنَّ الله يَبْعَثُ الموتى أحياءً الأرضُ الميتةُ .
قوله تعالى : { فَمِنْهُ يأكلُونَ } يعنى ما يُقتات من الحبوب .
قوله تعالى : { وَجْعَلْنَا فيها } وقوله : { وفجَّرنا فيها } يعني في الأرض .
قوله تعالى : { ليأكُلوا مِنَ ثَمَره } يعني النخيل ، وهو في اللفظ مذكَّر .
{ وما عَمِلَتْهُ أيديهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : « عَمِلَتْهُ » بهاءٍ . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { عَمِلَتْ } بغير هاءٍ . والهاء مُثْبَتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة . ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة . قال الزجاج : وضع « ما » خفض؛ والمعنى : ليأكُلوا من ثمره وممَّا عملَتْه أيديهم؛ ويجوز أن يكون « ما » نفياً؛ المعنى : ولم تعمله أيديهم ، وهذا على قراءه من أثبت الهاء . فإذا حُذفت الهاءُ ، فالاختيار أن تكون « ما » في موضع خفض . وتكون بمعنى « الذي » فَيحْسُن حذف الهاء . وكذلك ذكر المفسِّرون القولين . فمن قال بالأول ، قال : ليأكُلوا ممَّا عملتْ أيديهم ، وهو الغُروس والحُروث التي تعبوا فيها ، ومن قال بالثاني قال : ليأكُلوا ما ليس مِنْ صُنعهم ، ولكنه مِنْ فِعل الحق عز وجل { أفلا يشكُرون } الله تعالى فيوحِّدوه؟! .
ثم نزَّه نفسه بقوله { سبحانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّها } يعني الأجناس كلَّها { ممّا تُنْبِتُ الأرضُ } من الفواكهة والحبوب وغير ذلك { ومِنْ أَنُفسهم } وهم الذكور والإِناث { وممَّا لا يَعْلَمُونَ } من دوابِّ البَرِّ والبحر وغير ذلك ممّا لم يَقِفوا على عِلْمه .
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله تعالى : { وآيةٌ له الليلُ نَسْلَخُ منه النَّهار } أي : وعلامة لهم تَدُلُّ على توحيدنا وقدرتنا الليلُ نَسلخ منه النهار؛ قال الفراء : نرمي بالنهار عنه . و « منه » بمعنى « عنه » . وقال أبو عبيدة : نُخْرِجُ منه النهار ونميِّزه منه فتجيء الظُّلمة ، قال الماوردي : وذلك أنّ ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء ، فإذا خرج منه أظلم . وقوله { فإذا هم مُظْلِمونَ } أي : داخلون في الظَّلام .
{ والشَّمْسُ } أي : وآيةٌ لهم الشمس { تَجري لِمُسْتَقَرٍّ لها } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : إلى موضع قرارها؛ روى « أبو ذر قال سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله { لِمُسْتَقَرٍّ لها } قال : » مُسْتَقَرُّها تحت العَرْش « ، وقال : » إِنَّها تذهب حتى تسجُد بين يَدَي ربِّها ، فتَستأذِنُ في الطُّلوع ، فيؤذَنُ لها «
والثاني : أنَّ مُسْتَقَرَّها مغربها لا تجاوزُه ولا تقصر عنه ، قاله مجاهد .
والثالث : لِوقت واحدٍ لا تعدُوه ، قاله قتاده . وقال مقاتل : لِوقت لها إِلى يوم القيامة .
والرابع : تسير في منازلها حتى تنتهيَ إلى مُسْتَقَرِّها الذي لا تجاوزُه ، ثم ترجِع إِلى أوَّل منازلها ، قاله ابن السائب . وقال ابن قتيبة : إلى مُسْتَقَرٍ لها ، ومُسْتَقَرُّها : أقصى منازلها في الغُروب ، [ وذلك ] لأنها لا تزال تتقدَّم إِلى أقصى مغاربها ، ثم ترجع .
وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وعليّ بن الحسين ، والشيزري عن الكسائي : { لا مُسْتَقَرَّ لها } والمعنى : أنها تجري أبداً ، لا تثبُت في مكان واحد .
قوله تعالى : { ذلك } الذي ذُكِر من أمر الليل والنهار والشمس { تقديرُ العزيزِ } في مُلكه { العليمِ } بما يقدِّر .
قوله تعالى : { والقَمَرَ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : » والقَمَرُ « بالرفع . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : و » القَمَرَ « بالنصب . قال الزجاج : من قرأ بالنصب فالمعنى : وقدَّرْنا القمر قدَّرناه منازل . ومن قرأ بالرفع فالمعنى : وآيةٌ لهم القمرُ قدَّرْناه ، ويجوز أن يكون على الابتداء ، و » قدَّرْناه « الخبر .
قال المفسِّرون : ومنازلُ القمر ثمانيةٌ وعشرون منزِلاً ، ينزِلها من أوَّل الشَّهر إلى آخره ، وقد سمَّيناها في سورة [ يونس : 5 ] ، فإذا صار إلى آخر منازله دَقَّ فعاد كالعُرجون ، وهو عود العِذْق الذي تركته الشماريخ فإذا جفَّ وقَدُمُ يشبه الهلال . قال ابن قتيبة : و » القديم « هاهنا : الذي قد أتى عليه حَوْلٌ ، شُبِّه القمرُ آخِر لَيلةٍ يطلعُ به . قال الزجاج : وتقدير » عُرجون « : فُعْلون من الانعراج .
وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، والضحاك ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : { كالعِرْجَوْن } بكسر العين .
قوله تعالى : { لا الشَّمس ينبغي لها أن تُدْرِك القمر } فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنهما إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يَدَي الآخر ، فلا يشتركان في المنازل ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا يُشْبِه ضوءُ أحدهما ضوءُ الآخر ، قاله مجاهد .
والثالث : لا يجمتع ضوءُ أحدهما مع الآخر ، فإذا جاء سُلطان أحدهما ذهب سُلطان الآخر ، قاله قتادة؛ فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء لم يُعرف الليل .
قوله تعالى : { ولا الليَّلُ سابِقُ النَّهارِ } وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وعاصم الجحدري : { سابِقُ } بالتنوين » النَّهارَ « بالنصب ، وفيه قولان :
أحدهما : لا يَتقدَّم الليلُ قبل استكمال النهار .
والثاني : لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهارٍ فاصلٍ بيهما . وباقي الآية مفسَّر في سورة [ الأنبياء : 33 ] .
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
قوله تعالى : { وآيةٌ لهم أنّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } قرأ نافع ، وابن عامر : « ذُرْيَّاتِهِمْ » على الجمع؛ وقرأ الباقون من السبعة : « ذُرِّيَّتَهُمْ » على التوحيد . قال المفسِّرون : أراد : في سفينة نوح ، فنسب الذُّرِّيَّة إلى المخاطَبين ، لأنهم من جنسهم ، كأنه قال : ذُرِّيَّة الناس . وقال الفراء : أي : ذُرِّيَّة مَنْ هو منهم ، فجعلها ذُرِّيَّةً لهم ، وقد سبقتْهم . وقال غيره : هو حَمْلُ الأنبياء في أصلاب الآباء حين رَكِبوا السفينة ، ومنه قول العباس :
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفينَ وقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وأَهْلَهُ الغَرَقُ
قال المفضّل بن سلمة : الذُّرِّيَّة : النَّسْل ، لأنهم مَنْ ذرأهم اللهُ منهم ، والذُّرِّيَّة أيضا : الآباء ، لأن الذَّرَّ وقع منهم ، فهو من الأضداد . ومنه هذه الآية وقد شرحنا هذا في قوله ، { ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض } [ آل عمران : 34 ] ؛ والمشحون : المملوء .
قوله تعالى : { وخَلَقْنا لهم مِنْ مِثْلِه } فيه قولان .
أحدهما : مِثْل سفينة نوح ، وهي السُّفُن ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، وأبو مالك ، وأبو صالح ، والمراد بهذا ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن .
والثاني : أنها الإِبل ، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ ، مثل السُّفُن المركوبة في البحر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وعن الحسن وقتادة كالقولين .
قوله تعالى : { فلا صَريخَ لهم } أي : لا مُغيثَ ولا مُجِير ، { ولا هُمْ يُنْقَذُون } أي : ينجون من الغرق ، يقال : أنقَذه واستنقَذه : إذا خلَّصه ، من المكروه ، { إلاَّ رَحْمةً مِنَّا } المعنى : إلا أن نرحمهم ونمتِّعهم إلى آجالهم .
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم } يعني الكُفَّار { اتَّقُوا ما بين أيديكم وما خلفكم } فيه أربعة أقوال :
أحدها : { ما بين أيديكم } : ما مضى من الذُّنوب ، { وما خَلْفكم } : ما يأتي من الذنُّوب ، قاله مجاهد .
والثاني : { ما بين أيدكم } ما تَقدَّم من عذاب الله للأُمم { وما خلفكم } من أمر الساعة ، قاله قتادة .
والثالث : « ما بين أيديكم » من الدنيا « وما خَلْفكم » من عذاب الآخرة قاله سفيان .
والرابع : « ما بين أيديكم » من أمر الآخرة ، « وما خَلْفكم » من أمر الدنيا فلا تَغْتَرُّوا بها . قاله ابن عباس والكلبي .
{ لعلكم تُرْحَمون } أي : لتكونوا على رجاء الرحمة من الله . وجواب « إذا » محذوف تقديره : إِذا قيل لهم هذا ، أعرضوا؛ ويدُلُّ على هذا المحذوف قوله { وما تأتيهم مِنْ آيةٍ } أي : من دلالة تدل على صدق الرسول .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
قوله تعالى : { وإِذا قيل لهم أنفِقوا } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها : في اليهود ، قاله الحسن .
والثاني : في الزنادقة قاله قتادة .
والثالث : في مشركي قريش قاله مقاتل؛ وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام فقالوا { أَنُطْعِمُ من لو يشاءُ اللهُ أطعمه } . وقال ابن السائب : كان العاص بن وائل إِذا سأله مسكين ، قال : اذهب إلى ربِّك فهو أولى بك مني ، ويقول : قد منعه الله ، أُطعمه أنا؟! ومعنى الكلام أنهم قالوا : لو أراد اللهُ أن يرزقهم لرزقهم ، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نُطْعِمهم وهذا خطأٌ منهم ، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضاً ، ليبلوَ الغنيَّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة ، والمؤمن لا يعترض على المشيئة ، وإنما يوافق الأمر . وقيل : إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء .
وفي قوله : { إن أنتم إلا في ضلال مبين } قولان .
أحدهما : أنه من قول الكفار للمؤمنين ، يعنون إِنكم في خطأٍ من اتِّباع محمد .
والثاني : أنه من قول الله للكفار لما ردُّوه من جواب المؤمنين .
قوله تعالى : { متى هذا الوعد } يعنون القيامة؛ والمعنى : متى إنجاز هذا الوعد { إن كنّتم صادقين } ؟ يعنون محمدا وأصحابه .
{ ما ينظُرون } أي : ما ينتظرون { إلاَّ صيحةً واحدةً } وهي النفخة الأولى . و { يَخصِّمُونَ } بمعنى يختصون ، فأُدغمت التاء في الصاد . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { يَخَصِّمُونَ } بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد . وروي عن أبي عمرو اختلاس حركة الخاء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، والكسائي : { يَخْصِّمُونَ } بفتح الياء وكسر الخاء . وعن عاصم كسر الياء والخاء . وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد . وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، أي : يَخْصِمُ بعضهم بعضاً . وقرأ أُبيٌّ بن كعب : { يختصمون } بزيادة تاء؛ والمعنى أن الساعة تأتيهم أَغفلَ ما كانوا عنها وهم متشاغلون في متصرَّفاتهم وبيعهم وشرائهم { فلا يستطيعون توصيةً } قال مقاتل : أُعجلوا عن الوصية فماتوا ، { ولا إِلى أهلهم يَرْجِعُونَ } أي : لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم؛ فهذا وصف ما يَلْقَون في النفخة الأولى . ثم ذكر ما يَلْقَون في النفخة الثانية فقال : { ونُفِخَ في الصُّور فإذا هم من الأجداث } يعني القبور؛ { إِلى ربهم يَنْسِلُونَ } أي : يخرُجون بسرعة ، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة [ الأنبياء : 96 ] . { قالوا يا وليلنا مَنْ بَعَثَنا من مرقدنا } وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو رزين ، والضحاك وعاصم الجحدري : { من بعثْنَا } بكسر الميم والثاء وسكون العين . قال المفسرون : إنما قالوا هذا ، لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين . قال أُبيُّ بن كعب : ينامون نومة قبل البعث فإذا بُعثوا قالوا هذا .
قوله تعالى : { هذا ما وعد الرحمنُ } في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قول المؤمنين ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن أبي ليلى . قال قتادة : أول الآية للكافرين ، وآخرها للمؤمنين .
والثاني : أنه قول الملائكة لهم ، قاله الحسن .
والثالث : أنه قول الكافرين ، يقول بعضهم لبعض : هذا الذي أخبرَنا به المرسَلون أننا نُبعث ونجازى ، قاله ابن زيد .
قال الزجاج : { من مرقدنا } هو وقف التمام ويجوز أن يكون « هذا » من نعت « مرقدنا » على معنى : مَنْ بعثَنا مِنْ مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله { ما وعد الرَّحمنُ } أحد إِضمارين ، إما « هذا » ، وإِما « حق » ، فيكون المعنى : حقُّ ما وَعد الرَّحمنُ .
ثم ذكر النفخة الثانية ، فقال : { إن كانت إلاَّ صيحةً واحدةً } ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله { إنَّ أصحاب الجنة اليوم } يعني في الآخرة { في شُغُلٍ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو « في شُغْلٍ » بإسكان الغين . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : « في شُغُلٍ » بضم الشين والغين . وقرأ أبو هريرة ، وأبو رجاء ، وأيوب السختياني : { في شَغَلٍ } بفتح الشين والغين . وقرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، والنخعي ، وابن يعمر ، والجحدري « { في شَغْلٍ } بفتح الشين وسكون الغين . وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن شغلهم افتضاض العذارى ، رواه شقيق عن ابن مسعود ، ومجاهد عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني : ضرب الأوتار ، رواه عكرمة عن ابن عباس؛ وعن عكرمة كالقولين ، ولا يثبت هذا القول .
والثالث : النِّعمة ، قاله مجاهد . وقال الحسن : شغلهم : نعيمهم عمَّا فيه أهل النار من العذاب .
قوله تعالى : { فاكِهونَ } وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو المتوكل ، وقتادة ، وأبو الجوزاء ، والنخعي ، وأبو جعفر : { فَكِهُون } . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان :
أحدهما : أن بينهما فرقاً .
فأما » فاكهون « ففيه أربعه أقوال :
أحدها : فَرِحون ، قاله ابن عباس .
والثاني : مُعْجَبُون ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثالث : ناعمون قاله أبو مالك ، ومقاتل .
والرابع : ذوو فاكهة ، كما يقال : فلانٌ لابِنٌ تامِرٌ ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .
وأما { فَكِهون } ففيه قولان .
أحدهما : أن الفَكِه : الذي يتفكَّه ، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس : إن فلاناً لفَكِهٌ بكذا . ومنه يقال للمُزاح : فُكاهَة ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : أن فَكِهين بمعنى فَرِحين ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني : أن فاكهين وفكهِين بمعنى واحد ، كما يقال : حاذِرٌ وحَذِرٌ ، قاله الفراء . وقال الزجاج : فاكِهون وفكهِون بمعنى فَرِحين ، وقال أبو زيد : الفَكِه : الطيِّب النَّفْس الضَّحوك ، يقال رجل فاكِه وفَكِه .
قوله تعالى : { هم وأزواجهم } يعنى حلائلهم { في ظلال } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { في ظُلَلٍ } . قال الفراء : الظِّلال جمع ظِلٍّ والظُّلَل جمع ظُلَّة ، وقد تكون الظِّلال جمع ظُلَّة أيضا ، كما يقال : خُلَّة وخُلَل؛ فإذا كثرت فهي الخِلال والحِلال والقِلال .
قال مقاتل : والظِّلال : أكنان القصور . قال أبو عبيدة : والمعنى أنهم لا يَضْحَوْنَ . فأما الأرائك فقد بيَّنَّاها في سورة [ الكهف : 31 ] .
قوله تعالى : { ولهم ما يَدَّعون } قال ابن قتيبة : ما يَتَمَنَّوْنَ ، ومنه يقول الناس : هو في خيرِ ما ادَّعى ، أي : ما تَمَنَّى ، والعرب تقول : ادَّع ما شئتَ ، أي : تَمَنَّ ما شئتَ . وقال الزجاج : هو مأخوذ من الدًّعاء؛ والمعنى : كلُّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم وقوله : { سلامٌ } بدل من « ما »؛ المعنى : لهم ما يتمنَّون سلام ، أي هذا مُنى أهل الجنة أن يُسلِّم اللهُ عليهم و { قولاً } منصوب على معنى : سلامٌ يقوله اللهُ قولاً . قال أبو عبيدة : « سلامٌ » رفع على « لهم »؛ فالمعنى : لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام . وقال الفراء : معنى الكلام : لهم ما يدَّعون مسلَّم خالص ، ونصب القول ، كأنكَ قلتَ : قاله قولاً ، وإِن شئتَ جعلتَه نصباً من قوله : ولهم ما يدَّعون قولاًَ ، كقولكَ : عِدَةً من الله . وقرأ ابن مسعود ، وأًبيُّ بن كعب ، والجحدري { سلاماً قولاً } بنصبهما جميعاً .
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قوله تعالى : { وامتازوا اليومَ أيُّها المُجْرِمون } قال ابن قتيبة : أي : انقطِعوا عن المؤمنين وتميَّزوا منهم ، يقال : مِزتُ الشيءَ من الشيء : إذا عزلتَه عنه ، فانماز وامتاز وميّزتُه فتميَّز .
قال المفسرون : إذا اختلط الإِنس والجن في الآخرة ، قيل : { وامتازوا اليوم أيُّها المجرمون } ، فيقال للمجرمين { ألم أعهد إِليكم } ؟ أي : ألم آمركم ألم أوصِكم؟ و « تعبُدوا » بمعنى تُطيعوا ، والشيطان هو إبليس ، زيَّن لهم الشِّرك فأطاعوه { إنَّه لكم عدوٌّ مُبِينٌ } ظاهر العداوة ، أخرج أبويكم من الجنة .
{ وأنِ اعبُدوني } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : { وأَنُ اعبُدوني } بضم النون . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة : { وأَنِ اعبُدوني } بكسر النون؛ والمعنى : وحِّدوني { هذا صراطٌ مستقيمٌ } يعني التوحيد .
{ ولقد أَضَلَّ منكم جِبَلاًّ } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : { جُبُلاً } بضم الجيم والباء وتخفيف اللام . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر : « جُبْلاً » بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام . وقرأ نافع ، وعاصم : « جِبِّلاً » بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام . وقرأ علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والزهري ، والأعمش : { جُبُلًّا } بضم الجيم والباء مع تشديد اللام . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السميفع : { جِبْلاً } بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكل ، ومعاذ القاريء : { جُبَلاً } برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام . وقرأ أبو العالية : وابن يعمر : { جِبَلاً } بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام . وقرأ أبو عمران الجوني ، وعمرو بن دينار : { جِبَالاً } مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف . ومعنى الكلمة كيف تصرَّفت في هذه اللغات : الخَلْق والجماعة؛ فالمعنى : ولقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرًا { أفلم تكونوا تَعْقِلونَ } ؟ فالمعنى : قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان ، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن يعمر : { أفلم يكونوا يعقلون } بالياء فيهما ، فإذا أُدْنُوا إلى جهنم قيل لهم : { هذه جهنَّمُ التي كنتم توعدون } بها في الدنيا { اصْلَوها } أي : قاسُوا حَرَّها .
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قوله تعالى : { اليومَ نَخْتِمُ على أفواهم } وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : { يُخْتَمُ } بياء مضمومة وفتح التاء { وتُكَلِّمُنا } قرأ ابن مسعود : { ولِتُكَلِمنَا } بزيادة لام مكسورة وفتح الميم و واو قبل اللام وقرأ أُبيُّ بن كعب وابن أبي عبلة : { لِتُكَلِّمَنا } بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم؛ وقرأوا جميعا : { ولِتَشْهَدَ أرجُلُهم } بلام مكسورة وبنصب الدال .
ومعنى { نَخْتِمُ } : نَطبع عليها ، وقيل : منعُها من الكلام هو الختم عليها ، وفي سبب ذلك أربعة أقوال :
أحدها : أنهم لمّا قالوا { واللهِ ربِّنا ما كُنَّا مشرِكينَ } [ الأنعام : 23 ] خَتَم اللهُ على أفواهم ونطقت جوارحهُم ، قاله أبو موسى الأشعري .
والثاني : ليَعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم على المعاصي صارت شهوداً [ عليهم ] .
والثالث : ليعرفهم أهل الموقف ، فيتميَّزوا منهم بذلك .
والرابع : لأن إِقرار الجوارح أبلغ في الإِقرار من نُطْق اللسان ، ذكرهنّ الماوردي .
فإن قيل : ما الحكمة في تسمية نُطق اليد كلاماً ونطقِ الرِّجْل شهادةً؟ .
فالجواب : أن اليد كانت مباشِرة والرِّجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل .
قوله تعالى : { ولو نشاءُ لطَمَسْنا على أعيُنْهم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ولو نشاء لأذهبْنا أعيُنَهم حتى لا يبدوَ لها شَقٌّ ولا جَفْن . والمطموس : الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ ، { فاستَبَقوا الصِّراط } أي : فتبادروا إلى الطريق { فأنّى يًبْصِرونَ } [ أي ] : فكيف يُبْصِرون وقد أعمينا أعيُنَهم؟! وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق ، وعروة بن الزبير ، وأبو رجاء : { فاستَبِقوا } بكسر الباء { فأنَّى تًُبْصِرونَ } بالتاء وهذا تهديد لأهل مكة ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : ولو نشاء لأضلَلْناهم وأعميناهم عن الهُدى ، فأنّى يُبصِرون الحقَّ . ؟! رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : ولو نشاء لفقأْنا أعيُنَ ضلالَتهم وأعميناهم عن غَيِّهم وحوَّلْنا أبصارهم من الضلالة إلى الهُدى فأبصروا رشدهم ، فأنّى يُبصِرونَ ولم أفعل ذلك ، بهم؟! روي عن جماعة منهم مقاتل .
قوله تعالى : { ولو نشاء لَمَسَخْناهم على مكانتهم } وروى أبو بكر عن عاصم : { على مكاناتهم } ؛ وقد سبق بيان هذا [ البقرة : 65 ] .
وفي المراد بقوله { لمَسَخْناهم } أربعة أقوال .
أحدها : لأهلكْناهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : لأقعدناهم على أرجلهم ، قاله الحسن وقتادة .
والثالث : لجعلْناهم حجارة ، قاله أبو صالح ، ومقاتل .
والرابع : لجعلْناهم قردةً وخنازيرَ لا أرواح فيها ، قاله ابن السائب .
وفي قوله : { فما استطاعوا مُضِيّاً ولا يَرْجِعونَ } ثلاثة أقوال .
أحدها : فما استطاعوا أن يتقدَّموا ولا أن يتأخروا ، قاله قتادة .
والثاني : فما استطاعوا مُضِيّاً عن العذاب ، ولا رجوعاً إِلى الخِلقة الأُولى بعد المسخ ، قاله الضحاك .
والثالث : مُضِيّاً من الدنيا ولا رجوعاً إليها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ومَنْ نُعَمِّرْه ننكِّسْه في الخَلْق } قرأ حمزة : { نُنَكِّسْه } مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية؛ والباقون : بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد؛ وعن عاصم كالقراءَتين ، ومعنى الكلام : من نُطِلْ عمره ننكِّس خَلْقَه ، فنجعل مكان القوَّة الضَّعف ، وبدل الشباب الهرم ، فنردُّه إِلى أرذل العمر . { أفلا يَعْقِلونَ } قرأ نافع ، وأبو عمرو : { أفلا تعقلون } بالتاء ، والباقون بالياء . والمعنى : أفلا يعقلون أنَّ مَنْ فعل هذا قادر على البعث؟! .
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله تعالى : { وما علَّمْناه الشِّعر } قال المفسرون : إِن كفار مكة قالوا : إِنَّ هذا القرآن شِعْر وإِن محمداً شاعر ، فقال الله تعالى : { وما علَّمْناه الشِّعْر } { وما ينبغي له } أي : ما يتسهَّل له ذلك . قال المفسرون : ما كان يَتَّزن له بيتُ شِعر ، حتى إِنه « روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تمثَّل يوماً فقال : »
« كَفَى بالإِسلامِ والشَّيْبِ لِلْمَرْءِ ناهِياً » ... « فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إِنما قال الشاعر : »
كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ لِلْمَرْءِ نَاهياً ... « أَشهدُ أنَّكَ رسولَ الله ، ما علَّمكَ اللهُ الشِّعر ، وما ينبغي لك . ودعا يوماً بعباس بن مرداس فقال : » أنت القائل : «
أَتَجْعَلُ نَهْبِي ونَهْبَ العبي . . . د بين الأَقْرَعِ وعُيَيْنَة »؟ ... « فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي ، لم يقل كذلك ، فأنشده أبو بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يَضُرُّكَ بأيِّهما بدأتَ « ، فقال أبو بكر : والله ما أنت بشاعر ، ولا ينبغي لك الشِّعر . وتمثَّل يوماً ، فقال : »
« ويَأتِكَ مَنْ لم تُزَوِّدْهُ بالأَخْبارِ » ... « فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : » إِنِّي لستُ بشاعر ، ولا ينبغي لي « وإِنما مُنِعَ من قول الشِّعر ، لئلا تدخُل الشُّبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون : قوي على ذلك بما في طَبْعه من الفطنة للشِّعر .
قوله تعالى : { إِنْ هو } يعني القرآن { إِلاّ ذِكْرٌ } إِلا موعظة { وقرآنٌ مُبينٌ } فيه الفرائض والسُّنن [ والأحكام ] .
قوله تعالى : { لِيُنْذِرَ } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : » لِيُنْذِرَ « بالياء ، يعنون القرآن . وقرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب : » لِتُنْذِرَ « بالتاء ، يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، أي : لِتُنْذَرَ يا محمَّدُ بما في القرآن . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن السمفيع : » ليُنْذَرَ « ياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعاً .
قوله تعالى : { مَنْ كان حَيّاً } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : حيّ القلب حيّ البصر ، قال قتادة .
والثاني : من كان عاقلاً ، قاله الضحاك . قال الزجاج : من كان يَعْقِل ما يخاطَب به ، فإن الكافر كالميت في ترك النذير .
والثالث : مهتدياً ، قاله السدي وقال مقاتل : من كان مهتدياً في عِلْم الله .
والرابع : من كان مؤمناً ، قال يحيى بن سلام؛ وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله : { إِنَّما تُنْذِرُ الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم } [ فاطر : 18 ] ، ويجوز أن يريد : إِنما يَنفع إِنذارُك مَنْ كان مؤمِناً في علم الله .
قوله تعالى : { ويحقَّ القول على الكافرين } معناه : يجب . وفي المراد بالقول قولان . أحدهما : أنه العذاب . والثاني : الحُجَّة .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
ثم ذكَّرهم قُدرته فقال : { أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا خَلَقْنا لهم ممّا عَمِلَتْ أيدينا أَنعاماً } قال ابن قتيبة : يجوز أن يكون المعنى : ممّا عَمِلْناه بقوَّتنا وقدرتنا ، وفي اليد القُدرةُ والقُوَّةُ على العمل ، فتُستعارُ اليدُ فتُوضَع موضعها هذا مَجازٌ للعرب يحتملُه هذا الحرف ، والله أعلم بما أراد . وقال غيره : ذِكْر الأيدي ها هنا يدلُّ على انفراده بما خَلَق ، والمعنى : لم يشاركْنا أحد في إِنشائنا؛ والواحدُ مِنّا إِذا قال : عملتُ هذا بيدي ، دلَّ ذلك على انفراده بعمله . وقال أبو سليمان الدمشقي : معنى الآية : ممّا أَوجدْناه بقُدرتنا وقوَّتنا؛ وهذا إِجماعٌ أنه لم يُرد هاهنا إلا ما ذكرْنا .
قوله تعالى : { فهُم لها مالكونَ } فيه قولان .
أحدهما : ضابطون ، قاله قتادة ، ومقاتل . قال الزجاج : ومثله في الشِّعر :
أَصبحتُ لا أَحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إِنْ نَفَرا
أي : لا أَضبِط رأس البعير .
والثاني : قادرون عليها بالتسخير لهم ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وذلَّلْناها لهم } أي : سخَّرْناها ، فهي ذليلة لهم { فمنها رَكُوبُهم } قال ابن قتيبة : الرَّكُوب : ما يَرْكَبون ، والحَلوب : ما يَحْلُبُون . قال الفراء : ولو قرأ قارىءٌ : { فمنها رُكُوبُهم } ، كان وجهاً ، كما تقول : منها أكلهم وشُربهم ورُكوبهم . وقد قرأ بضم الراء الحسن ، وأبو العالية ، والأعمش ، وابن يعمر في آخرين . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وعائشة : { رَكُوبَتُهم } بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة . قال المفسرون : يركبون من الأنعام الإِبل ، ويأكلون الغنم ، { ولهم فيها منَافعُ } من الأصواف والأوبار والأشعار والنَّسْل { ومَشاربُ } [ من ] ألبانها ، { أَفَلا يَشْكُرونَ } ربَّ هذه النِّعم فيوحِّدونه؟! .
ثم ذكر جهلهم فقال : { واتَّخَذوا مِنْ دون الله آلهةً لعلَّهم يُنْصَرون } أي : لتمنَعهم من عذاب الله؛ ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله { لا يستطيعون نَصْرَهم } أي : لا تَقْدِرُ الأصنام على منعهم من أَمْرٍ أراده اللهُ بهم { وهُمْ } يعني الكفار { لَهُمْ } يعني الأصنام { جُنْدٌ مُحْضَرونَ } وفيه أربعة أقوال :
أحدها : جُنْدٌ في الدنيا مُحْضَرونَ في النار ، قاله الحسن .
والثاني : مُحْضَرونَ عند الحساب ، قاله مجاهد .
والثالث : المشركون جُنْدٌ للأصنام ، يَغضبون لها في الدنيا ، وهي لا تسوق إِليهم خيراً ولا تدفع عنهم شرّاً قاله قتادة . وقال مقاتل : الكفار يَغضبون للآلهة ويَحْضُرونها في الدنيا . وقال الزجاج : هم للأصنام ينتصرون ، وهي لا تستطيع نصرهم .
والرابع : هم جُنْدٌ مُحْضَرون عند الأصنام يعبدونها ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { فلا يَحْزُنْكَ قولهُم } يعني قول كفار مكة في تكذيبك { إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ } في ضمائرهم من تكذيبك { وما يُعلِنونَ } بألسنتهم من ذلك؛ والمعنى إِنا نُثيبك ونجازيهم .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلَقْناه مِنْ نُطْفة } اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال :
أحدها : « أنه العاص بن وائل السهمي ، أخذ عَظْماً من البطحاء ففتَّه بيده ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُحْيي اللهُ هذا بعد ما أرى؟ فقال : » نعم ، يُميتُكَ الله ثُمَّ يُحْييكَ ثُم َّيُدخلكَ نار جهنَّم « ، فنزلت هذه الآيات . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أنه عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، جرى له نحو هذه القصة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنه أبو جهل ابن هشام وأن هذه القصة جرت له ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والرابع : أنه أُميَّةُ بن خَلَف ، قاله الحسن .
والخامس : أنه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي ، وهذه القصة جرت له ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والجمهور ، وعليه المفسِّرون .
ومعنى الكلام : التعجُّب مِنْ جهل هذا المخاصِم في إِنكاره البعث؛ والمعنى : ألا يَعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل : هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلاً .
{ وضرب لنا مثلاً } في إِنكار البعث بالعَظْم البالي حين فتَّه بيده ، وتعجَّب ممن يقول : إِن الله يُحْييه { ونَسِيَ خَلْقَهُ } أي : نَسِيَ خَلْقَنا له ، أي : تَرَكَ النَّظَر في خَلْق نفسِه ، إِذ خُلِق من نُطْفة . { قال من يُحْيِي العظامَ وهي رَميمٌ } ! أي : بالية يقال : رَمَّ العَظْمُ ، إِذا بَلِيَ ، فهو رَمِيمٌ ، لأنه معدول عن فاعله ، وكل معدول عن وجهه و وزنه فهو مصروف عن إِعرابه كقوله : { وما كانتْ أُمُّكِ بَغِْيّاً } [ مريم : 28 ] ، فأسقط الهاء لأنها مصروفة عن » باغية «؛ فقاس هذا الكافر قُدرة الله تعالى بقُدرة الخَلْق ، فأنكر إِحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخَلْق . { قُلْ يُحْييها الذي أَنشأهَا } أي : ابتدأ خَلْقها { أَوَّلَ مَرَّةٍ وهو بكُلِ خَلْقٍ } من الابتداء والإِعادة { عليمٌ } .
{ الذي جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجر الأخضر ناراً } قال ابن قتيبة : أراد الزُّنُودَ التي تُورِي بها الأَعرابُ من شجر المَرْخِ والعَفَار . فإن قيل : لم قال : » الشَّجَرِ الأَخضرِ « ولم يقل : الشَّجَرِ الخُضْر؟
فالجواب : أن الشجر جمع ، وهو يؤنَّث ويذكَّر ، قال الله تعالى : { فمالئون منها البُطونَ } [ الواقعة : 53 ] ، وقال : { فإذا أنتم منه توقِدونَ } .
ثم ذكر ما هو أعظم من خَلْق الإِنسان ، فقال : { أوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرضِ بِقادِرٍ } وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق ، وعاصم الجحدري : { يَقْدِرُ } بياء من غير ألف { على أن يَخْلُقَ مِثْلَهم } ؟! وهذا استفهام تقرير؛ والمعنى : مَنْ قَدَرَ على ذلك العظيم ، قَدَرَ على هذا اليسير . وقد فسرنا معنى { أن يَخْلُقَ مِثْلَهم } في [ بني إسرائيل : 99 ] ؛ ثم أجاب هذا الاستفهام فقال : { بلى وهو الخَلاّقُ } يخلُق خَلْقاً بَعْدَ خَلْق . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن ، وعاصم الجحدري : { وهو الخَالِقُ } { العليمُ } بجميع المعلومات . والمَلَكوتُ والمُلْكُ واحد . وباقي السورة قد تقدم شرحه [ البقرة : 117 ، 32 ، الأنعام : 75 ] .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قوله تعالى : { والصّافّاتِ صَفّاً } فيها قولان :
أحدهما : أنها الملائكة ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور . قال ابن عباس : هم الملائكة صفُوفٌ في السماء ، لا يَعْرِفُ مَلَكٌ منهم مَنْ إلى جانبه ، لم يَلْتَفِتْ منذ خَلَقَه اللهُ عزّ وجلّ . وقيل : هي الملائكة تصُفُّ أجنحتها في الهواء واقفة إِلى أن يأمرها الله عز وجل بما يشاء .
والثاني : أنها الطَّير ، كقوله : { والطَّيْرُ صافّاتٍ } [ النور : 41 ] حكاه الثعلبي .
وفي الزاجرات قولان :
أحدهما : أنها الملائكة التي تزجُر السَّحاب ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنها زواجر القرآن وكلُّ ما ينهى ويزجُر عن القبيح ، قاله قتادة .
وفي التّاليات ذِكْراً ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، قاله ابن مسعود ، [ والحسن ] ، والجمهور .
والثاني : أنهم الرسل ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم ، قاله قتادة .
وهذا قَسَم بهذه الأشياء ، وجوابه : { إِنَّ إِلهكم لَواحِدٌ } وقيل : معناه : ورب هذه الأشياء إِنّه واحد .
قوله تعالى : { وربُّ المَشارق } قال السدي : المَشارق ثلاثمائة وستونَ مَشْرِقاً ، والمغارب مِثْلُها ، على عدد أيام السَّنة .
فإن قيل : لِمَ ترك ذِكْر المَغارب؟
فالجواب : أن المشارق تَدُلُّ على المَغارب ، لأن الشُّروق قَبْل الغُروب .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
قوله تعالى : { إنّا زَيَّنَّا السَّماء الدُّنيا } يعني التي تلي الأرض ، وهي أدنى السموات إلى الأرض { بزينةٍ الكواكب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي : { بزينةِ الكواكب } مضافاً ، أي : بحُسنها وضوئها . وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : { بزينةٍ } منونة وخفض « الكواكبِ » [ وجعل « الكواكب » ] بدلاً من الزينة لأنها هي ، كما تقول : مررتُ بأبي عبد الله زيدٍ؛ [ فالمعنى : إنا زيَّنَّا السماء الدُّنيا بالكواكب . وقرأ أبو بكر عن عاصم : « بزينةٍ » بالتنوين وبنصب « الكواكبً » ] ؛ والمعنى : زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنّا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور . قال الزجاج : ويجوز أن يكون « الكواكبَ » في النَّصْب بدلاً من قوله : { بزينة } لأن قوله : { بزينة } في موضع نصب . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومعاذ القارىء ، وأبو نهيك ، وأبو حصين الأسدي في آخرين : { بزينةٍ } بالتنوين { الكواكبُ } برفع الباء؛ قال الزجاج : والمعنى : إنّا زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنتْها الكواكبُ وبأن زيّنتِ الكواكب . { وحِفْظاً } أي : وحَفِظْناها حفْظاً . فأمّا المارد ، فهو العاتي ، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى : { شيطاناً مريداً } [ النساء : 117 ] .
قوله تعالى : { لا يَسْمَعُونَ } قال الفراء : « لا » هاهنا كقوله { كذلكَ سَلَكْناهُ في قُلوب المُجْرِمينَ . لا يؤمِنونَ به } [ الشُّعراء : 200 201 ] ؛ ويصلح في « لا » على هذا المعنى الجزم ، فإن العرب تقول : ربطتُ الفرس لا يَنْفَلِتْ . وقال غيره : لكي لا يَسَّمَّعوا إِلى الملأِ الأعلى ، وهم الملائكة الذين في السماء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف : { لا يَسَّمَّعُونَ } بتشديد السين ، وأصله : يتسمَّعون ، فأُدغمت التاء في السين . وإنما قال : { إلى الملأِ الأعلى } لأن العرب تقول : سمعتُ فلاناً ، وسمعتُ من فلان ، وإلى فلان .
{ ويُقْذَفون مِنْ كُلّ جانبٍ } بالشًّهُب { دُحُوراً } قال قتادة : أي قذفاً بالشُّهُب . وقال ابن قتيبة : أي : طَرْداً ، يقال : دَحَرْتُه دَحْراً وُدُحوراً ، أي : دفعتُه . وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن ، والضحاك ، وأيوب السختياني ، وابن أبي عبلة : { دَحُوراً } بفتح الدال .
وفي { الواصب } قولان :
أحدهما : أنه الدائم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه المُوجِع ، قاله أبو صالح والسدي .
وفي زمان هذا العذاب قولان :
أحدهما : أنه في الآخرة .
والثاني : [ أنه ] في الدنيا ، فهم يُخْرَجون بالشُّهُب ويُخبَلُون إِلى النَّفْخة الأولى في الصُّور .
قوله تعالى : { إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفة } قرأ ابن السميفع : { خَطِّفَ } بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها . وقرأ أبو رجاء ، والجحدري : بكسر الخاء والطاء جميعا والتخفيف . قال الزجاج : خََطَفَ وخَطِفَ ، بفتح الطاء وكسرها ، يقال : خَطَفْتُ أَخْطِفُ ، وخَطِفْتُ أَخْطَفُ : إِذا أخذت الشيء بسرعة . ويجوز { إلاّ مَنْ خَطَّف } بفتح الخاء وتشديد الطاء ، ويجوز { خِطَفَ } بكسر الخاء وفتح الطاء؛ والمعنى : اختطف فأدغمت التاء في الطاء ، وسقطت الألف لحركة الخاء؛ فمن فتح الخاء ، ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في « اختطف » ، ومن كسر الخاء ، فلِسكونها وسُكون الطاء . فأما من روى [ « خِطِف » ] بكسر الخاء والطاء ، فلا وجه لها إلا وجهاً ضعيفاً جداً ، وهو أن يكون على إِتباع الطاء كسرة الخاء . قال المفسرون : والمعنى : إلا مَن اختطف الكلمة من كلام الملائكة مُسارَقةً { فأَتْبَعَهُ } أي : لَحِقَهُ { شِهابٌ ثاقبٌ } قال ابن قتيبة : أي كوكبٌ مُضيءُ ، يقال : أثْقِِبْ نارَك ، أي : أضِئْها ، والثَّقُوب : ما تُذْكَى به النّارُ .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قوله تعالى : { فاسْتَفْتِهِمْ } أي : فَسَْلهُمْ سؤالَ تقرير { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي : أَحْكَمُ صَنْعةً { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } فيه قولان :
أحدهما : أن المعنى : أَمْ مَنْ عدَدْنا خَلْقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض ، قاله ابن جرير .
والثاني : أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم السالفة ، والمعنى : إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب ، فما الذي يؤمن هؤلاء؟! .
ثم ذكر خَْلق الناس فقال : { إِنّا خَلَقْناهم مِنْ طينٍ لازِبٍ } قال الفراء ، وابن قتيبة : أي : لاصقٍ لازمٍ ، والباء تُبدَلُ من الميم لقُربِ مَخْرَجَْيهما . قال ابن عباس : هو الطيّن الحُرُّ الجيِّد اللَّزِقُ . وقال غيره : هو الطِّين الذي يَنْشَف عنه الماءُ وتبقى رطوبتُه في باطنه فيَلْصَق باليد كالشمع . وهذا إِخبار عن تساوي الأصل في خَلْقهم وخَلْق مَن قَبْلَهم؛ فمن قدَر على إِهلاك الأقوياء ، قَدرَ على إهلاك الضُّعفاء .
قوله تعالى : { بل عَجِبْتَ } « بل » معناه : تركُ الكلام الأول والأخذُ في الكلام الآخر ، كأنه قال : دع يا محمد ما مضى .
وفي { عَجِبْتَ } قراءتان : قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { بل عَجِبْتَ } بفتح التاء . وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وعكرمة ، وقتادة ، وأبو مجلز ، والنخعي ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، وحمزة ، والكسائي في آخرين : { بل عَجِبْتُ } بضم التاء ، [ واختارها الفراء ] . فمن فتح أراد : بل عَجِبْتَ يا محمد { ويَسْخَرونَ } هم . قال ابن السائب : أنتَ تَعْجَبُ منهم ، وهم يَسْخَرون منك . وفي ما عجبَ منه قولان :
أحدهما : من الكفار إِذ لم يؤمِنوا بالقرآن .
والثاني : إذ كفروا بالبعث . ومن ضَمَّ ، أراد الإِخبار عن الله عز وجل أنه عَجِبَ ، قال الفراء : وهي قراءة عليّ ، وعبد الله ، وابن عباس ، وهي أحبُّ إليّ ، وقد أنكر هذه القراءة قوم ، منهم شريح القاضي ، فإنه قال : إن الله لا يَعْجَب إِنما يَعْجَبَ مَنْ لا يَعْلَم . قال الزجاج : وإنكار هذه القراءة غلط ، لأن العَجَبَ من الله خلاف العَجَب من الآدميين ، وهذا كقوله { ويَمْكُر اللهُ } [ الأنفال : 30 ] وقوله { سَخِر اللهُ منهم } [ التوبة : 79 ] وأصل العَجَب في اللغة : أن الإِنسان إِذا رأى ما يُنْكرِهُ ويَقَلُّ مِثْلُه ، قال : قد عَجَبتُ من كذا ، وكذلك إِذا فَعَلَ الآدميُّون ما يُنْكِرُه اللهُ عز وجل ، جاز أن يقول : عَجِبْتُ ، واللهُ قد عَلِم الشيءَ قبل كونه . وقال ابن الأنباري : المعنى : جازيتُُهم على عجبهم من الحق فسمّى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء ، فسمّى فعله عَجَباَ وليس بعَجَب في الحقيقة ، لأن المتعَجِّب يدهش ويتحيَّر ، واللهُ عزَ وجَلَّ قد جَلّ عن ذلك؛ وكذلك سُمِّي تعظيم الثواب عَجَباَ ، لأنه إنما يُتعجَّب من الشيء إِذا كان في النهاية ، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إِذا داناه من بعض وجوهه ، وإن كان مخالفاً له في أكثر معانيه ، قال عديّ :
ثُمَّ أَضْحَوْا لَعِبَ الدَّهْرُ بهِمُ ... [ وكَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالرِّجالِ ]
فجعل إهلاك الدهر وإِفساده لَعِباً . وقال ابن جرير : من ضم التاء ، فالمعنى : بل عَظُم عندي وكَبُر اتِّخاذُهم لي شريكاً وتكذيبُهم تنزيلي . وقال غيره : إِضافة العَجَب إَلى الله على ضربين :
أحدهما : بمعنى الإِنكار والذمِّ ، كهذه الآية .
والثاني : بمعنى الاستحسان والإِخبار عن تمام الرضى ، كقوله عليه السلام : « عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ »
قوله تعالى : { وإِذا ذُكرِّوا لا يَذْكُرونَ } أي : إِذا وُعِظوا بالقرآن لا يَذْكُرون ولا يَتَّعظون . وقرأ سعيد بن جبير ، والضحاك ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري ، وأبو عمران : { ذُكِروا } بتخفيف الكاف .
{ وإذا رَأوْا آيةً } قال ابن عباس : يعني انشقاق القمر { يَسْتَسْخِرونَ } قال أبو عبيدة : يَسْتَسْخِرونَ ويَسْخَرونَ سواء . قال ابن قتيبة : يقال سَخِرَ واسْتَسْخَرَ ، كما يقال : قَرَّ واسْتَقَرَّ ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ ، ويجوز أن يكون : يسألون غيرَهم من المشركين أن يَسْخَروا من رسول الله كما يقال : اسْتَعْتَبْتُه ، أي : سألتُه العُتْبَى ، واسْتَوْهَبْتُه ، أي : سألتُه الهِبَة ، واسْتَعْفَيْتُه : سألتُه العَفْوَ .
{ وقالوا إِنْ هذا } يعنون انشقاق القمر { إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : بَيْنٌ لِمَنْ تأمَّله أنه سِحْر .
{ أإذا مِتْنا } قد سبق بيان [ هذه ] الآية [ مريم : 66 ] .
{ أوَ آباؤنا } هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف ، كقوله : { أوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرى } [ الاعراف : 98 ] . وقرأ نافع ، وابن عامر : { أوْ آباؤنا الأَوَّلُونَ } بسكون الواو هاهنا وفي [ الواقعة : 48 ] .
{ قُلْ نَعَمْ } أي : نَعَمْ تُبْعَثون { وأنتُمْ داخِرونَ } أي : صاغِرونَ .
{ فإنّما هي زَجْرَةٌ واحدةٌ } أي : فإنّما قِصَّة البعث صيحةٌ واحدة من إسرافيل ، وهي نفخة البعث ، وسُمِّيتْ زجرةً ، لأن مقصودها الزَّجْر { فإذا هُمْ يَنْظُرونَ } قال الزجاج : أي : يُحْيَوْن ويُبعَثونَ بُصَراءَ ينْظرون ، فإذا عايَنوا بعثهم ، ذكروا إِخبار الرُّسل عن البعث ، { وقالوا يا ويلَنا هذا يومُ الدِّينِ } أي : يوم الحساب والجزاء ، فتقول الملائكة : { هذا يومُ الفَصْل } أي : يوم القضاء الذي يُفْصَل فيه بين المُحْسِن والمُسيء؛ ويقول الله عز وجل يومئذ للملائكة : { أُحشُروا } أي : اجْمَعوا { الذين ظَلَموا } من حيث هم ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم المشركون .
والثاني : أنه عامٌّ في كل ظالم . وفي أزواجهم أربعة أقوال :
أحدها : أمثالهم وأشباههم ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، والنعمان بن بشير ، ومجاهد في أخرين . وروي عن عمر قال : يُحْشَر صاحبُ الرِّبا مع صاحب الرِّبا ، وصاحبُ الزِّنا مع صاحب الزِّنا وصاحب الخمر مع صاحب الخمر .
والثاني : أن أزواجَهم : المشركاتُ ، قاله الحسن .
والثالث : أشياعهم ، قاله قتادة .
والرابع : قُرَناؤهم من الشيَّاطين الذين أضلُّوهم ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { وما كانوا يعبُدون } ثلاثة أقوال :
أحدها : الأصنام ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والثاني : إبليس وحده ، قاله مقاتل .
والثالث : الشياطين ، ذكره الماوردي وغيره .
قوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } أي : دُلُّوهم على طريقها؛ والمعنى : اذهبوا بهم إِليها . قال الزجاج : يقال : هَدَيْتُ الرَّجُل : إِذا دَلَلْتَه ، وهَدَيْتُ العروس إِلى زوجها ، وأهديتُ الهديَّة ، فإذا جعلتَ العروس كالهدية ، قلتَ أهديتُها .
قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ } أي : احْبِسوهم { إِنَّهم مسؤولونَ } وقرأ ابن السميفع : { أنَّهم } بفتح الهمزة . قال المفسرون : لمَّا سِيقوا إلى النار حُبِسوا عند الصراط ، لأن السؤال هناك . وفي هذا السؤال ستة أقوال :
أحدها : أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا .
الثاني : عن « لا إِله إِلا الله » ، رويا جميعاً عن ابن عباس .
والثالث : عن خطاياهم ، قاله الضحاك .
والرابع : سَألَهُمْ خزَنةُ جهنم { ألَمْ يَأتِكم نَذيرُ } [ الملك : 8 ] ونحو هذا ، قاله مقاتل .
والخامس : أنهم يُسألون عمّا كانوا يعبُدون ، ذكره ابن جرير .
والسادس : أن سؤالهم قوله { ما لكم لا تَنَاصَرونَ } ؟! [ ذكره الماوردي ] . قال المفسِّرون : المعنى : مالكم لا ينصُر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر : { نَحْنُ جميعٌ مُنْتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخاً ، والمُسْتَسْلِم المُنقاد الذَّليل؛ والمعنى : أنهم منقادون لا حيلة لهم .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قوله تعالى : { وأَقْبَلَ بَعْضُهم على بَعْضٍ } فيهم قولان :
أحدهما : الإِنس على الشياطين .
والثاني : الأتباع على الرؤساء { يتساءَلُونَ } تسآل توبيخ وتأنيب ولَومْ فيقول الأتباع للرؤساء : [ لِمَ ] غررتمونا؟ ويقول الرؤساء : لِمَ قَبِلْتُمْ مِنّا؟ فذلك قوله { قالوا } يعنى الأتباع للمتبوعين { إنَّكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : كنتم تَقْهَروننا بقُدرتكم علينا ، لأنَّكم كنتم أعزَّ مِنّا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : من قِبَل الدِّين فتُضِلوُّنا عنه ، قاله الضحاك . وقال الزجاج : تأتوننا من قِبَل الدِّين فتخدعونا بأقوى الأسباب .
والثالث : كنتم تُوثِّقون ما كنتم تقولون بَأيْمانكم ، فتأتوننا من قِبَل الأيْمان التي تَحْلِفونها . حكاه عليّ بن أحمد النيسابوري . فيقول المتبوعون لهم : { بل لم تكونوا مؤمِنينَ } أي : لم تكونوا على حَقّ فنُضلِّكم عنه ، إِنما الكفر من قِبَلكم .
{ وما كان عليكم من سُلطان } فيه قولان :
أحدهما : أنه القَهْر .
والثاني : الحُجَّة . فيكون المعنى على الأول : وما كان لنا عليكم من قُوَّة نَقْهَرُكم بها ونُكْرِهِكُم على مُتابعتنا . وعلى الثاني : لم نأتكم بحُجَّة على ما دعَوْناكم إٍليه كما أتت الرُّسل .
قوله تعالى : { فَحَقَّ علينا قولُ ربِّنا } أي : فوجبت علينا كلمةُ العذاب ، وهي قوله { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الاعراف : 18 ] { إنَّا لذائقونَ } العذاب جميعاً نحن وأنتم ، { فأَغويناكم } أي ، أضلَلْناكم عن الهُدى بدعائكم إلى ما نحن عليه ، وهو قوله { إنّا كُنّا غَاوِينَ } .
ثم أخبر عن الأَتباع والمتبوعين بقوله : { فإنَّهم يومَئذٍ في العذاب مُشْترِكونَ } ، والمجرِمون هاهنا : المشركون ، { إنَّهم كانوا } في الدُّنيا { إذا قيل لهم لا إله إلا اللهُ } أي : قولوا هذه الكلمة { يَسْتَكْبِرون } أي : يَتَعَظَّمُون عن قولها { ويقولون أئنّا لَتَارِكو آلهتِنا } المعنى : أَنَتْرُكُ عبادة آلهتنا { لِشاعرٍ } أي : لاتِّباع شاعر؟! يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فردَّ الله عليهم فقال : ( بل ) أي : ليس الأمر على ما قالوا ، بل { جاءَ بالحَقِّ } وهو التوحيد والقرآن . { وصدَّق المُرسَلينَ } الذين كانوا قبله؛ والمعنى : أنه أتى بما أتَوْا به . ثم خاطب المُشركين بما يعد هذا إلى قوله : { إلاّ عبادَ الله المُخْلَصِينَ } يعني الموحِّدين . قال أبو عبيدة : والعرب تقول : إنَّكم لَذاهبون إلاّ زيداً ، وفي ما استثناهم منه قولان :
أحدهما : من الجزاء على الأعمال ، فالمعنى : إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم ، بل نَغْفِرُ لهم ، قاله ابن زيد .
والثاني : من دون العذاب؛ فالمعنى : فإنهم لا يذوقون العذاب ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { أولئك لهم رِزْقٌ معلومٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الجنة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه الرِّزق في الجنة ، قاله السدي .
فعلى هذا ، في معنى { معلوم } قولان :
أحدهما : أنه بمقدار الغَداة والعَشِيّ ، قاله ابن سائب .
والثاني : أنهم حين يشتهونهُ يؤتَون به ، قاله مقاتل .
ثم بيَّن الرِّزق فقال : { فواكهُ } [ وهي جمع فاكهة ] وهي الثِّمار كلُّها ، رَطْبها ويابسها { وهم مُكْرَمون } بما أعطاهم الله .
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ الحجر : 47 ] إلى قوله { يُطافُ عليهم بكأسٍ مِنْ مَعينٍ } قال الضحاك : كلُّ كأس ذُكِرتْ في القرآن ، فإنما عُنيَ بها الخمر ، [ قال أبو عبيدة : الكأس الإناء بما فيه ، والمَعين : الماء الطَّاهر الجاري . قال الزجاج : الكأس الإِناء الذي فيه الخمر ] ، ويقع الكأسُ على كل إناءٍ مع شرابه ، فإن كان فارغاً فليس بكأس ، والمَعين : الخمر تجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العُيون .
قوله تعالى : { بيضاءَ } قال الحسن : خمر الجنة أشدُّ بياضاً من اللَّبَن . قال أبو سليمان الدمشقي : ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر ، أنه قال « بيضاءَ » فأنَّث ، ولو أراد الإناء على انفراده ، أو الإِناء والخمر ، لقال أبيض . وقال ابن جرير : إنما أراد بقوله « بيضاءَ » الكأس ، ولتأنيث الكأس أنّثت البيضاء .
قوله تعالى : { لَذَّةٍ } قال ابن قتيبة : أي : لذيذة ، يقال : شراب لِذاذ : إِذا كان طَيِّباً . وقال الزجاج : أي : ذات لَذَّة .
{ لا فيها غَوْلُ } فيه سبعة أقوال :
أحدها : ليس فيها صُداع ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : ليس فيها وجع بطن ، [ رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد ] .
والثالث : ليس فيها صُداع رأس ، قاله قتادة .
والرابع : ليس فيها أذى ولا مكروه ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : لا تَغتال عقولهم ، قاله السدي . وقال الزجاج : لا تَغْتالُ عقولَهم فتذهب بها ولا يُصيبهم منها وجع .
والسادس : ليس فيها إثم ، حكاه ابن جرير .
والسابع : ليس فيها شيء من هذه الآفات ، لأن كُلَّ مَنْ ناله شيء من هذه الآفات ، قيل : قد غالَتْه غُوْل ، فالصواب أن يكون نفي الغَوْل عنها يَعُمُّ جميع هذه الأشياء ، هذا اختيار ابن جرير .
قوله تعالى : { ولاهم عنها يُنْزَفونَ } قرأ حمزة ، والكسائي : بكسر الزاي هاهنا وفي [ الواقعة : 19 ] . وفتح عاصم الزاي هاهنا ، وكسرها في [ الواقعة : 19 ] . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : بفتح الزّاي في السُّورتين ، قال الفراء : فمن فتح ، فالمعنى : لا تِذهبُ عقولهم بُشربها ، يقال للسكران : نَزيف ومَنزوف؛ [ ومن ] كسر ، ففيه وجهان :
أحدهما : لا يُنْفِدون شرابهم ، أي : هو دائم أبداً .
والثاني : لا يَسْكَرون ، قال الشاعر :
لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا
قوله تعالى : { وعندهم قاصراتُ الطَّرْفِ } فيه قولان .
أحدهما : أنهنَّ النِّساءُ قد قصرن طَرْفهنَّ على أزواجهنَّ فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم ، وأصل القَصْر : الحبس ، قال ابن زيد : إنَّ المرأة منهنَّ لَتقولُ لزوجها : وعِزَّةِ ربِّي ما أرى في الجنَّة شيئاً أحسنَ منكَ ، فالحمد لله الذي جعلني زوجكَ وجعلكَ زوجي .
والثاني : أنهنَّ قد قَصَرن طَرْف الأزواج عن غيرهنَّ ، لكمال حُسنهنّ ، سمعتُه من الشيخ أبي محمد ابن الخشّاب النحوي .
وفي العِين ثلاثة أقوال :
أحدها : حِسانُ العُيون ، قاله مجاهد .
والثاني : عِظام الأعيُن ، قاله السدي ، وابن زيد .
والثالث : كِبار العُيون حِسانُها ، وواحدتُهنَّ عَيْناء ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { كأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنونٌ } في المراد بالبَيْض هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه اللؤلؤ ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة .
والثاني : بَيْضُ النَّعام ، قاله الحسن ، وابن زيد ، والزجاج . قال جماعة من أهل اللغة : والعرب تُشَبِّه المرأةَ الحسناءَ في بياضها وحُسْن لونها بِبَيْضَة النَّعامة ، وهو أحسن ألوان النساء ، وهو أن تكون المرأة بيضاءَ مُشَرَّبَةٍ صُفْرَةً .
والثالث : أنه البَيْض حين يُقْشَر قبل أن تَمَسَّه الأيدي ، قاله السدي ، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جرير .
فأما المكنون ، فهو المصون . فعلى القول الأول : هو مكنون في صَدَفِهِ ، وعلى الثاني : هو مكنون بريش النَّعام ، وعلى الثالث هو مكنون بقشرة .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
قوله تعالى : { فأقَبلَ بعضُهم على بعض } يعني أهل الجنة { يتساءلون } عن أحوال كانت في الدنيا .
{ قال قائل منهم إِنِّي كان لي قَرِينٌ } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه الصّاحب في الدنيا .
والثاني : أنه الشريك رويا عن ابن عباس .
والثالث : أنه الشيطان ، قاله مجاهد .
والرابع : أنه الأخ؛ قال مقاتل : وهما الأَخوان المذكوران في سورة [ الكهف : 32 ] في قوله : { واضْرِب لهم مَثَلاً رَجُلَينِ } والمعنى : كان لي صاحب أو أخ يُنْكِر البعث ، { يقول أَئنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ } قال الزجاج : هي مخففة الصاد ، من صدَّق يصدِّق فهو مصدِّق ، ولا يجوز هاهنا تشديد الصاد . قال المفسرون : والمعنى : أئنَّك لَمِن المُصَدِّقِين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة { المُصَّدِقِينَ } بتشديد الصاد .
قوله تعالى : { أَئنا لَمَدِينُونَ } أي : مَجْزِيُّون بأعمالنا؛ يقال : دِنْتُهُ بما صنع ، أي : جازيته ، فأحَبَّ المؤمِنُ أن يَرى قرينَه الكافر ، فقال لأهل الجنَّة ، { هل أنتم مُطْلِعُونَ } أي : هل تحبُّون الاطِّلاع إِلى النَّار لتَعْلَمُوا أين منزلتُكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وأبو عمران ، وابن يعمر : { هل أنتم مُطْلِعُونَ } بإسكان الطاء وتخفيفها { فأطْلِعَ } بهمزة مرفوعة وسكون الطاء . وقرأ أبو رزين ، وابن أبي عبلة : { مُطلِعونِ } بكسر النون . قال ابن مسعود : اطَّلع ثم التفت إلى أصحابه فقال : لقد رأيتُ جماجم القوم تغلي؛ قال ابن عباس : وذلك أن في الجنة كُوىً ينظُر منها أهلُها إِلى النار .
قوله تعالى : { فرآه } يعني قرينة الكافر { في سَواءِ الجحيم } أي : في وسَطها . وقيل : إِنما سمي الوسَط سَواءً ، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب . قال خُليد العَصْري : واللهِ لولا أنَّ الله عرَّفه إَيَّاه ، ما عرفه ، لقد تغيَّر حَبْرُه وسِبْرُه . فعند ذلك { قال تالله إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } قال المفسرون : معناه : واللهِ ما كِدْتَ إلاّ تُهْلِكني؛ يقال : أرديتُ فلاناً أي : أهلكْته { ولولا نِعْمةُ ربِّي } أي : إنعامه عليَّ بالإِسلام { لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ } معك في النّار .
قوله تعالى : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إذا ذُبح الموت ، قال أهل الجنة : { أفَمَا نحن بميِّيتنَ ، إِلاّ مَوْتَتَنا الأُولى } التي كانت في الدنيا { وما نحن بمعذَّبِينَ } ؟ فيقال لهم : لا؛ فعند ذلك قالوا : { إنْ هذا لَهُوَ الفَوْزُ العظيمُ } ، فيقول الله تعالى { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العامِلونَ } ، قاله ابن السائب . وقيل : يقول ذلك للملائكة .
والثاني : أنه قول المؤمن لأصحابه ، فقالوا له : إنك لا تموت ، فقال : { إنْ هذا لَهُوَ الفَوْزُ العظيمُ } ، قاله مقاتل . وقال أبو سفيان الدمشقي : إِنما خاطب المؤمنُ أهلَ الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النَّعيم ، لا على طريق الاستفهام ، لأنه قد عَلِمَ أنَّهم ليسوا بميِّتين ، ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سروراً .
والثالث : أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان يُنْكِره ، ذكره الثعلبي .
قوله تعالى : { لِمِثل هذا } يعنى النعيم الذي ذَكَره في قوله { أولئك لهم رزق معلوم } [ الصافات : 41 ] { فَلْيَعْمَلِ العامِلُونَ } ، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عز وجل بطاعته .
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{ أذَلكَ خَيْرٌ } يشير إلى ما وصف لأهل الجنة { نُزُلاً } قال ابن قتيبة : أي رزقاً . ومنه : إقامةُ الأنْزال ، وأنزال الجنود : أرزاقُها . وقال الزجاج : النُّزل هاهنا الرَّيْع والفضل ، يقال : هذا طعام له نُزْل ونُزُل ، بتسكين الزاي وضمها؛ والمعنى : أذلك خير في باب الأنزال التي تُتَقوَّت ويمكن معها الإِقامة ، أم نُزُل أهل النار؟! وهو قوله { أَمْ شجرةُ الزَّقُّومِ } .
واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا ، أم لا؟ .
فقال قطرب : هي شجرة مُرَّة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر . وقال غيره : الزَّقُّوم ثمرة شجرة كريهة الطَّعم . وقيل : إِنها لا تُعرف في شجر الدنيا ، وإنما هي في النار ، يُكرَه أهلُ النار على تناولها .
قوله تعالى : { إِنَّا جعلْناها فتنة للظالمين } يعني للكافرين . وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقْوال :
أحدها : أنه لما ذكر أنها في النار ، افتُتنوا وكذَّبوا ، فقالوا : كيف يكون في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر؟! فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة . وقال السدي : فتنة لأبي جهل وأصحابه .
والثاني : أن الفتنة بمعنى العذاب ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : أن الفتنة بمعنى الاختبار اختُبروا بها فكذَّبوا ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحيمِ } أي : في قَعْر النّار . قال الحسن : أصلُها في قَعْر النّار ، وأغصانها ترتفع إلى دَرَكاتها { طَلْعُها } أي : ثمرها ، وسُمِّي طَلْعاً ، لطلوعة { كأنَّهُ رُؤوس الشياطينِ } .
فإن قيل : كيف شبَّهها بشيءٍ لم يُشاهَد؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه قد استقرَّ في النفوس قُبح الشياطين وإِن لم تُشاهَد فجاز تشبيهها بما قد عُلِمَ قُبحه . قال امرؤ القيس :
أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأَنْيَاب أغْوالِ
قال الزجاج : هو لم ير الغُول ولا أنيابها ، ولكن التمثيل بما يُستقبَح أبلغ في باب المذكّر أن يُمثَّل بالشياطين ، وفي باب المؤنَّث أن يشبَّه بالغُول .
والثاني : أن بين مكة واليمن شجر يسمى : رؤوس الشياطين ، فشبَّهها بها ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنه أراد بالشياطين : حيّات لها رؤوس ولها أعراف ، فشبَّه طلعها برؤوس الحيّات ، ذكره الزجاج . قال الفراء : والعرب تسمِّي بعض الحيّات شيطاناً ، وهو حيّة ذو عُرْف قبيحُ الوجه .
قوله تعالى : { فإنَّهم لآكلون منها } أي : من ثمرها { فمالئون منها البُطونَ } وذلك أنهم يُكْرَهون على أكَلها حتى تمتلىء بطونهم .
{ ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عليها لَشَوْباً من حَمِيمٍ } قال ابن قتيبة : أي : لَخلْطاً من الماء الحارِّ يشربونه عليها . قال أبو عبيدة : تقول العرب كلُّ شيء خَلَطْتَه بغيره فهو مشوب . قال المفسرون : إذا أَكلوا الزَّقُّوم ثم شربوا عليه الحميم ، شابَ الحميمُ الزَّقُّوم في بطونهم فصار شَوْباً له .
{ ثُمَّ إنَّ مَرْجِعهم } أي : بعد أكل الزَّقُّوم وشُرب الحميم { لإلى الجحيم } وذلك أن الحميم خارج الجحيم ، فهُم يوردَونه كما تورَد الإبلُ الماءَ ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيم؛ ويدُلُّ على هذا قولُه : { يَطُوفون بَيْنَها وبَيْنَ حَميمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، و { ألْفَوْا } بمعنى وَجَدوا و { يُهْرَعُون } مشروح في [ هود : 78 ] ، والمعنى : أنهم يتَّبعون آباءَهم في سرعة { ولقد ضَلًَّ قَبْلَهم } أي : قَبْلَ هؤلاء المشركين { أكثرُ الأوَّلِينَ } من الأمم الخالية .
قوله تعالى : { إِلاَ عِبادَ اللهِ المُخْلَصِينَ } يعني الموحِّدين ، فإنهم نجوا من العذاب . قال ابن جرير : وإِنما حَسُن الاستثناء ، لأن المعنى : فانْظُر كيف أهلكْنا المُنْذَرِين إلا عباد الله .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
{ ولقد نادانا نوحٌ } أي : دعانا . وفي دعائه ، قولان :
أحدهما : أنه دعا مستنصِراً على قومه .
والثاني : أن ينجيَه من الغرق { فَلَنِعْمَ المُجِيبونَ } نحن؛ والمعنى : إِنَّا أَنجيناه وأهلكنا قومه .
وفي { الكَرْب العظيم } قولان :
أحدهما : [ أنه ] الغرق .
والثاني : أذى قومه .
{ وجعلْنا ذُرِّيَّتَه هُمُ الباقين } [ وذلك ] أن نسل [ أهل ] السفينة انقرضوا غير نسل ولده ، فالناس كلهُّم من ولد نوح ، { وتَرَكْنا عليه } أي : تَرَكْنا عليه ذِكْراً جميلاً { في الآخِرِين } وهم الذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة . قال الزجاج : وذلك الذِّكْر الجميل قولُه { سلامٌ على نوحٍ في العالَمِينَ } وهم الذين جاؤوا من بعده . والمعنى : تَرَكْنا عليه أن يُصَلَّى عليه في الآخِرِين إِلى يوم القيامة { إنَّا كذلك نَجْزي المُحسنِينَ } قال مقاتل : جزاه اللهُ بإحسانه الثَّناءَ الحَسَنَ في العالمين .
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
قوله تعالى : { وإِنَّ مِنْ شِيعته لإِبراهيمَ } أي : من أهل دِينه ومِلَّته والهاء في « شِيعته » عائدة على نوح في قول الأكثرين؛ وقال ابن السائب : تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، واختاره الفراء .
فإن قيل : كيف يكون من شيعته ، وهو قبله؟ .
فالجواب : أنه مِثل قوله { حَمَلْنا ذُرْيَّتهم } [ يس : 41 ] فجعلها ذُرِيَّتهم وقد سبقَتْهم ، وقد شرحنا هذا فيما مضى [ يس : 41 ] .
قوله تعالى : { إِذ جاءَ ربَّه } أي : صدَّقَ اللهَ وآمَنَ به { بقَلْبٍ سَليمٍ } من الشِّرك وكلِّ دَنَس ، وفيه أقوال ذكرناها في [ الشعراء : 89 ] .
قوله تعالى : { ماذا تعبُدونَ } ؟ هذا استفهام توبيخ ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله . { أَإِفْكاً } ؟! أي : أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! { فما ظنُّكم بربِّ العالَمِينَ } إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟! . كأنه قال : فما ظنُّكم أن يصنع بكم .
{ فنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجومِ } فيه قولان .
أحدهما : [ أنه ] نظر في عِلم النجوم ، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم ، فعاملهم من حيث هم ، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك . قال ابن المسيّب : رأى نجماً طالعاً ، فقال : إِنِّي مريض غداً .
والثاني : أنه نظر إلى النجوم ، لا في عِلْمها .
فإن قيل : فما كان مقصوده؟ .
فالجواب : أنه كان لهم عيد ، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم ، فاعْتَلَّ بهذا القول .
قوله تعالى : { إِنِّي سقيم } من معاريض الكلام . ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن معناه سأَسْقُمُ ، قاله الضحاك . قال ابن الأنباري : أَعْلَمَه اللهُ عز وجل أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه ، فلما رأى النَّجم ، عَلِم أنه سيَسْقُم .
والثاني : إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له ، حكاه الماوردي . وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم فلمّا كان ببعض الطريق ، ألقى نفسه وقال : إِني سقيم أشتكي رجلي { فتولَّوا عنه مُدْبِرِينَ ، فراغَ إِلى آلهتهم } أي : مال إِليها وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم ( فقال ) إبراهيم استهزاءً بها { ألا تأكلُونَ } .
وقوله : { ضَرْباً باليمين } في اليمين ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها اليد اليمنى ، قاله الضحاك .
والثاني : بالقُوَّة والقُدرة قاله السدي ، والفراء .
والثالث : باليمين التي سبقت منه وهي قوله { وتاللهِ لأَكيدَنَّ أصنامَكم } [ الأنبياء : 57 ] ، حكاه الماوردي .
قال الزجاج : « ضَرْباً » مصدر؛ والمعنى : فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين؛ وإِنما قال : { عليهم } ، وهي أصنام ، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز .
{ فأقْبَلُوا إِليه يَزِفُّون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : { يَزِفُّونَ } بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ حمزة ، والمفضَّل عن عاصم : { يُزِفُّونَ } برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء . وقرأ ابن السّميفع ، وأبو المتوكل ، والضحاك : { يَزِفُونَ } بفتح الياء وكسر الزاي وتخفيف الفاء .
وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو نهيك { يَزْفُونَ } بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء . قال الزجاج : أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء ، وأصله من زفيف النَّعام ، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام ، يقال : زَفَّ النَّعام يَزِفُّ . وأمَّا ضم الياء ، فمعناه : يصيرون إِلى الزَّفيف ، وأنشدوا :
[ تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذاعَه ] ... فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا
أي : صار إِلى القَهْر . وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء ، فهو من : وَزَفَ يَزِفُ ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع ، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء ، وعَرَفه غيرهما .
قال المفسِّرون : بلغهم ما صنع إبراهيم ، فأسرعوا ، فلمّا انتَهَوْا إِليه ، قال لهم محتجّاً عليهم : { أتَعْبُدونَ ما تَنْحِتُونَ } بأيديكم { واللهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلونَ } ؟! ، قال ابن جرير : في { ما } وجهان .
أحدهما : أن تكون بمعنى المصدر ، فيكون المعنى : واللهُ خَلَقَكم [ وَعمَلَكم .
والثاني : أن تكون بمعنى « الذي » فيكون المعنى : واللهُ خَلَقَكم ] وَخلَقَ الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام؛ وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة [ لله ] .
فلمّا لَزِمَتْهم الحُجَّة { قالوا ابنوا له بُنْياناً } وقد شرحنا قصته في سورة [ الأنبياء : 52-74 ] وبيَّنَّا معنى الجحيم في [ البقرة : 119 ] والكّيْدُ الذي أرادوا به : إِحراقُه .
ومعنى قوله : { فجعلْناهم الأَسفَلِينَ } أن إبراهيم علاهم بالحُجَّة حيث سلَّمه الله من كيدهم وحلَّ الهلاكُ بهم .
( وقال ) يعني إبراهيم { إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي } في هذا الذَّهاب قولان :
أحدهما : أنه ذاهب حقيقة ، وفي وقت قوله هذا قولان :
أحدهما : أنه حين أراد هِجرة قومه؛ فالمعنى : إنِّي ذاهب إلى حيث أمرني ربِّي عز وجل { سيَهدينِ } إلى حيث أمرني ، وهو الشام ، قاله الأكثرون .
والثاني : حين أُلقي في النّار ، قاله سليمان بن صُرَد . فعلى هذا في المعنى قولان :
أحدهما : ذاهب إِلى الله بالموت ، سيَهدينِ إلى الجَنَّة .
والثاني : [ ذاهب ] إلى ماقضى [ به ] ربي ، سيَهدين إِلى الخَلاص من النّار .
والقول الثاني : إِنِّي ذاهب إلى ربِّي بقلبي وعملي ونيَّتي ، قاله قتادة .
فلما قَدِم الأرض المقدَّسة ، سأل ربَّه الولدَ فقال { ربِّ هَبْ لي من الصَّالحِينَ } أي : ولداً صالحاً من الصَّالحينِ ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك ، ومثله { وكانوا فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] فاستجاب له ، وهو قوله : { فبشَّرْناه بغُلامٍ حليمٍ } وفيه قولان :
أحدهما : أنه إِسحاق .
والثاني : أنه إِسماعيل . قال الزجاج : هذه البِشارة تَدُلُّ على أنه مبشَّر بابنٍ ذَكَر ، وأنه يبقى حتى ينتهيَ في السنّ ويوصَف بالحِلم .
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قوله تعالى : { فلمّا بَلَغَ معه السَّعي } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد بالسعي هاهنا : العمل قاله ، ابن عباس .
والثاني : أنه المشي ، والمعنى : مشى مع أبيه ، قاله قتاده . قال ابن قتيبة : بلغ أن يَنْصرفَ معه ويُعِينَه . قال ابن السائب : كان ابن ثلاث عشرة سنة .
والثالث : أن المراد بالسعي ، العبادة ، قاله ابن زيد؛ فعلى هذا ، يكون قد بلغ .
قوله تعالى : { إِنِّي أَرى في المنام أنِّي أذْبَحُكَ } أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام ، وإنما المعنى أنه أُمِرََ في المنام بذبحه ، ويدُل عليه قوله { افعل ما تُؤْمَر } . وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه ، ولم يَرَ إِراقة الدَّم . قال قتادة : ورؤيا الأنبياء حَقٌّ ، إِذا رأَوا شيئاً ، فعلوه . وذكر السدي عن أشياخه : أنه لمّا بشَّر جبريلُ سارة بالولد ، قال إبراهيم : هو إِذاً لله ذبيح ، فلمّا فَرَغ من بُنيان البيت ، أُتي في المنام ، فقيل له : أَوْف بنَذْرك . واختلفوا في الذَّبيح على قولين :
أحدهما : [ أنه ] إِسحاق ، قاله عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، والعباس ابن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو هريرة ، وأنس ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، [ ومسروق ] ، وعبيد بن عُمير ، والقاسم ابن أَبي بَزّة ، ومقاتل بن سليمان ، واختاره ابن جرير . وهؤلاء يقولون : كانت هذه القصة بالشام . وقيل : طويت له الأرضُ حتى حمله إلى المَنْحَر بمِنىً في ساعة .
والثاني : أنه إسماعيل ، قاله ابن عمر ، وعبد الله بن سلام ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيّب ، والشعبي ، ومجاهد ، ويوسف بن مهران ، وأبو صالح ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن سابط . واختلفت الرواية عن ابن عباس ، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق ، وروى عنه عطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبو الجوزاء ، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل ، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين . وعن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والزهري ، وقتادة ، والسدي روايتان . وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان . ولكلِّ قومٍ حُجَّة ليس هذا موضعها ، وأصحابنا ينصُرون القول الأول .
الإِشارة إِلى قصة الذَّبْح : ذكر أهل العِلْم بالسِّيَر والتفسير أن إِبراهيم لمَّا أراد ذبح ولده ، قال له : انطلِق فنُقرِّب قرباناً إلى الله عز وجل ، فأخذ سِكِّيناً وحَبْلاً ، ثم انطلق ، حتى إِذا ذهبا بين الجبال ، قال له الغلام : يا أبتِ أين قُربانُك؟ قال : يا بُني إِنِّي رأيتُ في المنام أني أذبحُك ، فقال له : اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب ، واكْفُف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أُمِّي فتحزن ، وأَسْرِع مَرَّ السِّكِّين على حَلْقِي ليكون أهون للموت عليَّ ، فإذا أتيتَ أُمي فاقرأ عليها السلام منِّي؛ فأقبل عليه إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول : نِعْمِ العونُ أنت يا بُنيَّ على أمر الله عز وجل ، ثم [ إنه ] أَمَرَّ السِّكِّين على حَلْقه فلم يَحْكِ شيئاً .
وقال مجاهد : لمّا أَمَرَّها على حَلْقه انقلبتْ ، فقال : مالكَ؟ قال : انقلبتْ . قال : اطْعَنْ بها طَعْناً . وقال السدي : ضرب اللهُ على حَلْقِِهِ صفيحة من نُحاس؛ وهذا لا يُحتاج إِليه ، بل منعُها بالقُدرة أَبلَغ . قالوا : فلمّا طَعَنَ بها ، نَبَتْ ، وعَلِم اللهُ منهما الصِّدق في التسليم ، فنودي : يا إبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرُّؤيا ، هذا فداءُ ابنك؛ فنظر إِبراهيم فإذا جبريل معه كبش أملح .
قوله تعالى : { فانْظُرْ ماذا تَرَى } لَمْ يَقًل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عز وجل . ولكن أراد أن يَنْظُر ما عنده من الرَّأي . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { ماذا تُرِي } بضم التاء وكسر الراء؛ وفيها قولان :
أحدهما : ماذا تُريني من صبرك أو جَزَعك ، قاله الفراء .
والثاني : ماذا تُبِين ، قاله الزجاج . وقال غيره : ماذا تُشير .
قوله تعالى : { افْعَلْ ما تُؤمَر } قال ابن عباس : افْعَلْ ما أُوحي إِليك من ذبحي { ستَجِدُني إِن شاءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ } على البلاء .
قوله تعالى : { فلمّا أَسْلَما } أي : استسلمَا لأمر الله عز وجل فأطاعا ورضيا . وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : { فلمّا سَلَّما } بتشديد اللام من غير همز قبل السين؛ والمعنى : سَلَّما لأمر الله عز وجل .
وفي جواب قوله { فلمّا أَسلَما } قولان .
أحدهما : أن جوابه : { وناديناه } ، والواو زائدة ، قاله الفراء .
والثاني : أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلاً عليه؛ والمعنى : فلمّا فعل ذلك سَعِدَ وأُجْزِلَ ثوابُه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وتَلَّهُ للجَبين } قال ابن قتيبة : أي صَرَعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض ، وهما جبينان ، والجبهة بينهما ، وهي ما أصاب الأرضَ في السجود ، والناس لا يكادون يفرِّقون بين الجبين والجبهة ، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه نَدَبُ السُّجود ، والجبينان يكتنفانها من كل جانب جبين .
قوله تعالى : { وناديناه } قال المفسرون : نودي من الجبل { ياإِبراهيم قد صدَّقتَ الرُّؤيا } وفيه قولان :
أحدهما : قد عَمِلْتَ ما أَمَرْتُ ، وذلك أنه قصد الذَّبح بما أمكنه ، وطاوعه الابن بالتمكين من الذَّبح ، إلاّ أن الله عز وجل صرف ذلك كما شاء ، فصار كأنه قد ذَبَح وإِن لم يتحقَّق الذَّبح .
والثاني : أنه رأى في المنام معالجة الذَّبح ، ولم ير إراقة الدَّم ، فلمّا فَعَلَ في اليقظة ما رأى في المنام ، قيل له : « قد صدَّقْتََ الرُّؤيا » .
وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، والجحدري : { قد صَدَقْتَ الرُّؤيا } بتخفيف الدال ، وهاهنا تم الكلام . ثم قال تعالى { إنّا كذلك } أي : كما ذَكَرْنا من العفو من ذبح ولده { نَجْزِي المُحْسنِينَ } .
{ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاءُ المُبِينُ } في ذلك قولان :
أحدهما : النِّعمة البيِّنة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني : الاختبار العظيم ، قاله ابن زيد ، وابن قتيبة . فعلى الأول ، يكون قوله هذا إِشارة إلى العفو عن الَّذبح .
وعلى الثاني ، يكون إشارة إِلى امتحانه بذبح ولده .
قوله تعالى : { وفَدَيْناه } يعني : الذَّبيح { بِذِبْحٍ } وهو بكسر الذال : اسم ما ذُبِحَ ، وبفتح الذال : مصدر ذَبَحْتُ ، قاله ابن قتيبة . ومعنى الآية : خلَّصْناه من الذَّبح بأن جعلنا الذّبح فداءً له . وفي هذا الذِّبح ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان كبشاً أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاماً ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقال في رواية سعيد بن جبير : هو الكبش الذي قرَّبه ابنُ آدم فتُقُبِّل منه ، كان في الجنة حتى فُدي به .
والثاني : أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين ، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس .
والثالث : [ أنه ] ما فُدي إِلاّ بتيس من الأَرْوَى ، أهبط عليه من ثَبِير ، قاله الحسن .
وفي معنى { عظيم } أربعة أقوال :
أحدها : لأنه كان قد رعى في الجنة ، قاله ابن عباس ، وابن جبير .
والثاني : لأنه ذُبح على دِين إبراهيم وسُنَّته ، قاله الحسن .
والثالث : لأنه مُتَقَبَّلٌ ، قاله مجاهد . وقال أبو سليمان الدمشقي : لمّا قرَّبَه ابنُ آدم ، رُفِع حيّاً ، فرعى في الجنة ، ثم جُعل فداء الذَّبيح ، فقُبِل مرتين .
والرابع : لأنه عظيم الشَّخص والبَرَكة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وتَرَكْنا عليه } قد فسرناه في هذه السورة [ الصافات : 78 ] .
قوله تعالى : { وبشَّرْناه بإسحاق } من قال : إن إسحاق الذَّبيحُ ، قال : بُشِّر إبراهيم بنبوَّة إسحاق ، وأُثيب إسحاق بصبره النبوَّةَ ، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة ، وبه قال قتادة ، والسدي . ومن قال : الذَّبيح إسماعيل ، قال : بشَّر اللهُ إبراهيم بولد يكون نبيّاً بعد هذه القصة ، جزاءً لطاعته وصبره ، وهذا قول سعيد ابن المسيب .
قوله تعالى : { وباركْنا عليه وعلى إسحاق } يعني بكثرة ذُرِّيَّتهما ، وهم الأسباط كلًّهم { ومِنْ ذُرِّيَّتهما مُحْسِنٌ } أي : مطيع لله { وظالمٌ } وهو العاصي له . وقيل : المُحْسِنُ : المؤمِن ، والظالم : الكافر .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
قوله تعالى : { ولقد مَنَنّا على موسى وهارون } أي : أنعمنا عليهما بالنبوّة .
وفي { الكَرْبِ العظيم } قولان :
أحدهما : استعباد فرعون وبلاؤه ، وهو معنى قول قتادة .
والثاني : الغرق ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ونَصَرْناهم } فيه قولان :
أحدهما : [ أنه ] يرجع إلى موسى وهارون وقومهما .
والثاني : [ أنه ] يرجع إليهما فقط ، فجُمعا ، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع ، لجنوده وأتباعه ، ذكرهما ابن جرير . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ الأنبياء : 48 ] إلى قوله : { وإنَّ إلياس لَمِن المُرْسَلِينَ } فيه قولان .
أحدهما : أنه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه إِدريس ، قاله ابن مسعود ، وقتادة ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود ، وأبوالعالية ، وأبو عثمان النهدي : { وإِن إِدريس } مكان « إِلياس » .
قوله تعالى : { إذ قال لقومه ألا تَتَّقونَ } أي : ألا تخافون الله فتوحِّدونه وتعبدونه؟! { أتَدْعونَ بَعْلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه بمعنى الرَّبّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبوعبيدة ، وابن قتيبة . وقال الضحاك : كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف ، فبينا هو جالس ، إذ مَرَّ أعرابيّ قد ضَلَّت ناقتُه وهو يقول : من وجد ناقة أنا بعلُها؟ فتبعه الصّبيان يصيحون به : يازوج النّاقة ، يازوج النّاقة ، فدعاه ابن عباس فقال : ويحك ، ما عنيتَ ببعلها؟ قال : أنا ربُّها . فقال ابن عباس : صدق الله { أَتَدْعون بَعْلاً } : ربّاً . وقال قتادة : هذه لغة يمانية .
والثاني : أنه اسم صنم كان لهم ، قاله الضحاك ، وابن زيد . وحكى ابن جرير : أنه به سُمِّيت « بعلبكّ » .
والثالث : أنها امرأه كانوا يعبدونها ، حكاه محمد بن إِسحاق .
قوله تعالى : { اللهَ ربَّكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { اللهُ ربُّكم } بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، ويعقوب : { الله } بالنصب .
قوله تعالى : { فكذَّبوه فإنَّهم لمُحضَرونَ } النارَ ، { إلاّ عبادَ الله المُخْلَصِينَ } الذين لم يكذِّبوه ، فإنهم لا يُحْضَرونَ النّار .
الإشارة إلى القصة :
ذكر أهل العلم بالتفسير والسِّيَر أنه لما كَثُرت الأحداث بعد قبض حزقيل النبيّ عليه السلام ، وعُبِدت الأوثانُ ، بَعَثَ اللهُ تعالى إِليهم إِلياس . قال ابن إِسحاق : وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران ، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه ، فدعا عليهم بحبس المطر ، فجُهدوا جَهداً شديداً ، واستخفى إِلياس خوفاً منهم على نفسه ، ثم إنه قال لهم يوماً : إِنكم قد هَلَكْتُم جَهْداً ، وهَلَكَت البهائمُ والشجر بخطاياكم ، فاخرُجوا بأصنامكم وادْعُوها ، فإن استجابت لكم ، فالأمر كما تقولون ، وإن لم تفعل ، عَلِمتم أنكم على باطل فنَزَعْتُم عنه ، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم ، فقالوا : أنصفتَ ، فخرجوا بأصنامهم وأوثانهم ، فدعَوْا فلم يُستجب لهم ، فعرفوا ضلالهم ، فقالوا : ادْعُ اللهَ لنا . فدعا لهم ، فأرسل المطر وعاشت بلادهم ، فلم يَنْزِعوا عمّا كانوا عليه ، فدعا إلياس ربَّه أن يَقْبِضه إِليه ويًريحَه منهم ، فقيل له : اخْرُج يومَ كذا إِلى مكان كذا ، فما جاءك من شيء فاركبْه ولا تَهَبْهُ ، فخرج ، فأقبل فَرَسٌ من نار ، فوثب عليه ، فانطلق به ، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذَّة المَطْعم والمَشْرَب ، فطار في الملائكة ، فكان إنسيّاً مَلَكيّاً ، أرضيّاً سماويّاً .
قوله تعالى : { سلامٌ على إِلياسينَ } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { إِلياسينَ } موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام ، فجعلوها كلمة واحدة؛ وقرأ الحسن مثلهم ، إلاّ أنه فتح الهمزة . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعبد الوارث ، ويعقوب إلاّ زيداً : { إِلْ ياسينَ } مقطوعة ، فجعلوها كلمتين .
وفي قراءة الوصل قولان :
أحدهما : أنه جَمْعٌ لهذا النبيّ وأمَّته المؤمنين به ، وكذلك يُجمع ما يُنْسَب إِلى الشيء بلفظ الشيء ، فتقول : رأيت المهالبة ، تريد : بني المهلَّب ، والمسامعة ، تريد بني مسمع .
والثاني : أنه اسم النبيّ وحده ، وهو اسم عبرانيٌّ ، والعجمي من الأسماء قد يُفْعَل به هكذا ، [ كما ] تقول : ميكال وميكائيل ، ذكر القولين الفراء والزجاج .
فأمّا قراءة من قرأ { إِلْ ياسينَ } مفصولة ، ففيها قولان :
أحدهما : أنهم آل هذا النبي المذكور ، وهو يدخل فيهم ، كقوله عليه السلام « اللهم صَلِّ على آل أَبي أَوفى » فهو داخل فيهم ، لأنه هو المراد بالدعاء .
والثاني : أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي . وكان عبد الله بن مسعود يقرأ : { سلامٌ على إِدْراسينَ } وقد بيَّنّا مذهبه في أن إلياس هو إدريس .
فإن قيل : كيف قال : « إدراسين » ، وإنما الواحد إدريس ، والمجموع إِدريسيُّ لا إِدراسٌ ولا إِدراسيّ؟
فالجواب : أنه يجوز أن يكون لغة ، كإبراهيم وإبراهام ، و مثله :
قَدْنِيَ مِنْ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو نهيك : { سلام على ياسين } بحذف الهمزة واللام .
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
قوله تعالى : { إذ نجيَّناه } { إذ } هاهنا لا يتعلق بما قبله ، لأنه لم يُرْسَل إِذ نُجِّيَ ، ولكنه يتعلق بمحذوف ، تقديره : واذكرُ يامحمد إِذ نجَّيناه ، وقد تقدم تفسير ما بعد هذا [ الشعراء : 171 ] إِلى قوله : { وإِنكم لَتَمُرّونَ عليهم مُصْبِحِينَ } هذا خطاب لأهل مكة ، كانوا إِذا ذهبوا إِلى الشام وجاؤوا ، مَرُّوا على قرى قوم لوط صباحاً ومساءً ، { أفلا تعقلون } فتعتبرون .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قوله تعالى : { إِذ أَبَقَ } قال المبرّد : تأويل « أبَقَ » تباعد؛ وقال أبو عبيدة : فَزِعَ؛ وقال الزجّاج : هرب؛ وقال بعض أهل المعاني : خرج ولم يؤذَن له ، فكان بذلك كالهارب من مولاه . قال الزجاج : والفُلْك : السفينة ، والمشحون المملوء ، وساهم بمعنى [ قارع ] ، { من المُدْحَضِينَ } أي : المغلوبِين؛ قال ابن قتيبة : يقال : أَدْحَضَ اللهُ حُجَّتَهُ ، فَدَحَضَتْ ، أي : أزالها [ فزالت ] ، وأصل الدَّحْض : الزَّلَق .
الإِشارة إِلى قصته :
قد شرحنا بعض قصته في آخر ( يونس ) وفي [ الأنبياء : 86 ] على قدر ما تحتمله الآيات ، ونحن نذكر هاهنا ما تحتمله . قال عبد الله بن مسعود : لمّا وعد يونس قومَه بالعذاب بعد ثلاث ، جَأرَوا إِلى الله عز وجل واستغفروا ، فكفّ عنهم العذاب ، فانطلق مغاضباً حتى انتهى إلى قوم في سفينة فعرفوه فحملوه ، فلمّا رَكِبَ السفينةَ وقَفَتْ ، فقال : ما لسفينتكم؟ قالوا : لا ندري ، قال : لكنِّي أدري ، فيها عبد آبق من ربِّه ، وإِنها والله لا تسير حتى تُلْقُوه ، فقالوا : أمّا أنت يا نبيَّ الله فوالله لا نُلْقِيك ، قال : فاقترِعوا ، فمن قرع فَلْيَقَع ، فاقترَعوا ، فقرع يونس ، فأبَوا أن يَُمكِّنوه من الوُقوع ، فعادوا إلى القُرعة حتى قرع يونس ثلاث مرات . وقال طاووس : إن صاحب السفينة هو الذي قال : إنَّما يمنعُها أن تسير أنّ فيكم رجلاً مشؤوما ، فاقترِعوا لنَلقيَ أحدنا ، فاقترعوا ، فقرع يونس ثلاث مرات .
قال المفسرون : وكَّل اللهُ به حوتاً ، فلمّا ألقى نفسه في الماء التقمه ، وأمر أن لا يضُرَّه ولا يَكْلِمَه ، وسارت السفينة حينئذ . ومعنى التقمه : ابتعله .
{ وهو مُلِيمٌ } قال ابن قتيبة : أي : مُذْنِبٌ ، يقال : ألامَ الرجلُ : إِذا أتى ذَنْباًَ يُلامُ عليه ، قال الشاعر :
[ تَعُدُّ مَعَاذِراً لا عُذْرَ فيها ] ... ومَنْ يَخْذُلْ أَخَاهُ فَقَدْ ألاَمَا
قوله تعالى : { فلولا أنّه كان مِنَ المُسَبِّحِينَ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : مِنَ المُصَليِّن ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : من العابدِين ، قاله مجاهد ، ووهب بن منبه .
والثالث : قول { لا إِله إِلاّ أنتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، قاله الحسن . وروى عمران القطّان عن الحسن قال : والله ما كانت إلاّ صلاة أَحدثَها في بطن الحوت؛ فعلى هذا القول ، يكون تسبيحُه في بطن الحوت . وجمهور العلماء على أنه أراد : لولا ما تقدَّم له قبل التقام الحوت إيّاه من التسبيح ، { لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قال قتادة : لصار بطن الحوت له قبراً إِلى يوم القيامة ، ولكنه كان كثير الصلاة في الرّخاء ، فنجاه الله تعالى بذلك .
وفي قَدْر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال :
أحدها : أربعون يوماً ، قاله أنس بن مالك ، وكعب ، وأبو مالك ، وابن جريج ، والسدي .
والثاني : سبعة أيام ، قاله سعيد بن جبير ، وعطاء .
والثالث : ثلاثة أيام ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والرابع : عشرون يوماً ، قاله الضحاك .
والخامس : بعض يوم ، التقمة ضُحىً ، ونبذه قبل غروب الشمس ، قاله الشعبي .
قوله تعالى : { فَنَبَذْنَاهُ } قال ابن قتيبة : أي : ألْقَيْناه { بالعراء } وهي الأرضُ التي لا يُتَوارَى فيها بشجر ولا غيره ، وكأنَّه مِنْ عَرِيَ الشَّيءُ .
قوله تعالى : { وَهُوَ سَقيمٌ } أي : مريض؛ قال ابن مسعود : كهيأة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش . وقال سعيد بن جبير : أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألْقهِ في البَرّ ، فألقاه لا شَعْر عليه ولا جِلْد ولا ظُفر .
قوله تعالى : { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } قال ابن عباس : هو القرع ، وقد قال أميَّة بن أبي الصلت قبل الإِسلام :
فأنْبَتَ يَقْطِيناً عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ ... مِنَ اللهِ لَوْلا اللهُ أُلْفِيَ ضَاحِيا
قال الزجاج : كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتدُّ على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل ، فهي يقطين ، واشتقاقه من : قَطَنَ بالمكان : إذا أقام ، فهذا الشجر ورقه كلُّه على وجه الأرض ، فلذلك قيل له : يقطين . قال ابن مسعود : كان يستظلُّ بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها ، فأوحى الله إليه : أتبكي على شجرة أن يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تُهلكهم؟! قال يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط : قيَّض [ الله ] له أروية من الوحش تروح عليه بُكرة وعشيّاً فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه .
فإن قيل : ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟
فالجواب : أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا ، وجلده قد ذاب ، فأدنى شيء يَمرُّ به يؤذيه ، وفي ورق اليقطين خاصِيَّةٌ ، وهو أنه إِذا تُرك على شيء ، لم يَقربه ذباب ، فأنبته الله عليه ليغطيَه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحه أن يسقط عليه فيؤذيَه .
قوله تعالى : { وأرسلْناه إِلى مائةِ ألفٍ } اختلفوا ، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إيّاه ، أم بعد ذلك؟ على قولين :
أحدهما : أنها كانت بعد نبذ الحوت إيّاه ، على ما ذكرنا في [ يونس : 98 ] ، وهو مروي عن ابن عباس .
والثاني : أنها كانت قبل التقام الحوت له ، وهو قول الأكثرين ، منهم الحسن ، ومجاهد ، وهو الأصح . والمعنى : وكنَّا أرسلناه إِلى مائة ألف ، فلمّا خرج من بطن الحوت ، أُمِر أن يرجع إِلى قومه الذين أُرسِل إِليهم .
وفي قوله : { أو } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها بمعنى « بل » قاله ابن عباس ، والفراء .
والثاني : أنها بمعنى الواو ، قاله ابن قتيبة . وقد قرأ أبيّ بن كعب ، ومعاذ القارىء ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني : { ويزيدون } من غير ألف .
والثالث : أنها على أصلها ، والمعنى : أو يزيدون في تقديركم ، إذا رآهم الرائي قال : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون .
وفي زيادتهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفاً ، رواه أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا .
والثالث : مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً ، رويا عن ابن عباس .
والرابع : أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا ، قاله سعيد بن جبير ونوف .
قوله تعالى : { فآمَنوا } في وقت إِيمانهم قولان :
أحدهما : عند معاينة العذاب .
والثاني : حين أُرسل إليهم يونس { فمتَّعْناهم إِلى حين } إِلى منتهى آجالهم .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
قوله تعالى : { فاستفتهم } أي : سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير ، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله { وهم شاهدون } أي : حاضرون . { ألا إِنَّهم من إِفْكهم } أي : كذبهم { لَيَقولون ، ولد اللهُ } حين زعموا أن الملائكة بناته .
قوله تعالى : { أَصطفى البناتِ } قال الفراء : هذا استفهام فيه توبيخ لهم ، وقد تُطرح ألف الاستفهام من التوبيخ ، ومثله : { أذهبتم طيِّباتكم } [ الأحقاف : 20 ] ، { وأَذْهبتم } يُستفهم بها ولا يُستفهم ، ومعناهما واحد . وقرأ أبو هريرة ، وابن المسيّب ، والزهري ، وابن جماز عن نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة : { وإِنهم لكاذبون اصْطفى } بالوصل غير مهموز ولا ممدود؛ قال أبو علي : وهو على [ وجه ] الخبر ، كأنه قال : اصْطفى البناتِ على البنين ، كما يقولون ، كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريمُ } [ الدخان : 49 ] .
قوله تعالى : { مالكم كيف تحكُمون } لله بالبنات ولأنفُسكم بالبنين؟! { أم لكم سُلطانٌ مُبينٌ } أي : حُجَّة [ بيِّنة ] على ما تقولون ، { فائتوا بكتابكم } الذي فيه حُجَّتكم .
{ وجَعَلوا بينه وبين الجِنَّة نَسَباً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا : هو وإِبليس أخَوان ، رواه العوفي عن ابن عباس؛ قال الماوردي : وهو قول الزنادقة والذين يقولون : الخير مِنَ الله ، والشَّرُّ من إِبليس .
والثاني : أن كفار قريش قالوا : الملائكة بنات الله ، والجِنَّة صِنف من الملائكة . يقال لهم : الجِنَّة ، قاله مجاهد .
والثالث : أن اليهود قالت : إِن الله تعالى تزوّج إِلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة ، قاله قتادة ، وابن السائب .
فخرج في معنى الجِنَّة قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة .
والثاني : الجن .
فعلى الأول ، يكون معنى قوله : { ولقد عَلِمَتِ الجِنَّةُ } أي : عَلِمَت الملائكةُ { إَنهم } أي : إِن هؤلاء المشركين { لَمُحْضَرُونَ } النّار .
وعلى الثاني : [ { ولقد عَلِمت الجِنَّةُ ] إنهم } أي : إِن الجن أنفسها « لَمُحْضَرونَ » الحساب .
قوله تعالى : { إلاّ عِبادَ الله المُخْلصَين } يعني : الموحِّدين . وفيما استُثنوا منه قولان :
أحدهما : أنهم استُثنوا من حضور النار ، قاله مقاتل .
والثاني : ممّا يصف أولئك ، وهو معنى قول ابن السائب .
قوله تعالى : { فإنَّكم } يعني المشركين { وما تعبُدونَ } من دون الله ، { ما أنتم عليه } أي : على ما تعبُدونَ { بِفاتنينَ } أي : بمُضِلِّينَ أحداً ، { إِلاّ مَنْ هو صَالِ الجحيمِ } أي : مَنْ سبق له في عِلْم الله أنه يدخل النار .
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ثم أَخبر عن الملائكة بقوله : { وما مِنّا } والمعنى : ما مِنّا مَلَك { إلاّ له مَقامٌ مَعلومٌ } أي : مكان في السموات مخصوص يعبُد اللهَ فيه { وإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ } قال قتادة : صفوف في السماء . وقال السدي : هو الصلاة . وقال ابن السائب : صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض .
قوله تعالى : { وإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحونَ } فيه قولان :
أحدهما : المُصَلُّون .
والثاني : المنزِّهون لله عز وجل عن السُّوءِ . وكان عمر بن الخطاب إذا أُقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال : يا أيها الناس استوُوا ، فإنما يريد اللهُ بكم هَدْي الملائكة ، { وإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون ، وإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحون } .
ثم عاد إلى الإِخبار عن المشركين ، فقال : { وإِنْ كانوا لَيَقُولونَ } اللام في « لَيَقُولونَ » لام توكيد؛ والمعنى : وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، { لو أنّ عندنا ذِكْراً } أي : كتاباً { من الأَوَّلِينَ } أي : مثل كتب الأولين ، وهم اليهود والنصارى ، { لَكُنّا عِبَادَ الله المُخْلَصِينَ } أي : لأَخلصْنا العبادة لله عز وجل .
{ فكَفَروا به } فيه اختصار ، تقديره : فلمّا آتاهم ما طلبوا ، كفروا به ، { فسوف يَعْلَمونَ } عاقبة كفرهم ، وهذا تهديد لهم .
{ ولقد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا } أي : تقدَّم وَعْدُنا للمرسَلِين بنصرهم ، والكلمة قوله { كَتَب اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنا ورُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] ، { إِنّهم لَهُمُ المصُورون } بالحُجَّة ، { وإنَّ جُندنا } يعني حزبنا المؤمنين { لَهُمُ الغالِبونَ } بالحُجَّة أيضاً والظَّفَر . { فَتَوَلَّ عنهم } أي : أعرِض عن كفار مكة { حتى حينٍ } أي : حتى تنقضيَ مُدَّةُ إِمهالهم . وقال مجاهد : حتى نأمرَك بالقتال؛ فعلى هذا الآيةُ محْكَمة . وقال في رواية : حتى الموت؛ وكذلك قال قتادة . وقال ابن زيد : حتى القيامة؛ فعلى هذا ، يتطرَّق نسخُها . وقال مقاتل بن حيّان : نسختها آيةُ القتال .
قوله تعالى : { وأَبْصَرهُمْ } أي : انظُر إِليهم إِذا نزل العذاب . قال مقاتل بن سليمان : هو العذاب ببدر؛ وقيل : أَبْصِر حالَهم بقلبك { فسوف يُبْصِرونَ } ما اْنكروا ، وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً به ، فقيل : { أَفَبِعذابنا يستعْجِلونَ } .
{ فإذا نَزَلَ } يعني العذاب . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران ، والجحدري ، وابن يعمر : { فإذا نُزِّل } برفع النون وكسر الزاي وتشديدها { بِساحتهم } أي : بفِنائهم وناحيتهم ، والساحة فِناء الدّار . قال الفراء : العرب تكتفي بالساحة والعَقْوة من القوم ، فيقولون : نزل بك العذاب وبساحتك . قال الزجاج : فكان عذابُ هؤلاء القتل { فَساءَ صباحُ المُنْذَرِينَ } أي : بِئْسَ صباحُ الذين أًنذروا العذاب .
ثم كرَّر ما تقدم توكيداً لوعده بالعذاب ، فقال : { وتَوَلَّ عنهم . . . } الآيتين .
ثم نزَّه نفسَهُ عن قولهم بقوله تعالى : { سُبْحانَ ربِّكَ ربِّ العِزَّةِ } قال مقاتل : يعني : عِزَّةَ مَنْ يتعزَّز من ملوك الدنيا .
قوله تعالى : { عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من اتِّخاذ النساء والأولاد .
{ وسَلاَمٌ على المُرْسَلِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : تسليمُه عليهم إكراماً لهم .
والثاني : إِخباره بسلامتهم .
{ والحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ } على هلاك المُشْرِكِينَ ونُصرة الأنبياء والمرسَلين .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
واختلفوا في معنى { ص } على سبعة أقوال :
أحدها : أنه قَسَم أَقسم اللهُ به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه بمعنى صَدَقَ محمدٌ ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : صَدَقَ اللهُ ، قاله الضحاك . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : معناه صادق فيما وَعََدَ . وقال الزجاج : معناه : الصادقُ اللهُ تعالى .
والرابع : أنه اسم من أسماء القرآن ، أَقسَمَ اللهُ به ، قاله قتادة .
والخامس : أنه اسم حَيَّة رأسُها تحت العرش وذَنَبُها تحت الأرض السُّفلى ، حكاه أبو سليمان الدمشقي ، وقال : أظنه عن عكرمة .
والسادس : أنه بمعنى : حادِثِ القرآن ، أي : انظُر فيه ، قاله الحسن ، وهذا على قراءة من كسروا ، منهم ابن عباس ، [ والحسن ] ، وابن أبي عبلة . قال ابن جرير : فيكون المعنى : صادِ بِعَمَلِكَ القرآن ، أي : عارِضْه . وقيل : اعْرَضْه على عملك ، فانظُر أين هو [ منه ] .
والسابع : أنه بمعنى : صادَ محمدٌ قلوبَ الخَلْق واستمالها حتى آمَنوا به وأَحَبُّوه . حكاه الثعلبي ، وهذا على قراءة من فتح . وهي قراءة أبي رجاء ، وأبي الجوزاء ، وحميد ، ومحبوب عن أبي عمرو . قال الزجاج : والقراءة « صادْ » ، بتسكين الدال ، لأنها من حروف التَّهجِّي ، وقد قُرئتْ بالفتح وبالكسر ، فمن فتحها ، فعلى ضربين :
أحدهما : لالتقاء الساكنين .
والثاني : على معنى : أُتْلُ « صاد » ، ويكون [ صاد ] اسماً للسورة لاينصرف؛ ومن كسر ، فعلى ضربين :
أحدهما : لالتقاء الساكنين أيضاً .
والثاني : على معنى : صادِ القرآن بعملك ، من قولك : صَادَى يُصَادِي : إِذا قابَل وعادَل ، يقال : صادَيْتُه : إِذا قابَلْته .
قوله تعالى : { ذِي الذِّكْرِ } في المراد بالذِّكْر ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الشَّرَف ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والسدي .
والثاني : البيان ، قاله قتادة .
والثالث : التذكير ، قاله الضحاك .
فإن قيل : أين جواب القسَم بقوله : { ص والقرآنِ ذِي الذِّكْرِ } ؟
فعنه خمسة أجوبة :
أحدها : أن « ص » جواب لقوله : { والقرآن } ، ف { ص } في معناها ، كقولك : وَجَبَ واللهِ ، نَزَلَ واللهِ ، حَقٌّ واللهِ ، قاله الفراء ، وثعلب .
والثاني : أن جواب { ص } قوله { كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِم مِنْ قَرْنٍ } ، ومعناه : لَكَمْ . فلمّا طال الكلام ، حُذفت اللامُ ، ومِثله : { والشَّمْسِ وضُحاها } [ الشمس : 1 ] { قد أَفْلَحَ } [ الشمس : 9 ] ، فإن المعنى : لقد أَفْلَحَ ، غير أنه لمّا اعترض بينهما كلام ، تبعه قوله : { قد أَفْلَحَ } ، حكاه الفراء ، وثعلب أيضاً .
والثالث : أنه قوله : { إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } [ ص : 14 ] ، حكاه الأخفش .
والرابع : أنه قوله : { إِنَّ ذلكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ } [ ص : 64 ] ، قاله الكسائي . وقال الفراء : لا نجده مستقيماً في العربية ، لِتأخُّره جداً عن قوله { والقرآنِ } .
والخامس : أن جوابه محذوف ، تقديره : والقرآنِ ذي الذِّكْر ما الأَمْرُ كما يقول الكُفَّار ، ويدل على هذا المحذوف قولُه { بَلِ الذين كَفَروا في عِزَّةٍ وشقاقٍ } ، ذكره جماعة من المفسرين ، وإِلى نحوه ذهب قتادة .
والعِزَّةُ : الحَمِيَّةُ والتكبُّر عن الحَقّ . وقرأ عمرو بن العاص ، وأبو رزين ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري ، ومحبوب عن أبي عمرو : { في غِرَّةٍ } بغين معجمة و راء غير معجمة . والشِّقاق : الخِلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سبق بيان الكلمتين مشروحاً [ البقرة : 206 ، 138 ] .
ثم خوَّفهم بقوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهم مِنْ قَرْنٍ } يعنى الأُمم الخالية { فنادَوْا } عند وقوع الهلاك بهم . وفي هذا النداء قولان :
أحدهما : أنه الدُّعاء .
والثاني : الاستغاثة .
قوله تعالى : { ولاتَ حينَ مَناصٍ } وقرأ الضحاك ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري ، وابن يعمر : { ولاتَ حينُ } بفتح التاء ورفع النون . قال ابن عباس : ليس حين يروه فِرار . وقال عطاء : في لغة أهل اليمن { لاتَ } بمعنى « ليس » . وقال وهب بن منبه : هي بالسريانية . وقال الفراء : « لاتَ » بمعنى « ليس » . والمعنى : ليس بحينِ فِرار . ومن القرّاء من يَخْفضُ « لاتِ » ، والوجه النَّصْب ، لأنها في معنى « ليس » . أنشدني المفضَّل :
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاتَ حِينا ... وأضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا
قال ابن الأنباري : كان الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش وأبو عبيدة يذهبون إلى أن التاء في قوله تعالى : { ولاتَ } منقطعة من { حين } قال : وقال أبو عبيدة : الوقف عندي على هذا الحرف { ولا } ، والابتداء { تحين } لثلاث حُجج :
إِحداهن : أن تفسير ابن عباس يشهد لها ، لأنه قال : ليس حِينَ يَرَوْه فِرار؛ فقد عُلِمَ أنّ { ليس } هي أخت { لا } وفي معناها .
والحُجة الثانية : أنّا لا نَجِدُ في شيء من كلام العرب { ولات } ، إنما المعروفة { لا } .
والحجة الثالثة : أن هذه التاء ، إنما وجدناها تلحق مع { حين } ومع { الآن } ومع ال { أوان } فيقولون : كان هذا تحين كان ذلك ، وكذلك : « تأوان » ، ويقال : اذهب تَلانَ ، ومنه قول أبي وجزة السعدي :
العَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... والمَطْعِمُونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمِ
وذكر ابن قتيبة عن ابن الأعرابي أن معنى هذا البيت : « العاطفونة » بالهاء ، ثم تبتدىء : « حينَ مامِنْ عاطِفٍ » ، قال ابن الأنباري : وهذا غلط لأن الهاء إنما تُقْحَم على النُّون في مواضع القَطْعُ والسُّكون ، فأمّا مع الاتصال ، فإنه غير موجود . وقال عليّ بن أحمد النيسابوري : النحويُّون يقولون في قوله { ولاتَ } هي { لا } زيدت فيها التاء ، كما قالوا : ثُمَّ وثُمَّتْ ، ورُبَّ ورُبَّتْ ، وأصلها هاءٌ وُصِلَتْ ب { لا } فقالوا : « لاه » فلمّا وَصَلُوها ، جعلوها تاءً؛ والوقف عليها بالتاء عند الزجاج ، وأبي عليّ ، وعند الكسائي بالهاء ، وعند أبي عبيد الوقف على { لا } .
فأما المَناص ، فهو الفرار . قال الفراء : النَّوْص في كلام العرب : التأخُّر؛ والبَوْصُ : التقدّم . قال إمرؤ القَيْس :
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نأَتْكَ تَنُوصُ ... فتَقْصُرُ عَنْها خَطْوَةً وتَبُوصُ
وقال أبوعبيدة : المَنَاصُ : مصدر نَاصَ يَنُوصُ ، وهوالمنجى والفوز .
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
قوله تعالى : { وعَجِبوا } يعني الكفار { أَنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } يعني رسولاً من أَنْفُسهم يُنْذِرُهم النَّارَ .
{ أجعل الآلهة إِِلهاً واحداً } لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلهتهم؛ وهذا قولهم لمّا اجتمعوا عند أبي طالب ، وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أتُعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ، وهي » لا إِله إِلا الله « ، فقاموا يقولون : { أَجَعَلَ الآلهةَ إِلهاً واحداً } ونزلت هذه الآية فيهم . { إِنّ هذا } [ الذي ] يقول محمد من أن الآلهة إِله واحد { لَشَيءٌ عُجابٌ } أي : لأمرٌ عَجَبٌ . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن السميفع : { عُجّابٌ } بتشديد الجيم . قال اللغويون : العُجَاب والعجّاب والعجيب بمعنى واحد ، كما تقول : كَبِيرٌ وكُبَارٌ وكُبَّارٌ ، وكَرِيمٌ وكُرامٌ وكُرَّامٌ ، وطَوِيلٌ وطُوَالٌ وطُوَّالٌ؛ وأنشد الفراء :
جاؤوا عَجَبٍ مِنَ العَجَبْ ... أُزَيْرِقِ العينينِ طُوَّالِ الذَّنَبْ
قال قتادة : عجب المشركون أن دُعي اللهُ وَحْدَه وقالوا : أَيَسْمَعُ لِحاجاتنا جميعاً إِلهٌ واحد؟ .
وقوله تعالى : { وانْطَلَقَ المَلأُ منهم } قال المفسرون : لمّا اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب وشَكَوا إِليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق بيانه ، نفروا من قوله : » لا إِله إِلا الله « ، وخرجوا من عند أبي طالب ، فذلك قوله { وانْطَلَقَ الملأُ منهم } . والانطلاق : الذّّهَابُ بسهولة ، ومنه طَلاَقَةُ الوَجْه ، والملأُ أشراف قريش ، فخرجوا يقول بعضهم لبعض : { امْشُوا } و { أن } بمعنى » أي «؛ فالمعنى : أي : امْشُوا . قال الزجاج : ويجوز أن يكون المعنى : انْطَلِقوا بأن امْشُوا ، أي : انْطَلَقوا بهذا القول . وقال بعضهم : المعنى : انْطَلَقوا يقولون : امْشُوا إِلى أبي طالب فاشْكُوا إليه ابنَ أخيه ، { واصبروا على آلهتكم } أي : اثبُتوا على عبادتها { إنّ هذا } الذي نراه من زيادة أصحاب محمد { لَشَيءٌ يُراد } أي : لأمرٌ يُرادُ بِنَا .
{ ما سَمِعْنا بهذا } الذي جاء به محمدٌ من التوحيد { في المِلَّة الآخِرةِ } وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : النصرانية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإِبراهيم بن المهاجر عن مجاهد ، وبه قال محمد بن كعب القرظي ، ومقاتل .
والثاني : أنها مِلَّة قريش ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة .
والثالث : اليهودية والنصرانية ، قاله الفراء ، والزجاج؛ والمعنى أن اليهود أشركت بعُزَير ، والنصارى قالت : ثالث ثلاثة ، فلهذا أنْكَرَتِ التوحيدَ .
{ إنْ هذا } الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، { إِلا اختلاقٌ } أي : كذب . { أَأُنزل عليه الذِّكر } يعنون القرآن . » عليه « يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { مِنْ بينِنا } أي : كيف خُصَّ بهذا دونَنَا ، وليس بأعلانا نَسَباَ ولا أعظمَنا شَرَفاَ؟! قال الله تعالى : { بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِنْ ذِكْري } أي : من القرآن؛ والمعن : أنهم ليسوا على يقين ممّا يقولون ، إِنما هم شاكُّون { بَلْ لَمّا } قال مقاتل : » لمّا « بمعنى » لم « كقوله
{ ولمّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قُلوبكم } [ الحجرات : 14 ] . وقال غيره : هذا تهديد لهم . والمعنى : أنه لو نزل بهم العذاب ، علموا أن ما قاله محمدٌ حقٌّ . وأثبت ياء { عذابي } في الحالين يعقوب .
قال الزجاج : ولما دَلَّ قولُهم : { أَأُنْزِلَ عليه الذِّكْرُ } على حسدهم له ، أعلم اللهُ عز وجل أن المُلْك والرِّسالة إِليه ، فقال : { أَمْ عِنْدَهم خزائنُ رَحْمَةِ ربِّكَ } ؟! قال المفسرون : ومعنى الآية : أبأيديهم مفاتيحُ النُّبوَّة فيضعونها حيث شاؤوا؟! والمعنى : ليست بأيديهم ، ولا مُلْكُ السموات والأرض لهم . فإن ادّعَوْا شيئاً من ذلك { فَلْيَرْتَقُوا في الأَسبابِ } . قال سعيد بن جبير : أي : في أبواب السماء . وقال الزجاج : فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء .
قوله تعالى : { جُنْدٌ } أي : هُمْ جُنْدٌ . والجُند : الأَتباع؛ فكأنه قال : هُمْ أَتباعٌ مقلِّدون ليس فيهم عالِمٌ راشد . و { ما } زائدة ، و { هنالك } إِشارة إِلى بدر . والأحزاب : جميع مَنْ تقدَّمهم من الكفار الذين تحزَّبوا على الأنبياء . قال قتادة : أخبر اللهُ نبيَّه وهو بمكة أنه سيَهْزِمُ جُند المشركين ، فجاء تأويلُها يومَ بدر .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
قوله تعالى : { كذَّبَتْ قَبْلَهم قومُ نُوحٍ } قال أبو عبيدة : قَوْمٌ من العرب يؤنِّثون « القوم » ، وقوم يذكِّرون ، فإن احتُجَّ عليهم بهذه الآية قالوا : وقع المعنى على العشيرة ، واحتَجُّوا بقوله { كَلاّ إِنّها تَذْكِرَةٌ } [ عبس : 11 ] ، قالوا : والمُضْمَر مذكَّر .
قوله تعالى : { وفرعونُ ذو الأوتاد } فيه ستة أقوال :
أحدها : أنه كان يعذِّب الناس بأربعة أوتاد يَشُدُّهم فيها ، ثُمَّ يرفع صخرة فتُلقى على الإِنسان فتَشْدَخُه ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وكذلك قال الحسن ، ومجاهد : كان يعذِّب الناسَ بأوتاد يُوتِدُها في أيديهم وأرجُلهم .
والثاني : أنه ذو البِناء المُحْكَم ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الضحاك ، والقرظي ، واختاره ابن قتيبة ، قال : والعرب تقول : هُمْ في عزٍّ ثابتِ الأوتاد ومُلكٍ ثابتِ الأوتاد ، يريدون أنه دائم شديد ، وأصل هذا ، أن البيت [ من بيوتهم ] يثبتُ بأوتاد ، قال الأسود بن يَعْفُرَ :
[ ولقد غَنُّوا فيها بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ] ... في ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتادِ
والثالث : أن المراد بالأوتاد : الجنودُ ، رواه عطية عن ابن عباس ، وذلك أنهم كانوا يَشُدُّونَ مُلكه ويُقَوُّون أمره كما يقوِّي الوَتِدُ الشيءَ .
والرابع : أنه كان يبني مَناراً يذبح عليها الناس .
والخامس : أنه كان له أربع أسطوانات ، فيأخذ الرَّجُلَ فيمُدُّ كلَّ قائمة إِلى أُسْطوانة فيعذِّبه . روي القولان عن سعيد بن جبير .
والسادس : أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يُلعَب له عليها ، قاله عطاء ، وقتادة .
ولمّا ذكر المكذّبين ، قال : { أولئك الأحزابُ } فأعَلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء ، وقد عذِّبوا وأُهلكوا ، { فَحَقَّ عِقَاِب } ، أثبت الياء في الحالين يعقوب . { وما ينظرُ } أي : وما يَنتظر { هؤلاء } يعني كفار مكة { إلاَّ صَيْحَةً واحدة } وفيها قولان :
أحدهما : أنها النفخة الأولى ، قاله مقاتل .
والثاني : النفخة الأخيرة ، قاله ابن السائب .
وفي الفَواق قراءتان : قرأ حمزة ، وخلف ، والكسائي : بضم الفاء ، وقرأ الباقون : بفتحها ، وهل بينهما فرق أم لا؟ فيه قولان :
أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد ، وهو معنى قول الفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الفراء : والمعنى : مالها من راحة ولا إِفاقة ، وأصله من الإِفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أُمَّها ثم تركتْها حتى تنزل شيئاً من اللَّبَن ، فتلك الإفاقة ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « العِيادةُ قَدْرُ فُواق ناقة » ومن يفتح الفاء ، فهي لغة جيدة عالية ، وقال ابن قتيبة : الفُواق والفَواق واحد ، وهو أن تُحْلَبَ النّاقةُ وتُتركَ ساعةً حتى تُنزل شيئاً من اللَّبَن ، ثم تُحْلَب ، فما بين الحَلْبتين فواق ، فاستعير الفواق في موضع المكث والانتظار . وقال الزجاج : الفُواق ما بين حلبتَي النّاقة ، وهو مشتق من الرُّجوع ، لأنه يَعُودُ اللَّبَن إلى الضّرع بين الحَلْبتين ، يقال : أفاق من مرضه ، أي : رَجَع إِلى الصِّحَّة .
والثاني : أن مَنْ فتحها ، أراد : مالَها مِنْ راحة ، ومن ضمَّها ، أراد : فُواق الناقة ، قاله أبو عبيدة .
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال :
أحدها : مالها من رجعة ، ثم فيه قولان .
أحدهما : مالها من ترداد ، قاله ابن عباس ، والمعنى : أن تلك الصيحة لا تُكَرَّرُ .
والثاني : مالها من رجوع إلى الدنيا ، قاله الحسن ، وقتادة ، والمعنى : أنهم لا يعودون بعدها إلى الدنيا .
والثاني : ما لهم منها من إفاقة ، بل تُهْلِكهم ، قاله ابن زيد .
والثالث : مالها من فُتور ولا انقطاع ، قاله ابن جرير .
والرابع : مالها من راحة ، حكاه جماعة من المفسرين .
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
قوله تعالى : { وقالوا ربَّنا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنا } في سبب قولهم هذا قولان :
أحدهما : أنه لمّا ذُكِر لهم ما في الجنّة ، قالوا هذا ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي .
والثاني : أنه لمّا نزل قوله { فأمَّا مَنْ أُوتيَ كتابَه بيمينه . . . } الآيات [ الحاقة : 19-37 ] ، قالت قريش : زعمتَ يا محمد أنّا نُؤتَى كتبنا بشمائلنا؟! فعجِّل لنا قِطَّنا ، يقولون ذلك تكذيباً له . قاله أبو العالية ومقاتل .
وفي المراد بالقِطِّ أربعة أقوال :
أحدها : أنه الصحيفة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال الفراء : القِطُّ في كلام العرب : الصَّكّ . وقال أبو عبيدة : القِطُّ الكتاب ، والقُطُوط : الكتب بالجوائز ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني : أن القِطَّ : الحساب ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه القضاء ، قاله عطاء الخراساني ، والمعنى أنهم لمّا وُعِدوا بالقضاء بينهم ، سألوا ذلك .
والرابع : أنه النصيب ، قاله سعيد بن جبير . [ قال الزجاج : القِطُّ : النصيب ، وأصله : الصحيفة يُكْتَب للإنسان فيها شيء يَصِل إِليه ، واشتقاقة من قَطَطْتُ ، أي : قَطَعْتُ ، فالنَّصيب : هو القطعة من الشيء . ثم في هذا القول للمفسرين قولان :
أحدهما : أنهم سألوه نصيبهم من الجنة ، قاله سعيد بن جبير ] .
والثاني : سألوه نصيبهم من العذاب ، قاله قتادة . وعلى جميع الأقوال ، إنما سألوا ذلك استهزاءً ، لتكذيبهم بالقيامة .
{ اصْبِرْ على ما يقولونَ } أي : من تكذيبهم وأذاهم ، وفي هذا قولان :
أحدهما : أنه أُمِر بالصبر ، سلوكاً لطريق أًولي العزم ، وهذا مُحْكَم .
والثاني : أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي .
قوله تعالى : { واُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ } في وجه المناسبة بين قوله : { إِصبر } وبين قوله : { واُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ } قولان :
أحدهما : أنه أمِرَ أن يتقوّى على الصَّبر بذِكْر قُوَّة داوُد على العبادة والطاعة .
والثاني : أن المعنى : عرِّفهم أن الأنبياء عليهم السلام مع طاعتهم كانوا خائفين منِّي ، هذا داوُد مع قوَّته على العبادة ، لم يزل باكياً مستغفراً ، فكيف حالُهم مع أفعالهم .
فأما قوله : { ذَا الأيْدِ } فقال ابن عباس : هي القُوَّة في العبادة . وفي « الصحيحين » من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « أَحَبُّ الصِّيام إلى الله صيامُ داوُدَ ، كان يصومُ يوماً ويُفْطِر يوماً ، وأَحَبُّ الصَّلاة إِلى الله صلاةُ داوُد ، كان ينام نِصْفَ الليل ويقومُ ثُلثه وينامَ سُدسه »
وفي { الأوّاب } أقوال قد ذكرناها في [ بني اسرائيل : 25 ] . { إِنّا سَخَّرْنا الجبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في [ الأنبياء : 79 ] ، وذكرنا معنى العَشِيّ في مواضع مما تقدم ، [ آل عمران : 41 ] [ الأنعام : 53 ] ، وذكرنا معنى الإشراق في [ الحجر : 73 ] عند قوله { مُشْرِقِين } . قال الزجاج : الإِشراق : طلوعُ الشمس [ وإِضاءتُها ] ، وروي عن ابن عباس أنه قال : طَلَبْتُ صلاةَ الضُّحى ، فلم أَجِدْها إِلاّ في هذه الآية .
وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضُّحى مذكورة في [ النور : 36 ] في قوله { بالغُدُوِّ والآصال } .
قوله تعالى : { والطَّيْرَ مَحشُورَةً } وقرأ عكرمة ، وأبو الجوزاء ، والضحاك ، وابن أبي عبلة : { والطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ } بالرفع فيهما ، أي : مجموعة إليه ، تسبِّح اللهَ معه { كُلَّ له } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى داوُد ، أي : كُلٌّ لداود { أَوَّابٌ } أي : رَجّاعٌ إِلى طاعته وأَمْره ، والمعنى : كُلٌّ له مُطِيع بالتسبيح معه ، هذا قول الجمهور .
والثاني : [ أنها ] ترجع إلى الله تعالى ، فالمعنى : كُلٌّ مسبِّحٌ لله ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وشدَدْنا مُلْكَه } أي : قوَّيناه . وفي ما شُدَّ به مُلْكُه قولان :
أحدهما : أنه الحَرَسُ والجنود؛ قال ابن عباس : كان يحرسُه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل .
والثاني : أنه هَيْبَةٌ أُلْقِيَتْ في قلوب الناس؛ وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى : { وآتيناه الحكمة } وفيها أربعة أقوال : أحدها : أنها الفَهْم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد . والثاني : الصَّواب ، قاله مجاهد . والثالث : السُّنَّة ، قاله قتادة . والرابع : النُّبُوَّة ، قاله السدي . وفي فصل الخطاب أربعة أقوال :
أحدها : عِلْمُ القضاء والعدلُ ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثاني : بيان الكلام ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود .
والثالث : قوله { أما بعد } وهو أول من تكلَّم بها ، قاله أبو موسى الأشعري ، والشعبي .
والرابع : تكليف المدَّعي البيِّنة ، والمدَّعَى عليه اليمين ، قاله شريح ، وقتادة ، وهو قولٌ حسنٌ ، لأن الخُصومة إنما تُفْصَل بهذا .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قوله تعالى : { وهل أتاكَ نبأ الخَصْمِ } قال أبو سليمان : المعنى : قد أتاكَ فاسْتَمِعْ له نَقْصُصْ عليكَ .
واختلف العلماء في السبب الذي امتُحِن لأجْله داوُد عليه السلام بما امتُحن به ، على خمسة أقوال :
أحدها : أنه قال : ياربِّ قد أعطيتَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذِّكْر ما لو ودِدْتُ أنَّك أعطيتني مِثْلَه ، فقال الله تعالى : إِنِّي ابتليتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به ، فإن شئت ابتليتُكَ بِمثْلِ ما ابتليتُهم به وأعطيتُك كما أعطيتُهم . قال : نعم . فبينما هو في محرابه إذ وقعتْ عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت ، فذهب ليأخذها ، فرأى امرأة تغتسل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال السدي .
والثاني : أنه مازال يجتهد في العبادة حتى بَرَزَ له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلُّون معه ويُسْعِدونه بالبُكاء ، فلمّا استأنس بهم ، قال : أَخْبِروني بأيِّ شيء أنتم موكَّلون؟ قالوا : مانَكْتُب عليكَ ذَنْباً ، بل نكتب صالح عملك ونثبِّتُك ونوفِّقُك ونَصْرِف عنك السُّوء . فقال في نفسه : ليت شِعري ، كيف أكون لو خلّوني ونفسي ، وتمنَّى أن يُخَلّى بينه وبين نفسه ليَعْلَم كيف يكون ، فأمر اللهُ تعالى قُرَناءَه أن يعتزلوه ليَعْلَم أنه لا غَناءَ به عن الله [ عزوجل ، فلما فقدهم ، جَدَّ واجتهد ضِعْفَ عبادته إلى أن ظَنَّ أنه قد غَلَب نَفْسَه ، فأراد اللهُ تعالى ] أن يُعَرِّفَه ضَعْفَه ، فأَرسَل إِليه طائراً من طيور الجنة ، فسقط في محرابه ، فقطع صلاته ومَدَّ يده إليه ، فتنحّى عن مكانه ، فأَتْبَعَه بَصَرَه ، فإذا امرأة أوريا ، هذا قول وهب بن منبّه .
والثالث : أنه تَذاكرَ هو وبنو إسرائيل ، فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذَنْباً؟ فأضمر داودُ في نفسه أنه سيُطيق ذلك ، فلمّا كان يوم عبادته ، أغلق أبوابه وأَمَرَ أن لا يدخُل عليه أحد وأكبَّ على قراءه الزَّبور ، فإذا حمامة من ذهب ، فأهوى إليها فطارت ، فتَبِعها فرأى المرأة ، رواه مطر عن الحسن .
والرابع : أنه قال لبني إسرائيل حين ملك : واللهِ لأَعْدِلَنَّ بينكم ، ولم يستثن ، فابتُليَ . رواه قتادة عن الحسن .
والخامس : أنه أعجبه كثرة عمله ، فابتُليَ ، قاله أبو بكر الورّاق .
الإِشارة إلى قصة ابتلائه :
قد ذكرنا عن وهب أنه قال : كانت الحمامة من طيور الجنة ، وقال السدي : تصوَّر له الشيطان في صورة حمامة . قال المفسرون : إِنه لمّا تبع الحمامة ، رأى امرأة في بستان على شطِّ بِرْكَة لها تغتسل ، وقيل : بل على سطح لها ، فعجب من حسنها ، فحانت منها التفاته فرأت ظِلَّه فنقضت شعرها ، فغطىّ بدنها ، فزاده ذلك إِعجاباً بها ، فسأل عنها ، فقيل : هذه امرأة أوريا ، وزوجها في غزاة ، فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا ، وقدِّمه قبل التابوت ، وكان مَنْ قُدِّم على التابوت لا يَحِلُّ له أن يرجع حتى يُفْتَح عليه أو يستشهد ، ففعل ذلك ، ففُتِح عليه ، فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدوِّ كذا وكذا ، ففُتح له ، فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدو كذا وكذا ، فقُتل في المرَّة الثالثة ، فلمّا انقضت عِدَّة المرأة تزوَّجها داوُد فهي أُمُّ سليمان ، فلمّا دخل بها ، لم يلبث إلا يسيراً حتى بعث اللهُ عز وجل مَلَكين في صورة إنسيَّين ، وقيل : لم يأته المَلَكان حتى جاء منها سليمان وشَبَّ ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته ، فمنعهما الحرس من الدُّخول إليه ، فتسوروا المحراب عليه؛ وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين ، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل في آخرين ، وذكر جماعة من المفسرين أن داوُد لمّا نظر إلى المرأة ، سأل عنها ، وبعث زوجَها إلى الغَزاة مَرَّة بعد مَرَّة إلى أن قُتل ، فتزوََّجَها؛ وروي مِثْلُ [ هذا ] عن ابن عباس ، ووهب ، والحسن في جماعة .
قال المصنِّف : وهذا لا يصح من طريق النقل ، ولا يجوز من حيث المعنى ، لأن الأنبياء منزَّهون عنه .
وقد اختلف المحقِّقون في ذَنْبه الذي عُوتب عليه على أربعة أقوال :
أحدها : أنه لمَا هَويهَا ، قال لزوجها : تحوَّل لي عنها ، فعُوتب على ذلك . وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مازاد داوُد على أن قال لصاحب المرأة : أكْفِلْنِيهَا وتحوّلْ لي عنها؛ ونحو ذلك روي عن ابن مسعود . وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غَزاته ، فأدناه وأكرمه جدّاً ، إلى أن قال له يوماً : أنْزِلْ لي عن امرأتك ، وانظُر أيَّ امرأة شئتَ في بني إسرائيل أزوِّجكها ، أو أيَّ أَمَةٍ شئتَ أبتاعُها لكَ ، فقال : لا أُريد بامرأتي بديلاً ، فلمّا لم يُجِبْه إِلى ما سأل أمَرَه أن يَرْجِع إلى غَزاته .
والثاني : أنه تمنّى تلك المرأة حلالاً ، وحدَّث نفسه بذلك ، فاتفق غزوُ أوريا وهلاكُه من غير أن يسعى في سبب قتله ، ولا في تعريضه للهلاك ، فلمّا بلغة قتلُه ، لم يَجْزَعْ عليه كما جَزِع على غيره مِنْ جُنْده ، ثُمَّ تزوَّج امرأتَه ، فعُوتب على ذلك ، وذُنوبُ الأنبياء عليهم السلام وإن صَغُرَتْ ، فهي عظيمةٌ عند الله عز وجل .
والثالث : أنه لمّا وقع بصرُه عليها ، أشبع النَّظر إليها حتى عَلِقَتْ بقلبه .
والرابع : أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ، فخطبها داودُ مع عِلْمه بأن أوريا قد خطبها فتزوَّجَها ، فاغتمَّ أوريا ، وعاتب اللهُ تعالى داوَُدَ ، إذْ لم يترُكْها لخاطبها الأوَّل ، واختار القاضي أبو يعلى هذا القول ، واستدل عليه بقوله { وعَزَّني في الخِطاب } قال : فدلَّ هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخِطْبة ، ولم يكن قد تقدَّم تزوُّج الآخَر ، فعُوتب داوُدُ عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التَّنَزُّه عنهم ، :
أحدهما : خِطْبته على خِطْبته غيره .
والثاني : إِظهار الحِرْص على التزويج مع كثرة نسائه ، ولم يعتقد ذلك معصية ، فعاتبه الله تعالى عليها؛ قال : فأما مارُوي أنه نظر إِلى المرأة فهَويَها وقدَّم زَوْجَها للقتل ، فإنه وجهٌ لا يجوز على الأنبياء ، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العِلْم بها .
قال الزجاج : إنما قال { الخَصْمِ } بلفظ الواحد ، وقال { تَسَوَّرُوا المِحْرابَ } بلفظ الجماعة ، لأن قولك : خصم ، يَصْلحُ للواحد والاثنين والجماعة ، والذكر والأنثى . تقول : هذا خصم وهي خصم ، وهما خصم ، وهم خصم؛ وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر تقول : خَصَمْتُه أَخْصِمُه خَصْماً . والمحراب هاهنا كالغُرفة ، قال الشاعر :
رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها ... لَمْ ألْقَها أَوْ أرَتَقي سُلَّماً
و { تسوّروا } يدل على علوّ .
قال المفسرون : كانا مَلَكين ، وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما السلام ، أتياه لينبِّهاه على التوبة ، وإنما قال { تسوَّروا } وهما اثنان ، لأن معنى الجمع ضمُّ شيء إلى شيء ، والاثنان فما فوقهما جماعة .
قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُوا على داوُدَ } قال الفراء : يجوز أن يكون معنى « تسوَّرُوا » : دَخَلوا ، فيكون تكراراً . ويجوز أن تكون { إذ } بمعنى « لمّا » فيكون المعنى إذ تسوَّروا المحراب لمّا دَخَلوا ، ولمّا تسوَّروا إِذ دخلوا .
قوله تعالى : { ففَزع منهم } وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخُصوم ، وفي غير وقت الحُكومة ، ودخلا تَسَوُّراً من غير إذن . وقال أبو الأحوص : دَخَلا عليه وكُلُّ واحد منهما آخذٌ برأس صاحبه . و { خَصْمانِ } مرفوع بإضمار « نَحْنُ » ، قال ابن الأنباري : [ المعنى ] : نحن كخصمين ، ومِثْلُ خصمين ، فسقطت الكاف ، وقام الخصمان مقامها ، كما تقول العرب : عبد الله القمرُ حُسْناً ، وهم يريدون : مِثْل القمر ، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمَّها :
مَنْ حَسَّ لِي الأخَوَيْنِ كال ... غُصْنَيْنِ أَوْ مَنْ راهُما
أسَدَيْنِ في عِيلٍ يَحِيدُ ال ... قَوْمُ عَنْ عُرْواهُما
صَقْرَيْنِ لا يَتَذَلَّلا ... نِ ولا يُباحُ حِماهُما
رُمْحَيْنِ خَطِّيِّيْنِ في ... كَبِدِ السَّماءِ تَراهُما
أرادت : مِثْل أسدين ، ومثل صقرين ، فأسقطت مِثْلاً وأقامت الذي بعده مقامه ، ثم صرف اللهُ عز وجل النون والألف في « بَعْضُنا » إلى « نحن » المضمر ، كما تقول العرب : نحن قوم شَرُف أبونا ، ونحن قوم شَرُف أبوهم . والمعنى واحد . والحق هاهنا : العدل .
{ ولا تُشْطِطْ } أي : لا تَجُرْ ، يقال : شَطَّ وأَشَطَّ إذا جار . وقرأ ابن أبي عبلة { ولا تَشْطُطْ } بفتح التاء وضم الطاء . قال الفراء : وبعض العرب يقول : شَطَطْتَ عليَّ في السَّوْم ، وأكثر الكلام « أشططتَ » بالألف ، وشَطَّت الدّارُ : تباعدتْ .
قوله تعالى : { واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ } أي : إلى قَصْد الطَّريق؛ والمعنى : احْمِلْنا على الحق ، فقال داوُد : تَكَلَّما ، فقال أحدُهما : { إنَّ هذا أخي } قال ابن الأنباري : المعنى : قال أحد الخصمين اللَّذين شُبِّه المَلَكان بهما : إنَّ هذا أخي ، فأضمر القول لوضوح معناه { له تِسْعٌ وتِسعونَ نَعْجَةً } قال الزجاج : كُني عن المرأة بالنَّعْجة ، وقال غيره : العرب تشبِّه النِّساء بالنعاج ، وتورِّي عنها بالشاء والبقر .
قال ابن قتيبة : ورّى عن ذِكر النساء بذِكر النعاج ، كما قال عنترة :
ياشاةَ ما قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ
يعرِّض بجارية يقول : أيّ صيد أنتِ لِمَنْ حَلَّ له أن يَصيدَكِ! فأمّا أنا ، فإنَّ حُرْمَةَ الجوار قد حرَّمْتكِ عَلَيَّ . وإِنما ذَكرَ المَلَكُ هذا العدد لأنه عدد نساء داوُد .
قوله تعالى : { وَلِيَ نَعْجَةٌ واحدةٌ } فتح الياء حفص عن عاصم وأسكنها الباقون .
{ فقال أكْفِلْنِيها } قال ابن قتيبة : أي : ضُمَّها إِليّ واجعلْني كافِلَها . وقال الزجاج : انْزِلْ أنتَ عَنها واجعلْني أنا أَكْفُلُها .
قوله تعالى : { وعَزَّني في الخطاب } أي : غَلَبني في القول . وقرأ عمر بن الخطاب ، وأبو رزين [ العقيلي ] ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : { وعَازَّنِي } بألف ، أي : غالبَنَي . قال ابن مسعود ، وابن عباس في قوله { وعَزَّني في الخطاب } : ما زاد على أن قال : انْزِلْ لي عنها . وروى العوفي عن ابن عباس قال : إن دعوتُ ودعا كان أكثر ، وإن بَطَشْتُ وبَطَشَ كان أَشدَّ مني .
فإن قيل : كيف قال المَلَكان هذا ، وليس شيء منه موجوداً عندهما؟
فالجواب : أن العلماء قالوا : إنما هذا على سبيل المَثَل والتشبيه بقصة داوُد ، وتقدير كلامهما : ما تقولُ إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داوُد لا يرى أن عليه تَبِعَةً فيما فَعَلَ فنبَّهه اللهُ بالمَلَكين . وقال ابن قتيبة : هذا مَثَل ضربه اللهُ [ له ] ونبًّهه على خطيئته . وقد ذكرنا آنفاً أن المعنى : نحنُ كخَصْمَين .
قوله تعالى : { قال } يعني داود { لقد ظَلَمَكَ بسؤال نَعْجتكَ إِلى نِعاجهِ } قال الفراء : أي : بسؤاله نعجتك ، فإذا ألقيتَ الهاء من السؤال ، أضفتَ الفعل إِلى النَّعْجة ، ومِثْلُه : { لا يَسْأَمُ الإِنسانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ } [ فصلت : 49 ] أي : من دعائه بالخير ، فلمّا ألقى الهاء ، أضاف الفعل إِلى الخير ، وألقى من الخير الباء ، وأنشدوا :
فَلَسْتُ مُسَلِّماً ما دُمْتُ حَيّاً ... على زَيْدٍ بتسليمِ الأميرِ
أي : بتسليم على الأمير .
قوله تعالى : { إلى نِعاجه } أي : لِيَضُمَّها إلى نِعاجه . قال ابن قتيبة : المعنى بسؤال نعجتك مضمومةً إِلى نعاجه فاختُصر . قال : ويقال « إلى » بمعنى « مع » .
فإن قيل : كيف حكم داود قبل أن يَسمع كلامَ الآخر؟
فالجواب : أن الخصم الآخر اعترف ، فحكم عليه باعترافه ، وحذف ذِكر الاعتراف اكتفاءً بفهَم السامع . والعرب تقول : أمرتُك بالتجارة فكسبتَ الأموال ، أي فاتجَّرتَ فكسبتَ . ويدُلُّ عليه قولُ السدي : إِن داوُد قال للخصم الآخر : ما تقول؟ قال : نعم ، أريد أن آخذها منه فأُكمل بها نعاجي وهو كاره . قال : إِذاً لا ندعُك وإِن رُمْتَ هذا ضربْنا منكَ هذا ويشير إلى أَنْفه وجبهته فقال : أنت ياداوُدُ أَحَقُّ أن يُضرب هذا منكَ حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا إِلا واحدة ، فنظر داوُد فلم ير أحداً فعَرَف ما وقع فيه .
قوله تعالى : { وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } يعني الشركاء ، واحدهم : خليط ، وهو المُخالِط في المال . وإِنما قال هذا ، لأنه ظنَّهما شريكين ، { إِلاّ الذين آمنوا } أي : فإنهم لا يَظْلِمون أحداً ، { وقليلٌ ماهم } « ما » زائدة ، والمعنى : وقليل هم . وقيل المعنى : هم قليل ، يعني الصالحين الذين لا يَظلِمونَ .
قوله تعالى : { وظَنَّ داوُدُ } أي : أيقن وعَلِم { أنَّما فَتَنَّاه } فيه قولان :
أحدهما : اختبرناه .
والثاني : ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها . وقرأ عمر بن الخطاب { أنّما فتَّنَّاهُ } بتشديد التاء والنون جميعاً . وقرأ أنس بن مالك ، وأبو رزين ، والحسن ، وقتادة ، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو : { أنَّما فَتَنَاهُ } بتخفيف التاء والنون جميعاً ، يعني المَلَكين . قال أبو علي الفارسي : يريد صَمَدا له . وفي سبب عِلْمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المَلَكين أفصحا له بذلك ، على ماذكرناه عن السدي .
والثاني : أنهما عَرَّجا وهما يقولان : قضى الرجلُ على نفسه ، فعَلِم أنه عُني بذلك ، قاله وهب .
والثالث : أنه لمَا حكم بينهما ، نظر أحدُهما إِلى صاحبه وضحك ، ثم صَعِدا إِلى السماء وهو ينظُر ، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فاستغْفَرَ ربَّه } قال المفسرون : لمّا فطن داوُدُ بذَنْبه خَرّ راكعاً . قال ابن عباس : أي : ساجداً . وعبَر عن السجود بالركوع ، لأنهما بمعنى الانحناء . وقال بعضهم : المعنى : فخَرَّ بعد أن كان راكعاً .
فصل
واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين :
أحدهما : ليست من عزائم السجود ، قاله الشافعي .
والثاني : أنها من عزائم السجود ، قاله أبو حنيفة . وعن أحمد روايتان . قال المفسرون : فبقي في سجوده أربعين ليلة ، لا يرفع رأسه إلاّ لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بُدَّ منها ، ولا يأكل ولا يشرب ، فأكلتِ الأرضُ من جبينه ، ونَبَتَ العُشْبُ من دموعه ، ويقول في سجوده : ربَّ داود زَلَّ داودُ زَلَّة أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب . قال مجاهد : نبت البقلُ من دموعه حتى غطَّى رأسَه ثم نادى : ربِّ قَرِح الجبين وجَمَدت العينُ وداوُدُ لم يَرْجِع إِليه في خطيئته شيء ، فنودي أجائع فتُطْعَم ، أم مريض فتُشْفَى أم مظلومٌ فيُنتصَر لك؟ فنَحَبَ نَحيباً هاج كلَّ شيء نَبَتَ ، فعند ذلك غفر له . وقال ثابت البناني : اتخذ داوُدُ سبع حشايا من شَعْر وحشاهُنَّ من الرَّماد ، ثم بكى حتى أنفذها دموعاً ، ولم يشرب شراباً إلا ممزوجاً بدموع عينيه . وقال وهب بن منبه : نودي : يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غَفَرْنا لكَ ، فرفع رأسه وقد زَمِن وصار مرعشاً .
فأمّا قوله : { وأنابَ } فمعناه : رَجَع مِنْ ذَنْبه تائباً إلى ربِّه ، { فَغَفَرْنا له ذلكَ } يعني الذَّنْب { وإِنّ له عِنْدَنا لَزُلْفَى } [ قال ابن قتيبة ] : أي : تقدَّمُ وقُرْبة .
قوله تعالى : { وحُسْنَ مَآبٍ } قال مقاتل : حُسْن مَرْجِع ، وهو ما أعدَّ الله له في الجنة .
قوله تعالى : { يا داوُُدُ } المعنى : وقلنا له يا داود { إِنَّا جَعَلْناكَ } أي : صيّرْناكَ { خليفةً في الأرض } أي : تُدَبِّرُ أَمْرَ العباد مِنْ قِبَلنا بأمرنا ، فكأنك خليفة عنّا { فاحْكُم بين الناس بالحق } أي : بالعدل { ولا تَتَّبِعِ الهوى } أي : لا تَمِلْ مع ما تشتهي إِذا خالف أَمْرَ الله عز وجل { فيُضِلَّكَ عن سبيل الله } أي : عن دينه { إنَّ الذين يَضِلُّونَ } وقرأ أبو نهيك ، وأبو حيوة ، وابن يعمر : { يُضِلُّونَ } بضم الياء .
قوله تعالى : { بما نَسُوا يومَ الحساب } فيه قولان :
أحدهما : بما تَرَكُوا العمل ليوم الحساب ، قاله السدي . قال الزجاج : لمّا تركوا العمل لذلك اليوم ، صاروا بمنزلة الناسين .
والثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : لهم عذاب شديد يومَ الحساب بما نَسُوا أي : تَرَكُوا القضاء بالعدل ، وهو قول عكرمة .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قوله تعالى : { وما خَلَقْنا السماءََ والأَرْضَ وما بينهما باطلاً } أي : عَبَثاَ { ذلكَ ظَنُّ الذين كَفَروا } أن ذلك خُلِقَ لِغَيْرِ شيء ، وإنما خُلِقَ للثواب والعقاب .
{ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمنوا } قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنّا نُعْطَى في الآخرة مثل ما تُعْطَوْن . فنزلت هذه الآية . وقال ابن السائب : نزلت في الستة الذين تبارزوا يوم بدر ، عليٍّ رضي الله عنه ، وحمزة رضي الله عنه ، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لِعَمَلهم فيها بالمعاصي ، وسمَّى المؤمنين بالمتَّقِين لاتِّقائهم الشِّرك . وحُكْمُ الآية عامٌّ .
قوله تعالى : { كتابُ } أي : هذا كتاب ، يعني القرآن ، وقد بيَّنّا معنى بَرَكَته في سورة [ الأنعام : 92 ] .
{ لِيَدَّبَروا آياتِه } وقرأ عاصم في رواية : { لِتَدَبَّروا آياتِه } بالتاء خفيفة الدال ، أي : ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صِحَّتُها { ولِيَتَذَكَّرَ } بما فيه من المواعظ { أُولُو الألباب } وقد سبق بيان هذا [ الرعد : 19 ] .
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله تعالى : { نِعْمَ العَبْدُ } يعني به سليمان .
وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في [ بني إسرائيل : 25 ] ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة .
قوله تعالى : { إِذ ُعِرضَ عليه بالعَشيّ } وهو ما بعد الزَّوال { الصّافناتُ } وهي الخيل . وفي معنى الصّافنات قولان .
أحدهما : أنها القائمة على ثلاث قوائم ، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل؛ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وقال : هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها . قال الشاعر :
أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ ... مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا
والثاني : أنها القائمة ، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث . قال الفراء : على هذا رأيت العرب وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة . وقال ابن قتيبة : الصافن في كلام العرب الواقفُ من الخيلِ وغيرها ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَرَّه أن يقومَ له الرجلُ صُفُوناً ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار » ، أي : يُديمون القيام له .
فأمّا الجِيادُ ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ . وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال :
أحدها : أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له ، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
والثاني : أنها كانت من دوابّ البحر . قال الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة . وقال إبراهيم التيمي : كانت عشرين فرساً ذات أجنحة . وقال ابن زيد : أخرجتْها له الشياطين من البحر .
والثالث : أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام ، فعُرِضَتْ عليه ، قاله وهب بن منبّه ومقاتل .
والرابع : أنه غزا جيشاً ، فظَفِر به وغنمها ، فدعا بها فعُرضَتْ عليه ، قاله ابن السائب .
وفي عددها أربعة أقوال :
أحدها : ثلاثة عشر ألفاً ، قاله وهب .
والثاني : عشرون ألفاً ، قاله سعيد بن مسروق .
والثالث : ألف فرس ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والرابع : عشرون فرساً ، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي .
قال المفسرون : ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس ، ففاتته صلاة العصر ، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء ، فلم يذكِّروه ، ونسي هو ، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة ، { فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ } فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو { حُبَّ الخَيْرِ } وفيه قولان :
أحدهما : أنه المال ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .
والثاني : حُبُّ الخيل ، قاله قتادة ، والسدي . والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأنه أراد بالخير الخيلَ ، وهي مال . وقال الفراء : العرب تسمِّي الخيل : الخير . قال الزجاج : وقد سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ الخيل : زَيْدَ الخير ، ومعنى « أَحَبْبْتُ » آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي؛ وكذلك قال غير الزجاج . « عن » بمعنى « على » .
وقال بعضهم : يحتمل المعنى فشَغَلَني عن ذِكْر ربِّي . قال أبو عبيدة : ومعنى [ الكلام ] أَحْبَبْتُ حُبّاً ، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير . وقال ابن قتيبة : سمَّى الخَيْل خَيْراً ، لما فيها من الخَيْر . والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه ، صلاةُ العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وقتادة في آخرين . وقال الزجاج : لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا! ، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه { حتى توارت بالحجاب } قال المصنف : وأهل اللغة يقولون : يعني الشمس ، ولم يَْرِ لها ذِكْر ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه ، لأن في الآية دليلاً على الشمس ، وهو قوله { بالعشيِّ } ومعناه : عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب ، ولا يجوز الإِضمار ، إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر ، وأما الحِجَاب ، فهو ما يحجُبها عن الأبصار .
قوله تعالى : { رُدُّها عَلَيَّ } قال المفسرون : لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة ، فصلاّها بعد خروج وقتها ، اغتمَّ وغضب ، وقال : " رُدُّوها عَلَيَّ " ، يعني : أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ { فطَفِقَ } قال ابن قتيبة : أي : أقبل { مَسْحاً } قال الأخفش : أي : يَمْسَحُ مَسْحاً .
فأمّا السُّوق ، فجمع ساق ، مثل دُور ودار ، وهمز السُّؤق ابن كثير ، قال أبو علي : وغيرُ الهمز أحسنُ منه . وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن محيصن : " بالسُّؤوق " مثل الرُّؤوس ، وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ضربها بالسيف ، " وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق } قال : «بالسيف» " وروى مجاهد عن ابن عباس قال : مسح أعناقها وسوقها بالسيف . وقال الحسن ، وقتادة ، وابن السائب : قطع أعناقها وسُوقها ، وهذا اختيار السدي ، ومقاتل ، والفراء ، وأبي عبيدة ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وأبي سليمان الدمشقي ، والجمهور .
والثاني : أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : مسحها بيده ، وهذا اختيار ابن جرير والقاضي أبي يعلى .
والثالث : أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى ، حكاه الثعلبي .
والمفسِّرون : على القول الأول . وقد اعترضوا [ على ] القول الثاني ، وقالوا : أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها؟! ، ولا أعلم قوله : " حُبّاً لها " يثبت عن ابن عباس . وحملوا قول مجاهد " مَسَحها بيده " أي تولىَّ ضَرْبَ أعناقها .
فإن قيل : فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان ، فكيف وجّه العقوبة إليه؟ وقصد التَّشفِّي بقتله ، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين ، لا فِعْلَ الأنبياء؟
فالجواب : أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له ، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا ، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً ، وأكلُ لحمها جائز ، فما وقع تفريط .
قال وهب بن منبّه : لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها ، شكر اللهُ تعالى له ذلك ، فسخَّر له الرِّيح مكانها ، وهي أحْسَنُ في المنظر ، وأَسْرَعُ في السَّيْر ، وأَعْجَبُ في الأُحْدُوثة .
قوله تعالى : { ولقد فَتَنّا سُلَيْمانَ } أي : ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه { وأَلْقَيْنا على كُرْسِيِّه } أي : على سريره { جَسَداً } وفيه قولان :
أحدهما : أنه شيطان ، قاله ابن عباس ، والجمهور . وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال :
أحدها : صخر ، رواه العوفي عن ابن عباس . وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان .
والثاني : آصف ، قاله مجاهد ، إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم ، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب ، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت ، فقال آصف : أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك ، فقام في مقامه ، وسار بالسِّيرة الجميلة ، وهذا لا يَصِحُّ ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به .
والثالث : حبقيق ، قاله السدي ، والمعنى : أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً . { ثم أناب } أي : رَجَع . وفيما رجع إِليه قولان :
أحدهما : تاب من ذَنْبه ، قاله قتادة .
والثاني : رَجَع إَلى مُلْكه ، قاله الضحاك .
وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال :
أحدها : أنه كانت له امرأة يقال لها : جرادة ، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة ، فقضى بينهم بالحق ، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً ، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء ، أو من الأرض . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده ، فقالت له يوماً : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له ، فقال : نعم ، ولم يفعل فابتُليَ لأجل ما قال ، قاله السدي .
والثالث : أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له ، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار ، فسألها عن حالها ، فقالت : أذْكُر أبي وما كنتُ فيه ، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها ، [ ففعل ] ، فكانت إذا خرج سليمان ، تسجد له هي وولائدها [ أربعين صباحاً ، فلمّا عَلِم سليمان ، كسر تلك الصورة ، وعاقب المرأة وولائدها ] ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره ، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه ، [ هذا قول وهب بن منبّه .
والرابع : أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام ، فأوحى اللهُ تعالى إِليه : ياسليمان ، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام ، فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم؟! فسلّط الشيطان على خاتمه ] ، قاله سعيد ابن المسيب .
والخامس : أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره ، قاله الحسن .
والقول الثاني : أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه أنه وُلد [ له ولد ] فاجتمعت الشياطين ، فقال بعضهم لبعض : إِن عاش له ولد ، لم ننفكَّ من البلاء ، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نَخْبِلَه ، فعَلِم بذلك سليمان ، [ فأمر السَّحاب ] فحمله ، وعدا ابنه في السحاب خوفاً من الشياطين ، فعاتبه الله تعالى على تخوُّفه من الشياطين ، ومات الولد فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً .
قاله الشعبي . والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور .
الإِشارة إلى ذلك :
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين :
أحدهما : أنه كان جالساً على شاطىء البحر ، فوقع منه في البحر ، قاله عليّ رضي الله عنه .
والثاني : أن شيطاناً أخذه ، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال .
أحدها : أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه ، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر ، وجعل الشيطانُ يقول : أنا نبيُّ الله ، قاله سعيد ابن المسيّب .
والثاني : أن سليمان قال للشيطان : كيف تَفْتِنون النّاسَ؟ قال : أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ ، فأعطاه إيّاه ، فنبذه في البحر ، فذهب مُلك سليمان ، وقعد الشيطان على كرسيه ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه دخل الحمّام ، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه ، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان ، وأخذ الخاتم منها ، فلمّا خرج سليمانُ ، طلبه منها ، فقالت : قد دفعتُه إِليك ، فهرب سليمان ، وجاء الشيطان فجلس على مُلكه . قاله سعيد بن جبير .
والرابع : أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه فألقاه الشيطان في البحر ، فذهب مُلك سليمان ، وأُلقي على الشيطان شِبْهُه ، قاله قتادة .
فأمّا قِصَّةُ الشيطان ، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر ، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان ، فجلس على كرسيّه ، وتحكَّم في سُلطانه . وقال السدي : لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان . وهل كان يأتي [ نساءَ ] سليمان؟ فيه قولان :
أحدهما : أنه لم يَقْدِر عليهنّ ، قاله الحسن وقتادة .
والثاني : أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض فأَنْكَرْنَه ، قاله سعيد ابن المسيب . والأول أصحّ ، قالوا : وكان يقضي بقضايا فاسدة ، ويحكُم بما لا يجوز ، فأنكره بنو إسرائيل ، فقال بعضُهم لبعض : إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم ، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ ، فذهبوا ، فقُلْنَ : إِنّا واللهِ قد أَنْكَرْنا ذلك؛ فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء .
وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال :
أحدها : أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به ، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان ، قاله سعيد بن المسيّب .
والثاني : أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين ، فرّ الشيطان حتى دخل البحر ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه لمّا مضى أربعون يوماً ، طار الشيطان من مجلسه ، قاله وهب .
والرابع : أن بني إسرائيل لمّا أنكروه ، أتوه فأحدقوا به ، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا ، فطار بين أيديهم ، حتى ذهب إِلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت ، قاله السدي .
وفي قدر مكث الشيطان قولان :
أحدهما : أربعون يوماً ، قاله الأكثرون .
والثاني : أربعة عشر يوماً ، حكاه الثعلبي .
وأما قصة سليمان عليه السلام ، فإنه لما سُلب خاتمه ، ذهب ملكه ، فانطلق هارباً في الأرض . قال مجاهد : كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم ، فيقول : لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني ، أنا سليمان ، فيطردونه ، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً ، فوجد خاتمه في بطن الحوت . وقال سعيد بن جبير : انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر ، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا ، وقد أنتن عليهم بعضُه ، فأتاهم يَسْتَطعِم فقالوا : اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها ، فقال : لا ، أطْعِموني من هذا ، فأبَوا عليه ، فقال : أّطْعِموني فإنِّي سليمان ، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان ، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً ، فشّقَّ بطنَ حوت ، فإذا هو بالخاتم . وقال الحسن : ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس ، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً ، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة ، فبينا هو يوما على شطّ نهر ، وجد سمكة ، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم . وقال الضحاك : اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه .
وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان :
أحدهما : أربعون ليلة ، كما ذكرنا عن الحسن .
والثاني : خمسون ليلة ، قاله سعيد بن جبير . قال المفسرون : فلمّا جعل الخاتم في يده ، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه ، فأظلَّته الطَّير ، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له ، حتى انتهى إِلى منزله . قال السدي : ثم أرسل إلى الشيطان ، فجيء به ، فأَمر به ، فجُعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه وأقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به فأُلقي في البحر ، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة . وقال وهب : جابَ صخرةً فأدخله فيها ثم ، أوثقها بالحديد والرصاص ، ثم قذفه في البحر .
قوله تعالى : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فتح الياء نافع ، وأبو عمرو . وفيه قولان :
أحدهما : لا يكون لأحد بعدي ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة . وقد أخرج البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ عِفْرياً من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي ، فأمكنني اللهُ منه ، فأخذتُه ، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم ، فذكرتُ دعوة أخي سليمان { هَبْ لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددتُه خاسئاً »
والثاني : لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي ، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه ، قاله الحسن ، وقتادة . وإنما طلب هذا المُلك ، ليَعلم أنه قد غُفر له ، ويعرف منزلته بإجابة دعوته ، قاله الضحاك . ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ { فسَخَّرْنا له الرِّيحَ } وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو جعفر ، وأبو المتوكل : « الرِّياح » على الجمع .
قوله تعالى : { رُخاءً } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : مُطيعة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضحاك .
والثاني : أنها الطيِّبة ، قاله مجاهد .
والثالث : اللَّيِّنة ، مأخوذ من الرَّخاوة ، قاله اللُّغويُّون .
فإن قيل : كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة [ الأنبياء : 81 ] بأنها عاصفة؟
فالجواب : أن المفسرين قالوا : كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى . وقال ابن قتيبة : كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد ، وتَلَينَ إذا أراد .
قوله تعالى : { حيثُ أصابَ } أي : حيث قصد وأراد . قال الأصمعي : تقول العرب : أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ ، أي : أراد الصَّوابَ .
قوله تعالى : { والشياطينَ } أي : وسخَّرْنا له الشياطينَ { كُلَّ بَنّاءٍ } يبنون له ما يشاء { وغَوّاصٍ } يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ ، { وآخَرِينَ } أي : وسخَّرْنا له آخَرِين ، وهم مَرَدَةُ الشياطين ، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم . قال مقاتل : أَوثَقَهم في الحديد . وقد شرحنا معنى { مُقَرَّنِينَ في الأصفاد } في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام [ إبراهيم : 49 ] { هذا عطاؤنا } المعنى : قُلنا له : هذا عطاؤنا . وفي المشار إليه قولان :
أحدهما : أنه جميع ما أُعطي ، { فامْنُنْ أو أَمْسِكْ } أي : أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال ، وامْنَعْ مَنْ شئتَ . والمَنَّ : الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه .
والثاني : أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له؛ فالمعنى : فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه ، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم ، وقد روي معنى القولين عن ابن عباس .
قوله تعالى : { بغير حساب } قال الحسن : لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة . وقال سعيد بن جبير : ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ .
وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ سبأ : 37 ] [ الرعد : 29 ] [ الأنبياء : 83 ] إِلى قوله : { مَسَّنِيَ الشَّيطانُ } وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه ، فأضاف ما أصابه إليه .
قوله تعالى : { بِنُصْبٍ } قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد؛ وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة ، وابن السميفع ، والجحدري ، ويعقوب : بفتحهما . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان :
أحدهما : أنهما سواء . قال الفراء : هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم ، والعَدَم ، والحُزْن والحَزَن؛ وكذلك قال ابن قتيبة والزجاج . قال المفسرون : والمراد بالنصب : الضُّرُ الذي أصابه .
والثاني : أن النُّصْب بتسكين الصاد : الشرُّ ، وبتحريكها الإِعياء ، قاله أبو عبيدة .
وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وأبو عمران ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص : { بنُصُب } بضم النون والصاد جميعاً . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو الجوزاء ، وهبيرة عن حفص : { بنَصْب } بفتح النون وسكون الصاد .
وفي المراد بالعذاب قولان :
أحدهما : أنه العذاب الذي أصاب جسده .
والثاني : أنه أخْذ ماله وولده .
قوله تعالى : { أُرْكُضْ } أي : اضْرِب الأرضَ { برِجْلِكَ } ومنه : رَكَضْتُ الفَرَس فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ ، فذلك قوله عز وجل : { هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وشرابٌ } . قال ابن قتيبة : المُغْتَسَلُ : الماءُ ، وهو الغسول أيضاً . قال الحسن : رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ [ فاغتَسلَ منها ، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ، ثم رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ ] فشَرِب منها؛ وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان ، فاغتسل من واحدة وشرب من الأُخرى .
قوله تعالى : { وخُذْ بيدك ضِغْثاً } كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة . وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال :
أحدها : أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب ، فقالت له : يا عبد الله إنَّ هاهنا إِنساناً مبتلىً ، فهل لكَ أن تداويَه؟ قال : نعم ، إِن شاء شفيتُه على أن يقول إٍذا بَرَأَ : أنت شفيتَني ، فجاءت فأخبرتْه فقال : ذاك الشيطان ، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة . رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .
والثاني : أن إِبليس لَقِيَها فقال : إِنِّي أنا الذي فعلت بأيوبَ مابه ، وأنا آله الأرض ، وما أخذتُه منه فهو بيدي ، فانطلِقي أًريكِ ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ ، ثم سَحَر بَصَرَها ، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها ، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه فقال : ذاكَ الشيطان ، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ؟ واللهِ لئن شفاني اللهُ عز وجل لأَجْلِدَنَّكِ مائةً . قاله وهب بن منبّه .
والثالث : أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة ، فقال : لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ ، فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها ، وقد ذكرنا هذا القول في سورة [ الأنبياء : 83 ] عن الحسن .
فأمّا الضِّغْث فقال الفراء : هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة قال : وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه فهو ضِغْث . وقال ابن قتيبة : هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان . قال الزجاج : هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبههه . قال المفسرون : جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها ، فسهّل الأمر ، فجمع لها مائة عود ، وقيل : مائة سنبلة . وقيل : كانت أَسَلاً . وقيل : من الإِذْخرِ . وقيل : كانت شماريخ ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمنيه . وهل ذلك خاصٌّ له ، أم لا؟ فيه قولان :
أحدهما : أنه عامٌّ وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح [ وابن أبي ليلى ] .
والثاني : أنه خاصٌّ لأيوب ، قاله مجاهد .
فصل
وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة ، فقال مالك ، والليث بن سعد : لا يَبَرُّ ، وبه قال أصحابنا . وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها ، فقد بَرَّ ، واحتجوا بعموم قصة أيُّوب عليه الصلاة والسلام .
قوله تعالى : { إِنّا وَجَدْناه صابراً } أي : على البلاء الذي ابتليناه به .