كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
ثم قال تعالى : { إِنَّ الابرار } يعني : المؤمنين المصدقين في أيمانهم { لَفِى نَعِيمٍ } يعني : في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ومن كان مثل حالهم { وَإِنَّ الفجار } يعني : الكفار { لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } يعني : يدخلون فيها يوم القيامة { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } يعني : لا يخرجون منها أبداً { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } تعظيماً لذلك اليوم { ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } يعني : كيف تعلم حقيقة ذلك اليوم ولم تعاينه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } يعني : لا تنفع نفس مؤمنة لنفس كافرة شيئاً بالشفاعة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالضم والباقون بالنصب فمن قرأ بالضم معناه يوم لا تملك ومن قرأ بالنصب فلنزع الخافض يعني في يوم ثم قال : { والامر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } يعني : الحكم و القضاء لله تعالى وهو يوم القيامة .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
قوله تعالى : { وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ } يعني : الشدة من العذاب للذين ينقصون المكيال والميزان وإنما سمي الذي يخون في المكيال والميزان مطففاً لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الخفيف الطفيف ثم بيّن أمرهم فقال : { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } يعني : استوفوا من الناس لأنفسهم وعلى بمعنى عن بمعنى إذا اكتالوا عن الناس يستوفون يتمون الكيل والوزن { وَإِذَا كَالُوهُمْ } يعني : إذا باعوا من غيرهم ينقصون الكيل { أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } يعني : ينقصون الكيل وقال بعضهم كالوهم حرفان يعني : كالوا ثم قال : هم وكذلك وزنوا ثم قال : هم يخسرون وذكر عن حمزة الزيات أنه قال هكذا ومعناه هم إذا كالوا أو وزنوا ينقصون وكان الكسائي يجعلها حرفاً واحداً كالوهم أي : كالوا لهم وكذلك وزنوا لهم وقال أبو عبيدة وهذه هي القراءة لأنهم كتبوها في المصاحف بغير ألف ولو كان مقطوعاً لكتبوا كالواهم بالألف ثم قال عز وجل : { أَلا يَظُنُّ } يعني : ألا يعلم المطفف وألا يستيقن بالبعث قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } يعني : يبعثون بعد الموت { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : يوم القيامة هولها شديد { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } يعني : في يوم يقوم الخلائق بين يدي الله تعالى وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفَ يَوْمٍ يَعْنِي : خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَذَلِكَ الْمَقَامُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَوَلِّي الشَّمْسَ » وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَقُومُ أَحَدُكُمْ ورشحه إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ » وقال ابن مسعود : إن الكافر ليلجم بعرقه حتى يقول أرحني ولو إلى النار ثم قال : { كَلاَّ } يعني : لا يستيقنون البعث ثم استأنف ، فقال : { إِنَّ كتاب الفجار } ويقال : هذا موصول بكلا إن كتاب يعني حقاً إن كتاب الفجار { لَفِى سِجّينٍ } يعني : أعمال الكفار لفي سجين قال مقاتل وقتادة : السجين الأرض السفلى ، وقال الزجاج : السجين فعيل من السجن والمعنى : كتابهم في حبس جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وقال مجاهد : سجين صخرة تحت الأرض السفلى فيجعل كتاب الفجار تحتها ، وقال عكرمة : { لَفِى سِجّينٍ } أي : لفي خسارة وقال الكلبي : السجين الصخرة التي عليها الأرضون وهي مسجونة فيها أعمال الكفار وأزواجهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ثم قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ } ثم أخبر فقال : { كتاب مَّرْقُومٌ } يعني : مكتوباً ويقال : مكتوب مختوم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يعني : شدة العذاب { لّلْمُكَذّبِينَ } يعني : شدة العذاب للمكذبين .
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
ثم بيّن فقال عز وجل : { الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين } يعني : يجحدون بالبعث { وَمَا يُكَذّبُ بِهِ } يعني : بيوم القيامة { إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } يعني : كل معتد بالظلم آثم عاص لربه ويقال : كل مقيد للخلق أثيم يعني فاجر وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه ومن كان في مثل حالهم ثم قال : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قَالَ أساطير الاولين } يعني : أحاديث الأولين وكذبهم . ثم قال : { كَلاَّ } يعني : لا يؤمن { بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ } يعني : ختم ، ويقال : غطى على قلوبهم { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : ما عملوا من أعمالهم الخبيثة ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذَا أَذْنَبَ العَبْدُ ذَنْباً كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاء فِي قَلْبِهِ فَإِذَا تَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإنْ زَادَ زَادَتْ وَذَلِكَ قَوْلِهِ { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } » وقال قتادة : الذنب على الذنب حتى مات القلب ( أسود ) ويقال : غلف على قلوبهم ويقال : غطا على قلوبهم وقال أهل اللغة الرين : هو الصدأ والصدأ هو اسم البعد كما قال : ويصدهم عن سبيل الله يغشى على القلب ثم قال : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } يعني : لا يرونه يوم القيامة ويقال عن رحمته لممنوعون { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم } يعني : دخلوا النار { ثُمَّ يُقَالُ } يعني : يقول لهم الخزنة { هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } يعني : تجحدون ، وقلتم إنه غير كائن ثم قال عز وجل : { كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ } يعني : حقاً إن كتاب المصدقين لفي عليين وهو فوق السماء السابعة ، فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم ثم قال عز وجل : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ } ثم وصفه فقال : { كتاب مَّرْقُومٌ } يعني : مكتوباً مختوماً في عليين { يَشْهَدُهُ المقربون } يعني : يشهد على ذلك الكتاب سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء وقال بعضهم : الكتاب أراد به الروح والأعمال يعني : يرفع روحه وأعماله إلى عليين .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيم عَلَى الارائك يَنظُرُونَ } يعني : المؤمنين الصالحين لفي نعيم في الجنة على الأرائك ينظرون يعني على سرر في الحجال ينظرون إلى أهل النار ، ويقال : ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } يعني : أثر النعمة وسرورهم في وجوههم ظاهر { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } يعني : يسقون خمراً بيضاء ، وقال الزجاج : الرحيق الشراب الذي لا غش فيه ، قال القتبي : الرحيق الخمر العتيقة ، ثم قال : { مَّخْتُومٍ ختامه مِسْكٌ } يعني : إذا شرب منه رجل وجد عند فراغه من الشراب ريح المسك قرأ الكسائي مسك ، وروي عن الضحاك أنه قرأ مثله والباقون ختامه مسك ومعناهما واحد ، والخاتم اسم والختام مصدر يعني : يجد شاربه ريح المسك حين ينزع الإناء من فيه ثم قال عز وجل : { وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } يعني : بمثل هذا الثواب فليتبادر المتبادرون ، ويقال : فليتحاسد المتحاسدون ويقال : فليواظب المواظبون وليجتهد المجتهدون وهذا كما قال لمثل هذا فليعمل العاملون ثم قال : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } يعني : مزاج الخمر من ماء اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب في الجنة وإنما سمي تسنيماً لأنه يتسنم عليهم فينصب عليهم انصباباً ، وقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الرجل يقول إني لفي السنام من قومه فهو في السنام من الشراب ، وقال القتبي أصله من سنام البعير يعني : المرتفع ثم وصفه فقال عز وجل : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون } يعني : التسنيم عيناً يشرب بها المقربون صرفاً ويمزج لأصحاب اليمين ثم قال عز وجل : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ } يعني : أشركوا { كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ } يعني : من ضعفاء المؤمنين يضحكون ويسخرون ويستهزؤون بهم { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } يعني : يطعنون ويغتابون وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بنفر من المنافقين ومعه نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ، ويقال حكاية عن كفار مكة أنهم كانوا يضحكون من ضعفاء المسلمين وإذا مروا بهم وهم جلوس يتغامزون يعني يتطاعنون بينهم ويقولون هؤلاء الكسالى : { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ } يعني : رجعوا معجبين بما هم فيه { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } يعني : رأوا المؤمنين { قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ } يعني : تركوا طريقهم { وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين } يعني : ما أرسل هؤلاء حافظين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوا عليهم أعمالهم ، قال مقاتل : هذا كله في المنافقين يعني : ما وكل المنافقون بالمؤمنين يحفظون عليهم أعمالهم ، قرأ عاصم في رواية حفص انقلبوا فكهين بغير ألف وفي رواية حفص والباقون بالألف ومعناهما واحد وقال بعضهم : فاكهين ناعمين فكهين فرحين .
ثم قال عز وجل : { فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } يعني : في الجنة يضحكون على أهل النار وهم على سرر في الحجال وأعداؤهم في النار { عَلَى الارائك يَنظُرُونَ } إلى أعدائهم يعذبون في النار { هَلْ ثُوّبَ الكفار } يعني : جوزوا ، ويقال : هل جوزي الكفار وعوقبوا إلا { مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } يعني : إلا بما عملوا في الدنيا من الاستهزاء ، وقال مقاتل : يعني : قد جوزي الكفار بأعمالهم الخبيثة جزاءً شراً والله الموفق .
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
قوله تعالى : { إِذَا السماء انشقت } يعني : انفرجت لهيبة الرب عز وجل ويقال انشقت لنزول الملائكة ، وما شاء من أمره . { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ } يعني : أطاعت السماء لربها بالسمع والطاعة . { وَحُقَّتْ } يعني : وحق لها ، أن تطيع لربها الذي خلقها . { وَإِذَا الارض مُدَّتْ } أي : بسطت ومدت الأديم ليس فيها جبل ، ولا شجر ، حتى يتسع فيها جميع الخلائق . وروى علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، مَدَّ الله تَعَالَى الأَرْضَ مَدَّ الأَدِيمِ ، حَتَّى لا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ ، إلاَّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ لِكَثْرَةِ الْخَلائِقِ فِيهَا » . { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } يعني : ألقت الأرض ما فيها ، من الكنوز والأموات ، وتخلت عنها { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا } يعني : أجابت الأرض لربها بالطاعة ، وأدت إليه ما مستودعها من الكنوز والموتى { وَحُقَّتْ } يعني : وحق للأرض ، أن تطيع ربها الذي خلقها .
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
ثم قال عز وجل : { وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ } قال مقاتل : يعني : الأسود بن عبد الأسد . ويقال : أبي بن خلف ، ويقال : في جميع الكفار . يعني : أيها الكفار { إِنَّكَ كَادِحٌ } يعني : ساع بعملك . { إلى رَبّكَ كَدْحاً } يعني : سعياً ، ويقال : معناه . إنك عامل لربك عملاً { فملاقيه } في عملك ما كان من خير أو شر . فالأول قول مقاتل ، والثاني قول الكلبي ، وقال الزجاج : الكدح في اللغة ، السعي في العمل ، وجاء في التفسير ، إنك عامل عملاً فملاقيه . أي : ملاق ربك . قيل : فملاقي عملك .
ثم قال عز وجل : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } يعني : المؤمن { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } يعني : حساباً هيناً { وَيَنقَلِبُ } أي : يرجع { إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } الذي أعد الله له في الجنة سروراً به . وروى ابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ " فقلت : أليس يقول الله تعالى { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } يعني : هيناً . قال : «ليس ذلك في الحساب ، إنما ذلك العرض ، ولكن من نوقش للحساب يوم القيامة ، عذب» . ويقال : حساباً يسيراً ، لأنه غفرت ذنوبه ، ولا يحاسب بها ، ويرجع من الجنة مستبشراً .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ } يعني : الكافر ، يخرج يده اليسرى من وراء ظهره ، يعطى كتابه بها { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً } يعني : بالويل والثبور على نفسه . { ويصلى سَعِيراً } يعني : يدخل في الآخرة ناراً وقوداً . قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة { ويصلى سَعِيراً } بنصب الياء ، وجزم الصاد مع التخفيف . والباقون { ويصلى } بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد . فمن قرأ { يَصْلَى } بالتخفيف ، فمعناه : أنه يقاسي حر السعير وعذابه . يقال : صليت النار ، إذا قاسيت عذابها وحرها . ومن قرأ بالتشديد ، فمعناه أنه يكثر عذابه في النار ، حتى يقاصي حرها . { إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } يعني : في الدنيا مسروراً ، بما أعطي في الدنيا ، فلم يعمل للآخرة .
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
قوله عز وجل : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } قال مقاتل : ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى في الآخرة ، وهي لغة الحبشة ، وقال قتادة : يعني : ظن أن لن يبعثه الله تعالى . وقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الحبشي ، إذا قيل له حر يعني : أرجع إلى أهلك . ثم قال : { بلى } يعني : ليرجعنّ إلى ربه في الآخرة { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } يعني : كان عالماً به ، من يوم خلقه إلى يوم بعثه . قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق } يعني : أقسم بالشفق ، والشفق الحمرة ، والبياض الذي بعد غروب الشمس . وهذا التفسير ، يوافق قول أبي حنيفة رحمه الله . وروي عن مجاهد ، أنه قال : الشفق هو ضوء النهار . وروي عنه أنه قال : الشفق النهار كله ، وروي عن ابن عمر أنه قال : الشفق الحمرة ، وهذا يوافق قول أبي يوسف ، ومحمد ، رحمهما الله .
ثم قال : { واليل وَمَا وَسَقَ } يعني : ساق وجمع وضم . وقال القتبي أي : حمل وجمع منه الوسق ، وهو الحمل ، وقال الزجاج أي : ضم وجمع وقال مقاتل : { واليل وَمَا وَسَقَ } يعني : ما يساق معه من الظلمة والكواكب ، وقال الكلبي يعني : ما دخل فيه { والقمر إِذَا اتسق } يعني : إذا استوى ، وتم إلى ثلاثة عشرة ليلة ، ويقال : إذا اتسق يعني : تم وتكامل .
{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي لتركبن بنصب التاء ، والباقون بالضم ، فمن قرأ بالنصب ، فمعناه لتركبن يا محمد من سماء إلى سماء ، ومن قرأ بالضم فالخطاب لأمته أجمعين ، يعني : لتركبن حالاً بعد حال ، حتى يصيروا إلى الله تعالى من إحياء ، وإماتة ، وبعث . ويقال : يعني : مرة نطفة ومرة علقة ، ويقال : حالاً بعد حال ، مرة تعرفون ومرة لا تعرفون ، يعني : يوم القيامة . ويقال : يعني : السماء لتحولن حالاً بعد حال ، مرة تتشقق بالغمام ، ومرة تكون كالدهان . قرأ بعضهم ليركبن بالياء ، يعني : ليركبن هذا المكذب طبقاً عن طبق ، يعني : حالاً بعد حال ، يعني : الموت ثم الحياة .
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
ثم قال عز وجل : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : كفار مكة لا يصدقون بالقرآن { وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ } يعني : لا يخضعون لله تعالى ولا يوحدونه . ويقال : ولا يستسلمون لربهم ، ولا يسلمون ولا يطيعون . ويقال : لا يصلون لله تعالى . قوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ } يعني : يجحدون بالقرآن والبعث ، أنه لا يكون . وقال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير ، وكانوا أربعة ، فأسلم اثنان منهم . ويقال : هذا في جميع الكفار .
ثم قال عز وجل : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } يعني : يكتمون في صدورهم من الكذب والجحود . ويقال : مما يجمعون في قلوبهم من الخيانة . ويقال : معناه والله أعلم بما يقولون ويخفون . { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني : شديداً دائماً ، وقال مقاتل : ثم استثنى الاثنين اللذين أسلما فقال : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ } يقال : هذا الاستثناء لجميع المؤمنين ، يعني : الذين صدقوا بتوحيد الله تعالى . { وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : أدوا الفرائض والسنن { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني : غير منقوص ، ويقال : غير مقطوع ، ويقال : لهم أجر لا يمن عليهم ، ومعنى قوله { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } يعني : اجعل مكان البشارة للمؤمنين بالرحمة ، والجنة للكفار بالعذاب الأليم ، على وجه التعبير ، لأن ذلك لا يكون بشارة في الحقيقة ، والله الموفق بمنه وكرمه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
قوله تعالى : { والسماء ذَاتِ البروج } يعني : ذات النجوم والكواكب . ويقال : ذات القصور . وقال عطية العوفي : كان القصور في السماء على أبوابه . قال قتادة : البروج النجوم ، وكذلك قال مجاهد : أقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج ، وجواب القسم قوله تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] ثم قال : { واليوم الموعود } يعني : يوم القيامة . قال مقاتل { اليوم الموعود } الذي وعدهم أن يصيرهم إليه ، وقال الكلبي : وعد أهل السماء وأهل الأرض ، أن يصيروا إلى ذلك اليوم .
{ وشاهد وَمَشْهُودٍ } ذكر مقاتل ، عن علي رضي الله عنه قال : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم النحر يوم الحج الأكبر . وروي عن ابن عباس ، أنه قال : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والمشهود يوم القيامة ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] . وروى جويبر ، عن الضحاك مثله . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس قال : « الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةِ » . وروى سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ يَوْمَ عَرَفَةِ » . وروى جابر بن عبد الله قال : « الشَّاهِدُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمَ عَرَفَةِ » . وروى مجاهد ، عن ابن عباس قال : الشاهد ابن آدم ، والمشهود يوم القيامة ، وقال عكرمة مثله . وقال بعضهم : الشاهد آدم ، والمشهود ذريته .
ثم قال عز وجل : { قُتِلَ أصحاب الاخدود } يعني : لعن أصحاب الأخدود { النار ذَاتِ الوقود } يعني : يصيرون إلى النار ، ذات الوقود في الآخرة : وقال الكلبي : النار ارتفعت فوقهم أربعين ذراعاً ، فوقعت عليهم وأحرقتهم وقتلتهم ، وذلك قوله : { قُتِلَ أصحاب الاخدود النار ذَاتِ الوقود } قال : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأخدود ، فقال : كان ملكاً من الملوك ، كان له ساحر فكبر الساحر ، فقال للملك : إني قد كبرت ، فلو نظرت غلاماً في أهلك فطناً كيساً ، فعلمته على هذا فنظر إلى غلام من أهله كيس فظن ، فأمره أن يأتيه ويلزمه ، وكان بين منزل الغلام ومنزل الساحر راهب ، فقال الغلام : لو دخلت على هذا الراهب ، وسمعت من كلامه فدخل عليه فأعجبه قوله ، وكان أهله إذا بعثوه إلى الساحر ، دخل الغلام على الراهب ، واحتبس عنده .
فإذا أتى الساحر ، ضربه وقال : ما حبسك؟ فإذا رجع من عند الساحر إلى أهله ، دخل على الراهب فاحتبس عنده .
فإذا أتى أهله ضربوه ، وقالوا ما حبسك؟ فشكى ذلك إلى الراهب ، فقال له الراهب : إذا قالوا لك ما حبسك فقل : حبسني الساحر ، وإذا قال لك الساحر : ما حبسك فقل : حبسني أهلي ، فبينما هو ذات يوم يريد الساحر ، إذا هو بدابة هائلة ، يعني : كبيرة قد قطعت الطريق على الناس . فقال : اليوم يتبين لي أمر الراهب ، فأخذ حجراً ودنا من الدابة ، فقال : اللهم إن كان أمر الراهب حقاً ، فاقتل هذه الدابة ، ورماها بالحجر ، فأصاب مقتلها ، فقتلها . فقال الناس : إن هذا الغلام قتل هذه الدابة ، واشتهر أمره .
فأتى الراهب ، فأخبره ، فقال : يا بني ، أنت خير مني ، فلعلك أن تبتلى لا تدلن عليَّ ، فبلغ أمر الغلام أنه كان يبرىء الأكمه ، والأبرص ، ويداوي من الأرض ، فعمي جليس الملك ، فذكر له الغلام فأتاه فقال : يا بني ، قد بلغ من سحرك أنك تبرىء الأكمه والأبرص ، فقال الغلام : ما أنا بساحر ، ولا أشفي أحداً ، ولا يشفي إلا ربي . فقال له الرجل : «هذا الملك ربك ، قال : لا ولكن ربي ورب الملك الله تعالى ، فإن آمنت بالله تعالى به ، دعوت الله تعالى فشفاك .
فأسلم فدعا الله تعالى ، فبرىء فأتى الملك فقال له الملك : أليس يا فلان قد ذهب بصرك ، فقال : بلى ، ولكن رده علي ربي ، فقال : أنا ، قال : لا ، ولكن ربي وربك الله ، قال : أولئك رب غيري ، قال : نعم . وربك وربي الله تعالى ، فلم يزل به ، حتى أخبره بأمر الغلام ، فأرسل إلى الغلام ، فجاءه فقال : يا بني قد بلغ من سحرك ، أنك تشفي من كذا وكذا ، فقال : ما أنا بساحر ، ولا أشفي أحداً ، وما يشفي إلا ربي فقال : أنا ، قال : لا ولكن ربي وربك الله تعالى ، فلم يزل به حتى دل على الراهب ، فدعي الراهب فأتي به ، فأراد أن يرجع من دينه ، فأبى وأمر بمنشار ، فوضع في مفرق رأسه ، فشق به حتى سقط شقاه .
ثم دعا بجليسه ، وأراد أن يرجع عن دينه فأبى ، فأمر بمنشار ، فشق حتى سقط شقاه ، فأمر الغلام أن يفعل ذلك بمكانه ، فقال : احملوه في سفينة . فانطلقوا به ، حتى إذا لججتم به فغرقوه ، فانطلقوا به حتى لجوا به ، فلما أرادوا به ذلك فقال : اللهم اكفينهم بما شئت ، فانكبت بهم السفينة ، فغرقوا فجاء الغلام ، حتى قام بين يدي الملك . فأخبره بالذي كان ، فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا ، فإذا كنتم في ذروة الجبل ، دهدهه عنه فانطلقوا به ، حتى إذا كانوا بذلك المكان . فقال اللهم اكفينهم بما شئت ، فتدهدهوا عن الجبل يميناً وشمالاً ، فجاء حتى قام بين يدي الملك ، فأخبره بالذي كان . وقال : إن تجمع الملك إنك لا تقدر على قتلي ، حتى تفعل بي ما آمرك به .
فقال : وما هو؟ قال : تجمع أهل مملكتك في صعيد واحد ، ثم تصلبني ، وتأخذ سهماً من كتابي ، فترميني به وتقول : بسم الله رب هذا الغلام ، فأصاب صدغه ، فوضع يده على صدغه فمات .
فقال الناس : آمنا برب هذا الغلام . فقيل للملك وقعت فيما كنت تجاوز ، وقد أسلم الناس . فقال : خذوا يا قوم الطريق ، وخذوا فيها أخدوداً ، وألقوا فيها النار . ( فمن رجع ) عن دينه وإلا فألقوه فيها ، ففعلوا . فجعل الناس يجيئون ، ويلقون أنفسهم في الأخدود ، حتى كان آخرهم امرأة ، ومعها صبي لها رضيع تحمله ، فلما دنت من النار ، وجدت حرها ، فولت فقال لها الصبي : يا أماه امضي ، فإنك على الحق ، فرجعت وألقت نفسها في النار . فذلك قوله عز وجل { قُتِلَ أصحاب الاخدود * النار ذَاتِ الوقود } وروي في خبر آخر ، أن الملك كان على دين اليهودية ، يقال له ذو نواس ، واسمه زرعة ملك حمير ، وما حولها فكان هناك قوم ، دخلوا في دين عيسى عليه السلام فحفر لهم أخدوداً ، فأوقد فيها النار ، وألقاهم في الأخدود ، فحرقهم وحرق كتبهم .
ويقال : كان الذين على دين عيسى عليه السلام بأرض نجران ، فسار إليهم من أرض حمير ، حتى أحرقهم وأحرق كتبهم ، فأقبل منهم رجل ، فوجد مصحفاً فيها وإنجيلاً محترقاً بعضه ، فخرج به ، حتى أتى به ملك الحبشة فقال له : إن أهل دينك قد أوقدت لهم النار ، فحرقوا بها وحرق كتبهم ، فأراه الذي جاء به ، ففزع الملك لذلك ، وبعث إلى صاحب الروم ، وكتب إليه يستمده بنجارين يعملون له السفن . فبعث إليه صاحب الروم ، من يعمل له السفن ، فحمل فيها الناس ، فخرج به . فخرجوا ما بين ساحل عدن إلى ساحل جازان ، وخرج إليهم أهل اليمن ، فلقوهم بتهامة ، واقتتلوا فلم ير ملك حمير له بهم طاقة ، وتخوف أن يأخذوه ، فضرب فرسه حتى وقع في البحر ، فمات فيه . فاستولى أهل الحبشة على ملك حمير وما حوله ، وبقي الملك لهم ، إلى وقت الإسلام .
وروي في الخبر ، أن الغلام الذي قتله الملك دفن ، فوجد ذلك الغلام في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه واضعاً يده على صدغه ، كما كان وضعها حين قتل ، وكلما أخذ يده سال منه الدم ، وإذا أرسل يده ، انقطع الدم ، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليهم ، أن ذلك الغلام صاحب الأخدود ، فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة على حاله . وذلك قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الاخدود } يعني : لعن أصحاب الأخدود ، وهم الذين خدوا أخدود النار ذات الوقود ، يعني : الأخدود ذات النار الوقود . ويقال : { قُتِلَ أصحاب الاخدود } يعني : أهل الحبشة قتلوا أصحاب الأخدود ، أصحاب النار ذات الوقود .
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
قوله عز وجل : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا } يعني : القوم عند النار حضور . قال سفيان : إذ هم عليها على السرر { قُعُودٌ } عند النار { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } يعني : أن خدامهم وأعوانهم ، يفعلون بالمؤمنين ذلك ، وهم هناك شهود . يعني : حضوراً . ويقال : يفعلون بالمؤمنين ذلك ، وهم شهود . يعني : يشهدون بأن المؤمنين في ضلال ، تركوا عبادة آلهتهم . ويقال : على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، يشهدون على أنفسهم يوم القيامة . { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } يعني : وما طعنوا فيهم . { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله } يعني : سوى أنهم صدقوا بتوحيد الله تعالى { العزيز } في ملكه { الحميد } في فعاله .
ويقال وما نقموا منهم يعني : وما أنكروا عليهم ، إلا أن يؤمنوا بالله يعني : إلا إيمانهم بالله { الذى لَهُ مُلْكُ السموات والارض والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } ثم بيّن ما أعد الله لأولئك الكفار . فقال عز وجل : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } يعني : عذبوا وأحرقوا { المؤمنين والمؤمنات } يعني : في الدنيا { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } يعني : لم يرجعوا عن دينهم ، ولم يتوبوا إلى الله تعالى { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } يعني : العذاب الشديد . وقال الزجاج : المعنى والله أعلم ، لهم عذاب بكفرهم ، ولهم عذاب بما حرقوا المؤمنين .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار ذَلِكَ الفوز الكبير } جزاءً لهم .
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } يعني : عذاب ربك لشديد ، وهذا قول مقاتل ، وقال الكلبي : إن أخذ ربك لشديد ، ومعناهما واحد . ويقال : العقوبة الشديدة ، وهذا موضع هذا القسم . ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } يعني : يبدأ الخلق في الدنيا ، ويعيد في الآخرة من التراب . يعني : يبعثهم بعد الموت { وَهُوَ الغفور الودود } يعني : الغفور لذنوب المؤمنين ، ويقال : الغفور للذنوب الودود ، يعني : المحب للتائبين . ويقال : المحب لأوليائه ، ويقال : الودود يعني : الكريم .
ثم قال : { ذُو العرش المجيد } يعني : رب السرير الشريف . قرأ حمزة والكسائي بكسر الدال ، وقرأ الباقون بالضم ، فمن قرأ بالخفض ، جعله نعتاً للعرش ، ومن قرأ بالضم ، جعله صفة ذو يعني : { ذُو العرش } وهو { المجيد } الشريف والمجيد الكريم { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } يعني : يحيي ويميت ، ويعز ويذل . ثم قال عز وجل : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } يعني : قد أتاك حديثهم . ثم فسر الجنود فقال : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } يعني : قوم موسى ، وقوم صالح أهلكهم الله تعالى في الدنيا . وهذا وعيد لكفار هذه الأمة ، ليعتبروا بهم ويوحدوه .
ثم قال تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ } يعني : إن الذين لا يعتبرون ، ويكذبون الرسل والقرآن { والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } يعني : اصبر يا محمد على تكذيبهم ، فإن الله عالم بهم . وقال الزجاج ، في قوله والله من ورائهم محيط ، يعني : لا يعجزه منهم أحد ، قدرته مشتملة عليهم { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ } يعني : إنهم وإن كذبوا ، لا يعرفون حقه لا يقرون به ، وهو قرآن شريف ، أشرف من كل كتاب . أو يقال : شريف لأنه كلام رب العزة { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } يعني : مكتوباً في اللوح ، الذي هو محفوظ عند الله من الشياطين ، وهو عن يمين العرش من درة بيضاء . ويقال : من ياقوتة حمراء .
قرأ نافع { مَّحْفُوظٍ } بالضم ، والباقون بالكسر ، فمن قرأ بالضم ، جعله نعتاً للقرآن ، ومعناه قرآن مجيد ، محفوظ من الشياطين في اللوح . ومن قرأ بالكسر ، فهو نعت اللوح . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه قال : إن الله تعالى جعل لوحاً من درة بيضاء دفتاه ، من ياقوتة حمراء ، ينظر الله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستين مرة ، ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء . وروي عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه قال : حدثني فرقد في قوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } قال : هو صدر المؤمنين ، وقال قتادة : في اللوح المحفوظ عند الله تعالى ، والله الموفق بمنه وكرمه ، وصلى الله على سيدنا محمد؛ وآله وصحبه وسلم تسليماً .
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
قوله تعالى : { والسماء والطارق } قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس رضي الله عنهم عن قوله : { والسماء والطارق } فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق النجم الثاقب } وسكت فقلت له : مالك؟ فقال : والله ما أعلم منها ، إلا ما أعلم ربي . يعني : تفسير الآية ما ذكر في هذه الآية ، وهو قوله : والنجم الثاقب . يعني : هو الطارق . وروي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما في رواية أخرى . { والسماء والطارق } قال الطارق الكواكب التي تطرق في الليل ، وتخفى في النهار ، { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق } على وجه التعجب والتعظيم .
ثم بيّن فقال { النجم الثاقب } يعني : هو النجم المضيء . وقال مجاهد : { الثاقب } الذي يتوهج . وقال الحسن البصري { الثاقب } هو النجم ، حين يرسل على الشياطين ، فيثقبه ، يعني : فيحرقه . وقال قتادة : { النجم الثاقب } يعني : يطرق بالليل ، ويخنس بالنهار فأقسم الله تعالى بالسماء ونجومها . ويقال : بخالق السماء ونجومها { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } وهذا جواب القسم ، يعني : ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة ، يحفظ قولها وفعلها . قرأ عاصم وحمزة ، وابن عامر ، { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } بتشديد الميم ، والباقون { لَّمَّا عَلَيْهَا } بالتخفيف ، فمن قرأ بالتشديد ، فمعناه ما من نفس إلا وعليها حافظ ، فيكون لما بمعنى إلا ، ومن قرأ بالتخفيف جعل ما مؤكدة ، ومعناه كل نفس عليها حافظ .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
ثم قال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ } يعني : فليعتبر الإنسان من ماذا خلق . قال بعضهم : نزلت في شأن أبي طالب ، ويقال نزلت في جميع من أنكر البعث . ثم بين أول خلقهم ليعتبروا فقال : { خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } يعني : من ماء مهراق في رحم الأم ، ويقال : دافق بمعنى مدفوق . كقوله { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ القارعة : 7 ] أي : مرضية ثم قال : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب } يعني : خلق من مائين ، من ماء الأب يخرج من بين الصلب ، ومن ماء الأم يخرج من الترائب . والترائب : موضع القردة كما قال امرؤ القيس
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
ثم قال : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } يعني : على بعثه وإعادته بعد الموت لقادر ، ويقال على رجعه إلى صلب الآباء ، وترائب الأمهات لقادر ، والتفسير الأول أصح لأنه قال : { يَوْمَ تبلى السرائر } يعني : تظهر الضماير . ويقال : يختبر السرائر { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } يعني : ليس له قوة يدفع العذاب عن نفسه ، ولا مانع يمنع العذاب عنه .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وقوله : { والسماء ذَاتِ الرجع } فهو قسم ، أقسم الله تعالى بخالق السماء ذات الرجع ، يعني : يرجع السحاب بالمطر ، بعد المطر والسحابة بعد السحابة { والارض ذَاتِ الصدع } يعني : يتصدع فيخرج ما بالنبات والثمار ، فيجعلها قوتاً لبني آدم عليه السلام ويقال : ذات الصدع يعني : ذات الأودية ، وهو قول مجاهد وقال قتادة : يعني : ذات النبات { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } يعني : القرآن قول حق وجد { وَمَا هوَ بالهزل } يعني : باللعب ويقال لم ينزل بالباطل قوله تعالى : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } يعني : يمكرون مكراً وهم أهل مكة في دار الندوة ويقال يكيدون كيداً يعني يصنعون أمراً وهو الشرك والمعصية { وَأَكِيدُ كَيْداً } يعني : أصنع لهم أمراً ، وهو القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة قوله تعالى : { فَمَهّلِ الكافرين } يعني : أجل الكافرين ويقال : خل عنهم { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } يعني : أجلهم قليلاً أي إلى وقت الموت ويقال إنهم يكيدون كيداً بمعنى : الخراصون الذين يحبسون في كل طريق يعني : يصدون الناس عن دينه يعني يحبسون الناس في كل طريق يصدون الناس عن دينه . وروى عبد الرزاق عن أبي وائل عن همام مولى عثمان قال لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوها في كتف شاة وأرسلوها إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما فناولتهما أبياً فقرأها فكان فيها لا تبديل لخلق الله وكان فيها لم يتسن فكتب لم يتسنه وكان فيها فأمهل الكافرين فمحى الألف وكتب فمهل الكافرين ونظر فيها زيد بن ثابت فانطلقت بها إليهم فناولتها زيد بن ثابت إليهم فأثبتوها في المصحف { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } يعني : أجلهم قليلاً فإن أجل الدنيا كلها قليل .
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } قال الكلبي : يعني صلِّ بأمر ربك ، ويقال سبح هو من التنزيه والبراءة يعني نَزِّه ربك ، والاسم صلة ، ويقال : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } يعني : قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه قيل : يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اجْعَلُوها فِي رِكُوعِكُم » فقالوا : فما نقول في سجودنا؟ فنزل { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } قال عليه السلام : « اجْعَلُوها فِي سِجُودِكُم » ويقال : « سبح اسم ربك » يعني : اذكر توحيد ربك الأعلى ، ويقال كان بدء قوله : « سبحان ربي الأعلى » أي ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه فقال : يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك ، وسلطانك ، فأعطاه قوة أهل السموات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله واحترق جناحه من نور العرش ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجداً وقال : « سبحان ربي الأعلى » يعني : تعالى من أن يكون محسوساً معقولاً ثم سأل ربه أن يعيده إلى مكانه إلى حاله الأولى ثم قال عز وجل : { الذى خَلَقَ فسوى } يعني : الذي خلق كل ذي روح ، وجميع خلقه ، ويقال : سبح الله تعالى الذي خلقك فسوى خلقك يعني : اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك زمناً ولا مكفوفاً ، كما قال وصوَّركم فأحسن صوركم قوله تعالى : { والذى قَدَّرَ فهدى } يعني : قدر لكل شيء شكله ، يعني لكل ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع ، ويقال الذي قدر فهدى يعني فهداه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ويقال الذي قدر فهدى سبح لله الذي خلقك وقدر آجالك وأرزاقك وأعمالك وهداك إلى المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصلّ بابن آدم وسبح لهذا المنعم المكرم السيد الذي هو الأحد الصمد ، { هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3 ] ثم قال عز وجل : { والذى أَخْرَجَ المرعى } يعني : أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش وألقت وما أشبه ، قرأ الكسائي : { والذى قَدَّرَ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ومعناها واحد يقال : قدره الأمر وقدرته قوله تعالى : { فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى } يعني : جعل المرعى يابساً بعد خضرته ، وقال القتبي : غثاء يعني يابساً ، أحوى يعني أسود من قدمه واحتراقه .
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
ثم قال عز وجل : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } يعني : سنعلمك القرآن وينزل عليك فلا تنسى إلا ما شاء الله ، يعني : قد شاء الله أن لا تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام مخافة أن ينساه ويقال : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } يعني : سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئاً ، ويقال إن جبريل عليه السلام كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله : { إِلاَّ مَا شَاء الله } يعني : إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه ويذهب من قلبك ثم قال تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } يعني : يعلم العلانية والسر ، ويقال : ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة وما يخفى يعني : في الظهر والعصر والسنن ، ويقال : { يَعْلَمْ } ما يظهر من أفعال العباد وأقوالهم { وَمَا يخفى } من أقوالهم وأفعالهم ، ويقال : { يَعْلَمْ } ما عمل العباد { وَمَا يخفى } يعني ما لم يعملوه وهم عاملوه ثم قال عز وجل : { وَنُيَسّرُكَ لليسرى } يعني : سنهوّن عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة ، ويقال : يعني نعينك على الطاعة ، قوله تعالى : { فَذَكّرْ } يعني : فعِظْ بالقرآن الناس { إِن نَّفَعَتِ الذكرى } يعني : إن نفعتهم العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال إن نفعت الذكرى يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل ويقال : { وَنُيَسّرُكَ لليسرى } يعني : نهون عليك عمل أهل الجنة ثم قال : { سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى } يعني : يتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم ويقال : معناه سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحاً من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى { وَيَتَجَنَّبُهَا } يعني : يتباعد عنها يعني : عن عظتك { الاشقى } يعني : الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما { الذى يَصْلَى النار الكبرى } يعني : يدخل يوم القيامة النار الكبرى يعني : النار العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار الآخرة هي النار الكبرى ، وروى يونس عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ نَارَكُم هذه جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَقَدْ غُمِسْتُ فِي النَّار مَرَتَين لِيُدْنَى مِنْهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا وَلُولاَ ذَلِكَ مَا دَنَوتُم مِنْها » ويقال : إنها تستجير أن ترد إلى جهنم يعني : تتعوذ منها وقال بعض الحكماء : علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل ، والشرب ، والنوم ، والإصرار على الذنب ، والغيبة ، وقساوة القلب ، وكثرة الذنوب ، ونسيان الموت ، والوقوف بين يدي الملك عز وجل ، وهذا هو الشقي الذي يدخل النار الكبرى { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } يعني : لا يموت في النار حتى يستريح من عذابها ولا يحيا حياة تنفعه ، وقال القتبي معناه : هو العذاب بحال من يموت ولا يموت .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
ثم قال عز وجل : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } يعني فاز ونجا من هذا العذاب وسعد بالجنة من تزكى يعني وحّد الله تعالى وزكى نفسه بالتوحيد { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ } يعني : توحيد ربه { فصلى } مع الإمام الصلوات الخمس ، ويقال { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } يعني : أدى زكاة الفطر { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } مع الإمام صلاة العيد . ويقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } يعني : أدى زكاة المال ، يعني نجا من خصومة الفقراء يوم القيامة { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } يعني : كبّر وصلى لله تعالى ، ويقال : { مَن تزكى } يعني : تاب من الذنوب ( وذكر اسم ربه ) يعني : إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة ثم ذم تارك الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } يعني : تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة ، قرأ أبو عمرو : { بَلِ } بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة ثم قال عز وجل : { الدنيا والاخرة خَيْرٌ وأبقى } يعني : عمل الآخرة خير وأبقى من اشتغال الدنيا وزينتها ، ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة خير وأبقى لأن في عيش الدنيا عيوباً كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب ، لأجل هذا قيل خير من الدنيا قوله تعالى : { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الاولى } يعني : الذي ذكر في هذه السورة كان في الصحف الأولى يعني : في الكتب الأولى ثم فسره فقال : { صُحُفِ إبراهيم وموسى } ويقال : الذي ذكر في آخر السورة أربع آيات لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } الخ الآية .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } هل استفهام ، واستفهم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن أتاه بعد ، فكأنه قال : لا يأتيك خبره ، ثم أخبره . ويقال : معناه : قد أتاك حديث الغاشية ، والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة ، وإنما سميت غاشية ، لأنها تغشى الخلق كلهم . كما يقال : يوماً كان شره مستطيراً ، ويقال : الغاشية النار ، وإنما سميت غاشية ، لأنها تغشي وجوه الكفار . كما قال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بأاياتنآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] أو كقوله : { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 55 ] ويقال : الغاشية دخان النار ، يخرج من النار يوم القيامة ، عنق من النار ، فيحيط بالكفار مثل السرادق ، ويجيء دخانها ، فيغشى الخلائق ، حتى لا يرى بعضهم بعضاً ، إلا من جعل الله تعالى له نوراً ، بصالح عمله في الدنيا كقوله : { كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] وكقوله : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } [ الواقعة : 43 ] ويقال : تغشى الغاشية الصراط المنافقين . كقوله : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب } [ الحديد : 13 ] الآية .
ثم وصف ذلك اليوم وقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة } يعني : من الوجوه ، وجوه يومئذ خائفة ، ذليلة في العذاب . وهي وجوه الكفار . ثم قال : { عَامِلَةٌ } يعني : تُجَرُّ على وجوهها في النار { نَّاصِبَةٌ } يعني : من تعب وعذاب في النار . ويقال : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } يعني : تكلف الصعود على عتبة ملساء من النار ، فيرتقيها في عناء ومشقة ، فإذا ارتقى إلى ذروتها ، هبط منها إلى أسفلها . ويقال : نزلت في رهبان النصارى ، عاملة في الدنيا ، ناصبة في العبادة ، أشقياء في الدنيا والآخرة . ويقال : عاملة في الدنيا بالمعاصي والذنوب ، ناصبة في الآخرة بالعذاب { تصلى نَاراً حَامِيَةً } يعني : تدخل ناراً حارة ، قد أوقدت ثلاثة آلاف سنة ، حتى اسودّت . فهي سوداء مظلمة .
قوله تعالى : { تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } أي : من عين حارة ، قد انتهى حرُّها { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ } وهذا في بضع دركها { إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قرأ أبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، بضم التاء { تصلى نَاراً } وقرأ الباقون ، بالنصب . فمن قرأ بالضم لمعنى المفعول الذي لم يسم فاعله ، ونصب ناراً على أنه مفعول ثان ، ومن قرأ بالنصب ، جعل الفعل الذي يدخل النار ، وهو كناية عن الوجوه . ولهذا ذكره بلفظ التأنيث . ثم قال : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } والضريع نبات بين طريق مكة واليمن فإذا أكل الكفار منه بقي في حلقهم { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } يعني : غير الضريع { لاَّ يُسْمِنُ } يعني : لا يشبع الضريع { وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ } يعني : ولا ينفع من جوع ، وهذا الجزاء ، للذي يتعب نفسه للعمل في الدنيا والمعاصي ، وما لا يحتاج إليه .
ثم وصف مكان الذي يعمل لله تعالى ، ويترك عمل المعصية ، ويؤدي ما أمر الله تعالى ، ويترك ما نهي عنه فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } يعني : من الوجوه ما تكون ناعمة ، يعني : في نعمة وكرامة ، وهي وجوه المؤمنين والتائبين ، والصالحين . ويقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } يعني : مشرقة مضيئة ، مثل القمر ليلة البدر { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } يعني : لثواب عملها راضية . ويقال : لثواب سعيه ، الذي عمل في الدنيا من الخير . يعني : رأى ثوابه في الجنة ، { رَّاضِيَةٍ } مرضية ، رضي الله عنه بعمله في الدنيا ، ورضي العبد من الله تعالى في الآخرة . من الثواب { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } يعني : ذلك الثواب في جنة عالية ، مرتفعة في الدرجات العلى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إنَّ المُتَحَابِّينَ لله تَعَالَى فِي غُرْفَةٍ ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ ، كَمَا يَنْظُرُ أَهْلُ الأَرْضِ إلَى كَوَاكِبِ السَّمَاءِ » .
ثم قال عز وجل : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية } يعني : لا يكون في الجنة لغو ولا باطل ، وليس فيها غل ولا غش . قرأ نافع لا تُسمع بضم تاء التأنيث ، لأن اللاغية مؤنثة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، لا يسمع بضم الياء على معنى : فعل ، ما لم يسم فاعله ، وإنما ذكر بلفظ التذكير ، لأنه انصرف إلى المعنى . يعني : إلى اللغو . وروي عن ابن كثير ، ونافع في إحدى الروايتين ، بنصب التاء ، يعني : لا تسمع في الجنة أيها الداخل ، كلمة لغو ، لأن أهل الجنة ، لا يتكلمون إلا بالحكمة ، وحمد الله تعالى .
ثم قال : { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } يعني : في الجنة ، عين جارية ماؤها أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، فمن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً ، ويذهب من قلبه الغل ، والغش والحسد ، والعداوة والبغضاء . ثم قال : { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } يعني : مرتفعة { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } يعني : الكيزان التي لا عرى لها ، مدورة الرأس { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } يعني : فيها وسائد ، قد صف بعضها إلى بعض على الطنافس .
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } قال القتبي : الزرابي الطنافس . ويقال : البُسُط واحدها زربي . ثم قال عز وجل : { مَبْثُوثَةٌ } أي : كثيرة متفرقة أو مبسوطة ، والنمارق الوسايد واحدها نمرقة ، والمؤمن جالس فوق هذا كله ، وعلى رأسه نور وضاء ، كأنهن الياقوت والمرجان ، جزاءً بما كانوا يعملون ، فإن شك شاك فيها فتعجب ، وقال : كيف هذا وهو غائب عنا ، فقل انظر إلى صنعة الرب تبارك وتعالى في الدنيا . وهو قوله : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } يعني : خلق من قطرة ماء خلقاً عظيماً ، يُحْمَل عليها ، وإنما خص ذكر الإبل ، لأن الإبل كانت أقرب الأشياء إلى العرب .
ثم قال عز وجل : { وَإِلَى السماء } يعني : أفلا ينظرون إلى السماء { كَيْفَ رُفِعَتْ } بلا عمد تحتها ، وحبست في الهواء بقدرة الرب سبحانه وتعالى . ثم قال : { وَإِلَى الجبال } يعني : أفلا ينظرون إلى الجبال { كَيْفَ نُصِبَتْ } على ظهر الأرض أوتاداً لها ، وليس جبل من الجبال ، إلا وله عرق من قاف ، وملك موكل بجبل . فإذا أراد الله تعالى بأهل أرض شيئاً ، أوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بذلك الجبل ، فيحرك تلك العروق ، فيتزلزل . ثم قال : { وَإِلَى الارض كَيْفَ سُطِحَتْ } يعني : بسطت على ظهر الماء .
ثم قال : { فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } يعني : فذكر يا محمد صلى الله عليه وسلم وخوفهم بالعذاب في الآخرة { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } يعني : مخوفاً بالقرآن { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } يعني : بمسلط تجبرهم على الإسلام ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال . وقال مقاتل : في الآية تقديم يعني : فذكر { إِلاَّ مَن تولى } يعني : أعرض عن الإيمان { وَكَفَرَ } بالله تعالى { فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الاكبر } فيدخله النار ، وهو العذاب الأكبر الدائم ، وهو عذاب النار ، حرها شديد ، ومقرها بعيد ، ومقامها حديد .
قوله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } يعني : إن إلينا مرجعهم بعد الموت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } يعني : إن مرجعهم إلينا بعد الموت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } يعني : يحاسبون بكل صغيرة وكبيرة ، وقليل وكثير كما قال : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها . ويقال : إن علينا حسابهم يعني : جزاءهم بأعمالهم ، يعني : ثوابهم بما عملوا ، والله أعلم بالصواب .
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قوله تعالى : { والفجر } هو قسم ، وجوابه : إن ربك لبالمرصاد أقسم الله تعالى بالفجر يعني : الصبح ، والفجر فجران المستطيل ، وهو من الليل والفجر ، المعترض وهو من النهار . ويقال : أراد به أول يوم من المحرم . ثم قال عز وجل : { وَلَيالٍ عَشْرٍ } يعني : عشر ذي الحجة ، ويقال : إنها الأيام العشر ، التي صام فيها موسى عليه السلام ، وهي قوله : { وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لاًّخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] . ويقال : هي أيام عاشوراء .
ثم قال عز وجل : { والشفع والوتر } قال قتادة : الخلق كله شفع ووتر ، فأقسم الله تعالى بالخلق . وروى الحارث ، عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : الشفع آدم وحواء ، والوتر الله سبحانه وتعالى . قال ابن عباس : الوتر آدم فتشفع بزوجته حواء ، وقال عطاء : الشفع الناس ، والوتر الله سبحانه وتعالى . وقال الحسن : الشفع هو الخلق ، والذكر والأنثى ، والوتر الله تعالى . ويقال : أقسم بالصلوات ، والصلوات منها ما هو شفع ، وهو الفجر ، والظهر والعصر ، والعشاء ومنها ما هو وتر وهو الوتر في المغرب . ويقال : إنما هو الأعداد كلها ، شفع ووتر . وعن ابن عباس : الشفع أيام الذبح ، والوتر يوم عرفة .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قال عز وجل : { واليل إِذَا يَسْرِ } قال الكلبي : يعني : ليلة المزدلفة ، يسير الخلق إلى المزدلفة . وقال القتبي : { واليل إِذَا يَسْرِ } يعني : يسرى فيه ، كقوله : ليل نائم ، أي : يُنام فيه . وقال الزجاج : أصله تسري يسري ، إلا أن الياء قد حذفت منه ، وهي القراءة المشهورة بغير ياء ، يقرأ بالياء . قرأ حمزة ، والكسائي ، والشفع والوتر بكسر الواو . والباقون بالنصب ، ، وهما لغتان . يقال : للفرد وَتْرٌ ووِتْر . وقرأ ابن كثير يسر بالياء ، في حالة الوصل والقطع . وقرأ نافع بالياء ، إذا وصل ، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والقطع ، لأن الكسرة تدل عليه .
ثم قال عز وجل : { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } يعني : أن هذا الذي ذكرناه ، قسماً لذي لب من الناس . ويقال : إن في ذلك قسم صدق ، لذي عقل ولب ورشد ، والحجر اللب . ثم قال عز وجل : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } يعني : ألم تعلم ، ويقال : ألم تخبر ، واللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التقدير ، يعني : فذلك خبر عاد { إِرَمَ ذَاتِ العماد } يعني : عاقبة قوم عاد ، وقال بعضهم : هما عادان ، أحدهما عاد وإرم ، والآخر هم قوم هود . وقال بعضهم : كلاهما واحد ، ويقال : إرم اسم للجنة التي بناها ، فمات قبل أن يدخلها ، وذكر فيها حكاية طويلة عن وهب بن منبه . ثم قال : { ذَاتِ العماد } يعني : الفساطيط ، والعمود عمود الفسطاط .
{ التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد } يعني : في القوة والطول ، ويقال : { ذَاتِ العماد } يعني : ذات القوة ، ويقال : { ذَاتِ العماد } يعني : دائم الملك ، طويل العمر . ويقال : { ذَاتِ العماد } أي : ذات البناء الرفيع . وروى أسباط ، عن السدي قال : عاد بن إرم ، فنسبهم إلى أبيهم الأكبر . كقولك : بكر بن وائل . ويقال : لا ينصرف إرم ، لأنه اسم قبيلة . وقال مقاتل : { ذَاتِ العماد } يعني : طولها اثنا عشر ذراعاً { التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد } في الطول والقوة ، وإرم اسم أب قبيلة ينسب إليهم ، وهو إرم بن سمك ، بن نسمك ، بن سام ، بن نوح عليه السلام . وقال الكلبي : { ذَاتِ العماد } يعني : كانوا أهل ذات عمود وماشية ، فإذا هاج العمود ، يعني : يبس العشب ، رجعوا إلى منازلهم . ويقال : عاد وإرم شيء واحد .
ثم قال عز وجل : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد } وهم قوم صالح ، نقبوا الجبل ، وقعلوا أحجاراً لا يطيق مائتا رجل بالوادي . وقال الكلبي : هو واد القرى . ثم قال عز وجل : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الاوتاد } يعني : قواد الكفرة الفجرة ، الذين خلقهم الله تعالى أوتاداً في مملكته ، ليكفوا عنه عدوه . ويقال : إن له بيتاً أوتد فيه أوتاداً ، فإذا عذب أحد ، طرحه فيها .
ويقال : سمي بذي الأوتاد ، لأنه كان إذا غضب على أحد ، وثقه بأربعة أوتاد . ويقال : الأوتاد وهي الصلب ، إذا غضب على أحد ، صلبه كقوله لأصلبنكم ويقال ذو الأوتاد يعني ذا الملك الثابت { الذين طَغَوْاْ فِى البلاد } يعني : عاداً وثمود وفرعون عصوا في البلاد { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } يعني : أكثروا في الأرض المعاصي { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ } يعني : أرسل عليهم ربك { سَوْطَ عَذَابٍ } يعني : شديد العذاب حتى أهلكهم { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } يعني : مرّ الخلق عليه . ويقال : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } يعني : ملائكة ربك على الصراط ، يعني : يرصدون العباد على جسر جهنم في سبع مواضع . وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما : يحاسب العبد في أولها بالإيمان ، فإن سلم إيمانه من النفاق والرياء ، نجا وإلا تردَّى في النار ، وفي الثاني : يحاسب على الصلاة ، فإن أتم ركوعها وسجودها في مواقيتها نجا ، وإلا تردّى في النار ، والثالث : يحاسب على الزكاة ، في النار . وفي الخامس في الحج والعمرة ، وفي السادس بالوضوء والغسل من الجنابة ، وفي السابع بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، ومظالم العباد فإن أداها نجا وإلا تردى في النار .
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
ثم قال عز وجل : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } قال الكلبي : نزلت في أمية بن خلف ويقال : في أبي بن خلف ، إذا ما ابتلاه ، يعني : اختبره ربه { فَأَكْرَمَهُ } يعني : ورزقه { وَنَعَّمَهُ } يعني : أعطاه النعمة { فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ } يعني : اجتباني وفضلني ، وأنا أهل لذلك { وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه } بالفقر { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } قرأ أبو عمرو ، وابن عامر في إحدى الروايتين ، فقدّر بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد أي : فقتر عليه رزقه ، وأصابه الجوع والأمراض { فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ } يعني : طردني وعاقبني ، شكاية لربه .
قال الله تعالى : { كَلاَّ } أي : حقاً يعني : ليس إهانتي وإكرامي ، في نزع الماء والولد ، والفقر ، والمرض ، ولكن إهانتي في نزع المعرفة ، وإكرامي بتوفيق المعرفة ، والطاعة . وقال قتادة : لم يكن الغنى من كرامة ، ولم يكن الفقر من الذل . ولكن الكرامة مني ، بتوفيق الإسلام ، والهوان مني بالخذلان عنه . إنما المكرم من أكرم بطاعتي ، والمهان من أهين بمعصيتي . ثم قال : { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم } يعني : لا تعطون حق اليتيم ، وكان في حجر أمية بن خلف ، يتيم لا يؤدي حقه . فنزلت الآية بسببه ، فصار فيها عظة لجميع الناس . قرأ أبو عمرو ، وابن عامر في إحدى الروايتين ، فقدر بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد .
ثم قال عز وجل : { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } يعني : لا يحثون أنفسهم ، ولا غيرهم على طعام المسكين . ويقال : لا تحاضون على إطعام المسكين . ويقال : لا يحض بعضهم بعضاً . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم { وَلاَ تَحَاضُّونَ } بالألف ، يعني : لا يحث بعضهم بعضاً . وقرأ أبو عمرو ، ولا { يحضون } بالياء يعني : لا يحثون ، والباقون لا تحضون بالتاء على المخاطبة . ثم قال : { المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث } يعني : الميراث { أَكْلاً لَّمّاً } يعني : شديداً . كقولك : لممت الشيء إذا جمعته ومعناه يأكلون مال اليتيم ، أكلاً شديداً سريعاً .
{ وَتُحِبُّونَ المال } يعني : كثرة المال وجمع المال { حُبّاً جَمّاً } يعني : شديداً . ويقال : كثيراً . قرأ أبو عمرو ويكرمون ، ويأكلون ، ويحبون كلها بالياء على معنى الخبر عنهم . والباقون بالتاء ، على معنى الخطاب لهم . ثم قال عز وجل : { كَلاَّ } يعني : حقاً { إِذَا دُكَّتِ الارض دَكّاً دَكّاً } يعني : زلزلت الأرض زلزالها ، والتكرار للتأكيد . ثم قال : { وَجَاء رَبُّكَ والملك } قال بعضهم : هذا من المكتوم الذي لا يفسر وقال أهل السنة وجاء ربك بلا كيف وقال بعضهم معناه وجاء أمر ربك بالحساب والملك { صَفّاً صَفّاً } يعني : صفوفاً ، كصفوف الملائكة ، وأهل الدنيا في الصلاة .
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ثم قال عز وجل : { وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } تحضر وتدنو من الكفار ، وروي عن عبد الرحمن بن حاطب قال : كنا جلوساً عند كعب يذكّرنا ، فجاء عمر رضي الله عنه ، فجلس ناحيته وقال : ويحك يا كعب خوّفنا ، فقال كعب : إن جهنم لتقرب يوم القيامة ، لها زفير وشهيق ، حتى إذا قربت ودنت ، زفرت زفرة ، لا يبقى نبي ولا صديق ، إلا وهو يخر ساقطاً على ركْبتيه . فيقول : اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي ، ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبياً ، لظننت أن لا تنجو . فقال عمر رضي الله عنه : والله إن الأمر لشديد .
ثم قال : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان } يعني : يتعظ الكافر { وأنى لَهُ الذكرى } يعني : من تنفعه العظة ، ويقال : يومئذ يتذكر الإنسان ، يعني : يظهر الإنسان التوبة ، يعني : أين له التوبة ، يعني : كيف تنفعه التوبة يومئذ . { يَقُولُ ياليتنى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } يعني : يا ليتني عملت في حياتي الفانية لحياتي الباقية . ثم قال عز وجل : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } قرأ الكسائي لا يعذب ، بنصب الذال ، ولا يوثق بنصب التاء . والباقون كلاهما بالكسر ، فمن قرأ بالنصب فمعناه : ولا يعذب عذاب هذا الصنف من الكفار أحد ، وكذلك لا يوثق وثاقه أحد . ومن قرأ بالكسر ، معناه لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد ، الملك يومئذ لله وحده ، والأمر بيده . ويقال : معناه لا يقدر أحد . من الخلق ، أن يعذب كعذاب الله تعالى ، ولا يوثق في الغل والصفد كوثاق الله .
ثم قال عز وجل : { أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة } التي اطمأنت بلقاء الله عز وجل ، ويقال : { المطمئنة } يعني : الراضية بثواب الله تعالى ، القانعة بعطاء الله ، الشاكرة لنعمائه تعالى . يقال لها ، عند الفراق من الدنيا { ارجعى إلى رَبّكِ } يعني : ارجعي إلى ثواب ربك ، إلى ما أعد الله لك في الجنة . ويقال له يوم القيامة { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلى فِى عِبَادِى } يعني : مع عبادي الصالحين في الجنة { وادخلى جَنَّتِى } يعني : ادخلي الجنة بلا حساب ، ويقال : هذا الخطاب لأهل الدنيا ، يعني : { أَيَّتُهَا النفس } في الدنيا ، التي أمنت من عذاب الله ، { المطمئنة ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } يعني : { فادخلى فِى عِبَادِى } يعني : ادخلي في عبادي ، وفي طاعتي ، وادخلي في جنتي ويقال : معناه تقول الملائكة : يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ما أعد الله لك راضية ، فادخلي في عبادي على محض التقديم ، يعني : يا أيتها النفس المطمئنة ، الراضية بما أعطيت من الثواب ، مرضية بما عملت ، وادخلي جنتي مع عبادي والله تعالى أعلم .
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } يعني : أقسم بهذا البلد ، ولا صلة في الكلام ، ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولد فيه يعني : مكة { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يحلها يوم فتح مكة ، معناه فسيحل لك هذا البلد ، يعني : القتال فيه ساعة من النهار ، ولم يحل لك أكثر من ذلك . وروى عبد الملك ، عن عطاء في قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } وقال : إن الله تعالى حرم مكة ، فجعلها حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، ولم تحل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه دخل بالبيت يوم الفتح ، ووضع يده على باب الكعبة ، فقال : « لاَ إله إلاَّ الله وَحْدَهُ ، صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، أَلاَ إنَّ الله تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات والأَرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ لِي ، بِحَرَامِ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي ، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ » .
ثم قال عز وجل : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } { وَوَالِدٍ } يعني : آدم { وَمَا وَلَدَ } ، يعني : ذريته . ويقال : كل والد وكل مولود . وقال عكرمة { وَوَالِدٍ } الذي يلد { وَمَا وَلَدَ } التي لم تلد من النساء والرجال { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } يعني : معتدل الخلق والقامة ، فأقسم بمكة وبآدم وذريته { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } منتصباً قائماً على رجلين . وقال مقاتل : نزلت الآية في حارث بن عامر بن نوفل . وروى مقسم ، عن ابن عباس في قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : خلق كل شيء يمشي على أربع ، إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً ، وهذا كقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ويقال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } يعني : في مشقة وتعب .
وروي عن ابن رفاعة ، عن سعيد بن الحسن ، عن الحسن البصري في قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال سعيد : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة . وقال الحسن : لم يخلق الله تعالى خليقة ، يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم . وروي عن عطاء ، عن ابن عباس يقول : خلق في شدة ، يعني : مولده ونبات أسنانه وغير ذلك . ويقال : معناه : ولقد خلقنا الإنسان في كبد وهي المضغة ، مثل الكبد دماً غليظاً ، ثم يصير مضغة .
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وقال عز وجل : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } يعني : أيحسب الكافر ، أن لن يقدر عليه الله تعالى ، يعني : على أخذه وعقوبته . { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } يعني : أبا جهل بن هشام يقول : أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم ينفعني ذلك ، وهو أنه ضمن مالاً لمن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويقال : أنفق مالاً يوم بدر . ثم قال عز وجل : { أَيَحْسَبُ } يعني : أيظن { أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } يعني : إن لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما فعل . ثم ذكر ما أنعم عليه ليعتبر به ويوحد فقال : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } يعني : ألم نخلق له عينين . يبصر بهما { وَلِسَاناً } ينطق به { وَشَفَتَيْنِ } فيضمهما .
{ وهديناه النجدين } قال الثعلبي ومقاتل يعني : عرّفناه طريق الخير والشر . وقال قتادة : يعني : طريق الهدى والضلالة ، وهكذا قال ابن مسعود ، رضي الله عنه ، ويقال : { وهديناه النجدين } يعني : هديناه في الصغر لأحد الثديين ، يعني : خلق له شفتين ، ليأخذ بهما ثدي أمه . ويقال : بينا له طريقين ، طريق الدنيا ، وطريق الآخرة . وقال مجاهد : يعني : طريق السعادة ، وطريق الشقاوة . ويقال : الطاعة والمعصية ، ويقال : طريق الصواب ، وطريق الخطأ . ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به ، على أن الله تعالى قادر على أن يبعثه ، ويحصي عليه ما عمله .
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ثم قال عز وجل : { فَلاَ اقتحم العقبة } يعني : فلا هو اقتحم العقبة ، ويقال : فلم يقتحم العقبة ، ويقال : معناه فهل تجاوز العقبة ، الذي يزعم أنه أنفق مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما أراد بالعقبة ، الصراط . كما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال : إنه بين أيدينا عقبة كؤود ، لا ينجو منها إلاَّ كل مخف . وكما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه بكى حين حضرته الوفاة ، قيل له : وما يبكيك؟ قال : بُعْدَ المفازة ، وقلة الزاد ، وضعف النفس ، وعقبة كؤد ، والهبوط منها إلى الجنة أو إلى النار .
ثم قال عز وجل : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة } يعني : ما أدراك بماذا يكون مجاوزة الصراط . ثم قال : { فَكُّ رَقَبَةٍ } يعني : اقتحام العقبة ، هو فك الرقبة يعني : إنما يجاوز الصراط . { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } يعني : يجاوز الصراط بإحكام في يوم ذي مجاعة . قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي { فَكُّ رَقَبَةٍ } ، بنصب الكاف والهاء ، وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف ، والباقون { فَكُّ رَقَبَةٍ } بضم الكاف ، وكسر الهاء { أَوْ إِطْعَامٌ } بكسر الهمزة ، وإثبات الألف . فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى ، معناه فلا فَكَّ رَقَبَةً ، ولا أطعمَ في يوم ذي مسغبة ، فكيف يجاوز العقبة ، ومن قرأ بالضم فمعناه اقتحامُ العقبة ، فكُّ رقبة يعني : مجاوزة العقبة بعتق رقبة ، وبإطعام في يوم ذي مسغبة ، أي : مجاعة .
ثم بين لهم لمن يُطْعَم الطعام فقال : { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } يعني : يتيماً بينك وبينه قرابة { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } يعني : مسكيناً لا شيء له لاصق في التراب من الجهد ، فهذا الإحسان مجاوزة العقبة { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } يعني : من صنع هذا الإحسان ، يكون مؤمناً ، لأنه لا يتقبل عملاً من الأعمال بغير إيمان . ويقال : معناه ثم يثبت على إيمانه . ثم قال : { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } يعني : تحاشوا أنفسهم بالصبر ، وتحاشوا بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله تعالى ، وبالصبر على المكروهات ، لأنه روي في الخبر ، أن الجنة حقت بالكاره .
ثم قال تعالى : { وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } يعني : تحاشوا بالتراحم بعضهم على بعض ، يعني : بالمرحمة على أنفسهم ، على غيرهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « مَنْ يَرْحَمِ النَّاسَ ، يَرْحَمُهُ الله تَعَالَى » . ثم قال : { أولئك أصحاب الميمنة } يعني : أهل التراحم والتواصل ، هم أصحاب الميمنة ، الذين يُعْطَوْن كتابهم بأيمانهم { والذين كَفَرُواْ بئاياتنا } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، ويقال : كفروا بدلائل الله تعالى . { هُمْ أصحاب المشئمة } يعني : يعطون كتابهم بشمالهم { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ } يعني : أُدْخِلُوا في النار ، وأُطْبِقَتْ عليهم ، لا يخرج منها غم ، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد . قرأ أبو عمرو ، وعاصم في رواية حفص ، وحمزة { عَلَيْهِمْ نَارٌ } بالهمزة ، والباقون بغير همزة ، وهما لغتان . يقال : أصدت وأوصدت الباب ، وأوصدته إذا أطبقته والله أعلم .
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قوله تعالى : { والشمس وضحاها } أقسم الله تعالى بالشمس ، وضوئها حرها . ويقال : بخالق الشمس وضحاها ، يعني : ارتفاع النهار . ويقال : حر الشمس يسمى ضحى . قرأ ابن كثير ، وابن عامر وعاصم { وضحاها } بالتفخيم ، وكذلك تلاها إلى آخر السورة . وقرأ حمزة والكسائي كلها بالإمالة ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو بين ذلك . ثم قال عز وجل : { والقمر إِذَا تلاها } يعني : يتبع الشمس والهاء ، كناية عن الشمس . وقال قتادة : والشمس هو النهار ، و { القمر * إِذَا تلاها } قال : يتلوها صبيحة الهلال ، وإذا سقطت الشمس ، رأيت الهلال عند سقوطها .
ثم قال عز وجل : { والنهار إِذَا جلاها } يعني : إذا أضاء واستنار ، فقال القتبي : هذا من الاختصار { والنهار إِذَا جلاها } ويعني : والأرض أو الدنيا ، يعني : النهار أذا أضاء الدنيا . وقال الكلبي : معناه إذا جلى النهار ظلمة الليل . ثم قال عز وجل : { واليل إِذَا يغشاها } يعني : غطى ضوء النهار ، ويقال : { واليل إِذَا يغشاها } يعني : غطى الأرض وسترها . ثم قال : { والسماء وَمَا بناها } يعني : خلقها . ويقال : { السماء وَمَا بناها } يعني : الله تعالى بناها ، فأقسم بنفسه ، ويقال : ما للصلة ، ومعناه والسماء وبنائها .
ثم قال عز وجل : { والارض وَمَا طحاها } يعني : والذي بسطها على الماء من تحت الكعبة . ثم قال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } يعني : ونفس والذي سوى خلقها ، ويقال : ونفس وما خلقها { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } يعني : ألهمها الطاعة والمعصية ، ويقال : عرفها ، وبين لها ما تأتى وما تذر . ثم قال عز وجل : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } يعني : أصلحها الله ، وعرفها وهذا جواب القسم لقد أفلح ، ولكن اللام حذفت لثقلها ، لأن الكلام طال .
ثم قال { وَقَدْ خَابَ مَن دساها } يعني : خسر من أغفلها وأغواها ، وخذلها وأضلها . وقال القتبي : معناه قد أفلح من زكى نفسه ، أي : أنماها وأعلاها ، بالطاعة والبر والصدقة ، وقد خاب من دساها ، يعني : نقصها وأخفاها بترك عمل البر ، وبركوب عمل المعاصي . وأصله دسس ، فجعل مكان إحدى السينين ياء ، كما يقال : قصيت أظفاري ، وأصله قصصت . قال وأصل هذا؟ أن أجواد العرب ، كانوا ينزلون في أرفع المواضع ، ويوقدون من النار للطارقين ، لتكون أنفسهم أشهر ، واللئام ينزلون الأطراف والأهضام ، لتخفي أماكنهم على الطارقين ، فأخفوا أنفسهم . والبار أيضاً أظهر نفسه بأعمال البر ، والفاجر دساها . ويقال : إن الله تعالى ، يطلب من عباده المؤمنين يوم القيامة ستة أشياء بمكان النعمة ، الشكر : وبمكان الشدة وبمكان الصحة العمل بالطاعة ، وبمكان الذنوب التوبة ، وبمكان العمل الإخلاص ، فمن يجىء بهذه الأشياء ، فقد أفلح ونما ، ومن لم يجىء بهذه الأشياء ، فقد خسر وغبن .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
ثم قال عز وجل : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } يعني : بطغيانهم ، حملهم على ذلك التكذيب { إِذِ انبعث أشقاها } يعني : إذا قام أشقى ثمود ، وكلهم أشقياء في علم الله تعالى ، وأشقاهم عاقر الناقة ، وهو قدار بن سالف ، ومصدع بن دهر { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله } صلى الله عليه وسلم يعني : صالحاً { نَاقَةُ الله } يعني : احذروا ناقة الله { وسقياها } يعني : لا تأخذوا سقياها ، ومعناه ولا تعقروا ناقة الله ، وذروا شربها . وقد ذكرناه في سورة الأعراف { فَكَذَّبُوهُ } يعني : صالحاً بالعذاب { فَعَقَرُوهَا } يعني : فعقروا الناقة ، ويقال : في الآية تقديم فعقروها ، فخوفهم صالح عليه السلام بالعذاب ، فكذبوه . ثم قال عز وجل : { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } يعني : أنزل عليهم ربهم عقوبة { بِذَنبِهِمْ } والدَّمْدَمة ، المبالغة في العقوبة والنكال .
ثم قال : { فَسَوَّاهَا } يعني : فسواها في الهلاك يعني : الصغير والكبير { وَلاَ يَخَافُ عقباها } قرأ نافع ، وابن عامر فلا يخاف بالفاء ، والباقون بالواو . فمن قرأ بالفاء ، وصل الذي بعدها بالذي قبلها ، وهو قوله { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } يعني : أطبق عليهم العذاب بذنبهم { فَسَوَّاهَا } يعني : فسوى الأرض عليهم ، ولا يخاف عقبى هلكهم ، ولا يقدر أن يرجعوا إلى السلامة . ومن قرأ بالواو ، فمعناه التقديم والتأخير ، يعني : الذي عقرها ، وهو لا يخاف عقبى عقرها . ويقال : إن الله تعالى أهلكهم ، ولم يخف ثأرها وعاقبتها على غير وجه التقديم . وروى الضحاك ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه : « أتَدْرِي مَنْ أشْقَى الأوَّلِينَ » قُلْتُ : الله وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ . قال : « عَاقِرُ النَّاقَةِ » فقال : « أتَدْرِي مَنْ أَشْقَى الآخِرِينَ » قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « قَاتِلُكَ » . والله أعلم .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قوله تعالى : { واليل إِذَا يغشى } أقسم الله تعالى بالليل ، إذا غشيت ظلمته ضوء النهار . ويقال : أقسم بخالق الليل إذا يغشى ، يعني : يغشى الليل ضوء النهار { والنهار إِذَا تجلى } يعني : أقسم بالنهار إذا استنار ، وتجلى عن الظلمة { وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى } يعني : والذي خلق الذكر والأنثى ، يعني : آدم وحواء . وقال القتبي : ما ومن أصلهما واحد ، وجعل من للناس ، وما لغير الناس . ويقال : من مَرّ بك من الناس ، وما مَرّ بك من الإبل . وقال أبو عبيد : وما خلق ، أي : وما خلق ، وكذلك قوله : { والسمآء وَمَا بناها } [ الشمس : 5 ] { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] «وما» في هذه المواضع بمعنى «من» وقال أبو عبيد : وما بمعنى من وبمعنى الذي .
وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يقرأ والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود؟ فأشاروا إلي ، فقلت : نعم أنا . فقال : كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية؟ قلت : سمعته يقرأ ، والذكر والأنثى . قال : أنا هكذا والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرأها ، وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها كلا أنا معهم .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } فهذا موضع جواب القسم ، أقسم الله تعالى بخالق هذه الأشياء ، إن سعيكم لشتى ، يعني : أديانكم ومذاهبكم مختلفة ، يعني : عملكم مختلف . عامل للجنة ، وعامل للنار . وقال أبو الليث رحمه الله : حدّثنا أبو جعفر ، حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال : أخبرنا حدّثنا أحمد بن جرير ، قال حدّثنا أبو عبد الرحمن راشد بن إسماعيل ، عن منصور بن مزاحم ، عن يونس بن إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن أبا بكر رضي الله عنه ، اشترى بلالاً من أمية بن خلف ، وأبي بن خلف ببروة وعشرة أواق من فضة ، فأعتقه لله تعالى ، فأنزل الله تعالى : { واليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } يعني : سعي أبي بكر ، وأمية بن خلف .
{ فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى } يعني : بلا إله إلا الله ، يعني : أبا بكر { فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى } يعني : الجنة { وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى } يعني : بلا إله إلا الله { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } يعني : أمية ، وأبي ابني خلف إذا ماتا . ويقال : لنزول هذه الآية سبب آخر ، كان رجل من الكفار له نخلة في دار ، وشعبها في دار رجل آخر من المسلمين ، وكان إذا سقطت ثمرة في دار المسلم ، نادى الكافر : حرام حرام ، وكان المسلم يأخذ الثمرة ، فيرمي بها في دار الكافر ، لئلا يأكل ذلك صبيانه فسقطت يوماً ثمرة ، فأخذها ابن صغير للمسلم ، فجعلها في فيه ، فدخل الكافر ، فأخرج الثمرة من فيه ، وأبكى الصبي .
فشكى المسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا المشرك فقال : أتبيع نخلتك ليعطيك الله أفضل منها في الجنة ، فقال : لا أبيع العاجل بالآجل ، فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشترى النخلة من الكافر ، وتصدق بها على المسلم . فنزلت { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } يعني : أعطى من ماله حق الله تعالى ، واتقى الشرك ، وسخط الله تعالى ، { وَصَدَّقَ بالحسنى } . يعني : بثواب الله في الجنة { فَسَنُيَسّرُهُ } يعني : سنعينه ونوفقه { لليسرى } يعني : لعمل أهل الجنة { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } بالصدقة { واستغنى } يعني : رأى نفسه مستغنياً عن ثواب الله ، وعن جنته { وَكَذَّبَ بالحسنى } يعني : بالثواب وهو الجنة { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } يعني : نخذله ولا نوفقه للطاعة ، فسنيسر عليه طريق المعصية { وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى } { وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } يعني : ما ينفعه ماله ، إذا مات وتركه في الدنيا ، وهو يرد إلى النار .
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
ثم قال عز وجل : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } يعني : علينا بيان الهدى ، ويقال : علينا التوفيق للهدى من كان أهلاً لذلك { وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ والاولى } يعني : الدنيا والآخرة لله تعالى ، يعطي منها من يشاء ويقال : معناه إلى الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة . ويقال : وإن لنا للآخرة والأولى ، يعني : لله تعالى نفاذ الأمر في الدنيا والآخرة ، يعطي في الدنيا المغفرة ، والتوفيق للطاعة ، وفي الآخرة الحسنة والثواب . ثم قال : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } يعني : خوفتكم بالقرآن ناراً تلظى ، يعني : تثقل على أهلها ، وتغيظ على أهلها ، وتزفر عليهم .
قوله عز وجل : { لاَ يصلاها } يعني : لا يدخل في النار { إِلاَّ الاشقى } يعني : الذي ختم له بالشقاوة { الذى كَذَّبَ وتولى } يعني : كذب بالتوحيد ، وتولى عن الإيمان ، وعن طاعة الله تعالى ، وأخذ في طاعة الشيطان . ثم قال : { وَسَيُجَنَّبُهَا الاتقى } يعني : يباعد عنها الأتقى ، يعني : المتقي الذي يتقي الشرك وهو { الذى يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى } يعني : يعطي من ماله حق الله تعالى { يتزكى } يعني : يريد به وجه الله تعالى . ثم قال : { وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى } يعني : لا يفعل ذلك مجازاة لأحد { إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى } ولكن يفعل ذلك وجه ابتغاء ربه الأعلى ، يفعل ذلك طلب رضاء الله تعالى الأعلى ، يعني : الله العلي الكبير ، الرفيع فوق خلقه ، بالقهر والغلبة .
{ وَلَسَوْفَ يرضى } يعني : سوف يعطي الله من الثواب ، حتى يرضى بذلك . وقال مقاتل : مر أبو بكر على بلال ، وسيده أمية بن خلف يعذبه ، فاشتراه وأعتقه ، فكره أبو قحافة عتقه ، فقال لأبي بكر : أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم ، فإذا أعتقت فأعتق من له منظرة وقوة ، فنزل { وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى } يعني : لا يعقل لطلب المجازاة ، ولكن إنما يعطي ما له { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى وَلَسَوْفَ يرضى } بثواب الله تعالى ، والله أعلم بالصواب .
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
قوله تبارك وتعالى : { والضحى } يعني : النهار كله ، ويقال : الضحى ساعة من ساعات النهار ، ويقال : الضحى حر الشمس { واليل إِذَا سجى } يعني : اسودّ وأظلم ، ويقال : إذا سكن بالناس ، ويقال : { والضحى واليل إِذَا سجى } يعني : عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم ، ويقال : { والضحى } نور الجنة إذا تنور { واليل إِذَا سجى } يعني : ظلمة النار إذا أظلم ، ويقال : { والضحى } يعني : النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار ، { واليل إِذَا سجى } يعني : السواد الذي في قلوب الكافرين ، كهيئة الليل . وأقسم الله تعالى بهذه الأشياء { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } يعني : ما تركك ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم ، منذ أوحى إليك { وَمَا قلى } يعني : ما أبغضك ربك ، وذلك أن مشركي قريش ، أرسلوا إلى يهود المدينة ، وسألوهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فقالت لهم اليهود : فاسألوه عن أصحاب الكهف ، وعن قصة ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن أخبركم بقصة أهل الكهف ، وعن قصة ذي القرنين ، ولم يخبركم عن أمر الروح ، فاعلموا أنه صادق .
فجاؤوه وسألوه فقال لهم : ارجعوا غداً حتى أخبركم ، ونسي أن يقول إن شاء الله ، فانقطع عنه جبريل خمسة عشرة يوماً في رواية الكلبي ، وفي رواية الضحاك ، أربعين يوماً . فقال المشركون : قد ودّعه ربه وأبغضه ، فنزل فيهم ذلك . وروى أسباط عن السدي قال : فأبطأ جبريل عليه السلام ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة ، حتى شكى ذلك إلى خديجة ، فقالت خديجة : لعل ربك قد قلاك أو نسيك ، فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } { وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولى } يعني : ما أعطاك الله في الآخرة ، خير لك مما أعطاك في الدنيا . ويقال : معناه عز الآخرة ، خير من عز الدنيا ، لأن عز الدنيا يفنى ، وعز الآخرة يبقى .
قوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } يعني : يعطيك ثواب طاعتك ، حتى ترضى . وسوف من الله تعالى واجب . ويقال : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ } الحوض ، والشفاعة حتى ترضى . ثم ذكر له ما أنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة . فقال عز وجل : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى } يعني : كنت يتيماً فضمك إلى عمك أبي طالب ، فكفاك المؤنة حين كنت يتيماً { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } فكيف ودعك بعد ما أوحى إليك .
ثم قال عز وجل : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى } يعني : وجدك جاهلاً بالنبوة ، وبالحكمة وبالكتاب وقراءته ، والدعوة إلى الإيمان ، فهداك إلى هذه الأشياء . وكقوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ، ولا الإيمان } ويقال : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } يعني : من بين قوم ضلال { فهدى } يعني : حفظك من أمرهم ، وعن أخلاقهم . ويقال : ووجدك بين قوم ضلال ، فهداهم بك . ثم قال عز وجل : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فأغنى } يعني : وجدك فقيراً بلا مال ، فأغناك بمال خديجة . ويقال : وجدك فقيراً عن القرآن والعلم ، فأغناك يعني : أغنى قلبك ، وأرضاك بما أعطاك .
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
ثم قال تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } يعني : لا تظلمه ، وادفع إليه حقه . ويقال : معناه واذكر يُتْمك ، وارحم اليتيم . وقال مجاهد : { فَلاَ تَقْهَرْ } يعني : فلا تقهره . وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يقرأ { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ } . يعني : لا تعبس في وجهه . وروي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ ضَمَّ يَتِيماً وَكَانَ مُحْسِناً فِي نَفَقَتِهِ ، كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَمَنْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» . وقوله تعالى : { تَقْهَرْ وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ } يعني : لا تؤذه ولا تزجره ، ويقال : معناه واذكر فقرك ، ولا تزجر السائل ، ولا تنهره ورده ببذل يسير ، وبكلمة طيبة . وفي الآية تنبيه لجميع الخلق ، لأن كل واحد من الناس كان فقيراً في الأصل ، فإذا أنعم الله عليه ، وجب أن يعرف حق الفقراء .
ثم قال عز وجل : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } يعني : بهذا القرآن ، فيعلم الناس . وفي الآية تنبيه لجميع من يعلم القرآن ، أن يحتسب في تعليم غيره . ويقال : معناه فحدث الناس بما آتاك الله من الكرامة ، ويقال : معناه اجهر بالقرآن في الصلاة . وروى أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ الله تَعَالَى جَمِيلٌ ، يُحِبُّ الجَمَالَ ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةَ عَلَى عَبْدِهِ " ، يعني : يشكر بما أنعم الله تعالى عليه ، ويحدث به ، فيظهر على نفسه أثر النعمة ، والله أعلم بالصواب .
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } هو معطوف على قوله { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « سَألْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً ، وَوَدَدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْألْهَا قَطُّ ، فَقُلْتُ : اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً . فَقَالَ الله تعالى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى } قُلْتُ : بَلَى قال : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] قُلْتُ : بَلَى قال { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى } [ الضحى : 8 ] قُلْتُ : بَلَى . قال { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } » الآية .
وروي عن بعض المتقدمين أنه قال : سورة التوبة والأنفال ، بمنزلة سورة واحدة ، وسورة ألم نشرح لك والضحى بمنزلة سورة واحدة ، وسورة لإيلاف قريش وألم تر كيف فعل ربك ، بمنزلة سورة واحدة .
قال { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني : ألم نوسع قلبك بالتوحيد والإيمان ، وهذا قول مقاتل . وقال الكلبي : أتاه جبريل فشرح صدره ، حتى أبدى قلبه ، ثم جاء بدلو من ماء زمزم ، فغسله وأنقاه مما فيه ، ثم جاء بطشت من ذهب ، قد ملىء علماً وإيماناً ، فوضعه فيه .
ويقال الانشراح للعلم ، حتى علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مؤمناً من وقت الميثاق ، فشق صدره على جهة المثل ، فيعبر به عنه . ويقال { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني : ألم نلين قلبك بقبول الوحي ، وحب الخيرات . ويقال : معناه ، ألم نطهر لك قلبك ، حتى لا يؤذيك الوسواس ، كسائر الناس . ويقال : معناه { أَلَمْ نَشْرَحْ } يعني : نوسع لك قلبك بالعلم ، كقوله وعلمك مما لم تكن تعلم .
ثم قال : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } يعني : غفرنا لك ذنبك ، كقوله { لّيَغْفِرَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ويقال : غفرنا لك ذنبك ، وذلتك بترك الاستثناء ويقال : معنى { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } يعني : عصمناك من الذنوب { الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } لو لم يعصمك الله ، لأثقل ظهرك ، ويقال : معناه أخرجنا من قلبك الأخلاق السيئة ، وطبائع السوء { الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } يعني : التي لو لم ننزعها عن قلبك ، لأثقل عليك حمل النبوة والرسالة . ثم قال عز وجل : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } يعني : في التأذين والخطب ، حتى لا أذكر إلا وذكرت معي ، يعني : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في كل يوم خمس مرات ، في الأذان والإقامة .
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } يعني : مع الشدة سعة ، يعني : بعد الشدة سعة في الدنيا . ويقال : بعد شدة الدنيا سعة في الآخرة ، يعني : إذا احتمل المشقة في الدنيا ، ينال الجنة في الآخرة . ثم قال عز وجل : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } على وجه التأكيد . وروي عن ابن عباس ، أنه قال : لا يغلب العُسْرُ يُسْرَينْ . وروى مبارك بن فضالة ، عن الحسن أنه قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسرٌ واحد يُسْرَين ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : لو كان العسر في حُجر ، جاء اليسر حتى يدخل عليه ، لأنه قال تعالى { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } ويقال : إن مع العسر وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم { يُسْراً } ، وهو دخوله يوم فتح مكة ، مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف .
ثم قال عز وجل : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } يعني : إذا فرغت من الجهاد ، فاجتهد في العبادة { وإلى رَبّكَ فارغب } يعني : اطلب المسألة إليه . قال قتادة : فإذا فرغت من الصلاة ، فانصب في الدعاء . هكذا قال الضحاك ، وقال مجاهد ، { فَإِذَا فَرَغْتَ } من اشتغال نفسك { فانصب } يعني : فَصَلِّ ويقال { فَإِذَا فَرَغْتَ } من الفرائض فانصب في الفضائل ، فيقال { فَإِذَا فَرَغْتَ } من الصلاة ، فانصب نفسك للدعاء والمسألة ، { وإلى رَبّكَ فارغب } يعني : إلى الله فارغب في الدعاء ، برفع حوائجك إليه ، والله أعلم وأحكم بالصواب .
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
قوله تعالى : { والتين والزيتون } وهما مسجدان بالشام ، ويقال : هما جبلان بالشام { التين } جبل بيت المقدس { والتين والزيتون } جبل بدمشق وقال قتادة : { التين } الجبل الذي عليه دمشق { والتين والزيتون } الجبل الذي عليه بيت المقدس . ويقال : { التين } الذي يؤكل . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : تينكم وزيتونكم هذا . وقال مجاهد : هو الذي يؤكل ، وهو قول سعيد بن جبير ، والشعبي .
ثم قال : { والزيتون وَطُورِ سِينِينَ } يعني : الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ويقال { الطور } اسم الجبل { سِينِينَ } يعني : ذا شجر . ويقال : التين معناه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه { والزيتون } فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله تعالى عنها ، { وَطُورِ سِينِينَ } هما الحسن والحسين سيدا الشهداء في دار الدنيا ، وهذا لا يصح في اللغة { وهذا البلد الامين } يعني : مكة أمين من أن يهاج فيها ، من دخل فيها . ويقال : { الامين } لجميع الحيوان الذي لا يجري عليه القلم .
ثم قال عز وجل : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } يعني : في أحسن صورة ، لأنه يمشي مستوياً ، وليس منكوساً ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . قال بعضهم : نزلت في شأن الوليد بن المغيرة ، وقال بعضهم نزلت في كلدة بن أسيد ، وقال بعضهم هذا عام . { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } يعني : رددناه بعد القوة والشباب ، والحسن إلى الضعف والهرم ، يعني : يصير كالصبي في الحال الأولى ، يعني : رددناه إلى أرذل العمر . ويقال : رددناه . يعني : الفاجر والكافر بعد موته ، إلى أسفل السافلين في النار .
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
ثم قال عز وجل : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وعملوا الصالحات { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني : غير منقوص ، وذلك أن المؤمن إذا عمل في حالة شبابه ، وقوته وحياته ، فإذا مرض أو هرم ، أو مات ، فإنه يكتب له حسناته ، كما كان يعمل في حال شبابه وقوته ، إلى يوم القيامة ويقال : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني : غير مقطوع ويقال : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني : لا يُمَنُّ عليه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ المُؤْمِنُ إذَا مَاتَ ، صَعِدَ مَلَكَاهُ إلى السَّمَاءِ ، فَيَقُولاَنِ : إنَّ عَبْدَكَ فُلاَناً قَدْ مَاتَ ، فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَعْبُدَكَ عَلَى السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى : إِنَّ سَمَاوَاتِي مَمْلُوْءةٌ بِمَلاَئِكَتِي ، وَلَكِنْ اذْهَبَا إلَى قَبْرِهِ ، فَاكْتُبَا لَهُ حَسَنَاتِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَة " { فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين } يعني : أيها الإنسان ما الذي حملك ، بعدما خلقك الله تعالى في أحسن تقويم ، حتى كذبت بيوم الدين والقضاء { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } يعني : بأعدل العادلين ، يعمل بالعدل مع الكفار ، ومع المؤمنين بالفضل . وقال مقاتل : { فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين } يعني : فما يكذبك أيها الإنسان ، بعد بيان الصورة الحسنة ، والشباب والهرم بالحساب ، لا تغتر في صورتك وشبابك ، فهو قادر على أن يبعثك . ويقال : معنى قوله { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] يعني : لا يحزن ولا يذهب عقله ، من كان عالماً عاملاً به . وروي عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . والله أعلم .
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
قوله تبارك وتعالى : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } يقول : اقرأ القرآن بأمر ربك ، وهذه أول سورة نزلت من القرآن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما بلغ أربعين سنة ، كان يسمع صوتاً يناديه يا محمد ، ولا يرى شخصه ، وكان يخشى على نفسه الجنون ، حتى رأى جبريل عليه السلام يوماً في صورته ، فغشي عليه ، فحمل إلى بيت خديجة . فقالوا لها تزوجت مجنوناً ، فلما أفاق أخبر بذلك خديجة ، فجاءت إلى ورقة بن نوفل ، وكان يقرأ الإنجيل ويفسره . ثم جاءت إلى عداس ، وكان راهباً ، فقال لها : إن له نبأ وشأناً ، يظهر أمره .
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى الوادي ، فجاء جبريل عليه السلام بهذه السورة ، وأمره بأن يتوضأ ويصلي ركعتين ، فلما رجع أعلم بذلك خديجة ، وعلمها الصلاة وذلك قوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة عَلَيْهَا ملائكة غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] يعني : علموهم وأدبوهم . وروى معمر عن الزهري أنه قال : أخبرني عروة عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ، الرؤيا الصالحة الصادقة ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حُبِّب الخلاءُ إليه . يعني : العزلة وكان يأتي حراء ، ويمكث هناك ، ثم يرجع إلى خديجة .
فجاءه الملك ، وهو على حراء فقال له : اقرأ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني ثانية ، حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الاكرم الذىعلم بالقلم علم الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } فرجع ترجف بوادره ، وقد أخذته الرّعدة ، حتى دخل على خديجة ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فذلك قوله : { اقرأ باسم رَبّكَ } يعني : اقرأ بعون الله ووحيه إليك ، ويقال معناه { اقرأ باسم رَبّكَ } كقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني : اذكر ربك الذي خلق الخلائق .
ثم قال عز وجل : { خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ } يعني : ابن آدم من دم عبيط ، وقال في آية أخرى : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] وقال في آية أخرى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }
[ الحج : 5 ] وهذه الآيات يصدّق بعضها بعضاً ، لأن أول الخلق من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . كما بين الجملة في موضع آخر . ثم قال عز وجل : { اقرأ وَرَبُّكَ الاكرم } يعني : اقرأ يا محمد صلى الله عليه وسلم وربك يعينك ويفهمك ، وإن كنت غير قارىء { الاكرم } يعني : ربك المتجاوز عن جهل العباد ، ويقال : { اقرأ } وقد تم الكلام ، ثم استأنف فقال { وَرَبُّكَ الاكرم } يعني : الكريم ويقال الأكرم يعني : المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام .
ثم قال : { الذى عَلَّمَكُمُ بالقلم } علم الكتابة ، والخط بالقلم { عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } يعني : علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء ، يعني : ألهمه ويقال { عَلَّمَ الإنسان } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { مَا لَمْ يَعْلَمْ } يعني : القرآن كقوله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ويقال : علم الإنسان ما لم يعلم ، يعني : علم بني آدم ما لم يعلموا كقوله : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } [ النحل : 78 ] .
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
ثم قال عز وجل : { كَلاَّ } يعني : حقاً { إِنَّ الإنسان ليطغى } يعني : الكافر ليعصي الله . ويقال : يرفع منزلة نفسه { أَن رَّءاهُ استغنى } يعني : إن رأى نفسه مستغنياً عن الله تعالى ، مثل أبي جهل وأصحابه ، ومثل فرعون حيث ادعى الربوبية . قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا أبو جعفر بن عوف ، عن الأعمش ، عن القاسم قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : منهومان لا يشبعان ، طالب العلم وطالب الدنيا ، ولا يستويان أما طالب العلم ، فيزداد رضا الله وأما طالب الدنيا ، فيزداد في الطغيان ثم قال : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءاهُ استغنى } .
ثم قال : { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } يعني : المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة ، ويقال : معناه رجوع الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى ، فيحاسبون ويجازون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا صلى في المسجد ، رفع صوته بالقراءة ، فلغطوا ورموه بالحجارة ، فخفض صوته في الصلاتين الظهر والعصر ، إذا حضروا . وأما صلاة المغرب ، اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا ، وصلاة الفجر لم يقوموا ، فرفع في هذا ، فصار سنة إلى اليوم فنزل { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } ويقال : إن أبا جهل بن هشام قال : لئن رأيت محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ، لأطانّ عنقه فنزل { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } يعني : ألم تر أن هذا الكافر ، ينهى عبد الله عن الصلاة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، إن كان على الإسلام { أَوْ أَمَرَ بالتقوى } يعني : التوحيد . ثم قال : { أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى } يعني : { أَن كَذَّبَ } بالتوحيد { وتولى } عن الإسلام { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } أفعاله فيجازيه ، وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله { أَرَأَيْتَ } ويقال في الآية إضمار وهو قوله : { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } يعني : بهذا الذي يصنع ، ويؤذي محمداً صلى الله عليه وسلم ، أليس هو على ضلالة ، أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات { أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى } يعني : أرأيت أيها الناهي ، إن كان المصلي على الهدى { أَوْ أَمَرَ بالتقوى } يعني : بالتوحيد ، واجتناب المعاصي ، فينهاه عن ذلك .
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
ثم قال : { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } يعني : حقاً لئن لم يمتنع أبو جهل ، عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتب ، ولم يسلم قبل الموت { لَنَسْفَعاً بالناصية } يعني : لنأخذ به بالناصية أخذاً شديداً ، يعني : يؤخذ بنواصيه يوم القيامة ، ويطوى مع قدميه ، ويطرح في النار . فنزلت الآية في شأن أبي جهل ، وهي عظة لجميع الناس ، وتهديد لمن يمنع عن الخير ، وعن الطاعة . ثم قال عز وجل : { نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ } جعل الكاذبة صفة الناصية ، وإنما أراد صاحب الناصية ، يعني : ناصية كاذبة على الله تعالى ، خاطئة يعني : مشركة . وقال مجاهد : الذي يجحد ، ويأكل رزق الله تعالى ، ويعبد غيره .
ثم قال عز وجل : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } يعني : قل يا محمد صلى الله عليه وسلم ، فليدع أهل مجلسه ، وأصحابه الكفرة حتى { سَنَدْعُ الزبانية } يعني : الملائكة ، هم ملائكة العذاب ، غلاظ شداد ، والزبانية أخذ من الزَّبْن ، وهو الدفع وإنما سمّوا الزبانية ، لأنهم يدفعون الكفار إلى النار . ويقال : إنما سموا زبانية ، لأنهم يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم . وروي في الخبر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ بهذه السورة ، وبلغ إلى قوله لنسفعاً بالناصية ، قال أبو جهل : أنا أدعو قومي ، حتى يمنعوا عني ربك .
قال الله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية } فلما سمع ذكر الزبانية ، رجع فزعاً . فقيل له : خشيت منه ، قال : ولكن رأيت عنده فارساً فهددني بالزبانية ، فلا أدري ما الزبانية ، ومال إلى الفارس ، فخشيت أن يأكلني . وروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هدد أبا جهل فقال : لِمَ تهددني؟ فوالله علمتَ أني أكثر أهل الوادي نادياً ، لئن دعوتُ ، يعني : أهل مجلسي منعوني عن ربك ، فنزل { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية } قال ابن عباس رضي الله عنه : لو دعا ناديه ، أخذته الزبانية .
ثم قال : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } يعني : حقاً لا تطعه في ترك الصلاة يا محمد { واسجد } يعني : صل لله تبارك وتعالى { واقترب } يعني : صل واقترب إلى ربك ، بالأعمال الصالحة . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، ألا يرى إلى قوله { واسجد واقترب } يعني : اقترب إلى ربك بالسجود ، واعلم أن السجود أربعة أحرف ، السين سرعة المطيعين والجيم جهد العابدين والدال دوام المجتهدين والهاء هداية العارفين ويقال السين سرور العارفين ، الجيم جمال العابدين ، والدال دولة المطيعين ، والهاء هبة الصديقين .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله تعالى { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } يعني : أنزلنا القرآن الكريم جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، من اللوح المحفوظ في ليلة القدر ، يعني : في ليلة القضاء ، وإنما سميت ليلة القدر ، لأن الله تعالى ، يقدر في تلك الليلة ما يكون من السنة القابلة ، من أمر الموت والأجل ، والرزق . وغيره ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة إسرافيل وجبريل ، وميكائيل وملك الموت عليهم السلام . وفي آية أخرى { فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] وإنما سميت ليلة مباركة ، يعني : ليلة القدر ، لأنه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة .
ثم قال عز وجل : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } تعظيماً لها ، فقال : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني : العمل في ليلة القدر ، خير من العمل في ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان جالساً بين أصحابه ، يحدث بأن رجلاً كان من بني إسرائيل ، لبس السلاح ألف شهر ، وصام ولم يضع السلاح ، حتى مات . فعظم ذلك على أصحابه فنزلت { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني : العمل فيها وثوابه ، أفضل من لبس السلاح ، وصيام ألف شهر ليس فيها ليلة القدر . وروي في خبر آخر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أَرَى أَعْمَالُ النَّاسِ» ، فكأنه تقاصر أعمار أمته ، أن لم يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله تعالى في الجنة ليلة القدر ، خيراً من ألف شهر . فقيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي ليلة هي؟ قال : " الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " . ثم قال عز وجل : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } يعني : تتنزل الملائكة من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ، وهو مسكن جبريل على وسطها عليه السلام ، فينزلون إلى الأرض ، ويدعون الخلق ، ويؤمنون بدعائهم ، إلى وقت طلوع الفجر . وذلك قوله : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } يعني : جبريل معهم وذكر في الخبر ، أن جبريل عليه السلام ، وقف على سطح الكعبة ، ونشر جناحيه . أحدهما يبلغ المشرق ، والآخر يبلغ المغرب . وقال بعضهم : «الروح» خلق يشبه الملائكة ، وجهه يشبه وجه بني آدم عليه السلام . وقال بعضهم : هو ما قال الله تعالى { وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] وقال مجاهد ما نزل ملك إلا ومعه روح ، ولهم أيد وأرجل ، وهم موكلون على الملائكة ، كما أن الملائكة موكلون على بني آدم .
ثم قال عز وجل : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } يعني : ينزلون بأمر ربهم { مّن كُلّ أَمْرٍ * سلام } يعني : تلك الليلة من كل أمر سلام ، يعني : من كل آفة سلامة ، يعني : في هذه الليلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال سلام يعني : لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شراً .
وقال القتبي : إن ( من ) توضع موضع ( الباء ) ، يعني : بكل أمر سلام أي : خير { هِىَ حتى مَطْلَعِ الفجر } وقال مجاهد : يعني : كل أمر سلام ، وسلام من أن يحدث فيها آذًى ، أو يستطيع الشيطان أن يعمل فيها . ويقال : معناه { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ } وقد تم الكلام . يعني : ينزلون فيها من كل أمر من الرخصة ، وكل أمر قدره الله تعالى ، في تلك الليلة إلى قابل .
ثم استأنف فقال : { سلام هِىَ } يعني : سلام وبركة ، وخير كلها { حتى مَطْلَعِ الفجر } . وروي عن ابن عباس رضي الله ، عنهما ، أنه قرأ من كل أمر سلام ، يعني : الملائكة يسلمون على كل امرىء . وقرأ الكسائي { حتى مَطْلَعِ الفجر } بكسر اللام ، والباقون بنصب اللام . فمن قرأ بالكسر ، جعله اسماً لوقت الطلوع ، ومن قرأ بالنصب جعله مصدراً . يعني : يطلع طلوعاً ، والله أعلم بالصواب .
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني : اليهود والنصارى { والمشركين } يعني : عبدة الأوثان { مُنفَكّينَ } يعني : غير منتهين عن كفرهم ، وعن قولهم الخبيث { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } يعني : حتى أتاهم البيان ، فإذا جاءهم البيان ، فريق منهم انتهوا وأسلموا ، وفريق ثبتوا على كفرهم . ويقال : لم يزل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، حتى وجب في الحكمة علينا في هذا الحال ، إرسال الرسول إليهم . ويقال : معناه لم يكونوا منتهين عن الكفر ، حتى أتاهم الرسول والكتاب ، فلما آتاهم الكتاب والرسول ، تابوا ورجعوا عن كفرهم ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، والذين أسلموا من مشركي العرب . وقال قتادة : { البينة } أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقال القتبي : { مُنفَكّينَ } أي : زائلين يقال : لا أنفك من كذا أي : لا أزول .
قوله تعالى : { رَسُولٌ مّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } يعني : قرآناً مطهراً من الزيادة والنقصان . ويقال : مطهراً من الكذب ، والتناقض ويقال : { صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } أي : أمور مختلفة . ويقال : سمي القرآن صحفاً ، من كثرة السور { فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } يعني : صادقة مستقيمة لا عوج فيها . ويقال : كتب قيمة ، يعني : تدل على الصواب والصلاح ، ولا تدل على الشرك والمعاصي . ثم قال عز وجل : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني : وما اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم اليهود والنصارى { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } يعني : بعدما ظهر لهم الحق ، فنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { وَمَا أُمِرُواْ } يعني : وما أمرهم محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } يعني : ليوحدوا الله . ويقال : { وَمَا أُمِرُواْ } في جميع الكتب ، { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } يعني : يوحدوا الله { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَاء } مسلمين . روي عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : { حُنَفَاء } يعني : متبعين . وقال الضحاك { حُنَفَاء } يعني : حجاجاً يحجون بيت الله تعالى .
ثم قال : { وَيُقِيمُواْ الصلاة } يعني : يقرون بالصلاة ، ويؤدونها في مواقيتها { وَيُؤْتُواْ الزكواة } يعني : يقرون بها ويؤدونها { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } يعني : المستقيم لا عوج فيه ، يعني : الإقرار بالتوحيد ، وبالصلاة والزكاة ، وإنما بلفظ التأنيث { القيمة } لأنه انصرف إلى المعنى ، والمراد به الملة ، يعني : الملة المستقيمة لا عوج فيها . يعني : هذا الذي يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وبهذا أمروا في جميع الكتب .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } يعني : الذين جحدوا من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن ومن مشركي مكة ، وثبتوا على كفرهم { فِى نَارِ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } يعني : دائمين فيها { أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البرية } يعني : شر الخليقة . قرأ نافع وابن عامر ( البريئة ) بالهمزة ، والباقون بغير همزة . فمن قرأ بالهمزة ، فلأن الهمزة فيها أصل . ويقال برأ الله الخلق ، ويبرؤهم وهو الخالق البارىء . ومن قرأ بغير همزة ، فلأنه اختار حذف الهمزة وتخفيفها .
ثم مدح المؤمنين ، ووصف أعمالهم ، وبين مكانهم في الآخرة ، حتى يرغبوا إلى جواره فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بالله ، وأخلصوا بقلوبهم وأفعالهم ، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة { أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } يعني : هم خير الخليقة . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ( والله للمؤمن أكرم على الله تعالى من بعض الملائكة الذين عبدوه ) وروي عن الحسن ، أنه سئل عن قوله { أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } أهم خير من الملائكة؟ قال : ويلك أين تعدل الملائكة ، من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل : { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } يعني : ثوابهم في الآخرة { جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } يعني : أنهار من الخمر ، والعسل ، واللبن ، وماء غير آسن { خالدين فِيهَا أَبَداً } يعني : دائمين مقيمين فيها { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } بأعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بثوابه الجنة { ذلك } يعني : هذا الثواب الذي ذكر { لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ } يعني : وَحَّدَ ربه في الدنيا ، واجتنب معاصيه والله أعلم .
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الارض زِلْزَالَهَا } وذلك أن الناس ، كانوا يرون في بدء الإسلام ، أن الله تعالى لا يؤاخذ بالصغائر من الذنوب ، ولا يعاقب إلا في الكبائر ، حتى نزلت هذه السورة وقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وذكر أهوال ذلك اليوم ، وبين أن القليل في ذلك اليوم ، يكون كثيراً فقال { إِذَا زُلْزِلَتِ الارض زِلْزَالَهَا } يعني : تزلزلت الأرض عند قيام الساعة ، وتحركت واضطربت ، حتى يتكسر كل شيء عليها . ويقال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم ، عن قيام الساعة ، فنزل وبين متى يكون قيام الساعة فقال : { إِذَا زُلْزِلَتِ الارض زِلْزَالَهَا } يعني : تزلزلت الأرض ، وتحركت تحركاً وهو كقوله : { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } [ نوح : 18 ] والمصدر للتأكيد .
قوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا } يعني : أظهرت ما فيها من الكنوز والأموات { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } يعني : يقول الإنسان الكافر : ما لها يعني : للأرض على وجه التعجب . { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } يعني : تخبر الأرض ، بكل ما عَمِلَ عليها بنو آدم ، من خير أو شر تقول : للمؤمنين صلّى عليَّ ، وحج واعتمر ، وجاهد ، فيفرح المؤمن ، وتقول للكافر أشرك وسرق ، وزنى وشرب الخمر ، فيحزن الكافر فيقول : ما لها؟ يعني : ما للأرض تحدث بما عمل عليها؟ على وجه التقديم والتأخير ، ومعناه : يومئذٍ تحدث أخبارها { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } .
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } يعني : أن الأرض تحدث ، بأن ربك أذن لها في الكلام ، وألهمها { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } يعني : يرجع الناس متفرقين ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير فريق مع الحور العين يتمتعون ، وفريق مع الشياطين يعذبون ، فريق على السندس والديباج ، على الأرائك متكئون ، وفريق في النار ، على وجوههم يُجَرُّونَ . اللهم في الدنيا هكذا كانوا فريقاً حول المساجد والطاعات ، وفريق في المعاصي والشهوات ، فذلك قوله { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } يعني : فِرقاً فِرَقاً .
{ لّيُرَوْاْ أعمالهم } يعني : ثواب أعمالهم ، وهكذا . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « مَا مِنْ أَحَدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ ، إلاَّ وَيَلُومُ نَفْسَهُ ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِناً يَقُولُ : لِمَ لَمْ أزدَدْ إحساناً ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ، يَقُولُ : أَلاَ رَغِبْتُ عَنِ المَعَاصِي؟ » وهذا عند معاينة الثواب والعقاب . وقال أبيّ بن كعب : الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة ، إما نظر الله تعالى بالهيبة إلى الأرض ، وإما لكثرة ذنوب بني آدم ، وأما لتحرك الحوت ، التي عليها الأرضون السبع ، تأديباً للخلق وتنبيهاً .
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
قوله تعالى : { والعاديات ضَبْحاً } قال مقاتل : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني كنانة واستعمل عليهم المنذر به عمرو ، الساعدي ، فأبطأ عليه ، خبرهم فاغتم لذلك فنزل عليه جبريل عليه السلام بهذه السورة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه عن حالهم فقال : ( والعاديات ضبحاً ) يعني : أفراس أصحابك يا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم يسبحون في عدوهم { فالموريات قَدْحاً } يعني : النار التي تسطع من حوافر الفرس إذا عدت في مكان ذي صخور وأحجار { فالمغيرات صُبْحاً } يعني : أصحابك يغيرون على العدوّ عند الصبح { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } يعني : يثيرون بحوافرهن التراب إذا عدت الفرس في مكان سهل يهيج التراب والغبار ( نقعاً ) يعني : أطراحاً على الأرض { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } يعني : أصحابك أصبحوا في وسط العدو مع الظفر والغنيمة فلا تغتم وقال الكلبي ( والعاديات ضبحاً ) يعني : أنفاس الخيل حين تتنفس إذا اجتهدت وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( والعاديات ضبحاً ) يعني : الإبل بعرفات إذا دخل الحجاج مكة وروى عطاء عن ابن عباس في قوله ( والعاديات ضبحاً ) قال الخيل وما أصبح دابة قط إلا كلب أو خنزير وهو يلهث كما يلهث الكلب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي الإبل تذهب إلى وقعة بدر .
وقال أبو صالح تقاولت مع عكرمة في قوله ( والعاديات ضبحاً ) قال عكرمة قال ابن عباس هي الخيل في القتال فقلت مولاي يعني : علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعلم من مولاك إنه كان يقول هي الإبل التي تكون بمكة حين تفيض من عرفات إلى جمع ، وقال أهل اللغة : الضبح صوت حلوقها إذا عدت ، والضبح والضبع واحد ، يقال : ضبحت النوق وضبعت إذا عدت في المسير .
وهذا قسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وجوابه قوله تعالى { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } [ العاديات : 6 ] وقال بعضهم ( فالموريات قدحاً ) معناه فالمنجيات عملاً وهذا مثل ضربه الله تعالى فكما أن الأقداح تنجي الرجل المسلم من برد الشتاء والهلاك وإذا لم يكن معه الزند فيهلك في البرد فكذلك العمل الصالح ينجي العبد يوم القيامة ومن العذاب الهلاك وإذا لم يكن معه عمل صالح يهلك في العذاب ويقال ( فالموريات قدحاً ) يعني : ناراً لأبي حباحب كان رجل في بعض أحياء العرب من أبخل الناس ولم يوقد ناراً حتى ينام كل ذي عين ثم يوقدها فإذا استيقظ أحد أطفأها لكي لا ينتفع بناره أحد بخلاً منه فكذلك الخيل حين اشتدت على الأرض الحصاة فقدحت النار بحوافرها لا ينتفع بها كما لا ينتفع بنار أبي حباحب ثم قال ( فالمغيرات صُبْحاً ) يعني : الخُصَماء يغيرون على حسنات العبد يوم القيامة بمنزلة ريح عاصف يجيء ويرفع التراب الناقع من حوافر الدواب فذلك قوله تعالى ( فأثرن به نقعاً ) ويقال هي الإبل ترجع من عرفات إلى مزدلفة ثم يرجعن إلى منى ويذبح هناك ويقسم الخمر ويوجد اللحم كأنهم أغاروها ( فأثرن به نقعاً ) يعني : هيّجن بالوادي غباراً حين يرجعون من مزدلفة إلى منى وقوله تعالى ( به ) كناية عن الوادي فكأنه يقول ( فأثرن به نقعاً ) أي غباراً ثم قال ( فوسطن به جمعاً ) يعني : فوقعن بالوادي ويقال بالمكان جمعاً أي اجتمع الحاج بمنى .
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
ثم قال { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } فيه جواب القسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وفيه بين ذكر فضل الغازي وفضل فرس الغازي على تفسير من فسر الآية على الفرس حين أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج والنار التي تخرج من تحت حوافر فرس الغازي لأنه ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى . ومن فسر الآية على الإبل ففي الآية بيان فضل الحاج وفضل دواب الحاج حيث أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج من تحت أخفاف إبل الحاج والنار التي تخرج منها حيث صارت في أرض الحجارة أن الإنسان لربه لكنود يعني : لبخيل قال مقاتل نزلت في قرط بن عبد الله وقال معنى «الكنود» بلسان كندة وبني حضرموت هو العاصي سيده وبلسان بني كنانة البخيل ويقال هو الوليد بن المغيرة ويقال هو أبو حباحب ويقال كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب والثالث آية في الطمع وهو أشعب ، كان طماعاً ، وكان من طمعه إذا رأى عروساً تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره وكان إذا رأى إنساناً يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه ويقال «الكنود» الذي يمنع وفده ويجمع أهله ويضرب عبده ويأكل وحده ولا يعبأ للنائرة في قومه أي المصيبة ، وقال الحسن : الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم ، ويقال الكنود الذي لا خير فيه ، ويقال : الأرض التي غلب عليها السبخة ولا يخرج منها البذر أرض كنود .
قوله تعالى { وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } يعني : الله تعالى حفيظ على صنعه عالم به { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ } يعني : الإنسان على جمع المال حريص وقال القتبي معناه إنه لحب المال لبخيل والشدة البخل ها هنا وقال الزجاج معناه أنه من أجل حب المال لبخيل وهذا موافق لما قال القتبي ثم قال عز وجل { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القبور } يعني : أفلا يعلم هذا البخيل إذا بعث الناس من قبورهم وعرضوا على الله تعالى بعثر يعني : أخرج { وَحُصّلَ مَا فِى الصدور } يعني : بين ما في القلوب من الخير والشر { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } يعني : عالم بهم وبأعمالهم وبنيَّاتهم ومن أطاعه في الدنيا ومن عصاه فيها وفي الآية دليل أن الثواب يستوجب على قدر النية ويجري به لأنه قال عز وجل ( وحصل ما في الصدور ) يعني : يحصل له من الثواب بقدر ما كان في قلبه من النية إن نوى بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة يحصل له الثواب على قدره والله أعلم .
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
قوله تعالى { القارعة * مَا القارعة } يعني : القيامة والساعة ما الساعة وهذا من أسماء يوم القيامة مثل الحاقة والطامة والصاخة ، وإنما سميت القارعة لأنها تنزع القلوب بالأهوال ويقال سماها قارعة لثلاثة : لأنها تقرع في أذن العبد بما علم وسمعه والثاني تقرع أركان العبد بعضه في بعض والثالث تقرع القلوب كما تقرع القصار الثوب ثم قال عز وجل { وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة } تعظيماً لشدتها ثم وصفها فقال { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } يعني : كالجراد كالفراش يجول بعضهم في بعض كما قال في آية أخرى { خُشَّعاً أبصارهم يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] ويقال شبههم بالفراش لأنهم يلقون أنفسهم في النار كما يلقي الفراش نفسه في النار { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } يعني : كالصوف المندوف وهي تمر مَرَّ السحاب { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه } يعني : رجحت حسناته على سيئاته ويقال ثقلت موازينه بالعمل الصالح بالصلاة والزكاة وغيرها من العبادات { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } يعني : في عيش مرضي يعني : في الجنة لا موت فيها ولا فقر ولا مرض ولا خوف ولا جنون يعني : آمن من كل خوف وفقر { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه } يعني : رجحت سيئاته على حسناته يعني : الكافر ويقال من خفت موازينه يعني : لا يكون له عمل صالح { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } يعني : مصيره إلى النار قال قتادة هي أمهم ومأواهم وإنما سميت الهاوية لأن الكافر إذا طرح فيها يهوي على هامته وإنما سميت أمه لأنه مصيره إليها ومسكنه فيها ثم وصفها فقال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } تعظيماً لشدتها ثم أخبر عنها فقال { نَارٌ حَامِيَةٌ } يعني : حارة قد انتهى حرها وأصله ما هي فأدخلت الهاء للوقف كقوله { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] وأصله كتابي قرأ حمزة والكسائي وما أدراك ما هي بغير هاء في الوصل وبالهاء عند الوقف وقرأ الباقون بإثباتها في الوصل والوقف والله تعالى أعلم بالصواب .
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قوله تعالى { ألهاكم التكاثر } قال الكلبي نزلت في حَيَّيْن من العرب أحدهما بنو عبد مناف والآخر بنو سهم تفاخرا في الكثرة فكثرتهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم إنا البغي والقتال قد أهلكنا فقد أحيانا وأحياكم وأمواتنا وأمواتكم ففعلوا فكثرتهم بنو سهم فنزل ( أَلْهَاكُمُ التكاثر ) يعني : شغلكم وأذهلكم التفاخر { حتى زُرْتُمُ المقابر } يعني : أتيتم وذكرتم وعددتم أهل المقابر يعني : حتى يدرككم الموت على تلك الحال وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { ألهاكم التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر } ثم قال يقول بني آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فَأَفْنَيْتَ أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ويقال معناه أغفلكم التفاخر والتكاثر عن الهاوية والنار الحامية حتى زرتم المقابر يعني : عددتم مَنْ في المقابر ثم قال { كَلاَّ } وهو رد على صنيعكم ويقال ( كلا ) معناه أي لاَ تَدَعون الفخر بالأحساب حتى زرتم المقابر وقال الزجاج كلا ردع لهم وتنبيه يعني : ليس الأمر الذي أن يكون عليه التكاثر والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة الله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } إذا نزل بكم الموت ويقال ( كلا سوف تعلمون ) إن سئلتم في القبر ثم قال { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } بعد الموت حين نزل بكم العذاب لأن الأحساب لا تنفعكم قوله تعالى { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ } قال بعضهم معناه لا لا تؤمنون بالوعيد وقد تم الكلام ثم استأنف فقال { عِلْمَ اليقين } يعني : لو تعلمون ما القيامة باليقين لألهاكم عن ذلك ويقال هذا موصول به كلا لو تعلمون يقول حقاً لو علمتم علم اليقين بأن المال والحسب والفخر لا ينفعكم يوم القيامة ما افتخرتم بالمال والعدد والحسب ثم قال عز وجل { لَتَرَوُنَّ الجحيم } قرأ ابن عامر والكسائي { لَتَرَوُنَّ } بضم التاء والباقون بالنصب فمن قرأ بالضم فهو على فعل ما لم يسم فاعله ونصب الجحيم على أنه مفعول به ثان ، ومن قرأ بالنصب فعلى فعل المخاطبة ونصب الجحيم لأنه مفعول يعني : لترون الجحيم يوم القيامة عياناً { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } يعني : يدخلونها عياناً لا شك فيه { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } يعني : ولتسألن يوم القيامة عن النعيم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أكل خبزاً يابساً وشرب الماء من الفرات فقد أصاب النعيم وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو الأمن والصحة وروى حماد بن سلمة عن أبيه عمار بن أبي عمار عن جابر أنه قال جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمناهم رطباً وأسقيناهم الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ » وروى صالح بن محمد عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال إن أبا بكر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلة أكلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز وشعير وبسر مذنب وماء عذب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّمَا ذلك لِلكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ ثَلاَثَةٌ لا يَسْأَلُ الله تَعالَى عَنْهَا العَبْدَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا يُوارِي عَوْرَتَهُ وَمَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبُهُ وَمَا يَكُفُّهُ عَنِ الحَرِّ والقُرِّ وَهُوَ مَسْؤُولٌ بَعْدَ ذلك عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ » وروى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « مَا أَنْعَمَ الله تَعَالَى عَلَى العَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ صَغِيرَةٍ أوْ كَبِيرَةٍ فَيَقُولُ عَلَيْهَا الحَمْدُ لله إِلاَّ أَعْطَاهُ الله تَعَالى خَيْراً مِمَّا أَخَذَ » والله أعلم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ قَرَأَ سُورَةِ التَّكَاثُر لَمْ يُحَاسِبْهُ الله تَعَالَى بِالنَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ القُرْآنْ » .
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قوله تعالى { والعصر } قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني : الدهر وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يعني : صلاة الصعر وذلك أن أبا بكر لما أسلم قالوا : خَسِرْتَ يا أبا بكر حين تركت دين أبيك ، فقال أبو بكر : ليس الخسارة في قبول الحق إنما الخسارة في عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية ( والعصر ) . أقسم الله تعالى بصلاة العصر { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } يعني : أن الكافر لفي خسارة وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال «إن الإنسان لفي خسر» يعني : الناس كلهم ثم استثنى فقال عز وجل { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فإنهم غير منقوصين قال القتبي الخسر النقصان إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير منقوص كما قال الله تعالى ( ثم رددناه أسفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) يعني : يكتب لهم ثواب عملهم وإن ضعفوا عن العمل قال الزجاج إن الإنسان أراد به الناس والخسران واحد ومعناه إن الإنسان الكافر والعاملين بغير طاعة الله تعالى لفي خسر وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ والعصر ونوايب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفي لعنة إلى آخر الدهر ويقال أقسم الله تعالى بخالق الدهر إن الإنسان لفي خسر يعني : أبا جهل والوليد بن المغيرة ومن كان في مثل حالهما ثم استثنى المؤمنين فقال : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } يعني : تحاثوا على القرآن يعني : يُرَغِّبون في الإيمان بالقرآن والأعمال الصالحة { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } يعني : تحاثوا على الصبر على عبادة الله تعالى وعلى الشدائد فيرغبون الناس على ذلك ويقال بالصبر على المكاره فإن الجنة حفت بالمكاره والله تعالى أعلم بالصواب .
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قوله تعالى : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } يعني : الشدة من العذاب . ويقال : { وَيْلٌ } واد في جهنم ، { َلِكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } قال أبو العالية : يعني : يهمزه في وجهه ، ويلمزه من خلفه . وقال مجاهد : الهمزة اللعان ، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس . وقال ابن عباس : الهمزة واللمزة ، الذي يفرق بين الناس بالنميمة . والآية نزلت في الأخنس بن شريق . ويقال : الذي يسخر من الناس ، فيشير بعينه وبحاجبيه ، وبشفتيه إليه . وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطعن في وجهه . ويقال : نزلت في جميع المغتابين .
ثم قال عز وجل : { الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } يعني : استعبد بماله ، الخدم والحيوان ، وعدّده أي : حسبه وأحصاه . قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي { الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . فمن قرأ بالتشديد ، فهو للمبالغة كثر الجمع ، ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه { جُمِع مَالاً وَعَدَّدَهُ } أي : قوماً أعدهم نصاراً . قوله عز وجل : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } يعني : يظن أن ماله الذي جمع ، أخلده في الدنيا ، ويمنعه من الموت . ومن قرأ بالتخفيف ، فلا يموت حتى يفنى ماله .
يقول الله تعالى : { كَلاَّ } لا يخلده ماله أبداً ، وولده . ثم استأنف فقال عز وجل : { لَيُنبَذَنَّ فِى الحطمة } يعني : ليطرحن ، وليقذفن في الحطمة ، والحطمة اسم من أسماء النار . ثم قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة } تعظيماً لشدتها . ثم وصفها فقال : { نَارُ الله الموقدة } يعني : المستعرة ، تحطم العظام ، وتأكل اللحم ، فلهذا سميت الحطمة { التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } يعني : تأكل اللحم ، حتى تبلغ أفئدتهم . وقال القتبي : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } أي : تشرف على الأفئدة ، وخص الأفئدة ، لأن الألم إذا وصل إلى الفؤاد ، مات صاحبه . فأخبر أنهم في حال من يموت ، وهم لا يموتون ، كما قال الله تعالى : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ويقال : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } يعني : تأكل الناس ، حتى تبلغ الأفئدة فإذا بلغت ابتدأ خلقه ، ولا تحرق القلب ، لأن القلب إذا احترق ، لا يجد الألم ، فيكون القلب على حاله .
ثم قال : { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } يعني : مطبقة على الكافرين { فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } يعني : طبقها مشدود إلى العمد . وقال الزجاج : معناه العذاب مطبق عليهم في عمد ، أي : عمد من النار . وقال الضحاك : مؤصدة أي : حائط لا باب فيه . وروي عن الأعمش ، أنه كان يقرأ { عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } ممدودة يعني : أطبقت الأبواب ، ثم شددت بالأوتاد من حديد ، من نار حتى يرجع إليهم غمها وحرها ، فلا يفتح لهم باب ، ولا يدخل عليهم روح ، ولا يخرج منها غم إلى الأبد . قرأ حمزة والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، في عُمد ممدودة بضم العين والميم . وقرأ الباقون بالنصب ، ومعناهما واحد ، وهو جمع العماد . والله أعلم بالصواب .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } يعني : ألم تخبر بالقرآن . ويقال : ألم تر ، يعني : ألم يبلغك الخبر . ويقال : اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإخبار ، يعني : اعلم واعتبر بصنيع ربك { كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } يعني : كيف عذب ربك { بأصحاب الفيل } وكان بدء أصحاب الفيل ، ما ذكرناه في سورة البروج ، أن زرعة قتل المسلمين بالنار ، فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة ، وأخبره بذلك . فبعق ملك الحبشة جيشاً إلى أرض اليمن ، فأمَّر عليهم أرياطاً ، ومعه في جنده أبرهة الأشرم ، فركب البحر بمن معه ، حتى أتوا ساحلاً ، مما يلي أرض اليمن ، فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفاً من الحبشة ، وهزم جنود زرعة ، وألقى زرعة نفسه في الماء ، فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه .
ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة ، وكان من أصحابه ، ممن وجّهه معه النجاشي إلى اليمن وخالفه أبرهة وتفرق الجند في أرض اليمن ، وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم . ثم خرجوا للقتال ، فلما تقارب الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، أرسل أبرهة إلى أرياط ، أن لا تصنع شيئاً ، بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض ، حتى تفنيها . فأبرز لي وأبرز لك ، فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده ، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج ، فخرج إليه أبرهة ، وكان رجلاً قصيراً ، وخرج إليه أرياط وكان رجلاً طويلاً عظيماً ، في يده حربة ، وخلف أبرهة عبداً يقال له عنودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء ، فلما دنا أحدهما من صاحبه ، رفع أرياط الحربة ، فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخة ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة ، فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه . فلذلك سمي أبرهة الأشرم ، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة ، فقتل أرياط ، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن .
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة ، فلما بلغه ذلك ، غضب غضباً شديداً . وقال : عدا على أميري ، فقتله بغير أمري . ثم حلف أن لا يدع أبرهة ، حتى يطأ بلاده ، ويجز ناصيته . فلما بلغ ذلك أبرهة ، حلق رأسه ، وملأ جراباً من تراب أرض اليمن . ثم بعث إلى النجاشي ، وكتب إليه ، أيها الملك : إنما كان أرياط عبدُك ، وأنا عبدك ، واختلفنا في أمرك ، وكل طاعة لك . إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه ، وأضبط له ، وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك ، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ، ليضعه تحت قدميه ، فيبر قسمه . فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه ، أن أثبت بأرض اليمن ، حتى يأتيك أمري .
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط : حكمك يعني : أحكم عليّ بما شئت ، فقال : حكمي أن لا تدخل عروس من نساء أهل اليمن على زوجها ، حتى أصيبها قبله .
قال : ذلك لك . فأقام أبرهة باليمن ، وغلامه عنودة يصنع باليمن ما كان أعطاه في حكمه . ثم عدل عليه رجل من حمير ، أو من خَثْعم فقلته ، فلما بلغ أبرهة قتله ، وكان أبرهة رجلاً حليماً ، ودعا في دينه من النصرانية . فقال : قد آن لكم يا أهل اليمن ، أن يكون منكم رجل حازم ، يأنف مما يأنف منه الرجال ، إني والله لو علمت حين حكمته ، أنه يسأل من الذي سأل ما حكمته ، وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل ، ولا قود .
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة ، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم ، ولا في أرض الشام . ثم كتب إلى النجاشي الأكبر ، ملك الحبشة ، أني قد بنيت لك كنيسة ، لم يكن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب ، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي ، خرج رجل من بني كنانة من الحمس ، حتى قدم اليمن ، فدخل الكنيسة ، فنظر فيها ، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة ، فوجد تلك العذرة فيها فقال : من اجترأ عليّ بهذا ، فقال له أصحابه : أيها الملك ، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب . فقال : أعليّ اجْتَرأ بهذا . ثم قال بالنصرانية : لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه ، حتى لا يحجه حاج أبداً . فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج .
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش ، خرجوا إلى أرض النجاشي ، فأوقدوا ناراً ، فلما رجعوا ، تركوا النار في يوم ريح عاصف ، حتى وقعت النار في الكنيسة ، فأحرقتها . فعزم أبرهة ، وهو خليفة النجاشي . أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة ، وينقل أحجارها إلى اليمن ، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه . وروي في رواية أُخرى ، أن رجلاً من أهل مكة ، خرج إلى اليمن ، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة ، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب . فبناها أبرهة مرة أخرى ، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة ، لكي يتحول الحج إلى كنيسته ، فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه ، بعث رجلاً من بني سليم ، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه ، فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة ، فقتله .
فازداد أبرهة بذلك غضباً ، وحث على المسير والانطلاق ، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم ، يقال له ذو يفن . فدعا القوم ، وأحبابه من سائر العرب ، إلى حرب أبرهة ، وصده عن بيت الله ، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه ، وأخذوا ذا يفن ، وأتى به أسيراً . فلما أراد قتله قال : أيها الملك ، لا تقتلني ، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي ، فتركه وحبسه عنده في وثاقه . ثم مضى على وجهه ذلك ، حتى إذا كان بأرض خشعم ، عرض له فقيل ابن حبيب الخشعي ، فقاتله فهزمه ، وأخذ أسيراً .
فلما أتي به ، وهم بقتله فقال : أيها الملك لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، فتركه وخلى سبيله ، وخرج به معه يدله على أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث ، التقى في رجال من ثقيف فقالوا : أيها الملك إنما نحن عبيدك ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا الذي تريد ، يعنون اللات والعزى ، وليست بالتي يحج إليه العرب ، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة ، فنحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبارغال ، فخرج يهديهم الطريق ، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة ، فمات أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس .
ثم إن قريشاً لما علموا ، أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم ، لم يبق بمكة أحد ، إلا خرج إلى الشعاب والجبال ، ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه ، أقام على حجابة البيت ، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول : اللهم إن المرء يمنع رحله ، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم ، فأمر ما بدا لك . ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على جمل له ، حتى انتهى إلى مكة ، وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها . فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب ، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها . ثم بعثت أبرهة رجلاً من أهل حمير إلى مكة ، وقال أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم . ثم قال له : إن الملك يقول لك ، إني لم آت لأخرجكم ، وإنما جئت لأهدم هذا البيت ، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم .
فلما دخل الرسول مكة ، جاء إلى عبد المطلب ، وأدى إليه الرسالة ، فقال له عبد المطلب : ما نريد حربه ، وما لنا بنيه ، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن ، وكان صديقاً له ، فجاءه وهو في مجلسه فقال له : هل عندك من عناء بما نزل بنا ، فقال له ذو يفن : ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله ، عدواً أو مشياً ألا إن صاحب الفيل صديق لي ، فأرسل إليه فأوصيه لك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه أنت بما بدا لك . فقال حسبي ففعل ذلك ، فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه ، فأعجبه كلامه .
ثم قال لترجمانه : قل له ما حاجتك ، قال عبد المطلب : حاجتي إليك ، أن ترد إلي مائتي بعير لي ، فلما قال ذلك ، قال له أبرهة : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم إني رجوت . يعني : كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه . لا تكلمني فيه . قال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه .
فقال : ما كان يمنع مني ، قال : أنت وذلك فرد عليه الإبل ، فانصرف عبد المطلب إلى قريش ، وأخبرهم الخبر ، وأمر بالخروج لمن بقي من أهل مكة إلى الجبال ، وفي بطون الشعاب .
ثم إن عبد المطلب ، أخذ بحلقتي باب الكعبة ، وقال : اللهم إن المرء يمنع رحله ، وذكر كلمات في ذلك . ثم أرسل حلقتي الباب ، وانطلق ومن معه إلى الجبال ، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة . فلما أصبح أبرهة ، تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وجيشه ، وكان اسم الفيل محموداً ، وكنيته أبو العباس . وكتبه أبو البكشوم ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي ، حتى جاء إلى جنب الفيل . ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محموداً ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك والله في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه فاضطجع ، فضربه ليقوم فأبى ، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة ، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر ، أمثال الخطاطيف . مع كل طير منها ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمصة والعدسة ، لا تصيب أحداً منهم إلا هلك .
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ، ويتساءلون عن نفل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق ، فخرج نفيل يشتد ، حتى صعد الجبل ، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، فأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة ، كلما سقطت منه أنملة ، خرجت منه مدة قيح ودم ، حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات ، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن .
وروي في الخبر ، أنه أول ما وقعت الحصبة ، والجدري بأرض العرب ذلك العام . وقال بعضهم : كان أمر أصحاب الفيل ، قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، بثلاث وعشرين سنة . وقال بعضهم : كان ذلك في عام مولده عليه السلام . وروي عن قبس بن مخرمة أنه قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل . فنزل قوله { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل } يعني : كيف عاقب ربك أصحاب الفيل ، بالحجارة ، حين أرادوا هدم الكعبة .
قال تعالى : { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ } يعني : في خسارة . ويقال : معناه ألم يجعل صنيعهم في أباطيل { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } يعني : متتابعاً بعضها على أثر بعض ، أرسل عليهم الله طيوراً بيضاً صغاراً . وقال عبيد بن عمير : أرسل عليهم طيراً بلقا من البحر ، كأنها الخطاطيف . وروى عطاء عن ابن عباس قال : طيراً سوداً ، جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً . ثم قال { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } قال سعيد بن جبير ، الحجارة أمثال الحمصة .
وروي عن ابن عباس قال : رأيت عند أم هانىء من تلك الحجارة ، مثل بعر الغنم ، مخططة بحمرة .
وروى إسرائيل ، عن جابر بن أسباط قال : طيراً كأنها رجال الهند ، جاءت من قبل البحر ، تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها ، أكبرها كمبارك الإبل ، وأصغرها كرؤوس الإنسان { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } يعني : من طين خلط بالحجارة ، ويقال : طين مطبوخ كما يطبخ الآجُرْ . وذكر مقاتل ، عن عكرمة قال : هي طير جاءت من قبل البحر ، لها رؤوس كرؤوس السباع ، لم تر قبل يومئذ ولا بعده ، فجعلت ترميهم بالحجارة ، فتجدر جلودهم . وكان أول يوم رأى فيه الجدري . ويقال : مكتوب في كل حجر اسم الرجل ، واسم أبيه ، ولا يصيب الرجل شيء ، إلا نفذه فيها وقع على رأس رجل ، إلا خرج من دبره ، وما وقعت على جانبه ، إلا خرجت من الجانب الآخر .
وقال وهب بن منبه { حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } قال بالفارسية سنك وكل يعني : حجارة وطين . وروى موسى بن بشار عن عكرمة { حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } قال : سنك وكل . ثم قال عز وجل : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } يعني : كزرع بالٍ ، فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه ، كما سلط على النمرود بعوضة ، فأكلت من دماغه أربعين يوماً ، فمات من ذلك . والله أعلم بالصواب .
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله تعالى : { لإيلاف قُرَيْشٍ * إيلافهم } قرأ ابن عامر لإلاف قريش ، بغير ياء بعد الهمزة ، والباقون بياء قبلها همزة ، ومعناهما واحد ، وهذا موصول بما قبله . يعني : أن الله تعالى ، أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، يعني : لتقر قريش بالحرم ، ويجاورون البيت . فقال عز وجل : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } لإيلاف قريش يعني : فعل ذلك ، ليؤلف قريشاً بهاتين الرحلتين ، اللتين بهما عيشهم ومقامهم بمكة . وقال أهل اللغة : ألفت موضع كذا ، أي : لزمته وألفينه الله . كما يقال : لزمته موضع كذا ، ألزمنيه الله . وكرر لإيلاف على معنى التأكيد ، كما يقال : أعطيتك المال لصيانة وجهك ، وصيانتك عن جميع الناس .
وقال مجاهد : لئلاف قريش ، يعني : لنعمتي على قريش ، وقال سعيد بن جبير ، أذكر نعمتي على قريش ، ويقال : معناه لا يشق عليهم التوحيد ، كما لا يشق عليهم { رِحْلَةَ الشتاء والصيف } قال مقاتل وذلك أن قريشاً ، كانوا تجاراً ، وكانوا يمتارون في الشتاء من الأردن وفلسطين ، لأن ساحل البحر كان أدناها ، فإذا كان الصيف تركوا طريق الشام ، وأخذوا طريق اليمن ، فشق ذلك عليهم ، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة ، حتى حملوا الطعام في السفن إلى مكة للبيع ، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم على مسيرة ليلة ، ويشترون فكفاهم الله تعالى مؤونة الشتاء والصيف .
{ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت } لأن رب هذا البيت ، كفاهم مؤونة الخوف والجوع ، فليألفوا العبادة ، كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف وقال الزجاج : كانوا يترحلون في الشتاء إلى الشام ، وفي الصيف إلى اليمن . وهذا موافق لما قال مقاتل : وقال السدي في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، وهكذا قال القتبي . وروي عن أبي العالية ، أنه قال : كانوا لا يقيمون بمكة صيفاً ولا شتاءً ، فأمرهم الله تعالى بالمقام عند البيت ، في العبادة .
ويقال معناه : قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم حتى يجتمعوا على الإيمان والتوحيد ، وعبادة رب هذا البيت ، كاجتماعهم على رحلة الشتاء والصيف { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت } يعني : سيد وخالق هذا البيت ، الذي صنع هذا الإحسان إليكم ، حتى يكرمكم في الآخرة ، كما أكرمكم في الدنيا { الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } يعني : أشبعهم بعد الجوع الذي أصابهم ، حتى جهدوا { الذى أَطْعَمَهُم مّن } يعني : من خوف الجهد ، والعدو والغارة . وقال السدي { وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ } يعني : من خوف الجذام ، والله تعالى أعلم بالصواب .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قوله تعالى : { أَرَءيْتَ الذى يُكَذّبُ بالدين } قرأ الكسائي ، { أَرَأَيْتَ } بغير ألف . وقرأ نافع بالألف بغير همزة ، والباقون بالألف والهمزة ، { أَرَأَيْتَ } . وهذه كلها لغات العرب ، واللغة المعروفة بالألف والهمزة ، ومعناه ألا ترى يا محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكافر الذي يكذب بالدين يعني : بيوم القيامة . وقال : معناه ما تقول يا محمد في هذا الكافر ، الذي يكذب بيوم القيامة ، فكيف يكون حاله يوم القيامة . وقال قتادة : نزلت في وهب بن عايل ، وقال جعدة بن هبيرة : نزلت في العاص بن وائل ، ويقال : هذا تهديد لجميع الكفار .
ثم قال عز وجل : { فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم } يعني : يدفع اليتيم عن حقه ، ويقال : يمنع اليتيم حقه ويظلمه { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } يعني : لا يحث على طعام المسكين ، ويقال : لا يطعم المسكين . ثم قال عز وجل : { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ } يعني : للمنافقين { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } يعني : لاهين عنها حتى يذهب وقتها . { الذين هُمْ } الناس بالصلاة ، ولا يريدون بها وجه الله تعالى ، حتى إذا رأوا الناس صلوا ، وإذا لم يروا الناس لم يصلوا .
قوله تعالى : { يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون } قال مقاتل : يمنعون الزكاة ، والماعون بلغة الحبش المال . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : يراؤون بصلاتهم ، ويمنعون الزكاة . ويقال : الماعون يعني : المعروف كله ، الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم . وعن أبي عبيد قال : سألت عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه عن الماعون ، قال : الماعون ما يتعاطاه الناس فيما بينهم ، مثل الفأس والقدوم والقدر والدلو ونحو ذلك . وروى وكيع ، عن سالم بن عبد الله . قال : سمعت عكرمة يقول : الماعون : الفأس ، والقدوم ، والقدر ، والدلو . قلت : من منع هذا فله الويل . قال من راءى بصلاة وسها عنها ، ومنع هذا فله الويل . وقال القتبي : الماعون الزكاة ، ويقال : الماعون هو الماء والكلأ . وروي عن الفراء أنه قال : هو المال ، والله تعالى أعلم بالصواب .
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } يعني الخير الكثير لفضيلة القرآن ، ويقال العلم ، وقال القتبي أحسبه «فَوْعَلَ» من الكثرة والخير الكثير ، وقال مقاتل : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } أراد به نهراً في الجنة طينه مسك أزفد ورضراضه اللؤلؤ أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، وروى عطاء بن السائب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، تربته أطيب من المسك وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ فَإِذَا بِنَهْرٍ حَافَتَاهُ مِنَ اللُؤْلُؤْ المُجَوَّفِ يَعْنِي الخِيَامَ قُلْتُ مَا هذا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ : هذا الكَوثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ " . ثُمَّ قال عز وجل { فَصَلّ لِرَبّكَ } يعني صلّ لله الصلوات الخمس { وانحر } قال بعضهم : انحر نفسك يعني اجتهد في الطاعة ، وقال بعضهم : انحر يعني : استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم : وانحر يعني : البدنة يعني : اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم ، انحر يعني : استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم : وانحر يعني : البدنة يعني : اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم ، وقال بعضهم : صل صلاة العيد يوم العيد وانحر البدنة ثم قال عز وجل : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابتر } يعني : مبغضك وهو «العاص بن وائل السهمي» هو الأبتر يعني : الأبتر من الخير وذلك أن العاص بن وائل السهمي كان يقول لأصحابه : هذا الأبتر الذي لا عقب له . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم لذلك فنزل إن شانئك هو الأبتر وأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ستذكر معي إذا ذكرت فرفع الله ذكره في كل مواطن ويقال : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } بأن يستوي بين السجدتين حتى يبدي نحره فخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع الأمة كما قال : { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } وأراد به هو وأصحابه ، وروي عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } قال يعني : ضع اليمين على الشمال في الصلاة { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابتر } في ماله وولده وأهله والبتر : في اللغة الاستئصال والقطع وقال قتادة الأبتر الحقير الرقيق الذليل .
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الكافرون } وذلك أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن يَسُرّك بأن نتبعك عاماً ونترك ديننا ونتبع دينك وترجع إلى ديننا عاماً . فنزلت هذه السورة وقال مقاتل : نزلت في المستهزئين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وجرى على لسانه ما جرى فقال أبو جهل أخزاه الله لا يفارقنا إلا على أحد أمرين ندخل معك في بعض ما تعبد وتدخل معنا في بعض ديننا أو نتبرأ من آلهتنا وتتبرأ من إلهك فنزلت هذه السورة ، وقال الكلبي : إنهم أتوا العباس فقالوا له : لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول وآمنا به فنزل { قُلْ ياأيها الكافرون } ، ويقال إنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا له : إن ابن أخيك يؤذينا ونحن لا نؤذيه بحرمتك فدعاه أبو طالب وذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّما أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ » فقال ما هي؟ قال : « لاَ إله إلاَّ الله » فنفروا عن هذه الكلمة فنزلت { قُلْ ياأيها الكافرون } يعني : قل يا محمد لأهل مكة { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } يعني : { لاَ أَعْبُدُ } بعد هذا { مَا تَعْبُدُونَ } أنتم من الأوثان ولا أرجع إلى دينكم { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } يعني : لا تعبدون أنتم بعد هذا الرب الذي أعبده أنا حتى ترون ما يستقبلكم غداً وهذا كقوله عز وجل : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِى الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا } [ الكهف : 29 ] قوله تعالى : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } يعني : لست أنا في الحال عابداً لأصنامكم وما كنت عابداً لها قبل هذا لأني علمت مضرة عبادتها { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } يعني : لستم عابدين في الحال لجهلكم وغفلتكم وقلة عقلكم . ثم قال عز وجل : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } يعني : قد أكملت عليكم الحجة فليس عليّ أن أجبركم على الإسلام فاثبتوا على دينكم حتى تروا ماذا يستقبلكم غداً وأنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله تعالى به ولا أرجع إلى دينكم أبداً وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية القتال ، فيها دليل أن الرجل إذا رأى منكراً أو سمع قولاً منكراً فأنكره فلم يقبلوا منه لا يجب عليه أكثر من ذلك وإنما عليه أن يحفظ مذهبه وطريقه ويتركهم على مذهبهم وطريقهم . وقال الحسن سمعت شيخاً يحدث قال : بينما أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلاً يقرأ { قُلْ ياأيها الكافرون } فقال : « أَمَّا هذا فَقَدْ بَرِىء مِنَ الشِّرْكِ » وسمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الصمد : 1 ] فقال : « أَمَّا هذا فَقَدْ غَفَرَ الله تَعَالَى لَهُ » والله أعلم .
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
قوله تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله } وروى عبد الملك بن سليمان قال : سمعت سعيد بن جبير يقول كان أناس من المهاجرين قد وجدوا عمر وفي إدنائه ابن عباس رضي الله عنهما دونهم وكان يسأله فقال عمر : أما إني سأريكم منه اليوم ما تعرفون به فضله فسأله عن هذه السورة { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } قال بعضهم : أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً أن يحمده ويستغفره فقال لابن عباس تكلم ، فقال أعلمه الله متى يموت فقال : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } فهي آيتك من الموت { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } ، قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فاستبشروا فسمع بذلك ابن عباس فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال نعيت نفسك فقال : « صَدَقْتَ » فعاش بعد هذه السورة سنتين . وروى أبو عبيد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : « سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبِحَمِدكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي » وقال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل وتوفي بعد أيام . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } يعني إذا أتاك نصر من الله تعالى على الأعداء من قريش وغيرهم ، { والفتح } يعني : فتح مكة والطائف وغيرها { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أفواجا } يعني : جماعة جماعة وقبيلة قبيلة ، وكان قبل ذلك يدخلون واحداً واحداً فدخلوا فوجاً فوجاً فإذا رأيت ذلك فاعلم أنك ميت فاستعد للموت بكثرة التسبيح والاستغفار فذلك قوله : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } يعني : سبحه ، ويقال : يعني : سبح صل لربك { واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوبَا } يعني : مسبحاً وذلك لمن تاب .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } يعني : خسر أبو لهب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } [ الشعراء : 214 ] صعد على الصفا ونادى فاجتمعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ وَأَدْعُوهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إله إلاَّ الله ، فَقُولُوا أَشْهَدْ لَكُمْ بِهَا عِنْدَ رَبِّي " فأنكروا ذلك فقال أبو لهب : تباً لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا ، وروي في خبر آخر أنه اتخذ طعاماً ودعاهم ثم قال : " أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَأَطِيعُوا تَهْتَدُوا " فقال أبو لهب : تبّاً لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا فنزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } يعني : خسرت يدا أبي لهب عن التوحيد { وَتَبَّ } يعني : وقد خسر ويقال : إنما ذكر اليد وأراد به هو وقال مقاتل : تبت يدا أبي لهب وتب يعني : خسر نفسه وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه «عبد العزى» ولهذا ذكره بالكنية ولم يذكر اسمه لأن اسمه كان منسوباً إلى صنم وقال بعضهم : كنيته كان اسمه ثم قال عز وجل : { مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ } يعني : ما نفعه ماله في الآخرة إذ كفر في الدنيا { وَمَا كَسَبَ } يعني : ما ينفعه ولده في الآخرة إذا كفر في الدنيا والكسب أراد به الولد لأن ولد الرجل من كسبه ثم قال عز وجل : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } يعني : يدخل في النار ذات لهب يعني ذات شعل ثم قال عز وجل : { وامرأته } يعني : امرأته تدخل النار معه { حَمَّالَةَ الحطب } قرأ عاصم حمالة الحطب بنصب الهاء ويكون على معنى الذم والشين ومعناه أعني حمالة الحطب والباقون بالضم على معنى الابتداء وحمالة الحطب جعل نعتاً لها فقال : { حَمَّالَةَ الحطب } يعني : حمالة الخطايا والذنوب . ويقال : { حَمَّالَةَ الحطب } يعني : تمشي بالنميمة فسمى النميمة حطباً لأنه يلقي بني القوم العداوة والبغضاء وكانت تمشي بالنميمة في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقال : كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالليل من بغضها لهم حتى بلغ النبي عليه السلام شدة وعناء فحملت ذات ليلة حزمة شوك لكي تطرحها في طريقهم فوضعتها على جدار وشدتها بحبل من ليف على صدرها فأتاها جبريل عليه السلام ومده خلف الجدار وخنقها حتى ماتت فذلك قوله : { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } أي من ليف وقال أكثر أهل التفسير { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } يعني : في الآخرة في عنقها سلسلة من حديد وتحتها نار وفوقها نار ، وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب فقال أبو بكر رضي الله عنه لو تنحَّيْتَ يا رسول الله فإنها امرأة بذية فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« سَيُحَال بَيْنِي وَبَيْنَهَا » فدخلت فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه هجاناً صاحبك فقال والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله قالت إنك لمصدق فاندفعت راجعة فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما رأتك فقال : « لَمْ يَزَلْ بَيْنِي وَبَيْنَها مَلَكٌ يَسْتُرُنِي عَنْهَا حَتَّى رَجِعَتْ » . وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي يزيد بن زيد قال لما نزلت هذه السورة قيل لامرأة أبي لهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هجاك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الخلاء وقالت يا محمد صلى الله عليه وسلم على ماذا تهجوني فقال : « أَمَا وَلله مَا أَنَا هَجَوْتُكِ مَا هَجَاكِ إلاَّ الله عَزَّ وَجَلَّ » قالت هل رأيتني أحمل الحطب أو رأيت في جيدي حبلها من مسد؟ وقال مجاهد : { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } مثل حديد البكرة ، وقال غيره يعني عروة سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً والله أعلم .
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } وذلك أن قريشاً قالوا له صِفْ لنا ربَّك الذي تعبده وتدعونا إليه ما هو؟ فأنزل الله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } يعني : قل يا محمد للكفار إني ربي الذي أعبده { هُوَ الله أَحَدٌ } يعني فرد لا نظير له ولا شبيه له ولا شريك له ولا معين له ثم قال عز وجل : { الله الصمد } يعني : الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب ، وقال السدي وعكرمة ومجاهد { الصمد } الذي لا جوف له ، وعن قتادة قال كان إبليس لعنه الله ينظر إلى آدم عليه السلام ودخل في فيه وخرج من دبره يعني حين كان صلصالاً فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الصمد الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ويتضرعون إليه عند مسألتهم وقال أبو وايل { الصمد } السيد الذي انتهى سؤدده وكذلك قال سعيد بن جبير وقال الحسن البصري رضي الله عنه { الصمد } الدائم ، وقال قتادة { الصمد } الباقي ويقال الكافي وقال محمد بن كعب القرظي { الصمد } الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويقال : { الصمد } التام في سؤدده وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : { الصمد } الذي لا يخاف من فوقه ولا يرجو من تحته ويُصْمَد إليه في الحوائج ثم قال عز وجل { لَمْ يَلِدْ } يعني : لم يكن له ولد يرث ملكه . { وَلَمْ يُولَدْ } يعني : لم يكن له والد يرث عنه ملكه { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } يعني : لم يكن له نظير ولا شريك فينازعه في عظمته وملكه وقال مقاتل : إن مشركي العرب قالوا إن الملائكة كذا وكذا وقالت اليهود والنصارى في عزير والمسيح ما قالت فكذبهم الله تعالى وأبرأ نفسه مما قالوا فقال : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ، قرأ عاصم في رواية حفص كفواً بغير همزة وقرأ حمزة بسكوت الفاء مهموزاً والباقون بضم الفاء مهموزاً بهمزة وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } بعد صلاة الفجر إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذٍ ولو اجتهد الشيطان .
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَيَعْجَزُ أَحَدُكُم أَنْ يَقْرَأ القُرآنَ فِي لَيْلَةٍ؟ » فقيل يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال : « أَنْ يَقْرَأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ثَلاَثَ مَرَاتٍ » وروي عن ابن شهاب عن الزهري رضي الله عنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ » والله أعلم .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } يعني : قل يا محمد أعتصم وأستعيذ وأستعين بخالق الخلق ، والفلق الخلق وأنما سمي الخلق فلقاً لأنهم فُلِقُوا من آبائهم وأمهاتهم ويقال : { أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } يعني : بخالق الصبح ، ويقال : فالق الحب والنوى قال الله تعالى : { إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحى ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ } [ أنعام : 95 ] وقال { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] ويقال الفلق واد في جهنم ، ويقال : جب في النار .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الفَلَقُ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ فَإِنْ أَرَادَ الله أَنْ يُعَذِّبَ الكَافِرَ بِأَشَدِّ العَذَابِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا » . وروي عن كعب الأحبار أنه دخل في بعض الكنائس التي للروم فقال : أخسر عمل وأضلُّ قوم قد رضيت لكم بالفلق فقيل له ما الفلق يا كعب؟ قال : بئر في النار إذا فتح بابها صاح جميع أهل النار من شدة عذابها .
ثم قال عز وجل : { مِن شَرّ مَا خَلَقَ } قال الجن والإنس وقال الكلبي من شر ما خلق يعني : من شر ذي شر . ثم قال عز وجل : { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } يعني : ظلمة الليل إذا دخل سواد الليل في ضوء النهار ويقال : { إِذَا وَقَبَ } يعني : إذا جاء وأدبر وقال القتبي : { الغاسق } الليل والغسق الظلمة ويقال : الغاسق القمر إذا انكسف واسودّ { وَإِذَا وَقَبَ } يعني : إذا دخل في الكسوف .
ثم قال تعالى : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } يعني : الساحرات المهيجات اللواتي ينفثن في العقد ثم قال عز وجل : { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } يعني كل ذي حسد أراد به لبيد بن أعصم اليهودي ويقال لبيد بن عاصم . وروى الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود عقد له عقداً فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : إن رجلاً من اليهود سحرك فبعث عليّاً رضي الله عنه واستخرجها فحلّها فجعل كلما حل عقدة وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك خفة حتى حلها كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال فما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لليهود .
وروي في خبر آخر أن لبيد بن أعصم اتخذ لعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ من عائشة رضي الله عنها فأفحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل في اللعبة أحد عشرة عقدة ثم ألقاها في بئر ، وألقى فوقها صخرة فاشتكى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواً شديداً فصارت أعضاؤه مثل العقد فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان أحدهما جلس عند رأسه والآخر عند قدميه فالذي عند قدميه يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر قال : من فعل به؟ قال لبيد بن أعصم اليهودي قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا قال : ماذا رأوه يبعث إلى تلك البئر فنزح ماؤها فإنه انتهى إلى الصخرة فإذا رأها فليقلعها فإن تحتها كؤبة وهي كؤبة قد سقطت عنقها وفيه إحدى عشرة عقدة فيحرق في النار فيبرأ إن شاء الله تعالى فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا فبعث عمار بن ياسر وعلياً رضي الله عنهما إلى تلك البئر في رهط من أصحابه فوجدوها كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم فنزلت هاتان السورتان وهي إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية حل منها عقدة حتى انحلت كلها ثم أحرقها بالنار فبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس } ما سأل منها سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها قط وهذه الآية دليل أن الرقية جائزة إن كانت بذكر الله تعالى وبكتابه والله أعلم بالصواب .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس } يقول أستعيذ بالله وخالق الناس ويقال : أستعيذ بالله الذي هو رازق الخلق ، ثم قال عز وجل : { مَلِكِ الناس } يعني : خالق الناس ومالكهم وله نفاذ الأمر والملك فيهم ، ثم قال عز وجل : { إله الناس } يعني : خالق الناس ومعطيهم ومانعهم { مِن شَرّ الوسواس } يعني من شر الوسواس يعني من شر الشيطان ، لأني لا أستطيع أن أحفظ نفسي من شره لأنه يجري في نفس الإنسان مجرى الدم ولا يراه بشر والله تعالى قادر على حفظي من شره ومن وسوسته .
ثم وصف الشيطان فقال : { الخناس } قال مجاهد : هو منبسط على قلب الإنسان إذا ذكر الله خنس وانقبض فإذا عقل انبسط على قلبه ويقال له : خنوس كخنوس القنفذ { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس } يعني : يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس ويوسوس لهم ويقال : { الناس } في هذا الموضع يصلح للجن والإنس فإذا أراد به الجن فمعناه : يوسوس في صدور المؤمنين الذين هم جن { يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس } يعني : الذين هم من بني آدم ويقال : { الناس } معطوف على الوسواس ومعناه : { مِن شَرّ الوسواس } { وَمِن شَرّ الوسواس الخناس } كما قال في آية أخرى { شياطين الإنس والجن } وقال مقاتل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له جبريل عليه السلام ألا أخبرك يا محمد صلى الله عليه وسلم بأفضل ما يتعوذ به؟ قلت : « وَمَا هُوَ؟ » قال المعوذتان .
وروى علقمة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا تَعَوَّذَ المُعَوِّذُونَ بِمِثْلِ المَعُوذَتَيْنِ » . وروي عن الحسن البصري في قوله تعالى : { مِنَ الجنة والناس } قال إن من الناس شياطين فتعوذوا بالله من الشياطين يعني : شياطين الجن والإنس ، وقال هما شيطانان فأما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فإنه علانية وروى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر أسأله عن المعوذتين أهما من كتاب الله تعالى؟ قال : من لم يزعم أنهما من كتاب الله تعالى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ( والله أعلم وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وإمام المتقين ورسول رب العالمين ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين وأهل طاعتك أجمعين . ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، حسبنا الله ونعم الوكيل .