كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم .
ثم قال تعالى : { وَهُوَ الذى مَدَّ } يعني : إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشي النهار الليل لأن في الكلام دليلاً عليه . وقد بيّن في آية أخرى { خَلَقَ السماوات والارض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار } [ الزمر : 5 ] فكذلك هاهنا معناه يغشي النهار الليل ويغشي الليل النهار . يعني : إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار .
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { يُغْشِى } بتشديد الشين ونصب الغين . وقرأ الباقون بجزم الغين مع التخفيف ، وهما لغتان غَشَّى ويُغَشِّي وأَغْشَى يُغْشِي بقوله { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي : سريعاً في طلبه أبداً ما دامت الدنيا باقية . ثم قال : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } أي جاريات مذللات لبني آدم بأمره .
قرأ ابن عامر { والشمس والقمر والنجوم } كلها بالضم على معنى الابتداء . وقرأ الباقون بالنصب . ومعناه خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ثم قال : { أَلاَ لَهُ الخلق والامر } ألا كلمة التنبيه ، يعني : اعلموا أن الخلق لله تعالى ، وهو الذي خلق الأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه . قال سفيان بن عيينة : الخلق هو الخلق والأمر هو القرآن وهو كلام الله ، وليس بمخلوق ، ولا هو بائن منه ، وتصديقه قوله : { ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } [ الطلاق : 5 ] ويقال : الأمر هو القضاء ، ثم قال { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني : تعالى الله عما يقول الظالمون ، ويقال تبارك الله تفاعل من البركة أي : ذو البركة يعني : أن البركة كلها من الله تعالى . والبركة فيما يذكر عليه اسم الله رب العالمين . أي : سيد الخلق أجمعين فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم بأن يدعوه فقال :
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قال الكلبي : يعني في الأحوال كلها . يعني : ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها . ويقال خفية يعني : اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } يعني : أن يدعوا بما لا يحل أو يدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر . ثم قال : { وَلاَ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبياً فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها ، وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها ، ويقال : { لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أي لا تجوروا في الأرض فتخرب الأرض لأن الأرض قامت بالعدل ، ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعات { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } يعني اعبدوه خوفاً وطمعاً أي : خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته : ويقال : ادعوه في حال الخوف والضيق ، ويقال : خوفاً عن قطيعته ورجاء إلى الغاية .
ثم قال : { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ولم يقل قريبة . قال بعضهم : لأن القريب والبعيد يصلحان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث . كما قال : { يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] وقال : { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } [ هود : 83 ] وقال بعضهم : تفسير الرحمة هاهنا المطر . فذكر بلفظ المذكر ، وقال بعضهم إن رحمة الله قريب . يعني الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى . ومعناه : المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون .
ثم قال { وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً بَيْن يَدَي رحْمَتِهِ } أي قدام المطر .
قرأ حمزة والكسائي الريح بلفظ الوحدان . وقرأ الباقون الرياح بلفظ الجماعة . واختار أبو عبيد أن كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما كان فيه ذكر العذاب فهو ريح . واحتج بما روي عن النبيِّ عليه السلام : أنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذا هَبَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِياحاً وَلا تَجْعَلْها رِيحاً »
وقرأ ابن عامر نُشْراً بضم النون وجزم الشين .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع نُشُراً بضمتين .
وقرأ حمزة والكسائي نشراً بنصب النون وجزم الشين .
وقرأ عاصم بشراً بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى { وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الروم : 46 ] .
ومن قرأ نَشْراً بالنون والنصب فيكون معناه { يرسل الرياح } تَنْشُر السحاب نَشْراً ، ومن قرأ بالضمتين يكون جمع نشور ، يقال : ريح نشور ، أي تنشر السحاب ورياح نُشُر ، ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف .
ثم قال : { حَتَّى إذا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } من الماء ، والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحاباً ثقالاً { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } يعني : السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ } يعني : بالمكان .
ويقال : بالسَّحاب { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي نخرج بالماء من الأرض الثمرات { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي يقول : هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر . وذكر في الخبر أنه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين يوماً مثل مَني الرجال فتشرب الأرض ، فتنبت الأجساد بذلك الماء ، ثم ينفخ في الصور ، فإذا هم قيام ينظرون . وفي هذه الآية إثبات القياس وهو ردّ المختلف إلى المتفق ، لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض . فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها . ثم قال : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن . ثم ضرب مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال :
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بَإِذْنِ رَبِّهِ } يعني : المكان العذب الزّكي اللين من الأرض اللينة يخرج نباته إذا أمطرت فينتفع به ، كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر الأرض الطيبة .
{ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً } يعني : الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء ، فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا ينتفع بها ، ولا يتكلم بالإيمان ، ولا يعمل بالطاعة إلا كرهاً لغير وجه الله .
ثم قال : { كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي هكذا نبيّن الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحّده .
قوله عز وجل : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ } يعني : بعثنا نوحاً إلى قومه بالرسالة فأتاهم ، ويقال : معناه جعلنا نوحاً رسولاً إلى قومه . { فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي وحّدوا الله ، { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } أي ليس لكم رب سواه .
قرأ الكسائي { إله غَيْرِه } بكسر الراء .
وقرأ الباقون { غَيرُهُ } بالضم . فمن قرأ بكسر الراء فلأجل مِنْ وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعاً له . ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت من مؤكدة .
ثم قال : { إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهو الغرق ف { قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ } وهم الرؤساء والأجلة والأشراف ، سموا بذلك لأنهم ملِئوا بما يحتاج إليه منهم ، ويقال : لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع . قالوا : { إِنَّا لَنَراكَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ } يعني : في خطأ بَيِّنٍ . { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وفي الآية بيان أدب الخلق في حسن الجواب والمخاطبة . لأنه ردّ جهلهم بأحسن الجواب ، وهذا كما قال الله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] يعني : السداد من القول .
ثم قال : { أُبلِّغُكُمْ رِسَالاَت رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ } أي أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب . وقال أهل اللغة : أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد ، كما يقال : شكرت لك وشكرتك ثم قال : { وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك ، وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوّفوا أمتهم بعذاب الأمم السابقة ، كما قال شعيب لقومه : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم . فقال لهم نوح : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } من العذاب الذي ينزل بكم . فقالت الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح فقال : { أَوَ عَجِبْتُمْ أنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } يعني : ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حسبه ونسبه { لينذركم } بالنار ولتتقوا الشرك .
قال بعضهم : «هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام . ومعناه { لينذركم } لكي تتقوا . وقال بعضهم هذه واو العطف أي : جاءكم رسول لكي ينذركم .
{ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يعني : لكي تنجوا من العذاب . قرأ أبو عمرو أبلغكم بجزم الباء والتخفيف . وقرأ الباقون أُبَلّغكم بالتشديد فيكون فيه معنى المبالغة . قوله : { فَكَذَّبُوهُ } أي نوحاً { فَأنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } يعني : الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة ، والفلك اسم لواحد والجماعة يعني : أنجينا المؤمنين من الغرق { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ } عن نزول العذاب . ويقال { عمين } عن الحق يعني : جعلوا أمره باطلاً .
وقد بيّن الله قصته في سورة هود .
قوله عز وجل :
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{ وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } يعني : أرسلنا إلى عاد نبيهم هوداً عطفاً على قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم . لم يكن هود أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم . قال السدي : كانت عاد قوماً من أهل اليمن فأتاهم هود ، فدعاهم إلى الإيمان ، وذكّرهم ، ووعظهم فكذبوه . ويقال : عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه . ويقال : اسم القرية { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي وحّدوه { مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وقد ذكرناه { أَفَلا تَتَّقُونَ } عن الشرك و { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } وقد ذكرناه { إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } أي جهالة { وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } بأنك رسول الله { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } جهالة { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ ربِّ الْعَالَمِينَ } إليكم { أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ } يعني : كنت فيكم قبل اليوم أميناً فكيف تتّهموني اليوم .
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ } يعني : الرسالة والبيان { على رجل منكم } تعرفون نسبه { لِيُنْذِرَكُمْ } بالعذاب { وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي جعلكم خلفاء في الأرض بعد هلاك قوم نوح { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أي : فضيلة في الطول على غيركم . والخلفاء والخلائف جمع الخليفة .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسْطة بالسين .
وقرأ حمزة بإشمام الزاي .
وقرأ الباقون بالصاد . قال ابن عباس رضي الله عنهما كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً . وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال : كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعاً وأقصرهم ثمانون ذراعاً . وقال مقاتل عن قتادة : كان طول كل رجل منهم اثني عشر ذراعاً فذلك قوله { التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد } [ الفجر : 8 ] ويقال : كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام . وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل ، وكان إدريس نبياً ولم يؤمر بدعوة الخلق ، ويقال : أنزل عليه عشرون صحيفة ، وقد آمن به كثير من الناس ، وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال : ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة . وكان بين موسى وعيسى ألف سنة . وبين عيسى ومحمد عليه السلام خمسمائة سنة . وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه ، أنذرهم بالعذاب ، وقال : إن الله تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها ، فاستهزؤوا به وقالوا : أي ريح يقدر علينا ، فأمر الله تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم ، كما قال في آية أخرى { واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ الذاريات : 41 ] فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد .
كما قال { تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم كَذَلِكَ نَجْزِى القوم المجرمين } [ الأحقاف : 25 ] وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم الله تعالى ، قال لهم : { فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ } أي : اشكروا نعمة الله قال بعضهم : الآلاء إيصال النعم ، والنعماء دفع البلية . وقال بعضهم على ضد هذا ، وقال أكثر المفسرين : الآلاء والنعماء بمعنى واحد { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } يعني : لكي تنجوا من البلايا ومن عذابه .
قوله تعالى : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ } قالوا : يا هود أتأمرنا أن نعبد رباً واحداً { وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاونَا } أي نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا . قال لهم هود عليه السلام : إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب . قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب أي : بما تخوفنا { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أنك لرسول الله { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي : وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم { أَتجَادِلُونَنِي فِي أسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وآبَاوكُمْ } أي : تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن يثبت لكم من الله حجة ، وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم ، وسميتموها آلهة { مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } يقول : ليس لكم علة وعذر وحجة بعبادة الأصنام . { فَانْتَظِرُوا } الهلاك { إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرينَ } يعني : لنزول العذاب بكم ، لأنهم أرادوا إهلاكه قبل أن يهلكوا .
قال الله تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا } يعني : بنعمة منا عليهم { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : قطع أصلهم واستأصلهم { وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } يعني : أن الذين أهلكهم الله تعالى كلهم كانوا كافرين .
قوله تعالى :
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } يعني : أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحاً قال بعضهم : ثمود اسم القرية . وقال بعضهم : ثمود اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل . ويقال : كانت بئراً بين الشام والحجاز . ويقال : هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحِجر كما قال في آية أُخرى { وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين } [ الحجر : 80 ] وقال بعضهم : كان في تلك القرية أهل تسعمائة بيت . وقال بعضهم : ألف وخمسمائة ، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عبد لهم ، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله تعالى . فقالوا له : إن كنت نبياً فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عَشَرَاء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فتحركت الصخرة وانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولداً وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة . فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم ، وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منها دوابهم . وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء . فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوماً للناقة ، ويوماً لأهل القرية ، فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم ، وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون . فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح : لا تفعلوا فإنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن وهر فأصابت السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قدار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى { إِذِ انبعث أشقاها } [ الشمس : 12 ] فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية .
وروي عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال : لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلاً وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي؟ فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام . فقالوا : وما العلامة في ذلك؟ فقال : أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة ، وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة . ثم خرج صالح من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل يقول بعضهم لبعض : قد اصفر وجهك ، وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض : قد احمر وجهك ، وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض : قد اسود وجهك . فأيقنوا جميعاً الهلاك . فجاء جبريل عليه السلام وصاح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم ، ويقال : قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله تعالى : { قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا الله } أي : وحدوا الله { ما لكم من إله غيره } قد ذكرناه { قَدْ جَاءَتكُمْ بَيِّنَةً مِنْ رَبِّكُمْ } يقول : قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال الله تعالى : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أي علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحّدوا الله ربكم { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله } يقول : دعوها ترتع في أرض الحجر { وَلا تَمَسُّوها بِسوءٍ } يقول : لا تعقروها { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهو ما عذبوا به .
قوله عز وجل : { وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ } أي : بعد هلاك عاد { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ } يعني : أنزلكم في أرض الحجر { تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف ، وقد اتخذوا بيوتاً في الجبل لأيام الشتاء ، فذكرهم نعمة الله تعالى . فقال : اذكروا هذه النعم حيث وفقكم الله حتى اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال .
{ فَآذْكُرُوا آلاَءَ الله } أي نعم الله عليكم { وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : لا تعملوا في الأرض بالمعاصي .
قوله عز وجل : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعفُوا } قرأ ابن عامر وقَالَ الْمَلأُ بالواو . وقرأ الباقون بغير واو أي قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة للذين استضعفوا { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بصالح { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ } يعني : أتصدقون صالحاً بأنه مرسل من ربه إليكم { قَالُوا } يعني : المؤمنين { إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي : مصدقون به { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي : من رسالة صالح { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته . ثم التوحيد ويقال : فيه تقديم . ومعناه عتَوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت . { وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : بما تخوفنا به من العذاب { إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } يعني : إن كنت رسول رب العالمين { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الزلزلة ويقال : صيحة جبريل كما قال في آية أُخرى { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 83 ] ويقال : أخذتهم الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة . ويقال : النار { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهُمْ جَاثِمِينَ } أي : صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين ، لا يتحركون وأصله من الجثوم . ويقال : أصابهم العذاب بكرةً يوم الأحد { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } فيه تقديم وتأخير أي : حين كذبوه خرج من بين أظهرهم { وَقَالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم العذاب { وَلَكِن لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } أي : لا تطيعون الداعين . ويقال : إنما قال ذلك بعد إهلاكهم . قال على وجه الحزن . إني قد أبلغتكم الرسالة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله تعالى لم يهلك قوماً ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم . وقال في رواية الكلبي : لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين ، فسكنوا ديارهم . وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه الله تعالى .
قوله عز وجل :
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يعني : وأرسلنا لوطاً إلى قومه . ويقال : معناه واذكروا لوطاً إذ قال لقومه { أَتَأْتُونَ الفاحشة } يعني : اللواطة { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } يعني : لم يعمل بمثل عملكم { مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } قبلكم { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مّن دُونِ النساء } أي : تجامعون الرجال من دون النساء يعني : إن إتيان الرجال أشهى إليكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو آيِنَّكُمْ بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع إنَّكُمْ بهمزة واحدة بغير مد . وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام .
ثم قال : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي : متعدون من الحلال إلى الحرام { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ } وإنما صار جواب نصباً لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده { إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يعني : يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا { فأنجيناه وَأَهْلَهُ } يعني : ابنتيه زعوراء وريثا { إِلاَّ امرأته } وهي واعلة { كَانَتْ مِنَ الغابرين } يعني : من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } يعني : الحجارة ويقال : أمطر بالعذاب ومطر بالرحمة . ويقال : أمطر ومطر بمعنى واحد { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } أي : كيف كان آخر أمرهم ، وقد بيّن قصته في سورة هود . وقال مجاهد : لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء ، وبكل قطرة في الأرض ، ما زال نجساً إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حَدِّه . قال بعضهم : هو كالزاني فإن كان محصناً يرجم وإن كان غير محصن يجلد . وروي عن الشعبي أنه قال : يرجم في الأحوال كلها محصناً كان أو غير محصن . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي برجل قد عمل بذلك العمل ، فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوساً ثم يتبع بالحجارة ، لأن الله تعالى ذكر قتلهم بالحجارة .
وهو قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } أي : حجارة وقال بعضهم : يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله .
ثم قال تعالى :
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{ وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } يعني : أرسلنا إلى مدين نبيّهم شعيباً ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن ، تزوج ريثاء ابنة لوط ، فولدت آل مدين ، فتوالدوا وكثروا ، ثم صار هو اسماً للمدينة ، فسميت المدينة مدين ، وسمي أولئك القوم مدين . فكفروا بالله تعالى ونقصوا المكيال والميزان في البيع ، وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيباً . وقال الضحاك كان شعيب أفضلهم نسباً ، وأصدقهم حديثاً ، وأحسنهم وجهاً ، ويقال : إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره فصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى و { قَالَ يَا قَوْمٌ اعبدوا الله } أي وحّدوه وأطيعوه { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } قال بعضهم : مجيء شعيب النبي عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره أن الله تعالى واحد . وقال بعضهم : كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته ، إلا أن الله تعالى لم يبيّن لنا علامته ، وقد بيّن علامة بعض الأنبياء ، ولم يبيّن علامة الجميع .
ثم قال : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } أي أتموا الكيل والميزان بالعدل { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض بَعْدَ إصلاحها } يعني : لا تعملوا في الأرض المعاصي بعد ما بيّن الله تعالى طريق الحق وأمركم بالطاعة { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني : وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض إن كنتم مصدقين بما حرم الله تعالى عليكم .
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } أي لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يقول : تمنعون الناس عن دين الإسلام { مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } يقول : تريدون بملة الإسلام زيغاً وغيراً . وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ } قال : بكل سبيل حتى تصدوا أهلها عنها { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } قال وتلتمسون بها الزيغ . ويقال معناه : لا تقعدوا على كل طريق تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب عليه السلام .
ثم قال : { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } أي كنتم قليلاً في العدد فكثَّر عددكم . ويقال : كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم { وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل ، يعني : الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح .
ثم قال : { وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ } يعني : إن كان جماعة منكم صدقوا بي { وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } بي أي لم يصدقوا { فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } يعني : حتى تنظروا عاقبة المؤمنين أفضل أم عاقبة الكافرين .
فذلك قوله : { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } يعني : حتى يقضي الله بين المؤمنين وبين الكافرين { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } أي أعدل العادلين .
{ قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } يعني : الأشراف والرؤساء تعظموا عن الإيمان من قومه { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي لتدخلنا في ديننا الذي نحن عليه . ويقال : هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم { قَالَ } لهم شعيب { أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين } يعني : أتجبروننا على ذلك؟ قالوا : نعم قال لهم شعيب : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } يقول : قد اختلقنا على الله كذباً إن دخلنا في دينكم { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } يقول : إن الله تعالى أكرمنا بالإسلام وأنقذنا من ملّتكم . يقال : معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها . ويقال : أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر فأنقذنا وأبعدنا من ملتكم . { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } يعني : ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء الله { رَبَّنَا } دخولنا فيها وأن ينزع المعرفة من قلوبنا . ويقال : معناه وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها . ويقال : معناه إلا أن يشاء الله يعني : لا يشاء الله الكفر مثل قولك . لا أكلمك حتى يبيض القار ، وحتى يشيب الغراب ، وهذا طريق المعتزلة .
ثم قال : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } يعني : علم ما يكون منا ومن الخلق { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } أي فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب * شُعَيْبٌ } { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } أي اقض بيننا وبين قومنا بالعدل . وروى قتادة عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما معنى قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعال أفاتحك يعني : أخاصمك . وقال القتبي : الفتح أن تفتح شيئاً مغلقاً كقوله : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] وسمي القضاء فتحاً لأن القضاء فصل للأمور وفتح لما أشكل منها { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } يعني : خير الفاصلين .
قوله تعالى : { وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لاِنْ اتبعتم شُعَيْبًا } أي لأن أطعتم شعيباً في دينه { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } يعني : جاهلون . فلما وعظهم شعيب ، ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم .
فلم يصدقوه . فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني : أهل القرية حر شديد ، فخرجوا من القرية ، ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال الله تعالى في آية أُخرى { كَذَّبَ أصحاب لْأيْكَةِ المرسلين } [ الشعراء : 176 ] فأرسل الله تعالى ناراً فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس . ويقال : أصابتهم زلزلة فخرجوا ، فأتتهم نار فأحرقتهم ، وذلك قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يعني : الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } يعني : صاروا ميتين .
قوله تعالى : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يعني : كأن لم يكونوا فيها قط وقال قتادة : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يعني : كأن لم يتنعموا فيها . ويقال : معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكن هناك أحد يعني : لم يعيشوا . ويقال : كأن لم يعمروا .
ثم قال : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين } يعني : المغبونين في العقوبة ، يعني : إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون . فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا منهم .
قوله تعالى : { فتولى عَنْهُمْ } يعني : أعرض عنهم حين خرج من بين أظهرهم { وَقَالَ يأَ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى } في نزول العذاب { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } وقد ذكرناه { فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين } أي كيف أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا .
قوله تعالى :
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا } ففي الآية مضمر ومعناه : وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها { بالبأساء والضراء } يعني : عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر . ويقال : البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم ، والضراء ما يصيبهم في أنفسهم { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } يعني : لكي يتضرعوا ، فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه . ومعناه : لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم .
قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } يعني : حولنا مكان الشدة الرخاء ، ومكان الجدوبة الخصب ، { حتى عَفَواْ } أي كثروا ، واستغنوا ، وكثرت أموالهم فلم يشكروا الله تعالى . ويقال : حتى عفوا أي حتى سروا به { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } أي مثل ما أصابنا مرة يكون الرخاء ، ومرة يكون الشدة ، { فَأَخَذَتْهُمُ بَغْتَةً } أي فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به . ويقال : إن الشدة للعامة تكون تنبيهاً وزجراً . والنعمة تكون استدراجاً وأما النعمة للخاصة فهي تنبيه ، لأنه بعد ذلك عقوبة . كما روي أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل مرحباً بشعار الصالحين . وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل ذنب عجلت عقوبته
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا } يعني : وحّدوا الله تعالى واتقوا الشرك { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض } يعني : أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض { ولكن كَذَّبُواْ } الرسل { فأخذناهم } أي عاقبناهم { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الشرك . ففي الآية دليل على أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكراً . وتكون عقوبة له إذا لم يكن شاكراً . لأنه قال في آية أخرى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] يعني : الغنى يكون وبالاً لمن لا يشكر الله تعالى وعقوبة له .
ثم قال تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } أي ينزل عليهم عذابنا ليلاً { وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } فتحت الواو لأنها واو العطف ، أدخلت عليها ألف الاستفهام . وكذلك أفأمن لأنها فاء العطف دخلت عليها ألف الاستفهام . قرأ نافع وابن كثير أو أمن بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } يعني : يأتيهم عذابنا نهاراً { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يعني : لاهون عنه .
ثم قال تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } يعني : عذاب الله { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله } يعني : عذاب الله { إِلاَّ القوم الخاسرون } أي المغبونون بالعقوبة .
قوله تعالى :
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{ أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارض } يعني : أو لم يبيّن . قال القتبي : أصل الهدى الإرشاد كقوله : { عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى } يعني : يرشدني . ثم يصير الإرشاد لمعان منها إرشاد بيان مثل قوله { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ } يعني : أو لم يبين لهم . ومنها إرشادٌ بمعنى بالدعاء كقوله : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] يعني : نبياً يدعوهم وقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكواة وَكَانُواْ لَنَا عابدين } [ الأنبياء : 73 ] أي يدعون الخلق . وقرأ بعضهم أو لم نهد بالنون يعني : أو لم نبين لهم الطريق . ومن قرأ بالياء معناه : أو لم يبين الله للذين يرثون الأرض من بعد أهلها يعني : ينزلون الأرض { مِن بَعْدِ } هلاك { أَهْلِهَا } . ويقول أو نبيّن لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر مبعودهم على نصرتهم . { أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } يعني : أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب .
ثم قال : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } يعني : نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } الحق ولا يقبلون المواعظ .
ثم قال عز وجل : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها ، نخبرك في القرآن من حديثها { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني : بالعلامات الواضحة ، والبراهين القاطعة ، التي لو اعتبروا بها لاهتدوا . { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } يعني : إنّ أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية . وقال مجاهد : فما كانوا ليؤمنوا بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون } [ الأنعام : 28 ] وقال السدي : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي يوم الميثاق فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به . وهو قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } [ الأعراف : 172 ] ثم في الدنيا ما وجدناهم على ذلك الإقرار . ويقال : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم . { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } يعني : هكذا يختم الله تعالى { على قُلُوبِ الكافرين } مجازاة لكفرهم . قوله تعالى : { وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } مِنْ زيادة للصلة يعني : ما وجدنا لأكثرهم وفاءً فيما أمروا به يعني : الذين كذبوا من الأمم الخالية .
ويقال : { مَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } لأنهم أقروا يوم الميثاق ، ثم نقضوا العهد حيث كفروا . ويقال : { مَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } أي قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل .
ثم قال : { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين } يعني : وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد ، تاركين لما أمروا به .
قوله تعالى { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى } يعني : أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة . ويقال : ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران { بئاياتنا } يعني : اليد البيضاء والعصا { إلى فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر واسمه الوليد بن مصعب . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى عليهما السلام . فبعث الله تعالى إليه موسى ليأخذ عليه الحجة . وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين . وقالوا هو كان غيره ، وكان جباراً ، ظهر بمصر واستولى عليها ، وأرسل الله تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ } يعني : جنوده وأتباعه { فَظَلَمُواْ بِهَا } يعني : فجحدوا بالآيات { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } يعني : كيف صار آخر أمر المشركين . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون ، ففزع منها فرعون ، فشاب رأسه ، فاستحيا فخضب بالسواد ، فأول من خضب بالسواد فرعون . قال ابن عباس : كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى ، وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فتخرج النبات ، فلما دخل عليه مع هارون { وَقَالَ } له { موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين } إليك قال له فرعون : كذبت . قال موسى : { حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } قرأ نافع حقيق علي بالتشديد . وقرأ الباقون بتخفيف على . فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول ، أي : واجب أن أترك القول على الله إلا الحق . ومن قرأ بالتشديد معناه : واجب علي ترك القول على الله إلا الحق . أي لا أقول على الله إلا الحق فلما كذبوه قال : إني لا أقول بغير حجة وبرهان { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ } يعني : قد جئتكم بعلامة لنبوتي { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } ولا تستعبدهم ، لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم في الأعمال سخرة ف { قَالَ } له فرعون : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ } أي بعلامة لنبوتك { فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } بأنك رسول الله { فَأُلْقِىَ } موسى { عصاه } يعني : ألقى موسى عصاه من يده { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وهي أعظم الحيات ، ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء الشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون ، ففتحت فاها نحو فرعون ، وكان فرعون على سريره فوثب فرعون عن سريره ، وهرب منها ، وهرب الناس ، وصاحوا إلى موسى ، ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها ، فإذا هي عصا بيضاء بيده كما كانت ، وجعل الناس يضحكون مما يصنع موسى .
ومعنى قوله : { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } يعني : أنها حية تسعى لا لبس فيها . فقال له فرعون : هل معك غير هذا؟ فقال : نعم { وَنَزَعَ يَدَهُ } يعني : أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِى تِسْعِ ءايات إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } [ النمل : 12 ] يعني : من غير برص { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } يعني : لها شعاع غلب على نور الشمس . ومعنى قوله : { للناظرين } يعني : يتعجب ويتحير منها الناظرون . ويقال : إن البياض من غير برص . لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص ، فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه من غير سوء . ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت .
{ قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } يعني : الأشراف والرؤساء . قال مقاتل : إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه كما قال في سورة الشعراء : { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } [ الشعراء : 34 ] يعني : حاذق بالسحر .
ثم قال لقومه : { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } تصديقاً لقوله : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } بسحره يعني : من أرض مصر . فقال لهم فرعون : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } يعني : أي فماذا تشيرون في أمره؟ ويقال : إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون؟ أي ماذا ترون في أمره { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } يعني : احبسهما ولا تقتلهما . وأصله في اللغة التأخير أي أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما . فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس أنهما صادقان . فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذٍ . فذلك قوله : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ } أي : ابعث { فِى المدائن حاشرين } يعني : الشرط يحشرون الناس إليكم أي : { يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } أي : حاذق بالسحر قرأ ابن كثير أرجئهو بالهمزة والواو بعد الهاء . وقرأ الكسائي أرجهي إلا أنه بكسر الهاء ولا يتبع الياء . وقرأ أبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر في إحدى الروايتين أرجئه بالهمز بغير مد والضمة . وهذه اللغات كلها مروية عن العرب . وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكل سَحَّار عليم على وجه المبالغة في السحر . وقرأ الباقون بكل ساحر وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء .
قوله تعالى : { وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا } يعني : قالوا لفرعون أتعطينا جعلاً ومالاً { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } لموسى { قَالَ } لهم فرعون { نِعْمَ } لكم الجعل { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } يعني : لكم المنزلة به سوى العطية يعني : إنكم تكونون أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو آينَّ لنا لأجْراً بمد الألف .
وقرأ عاصم في رواية حفص إن بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ الباقون بهمزتين وقرأ ابن كثير ونافع إنَّ لَنَا بهمزة واحدة بغير ياء . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي أإن لنا بهمزتين فلما اجتمع السحرة وغدوا للخروج يوماً وأعلن الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرهم كما قال في آية أخرى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] أي : يوم عيد كان لهم ويقال : يوم النيروز . فلما اجتمعت السحرة { قَالُواْ يأَبَانَا *** موسى إَمَامًا *** أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } يعني : إما أن تطرح عصاك على الأرض وإما أن نكون نحن الملقين قبلك . { قَالَ } لهم موسى { أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } يعني : السحرة ألقوا الحبال والعصي { سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } أي أخذوا أعينهم بالسحر { واسترهبوهم } يعني : طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس . قال الكلبي : كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلاً . وقال بعضهم : كانوا اثنين وسبعين حبلاً . وروى أسباط عن السدي قال : قال ابن عباس كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً . وقال محمد بن إسحاق : كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا : وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات ، لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد ، فلما طلعت عليه الشمس صارت شبيهاً بالحيات فنظر موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات ، فدخل فيه الخوف ، ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات . فذلك قوله : { واسترهبوهم } يعني : أفزعوهم وأخافوهم { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } يعني : بسحر تام . ويقال : { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } يعني : بقول عظيم حيث قالوا { فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ] ويقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } حيث قالوا : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون . قال الله تعالى :
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{ وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } يعني : اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عصاه من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم { فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } يعني : تلتقم وتأكل جميع ما جاؤوا به من الكذب والسحر . قرأ عاصم في رواية حفص تَلْقَفْ بجزم اللام والتخفيف . وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف ، ومعناهما واحد .
ثم إن الحية قصدت إلى فرعون ، فنادى موسى فأخذها ، فإذا هي عصا على حالها فنظرت السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت { فَوَقَعَ الحق } أي استبان الحق وظهر أنه ليس بسحر { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من السحر أي : ذهب وهلك واضمحل { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي وغَلَب موسى السحرة عند ذلك { وانقلبوا صاغرين } يعني : رجعوا ذليلين .
قالوا : لو كان هذا سحراً فأين صارت حبالنا وعصينا . ولو كانت سحراً لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من الله تعالى وليس بسحر . فآمنوا بموسى . قوله تعالى : { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } يعني : خروا ساجدين لله تعالى . قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا . ويقال : وفّقهم الله تعالى للسجود { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } فقال لهم فرعون : إياي تعنون . فأراد أن يلبس على قومه فقالوا : { رَبّ موسى وهارون } فقدم فرعون لما سألهم ، لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم رب العالمين أنهم أرادوا به فرعون . فلما سألهم فرعون وقالوا : برب موسى وهارون ، ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون ، وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ } يعني : صدقتم بموسى { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } يعني : قبل أن آمركم بالإيمان بموسى . قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر آمنتم . وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاماً . إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة بغير مد على وجه الخبر .
{ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } يعني : صنعاً صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } يعني : إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم .
ثم قال لهم : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : تعلمون ماذا أفعل بكم { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } يعني : اليد اليمنى والرجل اليسرى { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } على شاطىء نهر مصر { قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } أي : لا نبالي من عقوبتك وفعلك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة .
قال تعالى : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } يعني : وما تعيب علينا ، وما تنكر منا إلا إيماننا بالله تعالى . ويقال : وما نقمتك علينا ولم يكن منا ذنب { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا لَمَّا جَاءتْنَا } يعني : لما ظهر عندنا أنه حق .
ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } يعني : أنزل علينا صبراً عند القطع والصلب ، ومعناه : ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفاراً { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } على دين موسى . وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال : كانت السحرة أول النهار كفاراً فجرة ، وآخر النهار شهداء بررة . وقال بعض الحكماء : إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة فكيف بالذي أقر وسجد خمسين سنة كيف لا يرجو رحمته ومغفرته؟ .
قوله تعالى { وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض } يعني : إن السحرة قد آمنوا به فلو تركتهما يؤمن بهما جميع أهل مصر ، فيفسدوا في الأرض يعني : موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } وذلك أن فرعون كان قد جعل لقومه أصناماً يعبدونها ، وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار ، وأنا ربكم الأعلى . فذلك قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } يعني : يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها . وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } يعني : عبادتك وتعبدك . قال ابن عباس : كان فرعون يُعْبد ولا يَعْبُد . ويقال : معنى قوله : { أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض } يعني : يغلبوا عليكم ، ويقتلون أبناءكم ، ويستحيون نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أُخرى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذرونى أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارض الفساد } [ غافر : 26 ] فقال لهم فرعون : { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ } لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء ، فأمرهم أن يرجعوا إلى ذلك الفعل . قرأ ابن كثير ونافع { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ } بجزم القاف والتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل .
ثم قال : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } أي : مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى :
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله } يعني : سلوا الله التوفيق { واصبروا } يعني : اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم الفرج { إِنَّ الارض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } يعني : أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف . وهما لغتان ورّث وأوْرَث بمعنى واحد .
ثم قال : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } أي الذين يعملون في طاعة الله تعالى على نور من الله مخافة عقاب الله ورجاء ثواب الله تعالى ، أي آخر الأمر لهم . وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد . فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مِنْ مُحَمَّد رَسُولِ الله إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ . أمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ »
قوله تعالى : { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } يعني : إن قوم موسى قالوا لموسى : إنهم قد عذبوا قبل أن تأتينا بالرسالة { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون ، وكان آل فرعون لا يعرفون شيئاً من الأعمال ، وكان بنو إسرائيل حذاقاً في الأشياء والأعمال ، فكانوا يأمرونهم بالعمل ولا يعطونهم الأجر . { فَقَالَ } لهم موسى { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } يعني : فرعون وقومه { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض } أي : يجعلكم سكاناً في أرض مصر من بعد هلاكهم يعني : من بعد هلاك فرعون وقومه { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } يعني : يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة ، فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة ، لأنه قد وعد لهم بقوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } [ القصص : 5 ] .
ويقال : فينظر كيف تعملون من بعده يعني : من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } أي : بالجوع والقحط { وَنَقْصٍ مّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي يتعظون ويؤمنون فلم يتعظوا . قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } يعني : الخير والخصب والرخاء { قَالُواْ لَنَا هذه } يعني : نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } يعني : القحط والبلاء والشدة { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء . كقوله : { يَذَّكَّرُونَ } أي يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه . قال الله تعالى : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } يعني : إن الذي أصابهم من عند الله وبفعلهم . ويقال : إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه من الله تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة .
قوله تعالى :
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ } يقول : متى ما تأتنا . ويقال : كلما تأتينا . وروي عن الخليل أنه قال : مهما تأتنا أصلها الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك . وما زائدة فكأنه قال : ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف ، وهكذا قال الزجاج .
{ بِهِ مِن ءايَةٍ } يعني : بشيء من آية { لّتَسْحَرَنَا بِهَا } يعني : لتأخذ أعيننا بها { فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } يعني : بمصدقين بأنك مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم . قال الله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصر بحراً واحداً ، فخافوا الغرق ، فاستغاثوا بموسى ، فأرسلوا إليه اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا موسى ربه ، فكشف عنهم المطر ، وأرسل الله عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط . قالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكنا لم نشعر به . فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل . فنقضوا العهد ، وعصوا ربهم ، فمكثوا شهراً ، فدعا عليهم موسى فأرسل الله تعالى عليهم الجراد مثل الليل ، فكانوا لا يرون الأرض ، ولا السماء من كثرتها ، فأكل كل شيء أنبتته الأرض . فاستغاثوا بموسى { وَقَالُواْ ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 49 ] يعني : يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب ، ونؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا موسى ربه ، فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة . فقال لهم فرعون : انظروا هل بقي شيء؟ فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك . قالوا : قد بقي لنا ما فيه بلغتنا هذه السنة . فقالوا : يا موسى لا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهراً ثم دعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل . قال قتادة : القمل أولاد الجرادة التي لا تطير وهكذا قال السدي . وذكر عن أبي عبيدة أنه قال : القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من الأرض عود أخضر إلا أكلته . فأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض ، فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات الأرض أو ثمر فصاحوا إلى موسى ، واستغاثوا به ، وقالوا : ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهداً وموثقاً لنؤمنن بك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل . فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحاً حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء ، وحملته الريح ، فألقته في البحر ، فقال لهم موسى : أرسلوا معي بني إسرائيل؟ فقالوا له : قد ذهبت الأنزال كلها فأيش تفعل بعد هذا؟ فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل؟ اذهب فما استطعت أن تضر بنا فافعل .
فمكثوا شهراً فدعا الله تعالى عليهم موسى ، فأرسل الله تعالى عليهم آية وهي الضفادع ، فخرجوا من البحر ، مثل الليل الدامس ، فغشوا أهل مصر ، ودخلوا البيوت ، ووقفوا على ثيابهم ، وسررهم ، وفرشهم ، وكان الرجل منهم يستيقظ بالليل فيجد فراشه وقد امتلأ من الضفادع ، فكان الرجل يكلم صاحبه في الطريق يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نعيق الضفادع . فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى : لئن رفعت عنا هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فدعا لهم موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الضفادع . فقال لهم موسى : أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا : نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم بشيء من مواشيهم وأموالهم . فقال لهم موسى : إن الله أمرني أن أخرج بهم ولا أخلف من أموالهم ومواشيهم شيئاً . فقالوا : والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل . فمكثوا شهراً ، فدعا عليهم ، فأرسل الله تعالى عليهم الدم ، فجرت أنهارهم دماء ، فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره ، وبنو إسرائيل في الماء العذب . وكلما دخل رجل من آل فرعون ليستقي من أنهار بني إسرائيل . صار الماء دماً من بين يديه ، ومن خلفه . فركب فرعون وأشراف أصحابه حتى أتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية . فجعل فرعون يدخل الرجل منهم ، فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دماً . فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك . فاستغاثوا بموسى فقال فرعون : اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز ، لنؤمننّ بك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل . فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الدم ، وعذب ماؤهم وصفي . فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مّفَصَّلاَتٍ } يعني : متتابعات قال الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا : مما كانوا يعافون بين كل آيتين شهراً فإذا جاءت الآية ، قامت عليهم سبعاً من السبت إلى السبت . وروي عن مجاهد أنه قال : الطوفان المطر الكثير وقوله آيات صارت نصباً للحال .
وقوله تعالى : { فاستكبروا } يعني : تعظّموا عن الإيمان { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } يعني : أقاموا على كفرهم .
قوله تعالى : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } يعني : وجب عليهم العذاب وحل بهم { قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ } يعني : سل لنا ربك { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : بما أمرك ربك أن تدعو الله ويقال : بالعهد الذي سأل ربك { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } أي : رفعت عنا العذاب { لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } يعني : لنصدقنك { وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل } قال الله تعالى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز } يعني : العذاب { إلى أَجَلٍ هُم بالغوه } يعني : إلى وقت الغرق .
ويقال : إلى بقية آجالهم { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } يعني : ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى .
قال الله تعالى : { فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم } يعني في البحر بلسان العبرانية . وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلاً ، فاستعارت نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن ، وقلن : إن لنا خروجاً فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي . فذكر ذلك لفرعون . فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف رجل ، ومائتا ألف رجل ، فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر؛ فضرب البحر فانفلق له اثنا عشر طريقاً . وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً . فعبر كل سبط في طريق ، وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى ، فدخلوا تلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهمّ أولهم أن يخرج ، أمر الله تعالى أن ينطبق عليهم فغرقهم . فذلك قوله تعالى : { فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات { وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } يعني : معرضين . فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل ، فسكنوا أرض مصر فذلك قوله : { وَأَوْرَثْنَا القوم } يعني : بني إسرائيل { الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض } أي : الأرض المقدسة { ومغاربها } يعني : الأردن وفلسطين . ويقال : مشارق الأرض يعني : الشام ومغاربها { التى بَارَكْنَا فِيهَا } يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى } يقول : وجبت نصرة ربك بالإحسان { على بَنِى إسراءيل } قال مجاهد : هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض . وقال مقاتل : يعني : بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } [ القصص : 5 ] وقال الكلبي : وتمت كلمة ربك يعني : نعمة ربك الحسنى . يعني : أنهم يجزون الحسنى الجنة { بِمَا صَبَرُواْ } ولم يدخلوا في دين فرعون . ويقال : وتمت كلمة ربك أي : ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض .
ثم قال : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } يعني : أهلكنا ما كان يعمل فرعون ، وأبطلنا كيده ومكره . { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } يعني : أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم . وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { يَعْرِشُونَ } بضم الراء . وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد .
قوله تعالى :
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{ وجاوزنا بِبَنِى إِسْرءيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يقول : مروا على قوم يعني : يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها ، وكل من يلازم شيئاً ويواظب عليه يقال : عكفه . ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفاً { قَالُواْ يَا موسى اجعل لَّنَا إلها } قال الجهال من بني إسرائيل لموسى { اجعل لَّنَا إلها } نعبده { كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } يعبدونها { قَالَ } لهم موسى : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } يعني : تكلمتم بغير علم وعقل ، وجهلتم الأمر .
قوله تعالى : { إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } يعني : مهلك مفسد ما هم فيه من عبادة الأصنام { وباطل } يعني : ضلال { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والتبار : الهلاك . كقوله تعالى : { رَّبِّ اغفر لِى ولوالدى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ] أي : هلاكاً . ثم { قَالَ } لهم { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها } يعني : أسوى الله آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } يعني : على عالمي زمانكم . يعني : أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه ، وتطلبون عبادة غيره . وهم الذين كانوا أجابوا السامري حين دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل .
ثم ذكر النعم فقال تعالى : { وَإِذْ أنجيناكم } من آل فرعون يعني : اذكروا حين أنجاكم الله من آل فرعون : وقرأ ابن عامر وإذْ أَنْجَاكُمْ يعني : اذكروا حين أنجاكم الله { مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } وقرأ الباقون { وَإِذْ أنجيناكم } ومعناه مثل ذلك { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } يعني : يعذبونكم بأشد العذاب { يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } يعني : يستخدمون نساءكم { وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } أي : الإنجاء نعمة من ربكم عظيمة . ويقال : في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة . قرأ نافع { يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ } بنصب الياء مع التخفيف . وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد . يُقَتِّلُونَ على معنى التكثير . وقرأ حمزة والكسائي يَعْكِفُونَ بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم يَعْكُفُونَ .
قوله تعالى :
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{ وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً } قرأ أبو عمرو وَوَعَدْنَا بغير ألف ، والباقون بالألف ومعناهما واحد . { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } يعني : ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة . ويقال : ثلاثين من ذي الحجة وعشر من المحرم . والمناجاة في يوم عاشوراء . وكانت المواعدة ثلاثين يوماً وأمر بأن يصوم ثلاثين يوماً ، فلما صام ثلاثين يوماً ، أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب وقيل : بورقة موز ، فقالت له الملائكة : كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشراً أخر ، فصارت الجملة أربعين يوماً . كما قال في آية أخرى { وَإِذْ واعدنا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظالمون } [ البقرة : 51 ] يعني : صارت في الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوماً ، ومرة عشرة . { فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } يعني : ميعاد ربه أربعين ليلة . يعني : ميعاد ربه .
{ وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون اخلفنى } يعني : قال له قبل انطلاقه إلى الجبل : اخلفني { فِى قَوْمِى } أي كن خليفتي على قومي { وَأَصْلَحَ } يعني : مرهم بالصلاح . ويقال : وأصلح بينهم . ويقال : ارفق لهم { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } أي ولا تتبع سبيل أي طريق العاصين ، ولا ترضى به . واتّبع سبيل المطيعين . وقال بعض الحكماء : من ها هنا ترك قومه عبادة الله وعبدوا العجل ، لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم . ولهذا لم يستخلف النبي بعده . وسلم أمر أمته إلى الله تعالى . فاختار الله لأمته أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فأصلح بينهم .
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا } يعني : لميعادنا لتمام أربعين يوماً . ويقال : لميقاتنا أي للوقت الذي وقّتنا له .
{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي ، فاشتاق إلى رؤيته { قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } انظر صار جزماً لأنه جواب الأمر { قَالَ } له ربه : { لَن تَرَانِى } يعني : إنك لن تراني في الدنيا { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } يعني : انظر إلى أعظم جبل بمدين { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } يعني : سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه . معناه : كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال الضحاك : ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني : من رهبة الله تعالى . وقال القتبي : تجلى ربه للجبل أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء . يقال : جلوت المرأة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشف عنه . وجلوت العروس إذا أبرزتها . { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : جبل زبير { جَعَلَهُ دَكّا } قرأ حمزة والكسائي جعله دكاء بالهمز يعني : جعله أرضاً دكاء .
وقرأ الباقون دَكّاً بالتنوين يعني : دَكَّه دَكّاً . قال بعضهم : صار الجبل قطعاً ، فصار على ثمان قطع . فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام . ويقال : صار ستة فرق . ويقال : صار أربع فرق . ويقال : صار كله رملاً عالجاً أي ليناً . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : جعله دكاً أي تراباً ، وقال القتبي : جعله دكاً أي ألصقه بالأرض . ويقال : ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام أي تراباً . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل ، وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا ، وارتعدت فرائص موسى وتغير لونه . فقال له جبريل : اصبر لما سألت ربك ، فإنما رأيت قليلاً من كثير فلما غشي الجبل النور ، خمد كل شيء ، وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى . حتى صار دكاً .
قوله تعالى : { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } قال مقاتل : يعني ميتاً . كقوله عز وجل : { فَصَعِقَ مَن فِى *** السموات } يعني : مات . ويقال : وخر موسى صعقاً أي مغشياً عليه { فَلَمَّا أَفَاقَ } من غشيانه قال مقاتل : رد الله حياته إليه { قَالَ سبحانك } أي تنزيهاً لك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من قولي { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } . روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : قد كان قبله من المؤمنين . ولكن يقول أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة . وقال مقاتل : أول المؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا . وقال القتبي : أراد به في زمانه كقوله : { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] ويقال : معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالاً محالاً . فاعترف أنه طلب شيئاً في غير حينه وأوانه ووقته . وقال الزجاج : قد قال موسى : { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } أرني أمراً عظيماً لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : أمر ربه قال : وهذا خطأ . ولكن لما سمع كلامه قال يا رب : إنِّي سمعت كلامك وأحب أن أراك .
قوله تعالى : { قَالَ يَا موسى إِنّى *** اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي } يعني : بنبوتي . قرأ ابن كثير ونافع برسَالَتِي . وقرأ الباقون برسَالاتي بلفظ الجماعة ومعناهما واحد أي : اختصصتك بالنبوة . { وبكلامي } أي بتكلمي معك من غير وحي { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } أي : اعمل بما أعطيتك { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } لما أعطيتك . وقال القتبي : قوله { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } أراد به في زمانه كقوله { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قوله تعالى :
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح } روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أعطى الله تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة . قال : التوراة مكتوبة . ويقال : طول الألواح عشرة أذرع { مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً } من الجهل { وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } يعني : تبياناً لكل شيء من الحلال والحرام . قال الفقيه رحمه الله تعالى : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال : حدثنا أبو بكر بن أبي العوام . قال : حدثنا أبي قال : حدثنا يحيى بن سابق عن خيثمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كَانَ فِيمَا أَعْطَى الله مُوسَى فِي الأَلْوَاحِ عَشَرَة أبْوَابٍ : يا مُوسَى لا تُشْرِكْ بي شَيْئاً ، فَقَدْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَتَلْفَحَنَّ وُجُوهَ المُشْرِكِينَ النَّارُ ، وَاشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ، أَقِكَ المَتَالِفَ ، وَأُنسِىءُ لَكَ فِي عُمُرِكَ ، وَأُحْيِيكَ حَيَاةً طَيِّبَةً ، وَأَقْلِبُكَ إلَى خَيْرِ مِنْهَا ، وَلا تَقْتُلِ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمْتُهَا إلاَّ بالحَقِّ ، فَتَضِيقَ عَلَيْكَ الأرْضِ بِرُحْبِهَا ، وَالسَّمَاءُ بِأَقْطَارِهَا ، وَتَبُوءَ بِسَخْطِي وَنَاري ، وَلا تَحْلِفْ بِاسْمِي كَاذِباً فَإنِّي لا أُطَهِّرُ ولا أُزَكِّي مَنْ لَمْ يُنَزِّهْنِي ، وَلَمْ يُعَظِّمْ أَسْمَائِي ، وَلا تَحْسُدِ النَّاسَ عَلَى ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ، فَإنَّ الحَاسِدَ عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي ، رَادٌّ لِقَضَائِي ، سَاخِطٌ لِقِسْمَتِي ، الَّتي أَقْسِمُ بَيْنَ عِبَادِي ، ولا تَشْهَدْ بِمَا لِمَ يَقَعْ بِسَمْعِكَ ، وَيَحْفَظْ قَلْبُكَ ، فَإنِّي لوَاقِفٌ أَهْلَ الشَّهَادَاتِ عَلَى شَهَادَاتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، ثُمَّ أَسَأَلَهُمْ عَنْهَا سُؤَالاً حَثِيثاً ، وَلاَ تَزْنِ ، وَلاَ تَسْرِقْ ، فَأَحْجُبَ عَنْكَ وَجْهِي ، وَأُغْلِقَ عَنْكَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ ، وَأَحْبِبْ لِلنَّاسِ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ . ولا تُذَكِّ لِغَيْرِي ، فَإنِّي لا أقْبَلُ مِنَ القُربَانِ إلاَّ ما ذُكِرَ علَيْهِ اسْمِي ، وَكَانَ خَالِصاً لِوَجْهِي ، وَتَفَرَّغْ لِي يَوْمَ السَّبْتِ وَجَمِيعُ أهْلِ بَيْتِكَ » فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « جُعِلَ يَوْمُ السَّبْتِ لِمُوسَى عِيداً وَاخْتَارَ لَنَا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَجَعَلَها لنا عِيداً »
قوله تعالى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعني : اعمل بما أمرك الله بجد ومواظبة عليها { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي يعملون بما فيها من الحلال والحرام . ويقال : امرهم بالخير وانههم عن الشر : يعني : اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر . ويقال : اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافىء ظالمه وينتقم منه جاز ، ولو تجاوز كان أحسن وقال الكلبي : كان موسى عليه السلام أشد عبادةً من قومه . فأمر بما لم يؤمروا به . يعني : أمر بأن يعمل بالمواظبة ، وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن الفعل .
ثم قال : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } قال مقاتل : يعني : سنة أهل مصر يعني : هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم .
ويقال : جهنم هي دارُ الكافرين . ويقال : إذا سافروا أراهم منازل عاد وثمود . وقال مجاهد : مصيرهم في الآخر إلى النار .
قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ } يعني : أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا . فأخذلهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم . ويقال : أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون . { فِى الارض بِغَيْرِ الحق } يعني : يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء ، ولا يعقلون فيها ، ولا يذكرونها . ويقال : سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرف عنهم تلك النعمة { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } امتنعوا منها كي { لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد } يعني : طريق الحق الإسلام { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } يعني : لا يتخذوه ديناً { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى } يعني : طريق الضلالة والكفر { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي ديناً ويتّبعونه { ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا } قال مقاتل : أي بآياتنا التسع وقال الكلبي : يعني : بمحمد والقرآن { وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } يعني : تاركين لها . قرأ حمزة والكسائي { سَبِيلَ الرشد } بنصب الراء ، والشين ، وقرأ الباقون { الرشد } بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد .
ثم قال عز وجل : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } أي بمحمد والقرآن { وَلِقَاء الاخرة } يعني : كذبوا بالبعث بعد الموت { حَبِطَتْ أعمالهم } يعني : بطلت حسناتهم { هَلْ يُجْزَوْنَ } أي هل يثابون { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : في الدنيا .
قوله تعالى :
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{ واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ } يعني : من بعد انطلاقه إلى الجبل ، وذلك أن موسى عليه السلام لما وعد لقومه ثلاثين يوماً فتأخر عن ذلك ، قال السامري لقوم موسى : إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون ، فعاقبكم الله تعالى بتلك الخيانة ، ومنع الله عنا موسى . فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها ، فلعل الله تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغاً ، فجعل الحلي في النار واتخذ { مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } وقد كان رأى جبريل على فرس الحياة ، فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره . فأخذ كفاً من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل . فصار العجل من حليهم عجلاً جسداً . قال الزجاج : الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط . وروي عن ابن عباس قال صار عجلاً له لحم ودم وله خوار يعني : صوت مثل صوت العجل ولم يسمع منه إلا صوت واحد . وقال بعضهم : سمع منه صوت ولم يسمع منه إلا مثل صوت العجل . وقال بعضهم : جعله مشتبكاً فدخل فيه الريح فسمع منه صوت مثل صوت العجل . فقال لقومه : هذا إلهكم وإله موسى ، فاغترّ به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه . قال الله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } يعني : لا يقدر على أن يكلمهم { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } يعني : لا يرشدهم طريقاً { اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين } يعني : كافرين بعبادتهم . وقرأ حمزة والكسائي { مِنْ حُلِيّهِمْ } بكسر الحاء . وقرأ الباقون { مِنْ حُلِيّهِمْ } بضم الحاء . فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يحسن به من الذهب والفضة . ومن قرأ بالضم ، فهو جمع الحَلْي ويقال : كلاهما جمع الحَلْي وأصله الضم إلا أن من كسر فلاتباع الكسرة بالكسرة .
قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } يعني : ندموا على ما صنعوا . يقال : سقط في يده إذا ندم . وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه .
{ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } أي علموا أنهم قد ضلوا عن الهدى { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } قرأ حمزة والكسائي { لَئِن لَّمْ } بالتاء على معنى المخاطبة رَبَّنَا بالنصب يعني : يا ربنا . وقرأ الباقون { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } بالياء وضم الباء على معنى الخبر . { وَيَغْفِرْ لَنَا } بعد التوبة عطف على قوله { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } { لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } يعني : من المغبونين .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } يعني : من الجبل { غضبان أَسِفًا } يعني : حزيناً . ويقال : الأسف في اللغة شدة الغضب . ومنه قوله تعالى :
{ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] ويقال : أشد الحزن كقوله : { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى } يعني : بعبادة العجل يعني : بئسما فعلتم في غيبتي { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ } يعني : استعجلتم ميعاد ربكم . ويقال : أعصيتم أمر ربكم . ويقال : معناه { أَعَجِلْتُمْ } بالفعل الذي استوجبتم به عقوبة ربكم { وَأَلْقَى الالواح } من يده . قال الكلبي : انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام الله تعالى إلى السماء . وقال بعضهم : هذا الكلام في ظاهره غير سديد . لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف . فلا يجوز أن يقال : الكلام يصعد ويذهب . ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان غير الأحكام . وأما الأحكام أيضاً فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم . وروي في الخبر : أن الله تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل . قال موسى : يا رب من اتخذ لهم العجل؟ قال : السامري . قال : ومن جعل فيه الروح؟ قال : أنا . قال : فأنت فتنت قومي؟ . قال له ربه : تركتهم لمرادهم . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ » لما أخبر الله تعالى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح . فلما عاين ألقى الألواح .
ثم قال : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } يعني : أخذ بشعر رأسه ولحيته { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ } يعني : قال له هارون : يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص : يا { ابن أُمَّ } بنصب الميم . وقرأ الباقون بالكسر . وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه . كما يقال : يا ويلتاه ويا حسرتاه . ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه . وكان موسى أخاه لأبيه وأمه . ولكن ذكر الأم ليرفعه عليه .
{ إِنَّ القوم استضعفونى } يعني : قهروني واستذلوني { وَكَادُواْ } يعني : هموا بقتلي { يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء } يعني : لا تفرح عليّ أعدائي يعني : الشياطين ويقال : أصحاب العجل { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين } يعني : لا تظنن أني رضيت بما فعلوا . قال موسى : { رَبّ اغفر لِى } بما فعلت بأخي هارون ويقال : لإلقاء الألواح { ***و } اغفر { ***لأخي } ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل { وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } يعني : جنتك { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } يعني : أنت أرحم بنا منا بأنفسنا . وقال الحسن : يعني أنت أرحم بنا من الأبوين .
قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{ إِنَّ الذين اتخذوا العجل } يعني : اتخذوا العجل إلها { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ } يعني : يصيبهم عذاب من ربهم { وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا } وهو ما أمروا بقتل أنفسهم . ويقال : هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم يعني : يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا . وهي الجزية { وكذلك نَجْزِى المفترين } يعني : هكذا نعاقب المكذبين .
ثم قال تعالى : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } يعني : رجعوا عن الشرك بالله وعن السيئة { وَءامَنُواْ } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة ، ويقال : من بعد السيئات { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : { لَغَفُورٌ } لذنوبهم { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة .
ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام وهو قوله تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الالواح } يعني : لما سكت عن موسى الغضب . ويقال : ولما سكت موسى عن الغضب { أَخَذَ الالواح وَفِى نُسْخَتِهَا } يعني : في بقيتها فنسخت له الألواح ، وأعيدت له في اللوحتين مكان التي انكسرت . { هُدًى وَرَحْمَةً } يعني : فيما بقي منها بياناً من الضلالة ورحمة من العذاب . { لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } يعني : يخافون الله ويعملون له بالغيب . ويقال : وفي نسختها يعني : في كتابها هدى من الضلالة ورحمةٌ من العذاب للذين يخشون ربهم .
قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } أي من قومه { سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا } يعني : للميقات الذي وقتنا له { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة } يعني الزلزلة ، تزلزل الجبل بهم فماتوا { قَالَ } موسى { رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } يعني : من قبل أن يصحبوني { وإياى } بقتل القبطي { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } قال الكلبي : ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل . وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : انطلق موسى وهارون ومعهما شَبَّر وَشَبيِّر وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل وفيه سرير ، فنام عليه هارون فقبض ، فرجع موسى إلى قومه ، فقالوا له : أنت قتلته حسداً على خلقه ولينه . قال : كيف أقتله ومعي ابناه ، فاختاروا من شئتم ، فاختاروا سبعين ، فانتهوا إليه . فقالوا له : من قتلك يا هارون : قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله تعالى . فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم . فقال موسى : { رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } وإياي . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلاً من قومه : فاختار من كل سبط ستة رجال ، فبغلوا اثنين وسبعين ، فقال موسى : إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان ، ولهما أجر من حضر ، فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا .
فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل ، فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له : إنك قد لقيت ربك فأرنا الله جهرة حتى نراه كما رأيته . فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا . فقال موسى : حين أماتهم الله تعالى { رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } هذا اليوم وإياي معهم أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني : أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم الله تعالى .
وروى أسباط عن السدي قال : إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل ، وذكر نحو حديث عبد الله بن عباس ثم قال : { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } يعني بليتك وعذابك ويقال : يعني عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه { تُضِلُّ بِهَا } أي بالفتنة { مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } من الفتنة { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي حافظنا وناصرنا { فاغفر لَنَا } يعني : ذنوبنا { وارحمنا } يعني : ولا تعذبنا { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } يعني : المتجاوزين عن الذنوب .
قوله تعالى :
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً } يعني : اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحسن الحلال { وَفِي الاخرة } يعني : وأعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } يعني : تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة . وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء { قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } يعني : هذا عذابي أخصّ به من أشاء من العباد من كان أهلاً لذلك { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } إنْ رحمتهم ويقال : إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي ، وأنا أنزلتها ، وأنا أصيب بالعذاب من أشاء ، وما سألت من الغفران فمن رحمتي ورحمتي وسعت كل شيء من كان أهلاً لها . ويقال : لكل شيء حظ من رحمتي . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا : ورحمتي التي وسعت كل شيء يعني : وسعت في الدنيا البر والفاجر وفي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة . ويقال : لما نزلت هذه الآية { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } تطاول إبليس ، وقال : أنا من تلك الأشياء فأكذبه الله تعالى وآيسه فأنزل قوله { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } يعني : فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك { وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ } فقالت اليهود والنصارى : نحن آمنا بالآيات ، وهي التوراة والإنجيل ، ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم الله تعالى وأنزل { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى } الآية ويقال ورحمتي وسعت كل شيء يعني : طمع كل قوم برحمتي ، وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون الشرك ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون ، يعني : يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتب قال الزجاج : الأُمِّيُّ الذي هو على خِلْقَةِ أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته . ويقال : إنما سمي محمد صلى الله عليه وسلم أمِّيّاً لأنه كان من أم القرى وهي مكة .
ثم قال : { الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ } يعني : يجدون نعته وصفته { فِى التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف } يعني : شرائع الإسلام بالتوحيد يرخص لهم الحلالات من الشحوم واللحوم وأشباهها { وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } يعني : ويبيّن لهم الحرام الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } يعني : ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر { ***آصَارَهُمْ } على معنى الجماعة . وأصل الإصر الثقل . فسمي العهد إصْراً لأن حفظ العهد يكون ثقيلاً . ويقال : يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع . ويقال : هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات .
ثم قال : { إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه ، وكان عليهم ألا يعملوا في السبت ، وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك .
ثم قال : { فالذين ءامَنُواْ بِهِ } يعني : صدقوه وأقروا بنبوته { وَعَزَّرُوهُ } يعني : عظموه وشرفوه . ويقال : أعانوه { وَنَصَرُوهُ } بالسيف { واتبعوا النور } يعني : القرآن { الذى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ } يعني : أهل هذه الصفة { هُمُ المفلحون } أي والناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال الله تعالى : { واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُم بأاياتنا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] .
قوله :
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{ قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس } يعني : يا أهل مكة ويقال : هو لجميع الناس { إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ويقال : إنه أول نداء نادى به في مكة بهذه الآية . وكان من قبل يدعو واحداً واحداً . فلما نزلت هذه الآية ، أظهر ونادى في الناس : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً من ذلك الرب { الذى لَهُ ملكالسموات والارض لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : لا خالق ولا رازق في السماء ولا في الأرض إلا هو { لاَ إله } يعني : يحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا ، ويحيي للبعث ثانياً . ويقال : يحيي يعني : يخلق الخلق من النطفة ، ويميتهم عند انقضاء آجالهم . { قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } يعني : يصدق بالله { وكلماته } يعني : القرآن قال : السدي وَكَلِمَتُهُ يعني : صدق بأن عيسى صار مخلوقاً بكلمة الله { واتبعوه } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } من الضلالة .
قوله : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } يعني : جماعة يدعون إلى الحق { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعني : وبالحق يعملون . وقال بعضهم : يعني به مؤمني أهل الكتاب وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا كما قال في آية أخرى : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَآءَ اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] الآية . وقال بعضهم : هم قوم من وراء الصين من أمة موسى ما وراء رمل عالج . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى البيت المقدس ومعه جبريل فرفعه إليهم وكلّمهم وكلّموه . فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا : لا . قال : فإن هذا محمد النبي الأمي . قال : يا جبريل وقد بعثه الله تعالى؟ قال نعم فآمنوا به وصدّقوه . وقالوا : يا رسول الله إن موسى بن عمران أوصى إلينا أن من أدرك ذلك النبي منكم فليقرأ عليه السلام مني ومنكم ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم على موسى ورد عليهم السلام ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما لِي أَرَى بُيُوتَكُمْ مُسْتَوِيَةً » ؟ قالوا : لأنا قوم لا يبغي بعضنا على بعض . قال : « فما لي لا أرى عليها أبواباً » ؟ قالوا : إنّا لا يضر بعضنا بعضاً . قال : « فَمَا لِي لا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ » ؟ قالوا : ما ضحكنا قط لأن الله تعالى أخبرنا في كتابه أن جهنم عرضها ما بين الخافقين وقعرها الأرض السفلى ، وقد أقسم الله تعالى ليملأنها من الجنة والناس أجمعين . قال : « فَهَلْ تَبْكُونَ عَلَى المَيِّتِ »
؟ قالوا : يا رسول الله كيف نبكي على الميت وكلنا ميتون . وهو سبيل لا بد منه . والله أعطانا والله أخذ منا . قال : « فَهَلْ تَمْرَضُونَ » ؟ قالوا : يا رسول الله إنما يمرض أهل الذنوب والخطايا . فأما نحن فمعصومون بدعاء نبي الله موسى عليه السلام قال : « فَكَيْفَ تَمُوتُونَ إِذَا لَمْ تَمْرَضُوا؟ » قالوا : إذا استوفى أحدنا رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه فندفنه ، حيث يموت . قال : « فَهَلْ تَحْزَنُونَ إذَا وُلِدَ لأَحَدِكُمْ جَارِيَةٌ » ؟ قالوا : يا رسول الله لا ولكنا نصوم لله تعالى شهراً شكراً ، فإذا ولدط لأحدنا غلام نصوم لله شهرين شكراً لله تعالى . قال : « فَهَلْ فِيكُمْ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبٌ » ؟ قالوا : نعم . قال : « كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهِنَّ » ؟ قالوا : يا رسول الله نمشي عليهن ويمشين علينا ، ولا نؤذيهن ولا تؤذينا ، آمنات منا ونحن آمنون منهن . قال : « فَهَلْ لَكُمْ مَاشِيَةٌ » ؟ قالوا : نعم ، نجز أصوافها فنتخذ منه الأفنية والأكسية ، ونأكل من لحومهن الكفاف ، وكل أهل القرية فيها شرع أي سواء ليس أحد أحق به منا . قال : « فَهَلْ تَزِنُونَ أَوْ يُوزَنُ عَلَيْكُمْ » ؟ قالوا : لا نزن ولا يوزن علينا ولا نكيل ولا يكال علينا ولا نشتري ولا نبيع . قال : « فَمِنْ أيْنَ تَأْكُلُونَ » ؟ قالوا : يا رسول الله : نخرج فنزرع ، ويرسل الله تعالى السماء علينا فينبته ، ثم نخرج إليه فنحصده ، ونضعه في أماكن من القرية ، فيأخذ أهل القرية منها الكفاف ويدعون ما سواه . قال : « فَهَلْ تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ » ؟ قالوا : نعم يا رسول الله لنا بيوت مظلمة وثياب معلومة فإذا أردنا المجامعة لبسنا ثيابنا تلك ودخلنا تلك البيوت ، لا يرى الرجل عورة امرأته ولا المرأة عورة زوجها . قال : « فَهَلْ فِيكُمُ زِنًى؟ » قالوا : يا رسول الله لا فإن فعل ذلك أحد منا لظننا أن الله تعالى يبعث عليه ناراً فيحرقه أو يخسف به الأرض ، ولكن إذا كان للرجل منا ابنة طلبها منه رجل فيزوجه إياها إرادة الأجر والعفة . قال : « فَهَلْ تَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ » ؟ قالوا : لا . يا رسول الله . إنما يكنز الذهب والفضة من لا يثق بالله ، ومن يرى أن الله تعالى لم يتكفل له برزقه . فأما نحن فلا نكنز الذهب والفضة . فأقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالصلاة والزكاة ورجع من ليلته . وقال قتادة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : « قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا » { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعني : في هذه الأمة .
ثم قال : { وقطعناهم } يعني : بني إسرائيل فرقناهم { اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } يعني : جماعة والأسباط جَمْعٌ والسبط في بني إسرائيل مثل القبيلة عند العرب { وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى } يعني : في التيه { إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } إلى قوله : { رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } كل ذلك مذكور في سورة البقرة قرأ أبو عمرو { نَّغْفِرْ لَكُمْ } بالنون { خطاياكم } . وقرأ ابن عامر { تَغْفِرْ * لَكُمْ } بالتاء والضم { خطيئاتكم } بالرفع وبلفظ الواحد . وقرأ نافع { تَغْفِرْ } لكم» بالتاء ، والضم { خطيئاتكم } بلفظ الجماعة ، وقرأ الباقون { نَّغْفِرْ لَكُمْ } بالنون { خطيئاتكم } بلفظ الجماعة .
قوله تعالى :
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } واسمها أيلة وذلك أن اليهود قالوا : نحن من أبناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم فلا يعذبنا الله تعالى إلا مقدار عبادة العجل فقال الله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية } يعني : أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كيف عذبهم الله تعالى بذنوبهم .
ثم أخبر عن ذنوبهم فقال تعالى : { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } يعني : أنهم استحلوا الصيد في يوم السبت . وقال : يعتدون في يوم السبت . وأصل الاعتداء هو الظلم . يقال : عدوت على فلان إذا ظلمته واعتديت عليه .
ثم قال : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } يعني : يوم استراحتهم شوارع في الماء وهو جمع الشارع { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } يعني : إذا لم يكن يوم السبت ويوم الراحة لا تأتيهم . وإنما تمّ الكلام عند قوله : { تَأْتِيَهُمُ } ثم ابتدأ فقال : { كذلك نَبْلُوهُم } يعني : هكذا نختبرهم . وقال بعضهم : إنّما يتم الكلام عند قوله : { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } كذلك يعني : لا تأتيهم كما تأتيهم يوم السبت لأن في يوم السبت تأتيهم الحيتان شارعات من أسفل الماء إلى أعلاه وفي سائر الأيام يأتيهم القليل ، ولا يأتيهم كما يأتيهم في يوم السبت .
ثم ابتداء الكلام فقال : { كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يعني : نختبرهم بما كانوا يعصون الله تعالى .
ثم قال عز وجل : { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ } أي عصبة وجماعة منهم وهي الظلمة للأمة الواعظة { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } لأن الواعظة نهوهم عن أخذ الحيتان ، وخوفوهم ، فرد عليهم الظلمة { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } { أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } قرأ عاصم في إحدى الروايتين { مَعْذِرَةً } بالنصب يعني : نعتذر إلى ربكم . وقرأ الباقون { مَعْذِرَةً } بالضم يعني : هي معذرة يعني : لا ندع الأمر بالمعروف حتى نكون معذورين عند الله تعالى { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعني : لعلهم ينتهون { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } يعني : تركوا ما وعظوا به { أَنجَيْنَا } من العذاب { الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } يعني : عذبنا الذين تركوا أمر الله { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } يعني : شديد { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } يعني : يعصون ويتركون أمر الله تعالى . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان القوم ثلاثة فرق . فرقة كانوا يصطادون . وفرقة كانوا ينهون . وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } . وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال : أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت : ما يبكيك قال : تبكيني هذه السورة وهو يقرأ سورة الأعراف .
وقال : هل تعرف أيلة؟ قلت : نعم . قال : إن الله تعالى أسكنها حياً من اليهود ، وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام . فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان . فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون ، وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها . فقال فريق منهم : إنما حرمت عليكم يوم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت ، وكلوها في سائر الأيام . وقال الآخرون : بل حرم عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها . وكانوا ثلاث فرق : فرقة على أَيمانهم ، وفرقة على شمائلهم ، وفرقة على وسطهم فقالت الفرقة اليمنى فجعلت تنهاهم في يوم السبت ، وجعلت تقول : الله يحذركم بأس الله . وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديها ، وكفت ألسنتها . وأما الوسطى فوثبت على السمك تأخذه . وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها ، وألسنتها ، ولم تتكلم . تقول : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } فقال : { الذين يَنْهَوْنَ } { مَعْذِرَةً إلى رَبّكُم وَلَعَلَّكُم تَتَّقُونَ } فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة ، وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة . فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد . فقالوا : لعل الله خسف بهم ، أو رموا من السماء بحجارة ، فارفعوا رجلاً ينظر ، فجعلوا رجلاً على سلم فأشرف عليهم ، فإذا هم قردة تتعادى ولها أذناب قد غيّر الله تعالى صورهم بصنيعهم . فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة ، فكسروا الباب ، ودخلوا منازلهم ، فجعلوا لا يعرفون أنسابهم ، ويقولون لهم : ألم ننهكم عن معصية الله تعالى ونوصيكم؟ فيشيرون برؤوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم . فأخبر الله تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء ، وأخذ الذين ظلموا . قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } . ولا يدرى ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يأخذوا .
وقال عكرمة : بل أهلكهم الله لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء . وأهلك الفريقين الآخرين . فوهب له ابن عباس بردة بهذا الكلام .
وروي في رواية أُخرى أنهم كانوا يأخذون الحظائر والحياض بجنب البحر ، ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل فيها السمك ، ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا : إنا نأخذه في يوم الأحد . فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا : إنما حرم الله على أبنائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا ، فضربوا حائطاً بينهم ، وصارت الواعظة في ناحية ، والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين . فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما ، فارتقى واحد منهم الحائط ، فإذا القوم قد مسخوا إلى قردة . وقال بعضهم : كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون ، وصنف يرضون ، وصنف ينهون ، وصنف يسكتون ، فنجا صنفان ، وهلك صنفان . قال بعضهم : كانوا صنفين صنف يأخذون ، وصنف ينهون .
وروى قتادة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كانوا ثلاث فرق فهلك الثاني ، ونجا الثالث ، والله أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة . قرأ نافع بعذاب { بِيْس } بكسر الباء وسكون الياء بلا همز . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بعذاب { بَيْأَس } بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة . وقرأ الباقون : { ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة ، والأولى لغة لبعض العرب .
ثم قال : { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ } يعني : تركوا ما وعظوا به { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } يعني : صاغرين مبعدين عن رحمة الله .
قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } يعني : أعلم ربك ويقال : قال ربكم وكل شيء في القرآن تأذن فهو إعلام . ومعناه قال : { لَيَبْعَثَنَّ } أي ليسلطن { عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة } أي على بني إسرائيل ، والذين لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم { مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب } يعني : يعذبهم بالجزية والقتل { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } إذا عاقب من أصرّ على كفره { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ } لمن تاب من الشرك { رَّحِيمٌ } بعد ذلك .
ثم قال : { وقطعناهم } أي فرقناهم { فِي الارض أُمَمًا } أي فرقاً { مّنْهُمُ الصالحون } أي المؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب . ويقال : هم الذين وراء رمل عالج { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } وهم الكفار منهم { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } يعني : اختبرناهم بالخصب والجدوبة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } من الكفر إلى الإيمان .
ثم قال : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } يعني : بعد بني إسرائيل خلف السوء { وَرِثُواْ الكتاب } يعني : التوراة { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى } يقول : يستحلون أخذ الحرام من هذه الدنيا وهو الرشوة في الحكم { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } قال مجاهد : يعني : يأخذون ما يجدون حلالاً أو حراماً ويتمنَّون المغفرة { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } أي وإن يجدوا مثله من العرض يأخذوه . ويقال : معناه أنهم يصرون على الذنوب وأكل الحرام ، فإذا أخذوا أول النهار يعودون إليه في آخر النهار ولا يتوبون عنه . ويقال : يطلبون بعلمها الدنيا . ويقال : يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون : سيغفر لنا هذه المرة . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ويقولون مثل ذلك : أي سيغفر لنا لأنا لا نشرك بالله شيئاً . وقال سعيد بن جبير : يأخذون عرض هذا الأدنى . يقول : يعملون بالذنوب . ويقولون : سيغفر لنا ما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار . وما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل . { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يعني : الذنوب . قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } يعني : ألم يؤخذ عليهم ميثاقهم في التوراة { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي : إلا الصدق { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي قرؤوا ما فيه { والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : يتقون الشرك ، ويحلون حلاله ، ويحرمون حرامه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الآخرة خير من الدنيا .
ويقال : { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ما يدرسون من الكتاب . ويقال : { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } أن الإصرار على الذنوب ليس من علامة المغفورين ، قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء على وجه المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة .
قوله تعالى : { والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } يعني : يعملون بالتوراة ولا يغيرونها عن مواضعها { والذين يُمَسّكُونَ } يعني : أتموا الصلاة المفروضة { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } يعني : عمل الموحدين وهم الذين يمسكون بالكتاب ، وأقاموا الصلاة . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { يُمَسّكُونَ } بالتخفيف . وقرأ الباقون { يُمَسّكُونَ } بالتشديد على معنى المبالغة .
ثم قال تعالى :
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } يقول : قلعنا ورفعنا الجبل فوقهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي كهيئة الغمام { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي أنه يعني : أيقنوا الجبل واقع بهم { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } أي قيل لهم : اعملوا بما أعطيناكم من التوراة بقوة أي بجد ومواظبة { واذكروا مَا فِيهِ } أي اعملوا ما فيه من الحلال والحرام والأمر والنهي { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعاصي ، وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة ، فرفع الجبل فوقهم فقبلوا .
وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } أي : اذكر يا محمد إذا أخذ ربك . ويقال : معناه وقد أخذ ربك من بني آدم من ظهور بني آدم { ذُرّيَّتُهُم } يعني : { أَخَذَ رَبُّكَ مِن * تَتَّقُونَ * وَإِذْ أَخَذَ } ذريتهم . وقال بعضهم : يعني الذرية التي تخرج وقتاً بعد وقت إلى يوم القيامة { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } فقال لهم : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } يعني : إنَّ كل بالغ تشهد له خلقته بأن الله تعالى واحد { شَهِدْنَا } يعني : قال الله تعالى شهدنا { أَن تَقُولُواْ } أي لكيلا تقولوا . ويقال : هذا كراهة أن يقولوا : { يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة . فقال لهم : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } شهدنا بأنك ربنا قال بعضهم : هذا التفسير لا يصح وطعنوا فيه من وجوه أحدها أن الرواية لم تصح لأنها رواية أبي صالح ، وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته ، لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح ويفرك أذنه ، ويقول له : إنك لم تحسن أن تقرأ القرآن ، فكيف تفسره بالرأي . قالوا : ولأن هذا غير محتمل في اللغة لأنه قال : من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم . قالوا : ولأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر . وإنما يجوز خطاب من هو عاقل . ومن كان مثل الذر كيف يجوز خطابه؟ قالوا : ولأنه لا يجوز أن تكون حجة الله بشيء لم يذكر . وإنما تكون الحجة بشيء يكون الإنسان ذاكراً له . قالوا : ولأن الله تعالى قال : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] ولم يقل : أحييتنا ثلاث مرات . ولكن الجواب أن يقال : إن الرواية صحيحة ، لأن الآثار قد جاءت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز دفعه . فمن ذلك ما حدثنا الخليل بن أحمد . قال : حدثنا الماسرخسي . قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن علية عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } قال : مسح الله تعالى ظهر آدم فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة .
فأخذ ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } .
قال : حدثنا الشيخ الرئيس أبو طاهر محمد بن داود . قال : حدثنا محمد بن أحمد بأستراباذ . قال : حدثنا أحمد بن زكريا . قال : حدثنا عبد السلام بن صالح عن جعفر بن سليمان عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري . قال : حججنا مع عمر في أول خلافته فوقف على الحجر ثم قال : أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبّلتك . فقال له عليٌّ رضي الله عنه : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن الله . ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه ما أنكرت عليّ ما قلت . قال الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } فلما أقروا بالعبودية على أنفسهم ، كتب إقرارهم في رق ، ثم دعا هذا الحجر فقال له : افتح قال : فألقمه ذلك الرق فهو أمين الله في هذا المكان يشهد لمن استلمه ووافاه يوم القيامة . فقال له عمر رضي الله عنه : لقد جعل الله بين ظهرانيكم من العلم غير قليل .
وروى ربيع بن أنس عن أبن العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الآية . قال : جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً ، ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، ثم قال : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } شهدنا بأنك ربنا . قال : فإني أرسل إليكم رسلي ، وأنزل عليكم كتبي ، فلا تكذبوا رسلي ، وصدقوا وعدي؛ وأخذ عهدهم وميثاقهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك . فقال آدم : رب لو شئت سويت بين عبادك . فقال : إني أحببت أن أشكر . قال : والأنبياء يومئذ مثل السرج فأخذ عليهم ميثاق الرسالة أن يبلغوها . فهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً } [ الأحزاب : 7 ] الآية .
قال الفقيه : أخبرني الثقة بإسناده عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية فقال : « إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هؤلاء لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ . ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً ، فَقَالَ : خَلَقْتُ هؤلاء لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ »
فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال : « إنَّ الله تَعَالَى إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ . وَإذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ النَّارَ » وبهذا احتج الجبرية أن ما عمل عبد عملاً من خير أو شر إلا ما قدره الله تعالى يوم الميثاق .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما خلق الله تعالى آدم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر ، فقال لأصحاب اليمين : هؤلاء في الجنة ولا أبالي وقال للآخرين : هؤلاء في النار ولا أبالي .
وروى أسباط عن السدي في قول الله تعالى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } الآية . قال : لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء ، مسح صفحة ظهر آدم اليمين فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى أخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال لهم : ادخلوا النار ولا أبالي . فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } فأجابه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين . فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } .
فلما رويت فيه من الأخبار من طرق شتى لا يجوز رده ، ويرجع الطعن إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم . ويجب للطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة . وهذا كقوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] أما الجواب عن قولهم : إنه قال : { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهر آدم فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه قد أخرج ذرية آدم الذين هم ولده من صلبه ، ثم أخرج من ظهورهم ذريتهم ، ثم أخرج من بعدهم حتى أخرج جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فأخرج من ظهورهم كل نسمة تخرج من ظهر ، فذكر الأخذ من ظهور ذريته ، ولم يذكر ظهر آدم لأن في الكلام دليلاً عليه كما قال الله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] ولم يذكر فرعون لأن في الكلام دليلاً عليه .
وأما الجواب عن قولهم : إنه لا يجوز خطاب الذر فعن هذا القول جوابان .
أحدهما : أنه يجوز أن يكونوا كالذر في الصغر ويرزقهم الله تعالى من العقل ما يكونوا به من أهل الخطاب . ألا ترى أن نملة سليمان بن داود عليهما السلام قد تكلمت بكلام العقلاء وفهم ذلك عنها سليمان ، وسبَّح الطير والجبال مع داود ، فكذلك هذا . والجواب الثاني أنهم كانوا كالذر في الازدحام والكثرة لا في الخلقة والجثة . ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم لأن الذر إذا كثرت وازدحمت لا يعرف عددها . فكذلك ذرية آدم كانوا في الكثرة والازدحام مثل الذر . ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم . والجواب عن قولهم : أنه لا تكون الحجة بشيء لم يذكر أن يقال : إن الله تعالى قد أرسل الرسل وأخبرهم بذلك الميثاق ، وإذا أخبرهم الرسل بذلك صار حجة عليهم . فإن قيل : إن الرسل وإن أخبروهم فإذا لم يذكروا ذلك فكيف يصير حجة عليهم؟ قيل لهم : وإن لم يذكروا صار قول الثقات حجة عليهم . ألا ترى أن رجلاً لو طلق امرأته وقد نسي فشهد عليه شاهدان عدلان بأنه قد طلقها قبل غيبته عنها يجب عليه أن يقبل قولهما . وكذلك لو صلى فشهد عليه عدلان أنه ترك ركعة من صلاته وجب عليه أن يأخذ بقولهما وإن كان لا يذكر . فكذلك هاهنا والجواب عن قولهم إنه لم يقل : أحييتنا ثلاث مرات . لأن الإحياء المعروف مرتان فذكر الإحياء الذي كان معروفاً عنده . وقوله تعالى : { شَهِدْنَا } قال بعضهم : هذا حكاية عن قول الذرية قالوا : بلى شهدنا . وتم الكلام . ثم في الآية مضمر ومعناه : أخذنا عليهم الميثاق لكي لا يقولوا هذا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } وقال بعضهم : إنما تمّ الكلام عند قوله : { بلى } ثم إنه قال تعالى : { شَهِدْنَا } يعني : شهدنا عليكم وأخذنا عليكم الميثاق لكيلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين { أَوْ تَقُولُواْ } أي : لكيلا تقولوا : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا } ونقضوا العهد { وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ } لم نعلم به { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } يعني : آباؤنا المشركون . فإن قيل : هل كان إقرارهم إيماناً منهم؟ قيل له : أما المؤمنون كان إقرارهم إيماناً . وأما الكافرون فلم يكن إقرارهم إيماناً . لأن إقرارهم كان تقية . ولم يكن حقيقة . قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو { ذرياتهم } بلفظ الجماعة . وقرأ الباقون { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بلفظ واحد لأن الذرية قد أضافها إلى الجماعة فاستغنى عن لفظ الجمع . وقرأ أبو عمرو { أَن يَقُولُواْ } بالياء وكذلك في قوله { أَوْ يَقُولُواْ } . وقرأ الباقون كليهما بالتاء على معنى الخطاب .
قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات } يعني : هكذا نبيّن الآيات في أمر الميثاق { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى إقرارهم وإلى التوبة فالواو الأولى للعطف وهو قوله { وكذلك } والواو الثانية زيادة للوصل وهي قوله : { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ومعناه : وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون أي لكي يرجعوا .
قوله تعالى :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{ واتل عَلَيْهِمْ } أَيُّ إِن لَّمْ يرجعوا بذكر الميثاق ولم يتوبوا فاتل عَلَيْهِمْ { نَبَأَ الذى ءاتيناه } أي خبر الذي أعطيناه { ءاياتنا } يعني : أكرمناه باسم الله الأعظم . ويقال : { واتل عَلَيْهِمْ } يعني : الكتاب وهي علم التوراة وغيره { فانسلخ مِنْهَا } يعني : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها . ويقال : تهاون بها ولم يعرف حقها ، ولا حرمتها ، وخرج منها { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } يقول : غرّه الشيطان { فَكَانَ مِنَ الغاوين } أي فصار من الظالمين وفي الضالين . قال بعضهم : هو بلعم بن باعوراء كان عابداً من عباد بني إسرائيل ، وكان مستجاب الدعوة ، فنزع الله تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام ، وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعوناً من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة ، فقال لهم : أعينوني على هؤلاء يعني : قوم موسى فقالوا : لن تستطيعهم ، ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به ، فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه ، فبعث الملك إلى امرأة بلعم الهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك ، فجاءته امرأته وقالت : نحن في جوار هذا الملك فلا بد لك من إجابته . فأجابهم إلى ذلك ، وركب أتاناً له ، وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها ، فلما ألح عليها كلّمته الأتان وقالت : انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له : خرجت مخرجاً ما كان ينبغي لك أن تخرج . فإذا خرجت فقل حقاً قال : فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل . فقال له : قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة . قال : غداً . فلما تلاقى القوم قال بلعم : إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم . فقالوا له : ما زدتنا إلا خبالاً . قال بلعم : ما استطعت غير ما رأيت . ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خُذِلوا ونصرت عليهم ، تعمد إلى نساء حسان فتجعل عليهم الحلي والثياب والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم . فإن وقعوا بهن خذلوا . ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفهاؤهم فخذلوا . فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع الله منه الإيمان . وقال بعضهم : إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وكان قد أظل زمانه . وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه . فلما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسداً له . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره قال : « آمن لسانه وكفر قلبه » فذلك قوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ } .
ثم قال : { وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا } يعني : بالآيات ويقال : رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض } يعني : أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها { واتبع هَوَاهُ } أي هوى نفسه ويقال : عمل بهوى المرأة وترك رضى الله ويقال : أخذ مسافل الأمور وترك معاليها { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } يقول : مثل بلعم كمثل الكلب { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ } يقول : إن طردته فهو يلهث { أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } يعني : وإن تركته فهو يلهث . قال القتبي : كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب . فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض . فضرب الله تعالى به مثلاً يعني : كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يفعل . وقال مجاهد : يعني الكفار إن قرىء عليهم الكتاب لم يقبلوا ، وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا هم أهل مكة . { ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا } يعني : ذلك صفة الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن { فاقصص القصص } أي اقرأ عليهم القرآن { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به .
قوله تعالى : { سَاء مَثَلاً } يعني : بئس مثل { القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : بئس مثل من كان مثل الكلب ، وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحاً لمذهبهم . ويقال : { بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ } وكانت صفتهم مثل صفة بلعم وهم أهل مكة كذبوا بآياتنا ، فلم يؤمنوا بها مثل بلعم { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } يعني : يضرون بأنفسهم ثم قال تعالى : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } يعني : من يهده الله لدينه فهو المهتدي من الضلالة { وَمَن يُضْلِلِ } يعني : ومن يضله عن دينه ويخذله { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } بالعقوبة .
قوله تعالى :
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا } يعني : خلقنا لجهنم كثيراً { مّنَ الجن والإنس } فإن قيل : قد قال في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته . وهاهنا يقول : خلقهم لجهنم . قيل له : قد خلقهم للأمرين جميعاً منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها ، ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها ، ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء . ويقال معنى قوله : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : إلا للأمر والنهي . ويقال : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : إلا لكي يمكنهم أن يعبدوا ، وقد بينت لهم الطريق . ويقال : في هذه الآية تقديم وتأخير . ومعناه : ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس .
ثم وصفهم فقال تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } يعني : لا يعقلون بها . الحق كما قال في آية أخرى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] ثم قال : { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } يعني : الهدى { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } يعني : الهدى .
ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال : { أُوْلَئِكَ كالانعام } فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق . يعني : إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم . لأنه ليس للأنعام إلا الأكل والشرب ، فهي تسمع ولا تعقل ، كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد .
ثم قال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } سبيلاً يعني : الكفار أخطأ طريقاً من الأنعام ، لأن الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق ، والكفار لا يرجعون إلى الطريق . ولأن الأنعام تعرف ربها ، والكفار لا يعرفون ربهم . ويقال : لمَّا نزلت هذه الآية { أُوْلَئِكَ كالانعام } تضرعت الأنعام إلى ربها . فقالت : يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك . فأعذر الله تعالى الأنعام . فقال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى . والكفار غير مطيعين لله تعالى .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } يعني : عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم . قال الفقيه أبو الليث : حدثنا أبو جعفر . قال : حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري . قال : حدثنا حازم بن يحيى الحلواني . قال : حدثنا الحسين بن الأسود . قال : حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خَلَقَ الله الجِنَّ ثَلاَثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ وَخَشَاشَ الأَرْضِ ، وَصِنْفاً كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ ، وَصِنْفَاً عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ ، وَخَلَقَ الله الإنْسَ ثَلاثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً كَالبَهَائِمِ وَهُمُ الكُفَّارُ ، قال : قال الله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وَصِنْفاً آخَرَ أَجْسَادُهُم كَأَجْسَادِ بَنِي آَدَم وَأَرْوَاحُهُم كَأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينِ ، وَصِنْفاً فِي ظِلِّ الله يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ »
قوله تعالى : { وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا } وذلك أن رجلاً دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمن . فقال أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فأنزل الله تعالى { وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا } الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل فقال : « ادْعُ الله أَوْ ادْعُ الرحمن رَغْماً لأَنْفِ المُشْرِكِينَ » ويقال : { وَللَّهِ الاسماء الحسنى } يعني : الصفات العلى { فادعوه بِهَا } . وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مائَةً إلاَّ وَاحِدَةً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ وَمِنْ أسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ الرحمن الرَّحِيمُ » وقد ذكرنا تفسيرها ومن أسمائه الأحد وأصله الوحد بمعنى الواحد ، وهو الذي ليس كمثله شيء ، ومنها الصمد وهو السيد الذي صمد إليه كل شيء أي قصده . ومنها القيوم وهو البالغ في القيام بكل ما خلق . ومنها الولي يعني : المتولي أمور المؤمنين . ومنها اللطيف وهو الذي يلطف بالخلق من حيث لا يعلمون ، ولا يقدرون ومنها الودود المحب الشديد المحبة . ومنها الظاهر والباطن الذي يعلم ما ظهر وما بطن . ومنها البديع الذي ابتدع الخلق على غير مثال . ومنها القدوس أي ذو البركة . ويقال : الطاهر ومنها الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء . ومنها الحنان أي ذو الرحمة والعطف . ومنها المنان الكثير المنّ على عباده . ومنها الفتاح يعني : الحاكم . ومنها الديان يعني : المجازي . ومنها الرقيب : يعني الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء . ومنها ذو القوة المتين يعني الشديد القوة على أمره . ومنها الوكيل الذي يتوكل بالقيام بجميع ما خلق . ومنها السبوح الذي تنزه عن كل سوء ومنها السلام يعني : الذي سَلِم الخلق من ظلمه . ومنها المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه . ومنها العزيز أي : المنيع الذي لا يغلبه شيء . ومنها المهيمن يعني : الشهيد . ومنها الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد . ومنها المتكبر الذي تكبر عن ظلم العباد . ومنها الباري يعني : الخالق وسائر الأسماء التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم . وقال الزجاج : لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه ، ولم يسم به نفسه ، فيقول : يا جواد ولا ينبغي له أن يقول : يا سخي ، لأنه لم يسم به نفسه . وكذلك يقول : يا قوي ولا يقول : يا جلد .
ثم قال : { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } قرأ حمزة { يُلْحِدُونَ } بنصب الياء والحاء .
وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء { يُلْحِدُونَ } فمن قرأ بالنصب فمعناه : وذروا الذين يميلون في أسمائه يعني : يُحَوِّرون ويمارون في أسمائه ويعدلون ، فسموا اللات والعزى . ومن قرأ بالضم فمعناه : وذروا الذين يجادلون ويمارون في أسمائه . ويقال : إن الله تعالى قد احتج على الكفار بأربعة أشياء بالخلق . وهو قوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ } [ لقمان : 11 ] وقال : { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً ولو اجتمعوا له } [ لقمان : 11 ] وقال : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] والثاني في الملك وهو قوله { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض كُلٌّ لَّهُ قانتون } [ البقرة : 116 ] .
وقال في الأوثان { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] والثالث في القوة وهو قوله : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] { فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الارض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] وقال في الأوثان : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف : 195 ] فوصفهم بالعجز . والرابع بالأسماء فقال { وَللَّهِ الاسماء الحسنى } وقال في الأوثان { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } ويقال : إن الكفار أرادوا أن يسموا آلهتهم الله فجرى على لسانهم اللات وقال أهل اللغة : إنما سمي اللات لأنه كان عنده رجل كان يلت السويق . وأرادوا أن يسموا العزيز فجرى على لسانهم العزى . وأرادوا أن يسموا منان فجرى على لسانهم مناة . وبقيت تلك الأسماء للأصنام . وأصل الإلحاد هو الميل ولهذا سمي اللحد لحداً لأنه في ناحية .
ثم قال { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : وسيهانون ويعاقبون بما كانوا يعملون من الشرك والإلحاد في الأسماء .
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } يعني : جماعة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يهدون بالحق يعني يدعون إلى الحق ويأمرون بالحق { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعني بالحق يعملون وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله قد ذكر الله تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين ، ولنا أجراً واحداً ، وقد صدقناك والرسل والكتب فنزل { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ } يعني : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } .
قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : بمحمد والقرآن { سَنَسْتَدْرِجُهُم } يعني : سنأخذهم بالعذاب { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : من حيث لا يشعرون . وقال الكلبي : يعني نزيّن لهم فنهلكهم من حيث لا يعلمون . يقول : سنأتيهم وهم المستهزئون فيقتل كل رجل منهم بغير قتلة صاحبه . وقال القتبي : الاستدراج أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً . ويقال : استدرج فلان فلاناً يعني : يعرف ما عنده وأصل هذا من الدرجة لأن الراقي يرقى درجة درجة . فاستعير من هذا كقوله تعالى { والمرسلات عُرْفاً } [ المرسلات : 1 ] يعني : الملائكة يتابعون بعضهم بعضاً كعرف الفرس . وكقوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } [ التوبة : 67 ] يمسكون عن العطية . وقال السدي : { سَنَسْتَدْرِجُهُم } يعني : كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها ، ثم نأخذهم من حيث لا يعلمون ، فذلك الاستدراج .
ثم قال : { وَأُمْلِى لَهُمْ } يعني : وأمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } يعني : عقوبتي شديدة . ويقال : إن صنيعي محكم . ويقال : إن أخذي شديد .
ثم قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } يعني : أهل مكة فيما يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا خالقهم ، ورازقهم ، وكاشف الضر عنهم ، ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنوناً . ويقال : معناه { أَوَ لَم يَتَفَكَّرُواْ } في دلائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام .
ثم استأنف فقال { مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } ويقال : هذا على وجه البناء . ومعناه : أو لم يتفكروا ليعلموا { مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ } يعني : جنوناً . ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد ذات ليلة الصفا ، فدعا قريشاً إلى عبادة الله تعالى بأسمائهم فرداً فرداً ، فقال بعضهم : إن صاحبكم لمجنون . فوعظهم الله تعالى فقال { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } يقول : أو لم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي رسولاً بيناً .
وهذا كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بواحدة أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بصاحبكم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبإ : 46 ] .
ووعظهم ليعتبروا في صنعه فيوحدوه فقال : { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والارض } أي في خلق السموات والأرض { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار وغير ذلك فيعتبروا ، ويؤمنوا بأن الذي خلق الذي ترون ، هو رَبّ واحد لا شريك له { وَأَنْ عسى } يعني : وينظروا في أن عسى { أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } يعني : قد دنا هلاكهم { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } يعني : إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنوا بعد القرآن . لأن هذا آخر الكتب نزولاً وليس بعده كتاب ينزل .
ثم قال تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } أي : من يخذله الله عن دين الإسلام فلا هادي له إلى الهدى { وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } أي : يتركهم في ضلالتهم يترددون . قرأ أبو عمرو { وَيَذَرُهُمْ } بالياء وضم الراء على معنى الخبر . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { وَنَذَرُهُمْ } بالنون وضم الراء ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وَيَذَرُهُمْ } بالياء وجزم الراء وجعلوه جواب الشرط . ومعناه : من يضلل الله يذره .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } أي : قيام الساعة { أَيَّانَ مرساها } أي متى حينها وقيامها . ويقال : هذا الكلام على الاختصار . ومعناه : أي أوان قيامها .
ثم قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } أي : علم قيام الساعة عند ربي وما لي بها من علم { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } أي لا يكشفها لحينها إلا الله . ويقال : لا يقدر أحد على إظهارها إلا هو . يعني : إلا الله . ويقال : لا يعلم أحد قيامها إلا هو { ثَقُلَتْ فِى السموات والارض } أي ثقل علم قيام الساعة على أهل السموات وأهل الأرض . ويقال : ثقلت أي : خفي علمها ، وإذا خفي الشيء ثقل علمه . ويقال : معناه ثقل حمل ذكرها لفظاعة شأنها وأمرها .
ثم قال : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } يعني : فجأة . ثم قال : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ } قال مقاتل : كأنك استحفيت عنها السؤال حتى علمتها . وقال القتبي : أي : كأنك حفي تطلب علمها . ومنه يقال : تحفى فلان بالقوم إذا بالغ في البر . ويقال : كأنك حفي عنها أي كأنك جاهل بها . ويقال : في الآية تقديم ومعناه : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ } يعني : كأنك عالم بها { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } وروى إبراهيم بن يوسف بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال : متى الساعة؟ فقال : « مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ عَشْرَةٌ يَقْرَبُ فِيهَا المَاحِلُ وَيَطْرُفُ فِيها الفَاجِرُ وَيَعْجَزُ فِيها المُنْصِفُ وَتَكُونُ الصَّلاَةُ منّاً والزَّكَاةُ مَغْرَماً وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً وَاسْتِطَالَةُ القُرَّاءِ فَعِنْدَ ذلك تَكُونُ أَمَارَةُ الصِّبْيانِ وَسُلْطَانُ النِّساءِ وَمَشُورَةُ الإِماءِ »
ثم قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } يعني : علم قيامها عند الله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنها كائنة ولا يصدقون بها .
قوله تعالى : { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } قال مقاتل : يعني لا أقدر لنفسي أن أسوق إليها خيراً أو أدفع عنها ضراً حين ينزل بي فكيف أملك علم الساعة { إِلاَّ مَا شَاء الله } فيصيبني { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } أي غيب النفع والضر إذ جاء { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء } يعني : لاستكثرت من النفع وما أصابني الضر . وقال الكلبي : إنّ أهل مكة قالوا له ألا يخبرك ربك بالبيع الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه؟ فنزل قل لهم : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } للجدوبة والقحط . ويقال : لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح . وقال الضحاك : قال لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً يعني الغنى والفقر إلا ما شاء الله إن شاء أغنى عبده وإن شاء أفقره { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } أي مواضع الكنوز لاستخرجتها وما مسني السوء يعني : الفقر { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } أي مخوف بالنار { وَبَشِيرٌ } يعني : مبشراً بالجنة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون بالبعث .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } يعني : من نفس آدم { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني : خلق من نفس آدم من ضلع من أضلاعه اليسرى زوجته حواء { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } يعني : ليطمئن إليها ويجامعها { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي : سكن إليها وجامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } يعني : خفيف الماء { فَمَرَّتْ بِهِ } أي : استمرت بالحمل . يقول : قامت بالحمل وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا { فَلَمَّا أَثْقَلَت } يعني : ثقل الولد في بطنها { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } وذلك أن إبليس أتاها فقال : يا حواء ما هذا الذي في بطنك؟ قالت : ما أدري . قال : أخاف إنها بهيمة ، وإني من الله بمنزلة ، فإن دعوت الله فولدت إنساناً صالحاً أتسميه باسمي؟ قالت : نعم . وما اسمك قال : عبد الحارث فكذب . فدعت حواء وآدم فذلك قوله : دعوا الله ربهما { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } يعني : أعطيتنا ولداً سوياً صحيح الجوارح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } وهذا قول سعيد بن جبير رواه عن ابن عباس . وروى معمر عن قتادة أنه قال : كان آدم لا يولد له ولد إلا مات فجاء الشيطان وقال : إن سرك أن يعيش ولدك فسمه عبد الحارث ففعل . فأشركا في الاسم . ولم يشركا في العبادة . وروي عن السدي أنه قال : اسم إبليس هو الحارث يوم لعن فأراد أن ينسب إليه ، فأمرها فسمته عبد الحارث ، فعاش بعد ذلك أياماً ثم مات . فذلك قوله : { فَلَمَّا ءاتاهما } يعني : أعطاهما { صالحا } خلقاً آدمياً سوياً { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما } قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون { شُرَكَاء } بالضم ونصب الراء . فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية ، وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } يعني : الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني : الشيطان فإن قيل : من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن يقول جعلا لغيره شركاً ، لأنهما لا ينكران أن الأصل لله تعالى . وإنَّما جعلا لغيره شركاً أي نصيباً . قيل له : معناه { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } يعني : ذا شرك . فذكر الشرك والمراد به شركه كقوله تعالى : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ يوسف : 12 ] أي أهل القرية فضرب الله تعالى بهذا مثلاً للكفار يعني : كما أن آدم وحواء أعطاهما ورزقهما فاشركوا في عبادته .
ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى : { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي هو أعلى وأجل من أن يوصف بالشرك .
ثم رجع إلى قصة الكفار فقال الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } يعني : أيشركون الآلهة مع الله تعالى وهم كفار مكة ما لا يخلق شيئاً وهي الآلهة { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } يعني : لا يستطيعون أن يمتنعوا مما نزل بهم من العذاب { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } قال الكلبي يعني : الآلهة .
وإن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } يعني : لا يتّبعهم آلهتهم { سَوَاء عَلَيْكُمْ } يا أهل مكة { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } لا تعقل شيئاً لأنه ليس فيها روح . وقال مقاتل : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } يعني : كفار مكة { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } لا يتبعونكم يعني : النبي صلى الله عليه وسلم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون فلا يؤمنون قرأ نافع { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } بجزم التاء وقرأ الباقون بالنصب والتشديد { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } وهما لغتان تبعه وأتْبعه معناهما واحد .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ } يعني : تعبدون { مِن دُونِ الله } يعني : الأصنام { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } يعني : مخلوقين مملوكين أشباهكم وليسوا بآلهة { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } أنها آلهة .
ثم قال عز وجل : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } يعني : في حوائجكم { أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } يعني : يعطون بها ويمنعون عنكم الضر { أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا } يعني : عبادتكم { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ } يعني : دعاءكم وقد احتجت المشبهة بهذه الآية أن من لا يكون له يد ولا رجل ولا بصر لا يصلح أن يكون إلها . ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى بيّن ضعف معبودهم وعجزهم ، وبيّن أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك .
ثم قال : { قُلْ } يا محمد يعني : لكفار مكة { ادعوا شُرَكَاءكُمْ } يعني : آلهتكم { ثُمَّ كِيدُونِ } يعني : اعملوا بي ما شئتم { فَلاَ تُنظِرُونِ } يعني : لا تمهلون ولا تؤجلون لأنهم خوفوه بآلهتهم قرأ أبو عمرو { ثُمَّ } بالياء في حال الوصل وقرأ الباقون بغير الياء .
ثم قال عز وجل :
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{ إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب } يعني : حافظي وناصري الله الذي نزل الكتاب . يعني : القرآن . ويقال : إن الذي يمنعني منكم الله الذي أنزل جبريل بالكتاب { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } يعني : المؤمنين فيحفظهم ولا يكلهم إلى غيره .
ثم قال : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني : تعبدون من دون الله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } أي : لا يقدرون منعكم { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } أي يمنعون ممن أذاها ، لأن الكفار كانوا يلطخون العسل في فم الأصنام ، وكان الذباب يجتمع عليه فلا تقدر دفع الذباب عن نفسها .
ثم قال تعالى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ } قال الكلبي : يعني إن دعا المشركون آلهتهم لا يسمعون أي يجيبونهم { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } يعني : الأصنام تراهم مفتحة أعينهم وهم لا يبصرون شيئاً . قال مقاتل : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى } يعني : كفار مكة { لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } الهدى . قوله تعالى : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني : خذ ما أعطوك من الصدقة يعني : ما فضل من الأكل والعيال ، ثم نسخ بآية الزكاة وهذا كقوله تعالى : { يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 219 ] يعني : الفضل وأمر بالمعروف يعني : ادعهم إلى التوحيد { وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } أي من جهل عليك مثل أبي جهل وأصحابه ، وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال . ويقال : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف } يعني : اعف عمن ظلمك واعط من حرمك وصل من قطعك .
قال الفقيه أبو الليث : حدثنا عن الشعبي الخليل بن أحمد . قال : حدثنا الديبلي . قال : حدثنا أبو عبيد الله وحدثنا سفيان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت هذه الآية { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } سأل عنها جبريل . فقال جبريل : حتى أسأل العالم ، فذهب ثم أتاه ، فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تَصِل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك . وقال القتبي في قول النبي : صلى الله عليه وسلم « أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ » فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر في هذه الآية كيف جمع له في هذا كل خلق عظيم ، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين ، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله ، وصلة الأرحام ، وغض البصر ، وفي الإعراض عن الجاهلين الحلم ، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه ، وعن منازعة اللجوج ، وإنما سمي المعروف معروفاً لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يطمئن إليه .
قوله تعالى : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان } قال مقاتل يعني : ولا يفتننكم فتنة في أمر أبي جهل { نَزْغٌ فاستعذ بالله } قال الكلبي : أي : وإما يصيبنك من الشيطان وسوسة فاستعذ بالله وقال الزجاج : النزع أدنى حركة . ومعناه : إن أتاك من الشيطان أدنى وسوسة فاستعذ بالله { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعني : سميع لدعائك بوسوسة الشيطان .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا } يعني : اتقوا الشرك والفواحش { إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان } يعني : ذنب { تَذَكَّرُواْ } يعني : عرف المتقون أنها معصية { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } يعني : إذا هم على بصيرة منتهون عن المعصية . وقال الزجاج : { تَذَكَّرُواْ } ما أوضح الله لهم من الحجة { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي { طيف } بغير ألف وقرأ الباقون بالألف { مَسَّهُمْ طَئِفٌ } . وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ { إِذَا مَسَّهُمْ } ، والطيف الغضب وعن مجاهد في قوله { مَسَّهُمْ طَئِفٌ } قال الغضب .
ثم ذكر حال الكفار فقال عز وجل : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } يعني : إخوان الشياطين يمدونهم أي : يدعونهم إلى المعصية . ويقال : يلجونهم في الشرك والضلالة . { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } عنها كما أقصر المسلمون عنها حين أبصروها . قرأ نافع { يَمُدُّونَهُمْ } بضم الياء وكسر الميم من أمَدَّ يُمِدّ . وقرأ الباقون { يَمُدُّونَهُمْ } بالنصب من مَدَّ يَمُدُّ . قال بعضهم : هذا عطف على قوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ } { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } . وقال الزجاج : معناه التقديم . والمعنى لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } يعني : الشياطين والغي : الجهل والوقوع في الهلكة .
قوله تعالى : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ } وذلك حين أبطأ عليه جبريل حين سألوه شيئاً { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } أي : هلاّ أتاهم من تلقاء نفسه؟ وهذا كقوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ إنى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ] { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } أي : قل إذا أمرت بأمر فعلت ولا أبتدع ما لم أومر { هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } يعني : القرآن بيان من ربكم . وقال بعض أهل اللغة : البصائر في اللغة : طرائق الأمر واحدتها بصيرة : ويقال : طريقة الدين معناه : ظهور الشيء وبيانه { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي : القرآن هدى من الضلالة ويقال : كرامة ورحمة من العذاب ونعمة لمن آمن به { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون .
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } وذلك أن المسلمين كانوا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالسكوت . وروى عبد الوهاب عن مجاهد عن أبي العالية الرياحي قال : كان النبي عليه السلام إذا صلى فقرأ وقرأ أصحابه خلفه حتى نزل { وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } فسكت القوم . وقرأ النبي عليه السلام وروى قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } قال في الصلاة . وروى مغيرة عن إبراهيم مثله ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله : { وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ } هذا لكل قارىء؟ قال : لا ، ولكن هذا في الصلاة المفروضة . وقال أبو هريرة رضي الله عنه مثله . وقال مجاهد : وجب الإنصات في موضعين في الصلاة والإمام يقرأ ، وفي الجمعة والإمام يخطب . وعن مجاهد أنه قال : لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم . وقال عطاء والحسن إن هذا في الصلاة والخطبة . ويقال : { فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } أي : اعملوا بما في كتاب الله تعالى ولا تجاوزوا عنه إلى غيره
ثم قال { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لكي ترحموا فلا تعذبوا .
قوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا } يقول : اقرأ يا محمد إذا كنت إماماً بنفسك تضرعاً يعني : مستكيناً { وَخِيفَةً } يعني : وخوفاً من عذابه وهذا قول مقاتل . وقال الكلبي : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } يعني : سراً { وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والاصال } يعني : العلانية حتى يسمع من خلفك . وقال الضحاك : معناه اجهر بالقراءة في الغداة والمغرب والعشاء { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } يعني : لا تغفل عن القراءة في الظهر والعصر ، فإنك تخفي القراءة فيهما وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً خَامِلاً » قيل : وما الذكر الخامل؟ قال : « الذِّكْرُ الخَفِيُّ »
قوله تعالى : { بالغدو والاصال } يعني : غدوة وعشية . وروى يحيى بن أيوب عن خالد بن سعيد بن أبي هلال عن من سمع عقبة بن عامر قال : المسر بالقراءة كالمسر بالصدقة ، والمعلن بالقراءة كالمعلن بالصدقة .
ثم قال : { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } عن القراءة في الصلاة .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } يعني : الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } وذلك أن كفار مكة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [ الفرقان : 60 ] واستكبروا عن السجود فنزل { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } يعني : الملائكة لا يستكبرون عن عبادته يعني : لا يتعظمون ولا يستنكفون عن طاعته { وَيُسَبّحُونَهُ } يقول : ويذكرونه { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } يعني : يصلون . وقال أهل اللغة : الآصال جمع الأُصل والأُصُل جمع الأَصِيل والآصال جمع الجمع يعني : العشيات والله أعلم بالصواب .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } ، يعني الغنائم واحدها غنيمة نفل ، وكذلك قال لبيد :
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَل ... وَبِإِذْنِ الله رَيْثِي والعَجَلْ
قال ابن عباس { عَنْ } صلة في الكلام وإنّما هو : يسألونك الأنفال أي الغنائم ، ويقال : فيه تقديم ومعناه يسألون عنك الأنفال ، ويقال : يسألونك لمن الأنفال؟ يقال : إنما سألوا عنها لأنها كانت محرمة من قبل ، فسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } يعني الغنائم . قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، عن عبد الرحمن بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة ، عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقي العدو ، فلما هزمهم الله تعالى ، أتبعهم طائفة من المسلمين يقتلونهم ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستولت طائفة بالعسكر والنهب؛ فقال الذين طلبوهم؛ نحن طلبنا العدو ، وبنا نفاهم الله تعالى وهزمهم ، فلنا النفل؛ وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة ، فهو لنا؛ وقال الذين استولوا على العسكر والنّهب : والله ما أنتم بأحق منا ، بل هو لنا نحن حويناه واستوليناه . فأنزل الله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم عن فواق أي عن سواء وروى أسباط ، عن السدي قال : كانت الأنفال لله ورسوله ، فنسخ بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان والله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنفال : 41 ] . وعن عكرمة ومجاهد مثل ذلك . قوله تعالى : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ، يعني اخشوا الله ، وأطيعوه في أمر الغنيمة { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي ما بينكم من الاختلاف في الغنيمة . { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } ، يعني في أمر الصلح والغنيمة . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، يعني إن كنتم صادقين . ويقال : معناه اتركوا المراء في أمر الغنيمة بأن كنتم مصدِّقين . ثم نعت المؤمنين المصدِّقين ، فقال عز وجل : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ؛ ويقال : إنما المصدقون الذين إذا أُمروا بأمر في الغنيمة وغيرها من قبل الله عز وجل ، خافت قلوبهم؛ ويقال : إنما المصدقون الذين إذا ذكر الله ، أي ذكر عندهم أمر الله؛ ويقال : إذا أُمروا بأمر من الله تعالى ، وجلت قلوبهم ، يعني قبلت قلوبهم .
فسمى قبول القلوب وجلاً ، لأن بالوجل يثبت القبول ، لأنهم وجلوا عقوبة الله تعالى فقبلوه . ثم قال { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا } ، يعني قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي في أمر الصلح أو غيره . { زَادَتْهُمْ إيمانا } ، أي تصديقاً ويقيناً . وقال الضحاك : يعني زادتهم يقيناً بحكم الناسخ ، مع تصديقهم بحكم المنسوخ . وقال الزجاج : تأويل الإيمان التصديق ، فكل ما يتلى عليهم من عند الله صدَّقوا به فزادهم تصديقاً فذلك زيادة إيمانهم . وروي عن ابن عباس أنه قال : زادتهم تصديقاً بالفرائض مع تصديقهم بالله . { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، يعني يفوضون أمرهم إلى الله تعالى ، ويثقون به ولا يثقون بما في أيديهم من الغنائم ، ويعلمون أن الله هو رازقهم . قال الله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } ، يعني يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها؛ { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } ، يعني يتصدَّقون مما أعطيناهم من الأموال ، وينفقونها في طاعة الله .
قوله تعالى : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } ، يعني أهل هذه الصفة ، هم المؤمنون الموحدون صدقاً وهم المصدِّقون . { لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ } ، يعني فضائل عند ربهم في الآخرة؛ ويقال : لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم؛ { وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } مغفرة لذنوبهم وثواب حسن في الجنة؛ ويقال : الفتوح والغنيمة . قال ابن عباس : المؤمن مؤمن حقاً والكافر كافر حقاً في قوله : { هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } ؛ قال القتبي : معناه كراهتهم فيما فعلته في الغنائم ، ككراهتهم الخروج معك . ويقال : معناه أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإنْ كان فريقاً من المؤمنين لكارهون؛ فكذلك ننفل الغنيمة لمن نشاء ، وإنْ كرهوا ذلك . ويقال : هذا ابتداء القصة ، ومعناه امض على وجهك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . قوله تعالى : { يجادلونك فِي الحق } ؛ وكان هذا بعد خروجه إلى بدر ، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة . وفي تلك السنة ، حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، وكانت غزوة بدر في شهر رمضان ، وكانت قصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام ، فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلاً من تجار قريش ، ويقال أكثر من ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « هذه عِيرُ قُرَيْشٍ قَدْ أَقْبَلَتْ ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا ، فَلَعَلَّ الله أنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا ، وَتَتَقَوُّوا بِهَا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ » . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من جهينة ، حليفين من الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير ، فخرجا وأتيا وادي الصفراء ، وهي منزل على طريق الشام ، فقالا لأهل الصفراء : هل أحسستم من أحد؟ قالوا : لا . فخرجا فمرا بجاريتين متلازمتين ، فقالت إحداهما للأخرى : اقضيني درهماً لي عليك . فقالت : لا والله ما عندي اليوم ، ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا ، يقدمون غداً فأعمل لهم ، وأقضيك درهمك . فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان فرجعا . فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء ، فقال لأهل الصفراء : هل أحسستم من أحد؟ قالوا : لا إلاَّ رجلين نزلا عند هذا الكثيب ، ثم ركبا . فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع ، فرأى هناك بعر الإبل فأخذ بعرة ففتها ، فوجد فيها النوى فقال : علائق أهل يثرب واللات والعزى؛ فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، يخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد اعترض لعيركم فأدركوه .
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب ، رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في منامها ، كأنّ راكباً أقبل على بعير أورق ومعه راية سوداء ، فدخل المسجد الحرام ، ثم نادى بأعلى صوته : يا آل فلان ويا آل فلان ، انفروا إلى مصارعكم إلى ثلاث ، ثم ارتقى على أبي قبيس ونادى ثلاث مرات . ثم قلع صخرة من أبي قبيس فرماها على أهل مكة ، فتكسرت فلم يبق أحد من قريش إلا أصابته فلقة منها . فلما أصبحت ، قصت رؤياها على أخيها العباس وقالت : إني اخاف أن يصيب قومك سوء .
فاغتم العباس لما سمع منها ، وذكر العباس ذلك للوليد بن عتبة ، وكان صديقاً له ، فذكر الوليد ذلك لأبيه عتبة بن ربيعة ، فذكر ذلك عتبة لأبي جهل بن هشام . وفشا ذلك الحديث في قريش ، فخرج العباس إلى المسجد وقد اجتمع فيه صناديد قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل : يا أبا الفضل ، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ أما رضيتم أن قلتم : منا نبي ، حتى قلتم : منا نبية؟ فوالله لننتظرن بكم ثلاثاً ، فإن جاء تأويل رؤياها؛ وإلا كتبنا عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال له العباس : يا كذاب ، يا مصفر الاست ، بالله أنت أولى بالكذب واللؤم منا . فلما كان اليوم الثالث ، جاء ضمضم ، وقد شق قميصه ، وجزع أذن ناقته ، وجعل التراب على رأسه ، وهو ينادي : يا معشر قريش ، الغوث الغوث ، أدركوا عيركم ، فقد عرض لها أهل محمد . فاجتمعوا وخرجوا ، وهم كارهون مشفقون من رؤيا عاتكة ، ومعهم القينات والدفوف بطراً ورياء؛ كما قال الله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ الأنفال : 47 ] . وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم . وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج ، فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، وخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها ، ومعهم ثلاثة أفراس ويقال فرسان ، فخرجوا بغير قوت ولا سلاح ، لا يرون أنه يكون ثمة قتال . فلما نزلوا بالروحاء ، نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم ، وقال : يا محمد ، إن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين ، إما العير وإما العسكر . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم ، فشقّ ذلك على بعضهم ، وقالوا : يا رسول الله ، هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثمَّ قتال فنخرج معنا سلاحنا وقوسنا ، إنما خرجنا نريد العير ، والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « أَشِيرُوا عَلَيَّ » . فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « أَشِيرُوا عَلَيَّ » . وكان يحب أن يتكلم الأنصار ، فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله امض حيث شئت ، وأقم حيث شئت . فوالله لئن أمرتنا أن نخوض البحر لنخوضنه ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ونحن معكما متَّبعون ، فنزل : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } ، يعني القتال { يجادلونك فِي الحق } ، يخاصمونك في الحرب .
{ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } ، يعني بعد ما تبيَّن لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } ، يعني ينظرون إلى القتل .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } ، يعني إما العير وإما العسكر . { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة } ، أي تمنون غير ذات السلاح . وقال القتبي : ومنه قيل : فلان شاك السلاح ، ويقال : غير ذات الشوكة ، يعني شدة القتال . { تَكُونُ لَكُمْ } الغنيمة؛ { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته } ، يعني أن يظهر الإسلام بتحقيقه بما أنزل عليك من القرآن . { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } ، يعني يهلك الشرك ويستأصله . { لِيُحِقَّ الحق } ، أي يظهر الإسلام . { وَيُبْطِلَ الباطل } ، يعني الشرك . { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } ، أي المشركون .
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « سِيرُوا عَلَىَ بَرَكَةِ الله ، فَإِنِي رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَومِ » . وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم ، فقال بعضهم لبعض : إنما خرجتم لأجل العير ، فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين . فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نقتل محمداً ومن معه . فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بدراً بجانب الوادي الأدنى ، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء ، والوادي فيما بينهما . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، حتى أوتر . وكانت ليلة النصف من شهر رمضان ، وقال في قنوته : « اللَّهُمَّ لا تُفْلِتَنَّ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشّامِ وَفُلاَناً » وفلاناً فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء ، فأتاهم الشيطان عند ذلك ووسوس إليهم ، فقال لهم : تزعمون أنكم على دين الله ، وأنكم تصلون محدثين مجنبين ، والمشركون على الماء . وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام ، فمطرت السماء حتى سال الوادي ، فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشرّبوا دوابهم؛ فذلك قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام } [ الأنفال : 11 ] إلى قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام } [ الأنفال : 11 ] وكان عليّ والزبير يحرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء سقاة قريش يسقون الماء ، فأخذهم عليّ والزبير ، فسألاهم عن أبي سفيان ، فقالوا : ما لنا بأبي سفيان من علم . فقالا : فمع من أنتم؟ فقالوا : مع قريش من أهل مكة . فقالا : كم هم؟ قالوا : لا ندري ، هم كثير فضرباهم فقالوا : هم قليل فتركاهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَضْرِبُونَهُمْ إنْ صَدَقُوكُمْ ، وَتَتْرُكُونَهُمْ إنْ كذَبُوكُمْ » . فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
« كَم القَوْمُ » فقالوا : هم كثير فلا ندري كم هم . فقال : « كَمْ يُنْحَرُ لَهُمْ في كُلِّ يَوْمٍ » فقالوا : في يوم ينحر لهم عشرة جزر ، وفي يوم تسعة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « القَوْمُ ما بَيْنَ تِسْعِمائَةٍ إلى أَلْفٍ » وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين ، وكانوا قد خرجوا من مكة ألفاً ومائتين وخمسين ، فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير ، وبقي تسعمائة وخمسون رجلاً . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ورفع يديه وقال : « اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْ هذه العِصَابَةَ فَإنَّكَ إنْ أَهْلَكْتُهُمْ ، لا تعْبَد عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أبَداً » فقال أبو بكر : يا رسولَ الله ، قد دنا القوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَبْشِرْ يا أبا بَكْرٍ ، فإنِّي رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُعْتَجِراً بِعِمَامةٍ ، يقودُ فَرَساً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ » . فأمدَّه الله بجبريل في ألف من الملائكة ، وميكائيل في ألف من الملائكة ، وإسرافيل في ألف من الملائكة؛ فذلك قوله { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
فقال أبو جهل : اللهم انصر أحب الدينين إليك ، ديننا العتيق ودين محمد الحديث . وقال عتبة بن ربيعة : يا معشر قريش ، إنّ محمداً رجل منكم ، فإن يكن نبياً فأنتم أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً تعيشوا في ملك أخيكم ، وإن يكن كاذباً يقتله سواكم ، لا يكون هذا منكم . وإني مع ذلك لأرى قوماً زرق العيون لا يموتون ، حتى يقتلوا عدداً منكم . فقال أبو جهل : يا أبا الوليد ، جبنت وانتفخ سحرك . فقال له عتبة يا كذاب ستعلم اليوم أيّنا الجبان فلبس لأمته ، وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة ، وخرج معه ابنه الوليد بن عتبة ، فتقدموا إلى القوم وقالوا : يا محمد ، ابعث لنا أكفاءنا . فخرج إليهم قوم من الأنصار ، فقالوا : من أنتم؟ فقالوا : نحن أنصار الله ورسوله فقالوا : لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش ، فانصرفوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا بَنِي هَاشمٍ تَقَدَّمُوا إلَيْهِمْ » فقام عليّ بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعليهم البيض فقال لهم عتبة : تكلموا حتى نعرفكم . فقال حمزة : أنا أسد الله وأسد رسوله . فقال عتبة : كفوء كريم . قال : فمن هذان معك؟ فقال : عليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل؛ فذهب عبيدة بن الحارث إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان ، وذهب عليّ إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان ، وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان . فقتل حمزة بن عبد المطب عتبة بن ربيعة ، وقتل عليّ بن أبي طالب الوليد بن عتبة ، واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة في ضربتين ، ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة ، وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة .
فمال حمزة وعليٌّ على شيبة بن ربيعة ، فقتلاه وحملا عبيدة إلى العسكر ، فمات عبيدة في حال انصرافهم قبل أن يصل إلى المدينة ، فدفن بمضيق الصفراء . ففي هذا الخبر دليل من الفقه أن المشركين إذا طلبوا البراز ، فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام ، ما لم ينههم عن ذلك؛ لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وفيه دليل أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه ، لأن حمزة وعليّاً قد أعانا عبيدة على قتل شيبة؛ وفيه دليل أنه لا بأس بالافتخار عند الحرب ، لأن حمزة قال : أنا أسد الله ، وأسد رسوله . ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال . ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب ، فأصابته رمية بين الصفين؛ فكان أول قتيل يوم بدر وحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على القتال ، فقال عمير بن الحمام السلمي ، وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها : يا رسول الله ، إن قتلت في سبيل الله فلي الجنة؟ قال : نعم . فألقى التمرات ، وأخذ سيفه وشدّ على القوم ، فقاتل حتى قتل . فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له لعنه الله فخرج إليه شاب من الأنصار ، يقال له معاذ بن عمرو بن الجموح ، فضربه ضربة على فخذه فخر أبو جهل عن بعيره . فخرج إليه عبد الله بن مسعود ، فلما رآه أبو جهل ، قال : يا ابن أم عبد لمن الدولة؟ وعلى من الدائرة؟ فقال له ابن مسعود : لله ولرسوله يا عدو الله لأنت أعتى من فرعون ، لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا الصرع إلاَّ تمادياً في الضلالة؟ ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل ، فقال له أبو جهل : لأنت رويعنا بالأمس ، لقد ارتقيت مرتقًى عظيماً . فقتله ابن مسعود وحز رأسه ، وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً ثم قال لأبي بكر ، ويقال لعليّ : « نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَابٍ » . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب ، وَرَمَاهَا في وجوه القوم وقال : « شَاهَتِ الوُجُوهُ » لت في أعين القوم كلهم ، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرون منهم ، وحملوا على المشركين والملائكة معهم وقُذِف في قلوب المشركين الرعب ، فقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين ، وأسروا سبعين ، واستشهد يومئذ من المهاجرين ثلاثة عشر رجلاً . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى والغنائم إلى المدينة ، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى ، فأقبل على أبي بكر فقال :
« مَا تَقُولُ يَا أبَا بَكْرٍ » ؟ فقال : قومك وبنو عمك ، فإن قتلتهم صاروا إلى النار ، وإن تُقِدْهُمْ فلعل الله يهديهم إلى الإسلام ، ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين وقوة على جهاد أعدائهم . ثم أقبل على عمر فقال : « مَا تَقُولُ يَا أبَا حَفْصٍ » فقال عمر : إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم ، فاضرب أعناقهم وسيغني الله المؤمنين من فضله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مَثَلُ مِيكائِيلَ فَإنَّهُ لاَ يَنْزِلُ إلاَّ بالرَّحْمَةَ ، وَمَثَلَكَ مِنَ الأَنْبِياءِ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ ، حَيْثَ قَالَ { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] وَمَثَلُ عِيسَى ، حَيْثُ قَال { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] وَمَثْلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ جِبْرِيلَ فَإنَّهُ يَنْزِلُ بِالعَذَابِ وَالشِّدَّةِ ، وَمَثَلُكَ مِنَ الأنْبِيَاءِ مَثَلُ نُوْحٍ ، حَيْثُ قَالَ : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] وَمَثَلُ مُوسَى ، حَيْثُ قَالَ : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } [ يونس : 88 ] » . وروى سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ، فإنه ليس دونها شيء . فناداه العباس وهو أسير في وثاقه : إنه لا يصلح . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لِمَ » ؟ قال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك .
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين ، علم أنه لا قوة لهم إلا بالله ، فدعا ربه فقال : « اللَّهُمَّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي النَّصْرَ ، وإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ » . فاستجاب له ربه ونزل { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } يقول : واذكروا إذ تسألون ربكم وتدعونه يوم بدر بالنصرة على عدوكم . { فاستجاب لَكُمْ } ، يعني فأجابكم ربكم : { أَنّي مُمِدُّكُمْ } ، يعني أزيدكم { بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ } ، يعني متتابعين بعضهم على أثر بعض . قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { مُرْدِفِينَ } بالنصب ، وقرأ الباقون بالكسر؛ وكلاهما يرجع إلى معنى واحد وهو التتابع .
وقال عكرمة : أمدهم يوم بدر بألف من الملائكة ، وعددهم ثلاثة آلاف من الملائكة لغزوة بعده بدعائه وزاده ألفين فذلك خمسة آلاف من الملائكة ويقال هذا كله كان يوم بدر . ثم قال عز وجل { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } يقول ما أرسل الله من الملائكة إلا للبشارة . وقال بعضهم : إن الملائكة لم يقاتلوا ، وإنّما كانوا مبشرين . وروي عن ابن عباس أنه قال : قاتلت الملائكة يوم بدر ، ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم حنين { وَمَا جَعَلَهُ الله } ، يعني ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرة العدد ، ولكن النصرة من عند الله . { أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } عزيز بالنقمة ، حكيم حكم بالنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وللهزيمة للمشركين .
قوله تعالى : { إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس } ، يقول : ألقى عليكم النوم { أَمَنَةً مّنْهُ } ، يعني أمناً من عند الله . وروى عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : النعاس عند القتال أمنة من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان . قرأ نافع { يُغَشّيكُمُ النعاس } بضم الياء وجزم الغين ونصب النعاس؛ ومعناه يُغْشِيكُمْ الله النُّعَاسَ . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { يُغَشّيكُمُ النعاس } بالألف ونصب الياء وضم النعاسُ ، يعني أخذكم النعاسُ وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين ونصب النعاس { يُغَشّيكُمُ النعاس } ومعناه يغشيكم الله النعاسَ أمنةً منه والتشديد للمبالغة .
ثم قال { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } ، يعني بالماء من الأحداث والجنابة . { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } ، يعني وسوسة الشيطان وكيده . وقال القتبي : أصل الرجز العذاب ، كقوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ البقرة : 59 ] ثم سمي كيد الشيطان رجزاً ، لأنه سبب العذاب . ثم قال : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } ، يعني يشدد قلوبكم بالنصرة منه عند القتال؛ { وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام } ، يعني لتستقر الرجل على الرمل ، حتى أمكنكم الوقوف عليه . ويقال : ويثبت به الأقدام في الحرب . ثم قال تعالى :
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة } ، يعني ألهم ربك الملائكة ، { إِنّى مَعَكُمْ } ، أي معينكم وناصركم؛ { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } ، يعني بشروا المؤمنين بالنصر . فكان الملك يمشي أمام الصف فيقول : أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل والله ناصركم . { سَأُلْقِى } ، يعني سأقذف { فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } ، يعني الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
ثم علَّم المؤمنين كيف يضربون ويقتلون فقال تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الاعناق } ، يعني على الأعناق { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ، يعني أطراف الأصابع وغيرها ، ويقال كل مفصل . قال الفقيه : سمعت من حكى ، عن أبي سعيد الفارياني أنه قال : أراد الله إلاَّ يلطخ سيوفهم بفرث المشركين ، فأمرهم أن يضربوا على الأعناق ولا يضربوا على الوسط ويقال : معناه اضربوا كل شيء استقبلكم من أعضائهم ولا ترحموهم . { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } ، يعني ذلك الضرب والقتل سبب أَنَّهُمْ { شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } ، يعني عادوا الله ورسوله ، وخالفوا الله ورسوله . { وَمَن يُشَاقِقِ الله } ورسوله ، يعني من يخالف الله { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب .
ثم قال تعالى : { ذلكم } ، يعني ذلكم القتل يوم بدر ، { فَذُوقُوهُ } في الدنيا ، { وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } يوم القيامة مع القتل في الدنيا يعني أن القتل والضرب لم يصر كفارة لهم .
قوله تعالى : { النار يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } ، يعني إذا لقيتم الذين كفروا بتوحيد الله تعالى يوم بدر { زَحْفاً } ، يعني مزاحفة ، ويقال زحف القوم إذا دنوا للقتال ، ومعناه إذا وافقتموهم للقتال؛ { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار } ، يعني منهزمين .
{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } ، يعني ظهره منهزماً يومئذ ، يعني يوم حربهم . وقال الكلبي : يعني يوم بدر خاصة؛ { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } ، يعني مستطرداً للكرة يريد الكرة للقتال؛ { أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } ، يعني ينحاز من فئة إلى فئة من أصحابه يمنعونه عن العدو . قال أهل اللغة تحوَّزت وتحيَّزت أي انضممت إليه ، ومعناه إذا كان منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة ، { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله } وفي الآية تقديم ، يعني ومن يولهم يومئذ دبره ، فقد باء بغضب من الله ، أي استوجب الغضب من الله . { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } إلا منحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة .
وروي عن الحسن أنه قال : كان هذا يوم بدر وغيره . وعن الضحاك قال : هذا يوم بدر خاصة ، لأنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها . وعن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة قال : نزلت يوم بدر ، لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين ، لم يكن في الأرض مسلمون غيرهم . وقد قال بعضهم بأن الآية غير منسوخة ، لأنه لا يجوز للواحد أن يهرب من الاثنين وأن يهرب من الجماعة؛ وإذا لم يكن معه سلاح جاز له أن يهرب ممن معه سلاح ، وإذا لم يكن رامياً جاز له أن يهرب من الرامي .
فإذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفار ومعهم سلاح ، لا يجوز لهم أن يهربوا منهم؛ وإذا كان المسلمون اثني عشر ألفاً ومعهم سلاح ، لا يجوز أن يهربوا من الكفار وإن كانوا مائة ألف ، لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائِةٍ ، وَخَيْرُ الجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلافٍ؛ وَلَنْ يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفاً مِنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةً وَيُقَاتِلُوهُمْ ، حَتَّى يَنْصُرَهُمُ الله تَعَالَى » . والآية نزلت في الذي لا يجوز له الهرب . وروى سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي المغيث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ » . قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : « الشِّركُ بِالله ، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ المُحَصَنَاتِ » . قوله تعالى :
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } وذلك أن المسلمين كانوا يقولون : قتلنا فلاناً وقتلنا فلاناً . فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم ، فقال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } يقول : فما قتلتموهم؛ { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، يعني الله تعالى نصركم عليهم وأمدكم بالملائكة . { وَمَا رَمَيْتَ } ، يعني الله تعالى تولى ذلك . وذلك حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب ، فملأ الله تعالى أعينهم بها فانهزموا ، قال الله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ } يعني لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ؛ { ولكن الله رمى } الله تعالى تولى ذلك . ويقال : رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة ، فأصاب أبي بن خلف الجمحي فقتله .
قرأ حمزة والكسائي { ولكن الله رمى } بكسر النون والتخفيف والله بالضم ، وكذلك في قوله { ولكن الله قَتَلَهُمْ } وقرأ الباقون بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده { ولكن الله رمى } . قال : { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } ، يعني لينصرهم نصراً جميلاً ويختبرهم بالتي هي أحسن ، ويقال : ولينعم المؤمنين نعمة بينة . { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، يعني سميع لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليم بإجابته .
{ ذلكم } ، أي الهلاك والهزيمة للكفار ، ويقال معناه الأمر من ربكم . ثم ابتدأ فقال : { وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } ، يعني مضعف كيد الكافرين ، يعني صنيع الكافرين ببدر . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } بنصب الواو والتشديد منونة { كَيْدَ } بنصب الدال ، وقرأ عاصم في رواية حفص { مُوهِنُ كَيْدِ } بضم النون بغير تنوين { كَيْدَ } بكسر الدال على معنى الإضافة ، وقرأ الباقون { مُوهِنُ كَيْدِ } بالتنوين والتخفيف { كَيْدَ } بالنصب والمُوهِنُ والمُوهَنُ واحد؛ ويقال : وهنت الشيء وأوهنته ، إذا جعلته واهناً ضعيفاً .
ثم قال تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } ، يقول إن تستنصروا فقد نصركم الله حين قلتم؛ وذلك أن أبا جهل بن هشام قال : اللهم انصر أحب الدينين وأحب الجندين وأحب الفئتين إليك ، فاستجيب دعاؤه على نفسه وعلى أصحابه .
ثم قال : { وَإِن تَنتَهُواْ } عن قتاله ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من قتاله؛ ويقال : إن أهل مكة حين أرادوا الخروج إلى بدر ، أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم . فنزل { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ } عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم وعن الكفر { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من الإقامة عليه ، { وَإِن تَعُودُواْ } لقتال محمد صلى الله عليه وسلم ، { نَعُدُّ } على القتل والأسر والهزيمة . { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ *** فِتْنَتَكُمْ } ، يعني جماعتكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } في العدد . { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } ، يعني معين لهم وناصرهم .
قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين : { وَأَنَّ الله } بالنصب ، والباقون بالكسر { وَأَنَّ الله } على معنى الاستئناف ويشهد لها قراء عبد الله بن مسعود والله مع المؤمنين .
ثم قال تعالى : { المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في أمر الغنيمة والصلح . { وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } ، يعني لا تعرضوا عن أمره ، ويقال عن طاعته ، ويقال : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } المواعظ في القرآن وفي أمر الصلح .
قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ، يعني لم يفهموا ولم يتفكروا فيما سمعوا؛ ويقال : قوله { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ، يعني لا يطيعون . قال الكلبي : وهم بنو عبد الدار ، لم يسلم منهم إلا رجلان : مصعب بن عمير وسويد بن حرملة . وقال الضحاك ومقاتل : أي سمعنا الإيمان وهم لا يسمعون ، يعني المنافقين . ثم قال تعالى :
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } ، يعني شر الناس عند الله { الصم } عن الهدى { البكم } ، يعني الخرس الذين لا يتكلمون بخير ، { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } الإيمان ، يعني بني عبد الدار وغيرهم من الكفار ، لم يسلموا .
قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } ، يقول : لو علم الله تعالى فيهم صدقاً ، لأعطاهم الإيمان وأكرمهم به . { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } ، يعني لو أكرمهم بالإسلام ، { لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } ؛ يعني أعرضوا عن الإيمان؛ بما سبق في علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون . وقال الزجاج : معناه ولو علم الله فيهم خيراً ، لأسمعهم الجواب عن كل ما يسألون عنه . { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } ، يعني لو بيَّن لهم كل ما يختلج في نفوسهم ، لأعرضوا عنه لمعاندتهم .
قوله تعالى : { مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ } ، يعني أجيبوا الله بالطاعة في أمر القتال . { وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } إلى القتال أو غيره . وإنّما قال : إذا دعاكم ، ولم يقل : إذا دعواكم ، لأن الدعوة واحدة ومن يجب الرسول فقد أجاب الله تعالى . قوله تعالى : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، يعني القرآن الذي به حياة القلوب ، ويقال { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، يعني يهديكم في أمر الحرب الذي يعزّكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف ، ويقال : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، أي يهديكم . ويقال : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، يعني لما يكون سبباً للحياة الدائمة في نعيم الآخرة .
{ واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } . قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا فارس بن مردويه ، عن محمد بن الفضل ، عن أبي صالح مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار ، ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة؛ ويقال : تحول بين المرء وإرادته ، لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد وإنما يكون بإرادة الله تعالى ، كما قال أبو الدرداء :
يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاه ... وَيَأْبَى الله إلاَّ مَا أَرَادَا
ويقال : يحال بين المرء وأجله ، لأن الأجل حال دون الأمل . وقال سعيد بن جبير : يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر . وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه يعني حتى يتركه ولا يفعله . ثم قال : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، يعني في الآخرة فتثابون بأعمالكم .
قوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ؛ قال مقاتل : نزلت الآية في شأن عليّ وطلحة والزبير . قال الفقيه : حدثنا عمر بن محمد قال : حدثنا أبو بكر الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } قال : نزلت في شأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : حدثنا عمر بن محمد قال : حدثنا أبو بكر الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا أبو معاوية ، عن السدي ، عن المعلى ، عن أبي ذرّ أن عمر رضي الله عنه أخذ بيده يوماً فغمزها ، فقال : خل عني يا قفل الفتنة . فقال عمر : ما قولك قفل الفتنة؟ قال : إنك جئت ذات يوم فجلست في آخر القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تُصِيبَنَّكُمْ فِتنْةٌ مَا دَامَ هذا فِيكُمْ » . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : جعلت أنا وعثمان فتنة لهذه الأمة . وقال بعضهم : قوله { لاَّ تُصِيبَنَّ } هذا على وجه النهي ومعناه اتقوا فتنة ، ثم نهى فقال : { لاَّ تُصِيبَنَّ } ، يعني الذين ظلموا منكم خاصة ، أي لا يتعرض الذين ظلموا منكم خاصة لما نزل بهم ، وقَال بعضهم هذا جواب الأمر بلفظ النهي مثل قوله تعالى : { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِى النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] .
ثم قال تعالى : { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، أي لمن وقع في الفتنة . ثم ذكرهم النعم فقال تعالى : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } ، يعني واحفظوا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلاً في العدد وهم المهاجرون ، { مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الارض } ؛ يعني مقهورون في أرض مكة . { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } ، يعني يختلسكم ويذهب بكم الكفار . { فَآوَاكُمْ } بالمدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بنصره يوم بدر . وقال قتادة : كانوا بين أسدين ، بين قيصر وكسرى ، يخافون أن يتخطفهم الناس ، وهم أهل فارس والروم والعرب ممن حول مكة . ثم قال { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } ، يعني الحلال وهو الغنيمة . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، يعني لكي تشكروا الله وتطيعوه وتعرفوا ذلك منه . قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{ تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } ؛ روى أسباط عن السدي قال : كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث ، فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : { تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } . ويقال كل رجل مؤتمن على ما فرض الله عليه ، إن شاء أداها ، وإن شاء خانها . وقال القتبي : الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه . ثم سمّى العاصي من المسلمين خائناً ، لأنه قد ائتمن على دينه فخان . كما قال في آية أخرى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187 ] ، ويقال : نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين أشار إلى بني قريظة أن لا ينزلوا على حكم سعد وأشار إلى حلقه إنه الذبح . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة من بعد انصرافهم من الخندق ، ووقف بباب الحصن وفيه ستمائة رجل من اليهود ، وقد كانوا ظاهروا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم : « يَا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ ، انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وَرَسُولِهِ » . فقالت اليهود : يا محمد ، ما كنت فحّاشاً قبل هذا . فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر ، فدخل على اليهود فركبوا إليه وقالوا يا أبا لبابة ، أتأمرنا بالنزول إلى محمد صلى الله عليه وسلم . فأشار بيده إلى حلقه ، يعني إنه الذبح إن نزلتم إليه . فقال أبو لبابة : والذي نفسي بيده ، ما زالت قدماي من مكاني ، حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ وأوثق نفسه إلى سارية المسجد ، حتى أنزل الله تعالى توبته ونزل : { تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } . { وَتَخُونُواْ أماناتكم } ، يعني لا تخونوا أماناتكم . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها خيانة . قال محمد بن إسحاق : { لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } يعني لا تظهروا له من الحق ما يرضى عنكم ثم تخالفوه في السر . قال : فإن ذلك هلاكاً لأنفسكم وخيانة لأماناتكم .
ثم قال عز وجل : { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } ، يعني بلاء عليكم ، لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة . { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ، يعني الجنة لمن صبر ولم يخن .
قوله تعالى : { عَظِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله } ، يعني إن تطيعوا الله ولا تعصوه ، { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } ؛ يعني يجعل لكم مخرجاً في الدنيا ونجاة ونصراً في الدين؛ ويقال : المخرج من الشبهات . وقال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة . { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } ، يقول : يمحو عنكم ذنوبكم ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ؛ يعني يستر ذنوبكم وعيوبكم . { والله ذُو الفضل العظيم } ، يعني ذو الكلام والتجاوز عن عباده .
قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } ؛ وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة؛ وكانت قريش إذا اجتمعوا للمشورة والتدبير يجتمعون في تلك الدار ، فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم ، ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتالوا في أمره؛ فدخل إبليس في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار ، وجلس معهم فقالوا من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا؟ فقال : أنا رجل من أهل نجد ، ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم ، فأردت أن أسمع حديثكم ، وأقتبس منكم خيراً وقد عرفت مرادكم ، فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم . فقالوا : هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة ، لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم . فقال عمرو بن هشام : أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه ، وتجعلوا له كوة لطعامه وشرابه حتى يموت . فقال إبليس : بئس الرأي الذي رأيت ، تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت ، وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه ، يوشك أهل بيته الذين فيكم أن يقاتلوكم أو يفسدوا جماعتكم . فقالوا : صدق والله الشيخ .
ثم تكلم أبو البختري بن هشام قال : أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم ، حتى يموت أو يذهب به حيث شاء ، فقال إبليس عدو الله : بئس الرأي الذي رأيت ، تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة ، فتخرجوه إلى غيركم ، فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضاً جماعة ، ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم . فقالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل : أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل ، ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعاً ، فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته . فقال إبليس : صدق والله هذا الشاب . فتفرقوا على ذلك ، فأمر الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية { وَإِذْ يَمْكُرُ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } ، يعني ليحبسوك في البيت أو يقتلوك بالبيت ، { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة .
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه ونام عليّ مكانه ، وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت؛ ثم دخلوا البيت ، فإذا هو عليّ رضي الله عنه فقالوا : يا عليّ أين محمد؟ فقال : لا أدري . فطلبوه فلم يجدوه . { وَيَمْكُرُونَ } ، يعني ويمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويريدون به الشر { وَيَمْكُرُ الله } ، يعني يريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا . { والله خَيْرُ الماكرين } ، يعني أصدق الماكرين فعلاً وأفضل الصانعين صنعاً وأعدل العادلين عدلاً . قوله تعالى :
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } ، يعني القرآن . { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا } ، يعني قد سمعنا قولك . { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } ، أي مثل هذا القرآن . { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } ، نزلت في شأن نضر بن الحارث ، كان يحدث عن الأمم الخالية من حديث رستم وإسفنديار ، فقال : إن الذي يخبركم محمد مثل ما أحدثكم من أحاديث الأولين وكذبهم ، فقال له عثمان بن مظعون : اتق الله يا نضر ، فإنه ما يقول إلا حقاً ، فقال النضر بن الحارث قوله تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } ، يعني إن كان ما يقول محمد من القرآن حقاً ، { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } . قال أبو عبيدة كل شيء في القرآن أمطر فهو من العذاب ، وما كان من الرحمة فهو مطر . وروى أسباط عن السدي قال : قال النضر بن الحارث : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، { أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فنزل { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] فاستجيب دعاؤه وقتل في يوم بدر .
قال سعيد بن جبير : قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبراً النضر بن الحارث ، وطعمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط . وكان النضر أسره المقداد ، فقال المقداد : يا رسول الله أسيري . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الله وَرَسُولِهِ مَا يَقُولُ » فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيري . فقال : « اللَّهُمَّ أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ » . فقال المقداد : هذا الذي أردت فنزل { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } ؛ وكان ذلك القول من النضر حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، فأخبر الله تعالى أنه لا يعذبهم وأنت بين ظهرانيهم ، حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم .
ثم قال عز وجل : { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، يعني يصلّون لله الخمس وهم أهل الإيمان؛ وقال مجاهد : وهم يستغفرون يعني وهم مسلمون؛ ويقال : وفيهم من يؤول مرة إلى الإسلام؛ ويقال : وهم يستغفرون يعني وفي أصلابهم من يسلم . وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : كان أمانان في الأرض ، رفع الله أحدهما وبقي الآخر { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وقال عطية : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } ، يعني المشركين حتى يخرجك منهم . { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، يعني المؤمنين .
ثم عاد إلى ذكر المشركين فقال : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } ، يعني بعد ما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم .
{ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } ، يعني يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام . { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } ؛ يعني المشركين . قال الكلبي : يعني ما كانوا أولياء المسجد الحرام؛ ويقال : وما كانو أولياء الله . { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } ، يعني ما كان أولياء الله إلا المتقون من الشرك ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد الله تعالى .
ثم قال : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ } ، معناه وما لهم ألا يعذبهم الله { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } ، يعني لم تكن صلاتهم حول البيت إلاّ مكاءً ، يعني إلا الصفير وتصدية ، يعني التصفيق باليدين ، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام . قرأ الأعمش { مَا كَانَ *** صَلاَتِهِمْ } بالنصب { إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } بالضم؛ وهكذا قرأ عاصم في إحدى الروايتين ، فجعل الصلاة خبر كان وجعل المكاء والتصدية اسم كان؛ وقرأ الباقون { صَلاَتِهِمْ } بالضم فجعلوه اسم كان { مُكَاء وَتَصْدِيَةً } بالنصب على معنى خبر كان . ثم قال : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بتوحيد الله تعالى ، فأهلكهم الله تعالى في الدنيا ولهم عذاب الخلود في الآخرة . قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم } على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصدوا عن سبيل الله ، يعني ليصرفوا الناس عن دين الله وطاعته . قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في المطعمين يوم بدر ، وهم الذين كانوا يطعمون أهل بدر حين خرجوا في طريقهم . قال الله تعالى : { فَسَيُنفِقُونَهَا } . وكانوا ثلاثة عشر رجلاً أطعموا الناس الطعام ، فكان على كل رجل منهم يوماً ، منهم : أبو جهل ، وأخوه الحارث ، ابنا هشام وعتبة وشيبة ، ابنا ربيعة ومنبه ونبيه ، ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، وأبي بن خلف وغيرهم؛ يقول الله تبارك وتعالى : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ، يعني تكون نفقاتهم عليهم حسرة وندامة ، لأنها تكون لهم زيادة العذاب ، فتكوى بها جنوبهم وظهورهم . وقال مجاهد : هو نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد . وقال الحكم : أنفق أبو سفيان على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ذهباً . { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } ، يعني يهزمون ولا تنفعهم نفقتهم شيئاً : { والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ، يعني إن القتل والهزيمة لم تكن كفارة لذنوبهم ، فيحشرون في الآخرة إلى جهنم .
ثم قال تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } ، يعني الخبث من العمل والطيب من العمل ، { وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ } ؛ قول الكلبي ، وقال مقاتل : ليميز الله الكافرين من المؤمنين ، ويجعل في الآخرة الخبيثة أنفسهم ونفقاتهم وأقوالهم ، فيركم بعضه على بعض جميعاً ، فيجعله في جهنم؛ ويقال : ليميز الله الخبيث من الطيب بين نفقة المؤمنين ونفقة المشركين ، فيقبل نفقة المؤمنين ويثيبهم على ذلك ، ويجعل نفقة الكفار وبالاً عليهم؛ ويجعل ذلك سبباً لعقوبتهم ، فتكوى بها جباههم . وقال القتبي : فيركمه ، أي يجعله ركاماً بعضه على بعض . ثم قال { أولئك هُمُ الخاسرون } ، أي المغبونون في العقوبة . قرأ حمزة والكسائي { لِيَمِيزَ الله } بضم الياء مع التشديد ، والباقون { لِيَمِيزَ } بالنصب مع التخفيف؛ ومعناهما واحد . مَازَ يُميِزُ وَمَيَّزَ يُمَيِّزُ .
قوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، يعني أبا سفيان وأصحابه ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة : { إِن يَنتَهُواْ } عن الشرك وعن قتال محمد وعن المؤمنين ، { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } ؛ يعني يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم . { وَإِن يَعُودُواْ } إلى قتال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين } بنصرة أوليائه وقهر أعدائه . ويقال : يعني القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم؛ وقال الكلبي : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين } أن ينصر الله أنبيائه ومن آمن معهم ، كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد } [ غافر : 51 ] .
ثم حثَّ المؤمنين على قتال الكفار فقال تعالى : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ، يعني لا يكون الشرك بمكة ، ويقال : حتى لا يتخذوا شركاء ويوحدوا ربهم ، { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } ؛ يعني يظهر دين الإسلام ولا يكون دين غير دين الإسلام . { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك وعن عبادة الأوثان وقتال المسلمين ، { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ؛ فينبئهم بأعمالهم . { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ، يعني أبوا وأعرضوا عن الإيمان ، يا معشر المسلمين ، { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } ؛ يعني حافظكم وناصركم . ثم قال : { نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } ، يعني الحفيظ والمانع . قوله تعالى :
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } فعلمهم قسَّم الغنيمة وجعل أربعة أخمساها للذين أصابوها ، وأمر بأن يقسم الخمس على خمسة أسهم؛ وقال بعضهم : على ستة أسهم؛ وقال أبو العالية الرياحي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة أسهم ، أربعة لمن شهدها؛ ويأخذ الخمس ، فيجعله على ستة أسهم : سهم لله تعالى للكعبة ، سهم الرسول ، وسهم لذوي القربى أي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . وقال بعضهم : سهم الله ورسوله واحد .
وروى سفيان ، عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فأن لله خمسه ، قال : هذا مفتاح الكلام ، لله الدنيا والآخرة؛ ثم قال : وقد اختلف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذوي القربى ، فقال بعضهم : للخليفة ، وقال بعضهم : لقرابة الخليفة ، فاجتمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله تعالى ، فكانا كذلك في خلافة أبي بكر وعمر . وروى أبو يوسف ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : كان الخمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم : سهم الله ورسوله واحد ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل؛ وقسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل . وبهذا أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أن الخمس يقسم على ثلاثة أسهم ، ولا يكون لأغنياء ذوي القربى شيء ، ويكون لفقرائهم فيه نصيب ، كما يكون لسائر الفقراء ، وكذلك يُتَاماهم وابن السبيل منهم ، وذلك قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى } .
ثم قال : { وَقَالَ موسى ياقوم إِن } . يجوز أن تكون متعلقة بقوله : { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } ، إن كنتم آمنتم بالله عز وجل ، ويجوز أن يكون معناه فاقبلوا ما أمرتم به من الغنيمة في الخمس إن كنتم آمنتم بالله ، يعني إذ كنتم صدقتم بتوحيد الله ، { وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } ؛ يعني وصدقتم بما أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن يوم الفرقان يعني يوم بدر قال الكلبي : أي يوم النصرة؛ ويوم بدر في أمر الغنيمة فَرَّقَ بين الحق والباطل . وقال مقاتل : معناه وما أنزلنا من الفرقان يوم بدر فأَقرُّوا بحكم الله تعالى في أمر الغنيمة . { يَوْمَ التقى الجمعان } ؛ يعني يوم جمع المسلمين وجمع المشركين . { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ، يعني على نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين .
ثم قال الله تعالى : { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا } ، يعني اذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { بِالْعُدْوَةِ } بالكسر ، وقرأ الباقون بالضم؛ ومعناهما واحد وهو شفير الوادي . ويقال عِدْوَةِ الوادي وعُدْوَتِهِ ، يعني كنتم على شاطىء الوادي مما يلي المدينة . { وَهُم بالعدوة القصوى } ، يعني من الجانب الآخر مما يلي مكة ، { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } ؛ يعني العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطىء البحر حين أقبلوا من الشام .
{ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } ، يعني ولو تواعدتم أنتم والمشركون بالإجماع للقتال ، { لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } أنتم والمشركون ، { ولكن } جمع الله بينكم على غير ميعاد ، { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ؛ يعني كائناً وكان من قضائه هزيمة الكفار ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قوله تعالى : { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ } . أي ليكفر من أراد الكفر بعد البيان له من الله تعالى ، { ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } ، يقول : ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى . وقال الكلبي : ليهلك من هلك على الكفر بعد البيان ، ويحيى من حي بالإيمان عن بينة ويقال : هذا ، وعيد من الله تعالى لأهل مكة يقول : ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر ، حين فرقت الحق من الباطل ، ويحيى يعني يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول وأقمت عليه الحجة . قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن كثير في رواية شبل البزي { مِنْ } بإظهار الياءين ، والباقون بياء واحدة وأصله بياءين ، إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر ، لأنهما من جنس واحد . ثم قال : { بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } . قوله تعالى :
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتفوا ، فأخبر أصحابه بما رأى في المنام أن العدو قليل ، فقالوا : رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق والقوم القليل . فلما التقوا ببدر قلّل المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } ، يعني لجبنتم وتركتم الصف ، { ولتنازعتم فِى الامر } ؛ يعني اختلفتم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . { ولكن الله سَلَّمَ } ، يعني ولكن الله أتمّ للمسلمين أمرهم على عدوهم ، ويقال : سلَّم يعني قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين ، ويقال : إذ يريكهم الله في منامك قليلاً يعني في عينك ، لأن العين موضع النوم ، أي في موضع منامك . وروي عن الحسن قال : معناه في عينيك التي تنام بها . ثم قال : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ، يعني إني عالم بسرائركم .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم } ، يعني يوم بدر { فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } في العدد . وروى أبو عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : لقد قللّوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة . حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه ، فقال : كنا ألفاً ، ثم قال : { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } معشر المؤمنين في أعين المشركين وذلك حين لقوا العدو قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين ، لكيلا يجبنوا وقلل المؤمنين ، في أعين المشركين ، ليزدادوا جرأة على القتال حتى قتلوا ، ولكي يظهر الله عندهم فضل المؤمنين . { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ، يعني إذا قضى الله تعالى أمراً فهو كائن ، وهو النصرة للمؤمنين والذل لأهل الشرك بالقتل والهزيمة . { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } ، يعني عواقب الأمور في الآخرة .
ثم حرّض المؤمنين على القتال فقال تبارك وتعالى : { الامور ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } ، يعني جماعة من الكفار فاثبتوا لهم وقاتلوهم مع نبيكم ، { واذكروا الله كَثِيراً } ؛ يعني في الحرب ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ يعني تفوزون به .
ثم قال الله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما يأمركم من القتال . { وَلاَ تنازعوا } ، يعني لا تختلفوا فيما بينكم ، { فَتَفْشَلُواْ } ؛ يعني فتجبنوا من عدوكم ، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . قال مجاهد : يعني نصرتكم ، وذهب ريحهم يوم أُحد حين نازعتموه؛ وقال الأخفش : يعني دولتكم؛ وقال قتادة : ريح الحرب . وأصله في اللغة تستعمل في الدولة ، ويقال الريح له اليوم يراد به الدولة . ثم قال : { واصبروا } ، يعني لقتال عدوكم . { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } ، يعني معين لهم وناصرهم .
ثم قال : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ } ، معناه قاتلوا لوجه الله تعالى ، ولا تقاتلوا رياءً وسمعةً ولا تكونوا يا أصحاب النبي عليه السلام كالذين خرجوا { مِن ديارهم } وهم أهل مكة { بَطَراً } يعني أشراً . وأصله الطغيان في النعمة . { وَرِئَاء الناس } ، يعني لكي يذكْروا بمسيرهم ، ويقولوا : تسامع الناس بمسيرنا . وقال محمد بن إسحاق : خرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً ، ومعهم مائتا فرس يقودونها ، وخرجوا ومعهم القينات يضربون بالدفوف ويغنون بهجاء المسلمين . ثم قال : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ، يعني يصرفون الناس عن دين الإسلام . { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، يعني عالم بهم وبأعمالهم .
قوله تعالى :
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } يعني مسيرهم ومعناه أن خروجهم لما كان للشيطان ، زين لهم الشيطان أعمالهم وذلك أن أهل مكة لما وجدوا العير ، أرادوا الرجوع إلى مكة ، فأتاهم إبليس على صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، فقال لهم : لا ترجعوا حتى تستأصلوهم ، فإنكم كثير وعدوكم قليل . ثم قال : { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس } ، يعني لا يطيقكم أحد لكثرتكم وقوتكم .
{ فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان } ، يعني اجتمع الجمعان ، جمع المؤمنين وجمع المشركين ، { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } ؛ أي راجعاً وراءه؛ فقال له الحارث بن هشام : أين ما ضمنت لنا؟ { وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } . فقال له الحارث : وهل ترى إلا جعاشيش أهل يثرب؟ والجعاشيش جمع جعشوش ، وهو الرجل الحقير الدميم القصير . فقال : { إِنّي أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } . قال ابن عباس : خاف إبليس أن يأخذه جبريل أسيراً ، فيعرفه الناس فيراه الكفار ، فيعرفونه بعد ذلك ، فلا يطيعونه؛ ولم يخف على نفسه الموت والقتل ، لأنه كان يعلم أن له بقاء إلى يوم ينفخ في الصور . قال إبليس : إني أرى ما لا ترون ، أي أرى جبريل معتجراً بردائه يقود الفرس ، فلما تولى قالوا هزم الناس سراقة . فسار سراقة بعد رجوعهم إلى مكة ، وقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم . فقالوا له : ألم تأتنا يوم كذا وكذا؟ فحلف أنه لم يحضر؛ فلما أسلموا ، علموا أنه كان إبليس .
وقال مقاتل : لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر ، وذلك أن إبليس جاء بنفسه ، وحضرت الشياطين ، وحضر كفار الجن كلهم ، وتسعمائة وخمسون من المشركين ، وثلاثمائة وثلاثة عشر من المؤمنين ، وتسعون من مؤمني الجن ، وألف من الملائكة . وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه السورة ، كان يقول : طوبى لجيش كان قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومبارزهم أسد الله ، وجهادهم في طاعة الله ، ومددهم ملائكة الله ، وجارهم أمين الله ، وثوابهم رضوان الله .
قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، يعني شكاً ونفاقاً . قال الحسن : هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين؛ وقال الضحاك : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه؛ ويقال : معناه إذ يقول المنافقون وهم الذين في قلوبهم مرض . قال ابن عباس : نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة ، فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرهاً ، فلما رأوا قلة المؤمنين ارتابوا ونافقوا ، وقالوا لأهل مكة : { غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } . وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم .
يقول الله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ، يعني يثق بالله ولا يثق بغيره ، { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } بالنقمة ، { حَكِيمٌ } حكم بهزيمة المشركين .
فلما قتلوا ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، فنزل : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ } ، يعني ولو ترى ، يا محمد إذ يتوفى الذين كفروا ، يعني حين يقبض أرواح الذين كفروا { الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } عند قبض أرواحهم ، { وأدبارهم } ، { ***و } يقول لهم الملائكة يوم القيامة : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ؛ ولم يذكر الجواب ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، ومعناه لو رأيت ذلك لرأيت أمراً عظيماً . قرأ ابن عامر { إِذْ } الذين بلفظ التأنيث ، وقرأ الباقون { الله يَتَوَفَّى } بلفظ التذكير . وروي عن ابن مسعود أنه كان يُذَكِّر الملائكة في جميع القرآن ، خلافاً للمشركين بقولهم : الملائكة بنات الله .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ، يعني ذلك العذاب بما قدمت أيديكم من الكفر والتكذيب وبترككم الإيمان . { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } يقول لم يعذبهم بغير ذنب . ثم قال عز وجل :
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ * وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم الخالية . { كَفَرُواْ بئايات الله } ، يعني جحدوا بعذاب الله في الدنيا أنه غير نازل بهم ، { فَأَخَذَهُمُ الله } ؛ يعني عاقبهم وأهلكهم { بِذُنُوبِهِمْ } وشركهم . ثم قال : { إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب } ، يعني قوي في أخذه ، شديد العقاب لمن عصاه .
قوله تعالى : { ذلك } العذاب الذي نزل بهم ، { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } في الدين والنعم؛ فإذا غيّروا ، غيّر الله عليهم ما بهم من النعم؛ وهذا قول الكلبي . وروى أسباط ، عن السدي في قوله { لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ } قال : أنعم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وكفروا به ، فنقله إلى الأنصار؛ ويقال : أطعمهم من جوع ، وأمنهم من خوف ، فلم يشكروا ، فجعل لهم مكان الأمن الخوف ، ومكان الرخاء الجوع . وهذا كقوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] إلى قوله { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] وقال الضحاك : ما عذب الله قوماً قط وسلبهم النعم ، ولا فرق بينهم وبين العافية ، حتى كذبوا رسلهم؛ فلما فعلوا ذلك ألزمهم الذل وسلبهم العز ، فذلك قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ثم قال : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميع لمقالتهم ، عليم بأفعالهم .
ثم قال { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } في الهلاك . { والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ } ، يعني بكفرهم ، { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } ؛ يعني فرعون لادعائه الربوبية ، وآله لأنهم عبدوا غيري . { وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين } ، يعني مشركين . ومعناه كصنيع آل فرعون ، قد أعطاه الله تعالى الملك والعز في الدنيا ، ولم يغير عليه تلك النعمة ، حتى كذب بآيات الله ، فغيَّر الله عليه النعمة وأهلكه مع قومه
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، يعني شر الناس . قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في بني قريظة ، كعب بن الأشرف وأصحابه ، لأنهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا . فعاهدهم مرة أُخرى ، فنقضوا العهد؛ فذلك قوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } نقض العهد .
قوله تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب } يقول : إن تظفر بهم في الحرب ، يعني في القتال ، ويقال : إن أدركتهم في القتال ، { فَشَرّدْ بِهِم } ؛ يقول نكّل بهم في العقوبة { مّنْ خَلْفِهِمْ } ، يعني ليتَّعِظْ بهم من بعدهم الذين بينك وبينهم عهد ، ويقال : افعل بهم فعلاً من العقوبة والتنكيل يفرق به من وراءهم من أعدائك . وقال أبو عبيدة : فشرد بهم إنها لغة لقريش ، سمع بهم ، أي خوِّف . والتشريد في كلامهم ، التشريد والتفريق . { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ، يعني النكال فلا ينقضون العهد .
قوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } ، يعني وإن علمت من قوم نقض العهد؛ والخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء ، فلا يؤدي الأمانة . وسمي ناقض العهد خائناً ، لأنه اؤتمن بالعهد فغدر ونكث . { فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء } ، أي فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد وأعلمهم بالحرب ، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء . وقال القتبي : إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها ، فانظر في الآية . وقد ترجموا سائر الكتب؛ ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أُخرى ، فلا يمكنه ذلك ، لأنك لو أردت أن تنقل قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } لم تستطع بهذا اللفظ ، ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد ، فخفت منهم خيانة ونقضاً ، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب ، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء . ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } ، يعني الناقضين للعهد .
قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } ، يعني لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم من الذين جحدوا بوحدانية الله تعالى { سَبَقُواْ } ، يعني فاتوا بأعمالهم الخبيثة { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، يقول لن يفوتوا الله تعالى حتى يعاقبهم ، ويقال : لا يجحدون الله تعالى عاجزاً عن عقوبتهم . قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } بالياء على وجه المغايبة ونصب السين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } بالتاء على وجه المخاطبة ونصب السين ، وقرأ الباقون على وجه المخاطبة وكسر السين ، وقرأ ابن عامر { أَنَّهُمْ } بالنصب على معنى البناء ، وقرأ الباقون بالكسر على معنى الابتداء . فمن قرأ بالنصب ، معناه لأنهم لا يعجزون ، يعني لا يفوتون . وقرأ بعضهم بكسر النون { لاَ يُعْجِزُونَ } يعني لا يعجزونني؛ وهي قراءة شاذة .
قوله تعالى :
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } ، يعني السلاح . وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } قال : « أَلاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْيُ ، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ » ثلاثاً . وفي خبر آخر وزيادة : « لَهْوَ المُؤْمِنِ فِي الخَلاءِ وَقُوَّتُهُ عِنْدَ القِتَالِ » . وروي عن عكرمة قال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } قال الحصون . { وَمِن رّبَاطِ الخيل } ، قال الإناث من الخيل .
ثم قال : { تُرْهِبُونَ بِهِ } ، أي تخوفون بالسلاح { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ، يعني تخوفون بالسلاح كفار العرب ، { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا } ، يعني بني قريظة . ثم قال : { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } ، يعني لا تعرفونهم . { الله يَعْلَمُهُمْ } ، يعرفهم ويعرفكم ، فأعدوا لهم أيضاً . وقال مقاتل : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا } أي من دون كفار العرب ، يعني اليهود . وقال السدي : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا } أهل فارس .
ثم قال { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ الله } ، يعني السلاح والخيل . { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه . { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ، أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً . ويقال : إن الجن لا تدخل بيتاً فيه قوس وسهام .
قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ } ، يقول إن أرادوا الصلح ومالوا إليه ، { فاجنح لَهَا } ؛ يعني مل إليها يعني صالحهم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ } بالكسر ، وقرأ الباقون بالنصب لِلسَّلْم . { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ، يقول : ثق بالله وإن نقضوا العهد والصلح ، فإني أنصرك ولا أخذلك . { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } ، يعني سميع بمقالتهم ، عليم بنقض العهد .
قال الفقيه : إنما يجوز الصلح إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال؛ فأما إذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحوهم ، وينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب . وإنّما لم توضع الجزية على العرب وتوضع على غيرهم ، حتى لا تبقى بقية كفر في أنساب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن العرب كلهم من نسبه ، ولا توضع حتى يسلموا أو يقتلوا . إنما أمر الله تعالى نبيه بالصلح ، حين كانت الغلبة للمشركين وكانت بالمسلمين قلة .
ثم قال { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } بالصلح ، يعني يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم ، حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك ، قال الله تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } ، يعني إن أرادوا إن يخدعوك ، فإن حسبك الله بالنصرة لك . { هُوَ الذى أَيَّدَكَ } ، أي أعانك وقواك { بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } ، يعني الأنصار وهم قبيلتان : الأوس والخزرج .
قوله تعالى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ، يعني ليّن قلوبهم من العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية . { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ، يعني ما قدرت أن تؤلف بينهم ، { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بالإسلام . { إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } حكم بالألفة بين الأنصار بعد العداوة ، وحكم بالنصر على أعدائه .
وروى أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : نزلت هذه الآية في المتحابين في الله { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } وقال عبد الله : المؤمن متألف يألف ويؤلف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف . قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{ أَيُّهَا النبى حَسْبُكَ الله } يعني حسبك الله بالنصرة والعون لك ، { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } . قال بعضهم : { مِنْ } في موضع رفع ، ومعناه وحسبك من اتبعك من المؤمنين وهم الأنصار؛ ويقال : يعني عمر بن الخطاب؛ ويقال : هذه الآية خاصة من هذه السورة نزلت بمكة ، حين أسلم عمر وكان المسلمون تسعة وثلاثين ، فلما أسلم عمر تمّ عددهم أربعون ، وظهر الإسلام بمكة بإسلام عمر؛ وقال بعضهم : من في موضع النصب ، يعني حسبك ومن اتبعك من المؤمنين؛ وقال الضحاك : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله وهو ناصرهم في الدنيا والآخرة .
ثم قال عز وجل : { المؤمنين ياأيها النبى حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال } ، يعني حثَّهم على قتال الكفار . { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون } ، يعني محتسبين في الجهاد ، { يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أمر الله تعالى . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفاً يوم بدر؛ جعل على كل رجل منهم قتال عشرة ، فرفعوا أصواتهم بالدعاء فضجوا ، فجعل على كل رجل قتال رجلين تخفيفاً من الله ، وهو قوله { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ؛ يعني هوَّن الله عليكم القتال الذي افترضه عليكم يوم بدر .
{ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } ؛ يعني عجزاً عن القتال . { فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ } ، يعني محتسبة صادقة ، { يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } من المشركين . { وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ } من المشركين { بِإِذُنِ الله } ، يعني بأمر الله تعالى وبنصرته . { والله مَعَ الصابرين } بالنصر لهم على عدوهم .
وقال مقاتل لم يكن فريضة ، ولكن كان تحريضاً ، فلم يطق المؤمنين ، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر فنزل : { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } وروى عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : فرض على المسلمين أن لا يفر رجل من عشرة ، ولا عشرة من مائة ، فجهد الناس وشقّ عليهم ، فنزلت هذه الآية الأُخْرَى : { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ، ولا قوم من مثلهم؛ فنقص من النصرة بقدر ما نقص من العدد . وروى عطاء ، عن ابن عباس قال : من فرّ من رجلين فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة لم يفر . قال الفقيه : إذا لم يكن معه سلاح ومع الآخر سلاح ، جاز له أن يفر ، لأنه ليس بمقاتل . قوله تعالى :
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
{ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } ؛ يقول : ما ينبغي وما يجوز لنبي أن يبيع الأسارى ، يقول : لا يقبل الفدية عن الأسارى ، ولكن السيف { حتى يُثْخِنَ فِي الارض } ، يعني حتى يغلب في الأرض على عدوه . قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : { فَانٍ * تَكُنْ } كلاهما بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن لفظ المائة جماعة العدد مؤنث؛ وقرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو الأولى خاصة بالياء والأُخرى بالتاء؛ وقرأ كلاهما بالتاء بلفظ التذكير ، لأن الفعل مقدم . وقرأ حمزة وعاصم { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } بنصب الضاد وجزم العين؛ وقرأ الباقون بضم الضاد ومعناهما واحد ، ضَعْف وضِعْف ، وهما لغتان . وقرأ بعضهم { ضعافا } بضم الضاد ونصب العين ، وهي قراءة أبي جعفر المدني يعني عجزة .
قوله تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } ، يعني أتريدون عرض الدنيا وهي الفداء؟ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : « ما تَرَوْنَ في هَؤُلاءِ الأُسَارَى » قال أبو بكر : هم بنو العم والعشيرة ، أرى لهم أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا عدة على الكفار ، ولعل الله يهديهم الإسلام . وقال عمر : أرى أن تمكننا منهم ، فنضرب أعناقهم . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما قال أبو بكر؛ قال عمر : فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت : يا رسول الله ، من أي شيء تبكي؟ فقال : « أبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَيَّ لأَصْحَابِكَ مِنْ أخْذِهِمُ الفِدَاءَ » . فنزل { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ ما نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ عُمَرَ » . قرأ أبو عمرو { أَن تَكُونَ لَهُ *** أسرى } بلفظ التأنيث والباقون بلفظ التذكير ، لأن الفعل مقدم . ثم قال : { والله يُرِيدُ الاخرة } ، يعني عز الدين . { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } عزيز في ملكه حكيم في أمره .
قوله تعالى : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } ، يقول : لولا أن الله أحلّ الغنائم لأمة محمد عليه السلام ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } ؛ يعني لأصابكم فيما أخذتم من الفداء { عَذَابٌ عظِيمٌ } ، ثم طيبها لهم وأحلها لهم ، فقال عز وجل : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حلالا طَيّباً } . وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤوس قبلكم ، كان تنزل نار من السماء فتأكلها ، حتى كان يوم بدر ، فرفعوا في الغنائم فأحلت لهم فأنزل الله تعالى : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَها أَحَدٌ قَبْلِي ، بُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً ، وَجُعِلَتْ لِي شَفَاعَةٌ لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ » . وروى الضحاك في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } قال : إنه لما كان يوم بدر ووقعت الهزيمة على المشركين ، أسرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ أسلاب المشركين ممن قتل منهم ، وأخذ الغنائم وفداء الأسرى وشغلوا أنفسهم بذلك عن القتال ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ، ألا ترى إلى ما يصنع أصحابك؟ تركوا قتال العدو ، وأقبلوا على أسلابهم . وإني أخاف أن تعطف عليهم خيل من خيل المشركين فنزل : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } ، يعني أتطلبون الغنائم وتتركون القتال { والله يُرِيدُ الاخرة } ، يعني قهر المشركين وإظهار الإسلام ، { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ *** لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } ؛ لولا ما سبق في الكتاب ، يعني أن الغنائم تحلّ لهذه الأمة ، لأصابكم عذاب عظيم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ ، مَا نَجَا أَحَدٌ غَيْرُ عُمَرَ لأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ القِتَالَ » . وروى مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } قال : سبقت من الله الرحمة لهذه الأمة قبل أن يعملوا بالمعصية؛ وقال الحسن : سبقت المغفرة لأهل بدر . وعن الحسن أنه قال : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } قال في الكتاب السابق من الله تعالى أن لا يعذب قوماً إلا بعد قيام الحجة عليهم . وقال سعيد بن جبير : لَوْلاَ ما سبق لأهل بدر من السعادة ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الفداء { عَذَابٌ عظِيمٌ } ، ويقال : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } أن لا يعذب قوماً ، حتى يبين لهم ما يتقون .
ثم قال { واتقوا الله } فيما أمركم به ولا تعصوه . { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أي متجاوز ، يعني ذو تجارة فيما أخذتم من الغنيمة قبل حلها وحين إذ أحلها لكم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ ياأيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاسرى } ، قرأ أبو عمرو { مِنْ } بالضم وزيادة الألف ، وقرأ الباقون { مّنَ الاسرى } بالنصب بغير الألف . فمن قرأ الأسرى فهو جمع الأسرى ، يقال : أسير وأسرى مثل جريح وجرحى ، ومريض ومرضى ، وقتيل وقتلى؛ من قرأ الأسارى فهو جمع الجمع؛ ويقال هما لغتان بمعنى واحد .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع الفداء على كل إنسان من الأسارى أربعين أوقية من الذهب ، فكان مع العباس عشرون أوقية من ذهب ، فأخذها منه ولم يحسبها من فدائه؛ وكان قد خرج بها معه ليطعم بها أهل بدر من المشركين ، لأنه أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا إطعام أهل بدر؛ وقد جاءت توبته فأراد أن يطعمهم ، فاقتتلوا يومئذ فلم يطعمهم ، حتى أخذ وأخذ ما معه؛ فكلَّم العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه ، فأبى عليه وقال : « هذا شَيْءٌ خَرَجْتَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَيْنَا فَلا نَتْرُكُهُ لَكَ » فوضع عليه فداءه وفدى ابن أخيه عقيل ، فقال العباس : تترك عمك يسأل الناس بكفه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي أعْطَيْتَ لأمِّ الفَضْلِ ، وَقُلْتَ لَهَا كَيْتَ وَكَيْتَ » فقال له : من أعلمك بهذا يا ابن أخي؟ قال : « الله أخْبَرَنِي » . فأسلم العباس وأمر ابن أخيه أن يسلم فنزل : { قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاسرى } يعني العباس وابن أخيه .
{ إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } ، يعني معرفة وصدقاً وإيماناً ، كقوله : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدرى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إنى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } [ هود : 31 ] أي إيماناً . { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } ، يعني يعطيكم في الدنيا أفضل مما أخذ منكم من الفداء ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم . { والله غَفُورٌ } لما كان منكم في الشرك ، { رَّحِيمٌ } بكم في الإسلام . روى سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال قال : بعث العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفاً ، ما أتاه من مال أكثر منه لا قبل ولا بعد قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمثل على المال قائماً؛ وجاء أهل المسجد ، فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضاً . قال : فجاء العباس فقال : يا رسول الله ، أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ، ولم يكن لعقيل مال ، فأعطني من هذا المال . قال : « خُذْ مِنْ هذا المَالِ » .
قال : فجثا في خميصته وهب فأراد أن يقوم فلم يستطع ، فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ارفع عَلَيَّ . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أعِدْ مِنَ المَالِ طَائِفَةً وَقُمْ بِمَا تُطِيقُ » . قال : ففعل فجعل العباس يقول وهو منطلق : أما إحدى اللتين وعدنا الله تعالى فقد أنجزها ، فلا ندري ما يصنع في الأُخرى وهو قوله : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وعن أبي صالح أنه قال : رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبداً ، كل واحد منهم يتجر بعشرة آلاف قال العباس : أنجزني الله أحد الوعدين ، فأرجو أن ينجز الوعد الثاني . ويقال : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } يعني الجنة . قوله تعالى :
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } ، يعني خلافك ويميلوا إلى الكفر بعد الإسلام ، { فَقَدْ *** خَافُواْ * الله مِن قَبْلُ } ؛ يعني عصوا الله وكفروا من قبل . { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } ، يعني فأمكنك منهم وأظهرك عليهم يوم بدر ، حتى قهرتهم وأسرتهم . { والله عَلِيمٌ } بخلقه ، { حَكِيمٌ } حيث أمكنك منهم ، يعني إن خانوك أمكنتك منهم ، لتفعل بهم مثل ما فعلت من قبل .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } ، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { وَهَاجَرُواْ } من مكة إلى المدينة ، { وجاهدوا } العدو { بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } ، يعني في طاعته وفيما فيه رضاه . ثم ذكر الأنصار فقال : { والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ } ، يعني أووا ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ، يعني أنزلوهم وأسكنوهم ديارهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبق . { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ، يعني في الميراث وفي الولاية ليرغبهم في الهجرة وكانت الهجرة فريضة في ذلك الوقت .
ثم قال : { والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ } إلى المدينة . { مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَىْء } في الميراث . قرأ حمزة { ولايتهم } بكسر الواو ، وقرأ الباقون { ولايتهم } بالنصب ، يعني النصرة ، ومن قرأ بالكسر فهو من الإمارة والسلطان . ثم قال { حتى يُهَاجِرُواْ } ، يعني إلى المدينة . يا رسول الله ، هل نعينهم إذا استعانوا بنا؟ يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا فنزل : { وَإِنِ استنصروكم فِى الدين } ، يعني استعانوا بكم على المشركين فانصروهم ، { فَعَلَيْكُمُ النصر } على من قاتلهم ، { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ } ؛ يعني إلا أن يقاتلوا قوماً بينكم وبينهم عهد ، فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } في العون والنصرة . قوله تعالى :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ، يعني في الميراث يرث بعضهم من بعض . { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } ، يعني إن لم تفعلوا ، يعني ولاية المؤمنين للمؤمنين والكافرين للكافرين ، { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الارض } ؛ يعني بلية { وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ، يعني سفك الدماء ، فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين . وقال الضحاك : { والذين كَفَرُواْ } يعني كفار مكة وكفار ثقيف { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } ، يعني إن لم تطيعوا الله في قتل الفريقين ، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . وقال مقاتل وفي الآية تقديم وتأخير ، ومعناه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ، { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } يعني إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين ، { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الارض } يعني كفر وفساد كبير في الأرض .
ثم قال : { والذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ } ، يعني أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين ، { وَّنَصَرُواْ } النبي صلى الله عليه وسلم . وإنما سُمِّي المهاجرون مهاجرين ، لأنهم هجروا قومهم وديارهم . { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } ، يعني صدقاً . { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ، يعني ثواب حسن في الجنة .
ثم قال تعالى : { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } ، يعني من بعد المهاجرين ، { وَهَاجَرُواْ } ؛ يعني من بعد المهاجرين ، { وجاهدوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } ؛ يعني على دينكم . { وَأُوْلُواْ الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } ، يعني في الميراث من المهاجرين والأنصار .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة؛ وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرثه أخاه ، فنسخ بقوله : { وَأُوْلُواْ الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وروى الحسن بن صالح ، عن ابن عباس أنه قال : هيهات هيهات ، أين ذهب عبد الله بن مسعود؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزل { أُوْلُو *** الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } ثم قال : { فِى كتاب الله } ، يعني في حكم الله ، كقوله تعالى : { كَتَبَ الله لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلى إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] يعني حكم الله تعالى . ويقال : { فِى كتاب الله } أي مبين في القرآن ، ويقال : { فِى كتاب الله } يعني في اللوح المحفوظ . { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } من قسمة المواريث وبما فرض عليكم من المواريث؛ والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } ، أي تبرؤ من الله ورسوله إلى من كان له عهد من المشركين من ذلك العهد؛ ويقال : براءة أي قطع من الله ورسوله إلى من كان له عهد من المشركين من ذلك العهد؛ ويقال : معناه هذه الآية براءة من الله ورسوله؛ ويقال : هذه السورة { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين } . وقال ابن عباس : البراءء نقض العهد إلى الذين عاهدتم من المشركين؛ يقول : من كان بينه وبين رسول الله عهد ، فقد نقضه؛ وذلك أن المشركين نقضوا عهودهم قبل الأجل ، وأمر الله تعالى نبيه فيمن كان له عهد أربعة أشهر ، أن يقره إلى أن يمضي أربعة أشهر ، ومن كان عهده أكثر من ذلك أن يحطه إلى أربعة أشهر .
وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها ، فأراد الحج ، ثم قال : إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك . فأرسل أبا بكر وعلياً ، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يجتمعون بها ، فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرام ، ثم لا عهد لهم؛ فذلك قوله تعالى : { فَسِيحُواْ فِى الارض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ، يعني فسيروا في الأرض أربعة أشهر آمنين غير خائفين ، { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } ؛ يعني غير سابقي الله بأعمالكم ، وغير فائتين بعد الأربعة الأشهر . ومعناه إنكم وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر ، فلن تفوتوا الله . { وَأَنَّ الله } يعني واعلموا أن الله { مِنَ الكافرين } ، يعني مذل الكافرين . ويقال : معذب الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار . ثم قال عز وجل :
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{ وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } ، يعني : إعلام من الله ورسوله . عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة ، فقيل له : ما كنتم تنادون؟ قال : كنا ننادي إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يطوف بالبيت عريان؛ ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج بعد العام مشرك .
ويقال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ومعه عشر آيات ، وأمره أن يقرأها على أهل مكة؛ ثم بعث عليّاً وأمره أن يقرأ هذه الآيات ويقال : إنما أمر علياً بالقرآن ، لأن أبا بكر كان خفيض الصوت وكان عليّ جهوري الصوت ، فأراد أن يقرأ عليّ حتى يسمعوا جميعاً فذلك قوله تعالى : { وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } .
{ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر } . وروى الأعمش ، عن عبد الله بن أبي سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم النحر ، فقال : هذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر؛ وقال الحسن : إنما سمي الحج الأكبر ، لأنه حج أبو بكر فاجتمع فيها المسلمون والمشركون ، ووافق أيضاً عيد اليهود والنصارى فلذلك سمي الحج الأكبر ، لاجتماع المسلمين والمشركين في ذلك اليوم .
وروي عن عليّ رضي الله عنه قال : «الحج الأكبر يوم النحر . وروي عن محمد بن قيس بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحَجُّ الأَكْبَرُ يَوْمُ عَرَفَةَ " وإنما سمي يوم عرفة يوم الحج الأكبر ، لأنه يوقف بعرفة . ويقال : الحج الأكبر هو الحج ، والحج الأصغر هو العمرة . كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : العمرة هي الحجة الصغرى؛ وقال ابن أبي أوفى : الحج الأكبر يوم إهراق الدماء وحلق الشعر وهو يوم النحر .
{ أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } ، يعني : ورسوله أيضاً بريء من المشركين . وقرأ بعضهم { وَرَسُولُهُ } بنصب اللام ومعناه أن رسوله بريء من المشركين؛ وهي قراءة شاذة . ثم قال : { فَإِن تُبْتُمْ } ، يعني : رجعتم من الكفر ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من الإقامة عليه . { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } ، يعني : أبيتم الإسلام وأقمتم على الكفر وعبادة الأوثان ، { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله } ؛ يعني : لن تفوتوا من عذابه .
ثم قال : { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ وهو القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة إلى الأبد في النار ، ثم استثنى الذين لم ينقضوا العهد فقال : { إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين } ، وهم بنو كنانة وبنو ضمرة؛ { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من عهودكم ، { وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً } ؛ يقول : ولم يعاونوا عليكم أحداً { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } ، يعني : إلى إتمام أجلهم . { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } الذين يتقون نقض العهد . قوله تعالى :
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{ فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم } ؛ يقول : إذا مضى الأشهر التي جعلتها أجلهم ، { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحل والحرم ، يعني : المشركين الذين لا عهد لهم بعد ذلك الأجل . ويقال : إن هذه الآية { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } نسخت سبعين آية في القرآن من الصلح والعهد والكف ، مثل قوله { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [ الأنعام : 66 ] وقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ، وقوله : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] ، وقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ؛ وما سوى ذلك من الآيات التي نحو هذا صارت كلها منسوخة بهذه الآية .
ثم قال : { وَخُذُوهُمْ } ، يعني : ائسروهم وشدوهم بالوثاق ، { واحصروهم } ؛ يعني : إن لم تظفروا بهم ، فاحصروهم في الحصن والحصان . قال الكلبي : يعني : واحبسوهم عن البيت الحرام أن يدخلوه؛ وقال مقاتل : واحصروهم يعني : التمسوهم ، { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ، يعني : ارصدوا لهم بكل طريق؛ وقال الأخفش : يعني : اقصدوا لهم على كل مرصد ، وكلمة «على» محذوفة من الكلام ، ومعناه واقعدوا لهم على كل طريق يأخذون .
{ فَإِن تَابُواْ } من الشرك { والذين يُمَسّكُونَ } ، يعني : وأقرّوا بالصلاة . { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، يعني : وأقروا بالزكاة المفروضة . { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } ، يعني : اتركوهم ولا تقتلوهم . { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، يعني : غفور لما كان من الذنوب في الشرك ، رحيم بهم بعد الإسلام .
فقال رجل من المشركين : يا عليّ ، إن أراد رجل منا بعد انقضاء الأجل أن يأتي لمحمد ويسمع كلامه ، أو يأتيه لحاجة أيقتل؟ فقال عليّ : لا . يقول الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك } ، يعني : استأمنك . ويقال : فيه تقديم ، ومعناه وإن استجارك أحد من المشركين ، يقول : إن طلب أحد من المشركين منكم الأمان ، { فَأَجِرْهُ } ، أي فأمنه ، { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ؛ يعني : اعرض عليه القرآن حتى يسمع قراءتك كلام الله تعالى ، فإن أبى أن يسلم { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } ؛ يقول : فرده إلى مأمنه من حيث أتاك . { ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } ، يعني : أمرتك بذلك ، لأنهم قوم لا يعلمون حكم الله تعالى . وفي الآية دليل أن حربياً لو دخل دار الإسلام على وجه الأمان ، يكون آمناً ما لم يرجع إلى مأمنه .
ثم قال على وجه التعجب : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله * وَرَسُولُهُ } ؛ ويقال : على وجه التوبيخ ، يعني : لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله . ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام } ، يعني : بني كنانة وبني ضمرة ، وهم لم ينقضوا العهد فأمر الله بإتمام عهدهم . ويقال هم بنو خزاعة وبنو مدلج وبنو خزيمة . { فَمَا استقاموا لَكُمْ } على وفاء العهد ، { فاستقيموا لَهُمْ } بالوفاء على التمام . { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } الذين يتقون ربهم ويمتنعون عن نقض العهد . قوله تعالى :
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } ؛ يقول : كيف تقاتلوهم . ويقال : كيف يكون لهم عهد ، وقد سبق في الكلام ما يدل على هذا الإضمار { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يقول : يغلبوا عليكم ويظفروا بكم . { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ، يعني : لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهداً . وقال سعيد بن جبير : الإل هو الله . وقال ابن عباس : الإل القرابة والذمة العهد . وقال مجاهد : لا يرقبون الله ولا عهداً . وعن الضحاك أنه قال : الإل القرابة والذمة العهد . { يُرْضُونَكُم بأفواههم } ، يعني : بألسنتهم مثل قول المنافقين . { على قُلُوبِهِمْ } ، يعني : وتنكر قلوبهم يقولون قولاً بغير حقيقة . { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } ، يعني : عاصون بنقض العهد .
قوله تعالى : { اشتروا بئايات الله ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } ؛ قال مقاتل : باعوا الإيمان بعرض من الدنيا قليل؛ وذلك أن أبا سفيان كان يعطي الناقة والطعام والشيء ، ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : { اشتروا بئايات الله ثَمَنًا } ؛ يقول : كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم بشيء من المآكلة ، يأخذونه من السفلة . { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، يعني : بئسما كانوا يعملون بصدهم الناس عن دين الله .
قوله تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ، يعني : لا يحفظون في المؤمنين قرابة ولا عهداً . { وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون } بنقض العهد وترك أمر الله تعالى . قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ } من الشرك . { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة } ؛ يعني : أقروا بهما؛ { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين } ، يعني : هم مؤمنون مثلكم . { وَنُفَصّلُ الايات } ، يعني : بيَّن العلامات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أنه من الله تعالى .
قوله تعالى : { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } ؛ يقول : وإن نقضوا عهودهم { مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } ؛ يقول من بعد أجله ، { وَطَعَنُواْ } ؛ يقول : وعابوا { فِى دِينِكُمْ } الإسلام ، { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } ؛ يعني : قادة أهل الكفر ورؤساؤهم . { إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ } . قرأ ابن عامر لا { أيمان } بالكسر ، وهي قراءة الحسن البصري أي لا إسلام لهم ، والباقون بالنصب يعني : : لا قرار لهم . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر أية بهمزة واحدة والباقون بهمزتين . ثم قال : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } ، يعني : لعلهم ينتهون عن نقض العهد .
ثم حثّ المؤمنين على قتال كفار قريش ، وذلك قبل فتح مكة فقال عز وجل : { أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم } ؛ يقول : نقضوا عهودهم من قبل أجلها . { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } ؛ يقول : هموا بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، { وَهُمْ *** بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } بنقض العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة . { أَتَخْشَوْنَهُمْ } لا تقاتلوهم؟ { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } في ترك أمره ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ يعني : إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى .
ثم وعد لهم النصرة ، فقال تعالى : { قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ، يعني : بالقتل والهزيمة ، { وَيُخْزِهِمْ } ؛ يعني : ويذلهم بالهزيمة ، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } ؛ يعني : على قريش ، { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ؛ يعني : ويفرح قلوب بني خزاعة . وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى قد وعد المؤمنين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب الكفار بأيديهم ويخزهم وينصركم ، فأنجز وعده ولم يظهر خلاف ما وعد لهم .
قال الفقيه : حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن يحيى السمرقندي قال : حدثنا محمد بن الحسن الجوباري قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عكرمة قال : لما واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، وقد كانت بنو خزاعة حُلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ، وكانت بنو بكر حلفاء قريش؛ فدخلت بنو خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في صلح قريش؛ ثم كان بين بني بكر وبين بني خزاعة فقال : فأمدت قريش بني بكر بسلاح وطعام وظلوا عليهم؛ ثم إن قريشاً خافوا أن يكونوا قد نقضوا العهد وغدروا ، فقالوا لأبي سفيان : اذهب إلى محمد وجدد العهد ، فليس في قوم أطعموا قوماً ما يكون فيه نقض العهد ، يعني : الذي أطعم الطعام لا ينقض عليه العهد .
فانطلق أبو سفيان في ذلك ، فلما قصد أبو سفيان المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ جَاءَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَسَيَرْجِعُ رَاضِياً بِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ » . فلما قدم أبو سفيان المدينة ، أتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، جدد الحلف وأصلح بين الناس؛ فقال له أبو بكر : الأمر إلى الله وإلى رسوله . ثم أتى عمر فقال له نحو ما قال لأبي بكر ، فقال له عمر : نقضتم؟ فما كان منه جديداً فأبلاه الله ، وما كان منه متيناً أو شديداً فقطعه الله تعالى . فقال له أبو سفيان : ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة مثلك ، يعني : شاهداً على هلاك قومه .
ثم أتى فاطمة رضي الله عنها فقال لها : يا فاطمة ، هل لك في أمر تسودين فيه نساء قريش؟ ثم قال لها نحو ما قال لأبي بكر وعمر ، فقالت : الأمر إلى الله وإلى رسوله . ثم أتى علياً فذكر له نحواً من ذلك ، فقال له عليّ : ما رأيت كاليوم رجلاً أضل منك أنت سيد الناس ، فجدِّد وأصلح بين الناس .
فضرب أبو سفيان يمينه على يساره وقال : أجرت الناس بعضهم من بعض ثم رجع إلى قومه ، فأخبرهم بما صنع فقالوا : ما رأينا كاليوم وافد قوم ، والله يا أبا سفيان ما جئنا بصلح فنأمن ولا بحرب؛ فقدم وافد بني خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة ، فقال في ذلك شعراً :
اللَّهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا ... حلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ميثَاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدا
وَهُمْ أَتُونَا بِالوَتِينِ هجدَا ... نَتْلُو الكِتَابَ رُكَّعاً وَسُجَّدَا
ثَمَّةَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزعْ بُدَّا ... فَانْصُرْ رَسُولَ الله نَصْراً أَعْتَدَا
وَابْعَثْ جُنُودَ الله تَأْتِي مَدَدَا ... فِيهِمْ رَسُولُ الله قَدْ تَجَرَّدَا
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل وروي في خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله ، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً » . وقال : « والله لا نُصِرْتُ ، إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ » . فخرج إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل ، ثم رجعنا إلى حديث عكرمة قال : فتجهزوا . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، حتى نزلوا برمال الظهران ، فخرج أبو سفيان من مكة ، فرأى النيران والعسكر فقال : ما هذه؟ فقيل : هؤلاء بنو تميم . فقال : والله هؤلاء أكثر من أهل منًى . فلما علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنكَّر وأقبل يقول : دلوني على العباس؛ فأتاه فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أدخله عليه ، فقال له : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أَبَا سُفْيَانَ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ » . فقال : كيف أصنع بالَّلات والعزى؟
قال حماد بن زيد : حدثني أبو الخليل ، عن سعيد بن جبير أن عمر رضي الله عنه قال وهو خارج من القبة ، وفي عنقه السيف : أخر عليهما؛ أما والله لو كنت خارجاً عن القبة ما سألت عنهما أبداً ، قال : من هذا؟ فقالوا : عمر بن الخطاب . فأسلم أبو سفيان ، فانطلق به العباس إلى منزله؛ فلما أصبح ، رأى الناس قد تحركوا للوضوء والصلاة ، فقال أبو سفيان للعباس : يا أبا الفضل أو أمروا فيَّ بشيء؟ قال : لا ، ولكنهم قاموا إلى الصلاة فتوضأ . ثم انطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قاموا ، فلما كبر كبروا ، فلما ركع ركعوا ، فلما سجد سجدوا . فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل ، ما رأيت كاليوم طاعة قوم ، لا فارس الأكارم ، ولا الروم ذات القرون .
قال حماد بن زيد ، فزعم يزيد بن حازم ، عن عكرمة أنه قال : يا أبا الفضل ، أصبح ابن أخيك عظيم الملك ، فقال له العباس : إنه ليس بملك ولكنه نبوة . قال : هو ذاك . وقال حماد : قال أيوب ثم قال : واصباح قريش وقال العباس : يا رسول الله ، لو أذنت لي فأتيتهم ودعوتهم ، وأمنتهم وجعلت لأبي سفيان شيئاً يذكر به . قال : « فَافْعَلْ » فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل مكة فنادى : يا أهل مكة أسلموا تسلموا ، فقد استبطأتم بأشهب باذل؛ قد جاءكم الزبير من أعلى مكة ، وجاء خالد من أسفل مكة . وخالد وما خالد والزبير وما الزبير . ثم قال : من أسلم فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم ، فآمن الناس جميعاً إلا بني بكر من خزاعة ، فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار ، فأنزل الله تعالى : { قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وهم خزاعة .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } يعني : حقد قلوب خزاعة وروى مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : لما كان يوم فتح مكة ، آمن الناس إلا ستة ، ونفر عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن أخطل ، ومقيس بن ضبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح ، وامرأتين فقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة .
وروى عبد الله بن رباح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى مكة ، ذكر إلى أن قال : دخل صناديد قريش من المشركين إلى الكعبة ، وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم ، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت فصلى ركعتين ، ثم أتى الكعبة ، فأخذ بعضادتي الباب فقال : « ما تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟ » نقول أخ كريم ، وابن عم حليم رحيم . قال : أقول كما قال يوسف : « { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } » . قال : فخرجوا كأنما نشروا من القبور ودخلوا في الإسلام؛ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يلي الصفا ، فخطب والأنصار أسفل منه ، فقالت الأنصار بعضهم لبعض : أما إن الرجل أخذته الرأفة بقومه ، وأدركته الرغبة في قرابته . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ وَالله إِنِّي رَسُولُ الله حَقّاً . إِنَّ المَحْيَا لَمَحْيَاكُمْ ، وَإِنَّ المَمَاتَ لَمَمَاتُكُمْ » . فقالوا : يا رسول الله قلنا مخافة أن تفارقنا ضناً بك . قال : « أَنْتُمْ الصَّادِقُونَ عِنْدَ الله وَعِنْدَ رَسُولِهِ » . قال الله تعالى : { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ، يعني : من أهل مكة يهديهم الله لدينه . { والله عَلِيمٌ } بمن يؤمن من خلقه ، { حَكِيمٌ } في أمره . قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } ؛ وذلك أنه لما أمرهم الله تعالى بالقتال ، شق ذلك على بعض المؤمنين ، فنزل قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } ، يعني : أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون ، ولا تبتلوا بالقتال ولا تؤمروا به . { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } ، يعني : لم يميز الذين جاهدوا منكم من الذين لم يجاهدوا . وقد كان يعلم الله تعالى ذلك منهم قبل أن يجاهدوا وقبل أن يخلقهم ، ولكن كان علمه علم الغيب ، ولا يستوجبون الجنة والثواب بذلك العلم؛ وإنما يستوجبون الثواب والعقاب بما يظهر منهم من الجهاد . ويقال : معناه أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد وبغير تعب النفس ، وهكذا قال في آية أُخرى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ }
[ البقرة : 214 ] . وكما قال في رواية أُخرى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] الآية .
ثم قال { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ } ، يعني : لم يتخذوا من دون الله تعالى ولا رسوله ، يعني : ولا من دون رسوله ، { وَلاَ المؤمنين } ، يعني : ويميز الذين لا يتخذون ولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين يميِّزهم من غيرهم ، { وَلِيجَةً } ؛ يعني : بطانة من غير أهل دينه ، يفشي إليه سره . وقال الزجاج : الوليجة البطانة ، وهي مأخوذة من ولج الشيء إذا دخل ، يعني : ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر خُلَّةً ومودة . ويقال : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم ، وأراد بذلك مودة أهل مكة ، وفيه نزلت : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } [ الممتحنة : 1 ] الآية . ثم قال تعالى : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، يعني : من الخير والشر والجهاد والتخلف ومودة أهل الكفر . قوله تعالى :
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ } ، قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي { مساجد } بلفظ الجماعة ، وكذلك الثاني يعني : جميع المساجد؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأول { مساجد } بغير ألف والثاني بألف . وروي عن ابن كثير كلاهما بغير ألف ، يعني : المسجد الحرام . ومن قرأ مساجد أيضاً ، يجوز أن يحمل على المسجد الحرام ، لأنه يذكر المساجد ويراد به مسجد واحد . كما قال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] ، يعني به النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قال تعالى : { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } ، يعني : ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر يعني : لا ثواب لهم بغير إيمان .
{ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } ، يعني : بطل ثواب أعمالهم ، ويقال : { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم } يعني : كلامهم يشهد عليهم بالكفر . { وَفِى النار هُمْ خالدون } ، يعني : يكونون في النار هم خالدين؛ ويقال شاهدين عليهم يوم القيامة ، فلا ينفعهم عمارة المسجد بغير إيمان . وروى أسباط ، عن السدي في قوله : { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } أنه قال : يسأل النصراني ما أنت؟ فيقول : نصراني . ويسأل اليهودي ما أنت؟ فيقول : يهودي . ويسأل المشرك ما أنت؟ فيقول : مشرك . فذلك قوله تعالى { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } .
ويقال : هذه الآية نزلت في شأن العباس حين أُسِر يوم بدر ، فأقبل عليه نفر من المهاجرين وعيّروه بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وبقطيعة الرحم ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقال له عليُّ : فهل لكم من المحاسن شيء؟ فقال : نعم ، إنا نعمر المسجد الحرام ، ونحج الكعبة ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني ، ونفادي الأسير ، ونؤمن الخائف ، ونقري الضيف؛ فنزل { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون } .
قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله } ، يعني : صدق بوحدانية الله تعالى . { واليوم الاخر } ، يعني : آمن بالبعث بعد الموت ، لأن عمارة المسجد بإقامة الجماعات؛ وهم كانوا لا يقيمون الصلاة ، فلم يكن ذلك عمارة المسجد . فذلك قوله : { لَّيْسَ البر } ، يعني : يداوم على الصلوات الخمس ، ويقيمها بركوعها وسجودها في مواقيتها ، { لَّيْسَ البر } المفروضة ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } ؛ يعني : ولم يوحد إلا الله ولم يعبد غيره { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } ، يعني : أُولئك هم المهتدون لدينه ، ولهم ثواب أعمالهم . قوله تعالى :
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله } ، يعني : كإيمان من آمن بالله وجاهد . وقال القتبي : أجعلتم سقاية الحاج ، يعني : صاحب سقاية الحاج ، كمن آمن بالله؟ ويقال : أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله؟ كما قال في آية أُخرى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] والصلوات لا تهدم؛ وإنما أراد به بيوت الصلوات ، كما قال { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ أهلكناهم فَلاَ ناصر لَهُمْ } [ محمد : 13 ] ، يعني : أهل قريتك . كذلك هاهنا سقاية الحاج ، أراد به صاحب السقاية . قرأ بعضهم { بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام } يعني : جمع الساقي والعامر ، وهي قراءة شاذة ثم قال : { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } ، يعني : لا يستوون عند الله في الثواب والعمل عند الله . { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } ، يعني : لا يرشد المشركين إلى الحجة ، ويقال : لا يكرمهم بالمعرفة ، ما لم يتركوا كفرهم . كما قال في آية أُخرى : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] .
قوله تعالى : { الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ } ، يعني : صدقوا بوحدانية الله ، يعني : وهاجروا إلى المدينة . { وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } ، يعني : هؤلاء أفضل عند الله ، وأفضل درجة في الجنة من الذين لم يهاجروا ، ولم يؤمنوا ، ولم يعمروا المسجد الحرام ، ولم يسقوا الحاج . { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } ، يعني : الناجون من النار .
قوله تعالى : { يُبَشّرُهُمْ } ، يعني : يفرحهم { رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ } ، يعني : بالجنة منه ، { وَرِضْوَانٍ } ؛ يعني : رضي الله تعالى عنهم؛ كما قال في آية أُخرى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] بالثواب الذي أعطاهم . وقال : { وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } ، يعني : دائماً لا ينقطع عنهم . { خالدين فِيهَا } ، يعني : مقيمين دائمين في الجنات { أَبَدًا } ، هو تأكيد للخلود . { إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ، وهي الجنة .
قوله تعالى : { عَظِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء } ، يعني : لا تتخذوا الذين بمكة أولياء . قال مقاتل : نزلت الآية في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، فنهاهم الله تعالى عن ولايتهم . وقال في رواية الكلبي : لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ، فجعل الرجل يقول لامرأته ولأخيه : إنا قد أمرنا بالهجرة . فتخرج معه ، ومنهم من تعلقت به زوجته وعياله ، فيقولون له : تدعنا لمن حتى نضيع؟ فيرق لهم ويجلس معهم ، فنزل { عَظِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء } في الدين والعون { إِنِ استحبوا الكفر } ، يعني : إن اختاروا الكفر { عَلَى الإيمان } ، ويقال : اختاروا الجلوس مع الكفار على الجلوس مع المؤمنين . { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ } بعد نزول هذه الآية ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } الضارون بأنفسهم . قوله تعالى :