كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
روي عن مجاهد أنه قال : سورة فاتحة الكتاب مدنية ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : هي مكية . ويقال : نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة . حدثنا الحاكم أبو الفضل ، محمد بن الحسين الحدادي قال : حدثنا أبو حامد المروزي قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا عمر بن يونس قال : حدثنا جهضم بن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فِي كِتَابِ الله لَسُورَةً مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبِيٍ مِثْلَهَا ، فسأله أبي بن كعب عنها فقال : إنِّي لأرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنَ البَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا ، فجعلتُ أتبطَّأ ، ثم سأله أبيٌّ عنها فقال : كَيْفَ تَقْرَأُ فِي صَلاتِكَ؟ قال : بأمِّ الكتاب . فقال : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالقُرْآنِ مِثْلُهَا ، وَإنَّهَا السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ " وقال بعضهم : السبع المثاني ، هي السبع الطوال سورة : البقرة ، وآل عمران ، والخمس التي بعدها ، وسماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين . وقال أكثر أهل العلم : هي سورة الفاتحة؛ وإنما سميت السبع ، لأنها سبع آيات؛ وإنما سميت المثاني ، لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة .
وقال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو عبد الله ، محمد بن حامد الخزعوني قال : حدثنا علي بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن مروان ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، مولى أم هانىء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { الحمد للَّهِ } قال : الشكر لله . ومعنى قول ابن عباس : الشكر لله ، يعني الشكر لله على نعمائه كلها وقد قيل : ( الحمد لله ) يعني الوحدانية لله . وقد قيل : الألوهية لله . وروي عن قتادة أنه قال : معناه الحمد لله ، الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين . ثم معنى قوله ( الحمد لله ) قال بعضهم : «قل» فيه مضمر يعني : قل : الحمد لله . وقال بعضهم : حمد الرب نفسه ، ليعلم عباده فيحمدوه .
وقال أهل اللغة : الحمد هو الثناء الجميل ، وحمد الله تعالى هو : الثناء عليه بصفاته الحسنى ، وبما أنعم على عباده ، ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر ، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ، ولا يوضع الشكر موضع الحمد . وقال بعضهم : الشكر أعم ، لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب ، والحمد يكون باللسان خاصة . كما قال { اعملوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] .
وروي عن ابن عباس أنه قال : الحمد لله كلمة كل شاكر ، وذلك أن آدم عليه السلام ، قال حين عطس : الحمد لله فقال الله تعالى : يرحمك الله ، فسبقت رحمته غضبه . وقال الله تعالى لنوح :
{ فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } [ المؤمنون : 28 ] وقال إبراهيم عليه السلام : { الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق } [ إبراهيم : 39 ] وقال في قصة داود وسليمان : { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } [ النمل : 15 ] وقال لمحمد عليه السلام : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } [ الإسراء : 111 ] وقال أهل الجنة : { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] فهي كلمة كل شاكر .
وقوله تعالى : { رَبّ العالمين } قال ابن عباس رضي الله عنهما : سيد العالمين . وهو رب كل ذي روح تدب على وجه الأرض . ويقال : معنى قوله { رَبّ العالمين } : خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال ، من نطفة إلى علقة ، ومن علقة إلى مضغة .
والرب في اللغة : هو السيد قال الله تعالى : { ارجع إلى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، يعني إلى سيدك . والربّ : هو المالك يقال : ربّ الدار ، وربّ الدابة والرب هو المربي من قولك : ربى يربي . وقوله : ( العالمين ) كل ذي روح ويقال : كل من كان له عقل يخاطب ، مثل بني آدم والملائكة والجن ، ولا يقع على البهائم ولا على غيرها . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ لله تَعَالَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألْفَ عَالَمٍ ، وَإنَّ دُنْيَاكُمْ مِنْهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ " ويقال : كل صنف من الحيوان عالم على حده .
قوله عز وجل : { الرحمن الرحيم } ؛ قال في رواية الكلبي : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر . وقال بعض أهل اللغة : هذا اللفظ شنيع ، فلو قال : هما اسمان لطيفان ، لكان أحسن ولكن معناه عندنا والله أعلم أنه أراد بالرقة الرحمة ، يقال : رق فلان لفلان إذا رحمه . يقال : رق يرق إذا رحم . وقوله : أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم : الرحمن أرق ، لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم : الرحيم أرق ، لأنه في الدنيا وفي الآخرة . وقال بعضهم : كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه ، فلهذا المعنى لم يبين ، وقال : أحدهما أرق من الآخر ، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر .
قوله تعالى : { مالك يَوْمِ الدين } ؛ قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر : ملك بغير الألف ، وقرأ عاصم والكسائي بالألف . فأما من قرأ بالألف قال : لأن المالك أبلغ في الوصف ، لأنه يقال : مالك الدار ، ومالك الدابة ، ولا يقال ملك : إلا لملك من ملوك . وأما الذي قرأ : ملك بغير ألف قال : «لأن الملك أبلغ في الوصف ، لأنك إذا قلت : فلان ملك هذه البلدة ، يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك؛ وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة ، كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة . وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } وكلهم يقرؤون { مالك يَوْمِ الدين } بالألف .
قال الفقيه رحمه الله : سمعت أبي يحكي بإسناده عن أبي عبد الله ، محمد بن شجاع البلخي يقول : كنت أقرأ بقراءة الكسائي { مالك يَوْمِ الدين } بالألف ، فقال لي بعض أهل اللغة : الملك أبلغ في الوصف ، فأخذت بقراءة حمزة وكنت أقرأ { مالك يَوْمِ الدين } ، فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي : لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقْرَؤُوا القُرْآنَ فَخْماً مُفَخَّماً " ، فلم أترك القراءة ب : «ملك» حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي : لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ ، فَلِمَ نقّصت من حسناتك عشراً في كل قراءة؟ فلما أصبحت ، أتيت قطرباً وكان إماماً في اللغة فقلت له : ما الفرق بين ملك ومالك؟ فقال : بينهما فرق كثير . فأما ملك فهو ملك من الملوك ، وأما مالك فهو مالك الملوك . فرجعت إلى قراءة الكسائي .
ثم معنى قوله «مالك» يعني : قاضي وحاكم { يَوْمِ الدين } يعني : يوم الحساب كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 36 وغيرها ] ، يعني الحساب القيم . وقيل أيضاً : معنى يوم الدين ، يعني يوم القضاء . كما قال تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] يعني : في قضائه وقيل أيضاً : يوم الدين أي يوم الجزاء ، كما يقال : كما تدين تدان ، يعني كما تجازي تجازى به . فإن قيل : ما معنى تخصيص يوم الدين؟ وهو مالك يوم الدين وغيره ، قيل له : لأن في الدنيا ، كانوا منازعين له في الملك ، مثل فرعون ونمرود وغيرهما . وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه ، وكلهم خضعوا له . كما قال تعالى : { يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فأجاب جميع الخلق { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والارض قُلِ الله قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ قُلِ الله خالق كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الواحد القهار }
[ الرعد : 16 ] ، وغيرها فكذلك هاهنا . قال : { مالك يَوْمِ الدين } يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك ، ولا قاض ، ولا مجاز غيره .
قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هو تعليم؛ علم المؤمنين كيف يقولون ، إذا قاموا بين يديه في الصلاة ، فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم ، حتى يوفقهم ويعينهم فقال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي نوحد ونطيع . وقال بعضهم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك . وقوله تعالى : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يقول : بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق . وفي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة ، لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله : { الحمد للَّهِ } ثم ذكر بلفظ المخاطبة ، فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ وهذا كما قال في آية أخرى { هُوَ الذى يُسَيِّرُكُمْ فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } { صلى الله عليه وسلم } [ يونس : 22 ] فذكر بلفظ المخاطبة ، ثم قال : { هُوَ الذى يُسَيِّرُكُمْ فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ يونس : 22 ] هذا ذكر على المغايبة؛ ومثل هذا في القرآن كثير .
قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ «السراط» بالسين ، وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي ، وقرأ الباقون بالصاد؛ وكل ذلك جائز ، لأن مخرج السين والصاد واحد ، وكذلك الزاي مخرجه منهما قريب ، والقراءة المعروفة بالصاد قال ابن عباس رضي الله عنهما : { اهدنا } يعني أرشدنا ، { الصراط المستقيم } وهو الإسلام فإن قيل : أليس هو الطريق المستقيم؟ وهو الإسلام فما معنى السؤال؟ قيل له : الصراط المستقيم ، هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود . فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده إلى الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود ، ويعصمه من السبل المتفرقة . وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً ، وخط بجنبه خطوطاً ، ثم قال : إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل ، وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول : هلم إلى الطريق . وفي هذا نزلت هذه الآية { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] فلهذا قال : اهدنا الصراط المستقيم واعصمنا من السبل المتفرقة .
قال الكلبي : أمتنا على دين الإسلام .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : { اهدنا الصراط المستقيم } يعني ثبتنا عليه . ومعنى قول علي : ثبتنا عليه . يعني احفظ قلوبنا على ذلك ، ولا تقلبها بمعصيتنا . وهذا موافق لقول الله تعالى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] فكذلك هاهنا .
قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني طريق الذين مننت عليهم ، فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه . وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه . فامنن علينا كما مننت عليهم .
أخبرنا الفقيه ، أبو جعفر قال : حدثنا أبو بكر ، أحمد بن محمد بن سهل ، القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد قال : حدثنا هشام بن القاسم قال : حدثنا حمزة بن المغيرة ، عن عاصم ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هو النبي عليه السلام وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال عاصم : فذكرت ذلك للحسن البصري فقال : صدق والله أبو العالية ونصح .
وقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } أي غير طريق اليهود . يقول : لا تخذلنا بمعصيتنا ، كما خذلت اليهود فلم تحفظ قلوبهم ، حتى تركوا الإسلام .
{ وَلاَ الضالين } يعني ولا النصارى ، لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا . وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود ، والضالين أراد به النصارى ، فإن قيل : أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ واليهود أيضاً من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود ، وصرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له : إنّما عرف ذلك بالخبر واستدلالاً بالآية . فأما الخبر ، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله وهو بوادي القرى : من المغضوب عليهم؟ قال : اليهود قال : ومن الضالين؟ فقال : النصارى؛ وأما الآية ، فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ البقرة : 90 ] وقال تعالى في قصة النصارى : { قُلْ يَأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .
«آمين» ليس من السورة . ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به ، ومعناه ما قال ابن عباس : يعني كذلك يكون . وروي عن مجاهد أنه قال : هو اسم من أسماء الله تعالى ويكون معناه : يا الله استجب دعاءنا . وقال بعضهم : هي لغة بالسريانية . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَا حَسَدَتْكُمْ اليَهُودُ فِي شَيْءٍ ، كَحَسَدِهِمْ فِي «آمين» خَاتَمِ رَبِّ العَالَمِينَ ، يَخْتِمُ بِهِ دُعَاءَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ . وقال مقاتل : هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة . وروى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال : رَبِّ افْعَلْ . ويقال : فيه لغتان «أمين» بغير مد ، و«آمين» بالمد ، ومعناهما واحد ، وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين . قال القائل :
تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ دَعَوْتُه ... آمِينَ فَزَادَ الله مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
وقال الآخر :
يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَا ... وَيَرْحَمُ الله عَبْداً قَالَ : آمِينَا
وصلى الله على سيدنا محمد .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
قال الفقيه : حدثني أبي رحمه الله قال : حدثني محمد بن حامد قال : حدثنا علي بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن مروان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { الم } يعني : أنا الله أعلم . ومعنى قول ابن عباس { أَنَا الله * أَعْلَمُ } يعني الألف : أنا ، واللام : الله ، والميم : أعلم ، لأن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب قد كانت تذكر حرفاً وتريد به تمام الكلمة؛ ألا ترى إلى قول القائل :
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف ... لاَ تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَاف
يعني بالقاف : قد وقفت .
وقال الكلبي : هذا قسم ، أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه . وقال بعض أهل اللغة : إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح ، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل : إن ، وقد ، ولقد ، وما ، واللام وهنا لم نجد حرفاً من هذه الحروف ، فلا يجوز أن يكون يميناً . ولكن الجواب أن يقال : موضع القسم قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، فلو أن إنساناً حلف فقال : والله هذا الكتاب لا ريب فيه ، لكان الكلام سديداً ، وتكون «لا» جواباً للقسم ، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد . فإن قيل : إيش الحكمة في القسم من الله تعالى ، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين ، مصدق ومكذب؛ فالمصدق يصدق بغير قسم ، والمكذب لا يصدق مع القسم . قيل له : القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه ، أقسم على كلامه ، فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده .
وقد قيل { الم } : الألف : الله تعالى ، واللام : جبريل ، والميم : محمد صلى الله عليه وسلم ويكون معناه : الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه .
وقال بعضهم : كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى . فالألف مفتاح اسمه : الله ، واللام مفتاح اسمه : اللطيف ، الميم مفتاح اسمه : مجيد ويكون معناه : الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب .
وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال : إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة ، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي ، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس . وروي عن الشعبي أنه قال : إن لله تعالى سراً جعله في كتبه ، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة . وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر؛ وعن علي رضي الله عنه : هو اسم من أسماء الله تعالى ، فرقت حروفه في السور .
يعني أن هاهنا قد ذكر { الم } وذكر : { الر } في موضع آخر وذكرٍ : { حم } في موضع آخر وذكر : { ***نون } في موضع ، فإذا جمعت يكون ( الرحمن ) ، وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسماً من أسماء الله .
وذكر قطرب : أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن ، كما قال الله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] فأراد أن يسمعهم شيئاً لم يكونوا سمعوه ، ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة . وقال بعضهم : إن المشركين كانوا يقولون : لا نفقه هذا القرآن ، لأنهم قالوا : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عاملون } [ فصلت : 5 ] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم ، يعني هو على لغتكم ، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف ، كما أن الرجل يقول : علمت ولدي : أ ، ب ، ت ، ث ، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة .
وقال بعضهم : هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل ، لأنه ذكر أن جماعة من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر بن أخطب ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بلغنا أنك قرأت : { الم * ذلك الكتاب } فإن كنت صادقاً ، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة ، لأن الألف : واحد ، واللام : ثلاثون ، والميم : أربعون ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا له : وهل غير هذا؟ قال : نعم . { المص } فقالوا : هذا أكثر لأن ( ص ) تسعون . فقالوا : هل غير هذا؟ قال : نعم . { الر } فقالوا : هذا أكثر ، لأن ( الراء ) : مائتان ، ثم ذكر { المر } فقالوا : خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم ، وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله . وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة ، فتفسيره نحو ما ذكرنا ها هنا؛ والله أعلم بالصواب .
قوله عز وجل : { ذلك الكتاب } أي هذا الكتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه مني ، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه . وقد يوضع ذلك بمعنى هذا ، كما قال القائل :
أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَه ... تَأمَّلْ خِفَافاً أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يعني هذا . وقال بعضهم : معناه ذلك الكتاب الذي كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك ، وقال بعضهم : معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوارة والإنجيل أن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : أراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ .
وقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه . فإن قيل : كيف يجوز أن يقال : لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له : معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء . وقيل : معناه لا شك فيه ، أي لا ينبغي أن يشك فيه ، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى .
قوله عز وجل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي بياناً لهم من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش . فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة ، وبيان لهم من الشبهات ، وبيان الحلال من الحرام . فإن قيل : فيه بيان لجميع الناس ، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له : لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان ، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون ، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم . روي عن أبي روق أنه قال : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي كرامة لهم . يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً وكرامة لهم ، وبياناً لفضلهم .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قوله تعالى : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي يصدقون بالغيب . والغيب : هو ما غاب عن العين ، وهو محضر في القلب . وإنما أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله ، ويحرمون حرامه . ويقال : يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى . حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا الديبلي قال : حدثنا أبو عبيد الله ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أصحابنا ، عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحتسب بكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ، فقال عبد الله بن مسعود : ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه ، وإن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب ، ثم قرأ عبد الله { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } وقد قيل : ( يؤمنون بالغيب ) يعني يصدقون بالبعث بعد الموت .
وقوله تعالى : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } ، أي يديمون الصلاة ، وقد قيل أيضاً : إن العبد يديم الصلاة وقد قيل : يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها . وقد قيل : إن العبد إذا صلى صلاة تُقْبَلُ منه ، خلق الله تعالى منها ملكاً يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } .
وقوله عز وجل : { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } أي يتصدقون ، قال الكلبي : وهو زكاة المال . وروى أسباط ، عن السدي ، عن أصحابه قال : هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة . ويقال : ينفقون أي يتصدقون صدقة التطوع . ويقال : هي عليهم جميعاً التطوع والفريضة .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني بالقرآن قوله : { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، ويقال : لما نزلت هذه الآية { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } قالت اليهود والنصارى : نحن آمنا بالغيب؛ فلما قال : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } قالوا : نحن نقيم الصلاة؛ فلما قال : { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } قالوا : نحن ننفق ونتصدق . فلما قال : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } نفروا من ذلك .
وقوله : { وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } أي يقرُّون يوم القيامة ، والجنة والنار ، والبعث ، والحساب ، والميزان . واليقين على ثلاثة أوجه : يقين عيان ، ويقين خبر ، ويقين دلالة . فأما يقين العيان : إذا رأى شيئاً ، زال عنه الشك في ذلك الشيء ، وأما يقين الدلالة : هو أن يرى دخاناً يرتفع من موضع ، يعلم باليقين أن هناك ناراً وإن لم يرها؛ وأما يقين الخبر : فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد ، وإن لم يكن يعاينها . فهاهنا يقين خبر ، ويقين دلالة ، أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية .
ثم قال عز وجل : { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ } يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى ، أي أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم ، وبين لهم طريقهم . { وأولئك هُمُ المفلحون } في الآخرة ، أي الناجون . يعني أن الله تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان ، وفي الآخرة بالنجاة . وقد قيل : الفلاح هو البقاء في النعمة . وقد قيل : الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل . ويقال : معناه قد وجدوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا . وكل ما في القرآن المفلحون ، فتفسيره هكذا .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } إن هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم . والكفر في اللغة : هو الستر ، يقال : ليلة كافرة إذا كات شديدة الظلمة؛ وإنما سمي الكافر كافراً ، لأنه يستر نعم الله تعالى .
وقوله عز وجل : { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ } قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي { ءأَنذَرْتَهُمْ } بهمزتين ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد { آنذرتهم } وتفسير القراءتين لا يختلف . قال مقاتل : نزلت هذه الآية في مشركي قريش ، منهم : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل وغيرهم . وقال الكلبي : نزلت في رؤساء اليهود منهم : كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر بن أخطب . قال الكلبي : وليس هو بأخي حيي . وقال بعضهم هو أخو حيي؛ دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث سألوه عن { الضالين الم } و { المص } ثم خرجوا من عنده فنزل قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي جحدوا بالقرآن { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } يعني خوفتهم أو لم تخوفهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون . فإن قيل : إذا علم أنهم لا يؤمنون ، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟ قيل له : لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم ، كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن . وجواب آخر : أن الآية خاصة ، وليست بعامة ، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم ، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت : رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما لصاحبه : ما ترى في هذا الرجل؟ فقال : إنه نبي ، فقال : ما رأيك في اتباعه؟ فقال : رأيي أن لا أتبعه ، وأن أظهر له العداوة إلى الموت . فلم نزلت الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون . فقال : { ءأَنذَرْتَهُمْ } . وأصل الإنذار هو الإعلام ، يعني خوفتهم بالنار ، وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم ، فهو سواء ولا يصدقونه .
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي طبع الله ، ومعنى الختم على قلوبهم أي ، ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون ، { وعلى سَمْعِهِمْ } فهم لا يسمعون الحق ، { وعلى أبصارهم غشاوة } أي غطاء فلا يبصرون الهدى . واتفقت الأئمة السبعة رحمهم الله على القراءة برفع الهاء ( غشاوة ) وقرأ بعضهم بنصبها وهي قراءة شاذة . فأما من قرأ برفع الهاء ، فهو على معنى الابتداء أي : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، ثم ابتدأ فقال { وعلى أبصارهم غشاوة } ؛ وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمراً ، يعني : جعل على أبصارهم غشاوة . فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى ، وفي الآخرة الفلاح ، وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم ، وفي الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } يعني عذاباً وجيعاً ، يخلص الوجع إلى قلوبهم .
قال الفقيه رحمه الله وفي الآية إشكال في موضعين : أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى؛ فأما الذي في اللفظ { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } ذكر جماعة القلوب ثم قال : { وعلى سَمْعِهِمْ } ذكر بلفظ الوحدان ثم قال : { وعلى أبصارهم } ذكر بلفظ الجمع ، فجوابه : إن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع ، فلهذا المعنى والله أعلم ذكر بلفظ الوحدان . وقد قيل : معنى { وعلى سَمْعِهِمْ } أي : موضع سمعهم ، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع . وقد قيل : إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة ، لأنه قال : { وعلى سَمْعِهِمْ } فقد أضاف إلى الجماعة ، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة ، ومرة يذكر بلفظ الوحدان ، فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديداً في اللغة؛ فذكر البعض بلفظ الوحدان ، والبعض بلفظ الجماعة؛ وهذه علامة الفصاحة ، لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام .
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال : إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا : أن يقال : إنه ختم مجازاة لكفرهم . كما قال في آية أخرى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقهم وَكُفْرِهِم بأايات الله وَقَتْلِهِمُ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى ، فلو جاهدوا لوفقهم ، كما قال تعالى { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] ، فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ، وفي الآخرة بالعذاب العظيم .
وروي عن مجاهد أنه قال : من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين . وروي عن مقاتل أنه قال : آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين ، وآيتان في نعت المؤمنين غير المهاجرين ، وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب ، وآيتان في نعت الكفار ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين من قوله : { وَمِنَ الناس } [ البقرة : 8 ] إلى قوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله } : ( من ) للتبعيض ، فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس ، فكأنه قال : بعض الناس يقولون : آمنا بالله . وقد قيل : معناه : ومنناس يقولون : آمنا بالله ، يعني صدقنا بالله { وباليوم الأخر } . بعد الموت { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعني ليسوا بمصدقين منافقون منهم : عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجي ، ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس ومن تابعهم من المنافقين . وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً ، لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم ، ولم يكن لهم تصديق القلب ، فنفى الله الإيمان عنهم فقال : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قوله تعالى : { يخادعون الله } وأصل الخداع في اللغة هو الستر . يقال للبيت الذي يخزن فيه المال : مخدع ، والعرب تقول : انخدعت الضب في جحرها . فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال : { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } أي يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا ، لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } . روي عن الأخفش أنه قال : اجترؤوا على الله ، حتى ظنوا أنهم يخادعون الله . وقال بكر بن جريج : يظهرون لا إله إلا الله ، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم؛ ويقال : يظهرون غير ما في أنفسهم . وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : علامة المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان ، وإذا حدَّث كذب .
وقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } . قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة الكسائي { وَمَا يَخْدَعُونَ } بغير ألف ، وقرأ الباقون بالألف { وَمَا * يخادعون } . وتفسير القراءتين واحد يعني : وبال الخداع يرجع إليهم ويضر بأنفسهم .
قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } . قال الكلبي : يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم؛ وقال بعضهم : معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني شكاً ونفاقاً وظلمة وضعفاً ، لأن المريض فيه فترة ووهن ، والشاك أيضاً في أمره فترة وضعف . فعبَّر بالمرض عن الشك ، لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المنافقون : 4 ] . ويقال : إن المريض تعرض للهلاك ، فسمي النفاق مرضاً ، لأن النفاق قد يهلك صاحبه ، لأن الخلق على مراتب ثلاث ، ميت في الأحوال كلها كالكافر ، وحي في الأحوال كلها كالمؤمن لقوله تعالى : { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 122 ] ، ومريض كالمنافق .
ثم قال تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } وهذا اللفظ يحتمل معنين : يحتمل الخبر عن الماضي ، ويحتمل الدعاء؛ فإن كان المراد به الخبر فمعناه : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم ، كما قال في آية أخرى { وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون } [ التوبة : 125 ] ، لأن كل سورة نزلت يشكون فيها ، فكان ذلك المرض لهم ، وللمؤمنين زيادة اليقين . وإن كان المراد به الدعاء ، فمعناه : فزادهم الله مرضاً على مرضهم ، على وجه الذم والطرد لهم ، كما قال في آية أخرى { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] أو لعنهم الله ، فإن قيل : كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء ، وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز؟ قيل له : هذا تعليم من الله تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم ، لأنهم شر خلق الله تعالى ، لأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار .
ثم قال : { قاتلهم الله } [ التوبة : 30 ] أو لعنهم الله ، فإن قيل : كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء ، وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز؟ قيل له : هذا تعليم من الله تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم ، لأنهم شر خلق الله تعالى ، لأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار .
ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني مؤلم ، أي عذاب وجيع الذي يخلص وجعه إلى قلوبهم .
قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي مجازاة لهم بتكذيبهم .
قرأ حمزة وابن عامر { فَزَادَهُمُ الله } بكسر الزاي ، وهي لغة بعض العرب ، وقرأ عاصم وأبو عمرو بالفتح ، وهي اللغة الظاهرة ، وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { يَكْذِبُونَ } بتخفيف الذال ، وقرأ الباقون بالتشديد . فمن قرأ بالتخفيف فمعناه : بما كانوا يكذبون بقولهم أنهم مؤمنون ، وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم في السر . ومن قرأ بالتشديد فمعناه : بما كانوا يكذبون ، يعني ينسبون محمداً إلى الكذب ، ويجحدون نبوته .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } ، قرأ الكسائي برفع القاف وكذلك كل ما ذكر في القرآن مثل : قيل وحيل وسيق ، وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف . وأصله في اللغة قول مع الواو ، فحذفت الواو للتخفيف ، فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وغيره ، وقرأ بالكسر للتخفيف . والآية نزلت في شأن المنافقين { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني المنافقين { لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض } أي : لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي عليه السلام فيها الفساد ، وكان يُعمل فيها بالمعاصي ، فلما بعث الله النبي ، عليه السلام ارتفع الفساد وصلحت الأرض؛ فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، كما قال في آية أخرى { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض بَعْدَ إصلاحها ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 85 ] .
{ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نعمل بالطاعة ، ولا نعمل بالمعاصي . وقد قيل : معنى لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، أي لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة ، { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين ، حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار ، لا يصيبنا من دائرتهم شيء .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قال الله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } في الأرض وليسوا بمصلحين ، لأن عداوتهم مع الفريقين ، لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم . وقد قيل : معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، أي لا تصرفوا الناس عن دينه { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } بتفريقنا عن دينه . { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } ألا : كلمة تنبيه ، فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم ، فكأنه قال : ألا أيها المؤمنون ، اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون . ويكون تكرار كلمة هم على وجه التأكيد ، والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد . قال تعالى : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } أنهم مفسدون .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا ءَامَن النَّاسُ } . قال في رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني اليهود { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ } يعني عبد الله بن سلام وأصحابه . { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء } يعني الجهال الخرقى . قال الله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء } يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد عليه السلام ، { ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم سفهاء .
وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في شأن المنافقين ، وهكذا قال مجاهد ومعناه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ } يعني صدِّقوا بقلوبكم ، كما صدَّق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ } يعني المنافقين أنصدِّق كما صدق الجهال . قال الله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء } يعني الجهّال بتركهم التصديق في السر ، ولكن لا يعلمون أنهم جهال .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
ثم قال تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } ، نزلت هذه الآية في ذكر المنافقين ، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير وغيرهم؛ وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم مرّوا بقوم من المنافقين ، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلّموا مني كيف أكلمهم ، فأخذ بيد أبي بكر ، وقال : مرحباً بسيد بني تميم ، وثاني اثنين ، وصاحبه في الغار ، وصفيه من أمته ، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد عمر قال : مرحباً بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى ، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ بيد علي فقال : مرحباً بسيد بني هاشم ، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الباذل نفسه ودمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسابق إلى الهجرة؛ فقال له علي : اتق الله يا عبد الله ولا تنافق ، فإن المنافقين شر خليقة الله . قال : فلم تقول هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم . ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتم ردي هؤلاء عنكم؟ فقالوا : لا نزال بخير ما عشت لنا ، فنزلت الآية : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } يعني إيماننا كإيمانكم ، وتصديقنا كتصديقكم .
قوله تعالى : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم } قال الكلبي : يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود ، ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان ، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة ، وأبو بردة الأسلمي في بني سليم ، وأبو السوداء بالشام ، وعبد الدار من جهينة ، وعوف بن مالك من بني أسد . ويقال : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم } يعني إلى رؤسائهم في الضلالة . وقال أبو عبيدة : كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى : { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } أي على دينكم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قال الله تعالى : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي يجازيهم جزاء الاستهزاء . وذكر في رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما الاستهزاء أن يُفتح لهم وهم في جهنم ، باب من الجنة فيهللون ويصيحون في النار فيهلكون والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم ، وفتح لهم باب آخر في مكان آخر ، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون ، كما قال في آية أخرى { فاليوم الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] الآية . وقال مقاتل : الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب } [ الحديد : 13 ] فهذا استهزاء بهم . ثم قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قوله عز وجل : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } ، يعني اختاروا الكفر على الإيمان . وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة ، لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء ، ولم يكن هنالك لفظ شراء .
قوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تجارتهم } فقد أضاف الربح إلى التجارة على وجه المجاز . والعرب تقول : ربحت تجارة فلان ، وخسرت تجارة فلان ، وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته ، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم فلذلك قال : { فَمَا رَبِحَت تجارتهم } أي فما ربحوا في تجارتهم .
قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قال بعضهم : معناه وما هم بمهتدين في الحال ، كقوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي من هو في المهد صبي في الحال . وقال بعضهم : معناه { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل ، لوفقهم الله تعالى في الحال ، ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل ، خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } ، روى معاوية بن طلح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة ، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ } يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع ، فأوقد ناراً فأمن بها من السباع ، { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } طفئت ناره وبقي في الظلمة ، كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج ، وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه فيقولون بحق نبيك أن تنصرنا ، فلما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة ، حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر .
وقال مقاتل : نزلت في المنافقين ، يقول : مثل المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد ناراً فأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله ، فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مرآة الناس ، ليأمن بها على نفسه وأهله وعياله وماله ويناكح مع المسلمين ، وكان له نور بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوءها ما دامت ناره تتقد ، فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة .
قوله تعالى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به ، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } الهدى ، فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره . وهكذا فسّره قتادة والقتبي وغيرهما .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
ثم قال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «صُمّاً بُكْمّاً عُمْياً» ، وإنما جعلها نصباً لوقوع الفعل عليها ، يعني وتركهم صماً بكماً عمياً . وقرأ غيره : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } ومعناه هم { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } . وتفسير الآية أنهم يتصاممون ، حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا به ، ولم يبصروا العبرة والهدى ، فكأنهم صم بكم عمي ، ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء ، فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم . كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى : { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 122 ] يعني كافراً فهديناه؛ وإنما سماهم موتى والله أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم ، فكأن تلك الحياة لم تكن لهم ، فكذلك السمع والبصر واللسان ، إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم ، فكأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، يعني لا يرجعون إلى الهدى .
وقال القتبي : معنى قوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 19 ] قال : الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر ، استيقادهم النار قول : لا إله إلا الله ، وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا . وقالوا { مق { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قالوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] فسلبهم نور الإيمان ، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ] .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ ظلمات } يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم الله تعالى مثلاً آخر ، لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال ، فالله ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة ، فضرب لهم مثلاً بالمستوقد النار ، ثم ضرب لهم مثلاً آخر بالمطر . فإن قيل كلمة أو إنما تستعمل للشك فما معنى { أَوْ } ها هنا ، فقيل له : أو قد تكون للتخيير ، فكأنه قال : إن شئتم فاضربوا لهم مثلاً بالمستوقد النار ، وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر ، فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعاً . وهذا كما قال في آية أخرى : { أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يغشاه مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] فكذلك ها هنا أو للتخيير لا للشك . وقد قيل : أو بمعنى الواو يعني ، وكصيب من السماء ، معناه : مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء ، وفي المطر ظلمات { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ؛ والمطر : هو القرآن ، لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض ، وكذلك القرآن حياة القلوب ، فيه هدى للناس ، وبيان من الضلالة وإصلاح ، فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر . والظلمات : هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين ، والشبهات التي في القرآن ، والرعد : هو الوعيد الذي ذكر للمنافقين والكفار في القرآن ، والبرق : ما ظهر من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودلائله .
قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ *** أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ } ، أي يتصاممون عن سماع الحق { حَذَرَ الموت } أي لحذر الموت ، إنما نصب لنزع الخافض ، مثل قوله { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وإياى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } ، [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، فكذلك هاهنا { حَذَرَ الموت } ، أي لحذر الموت ومعناه : مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم ، كما قال في آية أخرى { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } [ التوبة : 127 ] قال بعضهم : في الآية مضمر ، ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد ، ويغمضون أعينهم من الصواعق . وقال أهل اللغة : الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار ، فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية : يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة { والله مُحِيطٌ بالكافرين } أي عالم بأعمالهم . والإحاطة : هي إدراك الشيء بكماله .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله تعالى : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم } ، أي ضوء البرق ، يذهب ويختلس بأبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور إيمان المنافق يكاد يغطي على الناس كفره في سره ، حتى لا يعلموا كفره . وقد قيل : معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام ، فيثبتون على ذلك .
ثم قال : { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } ، أي كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه ، { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } ، أي إذا ذهب ضوء البرق { قَامُواْ } متحيرين فكذلك المنافق ، إذا تكلم بلا إله إلا الله ، يمضي مع المؤمنين ، ويمنع بها من السيف ، فإذا مات بقي متحيراً نادماً . ويقال : معناه { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] أي كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهر لهم علاماته مالوا إليه ، وإذا أظلم عليهم ، أي إذا أصاب المسلمين محنة ، كما أصابتهم يوم أحد ، وكما أصابتهم يوم بئر معونة قاموا ، أي ثبتوا على كفرهم .
وروى أسباط ، عن السدي أنه قال : كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى المشركين ، فأصابهما من المطر الذي ذكر الله فيه ظلمات ورعد وبرق ، كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا شيئاً ، فقاما مكانهما فجعلا يقولان : يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمداً صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما ، فضرب الله في شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين كانوا بالمدينة ، ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم } ، قال بعضهم بسمعهم الظاهر الذي في الرأس وأبصارهم التي في الأعين ، كما ذهب بسمع قلوبهم ، وأبصار قلوبهم عقوبة لهم . قيل : معناه ، ولو شاء لجعلهم صماً وعمياً في الحقيقة ، كما جعلهم صماً وعمياً في الحكم . قد قيل : معناه ، ولو شاء الله لجعلهم صماً وعمياً في الآخرة ، كما جعلهم في الدنيا . وروي في إحدى الروايتين ، عن ابن عباس أنه قال : هذا من المكتوم الذي لا يفسر . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من العقوبة وغيرها .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
{ ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } ، أي أطيعوا ربكم ويقال : وحّدوا ربكم . وهذه الآية عامة ، وقد تكون كلمة يا أيها الناس خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق ، فهاهنا { يا أَيُّهَا الناس } لجميع الخلق . يقول للكفار : وحدوا ربكم ، ويقول للعصاة : أطيعوا ربكم ، ويقول للمنافقين : أخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم ، ويقول للمطيعين : اثبتوا على طاعة ربكم . واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها ، وهو من جوامع الكلم . واعلم أن النداء في القرآن على ست مراتب : نداء مدح ، ونداء ذم ، ونداء تنبيه ، ونداء إضافة ، ونداء نسبة ، ونداء تسمية . فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى : ( ياأيها النبى ) ( يا أيها الرسل ) ( يا أيها الذين آمنوا ) ونداء الذم مثل قوله تعالى : ( يا أيهالذين كَفَرُواْ ) ( ياأيها الذين هَادُواْ ) ونداء التنبيه مثل قوله تعالى : ( يا أيهالإنسان ) ( يا أَيُّهَا الناس ) ونداء الإضافة مثل قوله تعالى : ( يا عِبَادِى ) ونداء النسبة مثل قوله : ( يا بني آدم ) ( يا بَنِى إسراءيل ) ونداء التسمية مثل قوله تعالى : ( يا دَاوُودُ ) ( يا إِبْرَاهِيمَ ) فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال : ( يا أَيُّهَا الناس ) ، أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمراً أو ينهى عن شيء . ثم بيّن الأمر فقال : { اعبدوا رَبَّكُمُ } ، يعني وحدوا وأطيعوا { الذى خَلَقَكُمْ } ، معناه : أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم ، فخلقكم ولم تكونوا شيئاً { والذين مِن قَبْلِكُمْ } ، يعني وخلق الذين من قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعصية وتنجون من العقوبة .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{ الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً } معناه : اعبدوا ربكم الذي خلقكم وجعل لكم الأرض فراشاً ، يعني مهاداً وقراراً . وقال أهل اللغة : الأرض بساط العالم . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إنما سميت الأرض أرضاً ، لأنها تأرض ما في بطنها أي تأكل ما فيها . وقال بعضهم : لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام . { والسماء } في اللغة : ما علاك وأظلك . يعني اذكروا رب هذه النعم واعبدوه ، واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشاً ، والسَّماء { بِنَاء } أي سقفاً . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي : كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة على الأرض أطرافها ويقال : { والسماء بِنَاء } أي مرتفعاً . { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } ، يعني المطر { فَأَخْرَجَ بِهِ } ، يعني أنبت بالمطر { مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } ، يعني من ألوان الثمرات طعاماً لكم .
قوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } ، أي لا تقولوا له شركاء { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئاً من هذه الأشياء . ويقال : كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه : فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على وجود الصانع واستقامتها تدل على توحيده ، وهو استقامة الليل والنهار ، والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته ، لأن المدبر لو كان اثنين لم يكن على الاستقامة ، كما قال في آية أخرى { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنبياء : 22 ] وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناساً مختلفة ، وتمام الأشياء يدل على أن خالقها واحد قائم قادر .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } قال بعضهم : هذا الخطاب لليهود وإن كنتم في ريب : أي في شك { مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه ليس من الله تعالى { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } ، أي من مثل هذا القرآن من التوراة ، وقابلوها بالقرآن ، فتجدوها موافقة لما في التوراة ، فتعلموا به أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى : { وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله } ، أي استعينوا بأحباركم ورهبانكم ، يعني عبّادكم { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تشكون فيه .
وقال بعضهم : نزلت في شأن المشركين { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } أي في شك { مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن وتقولون : إنه اختلقه من تلقاء نفسه { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } أي فاختلقوا سورة من مثل هذا القرآن ، لأنكم شعراء وفصحاء { وادعوا شُهَدَاءكُم } ، أي استعينوا بآلهتكم ، ويقال : استعينوا بخطبائكم وشعرائكم { إِن كُنتُمْ صادقين } أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه .
وقال قتادة : معناه فأتوا بسورة فيها حق وصدق لا باطل فيها . وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول : ( الهاء ) إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال : فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب ، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون ، لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فالله تعالى أمرهم بأن يأتوا بعشر سور فعجزوا عنها ، ثم أمرهم بسورة من مثله ، فعجزوا عنها ، فنزلت هذه الآية { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] الآية .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
ثم قال عز وجل : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } ، «لم» تستعمل للماضي «ولن» تستعمل للمستقبل ، فكأنه قال : فإن لم تفعلوا ، أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا ، أي لن تأتوا في المستقبل ، وتجحدون بغير حجة { فاتقوا النار } ، قال قتادة : معناه ، فإن لم تفعلوا ، ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا { فاتقوا النار } ، أي : احذروا النار { التى وَقُودُهَا الناس والحجارة } ، يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها ، والحجارة قبل أن يصيروا إليها . ويقال معناه : إن مع كل إنسان من أهل النار حجراً معلقاً في عنقه حتى إذا طفئت النار ، رسبه به الحجر إلى أسفل . ويقال : وقودها الناس والحجارة ، أي حجارة الكبريت ، وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها : أحدها : أنها أسرع وقوداً ، والثاني : أنها أبطأ خموداً ، والثالث : أنها أنتن رائحة ، والرابع : أنها أشد حراً ، والخامس : أنها ألصق بالبدن . قوله تعالى : { أُعِدَّتْ للكافرين } أي خلقت وهيئت للكافرين وقدِّرت لهم .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
ثم قال : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته ، ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة ، ثم ذكر الوعيد للكفار ، لمن لم يؤمن بالله ، ثم ذكر الثواب للمؤمنين؛ وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار ، ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك ، وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ولكي يرغبوا في ثوابه ، فقال { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } ، أي فرِّح قلوب الذين آمنوا ، يعني صدَّقوا بوحدانية الله تعالى ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جبريل عليه السلام { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم { جنات } وهي البساتين { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار ، يعني أنهار الخمر واللبن والماء والعسل { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } ، أي أطعموا من الجنة { مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } أي طعاماً .
{ قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي أطعمنا من الجنة من قبل . قال بعضهم : معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ، ثم إذا أتُي بها في آخر النهار ، { قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } ، يعني الذي أطعمنا في أول النهار ، لأن لونه يشبه لون ذلك ، فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعماً غير طعم الأول . قال بعضهم : معناه { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي في الدنيا ، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك .
ثم قال تعالى : { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } قال بعضهم : معناه ، متشابهاً في المنظر مختلفاً في الطعم . وقال بعضهم : متشابهاً ، يعني يشبه بعضها بعضاً في الجودة ، ولا يكون فيها رديء .
حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار . ثم قال تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } أي مهذبة في الخلق ويقال : مطهرة في الخلق والخلق ، فأما الخلق فإنهن لا يحضنَ ولا يبلنَ ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء . وأما الخلق ، فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن . قوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خالدون } أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون منها أبداً .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } وذلك أنه لما نزل قول الله تعالى : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } [ الحج : 73 ] وقال في آية أخرى : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت } [ العنكبوت : 41 ] ، قالت اليهود والمشركون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية { إِنَّ الله لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ، أي لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق بذكر البعوضة وبما فوقها . ويقال : لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويبيّن ويصف للحق شبهاً { مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ، يعني بالذباب والعنكبوت . وقال بعضهم : فما فوقها أي بما دونها في الصغر ، وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق ، ويراد به دونه ، كما يذكر الوراء ويراد به الأمام مثل قوله : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] أي أمامهم ، فكذلك الفوق يذكر ويراد به ما دونه ، أي يضرب المثل بالبعوضة وبما دونها ، بعد أن يكون فيه إظهار الحق ، وإرشاد إلى الهدى ، فكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة ، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه . ويقال : إنما ذكر المثل بالبعوضة ، لأن خلقة البعوضة أعجب ، لأن خلقتها خلقة الفيل . ويقال : لأن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت ، فكذلك الآدمي إذا استغنى ، فإنه يطغى . فضرب الله المثل للآدمي .
ثم قال تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } ، أي صدقوا وأقروا بتوحيد الله تعالى : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ } ، يعني المثل بالذباب والعنكبوت ، فيؤمنون به . { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } ، يعني اليهود والمشركين { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ، أي بذكر البعوضة والذباب . قال الله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } ، أي إنما ضرب المثل ليضل به كثيراً من الناس ، يعني يخذلهم ولا يوفقهم { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } ، يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيراً من الناس وهم المؤمنون . وقال بعضهم : معنى قوله { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } ، أي يسميه ضالاً ، كما يقال : فسّقت فلاناً ، أي سميته فاسقاً ، لأن الله تعالى لا يضل به أحداً ، وهذا طريق المعتزلة ، وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين ، وهو غير مستعمل في اللغة أيضاً ، لأنه يقال : ضلله إذا سمَّاه ضالاً ولا يقال : أضله إذا سماه ضالاً ، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيراً من الناس مجازاة لكفرهم .
ثم قال تعالى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } أي وما يهلك به وأصل الضلالة الهلاك . يقال : ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً . وما يهلك ، وما يخذل به ، يعني بالمثل إلا الفاسقين ، وأصل الفسق في اللغة هو : الخروج عن الطاعة؛ والعرب تقول : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة : فويسقة ، لأنها تخرج من الحُجْر ، وقال الله تعالى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] أي خرج عن طاعة ربه .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
ثم نعت الفاسقين فقال تعالى : { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } ، أي يتركون أمر الله ووصيته من بعد ميثاقه ، أي من بعد تغليظه وتأكيده ، وذلك أن الله تعالى أمر موسى في التوراة بأن يأمر قومه ليقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه إذا خرج . وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه ولم يصدقوه ونقضوا العهد . ويقال : إنه أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم ، حيث قال تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] فنقضوا ذلك العهد والميثاق . فإن قيل : كيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرّين بالله تعالى؟ فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون؟ قيل له : إنهم إذا لم يصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أشركوا بالله ، لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند الله ، ومن زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك بالله تعالى ، وصار ناقضاً للعهد . ويقال : الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه ، فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه ، وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة .
وقوله تعالى : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } ، روى الضحاك وعطاء ، عن ابن عباس أنه قال : إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم ، فهذا معنى قوله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } . ويقال : أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم . ويقال : كانت بين اليهود والعرب قرابة من وجه ، لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق ، فإذا لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم .
وقوله تعالى : { وَيُفْسِدُونَ فِى الارض } ، لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر ، فذلك فسادهم في الأرض { أولئك هُمُ الخاسرون } أي المغبونون في العقوبة . وقال الكلبي : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة ، فإن أطاع الله أتى ومنزله وأهله وخدمه في الجنة ، وإن عصى الله ورثه الله تعالى المؤمنين ، فقد غبن أي بعد عن أهله وخدمه ، كما قال في آية أخرى { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } [ الزمر : 15 ] . وقال بعضهم : هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم ، إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه ، وإنما رواه عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ } ، قال ابن عباس : هو على وجه التعجب . وقال الفراء : هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام ، فكأنه قال : ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية الله تعالى . فإن قيل : كيف يجوز التعجب من الله تعالى؟ وإنما يجوز التعجب ممن رأى شيئاً لم يكن رآه أو سمع شيئاً لم يكن سمعه فيتعجب لذلك ، والله تعالى قد علم الأشياء قبل كونها . قيل له : التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب ، والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول : ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله؟ وهذا كما قال في آية أخرى { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } [ الرعد : 5 ] .
ثم قال : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم } ، أي كنتم نطفة في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقطاع آجالكم ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث يوم القيامة ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة فتثابون بأعمالكم . قال الكلبي : فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون فقالوا : ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت؟ فنزل قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 29 ] . فإن قيل : كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا بالله تعالى؟ فالجواب ما سبق ذكره : أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أنكروا وحدانية الله تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً } ، أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت ، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتاً بعد وقت ، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض .
وقوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } هذه الآية من المشكلات؛ والناس في هذه الآية وما شاكلها على ثلاثة أوجه : قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وهذا كما روي عن مالك بن أنس رحمه الله أن رجلاً سأله عن قوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] ، فقال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا ضالاً فأخرجوه فطردوه ، فإذا هو جهم بن صفوان . وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة . وللتأويل في هذه الآية وجهان : أحدهما : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } ، أي صعد أمره إلى السماء ، وهو قوله : ( كن فكان ) ، وتأويل آخر وهو قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } أي أقبل إلى خلق السماء . فإن قيل : قد قال في آيةٍ أخرى { أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بناها * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضحاها * والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 27 ، 28 ، ، 30 ] فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء ، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء . الجواب عن هذا أن يقال : خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة ، فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله تعالى : { والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] أي بسطها .
ثم قال تعالى : { فَسَوَّاهُنَّ } أي خلقهن { سَبْعَ سماوات } وهن أعظم من خلقكم { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } أي بخلق كل شيء عليم . ومعناه : أن الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات . قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو ( وهْو ) بجزم الهاء . وقرأ الباقون بضم الهاء { وَهُوَ } في جميع القرآن ، وهما لغتان ومعناهما واحد .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } ، روي عن أبي عبيدة أنه قال : معناه وقال ربك للملائكة وإذ زيادة . وروي عن الفراء أنه قال : واذكر معناه إذ قال ربك . وقال مقاتل : معناه ، وقد قال ربك للملائكة . والملائكة : جماعة الملك . وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال : ملائكة بالهمز ويقال للواحد : ملك بغير همز . وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مألك بالهمز فأسقط الهمز للتّخفيف . وأصله من : ألك يألك ألوكاً وهو الرسالة . كما قال القائل :
وَغُلاَمٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّه ... بِأَلُوكٍ ، فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ
وإنما سميت الملائكة ملائكة ، لأنهم رسل الله تعالى وإنما إراد هاهنا بعض الملائكة ، «وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض . وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرض ، خلق الجان من مارج من نار ، أي من لهب من نار لا دخان لها ، فكثر نسله ، وهم الجان بنو الجان ، فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء ، فبعث الله تعالى ملائكة سماء الدنيا ، وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل ، حتى هزموا الجن ، وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحار ، وسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف ، لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد ، وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم ، فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا ، وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها ، وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها . فأخبرهم الله تعالى أنه يريد أن يخلق في الأرض خليفة فذلك قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } ، يعني الذي هم في الأرض { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم . فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك { فَقَالُواْ * أَتَجْعَلُ فِيهَا } ، يعني أتخلق فيها { مَن يُفْسِدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَسْفِكُ الدماء } كما سفكت الجن { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ } ، أي نصلي لك بأمرك . ويقال معناه : نحن نسبح بحمدك ونحمدك { وَنُقَدّسُ لَكَ } . قال بعضهم : نقدس أنفسنا لك ، يعني نطهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية . وقال بعضهم : نقدس لك ، أي ننسك إلى الطهارة ونقدس أنفسنا لك .
{ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، قال مجاهد : علم من إبليس المعصية وعلم من آدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيعه . ويقال : قد علم الله تعالى أنه سيكون في ولد آدم من الأنبياء والصالحين والأبرار . وذكر في الخبر أنه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم ، بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض ، فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب ، قالت له الأرض : بحق الله عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقاً يعصي الله تعالى فأستحي من ربي ، فصعد جبريل وقال : لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت .
فلما صعد جبريل بعث الله تعالى ميكائيل ، فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك ، فرجع ميكائيل ، فبعث الله تعالى عزرائيل ، فتضرعت إليه الأرض ، فقال عزرائيل : أمر الله أولى من قولك؛ فجمع التراب من وجه الأرض الطيب والسبخة ، والأحمر والأصفر ، وغير ذلك ، ثم صعد إلى السماء ، فقال له تعالى : أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها فقال : أنت تصلح لقبض أرواح أولاده . فصار ذلك التراب طيناً ، وكان طيناً أربعين سنة ، ثم صار صلصالاً كما قال في آية أخرى { خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار } [ الرحمن : 14 ] فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال : أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئاً من الخلائق يشبهه ، إن فضّل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون؟ فقالوا : نطيع أمر ربنا . فأسر إبليس في نفسه ، وقال لئن فضِّل عليّ لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه . فلما سوَّاه ونفخ فيه من روحه وعلَّمه أسماء الأشياء التي في الأرض . يعني ألهمه .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
فذلك قوله تعالى : { وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا } ، يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها ، { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } ، هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وأما في مصحف ابن مسعود ، وأُبي بن كعب . ففي أحدهما { ثُمَّ *** عَرْضُهَا } وفي الآخر { ثُمَّ } . فأما من قرأ { ثُمَّ } ، يعني به جماعة الدواب؛ ومن قرأ { ثُمَّ *** عَرْضُهَا } ، يعني به جميع الأسماء . وأما من قرأ { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } ، يعني به جماعة الأشخاص . والأشخاص يصلح أن يكون عبارة عن المذكر والمؤنث؛ وإن اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث .
قوله تعالى : { فَقَالَ * أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء } ، أي أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض { إِن كُنتُمْ صادقين } في قولكم { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . قال مقاتل : معناه كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه؟ ويقال : في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يعلم علم اللغة لأنه عز وجل أراهم فضل آدم بعلم اللغة ، وقال بعضهم : إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة ، فظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قوله تعالى : { قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا } ، نزّهوه وتابوا إليه من مقالتهم ، ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا فاغفر لنا { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } أي ألهمتنا . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سُبْحَانَ الله ، تَنْزِيهُ الله عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ» . وقال بعض أهل اللغة : اشتقاقه من السباحة ، لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه ، فيكون فيه معنى التبعيد . وقال بعضهم : هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب ، لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت : حان ، والعجم إذا تعجبت من شيء قالت : سب؛ فجمع بينهما فصار : سبحان .
وقوله تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم } ، يعني أنت العليم بما يكون في السموات والأرض ، الحكيم في أمرك ، إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا . ويقال : معناه { العليم الحكيم } على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها ، وكان حكمه موافقاً للعلم .
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
قوله تعالى : { قَالَ يَاءادَمُ ءادَمَ أَنبِئْهُم } يعني أخبرهم { بِأَسْمَائِهِمْ } ، يعني أسماء الدواب وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله . { فَلَمَّا أَنبَأَهُم } يعني أخبرهم { بِأَسْمَائِهِمْ } قال الله تعالى لهم : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } ، يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض ، وما يكون فيهما . { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } ، أي ما أظهرتهم من الطاعة يعني الملائكة { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } ، يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال : لئن فُضِّل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه . وقال بعضهم : إنهم كانوا يقولون حين أراد الله أن يخلق آدم : إنه لا يخلق أحداً أفضل منهم ، فهذا الذي كانوا يكتمون . وهذا التفسير ذكر عن قتادة . وقد قيل : إنه لما خلق آدم ، أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم؟ فسألهم عن الأسماء ، فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها ، فظهر لهم أن آدم أعلم منهم . ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم؟ فأمرهم سبحانه وتعالى بالسجود له ، فظهر لهم فضله .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
وهو قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ } ، فأصل السجود في اللغة : هو الميلان والخضوع ، والعرب تقول : سجدت النخلة إذا مالت ، وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت . وإنما كانت تلك سجدة التحية لا سجدة العبادة ، وكانت السجدة تحية لآدم عليه السلام وطاعة لله عز وجل { فَسَجَدُواْ } كلهم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } . يقال : إبليس اسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة . وقال غيره : هو من أبلس يبلس إذا يئس من رحمة الله ، وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أنه أيئسه من رجسته . وكان اسمه عزازيل ويقال : عزاييل؛ وإنما لن ينصرف لأنه لا سمي له فلا يستثقل فاشتُقّ . وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما سمي آدم ، لأنه خلقه من أديم الأرض . وروي عن قطرب أنه قال : هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه . وقال بعض أهل اللغة : مأخوذ من الأدمة ، وهو الذي يكون من لونه سمرة . { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر } أي امتنع عن السجود تكبراً : معناه أن كبره منعه من السجود .
وقوله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي وصار من الكافرين ، كما قال في آية أخرى { قَالَ سآوى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين } [ هود : 43 ] ، أي صار من المغرقين . وقال بعضهم : كان من الكافرين ، أي كان في علم الله من الكافرين ، يعني أنه يكفر . وبعضهم قال بظاهر الآية كان كافراً في الأصل . وهذا قول أهل الجبر . وقالوا : كل كافر أسلم ظهر أنه كان مسلماً في الأصل ، وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافراً في الأصل ، لأنه كان كافراً يوم الميثاق . ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } [ النمل : 43 ] ولم يقل إنها كانت كافرة ، وقال في قصة إبليس { وَكَانَ مِنَ الكافرين } . وقال أهل السنة والجماعة : الكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه ، وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما قد سلف . والمسلم إذا كفر كان مسلماً إلى ذلك الوقت ، إلا أنه حبط عمله .
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله تعالى : { وَقُلْنَا يَاءادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } ، روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء ، فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء ، يعني من ضلعه الأيسر ، وكان آدم بين النائم واليقظان . وقال ابن عباس : سميت حواء لأنها خلقت من الحي . ويقال : إنما سميت حواء لأنه كان في شفتها حوة ، يعني حمرة فقال عز وجل : { وَقُلْنَا يَاءادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ } أي حواء . يقال للمرأة : زوجة وزوج ، والزوج أفصح .
وقوله عز وجل : { وَكُلاَ مِنْهَا } ، أي من الجنة { رَغَدًا } ، أي موسعاً عليكما بلا موت ولا هنداز بالزاي المعجمة هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقتير . وقال أهل اللغة : الرغد هو السعة في الرّزق من غير تقتير .
قوله تعالى : { حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } ، أي ولا تأكلا من هذه الشجرة . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها كانت شجرة القمح . وروى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال : هي شجرة الكرم . وروى الشعبي عن جعدة بن هبيرة مثله . وروي عن علي رضي الله عنه مثله . وروي عن قتادة أنه قال : وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال : إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة ، لأن الدنيا دار محنة ، وقد خلقه من الأرض ليسكن فيها ، فامتُحِن بذلك ، كما امتُحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام . فذلك قوله عز وجل : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } ، أي فتصيرا من الضالين بأنفسكما .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{ فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } ، قرأ حمزة ( فأزالهما ) بالألف ، وقرأ غيره بغير ألف . وأصله في اللغة : من أزلّ يزل ، ومعناه فأغراهما الشيطان واستزلَّهما . وأما من قرأ ( فأزالهما ) بالألف ، فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه .
قوله تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } ، أي مما كانا فيه من النعم . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر ، من أيام الآخرة ، لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا .
وروي عن ابن عباس أنه قال : لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده ، واحتال لإخراجه منها ، فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه ، حتى أتى الحية وكانت أعظم وأحسن دابة في الجنة خلقاً وكانت لها أربعة قوائم ، فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته ، فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها ، ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ، يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد ، فمن أكل منها يبقى في الجنة أبداً .
ويقال : إن حواء قالت لآدم : تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم : قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت حواء بيده حتى جاءت به إلى الشجرة ، وكان يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها : لا تفعلي فإني أخاف العقوبة . وكانت حواء تقول : إن رحمة الله واسعة فأخذت من ثمرها وأكلت . ثم قالت لآدم : هل أصابني شيء بأكلها؟ وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة ، وآدم متبوعاً فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع ، فإذا فسد المتبوع فسد التابع ثم أخذت ثمرة أخرى ودفعتها إلى آدم . فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة ، وسقط عنهما ما كان عليهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب ، حتى بدت عوراتهما فاستحيا وهربا . قال الله تعالى : يا آدم أمني تهرب؟ قال : لا ولكن حياء من ذنبي . فأخذا من أوراق التين ، وألصقا على عوراتهما . ثم أمرهما الله تعالى بأن يهبطا منها إلى الأرض ، فوقع آدم بأرض الهند ، وحواء بجدة . وروي عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي الإنسان إنساناً ، لأن الله عهد إليه فنسي أي ترك .
وقوله تعالى : { وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي آدم وحواء وإبليس والحية ، فبقي بين إبليس وبين أولاد آدم العداوة إلى يوم القيامة . وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة إلى يوم القيامة . ثم قال : { وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ } ، أي موضع القرار { ومتاع إلى حِينٍ } ، أي الحياة والعيش إلى الموت .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قوله تعالى : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } ، قرأ ابن كثير { فَتَلَقَّى ءادَمُ } بنصب آدم ورفع كلمات . وقرأ غيره برفع آدم وكسر كلمات . فأما من قرأ { فَتَلَقَّى ءادَمُ } بالرفع فمعناه أخذ وقيل من ربه . ومن قرأ ينصب آدم . يعني استقبلته كلمات من ربه . يقال : تلقيت فلاناً بمعنى استقبلته . ومعنى ذلك كله : أن الله تعالى ألهمه كلمات ، فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه ، فتاب الله عليه .
وروي عن مجاهد أنه قال : تلك الكلمات هي قوله عز وجل : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] الآية . وقال بعضهم : قال : بحق محمد أن تقبل توبتي . قال الله له : ومن أين عرفت محمداً؟ قال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك . فتاب الله عليه . وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الكلمات هي قوله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ وارحمني ، إنك أنت التواب الرحيم . سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الغافرين . سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين .
قوله تعالى : { فَتَابَ عَلَيْهِ } ، يعني قبل الله توبته . يقال : تاب العبد إلى ربه وتاب الله على عبده ، فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال : تاب إلى الله ، وإذا ذكر من الله تعالى يقال : تاب الله على عبده ، إذا رجع العبد عن ذنبه . وتاب الله على عبده ، إذا قبل توبته . قوله : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قوله تعالى : { قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا } ، يعني آدم وحواء وإبليس والحية . وفي الآية دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها ، لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته . وهذا كما قال القائل :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَدَاوِمْ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الإِله ... فَإِنَّ الإِلهَ شَدِيدُ النِّقَمْ
وقال تعالى : { لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد : 11 ] الآية .
وقوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } ، وأصله فإن ما إلا أن النون أدغمت في الميم ، وإن لتأكيد الكلام ، وما للصلة ، ومعناه فإما يأتينكم مني هدى يعني البيان ، وهو الكتاب والرسل ، خاطب به آدم وعنى به ذريته . { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } ، يعني اتبع كتابي وأطاع رسلي { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم من العذاب ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا من أمر الدنيا .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي جحدوا رسلي وكذبوا كتابي { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } ، أي دائمون .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } يا أولاد يعقوب . وإنما سمي إسرائيل ، لأن ( الإسرا ) بلغتهم عبد ، و ( الإيل ) هو الله فكأنه قال : يا بني عبد الله . وقال بعضهم : إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له ( إيل ) ، وذلك أنه كان في سفر مع أولاده ، وكان يسير خلف القافلة ، وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من العجب ، فابتلاه الله تعالى ، أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة ، فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك ، فكانا في تلك المنازعة إلى طلوع الفجر ، ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب أي عرق من عروقه فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام . وقال بعضهم : لأنه أسره جني يقال له ( إيل ) وروي عن السدي : أنه وقعت بينه وبين أخيه ( عيصوا ) عداوة فحلف ( عيصوا ) أن يقتله ، فكان يعقوب يختفي بالنهار ، ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل . وأصله من إسراء الليل بدليل قوله عز وجل : { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] ؛ والله أعلم بالصواب . ويقال : إنما سمي بيعقوب ، لأنه ولد مع عيصوا ، في بطن واحد فخرج على عقب عيصوا فسمي لذلك بيعقوب . فقال الله تعالى : { مَعِىَ بَنِى إسراءيل } وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم ، وكانوا من أولاد يعقوب .
وقال تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } ، يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم في التيه من المن والسلوى ، يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا لي { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح : قد كان الله تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً ، فمن تبعه وصدق به غفرت له ذنوبه ، وأدخلته الجنة ، وجعلت له أجرين ، أجراً باتباعه ما جاء به موسى ، وأجراً باتباعه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام وعرفوه كذبوه فذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقال : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } . قال الحسن البصري : { أَوْفُوا بِعَهْدِى } أدوا ما افترضت عليكم ، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ مما وعدت لكم . وقال الضحاك : أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة . وقال الصادق : أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي ، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي . وقال قتادة : العهد ما ذكر في سورة المائدة في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل } إلى قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بنى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءَاتَيْتُمْ الزكواة وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم وَلأدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } [ المائدة : 12 ] ، أوف بعهدكم وهو قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بنى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءَاتَيْتُمْ الزكواة وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم وَلأدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } [ المائدة : 12 ] الآية . ويقال : { أَوْفُواْ *** بِعَهْدِى } الذي قبلتم يوم الميثاق ، { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } الذي قلت لكم ، يعني به الجنة .
قوله تعالى : { وإياى فارهبون } ، يعني : فَاخْشَوْنِ . وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها . ثم قال : { وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ } ، أي صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً أي موافقاً لما معكم ، من التوحيد . وفي بعض الشرائع أنزلت يعني التوراة والإنجيل { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } ، يعني أول من يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال : { بِهِ } يعني بالقرآن . وإنما يريد بني قريظة والنضير . فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } وقد كفر به قبلهم مشركو العرب ، قيل له : معناه { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } في وقت هذا الخطاب . ويقال : إن أحبار اليهود كان لهم أتباع ، فلو أسلموا أسلم أتباعهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم ، فهذا معنى قوله { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } من قومكم . { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً } أي بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم عرضاً يسيراً ، لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة اليهود ، وكانت لهم رئاسة ، فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم؛ فقال : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً } أي عرض الدنيا وإنما سماه قليلاً ، لأن الدنيا كلها قليل . ثم خوفهم فقال : { وإياى فاتقون } في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فمن جحد به أدخلته النار .
قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } ؛ يقال في اللغة : لبس يلبس لبساً إذا لبس الثياب . ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل ، فتكتمون صفته ، وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته ، ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك . وقال قتادة : { وَلاَ تَلْبِسُواْ } اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام . ويقال : معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعض أمره .
ثم قال تعالى : { وَتَكْتُمُواْ الحق } ، يقول : ولا تكتموا الحق { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم تكتمون الحق . { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، أي أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها في مواقيتها ، { وَإِذْ أَخَذْنَا } المفروضة { واركعوا مَعَ الراكعين } ، أي صلوا مع المصلين ، مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجماعات . ويقال : صلوا مع المصلين إلى الكعبة . وقال قتادة : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة ، فأدوهما إلى الله عز وجل .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
قوله : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } ، نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة ، وهم بنو قريظة والنضير ، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر اليهود وجحدوا ، فنزلت هذه الآية { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم الذي قد أسلم وسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر فتقول له : إنه نبي صادق فاتبعه ، وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه ، فنزلت هذه الآية { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } . وقال قتادة : في هذه الآية دليل على أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعاً إليه ، ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه . ويقال : تنزلت في شأن القصاص .
قال الفقيه : أخبرنا القاضي الخليل بن أحمد قال : حدثنا ابن أبي حاتم الرازي قال : أخبرنا الحجاج بن يوسف ، عن سهل بن حماد ، عن ابن غياث ، عن هشام الدستوائي ، عن المغيرة وهو ختن مالك بن دينار ، عن مالك بن دينار عن ثمامة ، عن أنس قال : لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقال : « يَا جِبْرِيلُ مَنْ هؤلاء » ؟ فقال : هؤلاءِ أمَّتُكَ الَّذيِنَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ . ثم قال تعالى : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ، يعني أفلا تعقلون أن صفته في التوراة . ويقال : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن ذلك حجَّة عليكم .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } ، أي استعينوا بالصبر على أداء الفرائض وبكثرة الصلاة على تمحيص الذنوب . ويقال : استعينوا بالصبر على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : استعينوا بالصبر والصلاة يعني بالصوم والصلاة ، وإنما سمي الصوم صبراً لأن في الصوم حبس النفس عن الطعام والشراب والرفث . وقد قيل الصبر على ثلاثة أوجه : صبر على الشدة والمصيبة ، وصبر على الطاعة وهو أشد من الأول وأكثر أجراً ، وصبر عن المعصية وهو أشد من الأول والثاني ، وأجره أكثر من الأول . وفي هذا الموضع أراد الصبر على الطاعة . قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } ، أي الاستعانة ويقال : الصلاة لكبيرة أي ثقيلة { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } ، أي المتواضعين . ويقال : الذليلة قلوبهم .
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ } ، أي يستيقنون أنهم يبعثون يوم القيامة بعد الموت . [ وإنما سمي اليقين ظناً ، لأن في الظن طرفاً من اليقين ، فيعبَّر بالظن عن اليقين . وقوله : { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون } يعني في الآخرة بعد البعث للحساب .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
قوله تعالى : { راجعون يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } ، أي على عالمي زمانهم . وقال بعضهم : من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم كانت له فضيلة على غيره وكان له أجران ، أجر إيمانه بنبيه عليه السلام وأجر إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثَلاَثَةٌ يُعْطِيهُم الله الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ ، مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَها ، وَعَبْدٌ أَطَاعَ سَيِّدَهُ وَأَطَاعَ الله تَعَالَى ، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ » وقال بعضهم : معنى قوله { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } بإنزال المن والسلوى وغيره ، ولم يكن ذلك لأحد من العالمين غيرهم .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وقوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا } ، أي واخشوا عذاب يوم { لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } ، يعني لا تغني في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة ، وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن من أولاد إبراهيم خليل الله ، ومن أولاد إسحاق والله تعالى يقبل شفاعتهما فينا ، فنزلت هذه الآية : { لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } ، أي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس مؤمنة ولا نفس كافرة عن نفس كافرة . { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة } ، أي من نفس كافرة يعني لا ينفع فيها شافع ولا ملك ولا رسول لغير أهل القبلة . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { وَلاَ تَقْبَلُواْ } بالتاء ، لأن الشفاعة مؤنثة؛ وقرأ الباقون بالياء ، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ، وما لم يكن تأنيثه حقيقياً جاز تذكيره ، وكقوله عز وجل : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } [ البقرة : 275 ] ثم قال تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } ، أي لا يقبل الفداء من نفس كافرة كما قال في موضع آخر { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } [ آل عمران : 91 ] ، ويقال : لو جاءت بعدل نفسها رجلاً مكانها لا يقبل منها . { عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ، يقول : ولا هم يمنعون من العذاب .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{ وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } إنما خاطبهم وأراد به آباءهم ، لأنهم يتبعون آباءهم فأضاف إليهم . ومعناه واذكروا إذ نجيناكم من قوم فرعون { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } أي يعذبونكم بأشد العذاب وأقبح العذاب . ويقال في اللغة : سامه الخسف ، إذا أولاه الهوان . يعني يولونكم بأشد العذاب . ثم بيّن العذاب فقال تعالى : { يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } الصغار { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } ، أي ويستخدمون نساءكم . وأصله في اللغة : من الحياة ، يقال : استحيا ، يستحيي إذا تركه حيّاً . وكانوا يذبحون الأولاد ، ويتركون النساء أحياء للخدمة ، وذلك لأن فرعون قالت له كهنته : يولد في بني إسرائيل مولود ينازعك في ملكك ، فأمر بأن يذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل وتترك البنات .
قوله تعالى : { وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } ، أي نعمة من ربكم عظيمة ، والبلاء : يكون عبارة عن النعمة ، ويكون أيضاً عبارة عن البلية والشدة؛ وأصله من الابتلاء والاختيار يكون بهما جميعاً . فإن أراد به النعمة ، فمعناه { وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ } ، أي اتجاه الله من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم من ربكم عظيم وإن أراد به العذاب ، فمعنى { وَفِى ذلكم بَلاء } أن في ذبح الأبناء واستخدام النساء بلاء لكم من ربكم عظيم .
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{ وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } ، أي فرق الماء يميناً وشمالاً حين خرج موسى مع بني إسرائيل من مصر ، فخرج فرعون وقومه في طلبهم؛ فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه على البحر ، فانفلق ، فصار اثني عشر طريقاً يبساً ، لكل سبط منهم طريق . فلما جاوز موسى البحر ودخل فيه فرعون مع قومه ، غشيهم من اليم ما غشيهم ، أي غشيهم الماء فغرقوا في اليم فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } .
يقول : واذكرا نعمة الله عليكم إذ فلقنا بكم البحر { فأنجيناكم } من الغرق { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } ، يعني فرعون وآله . قال بعض أهل اللغة : الآل ، أتباع الرجل قريبه كان أو غيره ، وأهله قريبه أتبعه أو لم يتبعه . ويقال : الآل والأهل بمعنى واحد ، إلا أن الآل يستعمل لأتباع رئيس من الرؤساء؛ يقال : آل فرعون وآل موسى ، وآل هارون ولا يقال : آل زيد ، وآل عمرو . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : من آلك؟ قال : « آلِي كُلُّ تَقِيَ إَلى يَوْمِ القِيَامَةِ »
قوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } ، أي تنظرون إليهم حين لفظهم البحر بعدما غرقوا ، يعني آباءهم . وقال بعضهم : معناه أنكم تعلمون ذلك كأنكم تنظرون إليهم . قال الفقيه : وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف ذلك إلا بالوحي ، فلما أخبرهم بذلك من غير أن يقرأ كتاباً ، كان ذلك دليلاً أنه قاله بالوحي ، وفيه أيضاً تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، وفيه أيضاً تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قوله تعالى : { وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } ، قرأ أبو عمرو «وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى» بغير ألف ، وقرأ غيره { واعدنا } بالألف ، فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر ، يعني أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام ومن قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين ، وإنما كان الوعد من الله تعالى ومن موسى الوفاء ، ومن الله الأمر ، ومن موسى الائتمار . فكأنما جرت المواعدة بين الله تعالى وبين موسى . وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد ، كما يقال : سافر ونافق .
ويقال : أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشراً من ذي الحجة . وقال بعضهم : ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشراً من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء . وروى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قال : لما وعدهم موسى أربعين ليلة ، عدَّت بنو إسرائيل عشرين يوماً وعشرين ليلة ، وقالوا : قد تمت أربعون ولم يرجع موسى ، فقد خالفنا .
وذكر أن السامري قال لهم : إنكم استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهم ، فلعل الله تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى ، فهاتوا ما عندكم من الحلي حتى نحرقه ، فلعلَّ الله يرد إلينا موسى فجمعوا ذلك الحلي ، وكان السامري صائغاً فاتخذ من ذلك عجلاً ، وقد كان قبل ذلك رأى جبريل عليه السلام على فرس الحياة ، فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع ، فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب ، ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلاً جسداً له خوار . وروي عن ابن عباس أنه قال : صار عجلاً له لحم ودم وفيه حياة له خوار . وروي عن علي أنه قال : اتخذ عجلاً جسداً مشبكاً ، من ذهب له خوار ، فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار . فقال للقوم : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ، يعني أن موسى أخطأ الطريق . وقال بعضهم : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ، فتمَّ ميقات ربه أربعين ليلة ، لأنه قد أفطر من الصِّيام في تلك العشرة ، لأنه ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح .
قوله تعالى : { ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ } ، أي عبدتم العجل من بعد انطلاق موسى إلى الجبل { وَأَنتُمْ ظالمون } ، أي كافرون بعبادتكم العجل . ويقال : وأنتم ضارون أنفسكم بعبادتكم العجل . { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي تركناكم من بعد عبادتكم العجل ، فلم نستأصلكم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي لكي تشكروا الله تعالى على العفو والنعمة .
قوله : { وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } ، أي أعطينا موسى التوراة { والفرقان } ، أي الفارق بين الحلال والحرام . ويقال : الفرقان هو النصرة بدليل قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان والله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنفال : 41 ] أي يوم النصرة . ويقال : الفرقان هو المخرج من الشبهات . ويقال : هو انفلاق البحر بدليل قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] . وقال الفراء : في الآية مضمر ، ومعناه : وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة ، وأعطينا محمداً الفرقان ، فكأنه خاطبهم فقال : قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد صلى الله عليه وسلم وعلم سائر الأنبياء . قوله : { والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ، أي لكي تهتدوا من الضلالة .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم } ، وأصله يا قومي بالياء ولكن حذف الياء وترك الكسر بدلاً عن الياء ، وتكون في الإضافة إلى نفسه معنى الشفقة . { لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ } ، يعني أضررتم بأنفسكم { باتخاذكم العجل فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ } ، يعني إلى خالقكم يقول : فارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة خالقكم ، وتوبوا إليه فقالوا له : وكيف التوبة؟ قال لهم موسى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } ، يعني يقتل بعضكم بعضاً ، يقتل من لم يعبد العجل الذين عبدوا العجل؛ وإنما ذكر قتل الأنفس وأراد به الإخوان . وهذا كما قال في آية أخرى { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين ، يعني لا تغتابوا إخوانكم . { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } ، يعني التوبة خير لكم عند خالقكم ، ومعناه قتل إخوانكم مع رضا الله خير لكم عند الله تعالى من ترككم إلى عذاب الله .
قوله تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } ، أي المتجاوز عن الذنوب الرحيم ، حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم . وروي في الخبر أن الذين عبدوا العجل جلسوا على أبواب دورهم ، وأتاهم هارون والذين لم يعبدوا العجل شاهرين سيوفهم ، فكان موسى عليه السلام يتقدم ويقول : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوا شاهرين سيوفهم ، فاتقوا الله واصبروا له ، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو حلّ حبوته ، أو مدّ بطرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو برجل . فيقولون : آمين ، وذكر في رواية أبي صالح : أن هارون كان يتقدم ويقول ذلك ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء فكانت القتلى سبعين ألفاً ، فكان موسى عليه السلام يدعو ربه لما شق عليه من كثرة الدماء ، حتى نزلت التوبة . فقيل لموسى : ارفع السيف عنهم ، فإني قبلت توبتهم جميعاً ، من قتل ومن لم يقتل .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } ، أي لن نصدقك { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } أي عياناً ، وذلك أن موسى عليه السلام حين انطلق إلى طور سيناء للمناجاة ، اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ، فلما انتهوا إلى الجبل أمرهم موسى بأن يمكثوا في أسفل الجبل ، وصعد موسى عليه السلام فناجى ربه فأعطاه الله الألواح ، فلما رجع إليهم قالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه حتى ننظر إليه ، فقال لهم : إني لم أره ، وقد سألته أن أنظر إليه ، فتجلى للجبل ، فدك الجبل ، فلم يصدقوه وقالوا : لن نصدقك حتى نرى الله جهرة . فأخذتهم الصاعقة فماتوا كلهم ، فدعا موسى ربه فأحياهم الله تعالى ، فذلك قوله عز وجل : { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إلى الصاعقة . { ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } ، يقول أحييناكم من بعد هلاككم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } للحياة بعد الموت .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } ، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى عليه السلام حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين ، فأبوا ذلك وقالوا لموسى : { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] ، فعاقبهم الله عز وجل فبقوا في التيه أربعين سنة ، وكانت المفازة اثني عشر فرسخاً ، وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } وهو السحاب الأبيض ، يقيكم حر الشمس في التيه ، وكان لهم في التيه عمود من نور مد لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر . فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا الله فأنزل عليهم المن وهو الترنجيين كان يتساقط عليهم كل غداة ، فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته ، فإن أخذ أكثر من ذلك دود ذلك الزائد وفسد؛ وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه يومين ، لأنه لا يأتيهم يوم السبت ، وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن ، أي ملوا من أكله . فقالوا لموسى عليه السلام : قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا ، فادع لنا ربك أن يطعمنا لحماً . فدعا لهم موسى عليه السلام فبعث الله لهم طيراً كثيراً فذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } ، وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة . وقال بعضهم : كان طيراً يأتيهم مشوياً . قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها .
{ كُلُواْ مِن طيبات } ، أي قيل لهم كلوا من طيبات ، وهذا من المضمرات ، وفي كلام العرب يضمر الشيء إذا كان يستغنى عن إظهاره ، كما قال في آية أخرى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ آل عمران : 106 ] ، يعني يقال لهم أكفرتم؛ وكما قال في آية أخرى : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 ] يعني قالوا : ما نعبدهم . ومثل هذا في القرآن كثير . وكذلك قوله هاهنا { كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } ، أي من حلالات { مَا رزقناكم } ، أي أعطيناكم من المن والسلوى ولا ترفعوا منها شيئاً ، كما قال في آية أخرى { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه } [ طه : 81 ] ، أي ولا تعصوا فيه فلا ترفعوا إلى الغد ، فرفعوا وجعلوا اللحم قديداً مخافة أن ينفد فرجع ذلك عنهم ، ولو لم يرفعوا لدام ذلك عليهم .
قوله تعالى : { رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا } ، يقول وما أضرونا { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ، أي أضروا بأنفسهم حيث رفعوا إلى الغد حتى منع ذلك عنهم . وروى خلاس ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لَوْلا بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ ، وَلَمْ يَنْتنِ اللَّحْمُ ، وَلَوْلاَ حَوَاءُ لَمْ تَخُنِ امْرَأةٌ زَوْجَها .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية } ، قال الكلبي : يعني أريحا . وقال مقاتل : إيليا . ويقال : هذا كان بعد موت موسى عليه السلام وبعد مضي أربعين سنة ، حيث أمر الله تعالى يوشع بن نون وكان خليفة موسى عليهما السلام بأن يدخل مع قومه المدينة ، فقال لهم يوشع بن نون : ادخلوا الباب سجداً ، يعني إذا دخلتم من باب المدينة فادخلوا ركعاً منحنين ناكسي رؤوسكم متواضعين ، فيقوم ذلك منكم مقام السجود وذلك قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية } ، يعني أريحا أو إيليا .
{ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } ، موسعاً عليكم { وادخلوا الباب سُجَّدًا } ، أي ركعاً منحنين { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } . قرأ بعضهم بالرفع وبعضهم بالنصب وهي قراءة شاذة ، وإنما جعله نصباً لأنه مفعول . ومن قرأ بالرفع معناه وقولوا حطة . وروي عن قتادة أنه قال : تفسير { حِطَّةٌ } ، يعني حطّ عنا خطايانا . وقال بعضهم : معناه لا إله إلا الله . وقال بعضهم : بسم الله . وقال بعضهم : أمروا بأن يقولوا بهذا اللفظ ولا ندري ما معناه .
ثم قال : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم } ، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { تَغْفِرْ } بالتاء والضمة ، لأن لفظ الخطايا مؤنث . وقرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة { يَغْفِرُ } بالياء والضمة بلفظ التذكير ، لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم . وقرأ الباقون بالنون وكسر الفاء على معنى الإضافة إلى نفسه وذلك كله يرجع إلى معنى واحد ، ومعناه نغفر لكم خطايا الذين عبدوا العجل . { وَسَنَزِيدُ المحسنين } ، أي سنزيد في إحسان من لم يعبد العجل . ويقال : نغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد ، وسنزيد في إحسان من لم يرفع إلى الغد . ويقال : نرفع خطايا من هو عاصٍ ، وسنزيد في إحسان من هو محسن . فلما دخلوا الباب خالفوا أمره . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنَّهُمْ دَخَلُوا البَابَ يَزْحَفُونَ " وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : دخلوا على أستاههم . ويقال : دخلوا منحرفين على شق وجوههم ، وقالوا : «احنطا سمفانا» يعني حنطة حمراء ، بلغة القبط استهزاء وتبديلاً ، وإنما قال ذلك سفهاؤهم ، فذلك قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } ، أي غيروا ذلك القول وقالوا بخلاف ما قيل لهم .
قال الله تعالى : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ } ، أي غيروا { رِجْزًا } ، أي عذاباً { مّنَ السماء } وهو موت الفجاءة . وقال أبو روق : ( الرجز ) الطاعون . ويقال مات منهم بالطاعون سبعون ألفاً . ويقال : نزلت بهم نار فاحترقوا . ويقال : وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً .
{ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي جزاء لفسقهم وعصيانهم .
ثم رجع إلى قصة موسى حين كانوا في التيه وأصابهم العطش فاستغاثوا بموسى ، فدعا موسى ربه ، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر ، فَأخذ موسى حجراً مربعاً مثل رأس الإنسان ، ووضعه في المخلاة بين يدي قومه ، ضَرَبَ عَصَاهُ عَلَيْهِ ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثنتا عشرة عيناً ماءً عذباً؛ وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً لكل سبط منهم عين على حدة . قال الفقيه : حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوسة قال : حدثنا أبو القاسم ، أحمد بن حمزة الصفار قال : حدثنا عيسى بن أحمد قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال : تاه بنو إسرائيل في اثني عشر فرسخاً أربعين عاماً على غير ماء ، وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور ، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى بعصاه .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
فذلك قوله تعالى : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا } فإذا ساروا حملوه فاستمسك . وقال بعضهم : كان يخرج عيناً واحدة ثم تتفرق على اثنتي عشرة فرقة ، وتصير اثني عشر نهراً . وقال بعضهم : كان للحجر اثنا عشر ثقباً ، يخرج منها اثنتا عشرة عيناً لا يختلط بعضها ببعض . قال مقاتل : كان الحجر مربَّعاً ، وكان جبريل عليه السلام أمر موسى بحمله معه يوم جاوز البحر ببني إسرائيل ، وإنما انفجرت اثنتا عشرة عيناً ، لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقاً .
ثم قال تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } ، أي قد عرف كل سبط مشربهم ، أي موردهم وموضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم . والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة ، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر ، وأراد كل سبط تكثير نفسه ، فجعل لكل سبط منهم نهراً على حدة ليستقوا منها ، ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة . وقال بعضهم : كان الحجر من الجنة . وقال بعضهم : رفعه موسى من أسفل البحر حيث مرّ فيه مع قومه . وقال بعضهم : كان حجراً من أحجار الأرض .
قوله عز وجل : { كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله } أي قيل لهم كلوا من المن والسلوى ، واشربوا من ماء العيون ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ } ، أي لا تعملوا فيها بالمعاصي ، يقال : عثا يعثو عثواً ، إذا أظهر الفساد وعَثِي ، وعاث لغتان الذئب في الغنم أي أسرع بالفساد ثم أنهم أجمعوا من المن والسلوى .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } ، أي من جنس واحد { فادع لَنَا رَبَّكَ } ، أي سل لنا ربك { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض } ، أي مما تخرج الأرض { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا } . وقوله { بَقْلِهَا } أراد به البقول كلها ، وقوله { وَقِثَّائِهَا } أراد به جميع ما يخرج من الفاكهة مثل القثاء والبطيخ ونحو ذلك ، وقوله : { وَفُومِهَا } ، أي طعامها وهي الحبوب كلها ، ويقال : هي الحنطة خاصة . وقال مجاهد : الفوم الخبز . وقال الفراء : فومي لنا يا جارية ، يعني اخبزي لنا . ويقال : الفوم هو الثوم ، والعرب تبدل الفاء بالثاء لقرب مخرجهما . وفي قراءة عبد الله بن مسعود { وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } .
فغضب عليهم موسى عليه السلام { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ } ، يعني أتستبدلون الرديء من الطعام بالذي هو خير أي بالشريف الأعلى؟ ويقال : معناه تسألون الدنيء من الطعام وقد أعطاكم الله الشريف منه وهو المن والسلوى؟ ويقال : أتختارون الدنيء الخسيس وهو الثوم والبصل على الذي هو أعلى وأشرف وهو المن والسلوى؟ فقال الله تعالى لهم : { اهبطوا مِصْرًا } قرأ بعضهم بلا تنوين أي المصر الذي خرجتم منه ، وهو مصر فرعون ، ومن قرأ مصراً بالتنوين يعني : ادخلوا مصراً من الأمصار ، { فَإِنَّ لَكُم } فيه { مَّا سَأَلْتُمْ } تزرعون وتحصدون ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } . قال الحسن وقتادة : جعلت عليهم الجزية يعني على ذريتهم . ويقال : جعل عليهم كدّ العمل ، يعني أولئك القوم حتى كانوا ينقلون السرقين . { والمسكنة } يعني زي الفقراء . وقال الكلبي : يعني الرجل من اليهود وإن كان غنياً ، يكون عليه زي الفقراء .
وقوله تعالى : { فَبَاءو بِغَضَبٍ } ، يعني استوجبوا الغضب { مِنَ الله } . قال بعضهم : أصله من الرجوع ، يعني رجعوا باللعنة في أثر اللعنة . ويقال : باؤوا أي احتملوا كما يقال : بوِّئت بهذا الذنب أي احتملته . ثم قال : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله } ، أي ما أصابهم من الذلة والمسكنة وهم اليهود بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، يعني كذَّبوا عيسى وزكريا ويحيى ومحمداً عليهم وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } ، أي بغير جرم منهم ، وهم زكريا ويحيى . قرأ نافع { النبيين } بالهمزة وكذلك جميع ما في القرآن إلا في سورة الأحزاب : { مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى } ، وقرأ الباقون : بغير همز . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : يا نبيء الله ، فقال : « لست بنبيء الله ولكن نبي الله » ( والنبيين ) جماعة النبي . وأما من قرأ بالهمز ، قال أصله من النبأ وهو الخبر لأنه أنبأ عن الله تعالى ، وأما من قرأ بغير همز فأصله مهموز ، ولكن قريشاً لا تهمز . وقال بعضهم : هو مأخوذ من النبأة وهو الارتفاع ، لأنه شرف على جميع خلقه . وقال بعضهم : النبيء هو الطريق الواضح ، سمي بذلك لأنه طريق الخلق إلى الله تعالى .
قوله : { ذلك بِمَا عَصَواْ } ، أي ذلك الغضب على اليهود بما عصوا أي بسبب عصيانهم أمر الله تعالى ، فخذلهم الله تعالى حين كفروا ، فلو أنهم لم يعصوا الله تعالى كانوا معصومين من ذلك . { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } يعني بقتلهم الأنبياء وركوبهم المعاصي .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين } ، قال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن الذين آمنوا وهم قوم كانوا مؤمنين بموسى والتوراة ولم يتهودوا ولم يتنصروا . والنصارى : الذين تركوا دين عيسى وَتسَمَّوْا بالنصرانية . واليهود الذين تركوا دين موسى وتسمَّوا باليهودية . والصابئين : هم قوم من النصارى ألين قولاً منهم . { مَنْ ءامَنَ } من هؤلاء { بالله واليوم الاخر وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثوابهم . قال مقاتل : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } ، أي صدقوا بتوحيد الله ، ومن آمن من الذين هادوا ومن النصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم . وقال القتبي : قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } هم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، فكأنه قال : إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين . ويقال : اليهود سموا يهوداً بقول موسى عليه السلام { واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُم بأاياتنا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] . ويقال : اشتقاقه من الميل من هاد يهود ، إذا مال عن الطريق . وأما النصارى قال بعضهم : سموا أنفسهم نصارى بقول عيسى عليه السلام : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصارى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله ءَامَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] ويقال : لأنهم نزلوا إلى قرية يقال لها ناصرة ، فتواثقوا على دينهم فسموا نصارى . وأما الصابي فهو من صبا يصبو إذا مال . ويقال : من صبأ يصبأ ، إذا رفع رأسه إلى السماء لأنهم يعبدون الملائكة . قرأ نافع و { الصابين } بغير همز من صبا يصبو ، إذا خرج من دين إلى دين . وقرأ الباقون بالهمز من صبأ يصبأ ، إذا رفع رأسه إلى السماء . واختلف العلماء في حكم الصابئين ، فقال بعضهم : حكمهم كحكم أهل الكتاب في أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم ، وهو قول أبي حنيفة ، لأنهم قوم بين النصرانية واليهودية يقرؤون الزبور؛ وقال بعضهم : هم بمنزلة المجوس لا يجوز أكل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنهم يعبدون الملائكة فصار حكمهم حكم عبدة النيران .
ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يكون مؤمناً بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد وعلى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قال : من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر { وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي أدى الفرائض ، { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } ، يعني لهم ثواب أعمالهم في الآخرة { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم من العذاب { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا من الدنيا . ويقال : ليس عليهم خوف النار ولا حزن الفزع الأكبر . فإن قيل : فيه ذكر من آمن بالله بلفظ الوحدان ، ثم قال فلهم أجرهم ولم يقل : فله أجره ، قيل له : لأنه انصرف إلى ما سبق ذكره وهو الجماعة فمرة يذكر بلفظ الوحدان لاعتبار اللفظ ومرة بلفظ الجمع لاعتبار المعنى .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } ، قال ابن عباس : هما ميثاقان؛ الميثاق الأول : حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام والميثاق الثاني : الذي أخذ في التوراة وسائر الكتب . { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } وذلك أن موسى عليه السلام ، لما أتاهم بالتوارة فرأوا ما فيها من التغليظ والأمر والنهي ، شق ذلك عليهم فأبوا أن يقبلوها . وإن الله تعالى قد منّ على هذه الأمة حيث فرض عليهم الفرائض واحداً بعد واحد ، ولم يفرض عليهم جملة ، فإذا استقر الواحد في قلوبهم فرض الآخر . وأما بنو إسرائيل ، فقد فرض عليهم دفعة واحدة فشق ذلك عليهم ولم يقبلوا ، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا جبلاً من جبال فلسطين فوق رؤوسهم ، وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ والجبل مثل ذلك ، فلما رأوا أنه لا مهرب لهم منه ، قبلوا التوراة وسجدوا من المهابة والفزع ، وهم يلاحظون في سجودهم الجبل ، فمن ذلك يسجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم ، فذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } . والطور : اسم جبل بالسريانية : ويقال : هو جبل ذو أشجار .
ثم قال تعالى : { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } ، أي قيل لهم : اعملوا بما آتيناكم بجد ومواظبة واعملوا في طاعة الله { واذكروا مَا فِيهِ } . قال بعضهم : اعملوا بما فيه . وقال بعضهم : اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب ، لكي يسهل عليكم القبول . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، أي لكي تتقوا عقوبته في المعصية فتمتنعوا عنها . { ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك } ، أي أعرضتم من بعد ذلك الإقرار ، يعني من بعد ما رفع عنكم الجبل . { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } ، أي منّ الله عليكم { وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب ، { لَكُنتُم مّنَ الخاسرين } بالعقوبة . ويقال : فلولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال الرسل إليكم لكيلا تقيموا على الكفر ، لكنتم من الخاسرين بالعقوبة .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِى السبت } ، أي اصطادوا ، ويقال : استحلوا أخذ الحيتان يوم السبت . والسبت في اللغة هو الراحة ، كما قال في آية أخرى { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] أي راحة . فيوم السبت كان راحة لليهود عن أشغال الدنيا . وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد ، فكأنه يقول : إنكم تعلمون ما أصاب الذين استحلوا أخذ السمك في يوم السبت من العقوبة ، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم ، وذلك أن مدينة يقال لها آيلة على ساحل البحر كان يجتمع فيها السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء ، وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل . وقال بعض أهل القصص : إنما كانت الحيتان تجتمع هناك لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس عليه السلام ففي كل سبت يجتمعون لزيارتها . وقال بعضهم : لم يكن لهذا المعنى ، ولكن كانت محنة أولئك القوم ، فاحتالوا وحبسوا ذلك السمك في يوم السبت وأخذوه يوم الأحد ، فلما لم تصبهم العقوبة لفعلهم ذلك أمنوا ، واستحلوا أخذها فمسخهم الله قردة . وقد بيّن قصتهم في سورة الأعراف في قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ]
ثم قال تعالى : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } ، يعني مبعدين من رحمة الله . وأصله في اللغة من البعد . يقال : خسأ الكلب إذا بعد . ويقال : { خاسئين } أي صاغرين ذليلين .
قوله تعالى : { فجعلناها نكالا } ، يعني جعلنا تلك العقوبة نكالاً { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } ، يعني لما سبق منهم من الذنب { وَمَا خَلْفَهَا } ، أي عبرة لمن بعدهم . ويقال : فجعلناها ، يعني القرية ، نكالاً لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى ليعتبروا بها . { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } ، يعني نهياً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعبرة لهم ، لكي لا يستحلوا ما حرم الله عليهم . قال الفقيه : حدثنا أبو القاسم عمر بن محمد قال : حدثنا أبو بكر الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا كثير بن هشام ، عن المسعودي ، عن علقمة بن مرثد ، عن المستورد بن الأحنف قال : قيل لعبد الله بن مسعود : أرأيت القردة والخنازير ، أمن نسل القرود والخنازير التي قد مسخت؟ قال عبد الله بن مسعود : إن الله تعالى لم يمسخ أمة فجعل لها نسلاً ، ولكنها من نسل قرود وخنازير كانت قبل ذلك .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } ، قال ابن عباس : وذلك أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة : أيما قتيل وجد بين قريتين لا يدرى قاتله ، فليقس إلى أيتهما أقرب ، فعمد رجلان أخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما واسمه عاميل ، فقتلاه لكي يرثاه؛ وكانت ابنة عم لهما شابة جميلة حسناء ، فخشيا أن ينكحها ابن عمها عاميل ، ثم حملاه إلى جانب قرية ، فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم ، فأخذ أهل القرية بالقتيل وجاؤوا به إلى موسى .
وروى ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلاً كان له قرابة فقتله ليرثه ثم ألقاه على باب رجل ، ثم جاء يطلب بدمه ، فهموا أن يقتتلوا ولبس الفريقان السلاح ، فقال رجل : أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فجاؤوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه بذلك ، فدعا الله تعالى في ذلك أن يبيِّن لهم المخرج من ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه ، فأخبرهم بذلك وقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها ، يعني بعض أعضاء تلك البقرة فيحيا ، فيخبركم من قتله { قَالُواْ } : يا موسى ، { أَتَتَّخِذُنَا } ؟ قرأ عاصم في رواية حفص برفع الزاي بغير همز ، وقرأ حمزة بسكون الزاي مع الهمزة ، وقرأ الباقون بالهمز ورفع الزاي . ومعناه أتتخذنا سخرية ، يعني أتسخر بنا يا موسى؟ فإن قيل : ألم يكن هذا القول منهم كفراً ، حيث نسبوه إلى السخرية؟ قلنا : الجواب أن يقال قد ظهر عندهم علامات نبوته وعلموا أن قوله حق ، ولكنهم أرادوا بهذا الكشف والبيان ولم يريدوا به الحقيقة؛ ف { وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ } لهم موسى { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } ، يعني أمتنع بالله . ويقال : معاذ الله أن أكون من المستهزئين .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح : فلو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد الله عليهم بالمنع لما { قَالُواْ } : يا موسى { ادع لَنَا رَبَّكَ } ، أي سل لنا ربك أن { يُبَيّن لَّنَا مَا هِىَ } ، أي يبيِّن لنا كيفية البقرة ، إنها صغيرة أو كبيرة . { قَالَ } لهم موسى : { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } ، يعني لا كبيرة هرمة ، ولا صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } ، وسطاً ونصفاً بين ذلك يعني بين الصغيرة والكبيرة . وقد قيل في المثل : «العوان لا تعلَّم الخُمْرة» ، يعني أن المرأة البالغة ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر .
وقوله تعالى : { فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ } ولا تسألوا . فسألوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم . { قَالُواْ } : يا موسى { ادع لَنَا رَبَّكَ } ، أي سل لنا ربك { يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } ، قال لهم موسى : { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } ، يعني شديد الصفرة .
كما يقال : أصفر فاقع إذا كان شديد الصفرة ، كما يقال : أسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر قاني ، وأخضر ناصع إذا وصف بالشدة . وقال بعضهم : أراد به بقرة صفراء الظلف والقرن ، أي شعرها وظلفها وقرنها وكل شيء منها أصفر . ويقال : أراد به البقرة السوداء ، لأن السواد الشديد يضرب إلى الصفرة ، كما قال تعالى : { كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] ، وكما قال القائل :
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ ، وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
أراد بالصفر السود . ولكن هذا خلاف أقاويل المفسرين ، وكلهم اتفقوا أن المراد به صفراء اللون ، إلا قولاً روي عن الحسن البصري .
قوله عز وجل : { تَسُرُّ الناظرين } ، يعني تعجب من نظر إليها لحسن لونها ، فشددوا على أنفسهم و { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } ، يعني إنها من العوامل أو من غيرها . { إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا } ، أي تشاكل علينا في أسنانها وألوانها { وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ } ، يعني نهتدي للقاتل . ويقال : نهتدي إلى البقرة أي ندركها بمشيئة الله تعالى . وروي عن ابن عباس أنه قال : لولا أنهم استثنوا لم يدركوها . وروي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ ، وَلَوْلا أَنَّهُمْ قَالُوا { وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ } مَا وَجَدُوها »
{ قَالَ إِنَّهُ } ، لهم موسى : إن ربكم { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ * ذَلُولٌ } ، يقول لم يذللها العمل . وقال أهل اللغة : الذلول في الدواب مثل الذليل في الناس ، يقال : رجل ذليل ، ودابة ذليلة بيِّنة الذل . { تُثِيرُ الارض } أي تقلبها للزراعة . ويقال للبقرة : المثيرة { وَلاَ تَسْقِى الحرث } ، يعني لا يسقى عليها الحرث ، أي لا يستسقى عليها الماء لتسقي الزرع ، ومعناه أن هذه البقرة لم تكن تعمل شيئاً من هذه الأعمال . { مُّسَلَّمَةٌ } يقال : مهذبة سليمة من العيوب . ويقال : مسلمة من الألوان . { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } ، قال بعضهم لا عيب فيها وقال بعضهم : لا وضح فيها ولا بياض ولا سواد ولا لون سوى لون الصفرة . وقال أهل اللغة : أصله من وشى الثوب ، وأصله في اللغة لا وشية فيها ولكن حذفت منها الواو للخفة مثل عدة وزنة .
فلما وصف لهم موسى ذلك ، { قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق } ، يعني الآن أتممت الصفة . ويقال : الآن جئت بالصفة التي كنا نطلب . { فَذَبَحُوهَا } ، يعني البقرة { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } ، أي كادوا أن لا يذبحوها . وقد قيل : إنما أرادوا أن لا يذبحوها ، لأن كل واحد منهم خشي أن يظهر القاتل من قبيلته .
وقال بعضهم : وما كادوا يفعلون لغلاء ثمن البقرة ، لأنهم كانوا لا يدركون بقرة بتلك الصفة . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : لم توجد تلك البقرة إلا عند فتى من بني إسرائيل ، كان باراً بوالديه وكان يصلي ثلث الليل ، وينام ثلث الليل ، ويجلس ثلث الليل عند رأس أمه ويقول لها : إن لم تقدري على القيام فسبحي الله وهللي ، وكان ورث عن أبيه بقرة فلم يجد أهل تلك القرية على تلك الصفة إلا هذه البقرة ، فاشتروها بملىء مسكها دنانير . وقال بعضهم : كان رجل يبيع الجوهر ، فجاءه إبليس يوماً بجراب من لؤلؤ فعرض عليه ، وأراد أن يبيع منه بمائة ألف ، وكان ذلك يساوي مائتي ألف . فلما أراد أن يشتري ، فإذا مفتاح الصندوق كان تحت رأس أبيه وهو نائم ، فذهب ليوقظه ويرفع المفتاح ويدفع الثمن ، ثم قال في نفسه : كيف أوقظ أبي لأجل ربح مائة ألف ولم يحتمل قلبه فرجع ، فقال : إن أبي نائم . فقال له إبليس : اذهب فأيقظه فإني أبيع منك بخمسين ألفاً فذهب ليوقظه فلم يحتمل قلبه فرجع؛ فلا زال إبليس يحط من الثمن حتى بلغ عشرة دراهم فلم يوقظ أباه وترك الشراء ذلك . فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملىء مسكها ذهباً .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرأتم فِيهَا } أي تدافعتم ، يعني ألقى بعضكم على بعض . يقال : ادارأ القوم أي تدافعوا وقال القتبي : أصله تدارأتم ، فأدغمت التاء في الدال وأدخل الألف ليسلم السكون للدال ، ويقال : هذا ابتداء القصة ، ومعناه وإذ قتلتم نفساً فأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى ، فقال موسى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } إلى آخره .
{ والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } ، أي مظهر ما كنتم تكتمون من قتل عاميل . { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } أي اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة . قال بعضهم : بفخذها الأيمن . وقال بعضهم : بلسانها . وقال بعضهم : بعجب ذنبها وهو عظم في أصل ذنبها ، ويقال عليه تركيب الخلق ، فأول شيء يخلق ذلك الموضع ، ثم يركب عليه سائر البدن ، وهو آخر الأعضاء فساداً بعد الموت . فلما ضربوا الميت جلس وأوداجه تشخب دماً ، وقال : قتلني ابنا عمي . فأخذا وقتلا ، ولم يعط لهما من ميراثه شيئاً . وقال عبيدة السلماني : لم يورث قاتل بعد صاحب البقرة .
ثم قال تعالى : { كذلك يُحْىِ الله الموتى } ، كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة ، لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة؛ وكان في ذلك دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم ، لأن الله لما أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأخبرهم فصدقوه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه ، فكان ذلك من أدل الدليل عليهم بالبعث . قوله تعالى : { وَيُرِيكُمْ ءاياته } ، أي عجائبه مثل إحياء الموتى وغيره . { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، أي تفهمون أن الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم حق .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك } ، قال الزجاج : تأويل قست في اللغة أي غلظت ويبست ، فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع . وقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } ، قد قيل : من بعد إحياء الميت ، ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت ، نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك . وقال بعض الحكماء : معنى قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي يبست . ويبس القلب أن ييبس عن ماءين؛ أحدهما : ماء خشية الله والثاني : ماء شفقة الخلق .
ثم قال تعالى : { فَهِىَ كالحجارة } ، وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى فهو كالحجارة . { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ، قال بعضهم : بل أشد قسوة؛ مثل قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] بمعنى بل يزيدون ، وكقوله : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والارض وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ النحل : 77 ] ، أي بل هو أدنى . وقال بعضهم : معناه وأشد قسوة الألف زائدة . وقال الزجاج : أو للتخيير يعني إن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصابعهم فى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت والله مُحِيطٌ بالكافرين } [ البقرة : 19 ] ثم قال تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار } فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم ، حين لم تلن بذكر الله ولا بالموعظة فقال : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار } ، يعني الحجر الذي منه العيون في الجبل . ويقال أراد به حجر موسى عليه السلام الذي كان يخرج منه العيون . { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } ، أي من الحجارة ما يتصدع { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } . ويقال : كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية الله . ويقال : أراد به الجبل الذي صار دكاً حين كلم الله موسى عليه السلام . ويقال : هو جميع الجبال ، وما يزول الحجر من مكانه إلا من خشية الله تعالى . وقال بعضهم : هو على وجه المثال ، يعني لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى ، وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير .
قوله تعالى : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، قرأ ابن كثير وابن عامر { يَعْمَلُونَ } بالياء والباقون بالتاء . واختلفوا في مواضع أخرى . قرأ حمزة والكسائي في كل موضع { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالياء . وفي كل موضع { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ هود : 123 ] بالتاء . واختلفت الروايات عن غيرهما .
وهذا كلام التهديد ، يعني أن الله تعالى يجازيكم بما تعملون فيحذركم بذلك . ثم ذكر التعزية للنبي صلى الله عليه وسلم لكيلا يحزن على تكذيبهم إياه ، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا فقال تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } ، قال ابن عباس : يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال بعضهم : أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أفتطمعون أن يصدقوكم { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله } ؟ فإن أراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فمعناه أفتطمع أن يصدقوك؟ وقد يذكر لفظ الجماعة ويراد به الواحد ، كما قال في آية أخرى { فَمَآ ءامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } [ يونس : 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِى القوة إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] ، وقال تعالى : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ هود : 14 ] ، أراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كذلك هاهنا . ثم قال : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله } ، قال في رواية الكلبي : يعني السبعين الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء فسمعوا هناك كلام الله تعالى ، فلما رجعوا قال سفهاؤهم : إن الله أمر بكذا بخلاف ما أمرهم ، فذلك قوله تعالى : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، أي غيروه من بعد ما حفظوه وفهموه . وقال بعضهم : إنما أراد به الذين يغيرون التوراة . وقال بعضهم : يغيرون تأويله وهم يعلمون .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
قوله عز وجل : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ } ، يعني المنافقين منهم { قَالُواْ } للمؤمنين { مِنَ } ، أي أقررنا بالذي أقررتم به . وهم منافقو أهل الكتاب . { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } ، يعني إذا رجعوا إلى رؤسائهم ، { قَالُواْ } لبعضهم : { أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } ، أي أتخبرونهم بأن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتابكم فيكون ذلك حجة عليكم؟ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن ذلك حجة لهم عليكم؟ { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ } ، أي ليخاصموكم { عِندَ رَبّكُمْ } باعترافكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي لا تتبعوه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ أي أفليس لكم ذهن الإنسانية؟ لا ينبغي لكم هذا فيما بينكم . { أَوْ لاَ *** يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } . قال بعضهم : ما يسرون فيما بينهم وما يعلنون مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } ، أي من أهل الكتاب وهم السفلة أميون لا يقرؤون الكتاب ، لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته . وقال الزجاج : الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمة ، يعني هو على الخلقة التي خلق عليها لأن الإنسان في الأصل لا يعلم شيئاً ما لم يتعلَّم . { إِلاَّ أَمَانِىَّ } ، قال بعضهم : إِلا التلاوة ، وهذا كما قال في آية أخرى { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] ، أي في تلاوته . يقول : إن السفلة منهم كانوا لا يعرفون من التوراة شيئاً سوى تلاوته . وقال بعضهم : إلا أماني : إلا أباطيل . وروي عن عثمان بن عفان أنه قال : منذ أسلمت ما تغنيت ولا تمنيت ، أي ما تكلمت بالباطل . وروي في الخبر أن الإنسان إذا ركب دابته ولم يذكر الله تعالى ، صكّه الشيطان في قفاه ويقول له : تغنَّ فإن لم يحسن الغناء ، يقول له : تمنَّ أي تكلم بالباطل . { وَإِنْ هُمْ } ، أي وما هم { إِلاَّ يَظُنُّونَ } ، لأنه قد ظهر لهم الكذب من رؤسائهم فكانوا يشكون في أحاديثهم وكانوا يظنون من غير يقين . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إياكم والظن فإنه من أكذب الحديث »
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ } الويل : الشدة من العذاب . ويقال : الويل كلمة تستعمل عند الشدة ويقال : يا ويلاه . ويقال : الويل واد في جهنم . قال : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر أنه قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا وكيع بن سفيان ، عن زياد ، عن أبي عياض قال : الويل واد في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم . وإنما صار رفعاً بالابتداء . وقال الزجاج : ولو كان هذا في غير القرآن لجاز ( فويلاً ) على معنى : جعل الله ويلاً للذين يكتبون الكتاب ، إلا أنه لم يقرأ . وذلك أن رؤساء اليهود محوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم كتبوا غير نعته ، { ثُمَّ يَقُولُونَ } للسفلة { هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } ، أي عرضاً يسيراً من مال الدنيا . وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن يكتب المصحف بالأجر ، وتأول هذه الآية { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ } . إلى قوله : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } وغيره من العلماء أباحه . ثم قال : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } ، أي مما يصيبهم من العذاب { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } ، أي مما يصيبون؛ فجعل الويل لهم ثلاث مرات .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ، روي عن الضحاك أنه قال : لم يكن أحد من الكفار أجرأ على الله تعالى من اليهود ، حين قالوا : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] وقالوا : إن الله فقير وقالوا أيضاً { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ، أي مقدار الأيام التي عبد فيها العجل آباؤنا . وهي أربعون يوماً . وقال مجاهد : { إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ، أي عدد أيام الدنيا وهي سبعة أيام . وهكذا روي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : وقال بعضهم كان مذهبهم مذهب جهم في أنهم لا يرون الخلود في النار .
قال الله تعالى : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا } ، قال الزجاج : معناه أعهد إليكم ألا يعذبكم إلا هذا المقدار ، إن كان لكم عهد؟ { فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ } ، أي وعده . ويقال : أعقدتم عند الله عقداً؟ وهو عقد التوحيد فلن يخلف الله عهده أي وعده . وقد قيل : هل أنزل عليكم بذلك آية؟ { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون . وروي في الخبر أنهم إذا مضت عليهم في النار تلك المدة ، قالت لهم الخزنة : يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد ، فأيقنوا بالخلود .
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
قال الله تعالى { بلى } ، أي يخلد فيها { مَن كَسَبَ سَيّئَةً } ، يعني الشرك { وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ } ، أي مات على الشرك . وقال بعضهم : السيئة الشرك ، والخطيئة الكبائر . وهو قول المعتزلة : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار . وقال الربيع بن خثيم : { وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ } الذين يموتون على الشرك . قرأ نافع { خطاياه } وهو جمع خطيئة . والباقون { خَطِيئَتُهُ } وهي خطيئة واحدة والمراد به الشرك . { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } أي دائمون لا يخرجون منها أبداً .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، معناه والذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم ، يعني أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي ، { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } ، أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ } ، أي وقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة ، يعني بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : الميثاق الأول حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام . قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } ، قرأ حمزة والكسائي وابن كثير { لا تَعْبُدُونَ } بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة؛ فمن قرأ بالياء ، معناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله؛ ومن قرأ بالتاء فمعناه : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل وقلنا لهم : لا تعبدوا إلا الله ، يعني أخذنا عليهم الميثاق بأن لا يعبدوا إلا الله ، يعني لا توحدوا إلا الله . { وبالوالدين إحسانا } ، نصب إحساناً على معنى أحسنوا إحساناً فيكون إحساناً بدلاً من اللفظ ، أي أحسنوا إلى الوالدين براً بهما وعطفاً عليهما . وفي هذه الآية بيان حرمة الوالدين ، لأنه قرن حق الوالدين بعبادة نفسه . ويقال : ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل إحداها بغير قرينتها . إحداها : قوله عز وجل : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } [ المائدة : 92 ] ، والثانية : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِى ولوالديك إِلَىَّ المصير } [ لقمان : 14 ] ، والثالثة : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة واركعوا مَعَ الراكعين } [ البقرة : 43 وغيرها ] .
وقوله تعالى : { وَذِى القربى } ، يعني أحسنوا إلى ذي القربى { واليتامى } ، { و } إلى { الْمَسَاكِينِ } . والإحسان إلى اليتامى والمساكين أن يحسن إليهم بالصدقة وحسن القول . { والمساكين وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } ، قرأ حمزة والكسائي بنصب الحاء والسين ، وقرأ الباقون برفع الحاء وسكون السين . فمن قرأ بالنصب فمعناه : قولوا للناس حَسَناً يعني قولوا لهم قولاً صدقاً في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته كما بيّن في كتابكم . ونظيرها في سورة طه { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } [ طه : 86 ] ، أي وعداً صدقاً . ومن قرأ بالرفع ، فمعناه قولوا لجميع الناس حَسَناً يعني : خالقوا الناس بالخُلُق الحسن ، فكأنه يأمر بحسن المعاشرة وحسن الخلق مع الناس . { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، يعني أقروا بها وأدوها في مواقيتها . { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، المفروضة { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } ، يعني أعرضتم عن الإيمان والميثاق ، { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه . { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } ، أي تاركون لما أخذ عليكم من المواثيق .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
ثم قال عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } ، أي إقراركم { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ } ، أي بأن لا تسفكوا دماءكم ، يعني لا يهرق بعضكم دماء بعض ، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ } ، أي لا يخرج بعضكم بعضاً { مّن دياركم } . فجملة ما أخذ عليهم من الميثاق أَلا يعبدوا إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ويقولوا للناس حسناً ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ولا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وأن يفادوا أسراهم . فذكر المفاداة بعد هذا حيث قال تعالى : { وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم } على وجه التقديم والتأخير . { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } ، يعني بني قريظة والنضير ، يعني أقررتم بهذا كله ، وأنتم تشهدون أن هذا في التوارة ، فنقضوا العهد فعيّرهم الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } ، يعني يا هؤلاء ويقال معناه ، ثم أنتم هؤلاء يا معشر اليهود تقتلون أنفسكم أي يقتل بعضكم بعضاً ، { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم } ، أي بعضكم بعضاً ، لأنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وكان بنو النضير وقريظة : إحدى القبيلتين كانت معينة للأوس ، والأخرى كانت معينة للخزرج ، فإذا غلبت إحداهما على الأخرى كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم . وفي الآية دليل أن الإخراج من الدار ينزل منزلة القتل ، لأن الله تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل حيث قال تعالى : { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم } .
{ تظاهرون علَيْهِم } ، قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتظاهرون ، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وأقيم التشديد مقامه ، معناه : تتعاونون عليهم { بالإثم والعدوان } ، يعني بالمعصية والظلم . قال الزجاج : العدوان هو الإفراط في الظلم . { وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم } ، قرأ عاصم والكسائي ونافع { أسارى تفادوهم } كلاهما بالألف ، وقرأ حمزة { أسارى تفادوهم } بغير ألف فيهما ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أسارى تفادوهم } الأول بالألف والثاني بغير ألف . وهذا من الميثاق الذي أخذ عليهم بأن يفادوا الأسارى . { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } هذا انصرف إلى ما سبق ذكره من الإخراج ، فكأنه يقول : وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم وهو محرم عليكم إخراجهم ، يعني ذلك الإخراج كان محرماً ، ثم بيَّن الإخراج مرة أخرى لتراخي الكلام ، فقال وهو محرم عليكم إخراجهم .
ثم قال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ، لأنهم كانوا إذا أسروا من غيرهم قتلوا الأسرى ولا يفادوهم ، وإن أسر منهم أحد يأخذوهم بالفداء ، فهذا معنى قوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } . { فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا } ، أي عقوبة من يفعل ذلك منكم خزي في الحياة الدنيا ، وهو إخراج بني النضير إلى الشام وقتل بني قريظة ، وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم .
ثم أخبر بأن الذي أصابهم في الدنيا من الخزي والعقوبة لم يكن كفارة لذنوبهم ولكنهم : { وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ } ، أي في الآخرة { إلى أَشَدّ العذاب } . ويقال : الخزي في الدنيا الجزية .
{ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، أي لا يخفى على الله تعالى من أعمالهم شيء ، فيجازون بأعمالهم . { أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة } ، يعني اختاروا الدنيا على الآخرة { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ، أي ليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى في الآخرة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } ، أي أعطينا موسى التوراة جملة واحدة ويقال : الألواح { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } ، أي أتبعنا وأردفنا ، معناه : أرسلنا رسولاً على أثر رسول . يقال : قفوت الرجل إذا ذهبت في أثره . { وَءاتَيْنَا } أي أعطينا { عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } ، أي الآيات والعلامات مثل : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، { وأيدناه بِرُوحِ القدس } . قرأ ابن كثير { القدس } بسكون الدال ، وقرأ الباقون { القدس } برفع الدال؛ ومعناهما واحد ، أي إغاثة بجبريل حين أرادوا قتله فرفعه إلى السماء . وقال بعضهم : أيدناه أي قويناه وأعناه باسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى .
{ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } يقول : بما لا يوافق هواكم { استكبرتم } ، تعظمتم عن الإيمان . قال الزجاج : معناه أنفتم أن تكونوا له أتباعاً . لأنهم كانت لهم رياسة وكانوا متبوعين ، فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة . فقال تعالى : { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } ، مثل عيسى ابن مريم ومحمد صلى الله عليهم وعلى جميع الأنبياء وسلم { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } ، مثل يحيى وزكريا عليهما السلام .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } ، قرأ ابن عباس { غُلْفٌ } بضم اللام وهي قراءة شاذة . والباقون بسكون اللام ، أي ذو ( غلْف ) يعني ذو غلاف ، والواحد أغلف مثل : أحمر وحمر . ومعناه : أنهم يقولون قلوبنا في غطاء من قولك ولا نفقه حديثك . وهذا كما قال في آية أخرى { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عاملون } [ فصلت : 5 ] . وأما من قرأ { غُلْفٌ } فهو جماعة الغلاف على ميزان حمار وحمر . يعنون أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك ، فلو كنت نبياً لفهمنا قولك . قال الله تعالى رداً لقولهم : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي خذلهم الله وطردهم مجازاة لكفرهم . { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } ، صار نصباً لأنه قدم المفعول . وقال بعضهم : معناه لا يؤمنون إلا القليل منهم ، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال بعضهم : إيمانهم بالله قليلاً ، لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض . وقال بعضهم : معناه أنهم لا يؤمنون ، كما قال : فلان قليل الخير يعني لا خير فيه .
ثم قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله } أي حين جاءهم القرآن { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } ، أي موافقاً للتوراة في التوحيد ، وفي بعض الشرائع . ويقال : مصدق لما معهم ، يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم ، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة . { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } ، أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستنصرون على المشركين ، لأن بني قريظة والنضير قد وجدوا نعته في كتبهم فخرجوا من الشام إلى المدينة ، ونزلوا بقربها ينتظرون خروجه . وكانوا إذا قاتلوا من يلونهم من المشركين مشركي العرب يستفتحون عليهم ، أي يستنصرون ويقولون : اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا وكانوا يرجون أن يكون منهم فينصروا على عدوهم ، فذلك قوله تعالى : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } ، أي باسم النبي صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } ، أي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوه { كَفَرُواْ بِهِ } وغيّروا نعته مخافة أن تزول عنهم منفعة الدنيا .
كما قال تعالى : { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } ، أي سخط الله وعذابه على الجاحدين محمداً صلى الله عليه وسلم { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } . قال الكلبي : بئسما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : بئسما صنعوا بأنفسهم حيث كفروا بما أنزل الله عليهم ، بعد ما كانوا خرجوا من الشام على أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم . ويقال : بئس ما صنعوا بأنفسهم حسداً منهم ، فذلك قوله تعالى : { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا } ، أي حسداً منهم .
ومعنى قوله : { أَن يُنَزّلُ الله } ، أي كفروا مما ينزل الله . { مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء } ، أي لم يؤمنوا لأجل أن الله تعالى ينزل من فضله النبوة والكتاب على من يشاء { مِنْ عِبَادِهِ } ، من كان أهلاً لذلك وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { أَن يُنَزّلُ الله } بالتخفيف ، وقرأ حمزة والكسائي وعصام وابن عامر بالتشديد { أَن يُنَزّلٍ } ؛ ونزل ينزل بمعنى واحد { فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } أي استوجبوا اللعنة على أثر اللعنة . قال مقاتل : الغضب الأول حين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم ، ثم استوجبوا الغضب الآخر حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : الغضب الأول حين عبدوا العجل ، والغضب الثاني حين استحلوا السمك في يوم السبت .
قوله تعالى : { وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي يهانون فيه .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } ، أيّ صدِّقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يهود أهل المدينة ومن حولها . { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } في التوراة وبموسى عليه السلام { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } ، يعني بما سواه وهو القرآن . { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ } ، أي القرآن هو الصدق ، وهو منزل من الله تعالى موافق لما معهم ، يعني أنهم إذا جحدوا بالقرآن صار جحوداً لما معهم ، لأنهم جحدوا بما هو مصدق لما معهم فقالوا له : إنك لم تأتنا بمثل الذي أتانا به أنبياؤنا ، ولم يكن لنا نبي إلا كان يأتينا بقربان تأكله النار .
قال الله تعالى : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ } وقد جاؤوا بالقربان والبينات أي بالعلامات { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، أي إن كنتم مصدقين بالأنبياء . فهذا اللفظ للمستأنف وهو قوله { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } ، ولكن المراد منه الماضي وإنما خاطبهم وأراد به آباءهم . وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها ، لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء ، فسماهم الله تعالى قاتلين . وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن ، ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله ، لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم . قال الله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله } ، يعني أي كتاب يجوِّز قتل نبي من الأنبياء عليهم السلام وأي دين وإيمان جوَّز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات } ، أي بالآيات والعلامات . ويقال : بالحلال والحرام والحدود والفرائض . { ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ } ، أي عبدتم العجل { مِن بَعْدِهِ } ، يعني بعد انطلاق موسى إلى الجبل . { وَأَنتُمْ ظالمون } ، أي كافرون بعبادتكم العجل .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } ، أي بجد ومواظبة في طاعة الله تعالى { واسمعوا } ، أي قيل لهم اسمعوا ، { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } . قال في رواية الكلبي : قالوا : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا . ويقال : إنهم يقولون في الظاهر : سمعنا ، ويضمرون في أنفسهم : وعصينا أمرك . { وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ } ، أي جعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم . ويقال : حب عبادة العجل فحذف الحب ، وأقيم العجل مقامه؛ ومثل هذا يجري في كلام العرب . كما قال في آية أخرى : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] ، أي أهل القرية ، ثم قال تعالى : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم } ، أي بئس الإيمان الذي يأمركم بالكفر . وقال مقاتل : معناه إن كان حب عبادة العجل في قلوبكم يعدل حب عبادة خالقكم ، فبئس ما يأمركم به إيمانكم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كما تزعمون .
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ } أي الجنة . وذلك أن اليهود كانوا يقولون : إن الجنة لنا خاصة من دون سائر الناس . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كان الأمر كما يقولون إن الجنة لكم خالصة خاصة . { فَتَمَنَّوُاْ الموت } ، أي سلوا الله الموت { إِن كُنتُمْ صادقين } أن الجنة لكم . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " قُولُوا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ : اللَّهُمَّ أَمِتْنَا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاّ غَصَّ بِرِيقِهِ " ، يعني يموت مكانه . فأبوا أن يقولوا ذلك ، فنزل قوله تعالى : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يعني بما عملوا من المعاصي . قال الزجاج : في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالته صلى الله عليه وسلم ، لأنه قال لهم : فتمنوا الموت ، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فلم يتمنه واحد منهم . وفي هذه الآية دليل أن «لن» لا تدل على التأبيد ، لأنهم يتمنون الموت في الآخرة خلافاً لقول المعتزلة في قولهم : لن تراني ويقال : إن قوله ( لن ) إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة ، ولم يقع على الآخرة لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم ، ولو أنهم سألوا الموت في الدنيا ولم يموتوا ، وكان في ذلك تكذيباً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان في ذلك أيضاً ذهاب معجزته . فلما لم يتمنوا الموت ، ثبت بذلك عندهم أنه رسول الله وظهر عندهم معجزته ، وظهر أن الأمر كما قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } ، فهو عليم بهم وبغيرهم من الظالمين؛ وإنما الفائدة هاهنا أنه عليم بمجازاتهم .
ثم قال عز وجل : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة } ، يعني أن اليهود أحرص الناس على البقاء . { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } ، يعني أحرص من الذين أشركوا . قال الكلبي : الذين أشركوا يعني المجوس . وقال مقاتل : أحرص الناس على حياة ، وأحرص من الذين أشركوا يعني مشركي العرب . فإن قيل : كيف يصح تفسير الكلبي والمجوس لا يسمون مشركين؟ قيل له : المجوس مشركون في الحقيقة ، لأنهم قالوا بإلهين اثنين : النور والظلمة .
قوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } ، يعني المجوس يقولون لملوكهم في تحيتهم : عش عشرة آلاف سنة وكل ألف نيروز . وقال مقاتل : يود أحدهم يعني اليهود { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } ، ثم قال : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ } ، يعني طول حياته لا يبعده ولا يمنعه من العذاب وإن عاش ألف كما تمنى . { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي عالم بمجازاتهم بأعمالهم .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } { وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لليهود : ما لكم لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : لأن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي ، فلو نزل عليه ميكائيل بالوحي لآمنا به ، لأن ميكائيل ملك الرحمة وجبريل ملك العذاب . وهو عدونا فأطلع محمداً على سرنا ، فنزلت هذه الآية . ويقال : إنهم يقولون : إن النبوة كانت فينا ، فجبريل صرف النبوة عنا إلى غيرنا لعداوته معنا فنزلت هذه الآية { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } . قال بعضهم : في الآية مضمر ، ومعناه : قل من كان عدواً لجبريل ويبغضه جبريل هو الذي { نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } ، ينزل بالقرآن فيقرأه عليك فتحفظه في قلبك { بِإِذْنِ الله مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة . ويقال : هذا على وجه الترغيم ، فكأنه يقول : قل من كان عدواً لجبريل ، فإن جبريل هو الذي ينزل عليك رغماً لهم بهذا القرآن عليك ، ليثبت به فؤادك . { وهدى } وهذا القرآن هدى من الضلالة { وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } . أي لمن آمن به من المؤمنين { مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ } ، معناه من كان عدواً لجبريل فإنه عدو الله { وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين } ، يعني اليهود .
ويقال : إن عبد الله بن صوريا هو الذي قال لعمر : إن جبريل عدونا لأنه ينزل بالشدة والخوف ، وميكائيل ينزل بالرخاء ، فنزلت هذه الآية { مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ } . قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر جَبْرَئِيلَ بفتح الجيم والراء والهمزة ، وميكائيل . بالياء مع الهمزة . وقرأ نافع { جِبرِيل } بكسر الجيم والراء بغير همزة { ومِكَالَ } بالهمزة بغير ياء . وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بغير همزة بكسر الجيم والراء وميكال بغير همز وياء . وقرأ ابن كثير جبريل بنصب الجيم بغير همزة وميكايل بهمز مع الياء . وقرأ ابن عامر جبريل بكسر الجيم مثل قراءة نافع وميكائيل بالياء مع المد والهمز مثل حمزة وإنما لا ينصرف لأنه اسم أعجمي ، فوقع ذلك في لسان العرب واختلفوا فيه لاختلاف ألفاظهم ولغاتهم . ويقال : إن جبريل وميكائيل معناه عبد الله وعبد الرحمن أي بلغتهم سوى العربية .
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
ثم قال عز وجل : { للكافرين وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات } أي واضحات . ويقال : مبينات للحلال والحرام . { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون } ، يعني وما يجحد بالآيات إلاَّ الكَافِرُونَ والْفَاسِقُونَ واليهود ومشركو العرب .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا } ، وهو العهد الذي بُيِّن لهم في التوراة ويوم الميثاق { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم } ، أي تركه ولم يعمل به فريق منهم ، أي طائفة منهم . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقد ذكرناه . { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله } ، أي محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } ، أي يدعوهم إلى تصديق ما معهم ، { نَبَذَ فَرِيقٌ } ، أي طرح فريق { مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورِهِمْ } ولم يؤمنوا به ، { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } في كتابهم بأن محمداً رسول الله .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{ اتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين } ، أي ما كتبت الشياطين ويقال : ما ألقت الشياطين ويقال : ما افتعلته الشياطين { على مُلْكِ سليمان } ، أي على عهد ملك سليمان . ويقال : على بمعنى في ، أي في ملك سليمان . ويقال : في وقت ذهاب ملك سليمان . ويقال : هذا منسوق على الأول ، فكأنّه قال : نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين ، أي تركوا سنة أنبياء الله واتبعوا السحر . ويقال : تركوا شيئين واتبعوا شيئين : تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك ، واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ترويه الشياطين { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هاروت وماروت } .
واختلفوا في سبب ذلك ، فقال بعضهم إن سليمان عليه السلام أمر بأن لا يتزوج المرأة من غير بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها : ضبنة بنت صابورا ، فعاقبه الله تعالى بأن أجلس مكانه شيطاناً؛ وكان الناس يظنون أنه سليمان وأشكل عليهم أمره ، فجاؤوا إلى آصف بن برخيا ، وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره وملكه فقالوا له : إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان . فقام آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن : إن كان هذا سليمان فقد هلكتم والله ما يعتزل منا حائضاً ، وما يغتسل من جنابة . هكذا ذكر في رواية الكلبي .
وقال بعضهم : هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافيات معصومات عن الفواحش ، فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن . وقال بعضهم : كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة ، لأن الشيطان روحاني وليس له جسم ، فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال . فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله ، كتب سحراً كثيراً وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب . وكان سليمان عليه السلام خرج إلى ساحل البحر وأجَّر نفسه للملاحين كل يوم بسمكتين ، فلما أعطوه أجره ، باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى ، فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه؛ فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال : إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود عليهما السلام فانظروا تحت كرسيه . فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا كتباً كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر ، فقال العلماء منهم : لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان ، وقال السفهاء منهم : بل هذا من علم سليمان واتبعوه ، فنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء عذراً لسليمان عليه السلام .
ثم قال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان وَمَا كَفَرَ سليمان } ، أي ما كان ساحراً .
وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفراً . وروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى جزء بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس ، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . ثم قال تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } ، أي هم الذين كتبوا السحر . قرأ حمزة والكسائي { ولكن الشياطين } بكسر النون من غير تشديد ورفع الشياطينُ ، وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب وبفتح النون في { الشياطين } . وهذا هو الأصل في اللغة ، أن كلمتي إن ولكن إذا كانا مشددين ينصب ما بعدهما ، وإن لم يكونا مشددين يرفع ما بعدهما .
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر والنيرنجات ، فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض ، فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس : إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا ، فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتباً كثيرة . وقال بعضهم : معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم ، رأى نباتاً بين يديه فيقول له : لأي دواء أنت؟ فيقول : إني دواء لكذا وكذا ، وإن اسمي كذا كذا . فكان سليمان يكتب ذلك ويدفنه ، فنبت يوماً من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان : ما اسمك؟ فقال : خرنوب . فقال له : لأي دواء أنت؟ فقال : إني لخراب المسجد . فعلم سليمان أنه قد جاء أجله ، لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته ، وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة ، فكتبت الشياطين سحراً ووضعوه في ذلك الموضع ، فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك قوله : { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر } .
ثم قال : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } ، أي واتبعوا الذي أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هاروت وماروت } . وقال القاضي الخليل بن أحمد قال : حدثنا الماسرجي فقال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حكام بن سلم الرازي قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } . قال : إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك ، واتخذوا هذه الأصنام ، وعبدوا غير الله تعالى ، فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون : ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم ، ورزقتهم فأحسنت رزقهم ، فعصوك وعبدوا غيرك . فقال لهم الرب عز وجل : إنهم في عذر ، وقيل : في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ولا يقبلون ويدعون عليهم . فقال لهم الرب : اختاروا منكم اثنين . فأهبطهما إلى الأرض فآمرهما وأنهاهما ، فاختاروا هاروت وماروت؛ فأهبطهما الله تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر ، فمكثا زماناً في الأرض يحكمان بالحق . وكان في ذلك الزمان امرأة فضِّلت بالحسن على سائر النساء ، فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت : لا حتى تصليا لهذا الصنم ، أو تقتلا هذه النفس ، أو تشربا هذه الخمر .
فقالا : أهون الثلاثة شرب الخمر . فلما شربا الخمر سجدا للصنم وفعلا بالمرأة وقتلا النفس ، فكشف الغطاء فيما بينهما وبين الملائكة ، فنظروا إليهما وما يفعلان ، فجعلت الملائكة يعذرون بني آدم أهل الأرض ويستغفرون لمن فيها فقيل لهاروت وماروت : اختارا إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة . فقالا : عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له ثم اختاروا عذاب الدنيا . فهما يعذبان إلى يوم القيامة .
وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم الله الأعظم ، فصعدت به إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكباً . ويقال : هو الكوكب الذي يقال له الزهرة . وروي عن ابن عمر أنه كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول : هي التي فتنت هاروت وماروت . وروي عن علي رضي الله عنه هذا . وقال بعضهم : هذا لا يصح ، لأن هذا الكوكب قد كان خلقه في الأصل حين خلق النجوم ، وجعل مقادير الأشياء على سبع من الكواكب ، وجعل لكل كوكب سلطاناً ، وجعل سلطان الزهرة الرطوبة . وقال بعضهم : إن كوكب الزهرة قد كان ، ولكن الله تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك . وقال بعضهم : قد صارت إلى النار ، كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } ، يعني اليهود اتبعوا ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت .
{ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى } ، قال بعضهم : هذا الحرف أعني { مَا } للنفي ، فكأنه يقول : ولم ينزل على الملكين السحر . وقال بعضهم : إن إبليس لعنه الله قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما ، وهما معلقان بالسلة فتذهب اليهود تتعلم السحر من تلك الكتب والملكين . { يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } ، أي فلا تتعلم السحر ، لأنه لا يجوز للملكين أن يعلِّما الكفر . وقال بعضهم : ويبينان أن عمل السحر كفر ، وينهيان عن التعلم ويبيِّنان كيفية السحر وهو بمنزلة رجل قال لآخر : علِّمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول : إن الزنى كذا وكذا ، وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل . كذلك هاهنا الملكان يقولان : السحر كذا وكذا ، وهو كفر فلا تكفر . وقرأ بعضم { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } بكسر اللام وهي قراءة شاذة ، يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما الله تعالى . وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } أي اختبار وابتلاء . وأصل الفتنة الاختبار .
قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } أي من الملكين : { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } ، أي فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته ، يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع .
ثم قال تعالى : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، أي بإرادة الله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } ، أي ما يضر في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة ، يعني السحر . { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } ، يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر ما له في الآخرة من خلاق يعني نصيب . والخلاق في اللغة : هو النصيب الوافر . { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، أي باعوا به ، يعني بئسما باعوا به أنفهسم . ويقال : بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب الله تعالى وسنن أنبيائه لو كانوا يعلمون ، ولكنهم لا يعلمون . فإن قيل : ذكر في الآية الأولى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } وفي هذه الآية يقول : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فمرة يقول : يعلمون ، ومرة يقول : لا يعلمون . فالجواب أن يقال : إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم في علمهم ، وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم ، لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به ، فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يتعلم ، فكذلك ها هنا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، لو كانوا يعرفون للعلم حقه .
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتقوا } ، يعني اليهود لو صدقوا بثواب الله واتقوا السحر ، { لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } يعني كان ثواب الله تعالى خيراً لهم من السحر والمثوبة والثواب بمعنى واحد وهو الجزاء على العمل وكذلك الأجر { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } ، فهذا نداء المدح ، يقول : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } . صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد ، { لاَ تَقُولُواْ راعنا } . وذلك أن المسلمين كانوا يأتون رسول الله عليه السلام ويقولون : يا رسول الله راعنا ، وهو بلغة العرب : أرعني سمعك . وأصله في اللغة : راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله . وكان هذا اللفظ بلغة اليهود سباً بالرعونة ، فلما سمعت اليهود ذلك من المسلمين ، أعجبهم ذلك وقالوا فيما بينهم : كنا نسب محمد سراً فالآن نسبه علانية ، فكانوا يأتونه ويقولون له : راعنا يا محمد ، ويريدون به السب .
وقال بعضهم : كان في لغتهم معناه اسمع لا سمعت ، فنزلت هذه الآية { يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعنا } . نهى المسلمين أن لا يقولوا بهذا اللفظ ، وأمرهم أن يقولوا بلفظ أحسن منه . قال الله تعالى : { وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا } ما تؤمرون به . ثم ذكر الوعيد للكفار فقال تعالى : { وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، يعني اليهود . وقرأ الحسن { راعنا } بالتنوين . وقال القتبي : من قرأ { راعنا } بالتنوين جعله اسماً منه ، مثاله : أن تقول : لا تقولوا حمقاً .
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } ، يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران . { وَلاَ المشركين } ، يعني مشركي العرب { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ } ، يعني أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفاراً ، فيحبون أن يكون الناس كلهم كفاراً مثلهم . وهذا كما قال في آية أخرى { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [ النساء : 89 ] . فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } ، أي يختار للنبوة من يشاء ، من كان أهلاً لذلك ويكرم بدينه الإسلام من يشاء ، { والله ذُو الفضل العظيم } ، أي ذو المن العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام . وقال مقاتل : كان قوم من الأنصار يدعون حلفاءهم ومواليهم من اليهود إلى الإسلام . فقالوا للمسلمين : إن الذين تدعوننا إليه هو خير مما نحن فيه وعليه ، وددنا لو أنكم على هذا ، فنزل قوله { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } أي بدينه الإسلام من يشاء . ونظيرهما في سورة هل أتى { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ الشورى : 8 ] ، أي في دين الإسلام .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
ثم قال تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، قرأ ابن عامر { مَا نَنسَخْ } برفع النون وكسر السين ، وقرأ الباقون { مَا نَنسَخْ } بالنصب ومعناهما واحد . وقرأ أبو عمرو وابن كثير { أَوْ } بنصب النون والسين والهمزة ، وقرأ الباقون { ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } برفع النون وكسر السين بغير همز . فمن قرأ { نَنْسَأهَا } أي نؤخرها ، ومنه النسيئة في البيع وهو التأخير . ومن قرأ { أَوْ نُنسِهَا } أي نتركها مثل قوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } [ التوبة : 67 ] أي تركهم في النار ، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ما ننسخ من آية فلا نعمل بها { أَوْ نُنسِهَا } ندعها غير منسوخة والنسخ رفع الشيء وإقامة غيره مقامه ، وفي الشرع رفع كل حكم قبل فعله أو بعده إذا كان مؤقتاً . ثم قال تعالى { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } ، يعني أهون وألين منها على الناس { أَوْ مِثْلِهَا } في المنفعة .
وقال الزجاج : النسخ في اللغة ، هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه ، والعرب تقول : نسخت الشمس الظل إذا أزالته . { أَوْ نُنسِهَا } أي نتركها ، معناه أي نأمركم بتركها . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل ، فأحدها : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } أي نبدلها ونوضحها ، وما روي عن مجاهد أنه قال : نثبت خطها ، ونبدل حكمها . فهذا هو المعروف عند الناس . الثاني : أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه ، من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم صلاة الغداة ، فترك آية ، فلما فرغ من صلاته قال : { هَلْ فِيكُمْ أُبَيٌّ } ؟ قالوا : نعم . ( قال : هَلْ تَرَكْتُ مِنْ آيَة؟ قالوا : نعم ] تركت آية كذا ، أنسخت أم نسيت قال : « لا ، ولكن نَسِيتُ » وجاءت الآثار في نحو هذا ، لأن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع . والنسخ الثالث : تحويله من كتاب إلى كتاب ، وهو ما نسخ من أم الكتاب ، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { أَوْ } أي نتركها في اللوح المحفوظ .
وقال بعضهم : لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ الحجر : 9 ] وقال : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } [ القيامة : 17 ] ولكن أكثر أهل العلم قالوا : يجوز ذلك . والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار ، لأنه لو جاز ذلك يكون كذباً ، والكذب في القرآن لا يجوز . ثم قال تعالى : { مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من الناسخ والمنسوخ .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يحكم فيهما ما يشاء بأمره ثم يأمر بغيره . قال الزجاج : الملك في اللغة : هو تمام القدرة ، وأصل هذا من قولهم : ملكت العجين إذا بالغت في عجنه . ومعنى الآية إن الله يملك السموات والأرض وما فيهما ، فهو أعلم لما يصلحهم فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك . وكان اليهود أعداء الله ينكرون النسخ ، وكانوا يقولون حين تحولت القبلة إلى الكعبة : لو كنتم على الحق فلم رجعتم؟ ولو كان هذا الثاني حقاً ، فقد كنتم على الباطل ، وكانوا لا يرون النسخ في الشرائع ، لأن ذلك حال البداء والندامة . ولا يجوز ذلك على الله . ولكن الجواب أن يقال : إن الله تعالى يدبر في أمره ما يشاء ، كما أنه خلق الخلق ولم يكونوا ، ثم يميتهم بعد ذلك ثم يحييهم؛ كذلك يجوز أن يأمر بأمر ثم يأمر بغير ذلك الأمر كما أن شريعة موسى عليه السلام لم تكن من قبل ، فأمره بذلك . والمعنى في ذلك : أنه حين أمرهم بالأمر الأول كان الصلاح في ذلك الوقت في هذا الأمر ثم إذا أمر بأمر آخر كان الصلاح في ذلك الوقت في الأمر الثاني ، وهذا المعنى قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والارض } ، يعني هو أعلم بأمر الخلق ، وبما يصلحهم في كل وقت . ثم بين الوعيد لمن لم يؤمن بالناسخ والمنسوخ فقال : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ، أي من قريب ينفعكم ولا نصير ، أي ولا مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ } ، قال مقاتل : معناه أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟ أي كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام حيث قالوا : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَءَاتَيْنَا موسى سلطانا مُّبِيناً } [ النساء : 153 ] . ويقال : إن اليهود سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطلبوا القربان كما كان لموسى ، عليه السلام . وروي عن الضحاك أنه قال : دخل جماعة من كفار قريش فيهم أبو جهل وغيره ، فقالوا لرسول الله : إن كنت نبياً فاكشف عنا الغطاء ، حتى نرى الله جهرة ، فنزلت الآية { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } حيث قالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } ثم قال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } ، أي يختار الكفر على الإيمان ، { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } ، أي أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } ؛ وذلك أن المسلمين لما أصابتهم المحنة يوم أحد ، قالت اليهود لعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان : قد أصابكم ما أصابكم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم ، فنزلت هذه الآية { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } أي يريد ويتمنى كثير من أهل الكتاب { لَوْ يَرُدُّونَكُم } ، أي يصدونكم ويردونكم عن التوحيد { مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا } إلى الكفر .
ثم أخبر أن هذا القول لم يكن منهم على وجه النصيحة ، ولكن ذلك القول كان { حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ } ما في التوراة أنه { الحق } ، يعني أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، { فاعفوا واصفحوا } ، أي : اتركوهم وأعرضوا عنهم { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } ، يعني الأمر بالقتال؛ وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب ، ثم أمرهم بعد ذلك بالقتال ، وهو قوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون } إلى قوله { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون } [ التوبة : 29 ] . { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من النصرة للمسلمين على الكفار . ويقال : هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، أي أقروا بالصلاة وأدوها في مواقيتها بركوعها وسجودها وخشوعها ، { وَإِذْ أَخَذْنَا } ، أي وأعطوا الزكاة المفروضة { وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } ، أي ما تصدقتم من صدقة وعملتم من العمل الصالح ، تجدوه عند الله محفوظاً يجزيكم به . ونظير هذا ما قال في آية أخرى { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءُوفُ بالعباد } [ آل عمران : 30 ] ، وقال في آية أخرى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] . وروي أنه مكتوب في بعض الكتب : يا بني آدم ، ضع كنزك عندي لا سرق ولا حرق ولا فساد ، تجده حين تكون أحوج إليه . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، يعني عالم بأعمالكم يجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{ وَقَالُوا } ، يعني اليهود والنصارى وهم يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران . { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } واليهود جماعة الهائد ، وإنما أراد به اليهود . وهذا من جوامع الكلم وهذا كلام على وجه الاختصار ، فكأنه يقول : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً . وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً . قال الله تعالى رداً لقولهم : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } ، أي ظنهم وأباطيلهم . وهذا كما يقال للذي يدعي مالاً يبرهن عليه : إنما أنت متمن ، وإنما يراد به : إنك مبطل في قولك .
ثم قال تعالى : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } ، أي حجتكم من التوراة أو من الإنجيل . { إِن كُنتُمْ صادقين } ، أي بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً . { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } ، معناه بل يدخل الجنة غيركم ، من أسلم وجهه لله ، أي من أخلص دينه لله وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله ، { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ } ، أي ثوابه في الجنة . { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العذاب حين يخاف أهل النار ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } حين يحزن أهل النار . ويقال : ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمر الدنيا . ويقال : الخوف إنما يستعمل في المستأنف ، والحزن في الماضي ، كما قال الله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءاتاكم والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ الحديد : 23 ] ويقال : الخوف ثلاثة : خوف الأبد ، وخوف العذاب على الانقطاع ، وخوف الحشر والحساب . فأما خوف الأبد فيكون أمناً للمسلمين ، وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمناً للتائبين ، وخوف الحشر والحساب يكون أمناً للمحسنين . والمحسنون يكونون آمنين من ذلك .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء } من أمر الدين . وروي عن ابن عباس أنه قال : صدقوا ولو حلفوا على ذلك ما حنثوا ، لأن كل فريق منهم ليس على شيء . { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } ، أي عندهم ما يخرجهم من ذلك الاختلاف أن لو نظروا فيه . وقال الزجاج : معناه ، كلا الفريقين يتلون الكتاب وبينهم هذا الاختلاف ، فدلّ ذلك على ضلالتهم . { كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ، أي الذين ليسوا من أهل الكتاب قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا . { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } ، يعني أنه يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً ويبيّن لهم الصواب { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، أي في الدنيا .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله } ، قال في رواية الكلبي معناه ومن أكفر . وقال بعضهم : هذا التفسير غير سديد ، لأن الكفر كله سواء . ولكن معنى قول الكلبي ومن أكفر يعني من أشد في كفره ، لأن الكفار وإن كانوا كلهم في الكفر سواء ، فربما يكون بعضهم في كفره أشد شراً من غيره . قال الكلبي : نزلت هذه الآية في شأن ططوس بن أسفيانوس الرومي ، حيث خرب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة ، فكان خراباً إلى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } ، فلم يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفاً ومستخفياً لو علم أنه رومي قتل . قال قتادة : هم النصارى . وقال مجاهد : هم اليهود والنصارى ويقال : من أراد أن يكون ملكاً عليهم ، لا يمكنه ذلك ما لم يكن دخل مسجد بيت المقدس ، فيجيء ويدخله مستخفياً .
ثم قال عز وجل : { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } ، أي بفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينة وعمورية وأرمينية . وقال بعضهم : لنزول هذه الآية سبب آخر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج عام الحديبية إلى مكة ، ومنعه أهل مكة فرجع ، ولم يدخلها في تلك السنة ، فنزلت هذه الآية : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِى خَرَابِهَا } ، أي سعى ومنع المسلمين عن الصلاة ، وذكر الله فيها لأن عمارة المسجد بالصلاة ، وذكر الله فيها وخرابها في ترك ذلك . { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } بعد فتح مكة ، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا خائفين ، { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } وهو فتح مكة ، { وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } لمن مات على كفره وقتل . وروى الزجاج عن بعض أهل العلم قال : نزلت في شأن جميع الكفار ، لأن الكفار كانوا يقاتلون المسلمين ويمنعونهم من الصلاة ، فقد منعوا المسلمين من الصلاة في جميع المساجد ، لأن الأرض كلها جعلت مسجداً وطهوراً . ومعناه ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام؟ قال : ومعنى قوله { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } ، يعني دار الإسلام ولهم في الدنيا خزي وظهور الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ التوبة : 33 وغيرها ] .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله عز وجل : { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } ؛ قد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية . روي عن ابن عباس أنه قال : خرج رهط في سفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم الضباب ، فمنهم من صلى إلى المشرق ، ومنهم من صلى إلى المغرب ، فلما طلعت الشمس وذهب الضباب ، استبان لهم ذلك ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك؛ فنزلت هذه الآية { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } ، يعني أينما تولوا وجوهكم في الصلاة فثم وجه الله قال بعضهم : فثم قبلة الله . ويقال يعني : فثم رضا الله . ويقال : فثم ملك الله . وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن قوماً خرجوا إلى السفر وذكر القصة نحو هذا .
وقال بعضهم : المراد به الصلاة على الدابة . قال الفقيه : حدثنا محمد بن سعيد المروزي قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا علي بن شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته التطوع ، حيث ما توجهت به وهو جاءٍ من مكة ، ثم قرأ ابن عمر : { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } . قال ابن عمر : في هذا نزلت هذه الآية .
وقال بعضهم : لنزول هذه الآية سبب آخر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ، فلما أمر بالتحول إلى الكعبة ، قالت اليهود : مرة تصلون هكذا ، ومرة تصلون هكذا ، فنزلت هذه الآية : { وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } ثم قال : { إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ } ، أي الواسع الجواد المحسن الذي يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل عليم بصلواتكم . ويقال : الواسع الغني عن صلاة الخلق؛ وإنما يطلب منهم النية الخالصة ويقال : واسع يعني يوسع عليكم أمر الشرائع ، ولم يضيق عليكم الأمر . ويقال : واسع ، يعني واسع الفضل . وقال الزجاج : معنى قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ الله } ، أي اقصدوا وجه الله بنيتكم القبلة ، كقوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 144 ] .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } ، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { قَالُواْ } بغير واو . وقرأ الباقون بالواو ، ومعناهما واحد إلا أن الواو للعطف وذلك أن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقال بعض المشركين : الملائكة بنات الله . قال الله تعالى : { سبحانه } ، نزّه نفسه عن الولد { بَل لَّهُ مَا فِي السموات والارض } كلهم عبيده { كُلٌّ لَّهُ قانتون } ، يعني به المؤمنين خاصة ، أي مطيعين مقرين بالعبودية له موحدين مجيبين للطاعة . وقد قيل : إن لفظ الآية عام والمراد به الخاص . قوله تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قانتون } يعني به المؤمنين خاصة . ويقال معناه : أثر صنعه وشواهد توحيده ودلائل ربوبيته في جميع ما في السموات والأرض موجود . ويقال : { كُلٌّ لَّهُ قانتون } أي لا يستطيع كل خلق أن يغير نفسه عن خلقته ، فأخبر الله تعالى أن جميع ما في السموات والأرض له وهو خالق الأشياء ، وهو المستغني عن الولد سبحانه وتعالى .
{ بَدِيعُ *** السموات والارض } ، أي خالقهما . والإبداع في اللغة : إنشاء شيء لم يُسْبَقْ إليه على غير مثال ولا مشورة . وإنما قيل لمن خالف السنة : مبتدع ، لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون . ومعناه هو خالق السموات والأرض . { وَإِذَا قضى أَمْرًا } ، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . ويقال : هذه الآية نزلت في شأن وفد نجران السيد والعاقب وغيرهما . وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : هل رأيت خلقاً من غير أب؟ فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، كما كان آدم من غير أب وأم ، كذا عيسى ابن مريم خلقه بغير أب . فإن قيل : قوله : { كُنَّ } هذا الخطاب للموجود أو للمعدوم؟ فإن قال : للمعدوم . قيل له : كيف يصح الخطاب لشيء معدوم؟ وكيف يصح الإشارة إليه بقوله : { كُنَّ } ؟ فإن قال : الخطاب للموجود . قيل له : كيف يأمر الشيء الكائن بالكون فالجواب عن هذا من وجهين : أحدهما : أن الأشياء كلها كانت موجودة في علم الله تعالى قبل كونها ، فكان الخطاب للموجود في علمه . وجواب آخر : أن معناه إذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن فيكون ، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً يخلقه ، والقول فيه على وجه المجاز . قرأ ابن عامر { فَيَكُونُ } بالنصب ، لأن جواب الأمر بالفاء ، وقرأ الباقون بالرفع على معنى الاستئناف بمعنى فهو يكون .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي لا يعلمون توحيد الله تعالى ، ومعناه : وقال الجهال من الناس وهم الكفار : { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } ، أي هلا يكلمنا الله فيخبرنا بأنك رسوله ، { وَقَالَ الذين لاَ } ، أي علامة لنبوتك . قال الله تعالى : { كذلك قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } ، أي قال اليهود لموسى عليه السلام : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَءَاتَيْنَا موسى سلطانا مُّبِيناً } [ النساء : 153 ] . { تشابهت قُلُوبُهُمْ } ، أي في القسوة والكفر . ويقال : تشابهت كلمتهم كما تشابهت قلوبهم . { قَدْ بَيَّنَّا الآيات } ، يعني أمرك في التوراة أي العلامات لنبوتك إنك نبي مرسل الصفة والنعت . ويقال : قد بينا العلامات لنبوتك . ويقال : لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة وعلامة إلاّ وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مثلها . { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ، يعني مؤمني أهل التوراة . ويقال : من كان له عقل وتمييز .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قوله تعالى : { إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، أي بالقرآن . ويقال بالحق يعني بالدعوة إلى الحق . ويقال : بالحق أي لأجل الحق . ويقال : أي بالدعوة إلى الحق . ويقال : ببيان الحق . { بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم } ؛ قرأ نافع { وَلاَ تُسْئَلُ } بنصب التاء وجزم اللام ، والباقون بضم التاء واللام . فمن قرأ بالرفع ، فمعناه أنك إذا بلغت الرسالة ، فإنك قد فعلت ما عليك ، ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم فيما فعلوا ، وهذا كما قال في آية أخرى : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 4 ] وأما ومن قرأ بالنصب ، فهو على معنى النهي ، أي لا تَسألْ عن أصحاب الجحيم أي عما فعلوا . قال القاضي الخليل بن أحمد : أخبرنا الديلمي قال : أخبرنا أبو عبيد الله قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة الربذي ، عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَيْتَ شِعْرِي مَا فُعِلَ بأَبَوَيَّ » فنزلت هذه الآية { إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم } الآية .
قوله تعالى : { وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى } ، يعني أهل المدينة ونصارى أهل نجران { حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ، أي تصلي إلى قبلتهم . { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } ، يعني إن قبلة الله هي الكعبة { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } ، أي صليت إلى قبلتهم { بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم } ، أي من بعد ما ظهر لك : أن القبلة هي الكعبة ، { مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيّ } ينفعك { وَلاَ نَصِيرٍ } ، أي مانعاً يمنعك . ويقال : معناه { وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ، أي حتى تدخل في دينهم ، وذلك أن الكفار كانوا يطلبون الصلح ، وكان يرى أنهم يسلمون ، فأخبره الله تعالى أنهم لا يسلمون ، ولن يرضوا عنه ، حتى يتبع ملتهم فنهاه الله عن الركون إلى شيء مما يدعونه إليه . فقال تعالى : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } ، يعني دين الله هو دين الإسلام . { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } ؛ وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته ، أي لئن اتبعت دينهم بعد ما جاءك من العلم ، أي بعد ما ظهر أن دين الإسلام هو الحق { مَا لَكَ مِنَ الله } ، أي من عذاب الله { مِن وَلِىّ } ينفعك { وَلاَ نَصِيرٍ } ، أي مانع يمنعك منه .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } ، يعني مؤمني أهل الكتاب يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم . قال مجاهد : يتبعونه حق اتباعه . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود قال : والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقرأ حق قراءته كما أنزل الله تعالى ، ولا يحرَّف عن مواضعه . ويقال : يقرؤونه حق قراءته . { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقونه . { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال : بالقرآن ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } ، وهو كعب بن الأشرف وأصحابه . ويقال : نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب ، وهم اثنان وثلاثون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة ، وكانوا يتبعون القرآن حق اتباعه .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قوله تعالى : { الخاسرون يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِىَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } قد ذكرناها من قبل .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } ، قرأ ابن عامر { أبرَاهَامَ } ، وروي عنه أنه قرأ { أَبْرَهَمَ } وهي لغة بعض العرب ، وقرأ غيره { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } في جميع القرآن . وهي اللغة المعروفة وهو اسم أعجمي ولهذا لا ينصرف . وروي عن ابن عباس أنه قال : أمر الله تعالى إبراهيم بعشر خصال من السنن خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا . حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن الفضل البلخي قال : حدثنا أبو بشر محمود بن مهدي ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عَشْرٌ مِمَّا عَلِمَهُنَّ وَعَمِلَ بِهِنَّ أَبُوكُمْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ ، وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ؛ فَأَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ : فَالسِّوَاكُ وَالمَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَأَمَّا الَّتِي في الجَسَدِ فَالخِتَانُ وَالاسْتِحْدَادُ وَالاسْتِنْجَاءُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ » ويقال : { وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } ، أي اختبره . والاختبار من الله تعالى أن يظهر حاله ليستوجب الثواب ، لأن الله تعالى لا يعطي الثواب والعقاب بما يعلم ما لم يظهر منه ما يستوجب الثواب والعقاب ، كما علم من إبليس الكفر ، ولم يلعنه ما لم يختبره ويظهر منه ما يستوجب به اللعنة والعقوبة .
وقوله عز وجل : { فَأَتَمَّهُنَّ } ، يعني عمل بهن . ويقال : كان إبراهيم أفضل الناس في زمانه ، وكرم على الله تعالى فابتلاه الله عز وجل بخصال لم يبتل بها غيره ، فكان من الابتلاء أن أمه ولدته في غار . ومن الابتلاء حيث نظر إلى الكوكب فقال : هذا ربي . وروى الحسن أنه قال : كان الابتلاء بثلاثة أشياء؛ أولها : الابتلاء بالكوكب والشمس والقمر ، والثاني : بالنار ، والثالث : بأمر سارة . ويقال : كل من كان أكرم على الله كان ابتلاؤه أشد ، لكي يتبين فضله ويستوجب الثواب . كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه : يا بني الذهب والفضة يختبران بالنار ، والمؤمن يختبر بالبلايا . { فَأَتَمَّهُنَّ } ، أيّ عمل بهن . ويقال : { فَأَتَمَّهُنَّ } أي وفى بهن ، فلما وفّى الأمر جعله الله تعالى إماماً للناس ليقتدوا به . وفي هذا دليل : أن الإنسان لا يبلغ درجة الأخيار إلا بالتعب وجهد النفس ، فلما جعله الله تعالى إماماً ، { قَالَ } له : { إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } والإمام الذي يؤتم به فأعجبه ذلك ، وتمنى أن يكون ذلك لذريته بعده مثل ذلك ، ف { قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى } ، يعني اجعلهم أئمة يقتدى بهم . { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } ، يعني الكافرين ، يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس . ويقال : لا تصيب رحمتي الكافرين . فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذريته كفار ، وأخبره أنه لا ينال عهده من كان كافراً .
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أي الكافرين يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماماً للناس . ويقال : لا تصيب الرحمة الكافر . فالله تعالى أخبره أنه يكون في ذنبه وأخبره أنه لا ينال عهده من كفر وكان كافراً . قرأ حمزة وعاصم رواية حفص { لاَ يَنَالُ عَهْدِي } بسكون الياء . وقرأ الباقون بنصب الياء { عَهْدِي الظالمين } وهما لغتان ومعناهما واحد .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً } ، يقول : وضعنا البيت ، يعني الكعبة معاداً لهم ، يعودون إليه مرة بعد مرة . وقال قتادة : مجمعاً للناس يثوبون إليه من كل جهة ، وفي كل سنة فلا يقضون منها وطراً . { وَأَمْناً } ، أي جعلناه أمناً لمن التجأ إليه ، يعني من وجب عليه القصاص . ولهذا قالوا : لو أن رجلاً وجب عليه القصاص فدخل الحرم ، لا يقتص منه في الحرم . وهكذا روي عن ابن عمر أنه قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ، ما هيجته ، أي ما أزعجته ولكن يمنع منه المنافع ، حتى يضطر ويخرج فيقتص منه . ويقال : آمناً لغير الممتحنين ، وهي الصيود إذا دخلت الحرم أمنت . ويقال : آمناً من الجذام .
ثم قال تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } ، قرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بفتح الخاء على وجه الخبر ، معناه : جعلنا البيت مثابة للناس فاتخذوه مصلى . وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر . قال : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا الديلمي قال : حدثنا أبو عبيد الله قال : حدثنا سفيان ، عن زكريا بن زائدة ، عمن حدثه ، عن عمر بن الخطاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت يوم الفتح ، فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال : «هذا مَقَامُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ» ، فقال عمر : أفلا تتخذه مصلى يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } ويقال : المسجد الحرام كله مقام إبراهيم عليه السلام هكذا روي عن مجاهد وعطاء .
وقوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل } ، أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل : { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } ، أي مسجدي من الأوثان ، ويقال : من جميع النجاسات ، ثم قال : { لِلطَّائِفِينَ } ، أي طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات ، لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء ، { والعاكفين } وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من أهله وغيرهم { والركع السجود } ، أي أهل الصلاة من كل جهة من الآفاق . قرأ نافع وعاصم في رواية حفص { طَهّرَا بَيْتِىَ } بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } ، يعني الحرم . { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } ، فاستجاب الله تعالى دعاءه ، فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة ، فيوجد فيها في كل وقت من كل نوع واشترط إبراهيم في دعائه فقال : { مِنَ الثمرات مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله } . وإنما اشترط هذا الشرط ، لأنه قد سأل ربه الإمامة لذريته ، فلم يستجب له في الظالمين ، فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا ، فسأل الرزق للمؤمنين خاصة ، فأخبره الله تعالى : أنه يرزق الكافر والمؤمن ، وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة . قالوا : لأن الأمامة فضل ، والرزق عدل ، فالله تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلاً لذلك ، وعدله لجميع الناس لأنهم عباده ، وإن كانوا كفاراً . فذلك قوله تعالى : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً } ، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام «فَأُمَّتِعَهُ» بالتخفيف من أمتعت ، وقرأ الباقون بالتشديد من متَّعت ، يعني سأرزقه في الدنيا يسيراً { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي مصيره ، ويقال : ملجأه { إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } صاروا إليه .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت } { يعني يبني إبراهيم القواعد ، يعني أساس البيت ، أي الكعبة . والقواعد جماعة واحدها قاعدة . { وإسماعيل } ، يعني إِسماعيل يعينه . قال مقاتل : وفي الآية تقديم وتأخير ، معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت . ويقال : إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه ، والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل ، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل : طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء؛ فلما فرغا من البناء ، قالا { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } يعني أعمالنا . { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } ، أي السميع لدعائنا بنياتنا .
وفي الآية دليل : أن الإنسان إذا عمل خيراً ينبغي أن يدعو الله بالقبول ، ويقال : ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله بالعمل ، لأن الله تعالى قال : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءْادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قربانا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر قَالَ لاّقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] . وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما فرغا من البناء ، جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول ، فقال جبريل لإبراهيم : قد أجيب لك ، فاسأل شيئاً آخر ، فقالا : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } ، أي مخلصين لك ، ويقال : واجعلنا مثبتين على الإسلام ، ويقال : مطيعين لك ، ويقال : أمتنا على الإسلام .
{ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } ، أي اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك ، ويثبت على الإسلام . ثم قال : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } . أي علمنا أمور مناسكنا . وقال القتبي : الرؤية المعاينة كقوله عز وجل : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [ الزمر : 60 ] ، وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] . ويقال : تذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والارض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] وكقوله : { أَرِنَا * مَنَاسِكَنَا } ، أي عملنا . وكقوله { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله } . قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة { وَأَرِنَا } بجزم الراء في جميع القرآن ، والباقون بكسر الراء ، وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } أي مطيعين وموحدين { وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } ، أي جماعة موحدة مطيعة لك . ويقال : أشكل عليهما موضع البيت ، فبعث الله تعالى سحابة فقالت له : ابن بخيالي ، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة . ثم قال تعالى { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } أي تجاوز عنا الزلة ، { إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } بعبادك .
{ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك } .
قال مقاتل : لأن إبراهيم علم أن في ذريته من يكون كفاراً ، فسأل الله تعالى أن يبعث فيهم رسولاً فقال : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك } ، يعني القرآن . { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } ، أي القرآن { والحكمة } ، أي مواعظ القرآن من الحلال والحرام . ويقال : علم التفسير . { وَيُزَكّيهِمْ } أي يطهرهم من الكفر والشرك . ويقال : يأمرهم بالزكاة ليطهر أموالهم . قال مقاتل : استجاب الله دعاءه في سورة الجمعة . وهو قوله تعالى : { هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَنَا دَعْوَةُ أبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى عليهما السلام » وهي قوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابنى إسراءيل إِنِّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الصف : 6 ] ثم قال تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } ، أي المنيع الذي لا يغلبه شيء ، ويقال : العزيز الذي لا يعجزه شيء عما أراد . ويقال : العزيز بالنقمة ، ينتقم ممن عصاه متى شاء ، الحكيم في أمره الذي يكون عمله موافقاً للعلم .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم } ، يقول : عن سنته ودينه وهو الإسلام . ويقال لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ ، { وَمِنْ } ها هنا بمعنى ( ما ) ، فكأنه يقول : وما يرغب عن دين إبراهيم { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } . قال أبو عبيدة : إلا من أهلك نفسه . وقال الأخفش : معناه إلا من سفه من نفسه . هذا كما قال في آية أخرى { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ فى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فى أَنفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ البقرة : 235 ] أي على عقدة النكاح . ويقال : إلا من جهل أمر نفسه ، فلا يتفكر فيه ، كما قال في آية أخرى { وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، قال الكلبي : ومن يرغب عن دين إبراهيم الإسلام والحج والطواف ، إلا من خسر نفسه .
ثم : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } ، يقول : اخترناه في الدنيا للنبوة والرسالة والإسلام والخلة . { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } ، أي في الجنة . ويقال : مع الصالحين في الجنة وهو أفضل الصالحين ما خلا محمداً صلى الله عليه وسلم .
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } { قال ابن عباس : يعني أخلص . ويقال : معناه قل لا إله إلا الله . ويقال : معناه استقم على ما أنت عليه . ويقال : حين خرج من السرب ، نظر إلى الكوكب والقمر والشمس ، فابتلي بذلك فألهمه الله تعالى الإخلاص ، فقال : { إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والارض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 79 ] الآية . فهذا معنى قوله { أَسْلَمَ } أي أخلص دينك لله ف { قَالَ } إبراهيم عليه السلام : { أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } ، أي أخلصت ديني لرب العالمين . ويقال : فوض أمرك إلى الله فقال فوضت أمري إلى الله .
{ ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } ، أي بشهادة أن لا إله إلا الله . قرأ نافع وابن عامر { ***وَأَوْصَى } وقرأ الباقون { العالمين ووصى } وهو أبلغ من أوصى ، لأنه لا يكون إلا لمرات كثيرة . وقوله { بِهَا } ، يرجع إلى الملة ، والملة هي السنة والمذهب . ويقال : إنه جمع بنيه عند موته ، لأنه خشي عليهم كيد إبليس فجمعهم وأوصاهم بأن يثبتوا على الإسلام . قال مقاتل : { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } الأربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ، ثم أوصى بها يعقوب بنيه ، وهم اثني عشر ابناً ، وذلك حين دخل مصر فرآهم يعبدون الأصنام ، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام وكانوا اثنا عشر ابناً : روبيل وشمعون ويهوذا ولاوي ونفتال وريالون ويشجر ودان واشترفياحان وحان ويوسف وبنيامين .
قال الله تعالى : { وَيَعْقُوبُ يابنى إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين } ، أي اختار لكم دين الإسلام { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال لو أدرككم الموت يدرككم على الإسلام ، وأنتم مخلصون بالتوحيد . فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب عليه السلام يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
فأنزل الله تعالى { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } ، يقول : أكنتم حضوراً { إِذْ } حين { حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت } معناه إنكم تدعون ذلك ، كأنكم كنتم حضوراً في ذلك الوقت ، يعني أنكم تقولون ما لا علم لكم بذلك ، والله تعالى يخبر ويبين أن وصيته كانت بخلاف ما قالت اليهود؛ وإنما لم ينصرف { شُهَدَاء } لمكان ألف التأنيث في آخره ، وإذا دخلت ألف التأنيث أو هاء التأنيث في آخر الكلام فإنه لا ينصرف .
ثم قال تعالى : { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى } ، أي من تعبدون بعد موتي؟ { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم } . روي عن الحسن البصري أنه قرأ { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ } . وقرأ غيره { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . وإسماعيل كان عم يعقوب ، ولكن العم بمنزلة الأب بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ » ثم قال : { إلها واحدا } ، أي نعبد إلهاً واحداً . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مخلصون له بالتوحيد .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي جماعة قد مضت . { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ، أي جزاء ما عملت من خير أو شر . { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ؛ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون : نحن على دينهم ، فقال لهم : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } ، لا تقدرون عليهم فيشهدوا لكم ، فلهم ما عملوا وإنما لكم ما تعملون ، وإنما ينظر اليوم إلى أعمالكم ، ولا ينفعكم من أعمالهم شيء .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قوله تعالى : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } ، وذلك أن يهود المدينة ونصارى أهل نجران اختصموا ، فقال كل فريق : ديننا أصوب ، ونبينا أفضل . فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أينا أفضل؟ فقال لهم : « كُلُّكُمْ عَلَى البَاطِلِ » فأعرضوا عنه فنزلت هذه الآية : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى } يعني اليهود قالوا : كونوا على دين اليهود والنصارى قالوا : كونوا على دين النصرانية تهتدوا من الضلالة .
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } . وإنما نصب الملة على معنى : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً . ويقال : معناه واتبعوا ملة إبراهيم . وقال مقاتل : بل الدين ملة إبراهيم حنيفاً ، أي مخلصاً . وقال القتبي : حنيفاً أي مستقيماً . ويقال للأعرج حنيف نظراً إلى السلامة ، كما يقال للديغ : سليم ، وللجبانة مفازة ، وإن كانت مهلكة . وقال الزجاج : أصل الحنف إذا كان أصابع الرجل مقبلاً بعضها إلى بعض إقبالاً لا تنصرف عن ذلك أبداً ، فكذلك كان إبراهيم عليه السلام مقبلاً على دين الإسلام ، مائلاً عن الأديان كلها { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ولكن كان على دين الإسلام . فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : كيف نقول حتى لا نكذب أحداً من الأنبياء .
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
فعلمهم الله عز وجل بقوله : { قُولُواْ ءامَنَّا بالله } ، أي صدقنا بأنه واحد لا شريك له . { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } ، يقول : صدقنا بما أنزل إلينا ، أي بما أنزل على نبينا من القرآن { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم } ، يقول صدقنا بما أنزل على إبراهيم من الصحف . { وَ } ما أنزل إلى { إسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ } وهم أولاد يعقوب ، كان له اثنا عشر ابناً ، فصار أولاد كل واحد منهم سبطاً ، والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب . وإنما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به ، فأضاف إليهم ، كما أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف إلى أمته فقال : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم ، لأنهم كانوا يعملون به . ثم قال تعالى : { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى } ، يعني التوراة والإنجيل . { وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ } ، يعني وما أنزل على الأنبياء من الله تعالى وقد آمنا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } ، أي من رسله كما فرقت اليهود والنصارى ، { وَنَحْنُ لَهُ مُّسْلِمُونَ } ، أي مخلصون له بالتوحيد .
ثم قال تعالى للمؤمنين { فَإِنْ ءامَنُواْ } ، يعني اليهود والنصارى { بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } ، يعني به يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، { فَقَدِ اهتدوا } من الضلالة . { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ، أي : أعرضوا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم السلام { فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } ، يقول إنهم في خلاف من الدين . ويقال : في ضلال . والشقاق في اللغة : له ثلاثة معان ، أحدها : العداوة مثل قوله تعالى : و { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] ، والثاني : الخلاف مثل قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إصلاحا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } [ النساء : 35 ] ، والثالث : الضلالة مثل قوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 53 ] ، { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } ، أي يدفع الله عنكم مؤنتهم . وقال الزجاج : هذا ضمان من الله تعالى النصر لنبيه ، أنه سيكفيه إياهم بإظهاره على كل دين سواه ، كقوله تعالى : { كَتَبَ الله لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلى إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] يعني أن عاقبة الأمر كانت لهم . قال مقاتل : يعني قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير . { وَهُوَ السميع العليم } بقولهم للمؤمنين حيث قالوا : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ، العليم بعقوبتهم . ثم فضل دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل دين فقال تعالى :
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{ صِبْغَةَ الله } ، أي : اتبعوا دين الله والزموه ، لا دين اليهود والنصارى . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } ، أي دين أحسن من دين الله تعالى ، وهو دين الإسلام . { وَنَحْنُ لَهُ عابدون } ، أي موحدون مقرون ، وذلك أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد غمروه في اليوم السابع في ماء لهم ، ليطهروه بذلك ويقولون : هذا طهور مكان الختان ، وهم صنف من النصارى يقال لهم : المعمودية .
قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون } ، أي مطيعون ، ولنا الختان طهور ، طهَّر الله به إبراهيم عليه السلام وروى سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ختن إبراهيم عليه السلام نفسه بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة . والقدوم موضع بالشام . ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة . وقال القتبي : هذا من الاستعارة حيث سمى الختان صبغة ، لأنهم كانوا يصبغون أولادهم في ماء . قال الله تعالى : صبغة الله لا صبغة النصارى ، يعني اتبعوا دين الله والزموا دين الله .
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
ثم قال الله تعالى : { قُلْ } يا محمد ليهود أهل المدينة والنصارى أهل نجران : { أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ } ، يعني أتخاصموننا في دين الله ، ونحن نوحد الله . وقال الزجاج : نزلت هذه الآية في اليهود والذين كانوا يظاهرون المشركين ، فقال : أنتم تقولون : أنكم توحدون الله ونحن نوحد الله تعالى ، فلم تظاهرون علينا من لا يوحد الله تعالى؟ { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا } ، أي ثواب أعمالنا { وَلَكُمْ } ثواب { أعمالكم وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } ، أي مقرُّون له بالوحدانية مخلصون له بالعبادة .
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{ أَمْ تَقُولُونَ } { قرأ الكسائي وعاصم وحمزة في رواية حفص { أَمْ تَقُولُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة ، وقرأ الباقون : بالياء «أمْ يَقُولُونَ» على معنى المغايبة . { إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى } ، يعني إن تعلقتم أيضاً بدين الأنبياء فنحن على دينهم ، وقد آمنا بجميع الأنبياء ، فإن ادعيتم أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانيّة وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ، { قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } . فالله تعالى أخبر أنهم كانوا على دين الإسلام ، وقد بيَّن ذلك في كتبهم حيث قال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله } ، لأن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق بأن يبيِّنوه فكتموه . قال الله تعالى : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، أي لا يخفى على الله من عملهم شيء فيجازيهم بذلك . ويقال : هذا القول وعيد للظالم وتعزية للمظلوم .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
ثم قال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقد ذكرنا تفسيرها .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله : { سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس } ، يعني الجهال وهم اليهود والمنافقون . ويقال : هم أهل مكة : { مَا ولاهم } أي يقولوا : ما الذي صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا } يعني التي صلوا إليها من قبل؛ وذلك أن الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، ثم أمر بالتحويل إلى مكة . فقال أهل مكة : رجع محمد إلى قبلتنا ، فعن قريب يرجع إلى ديننا فأنزل الله تعالى { قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب } ، يقول : إن الصلاة إلى بيت المقدس والصلاة إلى الكعبة لله إذا كان بأمر الله .
{ يَهْدِى مَن يَشَآء } ، أي يرشد من يشاء إلى قبلة الكعبة { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي ديناً يرضاه . روي عن أبي العالية الرياحي أنه قال : رأيت مسجد صالح النبي صلى الله عليه وسلم وقبلته إلى الكعبة . قال : وكان موسى عليه السلام يصلي من الصخرة إلى الكعبة ، وهي قبلة الأنبياء كلهم ، صلوات الله عليهم .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } والوسط هو العدل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { قال أوسطهم } [ القلم : 28 ] ، أي أخيرهم وأعدلهم . والعرب تقول : فلان من أوسط قومه ، أي خيارهم وأعدلهم ، ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هو أوسط قريش حسباً . أي جعلناكم عدلاً للخلائق . { وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ، يعني للنبيين . { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } بالتصديق لكم وذلك أن الله تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء عليهم السلام عن تبليغ الرسالة كقوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً } [ الأحزاب : 8 ] فيقولون : قد بلغنا الرسالة ، فتنكر أممهم تبليغ رسالته ، فتشهد لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم ، فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فذلك معنى قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَمعنى قوله { وكذلك } أي وكما هديناكم للإسلام والقبلة الكعبة فكذلك جعلناكم أمة عدلاً لتكونوا شهداء على الناس .
وللآية تأويل آخر : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } أي عدلاً ، لتكونوا شهداء على الناس . يقول : إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حجة عليكم . والشهادة في اللغة : هي البيان ، فلهذا يسمى الشاهد بيِّنة ، لأنه بيَّن حق المدعي ، يعني أنكم تبيِّنون لمن بعدكم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لكم .
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } ، أي ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى ، ويقال : ما حولنا القبلة التي كنت عليها ، { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } . يقول : إلا لنختبر ونبيِّن { مَن يَتَّبِعُ الرسول } ، يطيع الرسول في تحويل القبلة ، { مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } ، أي يرجع إلى دينه بعد تحويل الله القبلة . { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } ، أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة . { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ، أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة ، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله فإخواننا الذين ماتوا ما صنع الله بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } ، يعني لم يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم . ويقال : يعني صلاتهم إلى بيت المقدس ، التي صلوا إليها وماتوا عليها لأن اليهود قالوا : قد بطل إيمانكم حين تركتم القبلة ، فنزل { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } يعني يبطل إيمانكم .
قال الضحاك : يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله بالناس *** لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم . قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : { ***لَرَؤُفٌ } بالهمزة على وزن رعف ، وقرأ الباقون : { والله رَءوفٌ } على وزن فعول في جميع القرآن ، وهما لغتان ومعناهما واحد .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } ، أي رفع بصرك إلى السماء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : « وَدِدْتُ لَوْ أنَّ الله تَعَالى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إلَى غَيْرِهَا » وإنما أراد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء عليهم السلام وذلك لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام فقال له جبريل : إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئاً فاسأل ربك ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } ، أي رفع بصرك إلى السماء . { فَلَنُوَلّيَنَّكَ } ، أي فلنحولنك ولنوجهنك في الصلاة { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } ، يعني تهواها أي تميل نفسك إليها . فأمره الله تعالى بالتوجه فقال : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ، يعني نحوه وتلقاءه { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي إلى الكعبة .
ثم قال : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ } ، يعني أن القبلة إلى الكعبة هي الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام . { وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } ، يعني جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى ، فنزل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب } وهم اليهود والنصارى { بِكُلّ ءايَةٍ } ، أي بكل علامة { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } ، أي ما صلوا إلى قبلتك . { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } ، أي بمصل إلى قبلتهم ، { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يقال : معناه كيف ترجو أن يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضاً .
ثم قال : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته ، يعني : لئن صليت إلى قبلتهم أو اتبعت مذهبهم { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } ، أي البيان أن دين الإسلام هو الحق والكعبة هي القبلة . { إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } ، أي الضارين بنفسك .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } { وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ { يَعْرِفُونَهُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بين الغلمان . قال عبد الله بن سلام : والله إني لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني ، فقال له عمر رضي الله عنه : وكيف ذلك يا ابن سلام؟ فقال : لأني أشهد أنه رسول الله حقاً وصدقاً ويقيناً ، وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي؛ فقال له : والله يا ابن سلام لقد صدقت أو أصبت .
ثم قال تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ } ، يعني طائفة من اليهود { لَيَكْتُمُونَ الحق } في كتابهم ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه نبي مرسل . قال مقاتل : إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لم تطوفون بالبيت المبني بالحجارة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ حَقٌّ وَإِنَّهُ هُوَ القِبْلَةُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ » فجحدوا ذلك فنزل قوله تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب } ، يعني التوراة يعرفون أن البيت قبلة كما يعرفون أبناءهم؛ وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ذلك في أمر القبلة . ثم قال تعالى : { الحق مِن رَّبّكَ } يا محمد ، أن الكعبة قبلة إبراهيم . { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } ، أي من الشاكين . إنهم يعرفون أنها قبلة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{ وَلِكُلّ وِجْهَةٌ } { أي قبلة . والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد . أي لكل ذي ملة قبلة { هُوَ مُوَلّيهَا } ، أي مستقبلها . وقيل : لكل دين وملة قبلة هو مولها . قرأ ابن عامر : «وَهُوَ مُوَلاَّهَا» والباقون بالكسر أي هو بنفسه موليها يعني الله مولاها وقال مقاتل : لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها يريدون بها وجه الله تعالى . { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } ، أي قال لهذا الأمة : استبقوا بالطاعات . وهذا كما قال في آية أخرى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءاتاكم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ المائدة : 48 ] ، أي جعلنا لكل قوم شريعة وسبيلاً ، فإذا أخذوا بالسنة والمنهاج رضي عنهم . فأمر الله تعالى أهل هذه الشرائع أن يستبقوا الخيرات في الأعمال الصالحة ، فقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } في الأرض { يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } ، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة .
وقال مجاهد { وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا } أمر كل قوم بأن يحولوا وجوههم إلى الكعبة . ويقال : ولكل أمة قبلكم قبلة أمرتهم بأن يستقبلوها فاستبقوا الخيرات ، يقول : بادروا الأمم بالطاعات . ثم قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله } ، يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة . { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ، أي هو قادر على جمعكم يوم القيامة .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
ثم قال عز وجل : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ } بالصلاة { شَطْرَ المسجد الحرام } أي نحوه وتلقاءه . { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } ، يعني التوجه إلى الكعبة بالصلاة هو الحق من ربك ، { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، أي يجازيكم بأعمالكم ، { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام * مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } ، أي لكي لا يكون لليهود { عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ، لأنهم يعلمون أن الكعبة هي القبلة فلا حجة لهم عليكم ، { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } ، أي إلا من ظلم باحتجاجه فيما وضح له كما يقول الرجل لصاحبه : مالك على الحجة إلا أن تظلمني . وقال بعضهم : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } ، يعني ولا الذين ظلموا لا حجة لهم عليكم . وذكر عن أبي عبيدة أنه قال : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } أي ولا الذين ظلموا فهذا موضع واو العطف ، فكأنه قال : ليس للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا منهم ، أي لا حجة لهم عليكم .
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } ، أي بانصرافكم إلى الكعبة ، { واخشونى } في تركها . قرأ نافع في رواية ورش : { لَيْلاً } بغير همز . والباقون : { لّئَلاَّ } بالهمز لأن أصله ( لأن لا ) ، وإنما أسقط نافع الهمزة للتخفيف . ثم قال تعالى : { وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } بتحويل القبلة وبإرسال الرسول ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا من الضلالة .
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ } ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتنا } أي القرآن وقوله : { مّنكُمْ } أي من العرب . ويقال : آدمي مثلكم لأنه لو كان من الملائكة لا يستطيعون النظر إليه ، فأرسل آدمياً مثلكم يتلو عليكم القرآن { وَيُزَكِيكُمْ } . قال الكلبي : ويصلحكم بالزكاة . وقال مقاتل : يطهركم من الشرك والكفر . وقال الزجاج : خاطب به العرب أنه بعث رسولاً منكم ، وأنتم كنتم أهل الجاهلية لا تعلمون الكتاب والحكمة ، فكما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بالتوحيد . ويقال قوله : كما وصل بما قبله ومعناه : ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم . ويقال : وصل بما بعده ، ومعناه : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آياتنا وَيُزَكِيكُمْ } . { وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } فاعرفوا هذه النعمة .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{ فاذكرونى } بالتوحيد { أَذْكُرْكُمْ } يقول : اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة ، فحق على الله أن يذكر من ذكره ، فمن ذكره في طاعته ، ذكره الله تعالى بخير ومن ذكر الله من أهل المعصية في معصية ذكره الله باللعنة وسوء الدار . ويقال : اذكروني في الرخاء ، أذكركم عند البلاء . ويقال : اذكروني في الضيق أذكركم بالمخرج . ويقال : اذكروني في الخلاء ، أذكركم في الملأ . ويقال : اذكروني في ملأ من الناس ، أذكركم في ملأ من الملائكة . قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدثنا محمد بن الفضيل الضبي ، عن الحصين ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ما اجتمع قوم يذكرون الله تعالى ، إلا ذكرهم الله في ملأ أعز منهم وأكرم ، وما تفرق قوم من مجلس لا يذكرون الله في مجلسهم ، إلا كانت حسرة عليهم يوم القيامة . ويقال : اذكروني بالشكر ، أذكركم بالزيادة . ويقال : اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ويقال : اذكروني في الدنيا بالإخلاص أذكركم في الآخرة بالخلاص .
ثم قال تعالى : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } يعني اشكروا نعمتي التي أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ، ولا تجحدوا هذه النعمة . ويقال : النعمة في الحقيقة هي العلم وما سوى ذلك ، فهو تحويل من راحة إلى راحة وليس الطّعام بنعمة ، لأن الطعام إذا أكله الإنسان فبعد ساعة يطلب منه الفرج ، والثوب الحسن ربما يمل منه إذا كان يؤذيه الحر أو البرد؛ والعلم لا يمل منه صاحبه ، بل ربما يطلب له الزيادة . فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة التي بعث رسولاً ليعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
ثم قال عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } ، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى . وهذا نداء المدح ، وقد ذكرنا قبل هذا أن النداء على ست مراتب . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إذا سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا } فَارْعَ له بسمعك فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه .
{ استعينوا بالصبر والصلاة } على أداء الفرائض وبالصلاة خاصة . قال الزجاج : استعينوا بالصبر على ما أنتم عليه وإن أصابكم مكروه . وقال مجاهد : استعينوا بالصبر أي بالصوم والصلاة . وقال الضحاك : استعينوا بالصبر على صوم شهر رمضان وعلى الصلوات الخمس . ويقال : الصبر هو الصبر بعينه . ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة ، فأمر بالصبر والصلاة ، لأنه ليس شيء من الطاعة الظاهرة أشد من الصلاة على البدن ، لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات : الخضوع والإقبال والسكون والتسبيح والقراءة؛ فإذا تيسر عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك . وليس شيء من الطاعات الباطنة أشد من الصبر على البدن ، فأمر الله بالصبر والصلاة لأنه حسن . ثم قال : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } ، فالله تعالى مع كل أحد ، ولكن خصّ الصابرين لكي يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يفرج عنهم .
قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } . قال الضحاك : هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة . وقال الكلبي : هم الذين قتلوا ببدر إذ قتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وكان الناس يقولون : مات فلان ومات فلان ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء } لأنهم في الحكم كالأحياء ، لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة ، ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا . كما قال في آية أخرى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [ البقرة : 154 ] .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } { يعني المؤمنين { بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع } . يقول : لنختبرنكم بخوف العدو ، وهو الخوف الذي أصابهم يوم الخندق ، حتى بلغت القلوب الحناجر؛ والجوع وهو القحط الذي أصابهم ، فكان يمضي على أحدهم أياماً لا يجد طعاماً . { وَنَقْصٍ مّنَ الاموال } ، يعني ذهاب أموالهم ، ويقال موت الماشية . { والانفس } ، يعني الموت والقتل والأمراض . { والثمرات } نقصان الثمرات ، فلا تخرج الثمرات كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة . ويقال : موت الثمرات هو موت الولد وهو ثمرة القلب . ثم قال : { وَبَشّرِ الصابرين } ، يعني الذين يصبرون على هذه المصائب والشدائد التي ذكرنا .
ثم وصفهم فقال تعالى : { الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } صبروا ولم يجزعوا ، و { قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون } ، يعني يقولون : نحن عبيد الله وفي ملكه إن عشنا فعليه أرزاقنا ، وإن متنا فإليه مردنا وإليه راجعون بعد الموت ، ونحن راضون بحكمه . { أولئك } ، يعني أهل هذه الصفة { عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ } . والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء : توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب جميعاً ، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة ، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة ، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله .
ثم قال : { وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون } ، أي الموفقون للاسترجاع . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة ، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال : { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] فلو كان له الاسترجاع ، لقال ذلك؛ وروي عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ ذَكَرَ مُصِيبَةً أَوْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَرْجَعَ ، جَدَّدَ الله ثَوَابَهُ كَيَوْمِ أُصِيبَ بِهَا » وعن عطاء بن أبي رباح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَلْيَتَذَكَّرْ مُصِيبَتَهُ فِيَّ ، فَإِنَّهَا مِنْ أعْظَمِ المَصَائِبِ » وروي هذان الحديثان ، عن علي بن أبي طالب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : نعم العدلان ونعم العلاوة؛ فالعدلان قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ } ، والعلاوة قوله تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون } .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قوله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله } ، قال أهل اللغة : الصفا الحجارة الصلبة التي لا تنبت بها شيء . والواحدة : صفاة . يقال : حصى وحصاة . والمروة : الحجارة اللينة . والشعائر : علامة متعبداته . واحدها شعيرة . يعني أن الطواف بالصفا والمروة من أمور المناسك ، { فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . وروي عن ابن عباس ، وأنس بن مالك أنهما كانا يقرآن كذلك . ومعنى ذلك ، أن من حج البيت أو اعتمر فترك السعي ، لا يفسد حجه ولا عمرته ، ولكن يجب عليه جبر النقصان وهو إراقة الدم ، وفي مصحف الإمام { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } بحذف كلمة ( لا ) . وذلك أن أهل الجاهلية كان لهم صنمان على الصفا والمروة : أحدهما يقال له ( اساف ) والآخر ( نائلة ) ، وكان المشركون يطوفون بين الصفا والمروة ويستلمون الصنمين . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة القضاء ، كان الأنصار لا يسعون فيما بين الصفا والمروة ويقولون : السعي فيما بينهما من أمر المشركين فنزلت هذه الآية . ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، طاف بالبيت والمسلمون معه ، فلما سعى بين الصفا والمروة ، رفع المسلمون أزرهم ، وشمروا قمصهم كيلا يصيب ثيابهم ذينك الصنمين ، فنزل قوله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله } يعني من أمور المناسك . { فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ، يعني لو أصاب ثيابه من ذلك لا يضره ولا إثم عليه؛ فخرج عمر فتناول المعول وكسر الصنمين .
قال الفقيه : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا علي بن أحمد قال : حدثنا محمد بن الفضل ، عن يعلى بن منبه ، عن صالح بن حيان ، عن أبي بريدة ، عن أبيه قال : دخل جبريل عليه السلام المسجد ، فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائماً في ظل الكعبة فأيقظه فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب ، فانطلق به نحو باب بني شيبة فلقيهما ميكائيل . فقال جبريل لميكائيل : ما يمنعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أجد من يده ريح نحاس . فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أفعلت ذلك؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم نسي ذلك ثم ذكر فقال : « صَدَقَ أَخِي ، مَرَرْتُ أوَلَ أَمْسٍ عَلَى إِساف وَنَائِلَةَ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى أَحَدِهِما وَقُلْتُ : إنَّ قَوْماً رَضُوا بِكُمَا آلِهَةً مَعَ الله هُمْ قَوْمُ سُوءٍ »
قال صالح : قلت لأبي بريدة : وما أساف ونائلة؟ قال : كانا إنسانين من قريش يطوفان بالكعبة ، فوجدا فيها خلوة فراود أحدهما صاحبه ، فمسخهما الله تعالى نحاساً ، فجاءت بهما قريش وقالوا : لولا أن الله رضي بأن نعبد هذين الإنسانين ما مسخهما نحاساً .
وأساف كان رجلاً ونائلة كانت امرأة . قال الزجاج : الجناح في اللغة : أخذ من جنح إذا مال وعدل عن المقصد . وأصل ذلك من جناح الطير .
قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } . قرأ حمزة والكسائي { يَطَوَّعْ } بالياء وجزم العين ، لأن الأصل يتطوع فأدغمت التاء في الطاء وشددت . وقرأ الباقون { وَمَن تَطَوَّعَ } على معنى الماضي والمراد به الاستقبال ، يعني إذا زاد في الطواف حول البيت على ما هو واجب عليه ، { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ } يقبل منهم ، { عَلِيمٌ } بنياتهم وبما نووا وقال القتبي : يطوف أصله يتطوف فأدغمت التاء في الطاء . ويقال : الجناح : الإثم . ويقال إن الله شاكر عليم يقبل اليسير ويعطي الجزيل ويقال : إن الله شاكر بقبول أعمالكم عليم بالثواب . ويقال : الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ، لأنهم يقدرون على الصلاة إذا رجعوا إلى منازلهم ، ولا يمكنهم الطواف إلا في ذلك الوقت ، فالله تعالى قد حثّ على الطواف بقوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات } نزلت في شأن رؤساء اليهود ، منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وابن صوريا ، يقول : يكتمون ما أنزلنا في التوراة من البينات : الحلال والحرام وآية الرجم . { والهدى } ، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم { مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي الكتاب } ، أي في التوراة . ويقال : في القرآن { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } ، أي يخذلهم الله ويلعنهم اللاعنون قال ابن عباس : وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره ، سئل من ربك وما دينك؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : ما دريت فهكذا كنت في الدنيا ، ثم يضربه ضربة يصيح منها صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ، فلا يسمع صوته شيء إلا يلعنه . فذلك قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } وروي عن ابن مسعود أنه قال : إذا تلاعن اثنان ، فإن كان أحدهما مستحقاً للعنة رجعت اللعنة إليه ، وإن لم يكن يستحق أحدهما اللعنة ارتفعت اللعنة إلى السماء ، فلم تجد هناك موضعاً فتنحدر فترجع إلى الذي تكلم بها إن كان أهلاً لذلك؛ وإن لم يكن أهلاً لذلك رجعت إلى الكفار ، وفي بعض الروايات إلى اليهود . فذلك قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } .
ثم استثنى التائبين من اللعنة ، فقال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } من الكفر واليهودية { وَأَصْلَحُواْ } أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم . ويقال : معناه وأصلحوا لمن أفسد من السفلة ، وبينوا صفته في كتبهم . قوله : { فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } ، أي أتجاوز عنهم . { وَأَنَا التواب الرحيم } المتجاوز لمن تاب ورجع فتقبل توبته .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
{ إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } ، أي ثبتوا على كفرهم حتى ماتوا على ذلك . { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ } . قال الكلبي : يعني لعنة المؤمنين خاصة . وقال بعضهم : يلعنهم لعنة جميع الناس ، لأن من يخالف دينهم يلعنهم في الدنيا ، وأهل دينهم يلعنونهم في الآخرة ، كما قال في آية أخرى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين } [ العنكبوت : 25 ] ثم قال : { خالدين فِيهَا } ، أي في اللعنة . ولعنته : عذاب النار أي ما توجبه اللعنة . { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } ، يعني لا يهون عليهم طرفة عين . { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ، يعني لا يؤجلون .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
{ وإلهكم إله واحد } قال مقاتل : يعني ربكم رب واحد . وقال الضحاك : كان لمشركي العرب ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله تعالى ، فدعاهم الله إلى التوحيد والإخلاص لعبادته فقال : { وإلهكم إله واحد } . ويقال : نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم : المانوية فكان رئيسهم يقال له : ماني ، فقال لهم أرى الأشياء زوجين وضدين ، مثل الليل والنهار والنور والظلمة والحر والبرد والخير والشر والسرور والحزن والذي يصلح للشيء لا يصلح لضده ، فمن كان خالق النور والخيرات لا يكون خالق الشر والظلمات؛ فهما اثنان : أحدهما يخلق الشر والآخر يخلق الخير ، فنزلت هذه الآية { وإلهكم إله واحد } ، أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها .
وقوله تعالى : { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } ، قال بعض الناس : هذا الكلام نصفه كفر ، وهو قوله : لاَ إله ، ونصفه إيمان وهو قوله : { إِلاَّ هُوَ } . ولكن هذا الكلام ليس بسديد ، لأن الله تعالى أمر رسوله بأن يأمرهم حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر . وقال بعضهم : النصف الأول منسوخ والنصف الثاني ناسخ . وهذا أيضاً لا يصح ، لأن المنسوخ هو الذي كان مباحاً قبل النسخ والكفر لم يكن مباحاً أبداً . وأحسن ما قيل فيه : إن قوله : { لا إله } نفي معبود الكفار ، وقوله : { إِلاَّ هُوَ } إثبات معبود المؤمنين . أو نقول : { لا إله } نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية ، وقوله { إِلاَّ الله } إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
لما نزلت هذه الآية ، أنكر المشركون توحيد الله تعالى ، وطلبوا منه دليلاً على إثبات وحدانيته؛ فنزلت هذه الآية { إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض } ، يعني في خلق السموات والأرض دليل على وحدانية الله في أنه خلقها بغير عمد ترونها وزينها بمصابيح ، والأرض بسطها أيضاً وجعل لها أوتاداً وهي الجبال وفجر فيها الأنهار وجعل فيها البحار . { واختلاف اليل والنهار } ، يعني في مجيء الليل وذهاب النهار ، ومجيء النهار وذهاب الليل . ويقال : اختلافهما في الكون . ويقال : نقصان الليل وتمام النهار ، ونقصان النهار وتمام الليل . { والفلك التى تَجْرِى فِى البحر } . يعني السفن . ويقال للسفينة الواحدة : الفلك ولجماعة السفن : الفلك . يعني السفن التي تسير في البحر ، فتقبل مرة وتدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر { بِمَا يَنفَعُ الناس } من الكسب والتجارة وغير ذلك .
وقوله : { وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء } ، يعني المطر الذي ينزل من السماء ، { فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي اخضرت الأرض بعد يبسها { وَبَثَّ فِيهَا } ، يقول : خلق في الأرض { مِن كُلّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح } ؛ قرأ حمزة والكسائي : { الريح } بغير ألف والباقون : { الرياح } بالألف . واختار أبو عبيدة في قراءته : أن كل ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف ، وكل ما في القرآن من ذكر الرحمة : الرياح بالألف ، واحتج بما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هاجت الريح قال : « اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً » ومعنى قوله تعالى { وَتَصْرِيفِ الرياح } أي هبوب الريح مرة جنوباً ومرة شمالاً ومرة صباً ومرة دبوراً .
قوله تعالى : { والسحاب المسخر } ، أي المذلل والمطوع ، { بَيْنَ السماء والارض لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، أي في هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية ، آيات لوحدانيته لمن كان له عقل وتمييز . ويقال : هذه الآية تجمع أصول التوحيد ، وقد بيّن فيها دلائل وحدانيته ، لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين مختلفين في التدبير ، لفسد الأمر باختلافهما . كما قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنبياء : 22 ] .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{ وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا } ، يعني بعض الناس وصفوا لله شركاء وأعدالاً وهي الأوثان . { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله } ، قال بعضهم : معناه يحبون الأوثان كحبهم لله تعالى ، لأنهم كانوا يقرون بالله تعالى . وقال بعضهم : معناه ، يحبون الأوثان كحب المؤمنين لله تعالى { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } ، لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء ، فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها؛ والمؤمنون يعبدون الله تعالى في حال الرخاء والشدة ، فهذا معنى قوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } . فإن قيل : إذا كان المؤمنون أشد حباً لله فما معنى قوله : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله } ؟ قيل له : يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حباً ، وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين ، وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حباً لله . والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه ، فكل من كان أطوع لله فهو أشد حباً له . كما قال القائل :
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَاِدقاً لأَطَعْتَه ... إِنَّ المُحْبَّ لِمَنْ يُحْبُّ مُطِيعُ
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ } يا محمد . { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } ، يعني حين يرون العذاب . { أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا } ، وفي الآية مضمر ومعناه : يا محمد لو رأيت الذين ظلموا في العذاب ، لرأيت أمراً عظيماً؛ كما تقول : لو رأيت فلاناً تحت السياط فيستغني عن الجواب ، لأن معناه مفهوم . فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب ، لأن المعنى معلوم . قرأ نافع وابن عامر : { وَلَوْ تَرَى } بالتاء على معنى المخاطب للنبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الباقون : بالياء؛ ومعناه ولو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة ، أن الأوثان لا تنفعهم شيئاً وأن القوة لله جميعاً ، تركوا عبادتها . وقرأ ابن عامر { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله؛ وقرأ الباقون بنصب الياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الحسن وقتادة : { أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا } على معنى الابتداء ، وقرأ العامة { أَنَّ القوة لِلَّهِ } بالنصب على معنى البناء ، يعني بأن القوة لله جميعاً { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } ، يعني للرؤساء والاتباع من أهل الأوثان .
{ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } ، يعني القادة { مِنَ الذين اتبعوا } وهم السفلة { وَرَأَوُاْ العذاب } ، يقال حين يروا العذاب { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب } ، أي العهود والحلف التي كانت بينهم في الدنيا . وقال القتبي : الأسباب يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا . وقال بعضهم { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب } ، أي الخلة والمواصلة ، كما قال في آية أخرى : { الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ؛ ويقال : الأرحام والمودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا } ، أي السفلة : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } ، أي رجعة إلى الدنيا؛ وذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم ولا ينفعونهم شيئاً ، ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا ويقولون في أنفسهم : لو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } ، أي من القادة { كَمَا * تَنقِمُ مِنَّا } القادة . قال الله تعالى : { كذلك يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ } لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة ، لأنها كانت لغير وجه الله تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم . وقوله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } ، يعني التابع والمتبوع والعابد والمعبود .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
{ النار يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيّباً } ، وذلك أن قوماً من العرب مثل بني عامر وبني مدلج وخزاعة وغيرهم ، حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل الله من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وغير ذلك ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : { النار يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيّباً } من الحرث والأنعام ، وحلالاً نصب على الحال . { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } ، يعني طاعات الشيطان . وقال مقاتل : يعني تزيين الشيطان . ويقال : وساوس الشيطان . وقال القتبي : الخطوات جمع الخطوة . وقال الزجاج : خطواته أي طرقه ، ومعناه : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ، أي ظاهر العداوة .
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء } ، يعني بالإثم والقبيح من العمل . ويقال : السوء الذي يجب به الحبس والحساب ، والفحشاء : التي يستوجب بها العقوبة في النار . ويقال : السوء الذي يجب به التعزير في الدنيا ، والفحشاء التي يجب بها الحد . { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، يعني أن الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على الله ، لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرم الله علينا .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله } ، أي اعملوا بما أنزل الله في القرآن من تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله . { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } ، يعني ما وجدنا عليه آباءنا . قال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ } ، معناه أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً فيتابعوهم بغير حجة؟ فكأنه نهاهم عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحجة . وهذه الواو مفتوحة وهي واو : أَوَلَو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ وهي ألف الاستفهام .
قرأ أبو عمرو ومن تابعه من أهل البصرة : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كذلك يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } [ البقرة : 167 ] بكسر الهاء والميم ، وكذلك في كل موضع تكون الهاء والميم بعدهما ألف ولام . مثل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 3 ] . وكان عاصم وابن عامر ونافع يقرؤون بكسر الهاء وضم الميم . وكان حمزة والكسائي يقرآن : بضم الهاء والميم . وكان ابن كثير يقرأ : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } بضم الميم ، وكذلك { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } ؛ وكذلك كل ميم نحو هذا مثل : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] ، { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] . وكان نافع في رواية ورش عنه يقرأ : سكون الميم ، إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } [ الكهف : 21 ] ، { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [ نوح : 14 ] . وكان حمزة والكسائي يقرؤون بسكون الميم ، إلا أن يستقبله ألف ولام مثل قوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] .
وأما قوله : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 168 وغيرها ] كان نافع وأبو عمرو وحمزة وعصام في رواية أبي بكر يقرؤون { خطوات } بجزم الطاء . وقرأ الكسائي وابن كثير وعاصم في رواية حفص : { خطوات } بضم الطاء؛ وهما لغتان ومعناهما واحد .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
ثم قال تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } . فهذا مثل ضربه الله تعالى لأهل الكفر ، إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئاً سوى ما يسمعون من النداء . وفي الآية إضمار ومعناه : مثلك يا محمد مع الكفار ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً . وهذا قول الزجاج . وقال القتبي : قال الفراء : ومثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ . كما قال تعالى : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] . وقال القتبي أيضاً : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } ، يعني ومثلنا في وعظهم ، فحذف اختصاراً إذ كان في الكلام ما يدل عليه ، { كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ } ، يعني الراعي إذا صاح في الغنم لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فحسب ، ولا تفهم قولاً ولا تحسن جواباً ، فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ . { صُمٌّ } عن الخبر فهم لا يسمعون { بِكُمْ } ، أي خرس لا يتكلمون بالحق { عَمِىَ } لا يبصرون الهدى . ويقال : كأنّهم صم ، لأنهم يتصاممون عن سماع الحق . { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } الهدى .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } ، يعني من الحلال من الحرث والأنعام . { واشكروا للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ، يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضاء الله تعالى فكلوه ، فإن رضي الله تعالى أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه . ويقال : إن محرِّم ما أحل الله مثل محل ما حرم الله . ويقال : في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة ، لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه عليهم الصلاة والسلام لأنه قال لأنبيائه : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] ، وقال لهذه الأمة { كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } وقال في أول الآية : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 168 ] . فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم . قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي؟ فبيّن الله تعالى المحرمات ، فقال : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير } . والميتة سوى السمك والجراد ، والدم يعني الدم المسفوح أي الجاري . كما قال في آية أخرى : { قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 145 ] ، يعني حرم عليكم ، ولحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه . وهذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد؛ وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم ، لأنه لم يدخل فيه الكبد والطحال؛ وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره . { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } ، يعني ما ذبح بغير اسم الله تعالى . والإهلال في اللغة : هو رفع الصوت . وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا ، رفعوا الصوت بذكر آلهتهم؛ فحرم الله تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم الله تعالى . وفي الآية دليل : أنه إذا ترك التسمية عمداً لا يؤكل ، لأنه قد ذبح بغير اسم الله تعالى .
ثم إن الله تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة ، فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر } . قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو : { فَمَنِ اضطر } بكسر النون وقرأ الباقون بالضم؛ وهما لغتان ومعناهما واحد . يقول : فمن أجهد إلى شيء مما حرم الله إلى أكل الميتة { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، يعني غير مفارق الجماعة ولا عاد على المسلمين بالسيف؛ فمن خرج لقطع الطريق ، أو خرج على إمام المسلمين فلا رخصة له عند بعضهم .
وقال بعضهم : من خرج في معصية فلا رخصة له . وقال بعضهم : كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء أخرج للمعصية أو غيرها . وهذا قول أصحابنا . ومعنى قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } ، أي غير طالب للحرام ولا راض بأكله . { وَلاَ عَادٍ } ، يعني لا يعود إلى أكله بعد أكل مقدار ما يسد به الرمق .
وروي عن ابن عباس نحو هذا . قال : حدثنا محمد بن سعيد الترمذي قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال : من أكل شيئاً من هذه الأشياء وهو مضطر ، فلا حرج عليه؛ ومن أكله وهو غير مضطر ، فقد بغى واعتدى .
ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له أكل الميتة . قال بعضهم : إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي . وروي عن ابن المبارك أنه قال : إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز . وقال بعضهم : إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض .
وقد اختلفوا أيضاً في أكله : قال بعضهم : أكله حرام إلا أنه لا إثم عليه ، ألا ترى أنه قال في سياق الآية : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقال بعضهم : هو حلال ولا يسعه تركه ، لأنه قال في آية أخرى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } [ الأنعام : 119 ] ، فلما استثني منه ثبت أنه حلال . وروي عن مسروق أنه قال : من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار .