كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
ويقال : إن بعض الصحابة كانوا في سَفْرَة فشربوا منها بعد التحريم ، ولم يعرفوا تحريمها . فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل : { وَلَيْسَ *** عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } يعني : شربوا قبل تحريمها ، { إِذَا مَا اتقوا } الشرك ، { وَءامَنُواْ } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، والقرآن { وَعَمِلُواْ الصالحات ثُمَّ اتَّقَواْ } المعاصي { وَءامَنُواْ } يعني : صدقوا بعد تحريمها { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين } في أفعالهم ويقال : معناه ليس عليهم جناح فيما طعموا قبل تحريمها إذا اجتنبوا شربها بعد تحريمها .
وروى عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان ، وقالوا هي لنا حلال وتأولوا قوله { لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر : أن ابعثهم إليّ ، قبل أن يفسدوا من قِبَلك . فلما قدموا على عمر ، جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما ترون؟ فقالوا : إنهم قد افتروا على الله كذباً ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به ، فاضرب أعناقهم ، وعليّ ساكت فقال : يا عليّ ما ترى؟ قال : أرى أن تستتيبهم ، فإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة ، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم ، فاستتابهم فتابوا ، فضربهم ثمانين جلدة وأرسلهم .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَىْء مّنَ الصيد } يعني : ليختبرنّكم الله . والاختبار من الله هو إظهار ما علم منهم بشيء من الصيد . يعني : ببعض الصيد . فتبعيضه يحتمل أن يكون معناه : ما داموا في الإحرام ، فيكون ذلك بعض الصيد ، ويحتمل أن يكون على معنى التخصيص ، يحمل ذلك على وجه تبيين جنس من الأجناس كما قال : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ] ويحتمل بعض الصيد ، يعني صيد البر دون صيد البحر ، { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني : تأخذونه بأيديكم بغير سلاح ، مثل البيض والفراخ ، { ورماحكم } يعني : تأخذونه بسلاحكم ، وهو الكبار من الصيد ، { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } يعني : يميز الله من يخاف من الذين لا يخافون .
وبيّن فضل الخائفين : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } يعني : من أخذ الصيد بعد النهي { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : وجيع يعني الكفارة والتعذيب في الدنيا والآخرة ، والعذاب إن مات بغير توبة .
ثم قال : { أَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يعني : وأنتم محرمون ويقال : وأنتم محرمون أو في الحرم . ثم بيّن الكفارة فقال : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } يعني : عليه الفداء مثل ما قتل . قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي : { فَجَزَاء مّثْلُ } بتنوين الهمزة وبضم اللام . وقرأ الباقون : بالضم بغير تنوين وبكسر اللام . فأما من قرأ : بالتنوين . فمعناه : فعليه جزاء ، ثم صار المثل نعتاً للجزاء . وأما من قرأ : بغير تنوين فعلى معنى الإضافة إلى الجزاء يعني : عليه جزاء ما قتل من النعم ، يشتري بقيمته من النعم ويذبحه . يعني : إذا كان المقتول يوجد النعم .
ثم قال : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } يعني : رجلان مسلمان عدلان ينظران إلى قيمة المقتول ، ثم يشتري بقيمته { هَدْياً بالغ الكعبة } يعني : يبلغ بالهدي مكة ويذبحه هناك ويتصدق بلحمه على الفقراء . { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين } يعني : إن شاء يشتري بقيمته طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من حنطة { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } يعني : يصوم مكان كل نصف صاع من حنطة يوماً . قال ابن عباس : إنما يقوّم لكي يعرف مقدار الصيام من الطعام؛ فهو بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة إن شاء أطعم ، وإن شاء أهدى ، وإن شاء صام . قرأ نافع وابن عامر : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين } بغير تنوين على معنى الإضافة . وقرأ الباقون { كَفَّارَةُ } بالتنوين والطعام نعتاً لها .
ثم قال : { لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } يعني : عقوبة ذنبه لكي يمتنع عن قتل الصيد .
{ عَفَا الله عَمَّا سَلَف } يعني : عما مضى قبل التحريم { وَمَنْ عَادَ } بعد التحريم { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } يعني : يعاقبه الله تعالى . ومع ذلك يجب عليه الكفارة . وقال بعضهم : لا يجب عليه الكفارة إذا قتل مرة أخرى .
وروى عكرمة عن ابن عباس : أنه سئل عن المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه ، ثم يصيبه أيضاً قال : لا يحكم عليه ، وتلا هذه الآية { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } فذلك إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه . وعن شريح : أن رجلاً أتاه فسأله أن يحكم عليه فقال له شريح : هل أصبت صيداً قبله؟ قال : لا . قال : لو كنت أصبته قبل ذلك لم أحكم عليك . وقال بعضهم : سواء قتل قبل ذلك أو لم يقتل فهو سواء . لأنه قاتل في المرة الثانية كما هو قاتل في المرة الأولى .
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم حكموا ولم يسألوه أنك أصبت قبل ذلك أم لا . وروى ابن جريج عن عطاء أنه سئل عن قوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } قال : يعني : ما كان في الجاهلية . ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، ومع ذلك عليه الكفارة . وروى سعيد بن جبير مثله . وقد قال بعض الناس : إنه إذا قتل خطأ فلا تجب عليه الكفارة . وهذا القول ذكر عن طاوس اليماني .
وقال غيره : تجب عليه الكفارة . وروى ابن جريج عن عطاء قال سألت عن قوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً } فلو قتله خطأ أيغرم؟ قال : نعم يعظم بذلك حرمات الله . ومضت به السنن . وعن الحسن قال : يحكم عليه في الخطأ والعمد . وعن إبراهيم النخعي وعن مجاهد مثله . وبهذا القول نأخذ ونقول : بأن العمد والخطأ سواء ، والمرة الأولى والثانية سواء . ثم قال تعالى : { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } من أهل المعصية آخذ الصيد بعد التحريم . ويقال : { وَمَنْ عَادَ } مستحلاً أو مستخفاً بأمر الله تعالى { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } يعني : يعذبه الله تعالى { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } يعذب من عصاه .
قوله تعالى :
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر } يعني : للمقيمين والمسافرين . وهي السمكة المالحة . ويقال : { وَطَعَامُهُ } ما نضب الماء عنه فأخذ بغير صيد ميتاً . ويقال : كل ما سقاه الماء فأنبت من الأرض فهو طعام البحر .
قال الفقيه : حدّثنا الفضل بن أبي حفص . قال : حدّثنا أبو جعفر الطحاوي . قال : حدّثنا محمد بن خزيمة قال : حدّثنا حجاج بن المنهال قال : حدّثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : كنت في البحرين ، فسألني أهل البحرين عما يقذف البحر من السمك ، فقلت : كلوه . فلما رجعت إلى المدينة سألت عن ذلك عمر بن الخطاب فقال : ما أمرتهم به؟ فقلت : أمرتهم بأكله فقال : لو أمرتهم بغير ذلك لضربتك بالدرة . ثم قرأ عمر : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ } فصيده ما صيد وطعامه : ما رمي به .
ثم قال : { وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } يعني : ما دمتم محرمين فلا تأخذوا الصيود { واتقوا الله } فلا تأخذوه في إحرامكم { الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيجزيكم بأعمالكم .
قوله تعالى :
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{ جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ } يعني : لجأ إلى الحرم آمناً للناس . كان الرجل إذا أصاب ذنباً أو قتل قتيلاً ثم لجأ إلى الحرم آمناً بذلك . ويقال : قياماً للناس يعني قواماً لمعايشهم . قرأ ابن عامر : { قَيِّماً } على جهة المصدر وقرأ الباقون : { قِيَاماً } على جهة الاسم والمصدر . وإنما سميت الكعبة كعبة لارتفاعها . ولهذا سمي الكعبان . ويقال للجارية : إذا نهدت ثدياها قد كعبت ثدياها وهي كاعب كما قال : { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } [ النبأ : 33 ] .
ثم قال : { والشهر الحرام والهدى والقلائد } يعني : جعل الشهر الحرام والهديَ والقلائد آمناً للناس وقواماً لمعايشهم ، لأنهم كانوا إذا توجهوا إلى مكة ، وقلّدوا الهدي ، أمنوا . ويقال : { جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ } يعني : معالم للناس . وقال مقاتل بن حيان : يعني : علماً لقبلتهم يصلون إليها . وقال سعيد بن جبير : صلاحاً لدينهم . وحرم عليهم الغارة في الشهر الحرام . وأخذ الهدي والقلائد في الشهر الحرام . { ذلك } الذي جعل الله من الأمن { لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } يعني : لتعلموا أن الله يعلم صلاح ما في السموات وما في الأرض .
{ وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } يقول : عليم بكل شيء من صلاح الخلق ويقال : هو مردود إلى ما أنبأ الله تعالى على لسان نبيه في هذه السورة من أخبار المنافقين ، وإظهار أسرارهم . فقال : ذلك الذي ذكر الله تعالى لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم من السر والعلانية .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{ اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } يعني : إذا عاقب فعقوبته شديدة لمن عصاه { وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أطاعه .
قوله تعالى : { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } يعني : أن الرسول ليس عليه طلب سرائرهم ، وإنما عليه بتبليغ الرسالة ، والله تعالى هو الذي يعلم سرائرهم .
قوله تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب } يعني : لا يستوي الحلال والحرام . قال في رواية الكلبي : نزلت في شأن حَجَّاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأخبرهم أن أخذ ماله حرام .
{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } يعني : كثره مال شريح بن ضبيعة { واتقوا الله } لا تستحلوا ما حرم الله عليكم { واتقون يأُوْلِي الالباب } يا ذوي العقول { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } يعني : تأمنون من عذابه . وروى أسباط عن السدي أنه قال : { الخبيث } هم المشركون { والطيب } هم المؤمنون . وقال الضحاك : { لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب } يعني : صدقة من حرام لا تصعد إلى الله تعالى ، لا توضع في خزائنه . وصدقة من حلال تقع في يد الرحمن يعني : يقبلها .
{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ } يعني : مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام .
وقوله تعالى : { تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ : { فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] وقال : «يا أيها الناس كتب عليكم الحج» فقام رجل فقال : في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه . ثم عاد فقال : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ ، وَلَوْ وَجَبَ مَا اسْتَطَعْتُمُوهُ ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ " ثم قال : " إنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ أو قال : مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ "
ونزل :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وعن أبي عوانة أنه قال : سألت عكرمة عن قوله تعالى : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال : ذلك يوم قام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فأكثروا عليه فغضب . وقال : " لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ " فقام رجل فكره المسلمون يومئذٍ مقامه . فقال : يا رسول الله من أبي؟ فقال : «حُذَافَةُ» يعني : رجلاً غير أبيه فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله رضينا بالله رباً ، وبك نبياً ، فنزلت هذه الآية { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
وروي في خبر آخر أن رجلاً سأله فقال : أين أبي؟ فقال : «فِي النَّارِ» .
وروي عن نافع أنه سئل عن هذه الآية فقال : لم تنزل منذ قط كثرة السؤال تكره . ثم قال تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ } يعني : وقت الذي ينزل جبريل { تُبْدَ لَكُمْ } يعني : تظهر لكم . ويقال : فيها تقديم يعني : وإن تسألوا عنها تبد لكم حين نزول القرآن . ثم قال : { عَفَا الله عَنْهَا } يعني . عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم { والله غَفُورٌ } ذو التجاوز { حَلِيمٌ } حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة . ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } يعني : عن هذه الأشياء { مِن قَبْلِكُمْ } حيث سألوا المائدة من عيسى ، وغيرهم سألوا أنبيائهم أشياء { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كافرين } يعني : صاروا كافرين .
قوله تعالى :
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } يعني : ما جعل الله حراماً من بحيرة ، لقولهم : إن الله أمرهم بتحريمها . ونزلت في مشركي العرب ، فكانت الناقة إذا ولدت البطن الخامس ، فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه للآلهة ، وكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن مات أكله الرجال والنساء . وإن كان الولد الخامس أنثى شَقُّوا أذنها وهي البحيرة ، ثم لا يُجَزّ لها وبر ولا يُذكر عليه اسم الله ، وألبانها للرجال دون النساء . فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء . { وَلاَ سَآئِبَةٍ } وأما السائبة : فهي الأنثى من الأنعام كلها . إذا قدم الرجل من سفره ، أو برأ من مرضه ، أو بنى بناءً ، سيّب شيئاً من الأنعام للآلهة ، وخرجها من ملكه ، ويسلمها إلى سدنة البيت لآلهتهم ، ولا يركبونها . وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء . { وَلاَ وَصِيلَةٍ } وأما الوصيلة : فهي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن . فإن كان الولد السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم ، وكان لحمه للرجال دون النساء؛ وإن كانت عناقاً ، كانوا يستعملونها بمنزلة سائر الغنم . وإن كان جدياً وعناقاً ، قالوا : إن الأخت قد وصلت بأخيها ، فحرمتا جميعاً ، وكانت المنفعة للرجال دون النساء . وإن ماتا تشارك الرجال والنساء .
{ وَلاَ حَامٍ } وأما الحام : فهو الفحل من الإبل إذا ركب ولده . قالوا : قد حمى ظهره فيهمل ، ولا يحمل ، ولا يركب ، ولا يمنع من المياه ، ولا عن المراعي ، فإذا مات أكله الرجال والنساء . وكانوا يقولون : هذه الأشياء كلها من أحكام الله تعالى .
قال الله تعالى : ما حرّم الله هذه الأشياء { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } . وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنِّي أعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيِّبَ السَّوَائِبِ ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ » قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : « عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ أخُو بَنِي كَعْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصبَهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي ريحُهُ أهْلَ النَّارِ ، وَإنِّي لأعْرِفُ مَنْ بَحَّرَ البَحَائِرَ » قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : « رَجُلٌ مِنْ بَنِي مدْلِج كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما ، وَحَرَّمَ ألْبَانَهُمَا ، ثُمَّ شَرِبَ ألْبَانَهُمَا بَعْدَ ذلك . فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُوَ وَهُمَا يَعضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا ، وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا » ثم قال تعالى : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يعني : ليس لهم عقل يعقلون أن الله هو المحلل والمحرم ، وليس لغيره أن يحل ويحرم .
ثم أخبر عن جهلهم فقال :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا إلى مَا أنزل الله وإلى الرَّسُول } من تحليل ما حرمتم على أنفسكم ، وما بيّن رسوله . ويقال : تعالوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } من الدين والسنة .
قال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله } يعني : أيتبعون آباءهم وإن كان آباؤهم جهالاً ، فنهاهم الله عن التقليد ، وأمرهم بالتمسك بالحق وبالحجة .
وقوله تعالى : { يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } معناه : الزموا أنفسكم كما تقول : عليك زيداً ، معناه : الزم زيداً . معناه : الزموا أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم . { لاَ يَضُرُّكُمْ } وأصل اللغة : لا يضرركم . فأدغم أحد الراءين في الثاني ، وضمت الثانية لالتقاء الساكنين . وهذا جواب الشرط وموضعه الجزم .
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال : إذا رأيتم شُحًّا مطاعاً ، وهوًى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليكم بخويصة أنفسكم . وروى عمر بن جارية اللخمي عن أبي أمية قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ . فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً ، وَشُحّاً مُطاعاً ، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأي بِرَأيِهِ ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ . فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ المُتَمِسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً " قالوا : يا رسول الله كأجر خمسين عاملاً منهم قال : " لا بَلْ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ " وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال : يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية على غير تأويلها . إنه كان رجال طعموا بالإسلام ، وذاقوا حلاوته ، وكانت لهم قرابة من المشركين . فأرادوا أن يذيقوهم حلاوة الإسلام ، وأن يدخلوهم في الإسلام . فنزل { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } . والذي نفس أبي بكر بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده .
وروي عن أبي العالية أنه قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود ، فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال بعضهم : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف؟ فقال بعضهم : عليك نفسك إن الله تعالى يقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } يقول : لا يضركم ضلالة من ضلّ { إِذَا اهتديتم } فقال ابن مسعود : مه لم يجىء تأويل هذه الآية ، بعد . فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعاً ، فمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء فعند ذلك جاء تأويلها .
وقوله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } يقول : لا يضركم ضلالة من ضلّ { إِذَا اهتديتم } إذا ثبتم على الحق { إِلَى الله } تعالى { مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا .
وقال في رواية الكلبي نزلت في «منذر بن عمرو» بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر ليدعوهم إلى الإسلام ، فأبوا الإسلام ، فوضع عليهم الجزية فقال : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } من أهل هجر ، وأقر بالجزية { إِذَا اهتديتم } إلى الله يعني آمنتم بالله .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ } { شَهَادَةً } : رفع بالابتداء وخبره ( اثنان ) ومعناه : شهادتكم فيما بينكم اثنان مسلمان عدلان { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } فأراد أن يشهد على وصيته ، وكان مقيماً . ولم يكن مسافراً فليُشهد على وصيته اثنين مسلمين { حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض } يعني : إذا كنتم في السفر ولم تقدروا على مسلمين ، فأشهدوا رجلين من غيركم يعني : من غير أهل دينكم . وروى مغيرة عن إبراهيم قال : إذا كان الرجل في سفر فلم يجد المسلمين يشهدهما على وصيته ، فيشهد غير أهل دينه . فإن اتهما حبسا من بعد الصلاة فيغلظ عليهما في اليمين؛ وإن شهد رجلان من الورثة أنهما خانا وكذبا صدقا بما قالا ، وأخذ من الآخرين يعني : من الشاهدين ما ادعي عليهما .
وروي عن مجاهد أنه قال : إذا مات المؤمن في السفر لا يحضره إلا كافران أشهدهما على ذلك . فإن رضي ورثته مما حلفا عليه من تركته فذلك . ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان ، فإن ظهر أنهما خانا ، حلف اثنان من الورثة ، وأبطلا أيمان الشاهدين .
وروي عن شريح أنه قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في السفر ، ولا تجوز في السفر إلا على الوصية ، وهكذا قال إبراهيم النخعي . وبه قال ابن أبي ليلى . واحتجوا بظاهر هذه الآية . وقال علماؤنا : لا يجوز شهادة الذمي على المسلم في الوصية ولا في غيره .
وروي عن عكرمة أنه قال : { يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة } قال : من غير عشيرتكم . وكذلك قال الحسن : { يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة } يعني : من غير قبيلتكم ، كلهم من أهل العدالة . قال : ألا ترى إلى قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة } وقال زيد بن أسلم : كان ذلك في رجل توفي ، وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك كان في أول الإسلام ، والأرض أرض الحرب ، والناس كفار ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة .
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال : { يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة } قال : هي منسوخة وقال الضحاك : نسخت هذه الآية بقوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] ورفع اليمين عن الشهود ، وأبطل شهادة أهل الذمة إلا بعضهم على بعض . ويقال : لنزول هذه الآية قصة . وذلك أن ثلاثة نفر خرجوا إلى السفر : تميم الدّاري ، وعدي بن زيد ، وبديل بن ورقاء مولى العاص بن وائل السهمي أبي عمرو بن العاص ، فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلماً ، وأوصى إلى تميم الدّاري وإلى عدي بن زيد وكانا نصرانيين ، وأمرهما أن يسلّما أمتعته إلى أهله ، وكتب أسماء الأمتعة ، وأدرجه في ثيابه .
فلما قدما المدينة وسلما المتاع إلى أهله ، فوجد أهله الكتاب وفيه أسماء الأمتعة ، وفيه جام فضة لم يسلماه إليهم . فخاصمهما المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت الآية : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض } { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } بموت بديل بن ورقاء { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة } يعني : صلاة العصر . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس بعد صلاة العصر . فحلَّف الشاهدين ، فحلفا أنهما لم يكتما شيئاً ، فذلك قوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض } يعني : سافرتم في الأرض ، فأصابتكم في السفر مصيبة الموت يعني : موت بديل بن ورقاء ، { تَحْبِسُونَهُمَا } يعني : تقيمونهما من بعد الصلاة يعني : صلاة العصر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم { فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم } يعني : ظننتم بالشاهدين ريبة أو شككتم في أمرهما { لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } يعني : باليمين . يعني : أن الشاهدين يحلفان بالله أنهما لم يشتريا بأيمانهما ثمناً قليلاً من عرض الدنيا .
{ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } يعني : ذا قرابة معنا في الرحم . لأن الميت كان بينه وبينهما قرابة { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } إن سألنا عن ذلك . فإن كتمناها يعني : الشهادة : { إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاثمين } يعني : الفاجرين .
ثم وجد الجام أي الكأس بعد ذلك في أيديهما يبيعانه في السوق . وقالا : إنا كنا اشتريناه منه ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } يعني : خانا وكتما شيئاً من المال { فَآخَرَانِ } من أولياء الميت { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا } يعني : مقام النصرانيين { مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان فَيُقْسِمَانِ بالله } يعني : يحلف أولياء الميت أن المتاع متاع صاحبنا { لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما } يعني : يمين المسلمين وشهادتهما أحق يعني : أولى من شهادة الكافرين .
{ وَمَا اعتدينا } في الشهادة والدعوى { إِنَّا إِذَا } اعتدينا فحينئذٍ { لَّمِنَ الظالمين } . قرأ عاصم في رواية حفص : { استحق } بنصب التاء . وقرأ الباقون : بضم التاء فمن قرأ بالنصب جعل الذين نعتاً للمدعين ومعناه : فآخران من المستحقين يقومان مقامهما . ومن قرأ بالضم : جعل الذين نعتاً للمدعى عليهم . وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر { الاولين } . وقرأ الباقون : { الاوليان } . فمن قرأ الأولين ، يجعله خفضاً لأنه بدل من الذين . فكأنه يقول : من الأولين اللذين استحق عليهم . ومن قرأ : { الاوليان } صار رفعاً على البدل مما في { يِقُومَانُ } المعنى : فليقم { الاوليان } بالميت . قال القتبي : { الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان } وهما الوليان . يقال : هذا الأولى بفلان .
ثم يحذف من الكلام بفلان فيقال : هذا الأولى وهذان الأوليان ، كما يقال : هذا الأكبر وهذان الأكبران و { عَلَيْهِمْ } ها هنا يعني : منهم يعني : استحق منهم كما قال الله تعالى : { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } [ المطففين : 2 ] يعني : من الناس يستوفون .
قوله تعالى : { ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة } يعني : ذلك أحرى وأجدر . أن يأتوا بالشهادة . يعني : يقيموا الشهادة { على وَجْهِهَا } كما كانت . يعني : يقيموا شهادة المدعي مقام شهادة المدعى عليه إذا ظهرت الخيانة ، لكي لا يخونا في الشهادة ، ويأتيا بالشهادة على وجهها .
ثم قال : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم } يعني : إذا خافا أن ترد اليمين إلى غيرهما ، امتنعا عن الكذب . وقد احتج بعض الناس بهذه الآية بأن اليمين ترد إلى المدعي ، ولا حجة له فيه ، لأن ردّ اليمين حادثة أخرى ، وهو ظهور الخيانة منهما . لأن دعوى الثاني دعوى الشرى ، ودعوى الأول دعوى الكتمان .
ثم قال : { واتقوا الله } ولا تخونوا { واسمعوا } ما تؤمرون به { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } يعني : الخائنين .
قوله تعالى :
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } { يَوْمٍ } صار نصباً لأن معناه : اتقوا { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } { فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ } يقول : ماذا أجابكم قومكم في التوحيد { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } من هول ذلك اليوم ، ومن شدة المسألة ، وهي في بعض مواطن يوم القيامة قالوا : { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } ما كان وما لم يكن .
وروى أسباط عن السدي قال : نزلوا منزلاً ذهبت فيه العقول فلما سئلوا؟ قالوا : لا علم لنا ثم نزلوا منزلاً آخر ، فشهدوا على قومهم . ويقال : هذا عند زفرة جهنم فلا يبقى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل عند ذلك إلا قال : نفسي نفسي فعند ذلك قالوا : لا علم لنا . ويقال : كان ذلك عند أول البعث ، ثم يشهدون بعد ذلك بتبليغ الرسالة .
قوله تعالى :
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ **اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ } بالنبوة وهذا في الآخرة { وعلى والدتك } ثم بيّن النعمة التي أنعم الله عليه في الدنيا قال : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } يعني : اعنتُك بجبريل عليه السلام و { تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } يعني : بعد ثلاثين سنة حين أوحى الله إليه ، قال الكلبي : فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ، ثم رفعه الله ويقال : أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في الرسالة ثلاث سنين ، ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة .
قال : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة } يعني : الخط بالقلم والحكمة يعني : الفقه والفهم { والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا } وقال في موضع آخر : { وَرَسُولاً إلى بنى إسراءيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أنى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الاكمه والابرص وَأُحْىِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ عمران : 49 ] بلفظ التذكير ، لأنه انصرف إلى الطير . وقال ها هنا { فَتَنفُخُ فِيهَا } بلفظ التأنيث ، لأنه انصرف إلى الهيئة المتخذة . ويقال : فيها يعني في الطين { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى } . قرأ نافع : { ***طائراً } بالألف . وقرأ الباقون : { عَلَيْهِمْ طَيْراً } .
{ وَتُبْرِىء الاكمه والابرص بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى } يعني : تحيي الموتي بإذني . يعني : أحييته بدعائك . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : التقى عيسى ابن مريم عليه السلام وإبليس على عقبة من عقبات بيت المقدس . فقال له إبليس : أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك ، أنك تكلم الناس في المهد صبياً ، وأنك أحييت الموتى ، وتبرىء الأكمه والأبرص . فقال عيسى عليه السلام : بل العظيم الذي بإذنه أحييت الموتى ، وهو الذي أنطقني . فقال إبليس : أنت إله الأرض . فقال عيسى عليه السلام : بل إله الأرض والسماء واحد . فكان في ذلك حتى جاءه جبريل وضربه بجناحه وألقاه في لجج البحار .
ثم قال : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ } إذ هموا بقتلك { إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات } يعني : بالعلامات والعجائب { فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : سحر ظاهر . قرأ حمزة والكسائي : { ساحر } بالألف . وقرأ الباقون : { ساحر } بغير ألف . فمن قرأ بالألف يعني : هذا رجل ساحر . ومن قرأ بغير ألف يعني : هذا الفعل سحر . والاختلاف في أربع مواضع : هاهنا ، وفي سورة يونس ، وفي سورة هود ، وفي سورة الصف . قرأ حمزة والكسائي في هذا كله : بالألف . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر في هذا كله : بغير ألف . وقرأ عاصم وابن كثير : بغير ألف إلا في سورة يونس .
وقوله تعالى :
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } يعني : ألهمتهم وألقيت في قلوبهم . ويقال : أوحيت إلى عيسى ليبلغ الحواريين : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى } يعني : صدقوا بتوحيدي { وَبِرَسُولِى } فلما أبلغهم الرسالة { قَالُواْ ءامَنَّا } يقول : صدقنا بهما { واشهد } يا عيسى { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : مقرون . ويقال : هذا معطوف على أول الكلام . إذ قال الله يا عيسى . وقال له أيضاً : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } يعني : ألهمتهم . وقال مقاتل : يقوم عيسى خطيباً يوم القيامة بهذه الآيات ، ويقوم إبليس خطيباً لأهل النار بقوله : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تَلُومُونِى ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] الآية قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } قرأ الكسائي : بالتاء { هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ } وبنصب الباء . وقرأ الباقون : بالياء وبضم الباء . فمن قرأ : بالتاء { هَلُ تَسْتَطِيعَ *** رَبَّكَ } معناه : هل تستطيع أن تدعو ربك؟ ومن قرأ : بالياء معناه : هل يجيبك ربك؟ { أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء } وذلك أن عيسى لما خرج ، اتبعه خمسة آلاف أو أقل أو أكثر . بعضهم كانوا أصحابه ، وبعضه كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة ، أو كانوا زمنى ، أو عمياناً . وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون ، وبعضهم نظارة . فخرج إلى موضع ، فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة ، فجاعوا . فقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو الله تعالى بأن ينزل علينا مائدة من السماء . فجاءه شمعون . فأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء ف { قَالَ } عيسى : قل لهم { اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
ويقال : هذا القول للحواريين : قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فلا تسألوا لأنفسكم البلاء . فأخبر شمعون بذلك القوم ف { قَالُواْ } لشمعون قل له : { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } يعني المائدة { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } يعني : تسكن قلوبنا إلى ما دعوتنا إليه { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } بأنك نبي { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } لمن غاب عنا ، ولمن بعدنا ، فقام عيسى وصلى ركعتين .
ثم :
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } وكان يوم الأحد ، فصار ذلك اليوم عيداً لهم . ويقال : { عِيداً لَنَا } يعني : حجة لنا { وَءاخِرِنَا } يعني : حجة لمن بعدنا { قَالَ عِيسَى } يعني : نزولها علامة منك لنبوتك { وارزقنا } يعني : وأعطنا المائدة { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } من غيرك .
فأوحى الله تعالى إلى عيسى بقوله : { قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ } ما سألتم من المائدة { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ } يعني : بعد نزول المائدة { مّنكُمْ } ويكفر بعيسى بعد أكله من المائدة { فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ العالمين } يعني : أحداً من الخلق . وقال بعضهم : هذه كلمة تهديد ولم ينزل عليهم المائدة .
وروي في بعض التفاسير أنهم قالوا لعيسى : رضينا بما في هذه الآية . فقال عيسى لشمعون وكان أكبر الحواريين : هل معك شيء من الزاد؟ قال : نعم . فجاءه بخمسة أرغفة ، وسمكتين صغيرتين ، فقطعهما قطعاً صغاراً ثم قال : اجلسوا رفقاء . فقعدوا عشرة عشرة . فألقى عيسى عليه السلام بين كل رفقة قدر ما يحمله بإصبعيه ، فجعل الطعام يزيد حتى جاوز ركبتهم فشبعوا . وفضل خمسة . ثم عاد من الغد ففعل مثل ما فعل بالأمس .
وروي أن الرغيف والسمكتين نزلت من السماء وهم ينظرون إليها . وقيل : كانت مائدة من در وقيل : من بلور وقفت في الهواء . فاجتمعوا يأكلون منها . وروي أن المائدة كان عليها الفواكه ، وكل شيء إلا الخبز واللحم . وروي أن الجميع كانوا خمسة آلاف ونيفاً وروي اثني عشر ألفاً والله أعلم بالصواب .
وقال عامة المفسرين : إن المائدة قد أنزلت عليهم . وروي عن سلمان الفارسي أن عيسى عليه السلام قام ولبس جبة من شعر ، وقام ووضع يمينه على يساره ، وطأطأ رأسه خاشعاً لله تعالى ، وبكى حتى سالت الدموع على لحيته وصدره ، وهو يدعو ويتضرع ، فنزلت مائدة من السماء فوقها منديل والناس ينظرون إليه ، وعيسى عليه السلام ينظر ويبكي ويقول : اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة . حتى استقرت المائدة بين يدي عيسى والناس حوله . قال عيسى : بسم الله وكشف المنديل للناس ، فإذا فيه سمكة مشوية لا شوك فيها . والوَدَكُ يسيل منها ، والخل عند رأسها ، والملح عند ذنبها ، وعليها أربعة أرغفة وعليها ألوان البقول إلا الكراث . فقال : كلوا من رزق ربكم فأكل منها ألف رجل . ويقال : خمسة آلاف رجل . ورجعت المائدة كما كانت . وقال بعضهم : نزلت يوماً واحداً ولم تنزل أكثر من ذلك . وقال بعضهم : ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : سبعة أيام . وقال بعضهم : أكثر من ذلك . فلما رجعوا عن ذلك الموضع شكوا فيه وكفروا ، فمسخهم الله خنازير .
وروي عن ابن عمر أنه قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون .
وروي عن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال : نزلت المائدة خبزاً وسمكة . وعن عطية العوفي قال : كانت سمكة فيها طعم كل شيء .
قوله تعالى :
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{ وَإِذْ قَالَ الله ياأعيسى ابن مَرْيَمَ } يعني : يوم القيامة { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى } روى أسباط عن السدي قال : لما رفع عيسى ، وقالت النصارى ما قالت . وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، سأله عن قولهم . وقال الضحاك : يدعى بعيسى يوم القيامة ، ويدعى بالنصارى ، فيقفهم ، ويسأله ليفضحهم على رؤوس الناس . وقال الزجاج : هو سؤال التوبيخ للذين اعتدوا عليهم ، لأنهم مجمعون أنه صادق وأنه لا يكذبهم الصادق عنده . وذلك أوكد في الحجة عليهم وأبلغ في التوبيخ . والتوبيخ ضرب من العقوبة . ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : { قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ } أخذته الرّعدة من هيبة ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه { قَالَ سبحانك } فنزُّه الرب عن ذلك ، أن يكون أمرهم بذلك . فقال : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } يقول : ما ينبغي وما يجوز لي أن أقول ما ليس لي بحق . يعني : ليس بعدل أن يعبدوا غيرك { إِن كُنتُ قُلْتُهُ } يعني : إن قلت لهم ذلك القول { فَقَدْ عَلِمْتَهُ } فإنك { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى } يعني : ما كان مني في الدنيا { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } يعني : ولا أطلع على غيبك وما كان منك .
وقال أهل اللغة : نفس الشيء : جملة الشيء ، وحقيقته ، وذاته؛ فمعناه : تعلم ما في ضميري ، ولا أعلم ما في حقيقتك وغيبك . { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } ما كان وما يكون . وقيل : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى } التي نسبت إلي ، وأمرتني بالتسليم إليك . { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } التي سلمت إليك ، فأنت مالكها بجميع ما كان وما يكون منها ، وأنت علام الغيوب قبل كونها وكون فعلها . قرأ حمزة : { الغيوب } بكسر الغين ومعناهما واحد . وقرأ نافع وعاصم وابن عامر : { إِنّى مُنَزّلُهَا } بالتشديد . وقرأ الباقون : بالتخفيف . وهما لغتان نَزَل وأنْزَلَ بمعنى واحد .
ثم قال : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ } يعني : في الدنيا بالتوحيد { أَنِ اعبدوا الله } يعني : وحّدوا الله وأطيعوه { رَبّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يعني : على بني إسرائيل ، أي : بلغتهم الرسالة . ويقال : شهيداً يعني : حفيظاً بما أمرتهم { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } يعني : ما دمت مقيماً في الدنيا بين أظهرهم .
{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى } يعني : رفعتني إلى السماء { كُنتُ أنت الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } يعني : الحفيظ والشاهد عليهم . { وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } من مقالتي ومقالتهم . وما أدري ما أحدثوا بعدي { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } قرأ ابن مسعود : { فَإِنَّكَ أَنتَ *** الغفور الرحيم } وقرأ غيره : { العزيز الحكيم } فإن قيل : وكيف سأل المغفرة للكفار .
قيل له : لأن عيسى علم أن بعضهم قد تاب ورجع عن ذلك . فقال : { إِن تُعَذّبْهُمْ } يعني : الذين ماتوا على الكفر ، فإنهم عبادك وأنت القادر عليهم { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } يعني : الذين أسلموا ورجعوا عن ذلك . وقال بعضهم : احتمل أنه لم يكن في كتابه { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } [ النساء : 116 ] فلهذا المعنى دعا لهم ، ولكن التأويل الأول أحسن . ويقال : { ءانٍ تَغْفِرْ لَهُمْ } يعني : لكذبهم الذي قالوا عليّ خاصة ، لا لشركهم . وهذا التأويل ليس بسديد ، والأول أحسن . وروي عن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ذات ليلة ، فردّدها حتى أصبح : { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } الآية وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ومعناه : { إِن تُعَذّبْهُمْ } فإنك أنت العزيز الحكيم { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } فإنهم عبادك قوله تعالى :
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } قرأ نافع : { هذا يَوْمُ } بالنصب . وقرأ الباقون : بالرفع . فمن قرأ بالنصب فعلى الظرف . أي : قال الله تعالى : هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم ومن قرأ : بالرفع فعلى معنى خبر هذا يعني ، هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم . ويقال : ينفع النبيين صدقهم بتبليغ الرسالة . ويقال : ينفع المؤمنين إيمانهم { لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } يعني : ثوابهم جنات تجري من تحتها الأنهار { خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } بالطاعة { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالثواب { ذلك الفوز العظيم } يعني : المؤمنين فازوا بالجنة .
قوله تعالى : { للَّهِ مُلْكُ السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض { وَمَا فِيهِنَّ } من الخلق كلهم عبيده وإماؤه { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : من خلق عيسى من غير بشر والله أعلم بالصواب .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{ الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والارض } وخاتمتها خاتمة سورة هود : { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ هود : 123 ] وقوله تعالى : { الحمد للَّهِ } حمد الرب نفسه ، ودلّ بصنعه على توحيده ، { الذى خَلَق السموات والارض } يعني : خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وخلق الأرض وما فيها { وَجَعَلَ الظلمات والنور } يعني : خلق الليل والنهار . ويقال : الكفر والإسلام . وقال الضحاك : هذه الآية نزلت في شأن المجوس . قالوا : الله خالق النور ، والشيطان خالق الظلمة ، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم ، ورداً عليهم ، فقال : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } يعني : أن الله واحد لا شريك له ، وهو الذي خلق السموات والأرض ، وهو الذي خلق الظلمات والنور { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : المجوس { بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } يعني : يشركون . ويقال { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } يعني : مشركي مكة { بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } يعني : يعبدون الأصنام .
ثم قال : { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } يعني : آدم ، وأنتم من ذريته ومن نسله { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } يعني : أجل ابن آدم منذ يوم ولد إلى يوم يموت . { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } يعني : البرزخ منذ يموت إلى يوم البعث ، فهو مكتوب في اللوح المحفوظ؛ فهذا قول مقاتل والحسن . وقال عكرمة : { أَجَلاً } يعني : أجل الدنيا { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يعني : أجل الآخرة . وهكذا قال سعيد بن جبير : ويقال { أَجَلاً } يعني : أجل واحد { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يعني : يوم القيامة { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } يعني : تشكون في البعث بعد الموت وفي الأجل المسمى .
ثم قال : { وَهُوَ الله فِى * السموات *** وَفِى الارض } يعني : هو المتفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض . وهذا كقوله : { وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله وَهُوَ الحكيم العليم } { صلى الله عليه وسلم } [ الزخرف : 84 ] يعني : وهو خالق السموات والأرض . ويقال : هو الذي يوحد ويقر بوحدانيته أهل السموات والأرض . ويقال : عالم بما في السموات وبما في الأرض . { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } يعني : يعلم سر أعمالكم { وَجَهْرَكُمْ } يعني علانيتكم { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } من الخير والشر فيجازيكم بذلك .
ثم أخبر عن أمر المشركين فقال .
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } ولم يتفكروا فيها ليعتبروا في توحيد الله تعالى . وذلك أن مشركي مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم علامة . وقالوا : إنا نريد أن تدعو لينشق القمر نصفين لنؤمن بك ، وبربك ، ونصدقك . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانشق القمر شقين ، وذهب أحد النصفين إلى جانب حراء ، والآخر إلى جانب آخر وهم ينظرون إليه . وقال ابن مسعود : أنا رأيت حراء بين فلقتي القمر . فأعرضوا عنه فلم يؤمنوا . وقالوا : هذا سحر مبين .
فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر * وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [ القمر : 1 ، 2 ] ونزلت هذه الآية : { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ } يعني : انشقاق القمر { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } .
يقول الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ } يعني : بالقرآن حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، واستهزؤوا بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى .
{ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء } يعني : سيعلمون جزاء تكذيبهم واستهزائهم بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى ويقال : يأتيهم أخبار { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } من العذاب حين رأوها معاينة . فهذا وعيد لهم أنه يصل إليهم العذاب إما في الدنيا ، وإما في الآخرة .
ثم وعظهم ليخافوا ويرجعوا فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } يعني : من قبل كفار مكة { مكناهم فِى الارض } يعني : مكنّاهم وأعطيناهم من المال والولد { مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } يا أهل مكة { وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } يعني : المطر متتابعاً كلما احتاجوا إليه . { وَجَعَلْنَا الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فأهلكناهم } يعني : عذبناهم { بِذُنُوبِهِمْ } وبتكذيبهم رسلهم { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } يعني : وجعلنا من بعد هلاكهم { قَرْنٍ مكناهم } قال الزجاج : القرن أهل كل مدة فيها نبي أو فيها طبقة من أهل العلم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ الْقُرونِ أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ »
ثم قال :
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ } ذلك أن النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً من السماء . قال الله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ } يقول : مكتوباً في صحيفة { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } يقول : عاينوه وأخذوه بأيديهم ما يصدقونه { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ } يعني : يقول الذين كفروا : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ولا يؤمنون به { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } من السماء فيكون معه نذيراً .
فقال الله تعالى : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } من السماء { لَقُضِىَ الامر } يعني لهلكوا إذا عاينوا الملك ، ولم يؤمنوا ، ولم يصدقوا ولنزل العذاب بهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } يعني : لا ينتظر بهم حتى يعذبوا . ويقال : لو نزل الملك لنزل بإهلاكهم . ويقال : لو أنزلنا ملكاً لا يستطيعون النظر إليه فيموتوا .
ثم قال : { وَلَوْ جعلناه مَلَكاً } يعني : لو أنزلنا ملكاً بالنبوة { لجعلناه رَجُلاً } يعني : لأنزلناه على شبه رجل ، على صورة آدمي . ألا ترى أنهم حين جاؤوا إلى إبراهيم عليه السلام جاؤوا على صورة الضيفان . وعلى داود عليه السلام مثل خصمين . وكان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية الكلبي .
ثم قال : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } يعني لو نزل الملك على أشباه الآدميين لا يزول عنهم الاشتباه . والتلبس وروى بعضهم عن ابن عامر أنه قرأ : { مَّا يَلْبِسُونَ } بنصب الباء يعني : جعلنا عليه من الثياب ما يلبسونه على أنفسهم . ظنوا أنه آدمي . والقراءة المعروفة : بالكسر . يقال : لبس يلبس إذا لبس الثوب . ولبس يلبس : إذا خلط الأمر . وقال القتبي : { وَلَلَبَسْنَا } يعني : أضللناهم بما ضلوا به من قبل أن يبعث الملك .
ثم قال : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } يا محمد كما استهزأ بك قومك في أمر العذاب { فَحَاقَ بالذين } يقول : وجب ونزل بالذين { سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } بالرسل . ويقال : { فَحَاقَ } أي : رجع . وقال أهل اللغة : الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فَعَلَتْه نفسه . كقوله : { استكبارا فِى الارض وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاٌّوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] وقال الضحاك : كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد الحرام مع المستضعفين من المؤمنين بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وغيرهم . فمر بهم أبو جهل بن هشام في ملأ من قريش وقال : يزعم محمد أن هؤلاء ملوك أهل الجنة فأنزل الله تعالى عل رسوله هذه الآية ليثبت بها فؤاده ، ويصبره على أذاهم فقال : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } يعني : إن سخر أهل مكة من أصحابك فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم فجعل الله تعالى دائرة السوء على أهل ذلك الاستهزاء .
ثم أمر المشركين بأن يعتبروا بمن قبلهم وينظروا إلى آثارهم في الأرض فقال :
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{ قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } يعني : قل لأهل مكة سافروا في الأرض { ثُمَّ انظروا } يعني : اعتبروا { كَيْفَ كَانَ عاقبة } يعني : آخر أمر { المكذبين } بالرسل والكتب . وقال الحسن : { سِيرُواْ فِى الارض } يعني : اقرؤوا القرآن فانظروا كيف كان عاقبة المتقدمين في العذاب . فقال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فعلت هذا الفعل لطلب المال ، فاترك هذا الفعل . إنا نجمع لك مالاً تصير به أغنى أهل مكة . فنزل قوله تعالى : { قُل لّمَن مَّا فِى
1649;لسموات والارض } فإن أجابوك وإلا ف { قُل لِلَّهِ } يعني : ما في السموات وما في الأرض يعطي منها من يشاء .
ثم قال : { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } فلا يعذبكم في الدنيا . وروى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ لله مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا وَاحِدَةً فَقَسَمَها بَيْنَ الخَلائِقِ فِبِها يَتَرَاحَمُونَ ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِها ، وَادَّخَرَ لِنَفْسِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ويقال : كتب الرحمة حيث أمهلهم ، ولم يهلكهم ليرجعوا ويتوبوا .
ثم قال : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } يعني : ليجمعنكم يوم القيامة . وهذا كما يقال : جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يعني : في البعث أنه كائن .
ثم نعتهم فقال : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال بعضهم : هذا ابتداء وخبره { لاَ يُؤْمِنُونَ } . وقال بعضهم : هذا بدل من قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } . عظم نفسه فقال :
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{ وَلَهُ مَا سَكَنَ } يعني : ما استقر { وَلَهُ مَا سَكَنَ } من الدواب والطير في البر والبحر . فمنها ما يستقر في الليل وينتشر بالنهار . ومنها ما يستقر بالنهار وينتشر الليل .
ثم قال : { وَهُوَ السميع العليم } يعني : السميع لمقالتهم ، العليم بعقوبتهم . ثم قال : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّ آباءك كانوا على مذهبنا ، وإنما تركت مذهبهم للحاجة فارجع إلى مذهب آبائك حتى نغنيك بالمال . فنزلت { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } يعني : أعبد رباً { فَاطِرَ السموات والارض } يعني : خالق السموات والأرض . ويقال : مبتدئهما . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ » أي ، على ابتداء الخلقة . وهو الإقرار بالله حين أخذ عليهم العهد في أصلاب آباءهم . وإنما صار { فَاطِرَ } كسراً لأنه من صفة الله تعالى يعني : أغير الله فاطر السموات والأرض . وقال الزجاج : يجوز الضم على معنى هو فاطر السموات والأرض . ويجوز النصب على معنى : اذكروا فاطر السموات ، إلا أن الاختيار الكسر .
ثم قال : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } يعني : يرزق ويقال : وهو يرزق ولا يعان على رزق الخلق . وقرأ بعضهم : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } بنصب الياء يعني : يرزق ولا يأكل .
ثم قال : { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } من أهل مكة يعني : أول من أسلم من أهل مكة ، واستقام على التوحيد { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } يعني : وقال لي ربي : لا تكونن من المشركين بقولهم : ارجع إلى دين آبائك .
وقوله تعالى : { قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } يعني : إني أعلم إن عصيت ربي فرجعت إلى آبائي ، وعبدت غيره . { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : عذاباً شديداً في يوم القيامة .
{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } سوء العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } يعني : غفر له وعصمه . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر وعاصم في رواية حفص { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } بضم الياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : { مَّن يُصْرَفْ } بنصب الياء ومعناه : من يصرف الله عنه . ولأنه سبق ذكر قوله : { رَبّى } فانصرف إليه .
ثم قال : { وَذَلِكَ الفوز المبين } يعني : صرف العذاب : هو النجاة الوافرة . وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاعْلَمُوا أنَّهُ لا يَنْجُو أَحَدٌ بِعَمَلِهِ » قالوا : يا رسول الله ولا أنت؟ قال : « وَلا أنَا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدِني الله بِرَحْمَتِهِ » يعني : أن الخلق كلهم ينجون برحمة الله تعالى .
ثم خوّفه ليتمسك بدينه فقال :
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } يعني : إن يصبك الله بشدة أو بلاء { فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ } يعني : لا يقدر أحد من الآلهة التي يدعونها ولا غيرها كشف الضر إلا الله تعالى .
{ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } يقول : وإن يصبك بسعة أو صحة الجسم فإنه لا يقدر أحد على دفع ذلك . { فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } من الغنى والفقر والعافية .
ثم قال : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } الغالب والعالي عليهم . ويقال : القادر والمالك عليهم { وَهُوَ الحكيم } في أمره { الخبير } بأفعال الخلق .
ثم قال : { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة } وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ألا وجد الله رسولاً غيرك؟ وما نرى أحداً من أهل الكتاب يصدقك بما تقول فأرنا من يشهد لك أنك رسوله؟ فقال الله تعالى : { قُلْ } : لأهل مكة { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة } يعني : حجة وبرهاناً ويقال : من أكبر شهادة؟ فإن أجابوك وإلا ف { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } بأني رسول الله . والشهيد في اللغة : هو المبين . وإنما سمى الشاهد شاهداً لأنه يبيّن دعوى المدعي بأمر الله نبيه عليه السلام بأن يحتج عليهم بالله الواحد القهار الذي خلق السموات و الأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وخلقهم أطواراً .
ثم قال : { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ } يعني : لأخوفكم بالقرآن يا أهل مكة { وَمَن بَلَغَ } يعني : ومن بلغه القرآن سواكم ، فأنا نذير وبشير من بلغه القرآن من الجن والإنس . قال قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى » ، فمن بلغه فكأنما عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه . وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ : { لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } وقال مجاهد : { لاِنذِرَكُمْ بِهِ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : { وَمَن بَلَغَ } يعني : من العجم وغيرهم .
ثم قال : { أَءنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءالِهَةً أخرى } من الأصنام . فإن قالوا : نعم { قُل لاَّ أَشْهَدُ } بما شهدتم ولكن { قُلْ } أشهد { إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأصنام والأوثان .
قوله تعالى :
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ } يعني : التوراة والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } وقال عبد الله بن سلام : أنا أعرف بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابني لأني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أشهد لابني ، لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي .
ثم قال : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : كعب بن الأشرف ومن تابعه ممن طلبوا الرئاسة ، آثروا الدنيا على الآخرة .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يعني : ممن اختلق على الله كذباً باتخاذ الآلهة وقوله الشرك { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ } يعني : بالقرآن أنه ليس من عند الله { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } يعني : أنه لا يأمن الكافرون من عذابه . قال في اللغة : { أَنَّهُ } : مرة تكون للإشارة مثل قوله : { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ يوسف : 98 ] ومرة تكون للعماد مثل قوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ المؤمنون : 117 ] { وَأَنَّهُ *** لاَ يُفْلِحُ الظالمون } وقوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يوم القيامة { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } يعني : أين آلهتكم التي تزعمون . يعني : تعبدون من دون الله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } وأصل الفتنة في اللغة : هو الاختبار . ويقال : فتنت الذهب في النار إذا أدخلته لتعلم جودته وإنما سمي جوابهم فتنة لأنهم حين سئلوا ، اختبروا بما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب من ذلك الاختبار فتنة إلا هذا القول . ويقال : ثم لم تكن معذرتهم وجوابهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } . قال مجاهد : إن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر ذنوبهم يقول بعضهم لبعض : يا ويلكم جئتم بما لا يغفر الله لكم . هلموا الآن فلنكْذِبْ على أنفسنا ، ونحلف على ذلك ، فحلفوا . فحينئذٍ ختم على أفواههم ، فتشهد أيديهم وأرجلهم عليهم . قرأ ابن عامر وابن كثير وعاصم في رواية حفص : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } بالتاء لأن الفتنة مؤنث { فِتْنَتُهُمْ } بضم التاء ، لأنه اسم تكن . وقرأ حمزة والكسائي : ثم لم يكن بالياء ، لأن الفتنة وإن كانت مؤنثة إلا أن تأنيثه ليس بحقيقي ، ولأن الفتنة بمعنى : الإفتان فانصرف إلى المعنى { فِتْنَتُهُمْ } بالنصب ، فجعلاه خبر تكن والاسم ما بعده . وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } بالتاء والنصب وقرأ حمزة والكسائي : { والله رَبّنَا } بنصب الباء . ومعناه : يا ربنا . وقرأ الباقون : { والله رَبّنَا } بكسر الباء على معنى النعت . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } أي : كيف صار وبال تكذيبهم على أنفسهم .
ويقال : يقول الله تعالى للملائكة :
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
انْظُر كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ } يعني : انظر إليهم كيف يكذبون على أنفسهم { وَضَلَّ عَنْهُم } يعني : ذهب عنهم . ويقال : اشتغل عنهم الآلهة بأنفسها { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } على الله من الكذب في الدنيا .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعني : إلى حديثك وقراءتك . يعني : يستمعون ولا ينفعهم ذلك { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } يعني : غطاءً مجازاً لكفرهم . { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } يعني : صمماً وثقلاً لا يفقهون حديثك . وقال قتادة : يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً ، كمثل البهيمة التي تسمع القول ولا تدري ما هو .
ثم قال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } يعني : انشقاق القمر وغيره { حتى إِذَا *** لَكَِّرِهُونَ * يجادلونك } يعني : يخاصمونك بالباطل ، وينكرون أن القرآن من الله تعالى { يَقُولُ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } وذلك أن النضر بن الحارث كان يخبر أهل مكة بسير المتقدمين وبأخبارهم فقالوا له : ما ترى فيما يقول محمد صلى الله عليه وسلم قال : لا أفهم مما يقول شيئاً ، ولا أدري أنه من أساطير الأولين الذي أخبركم به مثل حديث رستم واسفنديار . وقال القتبي : واحدها أسطورة واسطارة ومعناها : التَّرهات . والأباطيل البسابس ، وهي شيء لا نظام له وليس بشيء . وفي هذا دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بالسر ، فيُظهِر الله أسرارهم للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } يعني : أهل مكة ينهون الناس عن محمد أن يتبعوه؛ ويتباعدون عنه أي : يتنافرون . ويقال : نزل في شأن أبي طالب . كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قريشاً لن يصلوا إليك حتى أوسد في التراب ، فامض يا ابن أخي فما عليك غضاضة يعني : ذلاًّ وكان لا يسلم لأجل المقالة فنزل { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } يعني : أبا طالب ينهى قريشاً عن إيذائه ، وينأى عنه ، ويتباعد عن دينه . وهذا قول الكلبي والضحاك ومقاتل . والقول الأول أيضاً قول الكلبي .
ثم قال : { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } يعني : وما يهلكون إلا أنفسهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .
قوله تعالى :
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار } قال الكلبي : يعني : حبسوا على النار . وقال مقاتل يعني : عرضوا على النار . وقال الضحاك : يعني : جمعوا على أبوابها . ويقال : وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم . وروي في الخبر : أن الناس كلهم وقفوا على متن جهنم كأنها متن الأهالة ، ثم نادى مناد خذي أصحابك ، ودعي أصحابي .
ثم قال : { فَقَالُواْ ياليتنا * أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا ولم يذكر في الآية الجواب ، لأن في الكلام ما دل عليه فكأنه يقول : ولو ترى يا محمد كفار قريش حين وقفوا على النار ، لعجبت من ذلك فقالوا : { إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا } . { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص : { وَلاَ نُكَذّبَ } بالنصب { وَنَكُونَ } بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر : { وَلاَ نُكَذّبَ } { وَنَكُونَ } كلاهما بالضم على معنى الخبر . ومن قرأ بالنصب فلأنه جواب التمني . وجواب التمني إذا كان بالواو والفاء يكون بالنصب . كقولك : ليتك تصير إلينا ونكرمك . وقرأ بعضهم : { وَلاَ نُكَذّبَ } بالضم و { نَّكُونَ } بالنصب في رواية هشام بن عمار عن ابن عامر . وقرأ عبد الله بن مسعود : { فَلا نُكَذّبَ } بالفاء .
قوله تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ } يعني : ظهر لهم { مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } بألسنتهم . لأن الجوارح تشهد عليهم بالشرك ، فحينئذٍ يتمنون الرجعة { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } يعني : رجعوا إلى كفرهم { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قولهم : { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا } لأنهم قد علموا في الدنيا وعاينوه . وقد عاين إبليس وشاهد ومع ذلك كفر وكذلك هاهنا لو رجعوا لكفروا كما كفروا من قبل ، لأنك ترى في الدنيا إنساناً أصابه مرض أو حبس في السجن ، أخلص بالتوبة لله تعالى أن لا يرجع إلى الفسق ، فإذا برأ من مرضه أو أطلق من الحبس رجع إلى الحال الأول .
قوله تعالى :
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{ وَقَالُوا إن هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } يعني : ما هي إلا آجالنا تنقضي في الدنيا ، فيموت الآباء ، ويجيء الأبناء { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بعد الموت . فيبيّن الله تعالى حالهم يومئذٍ فقال : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ } يعني : عرضوا وسيقوا وحبسوا { على رَبّهِمْ } يعني : عند ربهم وعند عذاب ربهم { قَالَ أَلَيْسَ هذا } يعني : العذاب والبعث { بالحق قَالُواْ بلى وَرَبّنَا } أقروا في وقت لا ينفعهم الإقرار { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } به وتجحدونه .
قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } يعني : غبن الذين جحدوا بالله ، وبالبعث حين اختاروا العقوبة على الثواب { حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة بَغْتَةً } يعني : فجأة ومعناه : أنهم جحدوا وثبتوا على جحودهم حتى إذا جاءتهم القيامة { قَالُواْ يأَبَانَا } يعني : يا ندامتنا وخزينا والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء كقوله : { يا حسرتنا } و { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] و يا ندامتنا { قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا } يعني : ضيعنا وتركنا العمل { فِيهَا } يعني : في الدنيا من عمل الآخرة { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ } يعني : آثامهم { على ظُهُورِهِمْ } يعني : إنهم يحملون آثامهم . وروى أسباط عن السدي قال : ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا آتاه ملك قبيح الوجه ، أسود اللون ، منتن الريح ، عليه ثياب دنسة ، فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك فيقول : كذلك كان عملك قبيحاً . فيقول ما أنتن ريحك فيقول : كذلك كان عملك منتناً . فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك . فيكون معه في قبره . فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، فأنت اليوم تحملني . فيركب على ظهره حتى يدخله النار .
قال : وذلك قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } وذلك على سبيل المجاز يعني : يحملون وبال ذلك على ظهورهم وعقوبته . ويقال : وقرت ظهورهم من الآثام . ثقلت وحملت ، وأصل الوزر في اللغة : هو الثقل ثم قال : { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } يعني : يحملون .
قوله تعالى :
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِب ولَهْوٌ } يعني : لعب كلعب الصبيان يبنون بنياناً ، ثم يهدمونه . ويلعبون ويلهون ويبنون ما لا يسكنون . كذلك أهل الدنيا يجمعون ما لا يأكلون ، ويبنون ما لا يسكنون ويأملون ما لا يدركون .
ثم قال : { وَلَلدَّارُ الاخرة } يعني : الجنة { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الشرك والفواحش { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أن الآخرة أفضل من الدنيا . قرأ ابن عامر : { وَلَدَارُ الاخرة } بلام واحدة بالتخفيف ، وبكسر الآخرة على معنى الإضافة . وقرأ الباقون : { وَلَلدَّارُ الاخرة } بلامين ، { والاخرة } بالضم على معنى النعت . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى المغايبة .
قوله تعالى :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُون } روى سفيان عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به ، فنزلت هذه الآية . وروى أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حزين فقال : ما يحزنك؟ قال : « كَذَّبَنِي هؤلاء » فقال : إنهم لا يكذبونك ، يعلمون أنك صادق فنزلت هذه الآية : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ } من تكذيبهم إياك في العلانية { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } في السر ، ويعلمون أنك صادق . وكانوا يسمونه أميناً قبل أن يوحى إليه فلما أوحي إليه ، كذّبوه ، فقال : { ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ } وهم يعلمون أنك صادق . والجحد يكون ممن علم الشيء ثم جحده كقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } [ النمل : 14 ] قرأ نافع والكسائي : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد . فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أنهم لا يجحدونك كاذباً . ومن قرأ بالتشديد فمعناه : أنهم لا ينسبونك إلى الكذب ، ولا يكذبونك في السر . وقرأ نافع : { يَحْزُنكَ } برفع الياء ، وكسر الزاي . وقرأ الباقون { لَيَحْزُنُكَ } بنصب الياء ، وضم الزاي ، ومعناهما واحد .
ثم عزّاه ليصبر على أذاهم فقال : { وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } يعني : أن قومهم كذبوهم كما كذبك قريش { فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ } يعني : صبروا على تكذيبهم وأذاهم { حتى أتاهم نَصْرُنَا } يعني : عذابنا لهلاكهم { وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } يعني : لا مغيّر لوعد الله . فهذا وعد من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصرة ، كما نصر النبيين من قبله .
ثم قال : { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } يعني : من خبر المرسلين ، كيف أنجيت المرسلين ، وكيف أهلكت قومهم . فلما وعد الله تعالى بالنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم تعجل أصحابه لذلك ، وأرادوا أن يعجل بهلاك الكفار فنزل : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به قومه فقال : إن عظم عليك إعراضهم عن الإيمان ، ولا تصبر على تكذيبهم إياك { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض } يعني : إن قدرت أن تطلب سِرْباً في الأرض والنافقاء إحدى جحري اليربوع { أَوْ سُلَّماً فِى السماء } يعني : مصعداً إلى السماء { وَإِن كَانَ } فافعل ذلك على وجه الإضمار . وهذا كما قال في آية أخرى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والاخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] الآية .
وروى محمد بن المنكدر : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله أمر السماء أن تطيعك ، وأمر الأرض أن تطيعك ، وأمر الجبال أن تطيعك ، فإن أحببت أن ينزل عذاباً عليهم قال : « يا جبريل أؤخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم »
ثم قال : { وَلَوْ شَاء *** لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } يعني : لهداهم إلى الإيمان . ويقال : ولو شاء لاضطرهم إلى الهدى كما قال في آية أخرى { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء ءَايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } [ الشعراء : 4 ] ومعناه : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى قهراً وجبراً ، ولكن ما فعل وكلفهم وتركهم فاختيارهم .
ثم قال : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } يعني : بأنه لو شاء لهداهم . وقال الضحاك : يعني : القدر خيره وشره من الله تعالى ، فلا تجعل معرفة ذلك بعد البيان .
ثم قال :
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } يعني : يطيعك ، ويصدقك الذين يسمعون منك كلام الهدى والمواعظ . قال الزجاج يعني : يسمع سماع قابل . فالذي لا يقبل كأنه أصم . كما قال القائل : أصم عما ساءه سميع . ويقال : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } بأنه يؤمن بك بعضهم ، ولن يؤمن بك البعض . وإنما يؤمن بك الذي وفقه الله للهدى وهو أهل لذلك . وقال : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } يعني : يعقلون الموعظة .
ثم قال : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } أي : كفار مكة سماهم الله موتى ، لأنه لا منفعة لهم في حياتهم { يَبْعَثُهُمُ الله } يعني يحييهم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يعني الكفار في الآخرة فينبئهم ، فهذا تهديد لهم .
وقوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } يعني : الكفار . قالوا : هلاّ نزل عليه آية من ربه يعني : علامة لنبوته { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً } كما سألوك { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بأن الله قادر على أن ينزلها . ويقال : { لاَّ يَعْلَمُونَ } بما في نزول الآية لأنه لو نزلت الآية عليهم فلم يؤمنون به استوجبوا العذاب .
قوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } فذكر الجناحين للتأكيد لأنه يقال : طار في الأمر إذا أسرع فيه ، فإذا ذكر الجناحين صار تأكيداً له . وقرأ بعضهم { وَلاَ طَائِرٍ } بالضم لأن معناه : وما دابةٌ في الأرض ولا طائرٌ لأن { مِنْ } زيادة ، فيكون الطائر عطفاً ورفعاً وهي قراءة شاذة .
ثم قال : { إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم } في الخلق ، والموت ، والبعث ، تعرف بأسمائهم { مَّا فَرَّطْنَا } يقول : ما تركنا { فِى الكتاب مِن شَىْء } يعني : في اللوح المحفوظ مما يحتاج إليه الخلق إلا قد بيّناه . ويقال : في القرآن قد بيّن كل شيء يحتاج إليه { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني : الدواب والطير { يُحْشَرُونَ } ثم يصيرون تراباً .
وروى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : يَحْشُرُ الله تعالى الخلق كلهم يوم القيامة والبهائم والدواب والطيور وكل شيء ، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً . وعن أبي ذر قال : انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا أبَا ذَرَ هَلْ تَدْرِي فِيمَا انْتَطَحَتَا » ؟ قلت : لا قال : « لكن الله تَعَالَى يَدْرِي فَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا » وقال بعضهم : هذا على وجه المثل لأنه لا يجري عليهم القلم فلا يجوز أن يؤاخذوا به .
ثم قال :
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن { صُمٌّ } عن الخبر فلا يسمعون الهدى { وَبُكْمٌ } يعني : خرساً فلا يتكلمون بخير { فِى الظلمات } يعني : في الضلالات { مَن يَشَآء *** الله يُضْلِلْهُ } يعني : يخذله فيموت على الكفر { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : يستنقذه من الكفَر فيوفّقه للإسلام .
ثم قال : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم } الكاف زيادة في بيان الخطاب { إِنْ أتاكم عَذَابُ الله } في الدنيا { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } يعني : القيامة ، ثم رجع إلى عذاب الدنيا فقال : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } ليدفع عنكم العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } بأن مع الله آلهة أخرى .
قوله تعالى : { بَلْ إياه تَدْعُونَ } قال أهل اللغة : بل للاستدراك والإيجاب بعد النفي . وإنما تستعمل في موضعين : أحدهما لتدارك الغلط ، والثاني : لترك شيء وأخذ شيء آخر . فهاهنا بيّن أنهم لا يدعون غير الله تعالى . وإنما يدعون الله عنهم ليكشف عنهم العذاب . { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء } وإنما قرن بالاستثناء وبالمشيئة ، لأن كشف العذاب فضل الله تعالى ، وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء .
ثم قال : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } يعني : تتركون دعاء الآلهة عند نزول الشدة .
ثم ذكر حال الأمم الماضية لكي يعتبروا فقال عز وجل : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } فكذبوهم على وجه الإضمار { فأخذناهم بالبأساء } يعني : بالخوف والشدة { والضراء } يعني : الزمانة والفقر وسوء الحال والجوع . وقال الزجاج : البأساء : الجوع ، والضراء : النقص في الأموال والأنفس { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يعني : لكي يرجعوا إليه ويؤمنوا به .
قوله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا } يقول : فهلا إذا جاءهم عذاباً { تَضَرَّعُواْ } إلى الله ويؤمنون به حتى يرفع عنهم العذاب يعني : أنهم لو آمنوا لدفع عنهم العذاب ، ولكن أصروا على ذلك فذاك قوله تعالى : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } يعني : جفت ويبست قلوبهم { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } من عبادتهم الأصنام .
ثم قال :
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } يعني : الأمم الخالية حين لم يعتبروا بالشدة ولم يرجعوا : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } من النعم والخصب ويقال : إن الله تعالى يبتلي العوام بالشدة ، فإذا أنعم عليهم يكون استدراجاً . وأما الخواص فيبتليهم بالنعمة والرخاء فيعرفون ويعدّون ذلك بلاء . كما روي في الخبر : إن الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل : مرحباً بشعار الصالحين . وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل : ذنب عجلت عقوبته فهؤلاء الذين أرسل إليهم ، ابتلاهم الله تعالى بالشدة ، فلم يعتبروا ولم يرجعوا ، فتح عليهم أبواب كل خير عقوبة لهم لكي يعتبروا فيها .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد قال : حدّثنا أبو عتبة قال : حدّثنا محمد بن حمير عن شهاب بن خراش عن حرملة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا رَأَيْتَ الله يُعْطِي عَبْداً مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِمَّا يُحِبَّ فإنَّمَا ذلك مِنْهُ اسْتِدْرَاج » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } الآية . وقال الحسن : والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه . وما أمسكها الله تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه . { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } يعني : تركوا ما وعظوا به { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } يعني : أرسلنا عليهم كل خير . ويقال : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء *** مِنَ الرزق } قرأ ابن عامر : { فَتَحْنَا } بالتشديد على معنى المبالغة . والباقون بالتخفيف { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من أنواع الخير فأعجبهم ما هم فيه { أخذناهم بَغْتَةً } يعني : أصبناهم بالعذاب فجأة { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } يعني : آيسين من كل خير . وقال مجاهد : الإبلاس : الفضيحة . وقال الفراء : المبلس : المنقطع بالحجة . وقال الزجاج : المبلس : الشديد الحسرة والآيس الحزين . وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير . ومعناه : فلما فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، ونسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .
ثم قال عز وجل : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } يعني : قُطع أصلهم فلم يبقَ منهم أحد { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } على هلاك أعدائه واستئصالهم ويقال : الحمد لله الذي ينتقم من أعدائه ، ولا ينتقم منه أحد . ويقال : هذا تعليم ليحمدوه سبحانه على إهلاك الظالمين .
قوله تعالى :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ } أَيُّ قُلْ لاهْلِ مَكَّةَ { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ } فلم تسمعوا شيئاً { وأبصاركم } فلم تبصروا شيئاً { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } فلم تعقدوا شيئاً { مَّنْ إله غَيْرُ الله } يعني هل أحد يرده عليكم { يَأْتِيكُمْ بِهِ } يعني : يخلقها لكم .
ثمَّ قال : { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات } أي : كيف تبين لهم العلامات فيما ذكر من تخويفهم { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } يعني : يُعرضون ولا يعتبرون . قرأ نافع : { أَرَءيْتُمْ } : بعد الألف بغير همز . وقرأ الكسائي بغير مد ولا همز . وقرأ الباقون : بالهمز . فهي كلها لغات العرب .
ثم قال : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } يعني : فجأة أو علانية { هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } يعني : لا يهلك إلا القوم الكافرون .
ثم قال : { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } يعني : ليس لهم أن يقترحوا من أنفسهم ، وإنما أرسلهم بتبليغ الرسالة مبشرين بالجنة لمن أطاعه ، ومنذرين بالنار لمن عصاه . { فَمَنْ ءامَنَ } يعني : صدق بالرسل { وَأَصْلَحَ } يعني : سلك طريقهم ، وأصلح العمل . ويقال : أخلص العمل بعد الإيمان { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني : لا خوف عليهم من أهوال القيامة ولا هم يحزنون عند الصراط .
ثم قال : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } يعني : يصيبهم العذاب بكفرهم ، ولا يعذب أحداً بغير ذنب .
ثم قال :
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{ قُلْ لا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله } يعني : مفاتيح الرزق { وَلا أَعْلَمُ الغيب } يعني : متى ينزل العذاب بكم . هذا جواب لقولهم : { وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 37 ] { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ } من السماء ، إنما أنا بشر مثلكم { إِنْ أَتَّبِعُ } يعني : ما أتبع { إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ } من القرآن { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير } يعني : الكافر والمؤمن { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } في أمثال القرآن ومواعظه .
قوله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ } يعني : خوّف بالقرآن { الذين يَخَافُونَ } يعني : يعلمون { أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ } في الآخرة . وإنما خصّ بالإنذار الذين يعلمون وإن كان منذراً لجميع الخلق ، لأن الحجة عليهم وجبت لاعترافهم بالمعاندة وهم أهل الكتاب كانوا يقرون بالبعث . ويقال : هم المسلمون يعلمون أنهم يبعثون يوم القيامة ويؤمنون به .
{ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ } يعني : يعلمون أنه ليس لهم من دون الله . يعني : من عذاب الله { وَلِيُّ } في الدنيا { وَلاَ شَفِيعٍ } في الآخرة { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعني : أنذرهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المعاصي . ويقال : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لكي يتقوا ويثبتوا على الإسلام . فإنهم إن لم يثبتوا { لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ }
قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود . قالت قريش : تدني هؤلاء السفلة هم الذين يلونك أي : يصرونك . فوقع في قلبه أن يطردهم فنزل : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : كان رجال يستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بلال وصهيب ، فيجيء أشراف من قومه وسادتهم فيجلسون ناحية فقالوا له : إنّا سادات قومك وأشرافهم فلو أدنيتنا؟ فهم أن يفعل فنزل { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } الآية . ويقال : إن أبا جهل وأصحابه اختالوا ليطرد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن نفسه . فقالوا : إن محمداً يتبعه الموالي والأراذل فلو طردهم لاتّبعناه . فاستعانوا بعمر رضي الله عنه فأخبر عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك . فنزل : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } يعني : يعبدون ربهم { بالغداة والعشى } يعني : يصلون لله تعالى في أول النهار وآخره { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } يعني : يريدون بصلواتهم وجه الله تعالى { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } يعني : ما عليك من عملهم من شيء { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } يعني : الإثم ويقال : معناه : فما عليك إن لم يسلموا ، فليس عليك من أوزارهم شيء . ويقال : يعني به : الضعفة من المسلمين ، فلا تطردهم لأنه ليس عليك من حسابهم من شيء أي : فليس عليك من أرزاقهم شيء لكن أرزاقهم على الله .
ثم قال : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } يعني : لو طردتهم من مجلسك فتكون من الضارين بنفسك . قرأ ابن عامر : { بالغدوة } وقرأ الباقون : { رَبَّهُمْ بالغداة } وهما لغتان .
ثم قال :
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ وَكذلِكَ فَتَنَّا } يقول : هكذا ابتلينا { بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } يعني : الشريف بالوضيع ، والعربي بالمولى ، والغني بالفقير { لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } فلم يكن الاختبار لأجل أن يقولوا ذلك . ولكن كان الاختبار سبباً لقولهم .
وهكذا قوله تعالى : { فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } [ القصص : 8 ] فلم يأخذوه لأجل ذلك ، ولكن كان أخذهم سبباً لذلك فكأنهم أخذوه لأجل ذلك ، هاهنا ما كان الاختبار لأجل أن يقولوا هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا لأنهم كانوا يقولون : لو كان خيراً ما سبقونا إليه . ومعناه : ليظهر الذين يقولون : هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا .
قال الله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } يعني : بالموحدين منكم من غيرهم . قال الكلبي : فلما نزلت هذه الآية جاء عمر رضي الله عنه فاعتذر . فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا } يعني عمر { فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } يعني : قبلتُ توبتكم . ويقال : قبل الله عذركم . ويقال : المعنى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا يعني : الضعفة من المسلمين ، فابتدىء بالسلام . وقل : سلام عليكم { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } يعني : أوجب الرحمة وقبول التوبة { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } يعني : من ركب معصية وهو جاهل بركوبها ، وإن كان يعلم أنها معصية { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } بعد السوء { وَأَصْلَحَ } العمل { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور يعني : متجاوز للذنوب رحيم حين قبل التوبة ، ويقال : معناه : من عمل منكم سوءاً ثم تاب يغفر له ، فكيف من كان قصده الخير فهو أولى بالرحمة .
وروى سفيان عن مجمع عن ماهان الحنفي قال : جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوباً عظاماً فأعرض عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل : { وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } قرأ عاصم وابن عامر { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } : بنصب الألف . فإنه غفور بالنصب على معنى البناء ومعناه : كتب { أَنَّهُ } وقرأ نافع : { أَنَّهُ } بالنصب على معنى البناء { فَإِنَّهُ } بالكسر على معنى الابتداء . وقرأ الباقون : كلاهما بالكسر على معنى الابتداء .
ثم قال :
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
{ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات } قال القتبي : يعني : نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء ، ولا ننزلها جملة متصلة . ويقال : { نُفَصّلُ الآيات } يعني : نبين الآيات بالقرآن { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } يعني : طريق المشركين لماذا لا يؤمنون ، لأنهم إذا رأوا الضعفاء يسلمون قبلهم ، امتنعوا . ويقال : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } يعني : تفرقهم . قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ } بالتاء و { سَبِيلٍ } بالضم لأن السبيل مؤنث كقوله : { قُلْ هذه سبيلى أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ يوسف : 108 ] ومعناه : ليظهر لكم طريق المشركين . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : { وليستبين } بالياء { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } بالضم لأن السبيل هو الطريق . والطريق يذكر ويؤنث . وقرأ نافع : { وَلِتَسْتَبِينَ } بالتاء { سَبِيلٍ } بالنصب يعني : لتعرف يا محمد طريق المشركين .
قوله تعالى : { قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } يعني : الأصنام ويقال : معناه قل إني نهيت عن طرد الضعفاء عن مجلسي ، كما نهيت عن عبادة الأصنام .
ثم قال : { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } يعني : لا أذهب مذهبكم . ويقال : لا أتبع هواكم يعني : لا أرجع إلى دينكم في بغض الفقراء ومجانبتهم { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } يعني : إن فعلت ذلك فقد ضللت إذاً . قرأ بعضهم : { ضَلَلْتُ } بالكسر وهو شاذ يعني : ضللت سبيل الهدى { وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين } يعني لم أكن على الحق .
ثم قال :
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{ قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } يعني : على أمر بيّن . ويقال : على دين من ربي . { وَكَذَّبْتُم بِهِ } يعني : بالقرآن . ويقال : بالعذاب . وذلك أن النضر بن الحارث قال : إن كان ما تقوله حقاً فأتنا بعذاب الله فنزل : { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني : العذاب { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } يعني : ما القضاء في ذلك إلا لله في نزول العذاب { يَقُصُّ الحق } بنزول العذاب . وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم : { يَقُصُّ الحق } بالصاد يعني : يبين الحق . ويقال : يأمر بالحق وقرأ الباقون : { يَقْضِ * الحق } بالضاد ، ولكن لا يكتب بالياء . لأن الياء سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، ويقوم الكسر مقام الياء كقوله تعالى : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] فحذفت الواو . وتفسيره يقضي قضاء الحق ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : { يَقْضِى بالحق } .
ثم قال : { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } يعني : الحاكمين القاضين ثم قال : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني : العذاب { لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } بالعذاب { والله أَعْلَمُ بالظالمين } يعني : بعقوبة الظالمين ، هو أعلم متى ينزل بهم العذاب .
قوله تعالى :
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب يعني : يعلم ما يهلك في البر والبحر . ويقال : يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى وما في البحر من الدواب وقوت ما فيها { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } من الشجر { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } يعلم من وقت سقوطه ، وموضع مسقطه . وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ليس أحد من خلق الله تعالى أكثر من الملائكة ، وليس من شجرة تخرج إلا وملك موكل بها . ويقال : إن الإنسان كالشجرة ، وأعضاءه كالأغصان ، والحركات منه كالأوراق ، فهو يعلم حركة بني آدم .
ثم قال تعالى : { وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الارض } يعني : تحت الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة . ويقال : الحبة التي تحت الأرض التي يخرج منها النبات .
ثم قال : { وَلاَ رَطْبٍ } يعني : الماء { وَلاَ يَابِسٍ } يعني : الحجر ويقال : ولا رطب : يعني العمران والأمصار والقرى { وَلاَ يَابِسٍ } يعني : الخراب والبادية { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } يعني في اللوح المحفوظ . ويقال : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } يعني : لا قليل ولا كثير { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } يعني : في اللوح المحفوظ . ويقال : القرآن قد بيّن فيه كل شيء ، بعضه مفسر ، وبعضه يعرف بالاستدلال والاستنباط . وقرأ بعضهم : { وَلاَ حَبَّةٍ } { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } كل ذلك بالضم على معنى الابتداء . وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالكسر لأجل : { مِنْ } .
قوله تعالى :
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } يعني : يقبض أرواحكم في منامكم { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم } يعني : ما كسبتم من خير أو شر { بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } يعني : من النوم في النهار ويرد إليكم أرواحكم { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } يعني : ليتم أجلكم وتأكلون رزقكم إلى آخر العمر . قال بعضهم : إذا نام الإنسان تخرج منه روحه كما روي في الخبر « الأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ » يعني : الأرواح إذا تعارفت وقعت الألفة بين الأبدان . وإذا لم تتعارف الأرواح تناكرت الأبدان وقال : إن الروح إذا خرجت في المنام من البدن يبقى فيه الحياة ، فلهذا تكون فيه الحركة والنفس . وإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته ، وصار ميتاً لا يتحرك ، ولا يتنفس . فإن قيل : لو خرجت روحه فكيف لا يتوجع لخروجه إذا نام؟ قيل : لأنه يخرج بطيبة نفسه ، ويعلم أنه يعود . وأما إذا انقطع عمره خرج بالكره ، فتوجع له . وقال بعضهم : لا تخرج منه الروح ، ولكن يخرج منه الذهن . وهو الذي يسمى بالفارسية روان وقال بعضهم : إنما هو ثقل يدخل في نفسه ، وهو سبب لراحة البدن وغذائه كقوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] أي : راحة ويقال : هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى ، وهذا أصح الأقاويل .
وقوله تعالى : { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } يعني : مصيركم في الآخرة { ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير أو شر فيجازيكم بذلك .
وقوله تعالى :
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } يعني : القادر الغالب عليهم { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } والحفظة جمع الحافظ ، مثل الكتبة والكاتب . يعني به : الملائكة موكلين ببني آدم ، ملكين بالليل ، وملكين بالنهار ، ويكتب أحدهما الخير ، والآخر الشر . فإذا مشى يكون أحدهما بين يديه ، والآخر خلفه ، فإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله . كقوله : { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] ويقال : لكل إنسان خمسة من الملائكة : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، والخامس لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً .
وقوله تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت } يعني : حضر أحدكم الوفاة عند انقضاء أجله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } يعني : ملك الموت وأعوانه { وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ } يعني : لا يؤخرون طرفة عين . قرأ حمزة { توفيه } بلفظ التذكير بالإمالة . وقرأ الباقون : { الموت تَوَفَّتْهُ } بلفظ التأنيث . لأن فعل الجماعة إذا تقدم على الاسم جاز أن يذكر ويؤنث . ويقال : معه سبعون من ملائكة الرحمة وسبعون من ملائكة العذاب ، فإذا قبض نفساً مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ، ويصعدون بها إلى السماء . وإذا قبض نفساً كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب ، فيبشرونها بالعذاب ، ويفزعونها ، ثم يصعدون بها إلى السماء ، ثم ترد إلى سجّين ، وروح المؤمن إلى عليين { ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق } يعني : يرد أمورهم إلى الله تعالى { أَلاَ لَهُ الحكم } ألا : كلمة التنبيه ومعناه : اعلموا أن الحكم لله تعالى في خلقه ما يشاء ، ويقضي بينهم يوم القيامة { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } يعني : إذا حاسب فحسابه سريع . ويقال : وهو أحكم الحاكمين وأعدل القاضين .
وقوله تعالى :
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{ قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر } يعني من أهواله وشدائدهِ ، والظلمات كناية عن الأهوال والشدائد { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } وقال الكلبي : سراً وعلانية . وقال مقاتل : يعني . في خفض وسكون . ، قرأ عاصم في رواية أبي بكر { خُفْيةً } بكسر الخاء ، والباقون بالضم . وهما لغتان وكلاهما واحد { وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه } يعني : من غمّ هذه الأهوال والشدائد { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } يعني : من الموحدين . { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا } يعني : من أهوال البر والبحر { وَمِن كُلّ كَرْبٍ } يعني : ينجيكم من كل كرب . يعني : من كل غم وشدة { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } يعني : ترجعون إلى الشرك . وقرأ بعضهم { يُنَجّيكُمْ } بالتخفيف والقراءة المعروفة بالتشديد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { لَّئِنْ أنجانا } بالألف يعني : أنجانا الله تعالى . وقرأ الباقون { لاِن أَنْجَيْتَنَا } على معنى المخاطبة . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا } بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد . ويقال : أنْجَى يُنْجِي ونَجَّى يُنَجِّي .
وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } يعني : الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط ، والغرق كما أرسل على قوم نوح . يعني : إن استكبرتم ، وأصررتم ، وكذبتم رسلي مثل ما فعل قوم نوح ، أو فعلتم الفعلة التي فعل قوم لوط ثم قال : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني يخسف بكم كما خسف بقارون ومن معه ، إن استكبرتم واغتررتم بالدنيا كما فعل قارون .
ثم قال : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } يعني : الأهوال المختلفة ، كما ألبس بني إسرائيل إن تركتم أمر رسولي ، واتبّعتم هواكم كما فعل بنو إسرائيل { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } يعني يقتل بعضكم بعضاً بالسيف كما فعل بالأمم الخالية ، إن فعلتم مثل ما فعلوا . فلما نزلت هذه الآية قال النبي : صلى الله عليه وسلم « يا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أُمَّتِي عَلَى ذلك؟ » قال له جبريل : إنَّمَا أنا عَبْدٌ مِثْلُكَ فادْعُ رَبَّكَ وَسَلْهُ لأمَّتِكَ فقام النبِي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ، وأسبغ الوضوء ، فأحسن الصلاة ، ثم دعا فنزل جبريل فقال : إنَّ الله تعالَى سَمِعَ مَقَالَتَكَ ، وَأَجَارَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ ، وَهُوَ العَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَمِنْ تَحْتَ أَرْجُلِهِمْ . فَقَالَ : « يَا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أُمَّتِي إذا كان فِيهِمْ أَهْوَاءَ مُخْتَلِفَةٌ وَيُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ؟ » فنزل جبريل بهذه الآية { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1/2 ] الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « افْتَرَقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَتَرِقُ أُمَّتِي اثْنَانَ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةَ » قالوا : يا رسول الله ما هذه الواحدة؟ قال :
« أهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الَّذِي أنا عَلَيْهِ ، وأصْحَابِي » وفي خبر آخر . « السَّوَادُ الأعْظَمُ » وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله أنه قال : لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعُوذُ بِوَجْهِ الله » فلما نزلت { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : « هاتان أهون » ويقال : عذاباً من فوقكم يعني : سلطاناً جائراً ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } من سفهائكم يقلبون عليكم { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } يعني : الفتنة بين المحلتين أو القريتين .
ثم قال : { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات } يعني : نبيّن الآيات من البلاء والعذاب في القرآن { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يعني : يعقلون ما هم عليه .
ثم قال :
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } يعني : القرآن { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } يعني : بحفيظ ومسلط . وهذا قبل الأمر بالقتال . { لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } المستقر : هو غاية ينتهي إليها . يقال : لكل قول وفعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه ، وما كان منه في الآخرة فسوف تبدو لكم ، وستعلمون ذلك في الدنيا وفي الآخرة ويقال : معناه : سوف أؤمر بقتالكم إذا جاء وقته { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } في ذلك الوقت .
قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا } يعني : يستهزئون بالقرآن { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } يعني : قم من عندهم ، واترك مجالستهم { حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : حتى يكون خوضهم واستهزاؤهم في غير القرآن { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } يقول : إن أنساك الشيطان وصية الله تعالى ، فتجلس معهم { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } يقول : قم إذا ذكرت ، ودع القوم الظالمين . يعني : المشركين . قرأ ابن عامر : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } بنصب النون ، وتشديد السين . وقرأ الباقون : بالتخفيف والجزم . وهما لغتان : نسيته وأنسيته .
ثم قال : { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ } يعني : الشرك والاستهزاء { مِنْ حِسَابِهِم } يعني : من آثامهم { مّن شَىْء ولكن ذكرى } يعني : ذكروهم بالقرآن إذا فعلوا ذلك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعني : لكي يتقوا الاستهزاء . قال الكلبي : وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله : لئن قلنا كلما استهزؤوا بالقرآن ، قمنا من عندهم لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام . فنزل { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } الآية .
قوله تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } قال الضحاك : يعني : كفار قريش نصبوا أصنامهم في المسجد الحرام إلى أنصاب الحرم ، وقرطوها بالمقراط ، وعلقوا بيض النعامة في أعناقها . فنزل { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } وقال الكلبي : إن الله تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه ، ويصلون فيه لله تعالى ، وكل قوم اتخذوا دينهم يعني : عيدهم لعباً ولهواً إلا هذه الأمة ، فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة لله ، وحصناً للصدقة ، وهي الجمعة والفطر والأضحى . قال مقاتل : اتخذوا دينهم الإسلام لعباً يعني : باطلاً ولهواً عنه .
ثم قال : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَذَكّرْ بِهِ } يعني : عِظْ وَخَوِّفْ بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ } يعني : لكي لا تهلك نفس { بِمَا كَسَبَتْ } يعني : بما عملت ويقال : تحبس نفس يعني تسلم نفس بذنوبها إلى النار وهذا قول الضحاك . وقال الأخفش : أن ترهن نفس بما عملت . ويقال : تحبس . وقال القتبي : أي تسلم للهلكة . ويقال : تخذل ولا تنصر .
ثم قال : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ } يعني : إذا وقع في العذاب ، لم يكن لها مانع يمنعها من العذاب { وَلاَ شَفِيعٍ } يشفع لها { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } يقول : لو جاءت بعدل نفسها رجلاً مكانها أو يفتدي بما في الأرض جميعاً لا يؤخذ يعني : لا يقبل منها { أُوْلَئِكَ الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } يعني : أهلكوا . ويقال : أسلموا بذنوبهم إلى النار { لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ } يعني : ماء حار قد انتهى حره { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } في الدنيا .
قوله تعالى :
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } قال مقاتل : وذلك أن كفار مكة عذبوا نفراً من المسلمين ، وراودوهم على الكفر . قال الله تعالى للمسلمين : قولوا لهم { أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله } يعني : الأوثان { مَا لاَ يَنفَعُنَا } في الآخرة { وَلاَ يَضُرُّنَا } في الدنيا { وَنُرَدُّ على أعقابنا } نعود ونرجع إلى الشرك { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله } إلى الإسلام { كالذى استهوته الشياطين فِى الارض حَيْرَانَ } يعني : كمثل رجل كان مع قوم ، فضلَّ الطريق ، فحيره الشياطين و { لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } يعني : إلى الطريق أن { ائتنا } فإنا على الطريق ، فأبى أن يأتيهم . فذلك مثلنا إن تركنا دين محمد عليه السلام . وقال مجاهد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ، يقول : الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب الكافر . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر ، كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام ، فأبى أن يأتيهما وهو يدعوهما إلى الشرك . فضرب الله تعالى له المثل بالذي استهوته الشياطين يعني : أضلته .
{ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } يعني : دين الله هو الإسلام { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } يعني : لنخلص بالعبادة والتوحيد بالله تعالى . قرأ حمزة { استهواه } بلفظ التذكير بالإمالة . وقرأ الباقون { كالذى استهوته } بلفظ التأنيث ، لأن فعل الجماعة مقدم ، فيجوز أن يذكر ويؤنث كقوله : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] قوله تعالى :
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة } يعني : وأمرنا بالهدى وبالعمل : يعني : أقيموا الصلاة { واتقوه } يعني : وحّدوه . ويقال : أطيعوه ويقال : هذا عطف على قوله : و { لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } وإلى إقامة الصلاة . ويقال : معناه : أمرنا بالإسلام ، وبإقامة الصلاة { واتقوه } يعني : وحّدوه . وقيل : أطيعوه .
ثم خوّفهم فقال : { وَهُوَ الذى خَلَق السموات والارض بالحق } يعني : للحق والعبرة { وَيَوْمَ يَقُولُ } اليوم صار نصباً ، لأن معناه : واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً . ويقال : معناه واذكروا يوم يقول : { كُنْ فَيَكُونُ } يعني : يوم البعث يقول : انتشروا فانتشروا كلهم كقوله تعالى : { يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث } يعني : القبور { خُشَّعاً أبصارهم يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] .
ثم قال { قَوْلُهُ الحق } { قَوْلُهُ } رفع بالابتداء ، وخبره { الحق } يعني : قوله الصدق أنه كائن . قرأ ابن عامر { فَيَكُونُ } بالنصب على معنى الخير ، وكذا في كل القرآن ، إلا في موضعين : هاهنا ، وفي آل عمران . وقرأ الباقون : بالرفع على معنى الخبر .
{ وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } يوم صار نصباً لنزع الخافض . ومعناه : وله الملك في يوم ينفخ في الصور وهذا كقوله عز وجل : { يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وكقوله : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] ويقال : هذا مبين لقوله الأول ، ومعناه : يوم يقول له { كُنْ فَيَكُونُ } . { يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور } وروي عن أبي عبيدة أنه قال : معناه : يوم يَنْفُخ الأرواح في الصور . يعني : في الأجسام . وهذا خلاف أقاويل جميع المفسرين لأنهم كلهم قالوا : هو نفخ إسرافيل في الصور . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ » وفي خبر آخر « وَصَاحِبُ الصُّوَرِ قَدِ الْتَقَمَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخَ فِيهِ »
ثم قال : { عالم الغيب والشهادة } الغيب ما غاب عن العباد والشهادة ما علم العباد به ، ويقال السر والعلانية . ويقال { عالم } بما يكون وبما قد كان . ويقال : { عالم } بأمر الآخرة وبأمر الدنيا { وَهُوَ الحكيم الخبير } يعني : { الحكيم } في أمره { الخبير } بأفعال الخلق وبأمر البعث .
قوله تعالى :
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ ءازَرَ } وكان اسم أبيه تارح بن ناخور بلغة قومه ، وبلغة غيرهم كان آزر . وقال السدي : كان اسم أبيه آزر . وهكذا قال الكلبي . وقال بعضهم : لم يكن آزر اسم أبيه ، ولكن كان اسم كبير أصنامهم . فقال أبوه لإبراهيم : ربي آزر . فقال إبراهيم على وجه التعجب : آزر .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } وقال مجاهد : آزر ليس اسم أبيه ، وإنما هو اسم صنم . وقال الضحاك عن ابن عباس : إن في هذه الآية تقديماً فكأنه قال : أتتخذ آزر أصناماً آلهة يعني : أتتخذ الصنم إلهاً . ويقال : آزر بلغتهم المخطىء الضال . ومعناه : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ } يا آزر المخطىء أتتخذ أصناماً آلهة . وقرأ الحسن ويعقوب الحضرمي : { ءازَرَ } بالضم ويكون معناه : وإذ قال إبراهيم لأبيه : يا آزر . والقراءة المعروفة بالنصب لأنه على ميزان أفعل . ينصرف فصار نصباً . وهو بموضع الخفض . ولأنه اسم أعجمي فلا ينصرف .
ثم قال { إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : في خطأ وجهل بَيِّنٍ بعبادتكم الأصنام . ثم قال { وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ } والملكوت والملك بمعنى واحد . إلا أن الملكوت أبلغ مثل : رَهَبُوت وَرَحَمُوت كما يقال في المثل : رَهَبُوت خير من رَحَمُوت يعني : لأن ترهب خير من أن ترحم . يعني : لما أن إبراهيم برىء من دين أبيه أراه الله ملكوت { السموات والارض } يعني : عجائب السموات والأرض { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } يعني : لكي يكون من الموقنين . والواو زيادة كقوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لكاذبون } [ العنكبوت : 12 ] يعني : لكي نحمل ، وكذلك هاهنا { لِيَكُونَ مِنَ الموقنين } يعني : حتى يثبت على اليقين . قال بعضهم : صارت فرجة في السماء حتى رأى إلى سبع سماوات . وصارت فرجة في الأرض حتى رأى إلى تحت الصخرة . ويقال : حين عرج به إلى السماء ، فنظر إلى عجائب السموات . وروي عن عطاء أنه قال : لما رفع إبراهيم في ملكوت السماوات ، أشرف على عبد يزني فدعا عليه ، فهلك . ثم أشرف على آخر يزني فدعا عليه ، فهلك . ثم رأى آخر فأراد أن يدعو عليه ، فقال له ربه عز وجل : على رِسْلِك يا إبراهيم ، فإنك مستجاب لك ، وإني من عبدي على إحدى ثلاث خلال : إما أن يتوب فأتوب عليه ، وإما أن أُخرِج منه ذرية طيبة ، وإما أن يتمادى فيما هو فيه ، فأنا من ورائه أي أنا قادر عليه .
وروي عن سلمان الفارسي أنه قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السموات ، رأى عَبْداً على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ، ثم رأى آخر على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه ، قال الله تعالى : أنْزِلوا عبدي كي لا يهلك عبادي .
ويقال : إنه كان يقول : أنا أرحم الخلق . فلما رأى المعصية فدعا عليهم ، قال الله تعالى : أنا أرحم بعبادي منك ، اهبط لعلّهم يرجعون . ويقال إن نمرود بن كنعان قالت له كهنته : يولد في هذه السنة غلام ينازعك في ملكك ، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة . ويقال : رأى في المنام ، أن كبشاً دخل عليه ، فنطح سريره بقرنه ، فسأل المعبِّرين فأخبروه ، أنه يولد غلام ينازعك في ملكك . فأمر بذبح كل غلام يولد . فحملت أم إبراهيم بإبراهيم ، ولم يتبيّن حملها ، ولم يعرف أحد أنها حامل ، حتى أخذها الطَّلْق فخرَّت إلى جبل من الجبال ، ودخلت في غار فولدت إبراهيم . وخرجت ووضعت صخرة على باب الغار . فجاءه جبريل عليه السلام ووضع إبهامه في فمه ، وكان يمصه ويخرج منه اللبن ، وكان يجعل سبّابته في فمه فيمصها ، ويخرج منها العسل . حتى كبر وأدرك في أيام قليلة . ويقال : إن أمه كانت تختلف إليه وترضعه حتى أرضعته سنتين ، وتحمل إليه الطعام حتى أدرك في المدة التي يدرك فيها الصبيان فخرج من الغار فنظر إلى السماء ، وإلى الأرض ، وإلى الجبال ، فتفكَر في نفسه ثم قال : إن لهذه الأشياء خالقاً خلقها . والذي خلق هذه الأشياء هو الذي خلقني فذلك قوله { وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والارض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } وكان في ذلك التفكير إذا نظر إلى نجم يضيء وهو المشتري ، فرآه أضوَأ الكواكب . وقد علم أن الله تعالى أعلى الأشياء ولا يشبهه شيء من خلقه . ورأى الكواكب أعلى الأشياء وكان أحسنها .
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبّى } وقال : هذا بغير فكرة . فكان ذلك منه زلة . ويقال : إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام أهذا ربي؟ { فَلَمَّا أَفَلَ } يعني : غاب الكوكب { قَالَ لا أُحِبُّ الافلين } يعني : لا أحب ربنا يتغير عن حاله ويزول { فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً } يعني : طالعاً . ويقال : إن ذلك كان في وقت السحر ، وكان ذلك في آخر الشهر . فرأى كوكباً يعني : الزهرة ، حين طلعت ، وكان من أضوء الكواكب . فلما ارتفع وطلع الفجر نقص ضوءه { قَالَ لا أُحِبُّ الافلين } يعني : لا أحب ربنا يتغير . فلما رأى القمر فرأى ضوءه أكثر { قَالَ هذا رَبّى } على سبيل الاستفهام { فَلَمَّا أَفَلَ } يعني : نقص ضوءه حين أسفر الصبح { قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين } يعني : لئن لم يحفظ ربي قلبي . لقد كنت اتخذت إلها ما لم يكن إلهاً { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً } يعني : طالعة قد ملأت كل شيء ضوءاً ف { قَالَ هذا رَبّى هذا أَكْبَرُ } يعني : أعظم وأكثر نوراً { فَلَمَّا أَفَلَتْ } يعني : غربت . علم أنه ليس بإله . فجاءته أمه فقال لها : من ربي؟ قالت : أنا . قال : ومن ربك؟ قالت : أبوك . قال : ومن رب أبي؟ قالت : نمرود بن كنعان . قال : ومن ربه؟ قالت له : اسكت . فقال لها : كيف هو؟ هل يأكل ويشرب وينام؟ قالت : نعم . قال : هذا لا يصلح أن يكون ربًّا وإلها . فرجعت الأم إلى أب إبراهيم ، فأخبرته بالقصة فخرج إليه فسأله مثل ذلك . ثم قال له في آخره : تعال حتى تعبد الذي خلقني وخلقك وخلق نمرود . فغضب أبوه ، فرجع عنه ، ثم دخلت عليه رأفة الوالد لولده ، فرجع إليه . وقال له : ادخل المِصْر لتكون معنا ، فدخل فرأى القوم يعبدون الأصنام . فدعوه إلى عبادة الأصنام ف { قَالَ } لهم حينئذٍ : { قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } فقيل له من تَعْبُد أنت يا إبراهيم؟ فقال أعبد الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض .
فذلك قوله : { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ } يعني : أخلصت ديني وعملي { لِلَّذِى فَطَر السموات } يعني : خلق السموات { والارض حَنِيفاً } يقول : إني وجهت وجهي مخلصاً مستقيماً { وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } على دينكم . ويقال : إن قوله { هذا رَبّى } قال ذلك لقومه على جهة الاستهزاء بهم . كما قال : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] ويقال : أراد بهذا أن يستدرجهم فيظهر قبيح فعلهم ، وخطأ مذهبهم وجهلهم . لأنهم كانوا يعبدون النجوم والشمس ، والقمر . فلما رأى الكوكب قال لهم : { هذا رَبّى } . وأظهر لهم أنه يعبد ما يعبدون .
فلما غاب الكوكب قال لهم : { لا أُحِبُّ الافلين } فأخبرهم بأن الآفل لا يصلح أن يكون إلها . ثم قال في الشمس والقمر هكذا . كما روي عن عيسى عليه السلام أنه بعث رسولاً إلى ملك أرض . فلما انتهى إليهم ، جعل يسجد ويصلي عند الصنم ويريهم أنه يعبد الصنم ، وهو يريد عبادة الله تعالى . ثم إن الملك ظهر له عدو . فقالوا لهذا الرسول : أشر علينا بشيء في هذا الأمر . فقال : نتشفع إلى هذا الذي نعبده . فجعلوا يسجدون له ويتشفعون إليه ، فلا يسمعون منه جواباً . فقالوا : إنه لا ينفعنا شيئاً . قال لهم : لم تعبدون من لا يدفع عنا ضراً؟ ارجعوا حتى نعبد من ينفعنا . فقالوا لمن نعبد؟ قال : لرب السماء . فجعل يدعو ويدعون حتى فرّج ، الله عنهم . فآمن به بعضهم . وكذلك هاهنا أراد إبراهيم عليه السلام أن يريهم قبح ما يعبدون من دون الله ، لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا قال { قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } قرأ حمزة والكسائي { رَأَى كَوْكَباً } بكسر الراء والألف ، وهي لغة لبعض العرب والنصب أفصح .
قوله تعالى :
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } معناه : وحاجّه قومه في دين الله يعني خاصموه ف { قَالَ } لهم إبراهيم { أَتُحَاجُّونّى فِى الله } يعني : أتخاصموني في دين الله { وَقَدْ هَدَانَا } الله لدينه . قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان { أَتُحَاجُّونّى } بتشديد الجيم وتخفيف النون . وقرأ الباقون بتشديد النون . لأن أصله { أتحاجونني } بنونين فأدغم أحدهما في الآخر . فقال : { قَالَ أَتُحَاجُّونّى } يعني : أتجادلوني في دين الله { وَقَدْ هَدَانِى } يعني : بيّن لي الطريق . وكانت خصومتهم أنهم حين سمعوه عاب آلهتهم فقالوا له : أما تخاف تخبلك فتهلك؟ فقال : إني لا أخاف ما لا يسمع ولا يبصر . وقال الكلبي ومقاتل : لما خوّفوه بذلك قال لهم : إنما تخافون أنتم إذ سوّيتم بين الذكر والأنثى ، والصغير والكبير . أما تخافون من الكبير إذ سويتموه بالصغير؟ وهذا قوله : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } .
قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } فيضلني ، فأخاف منهم . ويقال : إلا أن يشاء ربي شيئاً يعني : ملأ علم ربي كل شيء علماً . يعني : يعلم السر والعلانية .
ثم قال : { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } يعني : أفلا تتعظون فتؤمنون به؟ قوله تعالى : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } يعني : من الأصنام { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا } يقول : كتاباً وعذراً وحجة لكم فيه { فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن } من العذاب؟ الموحّد أم المشرك { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ذلك . ثم قال : { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } قال بعضهم : هذا قول الله تعالى لما حكى قول إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم قال : على أثر ذلك { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } يعني : لم يخالطوا تصديقهم بالشرك ولم يعبدوا غيره . { أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } من الضلالة . وقال بعضهم : هذا كله قول إبراهيم لقومه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ » قيل له : ما لهم يا رسول الله؟ قال : { أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا الماسرجي . قال : حدّثنا أبو كريب . قال : حدّثنا ابن إدريس عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود . قال : لما نزلت هذه الآية { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا ترون إلى قول لقمان لابنه { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] » يعني : إن الظلم أراد به الشرك .
ثم قال { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ } يعني : أعطيناها إبراهيم على قومه . يعني : وفقناه للحجة يخاصم بها قومه { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } يعني : فضائل من نشاء في الدنيا بالحجة ، وفي الآخرة بالدرجات { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في أمره { عَلِيمٌ } بخلقه من يصلح للنبوة . قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { درجات } بالتنوين وقرأ الباقون { درجات } على معنى الإضافة .
ثم قال :
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } يعني : لإبراهيم { إسحاق وَيَعْقُوبَ } قال الضحاك : ولدت سارة إسحاق ولها تسعة وتسعون سنة . ولإبراهيم مائة وعشرون سنة ثم ولد لإسحاق يعقوب { كُلاًّ هَدَيْنَا } يعني : إسحاق ويعقوب هديناهما بالنبوة والإسلام { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } يعني : هديناه للنبوة والإسلام من قبل إبراهيم { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } قال الكلبي : يعني من ذرية نوح . وقال الضحاك : يعني من ذرية إبراهيم { دَاوُودُ } النبي عليه السلام { وسليمان } وهو ابن داود { وَأَيُّوبَ } وهو من ولد عيصو بن إسحاق { وَيُوسُفَ } وهو ابن يعقوب { وموسى وهارون وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } يعني : نعطيهم أفضل الثواب { وَزَكَرِيَّا } يعني : من ذرية إبراهيم زكريا { ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ } قال الضحاك : كان إلياس من ولد إسماعيل .
وذكر عن القتبي أنه كان من سبط يوشع بن نون { كُلٌّ مّنَ الصالحين } يعني : من المرسلين { وإسماعيل } وهو من صلب إبراهيم عليه السلام { واليسع } قرأ حمزة والكسائي { واليسع } مشدداً . وقرأ الباقون { إسماعيل واليسع } بالتخفيف . فمن قرأ بالتشديد فالاسم منه ليسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار الليسع . ومن قرأ بالتخفيف فالاسم منه يسع . ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار اليسع . وكذا هذا الاختلاف في سورة { ص } وكان اليسع تلميذ إلياس وكان خليفته من بعده .
{ وَيُونُسَ } ابن متى { وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين } بالرسالة والنبوة في ذلك الزمان ثم ذكر آباءهم فقال : { وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم } يعني : وقد اصطفيناهم بالنبوة يعني : آدم ونوحاً وإدريس وهوداً وصالحاً عليهم السلام { وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو دين الإسلام { ذلك هُدَى الله } يعني : دين الله { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } يعني : يكرم بدينه من يشاء من عباده { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } يعني : هؤلاء النبيين { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا يعني : إنما فضلهم الله بالطاعة .
ثم قال : { أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم } يعني : العلم والفهم والفقه { والنبوة فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } أي : الأنبياء { هَؤُلاء } يعني : أهل مكة { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } يعني : ألزمنا بها { قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين } .
قال سعيد بن جبير هم الأنصار . ويقال { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } يعني : بآياتنا { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } يعني : بالإيمان بها { قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين } يعني : الأنبياء الذين سبق ذكرهم . ويقال : الملائكة . وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء } يعني : أمة محمد عليه السلام { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } قوماً ليسوا بها كافرين . يعني : النبيين الذين قصّ الله عنهم .
ثم قال { أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله } يعني الأنبياء { فَبِهُدَاهُمُ } يعني : بسنتهم وتوحيدهم { اقتده } على دينهم استقم واعمل به . وفي هذه الآية دليل أن شرائع المتقدمين واجبة علينا ما لم يظهر نسخها إذا ثبت ذلك في الكتاب ، أو على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أمرنا بأن نقتدي بهداهم ، واسم الهدى يقع على التوحيد والشرائع .
مثل قوله : { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 1 ، 2 ] والكتاب يشتمل على الشرائع وغيرها . قرأ حمزة والكسائي : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } بالهاء في الوقف والوصل جميعاً وقرأ الباقون : بالهاء في الوصل والوقف جميعاً لأنها هاء الوقف .
مثل قوله : { كتابيه } و { حِسَابِيَهْ } ثم قال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } يعني : قل للمشركين لا أسألكم على الإيمان والقرآن جَعْلاً { إِنْ هُوَ } يعني : ما هو وهو القرآن { إِلاَّ ذكرى للعالمين } يعني : موعظة للعالمين الإنس والجن .
قوله تعالى :
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } يعني : ما عظّموا الله حق عظمته ، وما عرفوه حق معرفته . نزلت في مالك بن الضيف خاصمه عمر في النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكتوب في التوراة . فغضب وقال : { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } وكان رئيس اليهود . فعزلته اليهود عن الرئاسة بهذه الكلمة . قال مقاتل : نزلت هذه الآية بالمدينة ، وسائر السور بمكة . ويقال : إن هذه السورة كلها مكية . وكان مالك بن الضيف خرج مع نفر إلى مكة معاندين ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء ، وقد كان اشتغل بالنعم ، وترك العبادة ، وسمن . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بمكة . فقال له رسول الله : « أَنْشدكَ الله أَتَجِدُ في التَّوْراةِ أنَّ الله يُبْغِضُ الحَبْرَ السَّمِين » ؟ قال : نَعَمْ قال : « فَأَنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ فَقَدْ سَمِنْتَ مِنْ مَأْكَلَتِكَ » فضحك به القوم فخجل مالك بن الضيف وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فبلغ ذلك اليهود فأنكروا عليه . فقال : إنه قد أغضبني . فقالوا : كلما غضبت قلت بغير حق وتركت دينك؟ فأخذوا الرياسة منه وجعلوها إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } حيث جحدوا تنزيله { إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء } يعني : على رسول من كتاب .
{ قُلْ } يا محمد { مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى } وهو التوراة { نُوراً } يعني : ضياء { وهدى } يعني : بياناً { لِلنَّاسِ } من الضلالة { تَجْعَلُونَهُ قراطيس } يقول : تكتبونه في الصحف { تُبْدُونَهَا } يقول : تظهرونها في الصحف { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } يعني : تكتمون ما فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وآية الرجم ، وتحريم الخمر .
{ وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } يعني : علمتم أنتم وآباؤكم في التوراة ما لم تعلموا . ويقال : علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فإن أجابوك وإلا ف { قُلِ الله } أنزله على موسى { ثُمَّ ذَرْهُمْ } إن لم يصدقوك { فِى خَوْضِهِمْ } يعني : في باطلهم { يَلْعَبُونَ } يعني : يلهون ويفترون قرأ ابن كثير وأبو عمرو { وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } كل ذلك بالياء على لفظ المغايبة . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة لأن ابتداء الكلام على المخاطبة .
ثم قال : { هذا كتابنا أنزلناه } يعني : القرآن أنزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم { مُّبَارَكٌ } لمن عمل به لأن فيه مغفرة للذنوب . وقال الضحاك { مُّبَارَكٌ } يعني : القرآن لا يتلى على ذي عاهة إلا برىء ، ولا يتلى في بيت إلا وخرج منه الشيطان .
{ مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني : هو مصدق الذي بين يديه من الكتب { وَلِيُنْذِرَ } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ولينذر } بالياء يعني : الكتاب . يعني : أنزلناه للإنذار والبركة . وقرأ الباقون : بالتاء يعني : لتنذر به يا محمد { وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى } يعني : أهل مكة وهي أصل القرى . وإنما سميت أم القرى لأن الأرض كلها دُحِيَتْ من تحت الكعبة . ويقال : لأنها مثلث قبلة للناس جميعاً . أي : يؤمونها . ويقال : سميت أم القرى لأنها أعظم القرى شأناً ومنزلة .
{ وَمَنْ حَوْلَهَا } يعني : قرى الأرض كلها .
ثم قال : { والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يعني : بالبعث { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالقرآن ومن هم في علم الله أنه سيؤمن { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } بوضوئها وركوعها وسجودها ومواقيتها .
وقوله تعالى :
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } نزلت في مسيلمة الكذاب زعم أن الله تعالى أوحى إليه وهو قوله { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله } يعني : عبد الله بن أبي سرح كان كاتب الوحي فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه { سَمِيعاً عَلِيماً } يكتب عليماً حكيماً . وإذا أملى عليه عليماً حكيماً ، كتب هو سميعاً بصيراً وشكّ وقال : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فقد أوحي إليّ ، وإن كان ينزل إليه فقد أنزل إليّ مثل ما أنزل إليه فلحق بالمشركين وكفر . وقال الضحاك : هو مسيلمة الكذاب كان يقول : بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى جسيم الأمور ، وبعثت إلى محقرات الأمور . ويقال هذا جواب لقولهم : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذآ إِنْ هاذآ إِلاَّ أساطير الأولين } [ الأنفال : 31 ] .
ثم قال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون } يعني : ولو تعلم إذ الكافرون { فِى غَمَرَاتِ الموت } أي : في نزعات الموت وسكراته . فحذف الجواب لأن في الكلام دليلاً عليه . ومعناه : لو رأيتهم في عذاب شديد .
ثم قال : { والملئكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بالضرب . ويقولون : { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } يعني : أرواحكم الخبيثة قال الفقيه أبو جعفر . قال : حدّثنا أبو القاسم أحمد بن حسين . قال : حدّثنا محمد بن سلمة . قال : حدّثنا أبو أيوب عن القاسم بن الفضل الحداني عن قتادة عن أسامة بن زهير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ أتَتْهُ المَلائِكَةُ بحَرِيرَةٍ فيها مِسْكٌ ، ومِنْ ضَبَايِرِ الرَّيْحَانِ ، وَتُسَلُّ رُوحُهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ ، ويقالُ لها : يا أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً وَمَرْضِيّاً عَنْكِ إلَى رُوحِ الله وَكَرَامَتِهِ ، فإذا خَرَجَتْ رُوحُهُ وُضِعَتْ عَلَى ذلك المِسْكِ والرَّيْحَانِ وَطُوِيَتْ عَلَيْهِ الحَرِيرَةُ وَبُعِثَ بِهَا إلى علِّيِّينَ وَإِنَّ الكافِرَ إذَا حُضِرَ أتَتْهُ المَلائِكَةُ بِمِسْحٍ فِيهِ جَمْرَةٌ ، فَتُنْتَزَعُ رُوحُهُ انْتِزَاعاً شَدِيداً . ويقالُ لَهَا : أيَّتُها النَّفْسُ الخَبِيثَةُ اخْرُجِي سَاخِطَةً وَمَسْخُوطَةً إلَى هَوَانِ الله وَعَذَابِهِ ، فإذا خَرَجَتْ رُوحُهُ وُضِعَتْ عَلَى تِلْكَ الجَمْرَةِ وإنَّ لَهَا نَشِيجاً وَيُطْوَى عَلَيْهَا المِسْحُ ، وَيُذْهَبُ بِهَا إلى سِجِّين »
ثم قال الله تعالى : { اليوم تُجْزَوْنَ } يعني إذا بعثوا يوم القيامة يقال لهم : اليوم تجزون { عَذَابَ الهون } يعني : الهوان أي الشديد { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله } في الدنيا { غَيْرَ الحق } بأن معه شريكاً { وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } يعني : عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، ولم تقرّوا به .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى } يعني : في الآخرة { فرادى } لا ولد لكم ولا مال .
الفرادى جمع فرد ، يعني : ليس معكم من دنياكم شيء . { كَمَا خلقناكم } يعني : أعطيناكم من المال والولد { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ } في الدنيا . { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ } يعني : آلهتكم { الذين زَعَمْتُمْ } في الدنيا { أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء } يعني : قلتم لي شريك ولكم شفعاء عند الله .
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص { بَيْنِكُمْ } بالنصب وقرأ الباقون { بَيْنِكُمْ } بالضم فمن قرأ بالضمّ جعل البَيْن اسماً ، يعني : تقطع وصْلُكم ومودتكم . ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم ، فيصير نصباً بالظرف كما تقول : أصبحت بينكم أي فيما بينكم . { وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } يعني : اشتغل عنكم ما كنتم تعبدون وتزعمون أنها شفعاؤكم .
وقوله تعالى :
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } يعني : يشق الحبة اليابسة ، فيخرج منها ورقاً خضراً . ويقال : فالق الحب مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها ، والنوى كل ثمرة فيها نوى مثل الخوخ والمشمش والغيبر والإجاص { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } ، وقد ذكرنا تأويله { ذَلِكُمُ الله } يعني : هذا الذي يفعل بكم هو الله تعالى : { فأنى تُؤْفَكُونَ } يعني : كيف تكفرون ومن أين تكذبون؟ فذكر عيب آلهتهم ، ثم دلّ على وحدانيته بصنعته .
ثم قال : { فَالِقُ الإصباح } يعني : خالق الإصباح والإصباح والصبح واحد ويقال الإصباح مصدر أصبح يصبح إصباحاً ، والصبح اسم وقال : فالق الإصباح يعني خالق النهار . { وَجَعَلَ اليل سَكَناً } قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم { وَجَعَلَ اليل } على معنى الخبر وقرأ الباقون { جَاعِلِ * فَالِقُ الإصباح } على معنى الإضافة يعني : يسكن فيه الخلق .
ثم قال : { والشمس والقمر حُسْبَاناً } يعني : وجعل الشمس والقمر حسباً يعني : منازلها بالحساب لا يجاوزانه إذا انتهيا إلى أقصى منازلهما رجعا وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل { حُسْبَاناً } يعني : يُعرف بها عدد السنين والحساب . وقال القتبي : { حُسْبَاناً } أي حساباً ، يقال : خذ كل شيء بحُسْبانه أي : بحسابه . وقال الكلبي : ويقال للشيء المعلق : حسباناً .
{ ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } يقول : هذا فعل العزيز في ملكه العليم بخلقه لا فعل لأصنامكم فيه .
ثم قال :
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{ وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا } يعني : لتعرفوا الطريق . { فِى ظلمات البر والبحر } يعني : لتهتدوا بالكواكب في اللَّيالي وتعرفوا بها قبلتكم . { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } يعني : بينَّا العلامات لوحدانية الله تعالى . { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وإنما أضاف إلى أهل العلم ، لأنهم هم الذين ينتفعون به ، فكأنه بيِّن لهم . ويقال لقوم يعلمون يعني : يصدقون أنه من الله تعالى .
ثم قال : { وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم } يعني : خلقكم { مّن نَّفْسٍ واحدة } وهو آدم . { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } يعني : في الرحم ومستودع في الصلب . ويقال : مستقر في الصلب ومستودع في الرحم . ويقال : مستقر في الدنيا ومستودع في القبر . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { فَمُسْتَقَرٌّ } بكسر القاف ، وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب فمعناه فلكم مستقر ولكم مستودع يعني : موضع قرار وموضع إيداع ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الفاعل يقال قَرّ الشيء واستقر بمعنى واحد يعني كنتم مستقرين { قَدْ فَصَّلْنَا الايات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } يعني : بيّنا الآيات لمن له عقل وذهن .
قوله تعالى :
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } يعني : ماء المطر { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } يعني : بالمطر { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } يعني : معاشاً للخلق من الثمار والحبوب وغير ذلك . { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } خَضِرَ واخْضَرّ بمعنى واحد ، الأخضر يعني : النبات الأخضر ، وهو أول ما يخرج .
ثم قال : { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } يعني : السنبلة قد ركب بعضها بعضاً . { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا } يعني : أخرجنا بالماء من النخل من طلعها يعني : من عذوقها وثمرها . { قنوان دَانِيَةٌ } يعني : عُذوقاً متدانية قريبة ينالها القائم والقاعد . { وجنات مّنْ أعناب } يعني : يخرج بالماء . قرأ الأعمش { وجنات } بالضم عطفها على قوله : { قنوان دَانِيَةٌ } ، وقرأ العامة بالكسر ومعناه وأخرجنا من أعناب . { والزيتون } يعني : أخرجنا منه شجر الزيتون . { والرمان متشابها } في المنظر ، { وَغَيْرَ متشابه } في الطعم يعني : بعضها حلو وبعضها حامض . { انظروا إلى ثَمَرِهِ } قرأ حمزة والكسائي { انظروا إلى ثَمَرِهِ } ، بضم الثاء والميم ، وقرأ الباقون بالنصب ، وكذلك ما بعده . فمن قرأ بالنصب فهو اسم الثمرة ، وإنما أراد به الجنس ومن قرأ بالضم فهو جمع الثمار . { إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } يعني : ونضجه يعني : انظروا إلى نضجه واعتبروا به ، واعلموا أن له خالقاً فهو قادر على أن يحييكم بعد الموت ، كما أخرج من الأرض اليابسة النبات الأخضر ومن الشجرة الثمار . { إِنَّ فِى ذلكم لايات } يعني : في اختلاف ألوانه لعلامات { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : يصدقون ويرغبون في الحق .
قوله تعالى :
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن } يعني : وضعوا لله شركاء . وقال مقاتل : وذلك أن بني جهينة قالوا : إن صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن بنات الرحمن وذلك قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن } . وقال الكلبي : وجعلوا الجن شركاء لله نزلت هذه الآية في الزنادقة ، قالوا : إن الله تعالى وإبليس لعنه الله ولعنهم أخوان . قالوا : إن الله تعالى خالق الناس والدواب ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب كقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 158 ] قال الزجاج : معناه أطاعوا الجن فيما سوّلت لهم من شركهم ، فجعلوهم شركاء الله وهذا قريب مما قاله الكلبي . ثم قال : { وَخَلَقَهُمْ } يعني : جعلوا لله الذي خلقهم شركاء ، ويقال : وخلقهم يعني خلق الجن ، ويقال : وخلقهم يعني : الذين تكلموا به { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } يعني : وصفوا له بنين وبنات . { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بلا علم يعلمونه ، ويقال بلا حجة وبيان . وروى عبد الله بن موسى عن جويرية قال : سمعت رجلاً سأل الحسن عن قوله : { وَخَرَقُواْ لَهُ } قال : كلمة عربية كانت العرب تقولها ، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول بعض القوم : خرقها . ثم نزّه نفسه فقال : { سبحانه } يعني : تنزيهاً له . { وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } يعني : هو أعلى وأجل مما يصف الكفار بأن له ولداً . قرأ نافع { وَخَرَقُواْ } بالتشديد على معنى المبالغة .
قوله تعالى : { بَدِيعُ السموات والارض } يعني : خالق السموات والأرض يعني مبدعهما ، وهو أن يبتدىء شيئاً لم يكن يعني ابتدعهما ولم يكونا شيئاً . { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } قال القتبي : { إِنّى } على وجهين يكون بمعنى كيف كقوله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين } [ البقرة : 223 ] وكقوله : { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 259 ] ، ويكون بمعنى من أين كقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الارض أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الاخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِى الاخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] وكقوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } يعني : زوجة . { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } يعني : الملائكة وعيسى وغيرهم وهم خلقه وعبيده .
{ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } مما خلق .
ثم قال : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يعني : الذي فعل هذا فهو ربكم { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : لا خالق غيره . { خالق كُلّ شَىْء فاعبدوه } يعني : وحّدوه وأطيعوه . { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يعني : كفيل بأرزاقهم ، ويقال وكيل يعني : حفيظ .
ثم عظّم نفسه فقال : { لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار } قال مقاتل : يعني لا يراه الخلق في الدنيا . وروى الشعبي عن مسروق قال قلت لعائشة هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت : لقد اقْشَعَرَّ قلبي مما قلت أين أنت من ثلاثة من حدثك بهن فقد كذّب : من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ثم قرأت { لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار } ومن حدثك أنه قد علم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ] ومن حدثك أنه كتم شيئاً من الوحي فقد كذب . ثم قرأت { يَأَيُّهَا الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } [ المائدة : 67 ] .
ثم قال : { وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار } يعني : لا يخفى عليه شيء ولا يفوته . قال الزجاج : في هذه الآية دليل أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيف حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أنهم لا يحيطون بعلمه فكيف به .
ثم قال : { وَهُوَ اللطيف الخبير } بخلقه وبأعمالهم وقال أبو العالية لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه أبصار المؤمنين في الآخرة . قوله تعالى :
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } يعني بياناً من ربكم وهو القرآن الذي فيه البيان { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } يقول : من صدق بالقرآن وآمن به فثوابه لنفسه ، { وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا } يعني : من لم يصدق بالقرآن ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فعليها جزاء العذاب { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يعني : بمسلط وهذا قبل أن يؤمر بالقتال .
ثم قال : { وكذلك نُصَرّفُ الايات } يعني : نبين لهم الآيات في القرآن في كل وجه . { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { دَارَسْتَ } يعني : ذاكرت أهل الكتاب وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي { الايات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } يعني : قرأت الكتب . ويقال : تعلمت من جبر ويسار وكانا غلامين بمكة عبرانيين فقال أهل مكة : إنما يتعلم منهما وقرأ ابن عامر { دَرَسْتَ } بنصب الراء والسين يعني : هذا شيء قديم قد خلفت وقرأ بعضهم { دَرَسْتَ } أي قرئت . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ { لّيَقُولواْ } بغير واو { درس } بغير تاء يعني : لكي يقولوا دَرَسَ النبي صلى الله عليه وسلم . وكان نزول هذه الآيات سبباً لقولهم هذا ، فأضاف قولهم إلى الآيات . ثم قال { دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يعني : أصحاب محمد عليه السلام .
ثم قال :
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } يعني : اعمل بما أنزل إليك من ربك من أمره ونهيه حين دعي إلى ملة آبائه . ثم قال { لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } يعني : اتركهم على ضلالتهم . ثم قال { وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ } يقول : ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين . ويقال : لو شاء لأنزل عليهم آية يؤمنوا بها لو شاء لاستأصلهم فقطع سبب شركهم . { وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } يعني : أن لم يوحّدوا { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني : بمسلط وقوله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان يذكرون الأصنام بسوء ويذكرون عيبهم ، فقال المشركون : لتنتهين عن شتم آلهتنا ، أو لنسبنّ ربك . فنهى الله تعالى المؤمنين عن شتم آلهتهم عندهم لأنهم جهلة . { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً } يعني : اعتداءً { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بلا علم منهم ويقال : { عَدُوّا } يعني : ظلماً صار نصباً بالمصدر ، وفي الآية دليل أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بالمعروف فيقع المأمور به في أمر هو شر مما هو فيه من الضرب أو الشتم أو القتل ، ينبغي أن لا يأمره ويتركه على ما هو فيه . ثم قال : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا } يقول : هكذا زينا { لِكُلّ أُمَّةٍ } يعني : لكل أهل دين عملهم يعني : ضلالتهم في الدنيا عقوبة ومجازاة لهم { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ } في الآخرة { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : فيجازيهم بذلك . قوله تعالى :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك ، وكانوا يحلفون بالله تعالى ، وكان يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله ، ولما نزل قوله تعالى { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء ءَايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين } [ الشعراء : 4 ] الآية قالوا : أنْزِلها فوالله لنؤمنن بك . وقال المسلمون : أنْزِلها لكي يؤمنوا فنزل { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } يقول : حلفوا بالله { لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله } إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها .
ثم قال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا } يقول : وما يدريكم أنها { إِذَا جَاءتْ } يعني : الآية { لاَ يُؤْمِنُونَ } وقال مقاتل : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } يا أهل مكة أنها إذا جاءتكم لا تؤمنون . وقال الكلبي { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } . أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { أَنَّهَا } بالكسر على معنى الابتداء وإنما يتم الكلام عند قوله { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } ثم ابتدأ فقال : { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . ويشهد لهذا قراءة عبد الله بن مسعود { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . وقرأ الباقون { أَنَّهَا } بالنصب على معنى البناء ويشهد لها قراءة أُبي وما يشعركم لعلها إذا جاءت . وقرأ ابن عامر وحمزة { لاَ تُؤْمِنُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة ، وهذه القراءة توافق لقول مقاتل .
ثم قال :
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم } يعني : نترك قلوبهم وأبصارهم مغلقة كما هي ولا أوفقهم . { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قبل نزول الآيات ويقال عند انشقاق القمر : لما لم يعتبروا به ولم يؤمنوا فعاقبهم الله تعالى وختم على قلوبهم فثبتوا على كفرهم . { وَنَذَرُهُمْ } يقول : وندعهم { فِي طغيانهم } يعني : في ضلالتهم { يَعْمَهُونَ } يعني : يترددون ويتحيرون فيه . ويقال : { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : كما لم يؤمن به أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآية من أنبيائهم قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة } هذا جواب لقولهم : { وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتنى اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } [ الفرقان : 27 ] قال الله تعالى . ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة كما سألوا حتى يشهدوا بأنك رسول الله { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } بأنك رسول الله { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } قرأ نافع وابن عامر { قُبُلاً } بكسر القاف ونصب الباء . وقرأ الباقون بالضم ، فمن قرأ بالضم فمعناه جماعة القبيل . والقبيل الكفيل . ويقال قبلاً : أي أصنافاً من الآدميين ومن الملائكة ومن الوحش . ومن قرأ { قُبُلاً } بالكسر معناه : وحشرنا عليهم كل شيء معاينة فعاينوه . { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } وهذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون كما أعلم نوحاً عليه السلام { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ هود : 36 ] .
ثم قال : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } يعني : إلا من هو أهل لذلك فيوفقه الله تعالى . ويقال : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } يقول : قد شاء الله أن لا يؤمنوا حيث خذلهم ولم يوفقهم . { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } عن ذلك ويقال : أكثرهم يجهلون الحق أنه من الله تعالى . ويقال : يجهلون ما في العلامة من وجوب هلاكهم بعد العلامة إن لم يؤمنوا . قوله تعالى :
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } يعني : أعداء ومعنى ذلك كما جعلنا لك ولأمتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه كذلك جعلنا لكل نبي عدواً { شياطين الإنس والجن } قال مقاتل وذلك أن إبليس وكل شياطين الإنس وشياطين الجن يضلونهم فإذا التقى شيطان الجن مع شيطان الإنس قال أحدهما للآخر : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضْلِلْ أنت صاحبك بكذا وكذا . فذلك قوله : { يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يعني : يكلم بعضهم بعضاً بالإضلال . وقال عكرمة : للجن شياطين مثل شياطين الإنس . وروي عن الزبير بن العوام أنّ جنياً شكا إليه ما لقي من الشيطان ، فعلمه دعاء ليخلص منه فدعا به ، ووجه آخر شياطين الإنس والجن يعني : الشياطين من الإنس والشياطين من الجن ، لأن كل عات متمرد فهو شيطان . وروي عن أبي ذر الغفاري أنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فأمرني أن أصلي ركعتين فصليت ثم جلست عنده قال : « يا أَبَا ذَرَ تَعَوَّذْ بِالله مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَشَيَاطِينَ الجِنِّ » فقلت يا رسول الله أوَ من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أوَ مَا تَقْرَأ قَوْلَهُ { شياطين الإنس والجن } ؟ » وكذلك هذان القولان من قوله تعالى { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 5 ، 6 ] ثم قال { يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يعن يوسوس بعضهم بعضاً . { زُخْرُفَ القول غُرُوراً } يعني : ما زين منه وحسن وموه يعني : يزين القول باطلاً ، يغرهم بذلك . وأصل الزخرف الذهب . وسمى الزينة زخرفاً لأن أصل الزينة من الذهب يعني : يزين لبعض الأعمال .
ثم قال : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } يعني : لو شاء ربك لمنعهم من الوسوسة ، ولكن الله يمتحن بما يعلم أنه أبلغ في الحكمة وأجزل في الثواب { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } يعني : خلّ عنهم وما يكذبون من القول والغرور .
ثم قال : { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } يقول : ولتميل إلى ذلك الزخرف والغرور . { أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } إلى هذه الزينة والغرور { وَلِيَرْضَوْهُ } يقول : لكي يقبلوا من الشياطين الزينة والغرور { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } يعني : ليكسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي وليعملوا ما هم عاملون . وقرأ بعضهم { وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ } بجزم اللام على معنى الأمر ، والمراد به التهديد كقوله { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 40 ] والقراءة المعروفة بكسر اللام ، والمراد به التهديد ، ومعناه : اتركهم ليعلموا ما هم عاملون .
وقوله تعالى :
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً } يعني : أعْبُدُ غير الله؟ ويقال : أأطلب القضاء من غير الله؟ { وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً } يعني : مبيناً فيه أمره ونهيه بلغة يعرفونها . ويقال : مفرقاً سورة سورة وآية آية . { والذين ءاتيناهم الكتاب } يعني : مؤمني أهل الكتاب { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق } يعني : القرآن منزل من الله بالعدل . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص { مُنَزَّلٌ } بتشديد الزاي ، وقرأ الباقون بالتخفيف .
ثم قال : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } يعني : الشاكين في أنه الحق وأنه من الله تعالى . خاطبه بذلك وأراد به غيره من المؤمنين لكي لا يشكوا فيه .
قوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } يقول وجب قول ربك بأنه ناصر محمد صلى الله عليه وسلم وأن عاقبة الأمر به { صِدْقاً وَعَدْلاً } يعني : { صِدْقاً } فيما وعد الله له من النصرة { وَعَدْلاً } فيما حكم به { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } يقول : لا مغيّر لوعده كقوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد } [ غافر : 51 ] ويقال : { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } يعني : لا ينقض بعضها بعضاً ولا يشبه كلام البشر . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } قال : « هُوَ قَوْلُ لاَ إله إِلاَّ الله » { وَهُوَ السميع العليم } { السميع } بما سألوا { العليم } بهم .
ثم قال : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض } يعني : أهل أرض مكة فيما يدعونه إلى ملة آبائه . ويقال : وإن تطع أكثر من في الأرض يعني : الكفار لأن أكثر من في الأرض كانوا الكفار . { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } يعني : يصرفوك عن دين الإسلام { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني : أن أكثرهم يتبعون أكابرهم بالظن ، ويتبعونهم فيما لا يعلمون أنهم على الحق فإن قيل : كيف يعذبون وهم ظانون على غير يقين؟ قيل لهم : لأنهم اقتصروا على الظن والجهل ، لأنهم اتبعوا أهواءهم ولم يتفكروا في طلب الحق . ويقال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني في أكل الميتة واستحلالها { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يعني : ما هم إلا كاذبون باستحلالهم الميتة ، لأنهم كانوا يقولون : ما قتل الله فهو أولى بالحل وبأكله مما نذبحه بأيدينا . { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } يعني : عن دينه وعن شرائع الإسلام . { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } لدينه قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } وقرأ الباقون { كلمات } بلفظ الجماعة .
قوله تعالى :
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } من الذبائح { إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين . فقد بيّن الله تعالى أنه لا يجوز أكل الميتة وإنما يحل أكله إذا ذُبح وذُكر اسْمُ الله عليه .
ثم قال : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } مما ذبح وذكر اسم الله عليه { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } يعني : بيّن لكم تحريمه في سورة المائدة وغيره من { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } يعني : الميتة وغيرها { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } يقول : ما اجتهدتم إلى أكل الميتة عند الجوع . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو { فَصَّلَ لَكُم } بضم الفاء { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } بضم الحاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وَقَدْ فَصَّلَ } بالنصب { وَمَا حَرَّمَ } بالضم وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص كلاهما بالنصب يعني : بيّن الله لكم ما حرم عليكم .
ثم قال : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } يقول : يدعون إلى أكل الميتة بغير علم { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } من الحلال إلى الحرام .
قوله تعالى :
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } يعني : زنى السر والعلانية لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون الزنى في العلانية ، ولا يرون به بأساً في السر . فأخبر الله تعالى أن الزنى حرام في السر والعلانية . ويقال : ظاهر الإثم وهو الزنى وباطنه القُبْلة واللَّمس والنظر . وقال الضحاك { ظاهر الإثم } الزنى وباطنه نكاح الأمهات والأخوات وقال قتادة : { ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } يعني : قليله وكثيره . ويقال : ظاهره ارتكاب المعاصي ، وباطنه ترك الفرائض . ويقال : باطنه الرياء في الأعمال . ويقال : الكفر ويقال : جميع المعاصي . { إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم } يقول : يعملون الفواحش ويتكلمون بها { سَيُجْزَوْنَ بِمَا يَقْتَرِفُونَ } سيعاقبون بما كانوا يكسبون من الإثم . قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي : وإن كثيراً ليُضلون بأهوائهم بضم الياء يعني : يضلون الناس . وقرأ الباقون { لَّيُضِلُّونَ } بنصب الياء يعني يَضلون بأنفسهم .
قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } يعني : ما لم يُذَك ولم يذبح أو ذبح بغير اسم الله { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } يعني : أكله معصية واستحلاله كفر . { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ } يعني : يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين { ليجادلوكم } يقول : ليخاصموكم في أكل الميتة . وهو قولهم : ما قتله الله فهو أولى أن يؤكل . وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له : إن المختار يقول : يوحى إليّ فقال ، صَدَق { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ } .
قال الفقيه قال : حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال : حدّثنا أبو جعفر الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال قال المشركون للمسلمين : ما قتل ربكم ومات فلا تأكلوه وما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلوه فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } . . . إلى قوله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } يعني : في أكل الميتة واستحلاله { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } مثلهم ففي الآية دليل أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار مشركاً .
ثم قال :
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه } يعني من كان ضالاً كافراً فهديناه إلى الإسلام والتوحيد { وجعلنا له نوراً يمشي في الناس } يعني : أكرمناه بالمعرفة . ويقال : جعلنا له إيماناً يهتدي به سبيل الخيرات ، والنجاة يمشي به في الناس يعني : مع المؤمنين . ويقال : أعطيناه نوراً يوم القيامة يمشي به على الصراط مع المؤمنين . لا يكن حاله { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات } يعني : كمن قدر عليه الكفر ونزل في الكفر مخذولاً { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } يعني : ليس براجع منها . يعني : ليسا بسواء . قال الكلبي : نزلت في عمار بن ياسر يعني ليس حاله بحال الكفار . وقال مقاتل : يعني به النبي صلى الله عليه وسلم ليس مثل أبي جهل بن هشام الذي بقي في الكفر . ويقال : يعني جميع المؤمنين ليس حالهم كحال الكفار . قرأ نافع { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا } بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، ومعناهما واحد .
ثم قال : { كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : هكذا نعاقب من اختار الكفر على الإيمان فنختم على قلبه مجازاة لكفره .
ثم قال : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا } يعني جعلنا مجرميها أكابرها وجبابرتها كما جعلنا في أهل مكة وهذا معطوف على ما قبله أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية كما زين للكافرين { لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } يعني : ليتكبروا فيها ويكذبوا رسلهم { وَمَا يَمْكُرُونَ } يعني : وما يصنعون ذلك { إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } يعني : إلا على أنفسهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن ذلك على أنفسهم .
قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } يعني : الأكابر الذين سبق ذكرهم . ويقال : كفار مكة إذا جاءتهم علامة مثل انشقاق القمر وغيره { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ } يعني : لن نصدقك ولن نؤمن بالآية { حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ } أي مثل ما أعطي { رُسُلُ الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات والعلامات . ويقال : لم نصدقك حتى يوحى إلينا كما أوحي إلى الرسل ، وذلك أن الوليد بن المغيرة وأبا مسعود الثقفي قالا : لو أراد الله تعالى أن ينزل الوحي لأنزل علينا . قال بعضهم : أرادوا به محمداً صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : أرادوا به جميع الرسل فقال الله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ومن يصلح للنبوة ومن لا يصلح فخصّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } يعني : أشركوا { صَغَارٌ عِندَ الله } يعني : مَذَلَّة وهوان عند الله أي من عند الله العذاب بالمستهزئين { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } يعني : يكذبون بالرسل قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } بلفظ الوحدان وقرأ الباقون { ***رسالاته } بلفظ الجماعة .
قوله تعالى : { يَمْكُرُونَ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } يعني : من يرد الله أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه { يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يقول يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام ، ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته . وقال القتبي : { يَشْرَحْ صَدْرَهُ } يعني : يفتحه .
قال الفقيه : قال : حدّثنا الخليل بن أحمد حدّثنا الديبلي قال : حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن خالد بن أبي كريمة عن عبد الله بن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت هذه الآية { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } قالوا : يا رسول الله : فكيف ذلك؟ إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح قالوا : وهل لذلك من علامة يعرف به؟ قال : « نَعَمْ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ »
ثم قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } عن الإسلام فلا يقبله ويتركه بغير نور { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً } عن الإسلام يعني : غير موسع { حَرَجاً } يعني : شاكاً . وقال ابن عباس : كالشجرة الملتفة بعضها في بعض لا يجد النور منفذاً ومجازاً قرأ ابن كثير { ضَيّقاً } بتخفيف الياء وجزمها . وقرأ الباقون بالتشديد . وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { حَرَجاً } بكسر الراء . وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب فهو المصدر . ومن قرأ بالكسر فهو النعت .
ثم قال : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } يعني : مثله كمثل الذي يتكلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيع ، فكذلك قلب الكافر لا يستطيع قبول الإسلام . قرأ ابن كثير { يَصْعَدُ } بجزم الصاد ونصب العين بغير تشديد من صَعَد يَصْعَد . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَصَّاعد } بالألف مع تشديد الصاد وتخفيف العين لأن أصله يتصاعد فأدغم التاء في الصاد . وقرأ الباقون : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ } بتشديد الصاد والعين بغير ألف لأن أصله يتصعد فأدغم التاء في الصاد ثم قال : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس } يعني : العذاب { عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } بترك حلاوة الإيمان على الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال الرجس في اللغة : هو اللعنة والعذاب .
قوله تعالى :
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } يعني : الأكابر الذين سبق ذكرهم . ويقال : كفار مكة إذا جاءتهم علامة مثل انشقاق القمر وغيره { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ } يعني : لن نصدقك ولن نؤمن بالآية { حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ } أي مثل ما أعطي { رُسُلُ الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات والعلامات . ويقال : لم نصدقك حتى يوحى إلينا كما أوحي إلى الرسل ، وذلك أن الوليد بن المغيرة وأبا مسعود الثقفي قالا : لو أراد الله تعالى أن ينزل الوحي لأنزل علينا . قال بعضهم : أرادوا به محمداً صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : أرادوا به جميع الرسل فقال الله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ومن يصلح للنبوة ومن لا يصلح فخصّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } يعني : أشركوا { صَغَارٌ عِندَ الله } يعني : مَذَلَّة وهوان عند الله أي من عند الله العذاب بالمستهزئين { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } يعني : يكذبون بالرسل قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } بلفظ الوحدان وقرأ الباقون { ***رسالاته } بلفظ الجماعة .
قوله تعالى : { يَمْكُرُونَ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } يعني : من يرد الله أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه { يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يقول يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام ، ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته . وقال القتبي : { يَشْرَحْ صَدْرَهُ } يعني : يفتحه .
قال الفقيه : قال : حدّثنا الخليل بن أحمد حدّثنا الديبلي قال : حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن خالد بن أبي كريمة عن عبد الله بن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت هذه الآية { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } قالوا : يا رسول الله : فكيف ذلك؟ إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح قالوا : وهل لذلك من علامة يعرف به؟ قال : « نَعَمْ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ »
ثم قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } عن الإسلام فلا يقبله ويتركه بغير نور { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً } عن الإسلام يعني : غير موسع { حَرَجاً } يعني : شاكاً . وقال ابن عباس : كالشجرة الملتفة بعضها في بعض لا يجد النور منفذاً ومجازاً قرأ ابن كثير { ضَيّقاً } بتخفيف الياء وجزمها . وقرأ الباقون بالتشديد . وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { حَرَجاً } بكسر الراء . وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب فهو المصدر . ومن قرأ بالكسر فهو النعت .
ثم قال : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } يعني : مثله كمثل الذي يتكلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيع ، فكذلك قلب الكافر لا يستطيع قبول الإسلام . قرأ ابن كثير { يَصْعَدُ } بجزم الصاد ونصب العين بغير تشديد من صَعَد يَصْعَد . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَصَّاعد } بالألف مع تشديد الصاد وتخفيف العين لأن أصله يتصاعد فأدغم التاء في الصاد . وقرأ الباقون : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ } بتشديد الصاد والعين بغير ألف لأن أصله يتصعد فأدغم التاء في الصاد ثم قال : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس } يعني : العذاب { عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } بترك حلاوة الإيمان على الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال الرجس في اللغة : هو اللعنة والعذاب .
قوله تعالى :
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{ وهذا صراط رَبّكَ مُسْتَقِيماً } يعني : هذا التوحيد دين ربك مستقيماً يعني : قائماً برضاه { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } يعني : قد بيّنا العلامات وبيّنا الآيات في أمر القلوب والهدى والضلالة { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يعني : يتعظون ويتفكرون في توحيد الله تعالى . ويقال : معناه لا عذر لأحد في التخلّف عن الإيمان لأن الله تعالى قد بيّن طريق الهدى ، وقد بيّن العلامات في ذلك لمن كان له عقل وتمييز .
ثم ذكر ما أعدّ الله للمؤمنين في الآخرة فقال : { لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبّهِمْ } وهي الجنة وهي دار السلام من الأمراض والآفات والخوف و الهرم وغير ذلك . ويقال : { لَهُمْ دَارُ السلام } فالله السلام والجنة داره يعني : دار رب العزة التي أعد لأوليائه بالثواب { وَهُوَ وَلِيُّهُم } أي الله تعالى حافظهم وناصرهم في الدنيا . ويقال : هو وليهم في الآخرة بالثواب { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } يقول : واذكر يوم يجمعهم الله { جَمِيعاً } يعني : الجن والإنس . قرأ عاصم في رواية حفص { يَحْشُرُهُمْ } بالياء يعني : أن الله يحشرهم وقرأ الباقون { نَحْشُرُهُمْ } بالنون { كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يقول لهم يا معشر الجن { قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } يعني : قد أضللتم كثيراً من الإنس { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس } الذين أضلوهم { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } يعني : انتفع بعضنا ببعض وكان استمتاع الإنس بالجن في الدنيا أن أهل الجاهلية كانوا إذا سافر واحد منهم فأدركه المساء بأرض قفر وخاف بالليل فقال : أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه ، فأمن ، ولبث في جوارهم حتى يصبح . وكان استمتاع الجن بالإنس أن قالوا : لقد سوّدنا الإنس والجن فيزيدون شرفاً في قومهم يعني : فيما بين الجن والإنس .
{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا } يعني : الموت الذي جعلته أجلنا في هذه الدنيا وهذا قول الكلبي . وقال الضحاك : { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } يعني : خدع بعضنا بعضاً عن دينك يعني : أن الجن قد خدعنا وأضَلَّنَا { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا } يعني : ما كتبت علينا من الشقاوة { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ } يعني : منزلكم وهم الجن والإنس { خالدين فِيهَا } مقيمين في النار { إِلاَّ مَا شَاء الله } قال الكلبي : مشيئة الله من كل شيء ، ويقال : إلا ما شاء الله البرزخ والقيامة قد شاء الله لهم الخلود فيها . ويقال { إِلاَّ مَا شَاء الله } يخرج منها من أهل التوحيد { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ثم قال : { وكذلك نُوَلّى } يعني : نسلط { بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } يعني : كفار الجن على كفار الإنس . ويقال : نسلط بعض الظالمين بعضاً فيهلكه ويذله .
وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه . لأنه لو لم يمتنع يسلط الله عليه ظالماً آخر . ويدخل في الآية جميع من يظلم ومن ظلم في رعيته أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم . وقال فضيل بن عياض : إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً . وقال ابن عباس : إذا رضي الله عن قوم ولّى أمرهم خيارهم . وإذا سخط الله على قوم ولّى أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون ، ثم تلا قوله { وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } .
وعن مالك بن دينار قال : قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله تعالى يقول : إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أجعلهم عليكم رحمة . ثم قال : { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : يسلط بعضهم على بعض بأعمالهم الخبيثة .
ثم يقول لهم :
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس } يعني : يقول لهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } قال مقاتل : بعث الله تعالى رسولاً من الجن إلى الجن ومن الإنس إلى الإنس . ويقال رسل الجن السبعة الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى قومهم منذرين . وقالوا : يا قومنا أجيبوا داعي الله . ويقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } يعني : من الإنس خاصة . وقال ابن عباس : كانت الرسل تبعث إلى الإنس وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس .
ثم قال { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ } يقول : يقرؤون ويعرضون عليكم { ءاياتي } يعني : القرآن { وَيُنذِرُونَكُمْ } يعني : يخوّفونكم { لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } يعني يقولون بلى أقررنا أنهم قد بلغوا وكفرنا بهم . ثم قالت الرسل : وذلك بعدما شهد عليهم سمعهم وأبصارهم يقول الله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } يعني : ما في الحياة الدنيا من زهرتها وزينتها { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } في الدنيا . ويقول الله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خالدين فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] على وجه التقديم والتأخير .
قوله تعالى : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ } يعني : ذلك السؤال والشهادة ويقال { ذلك } يعني : إرسال الرسل إلى الجن والإنس ليعلم أن لم يكن الله مهلك القرى يعني : معذب أهل القرى بغير ذنب في الدنيا { وَأَهْلُهَا غافلون } عن الرسل . ويقال : غافلون عن العذاب لأنه قد بيّن لهم وأخذ عليهم الحجة .
ثم قال :
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{ وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ } يعني : ولكل واحد من المؤمنين فضائل في الجنة بعضهم أرفع درجة من بعض ، وللكافرين درجات بعضهم أشد عذاباً من بعض .
{ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } يعني : لمن ينسى الطاعة من المطيعين ، ولا المعصية من العاصين ، ويجازي كل نفس بما عملت . قرأ ابن عامر { عَمَّا تَعْمَلُونَ } على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون : { يَعْمَلُونَ } بالياء على معنى المغايبة .
قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة } يعني : غني عن عبادة خلقه ، { ذُو الرحمة } بتأخير العذاب عنهم ويقال : { ذُو الرحمة } يعني : ذو التجاوز عمن تاب ورجع إليه بالتوبة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني : يهلككم { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء } خلقاً بعدكم من بعد إهلاككم { مَا يَشَاء } إن يشأ مثلكم ، وإن يشأ أطوع منكم . { كَمَا أَنشَأَكُمْ } يقول : كما خلقكم { مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء } قرناً من بعد قرن ولكنه لم يهلككم رحمة منه ، لترجعوا وتتوبوا .
ثم قال : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ } يعني : الوعيد الذي أوعد في الآخرة من العذاب لآتٍ ، يقول : لكائن لا خلف فيه { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } يعني : بسابقين الله بأعمالكم الخبيثة التي يجازيكم بها . هذا قول مقاتل . وقال الكلبي : { بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين أن يدرككم . ويقال في اللغة : أعجزني الشيء أي : فاتني وسبقني . ثم قال : { قُلْ يا قوماعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي : على موضعكم . يقال : مكان ومكانة مثل منزل ومنزلة . ومعناه اعملوا على ما أنتم عليه . ويقال : معناه اجتهدوا في إهلاكي ما استطعتم ويقال : اعملوا في منازلكم من الخير والشر فإنكم تجزون بهما لا محالة .
{ إِنّى عامل } بما أوحى الله إلي ويقال : اعملوا بمكاني وأنا عامل بمكانكم . { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } فهذا وعيد من الله تعالى . يقول : نبيّن لكم من تكون له عاقبة الأمر في الدنيا ، ومن تكون له الجنة في الآخرة .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي : في الآخرة ، ولا يأمن المشركون . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } في جميع القرآن بلفظ الجماعة . وقرأ الباقون { مَكَانَتِكُمْ } . وقرأ حمزة والكسائي { مَّن يَكُونُ } بالياء لأنه انصرف إلى المعنى وهو الثواب والباقون قرؤوا بالتاء لأن لفظ العاقبة لفظ مؤنث .
قوله تعالى :
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والانعام } وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كانوا يسمون لله جزءاً من الحرث ، ولأوثانهم جزءاً . فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه . وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء الأصنام تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا . وقال السدي : ما خرج من نصيب الأصنام أنفقوه عليها ، وما خرج من نصيب الله تصدقوا به . فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من النفقة . فأخذوا الذي لله ، وأنفقوه على الأصنام . وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا : لو شاء الله لأزكى ماله فلا يزيدون عليه شيئاً . فذلك قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } يعني : مما خلق من الحرث والأنعام { نَصِيباً } يعني : جعلوا لله نصيباً ، ولشركائهم نصيباً ، فاقتصر على المذكور لأن في الكلام دليلاً على المسكوت عنه { فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ } يقول بقولهم ولم يأمرهم الله بذلك { وهذا لِشُرَكَائِنَا } يعني : للأصنام { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ } يعني : لأصنامهم { فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله } يقول : فلا يضعون شيئاً في نصيب الله { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } يقول : يوضع في نصيبهم { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } يعني : لو كان معه شريك كما يقولون ما عدلوا في القسمة . ويقال : { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } حيث وصفوا لله شريكاً . قرأ الكسائي ( بزعمهم ) بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد .
ثم قال تعالى : { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ } يعني : زين لهم شركاؤهم وهم الشياطين قتل أولادهم ، لأنهم يقتلون أولادهم مخافة الفقر والحمية ، ويدفنون بناتهم أحياء فزين لهم الشيطان ذلك ، كما زيّن لهم تحريم الحرث والأنعام . ويقال : كان واحد منهم ينذر أنه إذا ولد كذا وكذا ولد يذبح واحداً منهم كما فعل عبد المطلب . فزين لهم الشيطان قتل أولادهم . فذلك قوله { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ } قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { وكذلك زُيّنَ } بضم الزاي { قَتْلَ } بضم اللام { أولادهم } بفتح الدال { شُرَكَائِهِمْ } بالخفض . وإنما قرىء { زُيّنَ } بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه : قتل شركائهم على معنى التقديم ، وهم أولادهم لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم ، فصار شركاؤهم نعتاً للأولاد ، وصار الأولاد نصباً على وجه التفسير . وقرأ الباقون { زُيّنَ } بالنصب لأنه فعل ماض { شُرَكَاؤُهُمْ } بالضم لأنه جعل الشركاء على وجه الفاعل .
ثم قال : { لِيُرْدُوهُمْ } يعني : ليهلكوهم بذلك { وَلِيَلْبِسُواْ } يعني : ليخلطوا وليشبهوا { عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } يعني : دين إبراهيم وإسماعيل .
ثم قال : { وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ } يعني : لو شاء الله لمنعهم من ذلك منع اضطرار وقهر وأهلكهم { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } يعني : دعهم وما يكذبون بأن الله أمرهم بذلك ، ومعناه : أن الله مع قدرته عليهم قد تركهم إلى وقت قدرهم ، فاتركهم أنت أيضاً إلى الوقت الذي تؤمر بقتالهم . ويقال : معناه دعهم فإنّ لهم موعداً بين يدي الله فيحاسبهم ويجازيهم بها .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ } وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث وهو نوع من الزرع حرموها على النساء . { حِجْرٍ } يعني : حرام والحجر يكون عبارة عن العقل كقوله تعالى : { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } « [ الفجر : 5 ] أي : لذي لب وعقل ويكون عبارة عن الحرام كقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 22 ] يعني : حراماً محرماً وكقوله { وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 138 ] يعني : حراماً { لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ } من الرجال دون النساء ، وهو مالك بن عوف كان يفتيهم بالحل والحرمة . وكان يقول : هذا يجوز وهذا لا يجوز لأشياء كانوا حرموها برأيهم .
ثم قال { وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا } وهي الحام من الإبل كانوا يتركونها ولا يركبونها { وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } يعني : عند الذبيحة ويقال : عند الركوب وهي البحيرة { افتراء عَلَيْهِ } يعني : اختلاقاً وكذباً على الله بأنه أمرهم بذلك { سَيَجْزِيهِم } يعني : سيعاقبهم { بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : يكذبون على الله بأنه أمرهم { وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } قال الكلبي يعني : البحيرة والوصيلة حلال لذكورنا ما دامت في الأحياء ، وليس للنساء فيه شركة ولا نصيب . فذلك قوله : { وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } يعني : من هذه الأنعام { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } يعني : الرجال والنساء في أكلها . وقال الضحاك : كانت الناقة إذا ولدت فصيلاً ذكراً حرموا لحم الفصيل ولبن الناقة على النساء دون الرجال ، وإن وضعت فصيلاً ميتاً اشتركت الرجال والنساء في لحم الفصيل ولبن الناقة . ذكر في أول الكلام { خَالِصَةٌ } لفظ التأنيث ، لأنه انصرف إلى المعنى ، ومعناه : حمله ما في بطون هذه الأنعام .
ثم قال { وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } ذكر بلفظ التذكير ، لأنّه انصرف إلى قوله : { مَا فِى بُطُونِ } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وَأَنْ * تَكُنْ } بالتاء على معنى التأنيث { مَيْتَةً } بالنصب يعني : وإن تكن الجماعة ميتة صارت الميتة خبر كان . وقرأ ابن عامر { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } بالضم يعني : وإن كانت ميتة جعلها اسم كان رفعاً وقرأ ابن كثير { وَإِن يَكُنْ } بالياء { مَيْتَةً } بالضم يعني وإن : كان ما فيه ميتة بلفظ التذكير وجعل الميتة اسم كان .
وقرأ الباقون { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } جعلوا الميتة خبر كان بلفظ التذكير .
ثم قال : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } صار نصباً لنزع الخافض يعني : سيعاقبهم بكذبهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } { حَكِيمٌ } عليهم بالعذاب { عَلِيمٌ } بهم . وفي الآية دليل أن العالم ينبغي أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به حتى يعلم فساد قوله ، ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ، ليعرفوا فساد قولهم .
قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم } يعنوا : دفنوا بناتهم أحياء وقتلوهن { سَفَهاً } صار نصباً لنزع الخافض يعني : جهلاً منهم { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : بغير حجة منهم في قتلهن وهم ربيعة ومضر كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه كان لا يزال مغتماً بين يديه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَا لَكَ تَكن مَحْزُوناً » ؟ فقال : يا رسول الله إني قد أذنبت في الجاهلية ذنباً ، فأخاف أن لا يغفر لي وإني أسلمت فقال له : « أَخْبِرْنِي عَنْ ذَنْبِكَ » فقال : يا رسول الله : إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت ، فتشفعت إليَّ امرأتي بأن أتركها فتركتها حاتى كبرت ، وأدركت فصارت من أجمل النساء فخطبوها ، فدخلت عليَّ الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج . فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب بها إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي فسرت بذلك وزيّنتها بالثياب والحلي ، وأخذت عليَّ المواثيق بأن لا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر ، فنظرت إلى البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر ، فالتزمت بي وجعلت تبكي وتقول : يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي فرحمتها ، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحمية ، ثم التزمتني وجعلت تقول : يا أبت لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر ، ومرة أنظر إليها ، وأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني . فمكثت هناك حتى انقطع صوتها . فرجعت فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال « لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أعَاقِبَ أَحَداً بِمَا فَعَلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَعَاقَبْتُكَ بِمَا فَعَلْتَ »
ثم قال : { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله } يعني : ما أعطاهم { افتراء } يعني : كذباً { عَلَى الله } بأنه قد حرم ذلك عليهم { قَدْ أَضَلُّواْ } عن الهدى { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } يعني : وما هم بمهتدين ويقال : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } من قبل فخذلهم الله بذلك قرأ ابن كثير وابن عامر { قاتلوا } بالتشديد لتكثير الفعل والباقون بالتخفيف .
قوله تعالى :
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{ وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات } يعني : خلق البساتين يعني : الكروم وما يعرش وهو الذي يبسط مثل القرع ونحو ذلك { وَغَيْرَ معروشات } يعني : كل شجرة قائمة على أصولها { والنخل والزرع } يعني : خلق النخل والزرع { مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } يعني : طعمه مثل الحامض والحلو والمر { والزيتون والرمان متشابها } يعني : المنظر { وَغَيْرَ متشابه } يعني : في الطعم { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } وإنما ذكر ثمره بلفظ التذكير ، لأنه انصرف إلى المعنى يعني : ثمره الذي ذكرها { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات } يعني : أعطوا زكاته يوم كيله ورفعه . قرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر { حَصَادِهِ } بنصب الحاء . وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات } قال : العُشْر ونصف العشر . وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات } قال : عند الزرع أي يعطي القبض وهو بأطراف الأصابع ، ويعطي عند الصرام القبض ، ويدعهم يتتبعون آثار الصرام . وعن الربيع بن أنس { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات } قال : لقاط السنبل . وقال الحسن : نسختها آية الزكاة . وقال إبراهيم : نسختها العشر ونصف العشر : وقال الضحاك : نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وهكذا قال عكرمة . وقال سفيان . سألت السدي عن قوله تعالى : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات } قال : هذه السورة مكية نسختها العشر ونصف العشر قلت عمن؟ قال عن العلماء . قال الفقيه الذي قال إنه صار منسوخاً يعني : أداؤه يوم الحصاد بغير تقدير صار منسوخاً ولكن أصل الوجوب لم يصر منسوخاً . وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم التقدير وهو العشر أو نصف العشر .
ثم قال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } قال ابن عباس رضي الله عنهما : عمد ثابت بن قيس إلى خمسمائة نخلة فصرمها وقسمها في يوم واحد فأمسى ولم يكن لأهله شيء فنزل { وَلاَ تُسْرِفُواْ } يعني : ولا تتصدقوا بكله ، ودعوا لعيالكم شيئاً . وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : جد لمعاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء . فنزل { وَلاَ تُسْرِفُواْ } ويقال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } يعني : ولا تنفقوا في المعصية . قال مجاهد : لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى ما يكون إسرافاً ، ولو أنفقت درهماً في طاعة الشيطان كان إسرافاً . وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } قال : الإسراف ما قصرت عن حق الله تعالى . ويقال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } يقول : لا تشركوا الآلهة في الحرث والأنعام . وقد ذكر قوله : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني : من ثمر ما ذكرنا .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } يعني : المشركين الذين يشركون الآلهة في الحرث والأنعام . ثم قال : { وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا } يعني : أنشأ لكم وخلق لكم من الأنعام حمولة وفرشاً أي : مما يحمله عليه من الإبل والبقر وفرشاً مثل الغنم وصغار الإبل . وقال القتبي : الفرش ما لا يطيق الحمل عليه ، وهي ما دون الحفاف التي لا تصلح للركوب . { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي : من الحرث والأنعام حلالاً طيباً { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } يعني : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة غير ناصح لكم .
ثم قال : { ثمانية أزواج } يعني : ثمانية أفراد لكم : يقال لكل فرد معه آخر زوج يقول : خلقت لكم ثمانية أصناف . ويقال : كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج نزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا . ففي هذه الآية دليل إثبات المناظرة في العلم ، لأن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يناظرهم ويبيّن فساد قولهم . وفيها إثبات القول بالنظر والقياس ، وفيها دليل أن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به ، ويروى إذا ورد عليه النقض لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة ، وأمرهم بطرد علّتهم ، وأمرهم بأن يثبتوا وجه الحرمة إن كان سبب الحرمة الأنوثة والذكورة أو اشتمال الرحم . فإن كان سبب الحرمة الأنوثة ينبغي أن يكون كل أنثى حراماً لوجود العلة . وإن كان سبب الحرمة الذكورة ينبغي أن يكون كل ذكر حراماً لوجود العلة وإن كان محرماً لاشتمال الرحم وقد حرم الأولاد كلها ووجهت حرمتها لوجود العلة فيها فبّين انتقاض علتهم وفساد قولهم ، وذلك قوله : { ثمانية أزواج } يعني : ثمانية أصناف { مّنَ الضأن اثنين } يعني : قولهم وذلك قوله : { وَمِنَ المعز اثنين } يعني : الذكر والأنثى { قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثيين } يعني : قل لهم من أين جاء هذا التحريم من قبل الذكرين حُرِّمَ أم من قبل الأُنثيين؟ { أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين } يعني : أم من قبل اشتمال الرحم فإنها لا تشتمل إلا على الذكر والأنثى .
{ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } يعني : أخبروني بسبب التحريم { إِن كُنتُمْ صادقين } أن الله حرم ما تقولون { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ *** ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين } يعني : من أين جاء هذا التحريم .
ثم قال : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } يعني : إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا؟ فذلك قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } { إِذْ وصاكم الله بهذا } يعني : أمركم الله بهذا التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا لَكَ لاَ تتكلم » فقال : بل تكلم أنت فأسمع قال الله عز وجل : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } بغير حجة وبيان { لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني : ليصرف الناس عن حكم الله تعالى بالجهل { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقّهم إلى الهدى مجازاةً لكفرهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { وَمِنَ المعز } بنصب العين . وقرأ الباقون بالجزم . ومعناهما واحد . ثم بيّن لهم ما حرم عليهم فقال :
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{ قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } يعني : لا أجد فيما أنزل علي من القرآن شيئاً محرماً { على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } . يعني : على آكل { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } . قرأ ابن عامر { إِلا أَن تَكُون مَيْتَةً } بالتاء على لفظ التأنيث لأن الميتة مؤنث وقرأ { مَيْتَةً } بالضم لأنه اسم كان . وقرأ حمزة وابن كثير { إِلا أَن تَكُونَ } بالتاء بلفظ التأنيث { مَيْتَةً } بالنصب فجعل الميتة خبراً لكان ، والاسم فيه مضمر . وقرأ الباقون { إِلا أَن يَكُونَ } بلفظ التذكير { الميتة } بالنصب ، وإن جعلوه مذكراً لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه إلا أن يكون المأكول ميتة { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } يعني : سائلاً جارياً { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } أي : حرام { أَوْ فِسْقًا } يعني : معصية { أَهْلُ } يعني : ذبح { لِغَيْرِ الله بِهِ } يعني : لغير اسم الله وقال بعضهم : في الآية تقديم . ومعناه : إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير أو فسقاً أهل لغير الله به فإنه رجس أي حرام . يعني : جميع ما ذكر في الآية هو رجس . ويقال : الرجس هو نعت للحم الخنزير خاصة . وروى عمر بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية { قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ } الآية يعني : ما لم يبيّن تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية . وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن أنه قال : الله لولا حديث سلمة بن المحبق ما لبسنا خفافكم ، ولا نعالكم ، ولا فراكم ، حتى نعلم ما هي . قال أبو بكر : فذكرت ذلك للزهري ، فقال : صدق الحسن ذلك عندي أوسع من هذا . حدثني عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أنه قرأ { قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا } الآية . قال : إنما حرم من الميتة أكلها وما يؤكل منها ، وهو اللحم ، أما الجلد والعظم والشَّعر والصوف فحلال . قال : وقد احتج بعض الناس بهذه الآية ، على أن ما سوى هذه الأشياء التي ذكر في الآية مباح . ولكن نحن نقول قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية . وقد بيّن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . وقد قال تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب }
[ الحشر : 7 ] .
ثم قال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقد ذكرنا تأويل هذه الآية . ثم قال : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } يعني : أن هذه الأشياء التي ذكرنا في الآية كانت حراماً في الأصل وقد حرّم الله أشياء كانت حلالاً في الأصل على اليهود بمعصيتهم . { كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } يعني : الإبل والنعامة والبط والأوز . وكل شيء له خفّ وقال القتبي : { كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } يعني : كل ذي مخلب من الطيور ، وكل ذي حافر من الدواب ، وسمي ظفراً على الاستعارة . وقال الكلبي : { كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } يعني : ليس بمنشق ولا مجتر فهو حرام عليهم { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } يعني : شحوم البطون .
ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } وقال الضحاك : إلا ما كان على اللحوم من الشحوم . وقال الكلبي : يعني : ما تعلق بالظهر من الشحم من الكليتين . ويقال : حرم عليهم الثروب وأحلّ ما سواها . وواحد الثروب ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش { أَوِ الحوايا } وهو المباعر واحدتها حاوية { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } مثل الإلية . وروى جويبر عن الضحاك قال : ما التزق بالعظم . ويقال : هو المخ { ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ } يعني : ذلك التحريم عاقبناهم بشركهم وظلمهم { وِإِنَّا لصادقون } أن هذه الأشياء كانت حلالاً في الأصل ، وحرمناها على اليهود بمعصيتهم ، لأن اليهود كانوا يقولون : إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل .
ثم قال : { فَإِن كَذَّبُوكَ } يعني : فيما تقول من التحريم والتحليل { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } يعني : رحمته وسعت كل شيء لا يعجل عليهم بالعقوبة { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } يعني : عذابه { عَنِ القوم المجرمين } .
قوله تعالى :
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } مع الله { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا } يعني : ولا أشرك آباؤنا ، ولكن شاء لنا ذلك وأمرنا به { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء } أي : من هذه الأشياء . ويقال : مذهبهم مذهب الجبرية . قال الله تعالى : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : الأمم الخالية كذبوا رسلهم كما كذبك قومك . وإنما كذبهم الله لأنهم قالوا ذلك على وجه السخرية لا على وجه التحقيق كما قال المنافقون : نشهد أنك لرسول الله فكذبهم الله في مقالتهم ، لأنهم قالوا على وجه السخرية .
ثم قال : { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } يعني : الأمم الخالية أتاهم عذابنا فهذا تهديد لهم ليعتبروا . ثم قال : { قُلْ } يا محمد لهم قل : { هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ } يعني : بيان من الله { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فبينوه لنا بتحريم هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها ، ثم بيّن الله أنهم قالوا ذلك بغير حجة وبيان فقال : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني : ما تقولون إلا بالظن من غير يقين وعلم { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } يعني : قل لهم ما أنتم إلا تكذبون على الله .
قوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } يعني : الحجة الوثيقة وهو محمد عليه السلام والقرآن . فبيّن لهم ما أحلّ لهم وما حرم عليهم { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يعني : لو شاء لوفَّقكم لدينه ، وأكرمكم بالهدى لو كنتم أهلاً للإسلام ، ولكن لم يوفقهم لأنهم لم يجاهدوا في الله حق جهاده { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } عليكم { فَإِن شَهِدُواْ } على تحريمه { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فأخبر الله أنهم لو شهدوا ، كانت شهادتهم باطلة ، ولا يجوز قبول شهادتهم ، لأنهم يقولون بأهوائهم .
ثم قال : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يعني : البعث { وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } يعني يشركون بالله .
ثم قال تعالى :
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } يعني : قل لمالك بن عوف وأصحابه الذين يحرمون الأشياء على أنفسهم ، وقالوا ما قالوا أبيّن لكم ما حرم الله عليكم وما أمركم به { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } يقال : معناه أتل ما حرم ربكم عليكم ، فقد تمّ الكلام .
ثم قال : { عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } { وبالوالدين إحسانا } يقول : نهاكم عن عقوق الوالدين ، وأمركم ببرهم ، ويقال : معناه حرم عليكم ألا تشركوا به شيئاً . ويقال : معناه حرم عليكم الشرك . { وبالوالدين إحسانا } يعني : أمركم بالإحسان إلى الوالدين { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق } يعني : من خشية الفقر { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } زنى السر والعلانية { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } يعني : إلا بالقصاص أو بالرجم أو بترك الإسلام ، فإنّ القتل بهذه الأشياء من الحقوق { ذلكم وصاكم بِهِ } يقول : أمركم به في القرآن { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أمر الله بما حرمه في هذه الآيات . وروي عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس قال : هذه الآيات المحكمات : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى ثلاث آيات وقال الربيع بن خثيم لرجل : هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ثم قرأ هذه الآيات { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ويقال : هذه الآيات هن أم الكتاب ، وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ولا يجوز أن يرد عليها النسخ .
ثم قال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } يقول : لا تأكلوا مال اليتيم ولا تباشروه { إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } يعني : إلا بالقيام عليه لإصلاح ماله { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } يعني : احفظوا ماله حتى يبلغ رشده . قال مقاتل : يعني ثماني عشرة سنة . وقال الكلبي : الأشُدُّ ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة . ويقال : حتى يبلغ مبلغ الرجل . ويقال : بلوغ الأشد ما بين ثماني عشرة إلى أربعين سنة . ثم قال : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان } يعني : أتموا الكيل والميزان عند البيع والشراء { بالقسط } يعني : بالعدل { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني : إلا جهدها في العدل يعني : إذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن ، فلو وقعت فيه زيادة قليلة أو نقصان ، فإنه لا يؤاخذ به إذا اجتهد جهده { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } يعني : اصدقوا وقولوا الحق { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } يعني وإن كان الحق على ذي قرابة ، فقولوا الحق ، ولا تمنعوا الحق { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } يقول : أتموا العهود التي بينكم وبين الله . والعهد الذي بينكم وبين الناس . { ذلكم وصاكم بِهِ } يقول : أمركم به في الكتاب { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يعني : تتعظون فتمتنعون عما حرم الله عليكم .
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { تَذَكَّرُونَ } بتخفيف الذال . وقرأ الباقون بالتشديد . لأن أصله تتذكرون . فأدغم إحدى التاءين في الذال .
قوله تعالى : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا } قرأ حمزة والكسائي وإن هذا بكسر الألف على معنى الابتداء . وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء . وقرأ ابن عامر { وَأَنَّ هذا } بجزم النون . لأن أن إذا خففت منعت عملها . ومعنى الآية : إن هذا الإسلام ديني الذي ارتضيته طريقاً مستقيماً { فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } يعني : لا تتبعوا اليهودية والنصرانية . ويقال : هذا صراطي مستقيماً . يعني : طريق السنة والجماعة فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني : الأهواء المختلفة . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن النبي عليه السلام خطَّ بالأرض خطاً مستقيماً ، ثم خطّ بجنبيه خطوطاً ، ثم قال : هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل يعني : الطريق الذي بجنبي الخط ، يعني به : الأهواء المختلفة .
ثم قال : { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } يعني : فيضلكم عن دينه { ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يعني يجتنبون الأهواء المختلفة .
قوله تعالى :
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } يعني : التوراة ، ويقال : الألواح التي كتبت عليها حين انطلق إلى الجبل . ويقال : معناه ثم أتل عليكم كما قال الله تعالى : { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } . ويقال : ثم بمعنى الواو يعني وآتينا موسى الكتاب { تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } قال القتبي : أي تماماً على المحسنين . كما يقول ثلث مالي لمن غزا أي للغزاة . والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون . وعلى بمعنى اللام كما نقول في الكلام أتم الله عليه النعمة بمعنى : أتم له . قال : ومعنى الآية والله أعلم وآتينا موسى الكتاب تماماً على أحسن من العلم والحكمة ، أي مع ما كان له من العلم ، وكتب المتقدمين أعطيناه زيادة على ذلك . ويكون الذي بمعنى : ما . قال : ومعنى آخر آتينا موسى الكتاب تتميماً منا للمحسنين يعني : الأنبياء والمؤمنين . { وَتَفْصِيلاً } منا { لّكُلّ شَىْء } يعني : بياناً لكل شيء . قال : ويجوز معنى آخر وآتينا موسى الكتاب إتماماً منا للإحسان على من أحسن ، تفصيلاً لكل شيء يعني ، بياناً لكل شيء { وهدى } من الضلالة { وَرَحْمَةً } يعني : ونعمة ورحمة من العذاب { لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يعني : لكي يصدقوا بالبعث .
ثم قال { وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } يعني : القرآن فيه بركة لمن آمن به ، وفيه مغفرة للذنوب . { فاتبعوه } يعني : اقتدوا به . ويقال : اعملوا بما فيه من الأمر والنهي . { واتقوا } يعني : واجتنبوا ولا تتخذوا إماماً غير القرآن { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يعني : لكي تُرْحَموا ولا تُعَذَّبوا .
قوله تعالى : { أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } يعني : أنزلنا هذا القرآن لكي لا تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا يعني : اليهود والنصارى . ويقال : أن تقولوا يعني لكراهة أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وذلك أن كفار مكة قالوا : قاتل الله اليهود كيف كذبوا أنبياءهم ، والله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم . فأنزل الله القرآن حجة عليهم .
ثم قال { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين } يعني : عن قراءتهم الكتاب لغافلين عما فيه . { أَوْ تَقُولُواْ } يعني : لكي لا تقولوا { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } يعني : أصوب ديناً منهم { فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يعني : حجة من ربكم وهو محمد عليه السلام والقرآن . وإنما قال : { جَاءكُمْ } ولم يقل : جاءتكم لأنه انصرف إلى المعنى يعني : البيان ، ولأن الفعل مقدم . { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } بمعنى : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب . ويقال : قد جاءكم ما فيه من البيان وقطع الشبهات عنكم .
ثم قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله } يعني : لا أحد أظلم وأشد في كفره ممن كذب بآيات الله تعالى { وَصَدَفَ عَنْهَا } يعني : أعرض عن الإيمان بها . { سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ } يعني : يعرضون { عَنْ آياتنا سُوء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } أي : شدة العذاب بما كانوا يعرضون عن الآيات .
قوله تعالى :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } معناه ، أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا فماذا ينتظرون؟ فهل ينتظرون { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } لقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } يعني : يأتي أمر ربك بما وعد لهم كقوله : { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاًّوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الابصار } [ الحشر : ] ويقال : أن تأتي عقوبة ربك وعذابه . وقد ذكر المضاف إليه ويراد به المضاف . كقوله تعالى : { واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون } [ يوسف : 82 ] يعني : أهل القرية . وكقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 93 ] يعني : حب العجل . كذلك هاهنا يأتي أمر ربك يعني : عقوبة ربك وعذاب ربك . ويقال : هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ } يعني : طلوع الشمس من مغربها { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } حين طلعت الشمس من مغربها { لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ } يعني : أن الكافر إذا آمن في ذلك الوقت لا يقبل إيمانه ، لأنها قد ارتفعت المحنة حين عاينوها . وإنما الإيمان بالغيب .
ثم قال : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } يعني : المسلم الذي يعمل في إيمانه خيراً كأن لم يقبل عمله قبل ذلك ، فإنه لا يقبل منه بعد ذلك . ومن كان قبل من قبل ذلك فإنه يقبل منه بعد ذلك أيضاً أو كانت النفس مؤمنة ولم تكن كسبت خيراً قبل ذلك الوقت لا ينفعها الخير بعد . قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد بإسناده عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال المرادي قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ جاء أعرابي فسأله عن أشياء حتى ذكر التوبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لِلتَّوْبَةِ بَابٌ فِي المَغْرِبِ مَسِيرَة سَبْعِينَ عَاماً أَوْ أَرْبَعِينَ عَاماً فلا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ »
قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا السراج . قال : حدثنا زياد بن أيوب عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار وعليه بردعة أو قطيفة فنظر إلى الشمس حين غابت فقال : « يا أبَا ذَرَ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَغِيبُ هذه »
؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : « فإنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنِ حَمِئَةٍ فَتَنْطَلِقُ حَتَّى تَخُرَّ لِرَبِّها سَاجِدَةً تَحْتَ العَرْشِ ، فإذَا دَنَا خُرُوجُهَا أُذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ . فَإِنْ أَرَادَ الله أنْ يُطْلِعَها مِنْ مَغْرِبِهَا حَبَسَها . فَتَقُولُ : يا رَبِّ إنّ مَسِيري بَعِيدٌ . فَيَقُولُ الله تعالى اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } » وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال : لا يقبل الله من كافر عملاً ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيراً يومئذ . فإنّه لو أسلم بعد ذلك قُبِلَ ذلك منه ، ومتى كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قبلت منه . وروي عن عمران بن حصين أنه قال : إنما لم يقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك كثير من الناس . فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يقبل منه ومن تاب بعد ذلك قبلت منه .
ثم قال : { قُلِ انتظروا إِنَّا } يعني : انتظروا العذاب فإنا منتظرون بكم حتى ننظر أينا أسعد حالاً . قرأ حمزة والكسائي { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الملائكة } بالياء بلفظ التذكير ، والباقون { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ } بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث .
قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } قرأ حمزة والكسائي فارقوا دينهم بالألف يعني : تركوا دينهم الإسلام ودخلوا في اليهودية والنصرانية . وقرأ الباقون { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } يعني : آمنوا ببعض الرسل ولم يؤمنوا ببعض { وَكَانُواْ شِيَعاً } يعني : صاروا فرقاً مختلفة . وروي عن أسباط عن السدي أنه قال : هؤلاء اليهود والنصارى تركوا دينهم وصاروا فرقاً { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } أي : لم تؤمر بقتالهم ثم نسخ وأمر بقتالهم في سورة براءة .
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا } إنَّهُمْ الخَوَارِجُ » وفي هذه الآية حثّ للمؤمنين على أن كلمة المؤمنين ينبغي أن تكون واحدة ، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع ما استطاعوا .
ثم قال : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } يقول : إنما عليك الرسالة وليس عليك القتال . ثم قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله } يعني : الحكم إلى الله { ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي في الدنيا ويقال ليس بيدك توبتهم ولا عذابهم إنما أمرهم إلى الله تعالى ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون .
قوله تعالى :
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } يعني : من جاء بالإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب . { وَمَن جَاء بالسيئة } يعني : بالشرك { فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } وهو الخلود في النار ، لأن الشرك أعظم الذنوب والنار أعظم العقوبة . فذلك قوله : { جَزَآءً وفاقا } [ النبإ : 26 ] يعني : جزاءً وافق العمل . ويقرأ فله عشر بالتنوين أمثالُها بضم اللام فتكون الأمثال صفة للعشر ، وهي قراءة شاذة قرأها الحسن البصري ويعقوب الحضرمي والقراءة المعروفة عشر أمثالها على معنى الإضافة ، وتكلموا في المثل . قال بعضهم إذا عمل عملاً يعطى في الآخرة ثواب عشرة . ويقال : وإنه يكتب للواحدة عشرة . وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ صَاحِبَ اليَمِينِ أمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمالِ . وَإذا عَمِلَ العَبْدُ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ عَشَرَة أمْثَالِهَا . وإذَا عَمِلَ سَيِّئَةً فَأرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أنْ يَكْتُبَهَا قَالَ لَهُ صَاحِبُ اليَمِينِ : أَمْسِكْهَا فَيُمْسِكُ سِتَّ سَاعَاتٍ أوْ سَبْعَ سَاعَاتٍ . فإنِ اسْتَغْفَرَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ » ويقال : إن الله تعالى قد وعدّ للواحدة عشراً فهو أعرف بكيفيته . فإن قيل : ذكر هاهنا للواحدة عشر وذكر في آية أُخرى سبعمائة وفي آية أُخرى أضعافاً مضاعفة ، قيل له : قد تكلم أهل العلم في ذلك . قال بعضهم : يكون للعوام عشرة والخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى . وقال بعضهم : العشرة اشترط لسائر الحسنات ، والسبعمائة للتفقه في سبيل الله فالخاص والعام فيه سواء .
وقد جاء في الأثر ما يؤكد القولين فقد روى عطية عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في الأعراب { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } قال رجل ما للمهاجرين يا أَبا عبد الرحمن؟ قال : هو أفضل من ذلك { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] وإذا قال الله لشيء عظيماً فهو عظيم .
وروى همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها إِلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ . وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها يُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِها حَتَّى يَلْقَى الله بِلا ذَنْبٍ »
وروى ابن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأَعْمَالُ سِتَّةٌ فَمُوجِبَتَانِ ، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ ، وَحَسَنَةٌ بِحَسَنَةٍ ، وَحَسَنَةٌ بِعَشْرٍ ، وَحَسَنَةٌ بِسَبْعِمائَةٍ . فَأَمَّا المُوجِبَتَانِ فَمَنْ مَات وَلَمْ يُشْرِكْ بالله شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةِ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بالله دَخَلَ النَّارَ . وَأَمَّا مِثْلٌ بِمِثْلٍ فَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةٍ فَجَزَاءٌ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا . وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ حَتَّى تَشْتَهِيَ بِهَا نَفْسُهُ وَيَعْلَمَهَا الله مِنْ قَلْبِهِ كُتِبَ لَهُ حَسَنَة . وَأَمَّا حَسَنَةٌ بِعَشْرٍ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها . وَأَمَّا حَسَنَةٌ بِسَبْعِمائَةٍ فَالنَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ الله » ثم قال : « { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } » يعني : لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً ولا يزادون على سيئاتهم شيئاً .
قوله تعالى :
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{ قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } وذلك أن أهل مكة قالوا له : من أين لك هذه الفضيلة وأنت بشر مثلنا؟ فإن فعلت لطلب المال فاترك هذا القول حتى نعطيك من المال ما شئت . فنزلت { قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : وفقني الله وهداني إلى دين الإسلام وهو دين لا عوج فيه { دِينًا قِيَمًا } . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { دِينًا قِيَمًا } بنصب القاف وكسر الياء مشدودة . وقرأ الباقون { قَيِّماً } بكسر القاف ونصب الياء على معنى المصدر . ومن قرأ بالنصب على معنى النعت { دِينًا قِيَمًا } يعني : ديناً عدلاً مستقيماً { مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } يعني : مستقيماً مخلصاً { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } على دينهم { قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } وأصل النسك ما يتقرب به يعني : قل إن صلاتي المفروضة وقرباني وديني { وَمَحْيَاىَ } في الدنيا { وَمَمَاتِى } بعد الحياة . ويقال : { وَنُسُكِى } يعني : أضحيتي وحجتي { للَّهِ رَبّ العالمين } . { لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ } في الكتاب { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } من أهل مكة . ويقال : أول المسلمين يوم الميثاق . ويقال : { صَلاَتِى } يعني : صلاة العيد ونسكي يعني : الأضحية .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنه : « قُومِي إلى أُضْحِيَتِكِ وَاذْبَحِي وَقُولِي : إنَّ صَلاَتِي وَنُسْكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِينَ » ويقال : إن أول المخلصين بالثبات على الإسلام .
قوله تعالى :
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } يعني : يقول أعبد وأطلب رباً غيره { وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء } من خلقه في السموات والأرض ، لأنهم كانوا يقولون له : نحن كفلاء لك بما يصيبك ومن تابعك . فنزلت { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } يعني : إلا لها أو عليها إن كان خيراً فلها وإن كان شراً فعليها { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } يعني : لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } أي مصيركم في الآخرة { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين ، ويبيّن لكم الحق من الباطل بالمعاينة .
ثم قال : { وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الارض } يعني : سكان الأرض من بعد إهلاك الأمم الخالية ، لأن النبي عليه السلام خاتم النبيين ، وأمته قد خلفوا جميع الأمم . ويقال : خلائف يعني : يخلف بعضكم بعضاً { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } أي فضل بعضكم على بعض في المال والرزق { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم } يعني : ليبتلي الموسر بالغِنَى ويطلب منه الشكر ، ويبتلي المُعْسِر بالفاقة ويطلب منه الصبر . ويقال : { لِيَبْلُوَكُمْ } يعني : بعضكم ببعض كما قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] .
ثم خوّفه فقال : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } كأنه جاء لأن ما هو آتٍ فهو قريب ، كما قال : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : لمن أطاعه في فاقة أو غِنى . ويقال : { سَرِيعُ العقاب } لمن لم يشكر نعمته وكان مصراً على ذلك .
{ أَنَّهُ * لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن رجع وتاب { رَّحِيمٌ } بعد التوبة . ويقال : { سَرِيعُ العقاب } لمن لم يحفظ نفسه فيما أعطاه من فضل الله وترك حق الله في ذلك { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ } لمن تاب { رَّحِيمٌ } بعد التوبة . قال الفقيه قال : حدثنا أبو الحسن بن حمدان بإسناده عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلَف مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ » قال . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ الأنْعَامِ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ أُولئكَ السَّبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ بِعَدَدِ كُلِّ آيَةٍ في سُورَةِ الأنْعَامِ يَوْماً وَلَيْلَةً » .
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
قوله تعالى :
{ المص } قال ابن عباس يعني : أنا الله أعلم وأفصل معناه : أعلم بأمور الخلق وأفصل الأحكام والأمور والمقادير ، وليس لي شريك في تدبير الخلق : ويقال : معناه أنا الله المصور . ويقال : أنا الله الناصر . ويقال : أنا الله الصادق .
وروى معمر بن قتادة قال : إنه اسم من أسماء القرآن ويقال هو قسم { كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني : أن هذا الكتاب أُنزل إليك يا محمد { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } أي : فلا يقعن في قلبك شك منه من القرآن أنه من الله عز وجل . فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره . كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } [ يونس : 94 ] . ويقال : { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } أي فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إياك . كقوله عز وجل : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىءٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 30 ] والحرج في اللغة هو الضيق .
ثم قال : { لِتُنذِرَ بِهِ } على معنى التقديم يعني : كتاب أنزلناه إليك لتنذر به أي لتخوف بالقرآن أهل مكة { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي . وعظة للمؤمنين الذين يتبعونك .
ثم قال : { اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } أي صدقوا ، واعملُوا بما أنزل على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ويقرؤوه عليكم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : ولا تتّخذوا من دون الله أرباباً ، ولا تعبدوا غيره .
ثم أخبر عنهم فقال : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ما : صلة في الكلام ومعناه : قليلاً تتعظون . يعني : إنهم لا يتعظون به شيئاً . قرأ ابن عامر { يَتَذَكَّرُونَ } على لفظ المغايبة بالياء . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { تَذَكَّرُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة بتشديد الذال والكاف لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تَذَكَّرون بتخفيف الذال ، فأسقط التشديد للتخفيف .
ثم خوفهم فقال : { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } معناه : وكم من أهل قرية وعظناهم فلم يتعظوا فأهلكناهم { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } أي جاءها عذابنا بعد التكذيب { بَيَاتًا } أي ليلاً . سمي الليل بياتاً لأنه يبات فيه { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } عند القيلولة . فإن لم تتّعظوا أنتم يأتيكم العذاب ليلاً أو نهاراً كما أتاهم .
ثم أخبر عن حال من أتاهم العذاب فقال : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ } أي لم يكن قولهم حين جاءهم العذاب ولم تكن لهم حيلة إلا أنهم تضرعوا قالوا : { إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي ظلمنا أنفسنا بترك طاعة ربنا من التوحيد يعني : إن قولهم بعدما جاءهم العذاب يعني : الهلاك لم ينفعهم فاعتبروا بهم . فإنكم إذا جاءكم العذاب لا ينفعكم التضرع .
ثم أخبر عن حال يوم القيامة فقال : { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } يعني : الأمم لنسألنهم هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم وماذا أجبتم الرسل؟ { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين } عن تبليغ الرسالة . وهذا كقوله عز وجل : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً } [ الأحزاب : 8 ] ثم قال تعالى : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ } أي : فلنخبرنّهم بما عملوا في الدنيا ببيان وعلم منا { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عَمّا بلغت الرسل وعما ردَّ عليهم قومهم . ومعناه : وما كنا نسألهم لنعلم ذلك ولكن نسألهم حجةً عليهم .
قوله :
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{ والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } أَيّ وزن الأعمال يومئذ بالعدل { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } أي : رجحت حسناته على سيئاته { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } أي الناجون . وتكلموا في وزن الأعمال . قال بعضهم : توزن الصحائف التي كتبها الحفظة في الدنيا . وقال بعضهم : يجعل للأعمال صورة وتوضع في الميزان . وقال بعضهم : هذا على وجه المثل وهو كناية عن التعديل ، وهو قول المعتزلة . وقال بعضهم : قد ذكر الله تعالى الوزن فنؤمن به ولا نعرف كيفيته .
وروى بلال الحبشي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ زِنْ بَيْنَهُمْ فَرَدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَلا دِرْهَمَ يَوْمَئذٍ ، وَلا فِضَّةَ ، وَلا دِينَارَ ، فَيَرُدُّ الظَّالِمُ عَلَى المَظْلُومِ مَا وَجَدَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ . فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ لَهُ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ المَظْلُومِ فَتُرَدُّ عَلَى الظَّالِمِ فَيَرْجِعُ الظَّالِمُ وَعَلَيْهِ سَيِّئاتٌ مِثْلُ الجَبَلِ »
وروي عن ابن عباس أنه قال : توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان . فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة ، وتثقل حسناته على سيئاته . وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة ، وتثقل سيئاته على حسناته . وقال بعضهم : لا يوزن عمل الكافر ، وإنما توزن الأعمال التي بإزائها الحسنات .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } أي رجحت سيئاته على حسناته { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي غبنوا حظ أنفسهم { بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } بما كانوا بآياتنا يجحدون ، بأنه ليس من الله تعالى . وقد ذكر الموازين بلفظ الجمع . قال بعضهم : لأن المراد بها جميع الموزون . وقال بعضهم : أراد به الميزان لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين والخيوط . وقد ذكر باسم الجماعة .
قال تعالى : { وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض } أي مكناكم في الأرض وعمرناكم ، فذكر لهم التهديد ، ثم ذكر لهم النعم ليستحيوا من ربهم ولا يعصوه { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } يعني : الرزق وهو ما يخرج من الأرض من الكروم والثمار والحبوب .
وروى خارجة عن نافع أنه قرأ معائش بالهمز لأنه على ميزان فعائل مثل الكبائر والصغائر . وقرأ الباقون بغير همز ، لأنّ الياء أصلية وكان على ميزان مفاعل . ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } يعني : إنكم لا تشكرون هذه النعمة .
قوله تعالى :
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } أي : خلقنا آدم وأنتم من ذريته ، ثم صورناكم يعني : ذريته . ويقال : { خلقناكم } يعني : آدم خلقه من تراب { ثُمَّ صورناكم } يعني : آدم صوره بعد ما خلقه من طين . ويقال : { خلقناكم } نطفاً في أصلاب الآباء { ثُمَّ صورناكم } في أرحام الأمهات .
{ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة } على وجه التقديم أي : وقلنا للملائكة : { اسجدوا لاِدَمَ } ثُمَّ بمعنى الواو . ويقال : معناه خلقناكم وصورناكم وقلنا للملائكة : اسجدوا لآدم وهي سجدة التحية لا سجدة الطاعة فالعبادة لله تعالى ، والتحية لآدم عليه السلام { فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين } أي لم يسجد مع الملائكة لآدم عليه السلام { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } يعني : أن تسجد ولا زيادة . ومعناه : ما منعك عن السجود إذ أمرتك بالسجود لآدم { قَالَ } إبليس عليه اللعنة : إنما لم أسجد لأنّي { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } أي هذا الذي منعني عن السجود . فاشتغل اللعين بالقياس والقياس في موضع النص باطل ، لأنه لما أقرّ بأنه هو الذي خلقه . فقد أقرّ بأن عليه واجب وعليه أن يأتمر بأمره . ومع ذلك لو كان القياس جائزاً في موضع النص ، فإن قياسه فاسداً ، لأنّ الطين أفضل من النار ، لأنّ عامة الثمار والفواكه والحبوب تخرج من الطين ، ولأن العمارة من الطين والنار للخراب .
ثم قال له عز وجل : { فاهبط مِنْهَا } قال مقاتل : أي اهبط من الجنة { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } أي في الجنة . وقال الكلبي : فاهبط منها أي اخرج من الأرض والحق بجزائر البحور ، ولا تدخل الأرض إلا كهيئة السارق وعليه ذل الخوف وهو يروغ فيها ، فما يكون لك أن تتكبر فيها ، لا ينبغي لك أن تتكبر في هذه الأرض على بني آدم { فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } يعني : من المهانين المذلين { قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يعني : أجلني إلى يوم البعث ، اليوم الذي يخرج الناس من قبورهم . قال ابن عباس : أراد الخبيث ألا يذوق الموت ، فأبى الله تعالى أن يعطيه ذلك . ف { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين } إلى النفخة الأولى ، فحينئذٍ يذوق الموت وتصيبه المرارة بعدد الأولين والآخرين . قوله تعالى : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } قال الكلبي : أي فكما أضللتني . وقال مقاتل : يعني أما إذا أضللتني . وقال بعضهم : فبما أغويتني يعني : فبما دعوتني إلى شيء غويت به . { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } يعني : لأقعدن لهم على طريقك المستقيم ، وهو دين الإسلام فأصدّ الناس عن ذلك . { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } روى أسباط عن السدي قال : من بين أيديهم الدنيا أدعوهم إليها { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة أشككهم فيها { وَعَنْ أيمانهم } قال الحق : أشككهم فيه { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } قال : الباطل أخففه عليهم وأرغبهم فيه .
وقال في رواية الكلبي : ثم لآتينّهم من بين أيديهم من أمر الآخرة ، فأزيّن لهم التكذيب بالبعث بأنه لا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا فأزينها في أعينهم وأرغبهم فيها ، فلا يعطون حقاً عن أيمانهم أي : من قبل دينهم فإن كانوا على الضلالة زيّنتها لهم ، وإن كانوا على الهدى شبّهته عليهم حتى يشكوا فيه { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } من قبل اللذات والشهوات . ويقال : معناه لآتينهم بالإضلال من جميع جهاتهم ويقال : { عَنْ * أيمانهم } فيما أمروا به { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } فيما نهوا عنه . ويقال : { وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ } أي : فيما يعملون لأنه يقال عملت بذلك { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } يعني ذرية آدم لا يكونون شاكرين لنعمتك ، ويقال شاكرين مؤمنين وقال في آية أُخرى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن محاريب وتماثيل وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ راسيات اعملوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشكور } [ سبأ : 13 ] { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } [ سبأ : 20 ] قوله : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } قال الكلبي ومقاتل : يعني اخرج من الجنة مذؤوماً أي معيباً مدحوراً أي : مطروداً . وقال الزجاج : مذؤوماً أي مذموماً . يقال : دأمت الرجل وذممته إذا عبته مدحوراً أي : مبعداً من رحمة الله تعالى . { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } أي : مَنْ أطاعك فيما دعوته إليه . واللام زيادة للتأكيد { لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : ممن أطاعك منهم من الجن والإنس ، ويكون هذا اللفظ بمعنى القسم والتأكيد وأنه يفعل ذلك لا محالة .
قوله تعالى :
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{ وَيَئَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } يعني : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } أي : من حيث أحببتما موسعاً عليكما { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } يعني : لا تأكلا من هذه الشجرة { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } فتصيرا من الضارين بأنفسكما .
قوله تعالى : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } أي : زيّن لهما الشيطان { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا } يعني : أراد إبليس لعنه الله بالوسوسة ليظهر ما سترا من عوراتهما ، والسوأة كناية عن العورة . وذلك أن إبليس لما رأى محسوده في الجنة ورأى نفسه طريداً لم يصبر ، واحتال لإخراجهما فأتاهما { وَقَالَ مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } يعني : أنكما لو أكلتما تصيران كالملكين تموتان أبداً أو تكونا كالملائكة وتعلمان الخير والشر . { أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } يعني : إن لم تكونا مَلَكَيْنِ فتكونا من الخالدين لا تموتان . وقرأ بعضهم مَلِكَيْنِ بالكسر كما قال : في آية أُخرى { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياأادم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] وهي قراءة يحيى بن كثير وهي قراءة شاذة .
قوله : { وَقَاسَمَهُمَا } أي حلف لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } بأنها شجرة الخلد من أكل منها لم يمت . وكان آدم لم يعلم أن أحداً يحلف بالله كاذباً { فدلاهما بِغُرُورٍ } أي : غرّهما بباطل ويقال : زَيَّنَ لهما . وأصله في اللغة من التقريب يعني : قربهما إلى الشجرة { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } يقول : فلما أكلا من الشجرة ووصل إلى بطونهما تهافت لباسهما عنهما { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا } أي ظهرت عوراتهما ، وإنما سميت العورة سوأة لأن كشف العورة قبيح .
قال الفقيه : حدّثنا أبو جعفر . قال : حدّثنا أبو القاسم أحمد بن حم قد ذكر بإسناده عن أبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ آدَمَ كَانَ رَجُلاً طَوِيلاً كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ ، فَلَمَّا وَقَعَ في الخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ سَوْأَتهُ ، وَكَانَ لاَ يَرَاها قَبْلَ ذلك ، فَانْطَلَقَ هَارِباً فِي الجَنَّةِ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجَنَّةِ ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ : يَا آدَمُ أَتَفِرُّ مِنِّي؟ قَالَ : يَا رَبّ إِنِّي أَسْتَحِي » وفيه دليل أن ستر العورة كان واجباً من وقت آدم لأنه لما كشف عنهما سترا عوراتهما بالأوراق فذلك قوله : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } أي أقبلا وعمدا يلصقان عليهما من ورق الجنة يعني : من ورق التين يطبقان على أبدانهما ورقة ورقة منه . يقال : خصف نعله وهو إطباق طاق على طاق وأصل الخصف الضم والجمع . والخصف إنما هو إلصاق الشيء بالشيء ولهذا قيل : خصاف . وقرأ بعضهم وطفَقَا بالنصب وهما لغتان طَفِقَ يَطْفَقُ وطَفَق يَطْفِقُ { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } أي قال : لهما ربهما : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } أي عن أكل تلك الشجرة { وَأَقُل لَّكُمَا } يعني : ألم أقل لكما { إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة .
قوله عز وجل : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } بأكلنا الشجرة فاغفر لنا وتجاوز عن معصيتنا { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } يعني : إن لم تتجاوز عن ذنوبنا { لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } بالعقوبة فهذه لام القسم كأنهما قالا : والله لنكونن من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا . وقد ذكر الله تعالى قبول توبتهما في سورة البقرة . وهو قوله تعالى : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ] أي قبل توبته . وفي الآية دليل أنّ الله تعالى يعذب عباده إذا أصروا على الذنوب ويتجاوز عنهم إذا تابوا ، لأن إبليس لم يتب ، وسأل النظرة ، فجعل مأواه جهنم . وتاب آدم ورجع عن ذنبه فقبل توبته .
قوله : { قَالَ اهبطوا } يعني : آدم وحواء عليهما السلام وإبليس لعنه الله { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } يعني : إبليس عدوّ لآدم وحواء { وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ } أي : منزل وموضع القرار { ومتاع إلى حِينٍ } أي : معاش إلى وقت الموت .
قوله تعالى : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } أي : في الأرض تعيشون { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } من الأرض من قبوركم يوم القيامة . قرأ الكسائي وابن عامر يَخْرُجُونَ بنصب الياء وضم الراء وقرأ الباقون بضم الياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
قوله تعالى :
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{ يابنى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } يقول خلقنا لكم الثياب { يوارى سَوْءتِكُمْ } يعني يستر عوراتكم ، ويقال معناه أنزلنا عليكم المطر ينبت لكم القطن والكتَّان لباساً لكم { وَرِيشًا } قرأ الحسن البصري ورياشاً بالألف . وقرأ غيره وريشاً بغير ألف وقال القتبي : الريش والرياش ما ظهر من اللباس ، وريش الطائر ما ستره الله به . ويقال : الرياش : المال والمعاش . قال الفقيه : حدّثنا محمد بن الفضل . قال : حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي أمامة عن عوف بن أبي جميلة عن معبد الجهني في قوله : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } قال : هو ما تلبسون ورياشاً قال المعاش { وَلِبَاسُ التقوى } هو الحياء { ذلك خَيْرٌ } أي لباس التقوى وهو الحياء خير من الثياب ، لأن الفاجر إنْ كان حسن الثياب فإنه بادي العورة ألا ترى إلى قول الشاعر حيث يقول :
إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط القوم عريانا
وقال القتبي : { لِبَاسَ التقوى } أي ما ظهر عليه من السكينة والوقار والعمل الصالح كما قال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] أي ما ظهر عليهم من سوء آثارهم وتغيُّر حالهم . ويقال : { لِبَاسَ التقوى } الإيمان . ويقال : العفة . قرأ نافع والكسائي وابن عامر { لِبَاسَ التقوى } بالنصب يعني : أنزل لباس التقوى ومعناه : ستر العورة . وقرأ الباقون بالضم لِبَاسُ على معنى الابتداء . ويقال : فيه مضموم يعني : هو { لِبَاسَ التقوى } ومعناه : ستر العورة أي لباسُ المتقين . وقرأ عبد الله بن مسعود { وَلِبَاسُ التقوى } خير . وقال مجاهد : كان أناس من العرب يطوفون حول البيت عراة فنزل قوله تعالى : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يوارى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا } يعني : من المال . ويقال : معنى قوله : { ذلك خَيْرٌ } يعني : اللباس خير من تركه لأنهم كانوا يطوفون عراة .
قوله : { ذلك مِنْ آيات الله } أي من نعم الله على الناس ، ويقال : من عجائب الله ودلائله . { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتّعظون .
قوله عز وجل : { يَذَّكَّرُونَ يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان } يقول : لا يضلّنّكم الشيطان عن طاعتي فيمنعكم من الجنة { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } حين تركا طاعتي وعصيا أمري { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا } يعني : لا يفتنّنكم الشيطان عن دينكم في أمر الثياب فينزعها عنكم ، فتبدو عوراتكم ، كما فعل بأبويكم ، نزع عنهما لباسهما وأظهر عورتهما . وقال بعض الحكماء : إنّ المعصية شؤم تضر بصاحبها فتجعله عرياناً كما فعلت بآدم { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } يعني : كونوا بالحذار منه ، فإنه يراكم هو أي إبليس وجنوده من الشياطين من حيث لا ترونهم .
يعني : كونوا على حذر لأنه يجري من بني آدم مجرى الدم وذكر أن إبليس لما لعن قال رب : إنّك باعث إلى بني آدم رسلاً وكتباً ، فما رسلي؟ قال : الكهنة . قال : فما كتابي؟ قال : الوشم . قال : فما قراءتي قال : الشعر قال : فما مسجدي؟ قال : السوق . قال : فما مؤذني؟ قال : المزامير . قال : فما بيتي؟ قال : الحمام . قال : فما مصائدي؟ قال النساء . قال : فما طعامي؟ قال : كل ما لم يذكر اسم الله عليه . قال : فما شرابي؟ قال : كل سكر .
قوله عز وجل : { إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء } يعني : قرناء { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } أي لا يصدقون بالآخرة { وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة } يعني : المشركين حرموا على أنفسهم أشياء قد أحل الله لهم ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، قالوا : لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها وكان رجالهم يطوفون بالنهار ونساؤهم بالليل وإذا طافت المرأة بالنهار اتخذت إزاراً من سير وكانت تبدو عورتها إذا مشت وكانت تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
وإذا قيل لهم لم فعلتم هكذا { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } يعني : بتحريم هذه الأشياء وبالطواف عراة قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } أي المعاصي { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أتكذبون على الله وتقولون بغير علم؟
ثم بيّن لهم ما أمرهم الله تعالى به . فقال عز وجل : { قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } أي بالعدل والصواب . وكلمة التوحيد وهي شهادة ألاّ إله إلاّ الله { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } أي : { قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } وقل : أقيموا وجوهكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } أي حوّلوا وجوهكم إلى الكعبة عند كل صلاة . وقال الكلبي : يعني إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد فصلوا فيه ، فلا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي . وإذا لم يكن في مسجد فليأت أي مسجد شاء . قال مقاتل : يعني : حوّلوا وجوهكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم { وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } يقول : وحدوه واعبْدُوه بالإخلاص . ويقال : إنّ أهل الجاهلية كانوا يشركون في تلبيتهم ، ويقولون : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، فأمرهم الله أن يوحّدوه في التلبية مخلصين له الدين .
ثم قال : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } أي ليس كما تشركون . فاحتج عليهم بالبعث متصلاً بقوله : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } أي ليس بعثكم بأشد من ابتدائكم . وقال الحسن : كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة . ويقال : { كَمَا بَدَأَكُمْ } يوم الميثاق من التصديق والتكذيب { تَعُودُونَ } إلى ذلك .
حيث قال : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي» . ويقال : { كَمَا بَدَأَكُمْ } فخلقكم من التراب { تَعُودُونَ } تراباً بعد الموت . وقال ابن عباس : { كَمَا بَدَأَكُمْ } مؤمناً وكافراً وشقياً وسعيداً كذلك تموتون عليه وتبعثون عليه .
ثم قال : { فَرِيقًا هدى } وهم المؤمنون فعلم الله تعالى منهم الطاعة ويكرمهم بالمعرفة { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } أي وجب عليهم الضلالة ، فخذلهم ولم يكرمهم بالتوحيد حيث علم منهم المعصية والكفر { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين } يعني : لأنهم اتخذوا الشياطين { أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله } يعني : اتخذوهم أولياء وأطاعوهم بالمعصية { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي يظنون أنهم على الهدى . قال الزجاج : فيه دليل أن من لا يعلم أنه كافر وهو كافر يكون كافراً لأن بعضهم قال : لا يكون كافراً وهو لا يعلم . وذلك القول باطل لأن الله تعالى قال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } [ ص : 27 ] وقال : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
قوله تعالى :
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{ يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ } أي البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم عند كل صلاة . قال السدي : كان هؤلاء والذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون الودك . فقال الله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } في التحريم . ويقال : الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله أو يأكل مما يحل له أكله فوق القصد ومقدار الحاجة . وقيل لبعض الأطباء : هل وجدت الطب في كتاب الله تعالى؟ قال : نعم قد جمع الله الطب كله في هذه الآية { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } أي لا تحرموا ما أحل الله لكم ، فإنَّ المحرم ما أحل الله كالمحل ما حرم الله تعالى .
قوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } وهو أنه لما نزل قوله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } لبسوا الثياب وطافوا بالبيت مع الثياب فعيرهم المشركون ، فنزل { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } يعني : لبس الثياب { التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } أي خلقها لهم لعباده أي أوجد . وقيل : أظهر وقيل على حقيقته كان في السماء أو في الأرض فأخرجه . { والطيبات مِنَ الرزق } يعني : الحلال وهو اللحم والشحم والدسم { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ } قال مقاتل : في الآية تقديم . ومعناه : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى } قرأ نافع : { خَالِصَةٌ } بضم التاء وقرأ الباقون بالنصب خَالِصَةً فمن قرأ بالضم فهو خبر بعد خبر يعني : هي ثابتة لهم خالصة أي ثابتة . معناه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة وقال القتبي : هذا من الاختصار ومعناه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة ، وفي الآخرة خالصة ثم قال : { كذلك نُفَصّلُ الآيات } يعني : العلامات ويقال : نبيّن الآيات من أمره ونهيه وما يكون في الدنيا والآخرة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يفهمون أمر الله تعالى .
ثم أخبرهم بما حرّم عليهم فقال : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم } يعني : المعاصي . ويقال الإثم يعني : الخمر كما قال القائل :
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
{ والبغى } يعني : حرم الاستطالة وظلم الناس { بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله } يقول : وحرّم أن تشركوا بالله { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } يقول : ما لم ينزل به كتاباً فيه عذركم وحجة لكم { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله } أي وحرم عليكم أن تقولوا على الله { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنه حرم عليكم .
ثم خوفهم فقال : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } يعني : لكل أهل دين مُهلة للعذاب { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } بالعذاب { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } بعد الأجل { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ساعة قبل الأجل .
ثم قال :
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{ يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } وأصله إنْ ما ومعناه متى ما يأتيكم { رُسُلٌ مّنكُمْ } أي : من جنسكم { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى } أي يقرؤون عليكم ، ويعرضون عليكم كتابي { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ } أي : اتقى الشرك وأطاع الرسول وأصلح العمل ، يعني : فمن اتقى عما نهى الله عنه وأصلح أي : عمل بما أمر الله تعالى به { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني : لا خوف عليهم من العذاب ولا هم يحزنون من فوات الثواب . ويقال : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا من الدنيا ويقال معناه إمَّا يأتينَّكم رسل منكم وأيقنتم فَلاَ خَوْف عَلَيْكُمْ فيما يستقبلكم ، فذكر الله ثواب من اتقى وأصلح .
ثم بيّن عقوبة من لم يتقِ فقال عز وجلّ : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا } أي تعظموا عن الإيمان ، فلم يؤمنوا بالرسل وتكبروا عن الإيمان { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } أي : دائمون .
قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ } قال الكلبي : فمن أكفر . وقال بعضهم : هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال هذا أكفر من هذا . ولكن معناه : ومن أشد في كفره . ويقال : فلا أحد أظلم . ويقال : أي ظلم أشنع وأقبح { مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يعني : من اختلق على الله كذباً أي : شركاً { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ } جحد بالقرآن { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } أي : حظهم من العذاب . ويقال { نَصِيبَهُمْ } حظهم مما أوعدهم اللَّه في الكتاب الإهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . وقال ابن عباس : هو ما ذكر في موضع آخر { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } . ويقال : { نَصِيبَهُمْ } أي ما قضي وقدر عليهم في اللوح المحفوظ من السعادة والشقاوة . ويقال : { نَصِيبَهُمْ } رزقهم وأجلهم في الدنيا { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يعني : أمهلهم حتى يأتيهم ملك الموت وأعوانه عند قبض أرواحهم . ويقال : يقول لهم خزنة جهنم قبل دخولها { قَالُوا أَيْنَمَا كُنتُمْ تَدْعُونَ } يعني : أن الملائكة يقولون ذلك عند قبض أرواحهم { مِن دُونِ الله } يمنعونكم من النار { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي اشتغلوا عنا بأنفسهم { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } في الدنيا ، وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم .
ثم قال : { قَالَ ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم } أي : قالت لهم خزنة النار : ادخلوا النار مع أمم قد مضت على مذهبكم { مّن الجن والإنس فِى النار كُلَّمَا دَخَلَتْ } يعني : النار { أُمَّةٍ } جماعة { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } أي : على الأمة التي دخلت قبلها في النار . قال مقاتل : يعني لعنوا أهل ملتهم يلعن المشركون المشركين والنصارى النصارى .
وقال الكلبي : تدعو على الأمم التي قبلهم في النار يبدأ بالأمم الأولى فالأولى ، ويبدأ أولاً بقابيل وولده . ويقال : يبدأ بالأكابر فالأكابر مثل فرعون كما قال في آية آخرى { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] .
{ حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا } يعني : اجتمعوا في النار وأصله تداركوا فيها يعني : اجتمع القادة والأتباع في النار وقرأ بعضهم حَتَّى إذَا أَدْرَكُوا فيه أي دخلوا في إدراكها ، كما يقال أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وهي قراءة شاذة { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاولاهم } أي : قال أواخر الأمم لأولّهم . ويقال : قالت الأتباع للقادة والرؤساء { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا } عن الهدى { قَالَ ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ } أي : أعظم زيادة من العذاب { قَالَ } الله تعالى : { لِكُلّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي : على القادة زيادة من العذاب ولكن لا تعلمون ما عليهم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } بالياء أي : لا يعلم فريق منهم عذاب فريق آخر { وَقَالَتْ أولاهم لاِخْرَاهُمْ } أي : أولهم دخولاً لآخرهم دخولاً . ويقال : القادة للأتباع { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } في شيء كفرتم كما كفرنا ، فنحن وأنتم سواء في الكفر ضللتم كما ضللنا .
قال الله تعالى : { فَذُوقُواْ العذاب } ويقال : يقول الخزنة فذوقوا العذاب . ويقال : هذا قول بعضهم لبعض فذوقوا العذاب { بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي : تكفرون في الدنيا بترككم الإيمان .
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله عز وجل : { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { واستكبروا عَنْهَا } يعني : استكبروا عن قبولها . ويقال : عن النظر فيها { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } لأعمال الكفار أي : ليس لهم عمل صالح يفتح لهم أبواب السماء ويقال : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا . وقال بعضهم : أبواب السماء أي أبواب الجنة { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } أي لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل . فقال : زوج الناقة . وقال الضحاك : الجمل الذي له أربع قوائم . وقال بعض الناس : الجمل هو أشتر بالفارسية وقال الحسن : هو ولد الناقة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ { حتى يَلِجَ الجمل } بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة الغليظ . وسئل عكرمة عن قوله : { حتى يَلِجَ الجمل } قيل : وما الجمل؟ قال : الحبل الذي يصعد به النخل . قال سعيد بن جبير هو حبل السفينة الغليظ . قرأ أبو عمرو لا تُفْتَحْ بالياء بلفظ التذكير بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتاء المشددة . فمن قرأ بالتأنيث فلأنها من جماعة الأبواب . ومن قرأ بالتذكير فلأن الفعل مقدم . ومن قرأ بالتشديد أراد به تكثير الفتح . ومن قرأ بالتخفيف فتفتح مرة واحدة وقرأ بعضهم في سُمِّ بضم السين وهي قراءة شاذة وهما لغتان قال أبو عبيدة : كل ثقب فهو سم .
ثم قال عز وجل : { وكذلك نَجْزِى المجرمين } أي هكذا نعاقب المشركين . ثم ذكر ما أوعدهم في النار فقال عز وجل : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي : فراش من النار { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي مُغشاهم النار من فوق رؤوسهم ومعناه : أن من تحتهم ناراً ومن فوقهم ناراً . كقوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلك يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ ياعباد فاتقون } [ الزمر : 16 ] ويقال : لهم من جهنم مهاد أي حظهم من جهنم كالمهاد ، فأخبر عن ضيق مكانهم في النار { وكذلك نَجْزِى الظالمين } نعاقب الكافرين .
قوله عز وجل : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وذلك أن الله تعالى لما أخبر عن حال الذين كذبوا بآياته واستكبروا عن قبولها أخبر عن حال الذين آمنوا بآياته . فقال : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : صدقوا وعملوا الصالحات أي الطاعات والأعمال الصالحة { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي : لا نكلف نفساً بعد الإيمان من العمل إلا بقدر طاقتها { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } يعني : دائمون .
ثم قال عزّ وجل : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } قال بعضهم : أي في الدنيا أخرج الله تعالى الغل والحسد من قلوبهم ، وألف بين قلوبهم كما قال الله تعالى :
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] ويقال : هذا في الجنة يخرج الغل والحسد من قلوبهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعليّ ونحوهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم على سنتهم ومنهاجهم إلى يوم القيامة . وقال عليّ بن أبي طالب لعمران بن طلحة بن عبيد الله : أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } فأنكر عليه بعضهم . فقال عليّ : إن لم نكن نحن فمن هم؟ يعني : إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في قلوبهم من الغل حتى ينزع عنهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار } أي من تحت غرفهم وقصورهم وأشجارهم الأنهار { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } أي أكرمنا بهذه الكرامة . ويقال : إن الذي وفقنا للأمر الذي أوجب لنا هذا الثواب وهو الإسلام . ويقال : هدانا لهاتين العينين . وذلك أن أهل الجنة لما انتهوا إلى باب الجنة ، فإذا هم بشجرة تنبع من ساقها عينان ، فيعمدون إلى إحداهما ، فيشربون منها ، فيخرج الله تعالى ما كان في أجوافهم من غل وقذر فذلك قوله تعالى : { عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم يعمدون إلى الأخرى فيغتسلون فيها فيطيب الله تعالى أجسادهم من كل درن وحسد وجرت عليهم نضرة ولا تشعث رؤوسهم ، ولا تغبر وجوههم ، ولا تشحب أجسادهم أبداً ، تتلقاهم خزنة الجنة فينادون في التقديم أي : قبل أن يدخلوها { أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فقالوا بعد ما اغتسلوا من العينين { الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } أي : وفقنا حتى اغتسلنا من هاتين العينين . ويقال : لما دخلوا الجنة ونظروا إلى كراماتها قَالُوا : { الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا } يعني : لهذا الثواب { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } أي : ما كنا لولا أن وفقنا الله . ذلك أنهم علموا أن الله تعالى له عليهم المن والفضل فيما أعطاهم . قرأ ابن عامر { مَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ } بغير واو على الاستئناف . وقرأ الباقون والواو وعلى معنى العطف .
{ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } يعني : جاءت رسل ربنا بالحق فصدقناهم { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة } قال بعضهم : قبل أن يدخلوها قال لهم خزنة الجنة تلكم الجنة التي وعدتم . ويقال بعد ما دخلوا بها يقال لهم : تلك الجنة أي : هذه الجنة التي { أُورِثْتُمُوهَا } يعني : أنزلتموها بإيمانكم واقتبستموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في دار الدنيا . وهذا كما روي في الخبر أنه يقال لهم يوم القيامة : « جُوزُوا الصِّراطَ بِعَفْوِي وَادْخُلُوا الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوها بِأَعْمَالِكُمْ »
قوله تعالى :
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{ وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا } أي : ما وعدنا يعني : في الدنيا من الثواب وجدناه صدقاً { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ } من العذاب { حَقّاً } أي صدقاً { قَالُواْ نَعَمْ } فاعترفوا على أنفسهم في وقت لا ينفعهم الاعتراف . قرأ الكسائي قالوا : نَعِمْ بكسر العين في جميع القرآن . وقرأ الباقون بالنصب . وروي عن عمر أنه سمع رجلاً يقول : نَعَمْ بالنصب فقال له عمر : النَّعَم المال ، وقل : نَعِمْ يعني : بكسر العين وروى الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال : ما كانت أشياخ قريش إلا يقولون : نَعِمْ فماتت يعني : اللغة { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } وذلك أنه ينادي منادٍ بين الجنة والنار تسمعه الخلائق كلهم إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المحسنين ولعنة الله على الظالمين أي : كرامة الله وفضله وإحسانه على المؤمنين وعذاب الله مع عقابه على الكافرين .
ثم قال : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي الناس عن دين الله ، وهو الإسلام وهم الرؤساء منهم منعوا أتباعهم عن الإيمان { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يقول يريدون بملة الإسلام غيراً وزيفاً { وَهُم بالاخرة كافرون } يعني : أنهم كانوا جاحدون بالبعث . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي أنَّ لَعْنَةَ الله بالتشديد ونصب الهاء . وقرأ الباقون أنَّ لَعْنَةُ بتخفيف أَنْ وضم الهاء .
قوله : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي بين أهل الجنة وأهل النار سور { وَعَلَى الاعراف رِجَالٌ } . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : الأعراف سور كعرف الديك . وقال القتبي : الأعراف سور بين الجنة والنار ، وسمي بذلك لارتفاعه ، وكل مرتفع عند العرب أعراف . وقال السدي : إنما سمّي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : « هُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله فِي مَعْصِيةِ آبائِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَنَعَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ مَعْصِيَتُهُمْ آبَاءَهُمْ » وعن حذيفة بن اليمان أنه قال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يكن لهم حسنات فاضلة يدخلون بها الجنة ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار . وهذا القول أيضاً روي عن ابن عباس مثل هذا . وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : هم أولاد الزنى . وروي عن أبي مجلز أنه قال : هم الملائكة . فبلغ ذلك مجاهداً فقال : كذب أبو مجلز يقول الله تعالى : { وَعَلَى الاعراف رِجَالٌ } فقال أبو مجلز : لأن الملائكة ليسوا بإناث ولكنهم عباد الرحمن . قال الله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شهادتهم وَيُسْألُونَ } [ الزخرف : 19 ] .
{ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم } يعني : أن أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة إذا مروا بهم ببياض وجوههم ، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم والسيما هي العلامة { وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة أَن سلام عَلَيْكُمْ } يعني : فإذا مرّ بهم زمرة من أهل الجنة قالوا : { أَن سلام عَلَيْكُمْ } يعني : إنّ أهل الأعراف يسلّمون على أهل الجنة { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } يعني : إنّ أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أنْ يَدخلوها .
وقال الحسن : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدهم بها . ويقال : لم يدخلوها يعني : أهل الجنة لم يدخلوها حتى يسلم عليهم أهل الأعراف وهم يطمعون في دخولها . ويقال : أهل النار لم يدخلوها أبداً وهم يطمعون وطمعهم أن أفيضوا علينا من الماء .
قوله تعالى :
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار } قال : من سرعة ما انصرفوا كأنهم صرفوا ، { تِلْقَاء أصحاب النار } يعني : أنهم إذا نظروا قِبَلَ أصحاب النار أي تلقاء أصحاب النار { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } أي : مع الكافرين في النار { ونادى أصحاب الاعراف رِجَالاً } يعني : في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } في الدنيا { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } أي ما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان . وقرأ بعضهم وما كنتم تستكثرون . يعني تجمعون المال الكثير . وهي قراءة شاذة .
{ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } يعني : أنّ أهل الأعراف يقولون : يا وليد ويا أبا جهل : أهؤلاء؟ يعني : صهيباً وبلالاً والضعفة من المسلمين الذين كنتم تحلفون لا ينالهم الله برحمة . يعني : إنَّهم لا يدخلون الجنة .
ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } . وعن أبي مجلز أنه قال : وعلى الأعراف رجال من الملائكة ، نادوا أصحاب الجنة قبل أن يدخلوها سلام عليكم لم يدخلوها . وهم يطمعون دخولها يعني : في الجنة . وإذا نظروا إلى أصحاب النار حين مروا بهم { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين * ونادى أصحاب الاعراف رِجَالاً } من المشركين { يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة } يعني : لأهل الجنة . قال مقاتل : فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم . فقالت الملائكة لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ . ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة . ويقال : إن أهل النار يقولون لأهل الأعراف : ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم والله تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة؟ . فيقول الملائكة لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم يعني ، أصحاب الأعراف لا ينالهم الله برحمته . ثم يقال : لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
قوله عز وجل : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي اسقونا من الماء أو شيئاً من الفواكه وثمار الجنة فإنّ فينا من معارفكم . فعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب . فأجابهم أهل الجنة : { قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } يعني : الماء والثمار . وروي في الخبر أنَّ أبا جهل بن هشام بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستهزىء به : أطعمني من عنب جنتك أو شيئاً من الفواكه . فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه :
« قُلْ لَهُ : إنَّ الله حَرَّمَهُما عَلَى الكَافِرِينَ »
ثم وصفهم عز وجل فقال : { الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } أي : اتخذوا الإسلام باطلاً ودخلوا في غير دين الإسلام . ويقال : اتخذوا عبداً لهواً وفرحاً . { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أي : غرّهم ما أصابهم من زينة الدنيا { فاليوم ننساهم } أي نتركهم في النار { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا } أي : كما تركوا العمل ليومهم هذا . ويقال : كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني : أنكروا البعث { وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } يعني : بجحدهم بآياتنا بأنها ليست من عند الله تعالى قوله تعالى : { وَلَقَدْ جئناهم بكتاب } أي : أكرمناهم بالقرآن { فصلناه على عِلْمٍ } يعني : بيّنا فيه الآيات ، الحلال والحرام { على عِلْمٍ } أي : بعلم منا { هُدًى } يعني : بياناً من الضلالة . ويقال : جعلناه هادياً . { وَرَحْمَةً } أي : نعمة ونجاة من العذاب { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني : لمن آمن وصدق به . يعني : أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا . وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون به ويستوجبون به الرحمة . ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } عاقبة ما وعدهم الله . وهو يوم القيامة .
{ يَقُولُ الذين نَسُوهُ } يقول : الذين تركوا العمل والإيمان { مِن قَبْلُ } يعني : في الدنيا { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } وذلك أنهم حين عاينوا العذاب ، وذكروا قول الرسل ، وندموا على تكذيبهم إياهم . يقولون : { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } . أي بأمر البعث فكذبناهم { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين ، فيقال لهم : ليس لكم شفيع . فيقولون : { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } أي : هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك { فَنَعْمَلَ } صار نصباً لأنه جواب الاستفهام ، وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب . وكذلك جواب الأمر والنهي . يقول الله تعالى : { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : قد غبنوا حظ أنفسهم { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند الله . قوله :
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عيّر المشركين بعبادة آلهتهم ، ونزل قوله : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] وقوله : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : من ربك الذي تدعونا إليه؟ وأرادوا أن يجحدوا في اسمه طعناً أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية . فتحيروا وعجزوا عن الجواب . فقال : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } أي خالقكم ورزاقكم { الذى خَلَقَ * السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } . قال ابن عباس أي من أيام الآخرة . طول كل يوم ألف سنة . وقال الحسن البصري : من أيام الدنيا . ويقال : يعني في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا ، ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها ، ولكن علَّم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور .
{ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قال بعضهم : هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله . وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله : الإيمان به . وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] فقال : الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا ضالاً . فأخرجوه . وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا . وقد تأوله بعضهم وقال { ثُمَّ } بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف ، لا على معنى التراخي والترتيب . ومعنى قوله : { استوى } أي استولى ، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني : استولى عليه فكذلك هذا . معناه : خالق السموات والأرض ، ومالك العرش . ويقال : ثم صعد أمره إلى العرش . وهذا معنى قول ابن عباس . قال صعد على العرش . يعني : أمره ، ويقال قال له : كن فكان ، ويقال : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ، ويكون { على } بمعنى العلو والارتفاع ، ويقال استوى يعني استولى . وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح . فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة . ثم خلق ما شاء . ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض . وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم ، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم ، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة .