كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } ، نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي عليه السلام منهم ، فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة ، فعمدوا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم فغيّروها . ويقال : غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } ، يعني في التوراة بكتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا } ، يعني يختارون به عرضاً يسيراً من منافع الدنيا . { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } ، يعني يأكلون الحرام . وإنما سمي الحرام ناراً ، لأنه يستوجب به النار ، كما قال في آية أخرى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] .
{ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة } ، أي لا يكلمهم بكلام الخير ، لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال تعالى : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ، { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ، أي ولا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة . وقال الزجاج : ولا يزكيهم أي لا يثني عليهم خيراً ، ومن لا يثني عليه فهو معذب؛ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، وكذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه ، فهو من أهل هذه الآية . وهذا كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ كَتَمَ عِلْماً ، أَلْجَمَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ »
ثم قال : { أولئك الذين } ، يعني رؤساء اليهود { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } ، يعني اختاروا الكفر على الإيمان { والعذاب بالمغفرة } ، يعني اختاروا النار على الجنة؛ { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } ، يقول : فما الذي أجرأهم على فعل أهل النار؟ ويقال : معناه فما أبقاهم في النار؟ كما يقال : فما أصبر فلاناً على الحبس : أي أبقاه؟ { ذلك } ، أي ذلك العذاب { بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } ، أي القرآن { بالحق } ، أي بالعدل . { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب } ، أي في القرآن { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، أي في ضلالة بيِّنة . ويقال : معناه أن الله تعالى أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالعدل ، فتركوا اتباعه وخالفوه فاستوجبوا بذلك العذاب . ويقال : { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، أي في خلاف بعيد من الحق . وذكر عن قتادة أنه قال : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } ، أي فما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار . وروي عن مجاهد أنه قال : ما أعلمهم بعمل أهل النار . ويريد ما أدومهم على عمل أهل النار . وقال أبو عبيدة : ما الذي صيرهم ودعاهم إلى النار؟
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
ثم قال :
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } . قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص : { لَّيْسَ البر } بنصب الراء على معنى خبر ليس . وقرأ الباقون : بالرفع على معنى اسم ليس . من قرأ بالرفع فهو الظاهر في العربية ، لأن ليس يرفع الاسم الذي بعده بمنزلة كان؛ وأما من قرأ بالنصب ، فإنه يجعل الاسم ما بعده ويجعل ( البر ) خبره . وتفسير الآية قال مقاتل : في قوله : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } ، أي ليس البر أن تحولوا وجوهكم في الصلاة { قِبَلَ المشرق والمغرب } لا تعملوا غير ذلك ، { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله } ، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له . قرأ نافع وابن عامر { ولكن البر } بكسر النون وضم الراء . . . وقرأ الباقون : { ولكن البر } بنصب النون مشددة وبنصب الراء . ويقال : معناه ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما ذكر في هذه الآية من العبادات . ثم اختلفوا في معنى قوله : { ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله } . قال بعضهم : معناه ولكن ذو البر من آمن بالله . وقال بعضهم : معناه ولكن البر بر من آمن بالله؛ وكلا المعنيين ذكرها الزجاج في كتابه . وقال بعضهم ليس البار من يولي وجهه إلى المشرق والمغرب ، ولكن البار من آمن بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
ثم ذكر في هذه الآية خمسة أشياء من الإيمان ، فمن لم يقر بواحدة منها فقد كفر . أحدها : الإيمان بالله تعالى أنه واحد لا شريك له والتصديق باليوم الآخر وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وأنه كائن ، وأن أهل الثواب يصلون إلى الثواب وأهل العقاب يصلون إلى العقاب والتصديق بالكتاب أنه منزل من الله تعالى القرآن وسائر الكتب : التوراة والإنجيل والزبور ، ويقر بالملائكة أنهم عبيده ويقر بالنبيين أنهم رسله وأنبياؤه فهذه الخمس من الإيمان فمن جحد واحدة منها فقد كفر . ثم ذكر الفضائل فقال تعالى : { وَءاتَى المال على حُبّهِ } ، يعني يعطي المال على شهوته وجوعه وهو شحيح يخشى الفقر ، ويأمل العيش . ويقال : على حبه الإعطاء بطيبة من نفسه ، يعطي { ذَوِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، يعني الضيف النازل { والسائلين } الذين يسألون الناس { وَفِي الرقاب } ، يعني المكاتبين . وقد قيل : ( ابن السبيل ) هو المنقطع من ماله .
ثم ذكر الفرائض فقال تعالى : { لَّيْسَ البر } المكتوبة ، { لَّيْسَ البر } المفروضة . { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا } فيما عاهدوا فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس . { والصابرين فِى البأساء والضراء وَحِينَ البأس } . أي بالبأساء وهي شدة الفقر؛ البأس قال القتبي : يعني الفقر وهو من البؤس والضراء المرض والزمانة . { وَحِينَ البأس } ، يعني يصبرون عند الحرب . وقال القتبي : البأس : الشدة ومنه يقال : لا بأس عليك يعني لا شدة عليك ، فلهذا سمي الحرب البأس ، لأن فيه شدة .
ثم قال تعالى : { أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا } يعني صدقوا في إيمانهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون } عن نقض العهد .
فإن قيل : أيش معنى قوله : { والصابرين فِى البأساء والضراء } وموضعه موضع رفع ولم يقل : والصابرون؟ قيل له : قد قال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط الكاتب حين كتبوا مصحف الإمام؛ والدليل على ذلك ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه نظر في المصحف وقال : أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها وهكذا قال في سورة النساء : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكواة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 162 ] وفي سورة المائدة { والصابئون } . لكن الجواب عند أهل العلم أن يقال : إنما صار نصباً للمدح والكلام يصير نصباً للمدح أو للذم . ألا ترى إلى قول القائل :
نَحْنُ بَنِي ضَبَّةَ أَصْحَابُ الجَمَلِ ... وإنما جعله نصباً للمدح . وروي عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر فنزلت هذه الآية : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } الآية . وقال الضحاك { أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا } يعني صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم بأعمالهم . { وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون } ، يعني المطيعون لله تعالى . ثم قال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الْقِصاصُ فِي الْقَتْلَى } ، يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص . فإن قيل : الفرض على من يكون؟ على الولي أو على غيره؟ قيل له : الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه ، بأن يقتضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي ، لأن الله تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص؛ ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص ، فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك . وهو قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } ، أي فرض عليكم إذا كان في القتل عمداً .
{ الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى } . قال بعضهم : كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد ، ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر ، ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ] . وقال بعضهم هي غير منسوخة ، لأنه قد ذكر هذه الآية : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى } ولم يذكر في هذه الآية : أن العبد لو قتل حراً ما حكمه ، فبيّن في آية أخرى وهو قوله : { النفس بالنفس } . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية ، فكان بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الأخرى فقالوا : لنقتلن بالعبد منا الحر منكم ، وبالمرأة الرجل منكم ، وبالرجل منا الرجلين منكم؛ فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك ، فنزلت هذه الآية : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى } .
ثم قال تعالى : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } ، أي ترك ولي المقتول من أخيه : أي القاتل ولم يقتله وأخذ الدية . { فاتباع بالمعروف } ، يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه ، وأمر بالمطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله : { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } . وقال القتبي { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } قال : قبول الدية في العمد والعفو عن الدم . { فاتباع بالمعروف } ، أي مطالبة جميلة { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } لا يبخسه ولا يمطله ، معناه ولا يدفعه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر ملأ فيتبعه بالمعروف ، والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان .
{ ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ، لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية ، فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفاً لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا .
وقال بعض الناس : إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل ، وهو قول الشافعي ، وقال أصحابنا : ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل . وليس في هذه الآية دليل ، أن له أن يأخذ الدية بكره منه ، وفيها دليل أن له أن يقبل الدية وإذا رضي القاتل وَاصْطَلَحَا على ذلك .
ثم قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى *** مِن بَعْدِ ذلك } ، يعني أن يقتل بعد ما يأخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وجع . وقال قتادة : يقتل ولا يتقبل منه الدية إذا اعتدى ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا أَعْفِي عَنْ أحَدٍ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ » ولكن معناه عندنا : أنه إذا طلب الولي القتل ، فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه ، لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول ، لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني . ثم قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } بقاء ، لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل . وهذا كما قال القائل :
أَبْلِغْ أَبَا مَاِلكٍ عَنِّي مُغَلْغَلَة ... وَفِي العِقَابِ حَيَاةٌ بَيْنَ أَقْوَام
وهذا معنى قوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } { واتقون يأُوْلِي الالباب } ، يعني يا ذوي العقول . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } القتل مخافة القصاص .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } { أي فرض عليكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا } ، أي مالاً . الخير في القرآن على وجوه ، أحدها : المال كقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وقوله : { يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] ، { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 272 ] أي المال . والثاني : الإيمان كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] أي إيماناً ، وكقوله تعالى : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدرى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إنى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } [ هود : 31 ] . والثالث الخير : الفضل كقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون * قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العآدين * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم * وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون * وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين } [ المؤمنون : 109 و118 ] . والرابع : العافية كقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام : 17 ] { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم } [ يونس : 107 ] . والخامس : الأجر كقوله : { والبدن جعلناها لَكُمْ مِّن شعائر الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سخرناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الحج : 36 ] أي أجر .
وقال بعضهم : الوصية واجبة على كل مسلم ، لأن الله تعالى قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } ، أي فرض عليكم الوصية . وروي عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَةً وَعِنْدَهُ مَالٌ يُوَصِي بِهِ ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه » وقال بعضهم : هي مباحة وليست بواجبة . وقد روي عن الشعبي أنه قال : الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص .
وقال إبراهيم النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فليس عليه شيء . وقال بعضهم : إن كان عليه حج أو كفارة أي شيء من الكفارات فالوصية واجبة ، وإن لم يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص . وبهذا القول نأخذ .
ثم بيّن مواضع الوصية فقال تعالى : { الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف } . قال مجاهد : كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين ، فصارت الوصية للوالدين منسوخة . وروى جويبر ، عن الضحاك أنه قال : نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث ، وثبتت الوصية لمن لا يرث من القرابة . ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، معناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت؛ وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئاً ، فأمرهم الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين . ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله : { بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } ، أي واجباً عليهم .
وقوله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } ، أي غيّره بعدما سمع الوصية؛ { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ } ، أي وزره على الذين يبدلونه ويغيرونه لا على الموصي ، لأن الموصي قد فعل ما عليه . { إِنَّ الله سَمِيعٌ } بالوصية { عَلِيمٌ } بثوابها وبجزاء من غيّر الوصية . { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } ، أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، إذا غيّر وصيَّته فردها إلى الحق ، لأن تبديله كان للإصلاح ولم يكن للجور . وقال الكلبي : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } ، أي علم من الميت الخطأ في الوصية ، { أَوْ إِثْماً } ، يعني تعمداً للجور في وصيته فزاد على الثلث؛ { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } ، أي رد ما زاد على الثلث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . هكذا قال مقاتل : وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الإضرار في الوصية من الكبائر .
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «فَمَنْ خَافَ مِنْ موَصّ» بنصب الواو وتشديد الصاد ، وقرأ الباقون : بسكون الواو وتخفيف الصاد؛ فمن قرأ بالنصب والتشديد ، فهو من وصّى يوصي؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فهو من أوصى يوصي . وهما لغتان ومعناهما واحد { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، معناه غفور لمن جنف رحيم لمن أصلح .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قوله تعالى : { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } ، يعني فرض عليكم صيام رمضان ، { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } ، أي فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل كلها . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد النوم . ويقال : كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض . ويقال : كما كتب على الذين من قبلكم في العدد { أَيَّامًا معدودات } ، أي معلومات؛ وإنما صارت الأيام نصباً لنزع الخافض ، ومعناه في أيام معدودات . وقال مقاتل : كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين ، وما زاد على ذلك لا يقال معدودة .
ثم قال تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } ، فلم يقدر على الصوم { أَوْ على سَفَرٍ } ، فلم يصم . { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته . { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } ، أي يطيقون الصوم { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، أي يدفع لكل مسكين مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم . { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } ، أي تصدق على مسكينين مكان كل يوم أفطره ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } من أن يطعم مسكيناً واحداً . والصيام خير له من الإفطار وهو قوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } من أن تفطروا وتطعموا . قال الكلبي : كان هذا في أول الإسلام ثم نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها ، وهكذا قال القتبي ، وهكذا روي ، عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، كان من أراد أن يفطر ويفدي فعل ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وهو قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وقال الشعبي : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ويفتدون ولا يصومون ، فصار الصوم على الفقراء ، فنسختها هذه الآية { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، فوجب الصوم على الغني والفقير ، وقال بعضهم : ليست بمنسوخة ، وإنما نزلت في الشيخ الكبير . وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ : «وَعَلَى الَّذِينَ يَطُوقُونَهُ» ، يعني يكلفونه فلا يطيقونه . وروي عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : ليست بمنسوخة وإنما هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان كل يوم مسكيناً . قرأ نافع وابن عامر «فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ» بضم الهاء وكسر الميم بالألف على الإضافة . وقرأ الباقون بتنوين الهاء { فِدْيَةٌ طَعَامُ } بضم الميم { مّسْكِينٌ } بغير ألف .
قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } ، قرأ عاصم في رواية حفص : { شَهْرٍ } بفتح الراء والباقون : بالضم . وإنما صار رفعاً لمعنيين : أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، يقول : كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر : أنه خبر مبتدأ يعني هذا شهر رمضان .
ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصباً لوقوع الفعل عليه ، أي صوموا شهر رمضان؛ ويقال : صار نصباً لنزع الخافض ، أي : في شهر رمضان . ويحتمل : عليكم شهر رمضان . كقوله : { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون } [ البقرة : 138 ] يعني الزموا .
قوله : { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ، قرأ ابن كثير { القرءان } بالتخفيف وقرأ الباقون : بالهمز . وقال ابن عباس في معنى قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } ، يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في السماء الدنيا ، ثم أنزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً ، أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة؛ أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة . وقال مقاتل : أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين سنة .
حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال : حدثنا الفضل بن دكين ، عن سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة قال : أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان ، والإنجيل في ثمانية عشرة ليلة ، والقرآن في أربعة وعشرين ليلة . قال الفقيه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال : حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريح قال : قال ابن عباس في قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } قال : أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر . قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة . فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلما أمر به تعالى .
قوله عز وجل : { هُدًى لّلنَّاسِ } أي القرآن هدى للناس من الضلالة وبياناً لهم . { وبينات مِّنَ الهدى } ، يعني بيان الحلال والحرام { والفرقان } ، أي المخرج من الشبهات { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، أي من كان منكم شاهداً ولم يكن مريضاً ولا مسافراً فليصم الشهر . { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ } فأفطر ، { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يقضيه بعد ذلك . روي عن عبد الله بن عمر : أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقاً . وعن علي بن أبي طالب مثله . وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة : أحصِ العدد وصم كيف شئت . واختلفوا في حدّ المريض الذي يجوز له الإفطار .
قال بعضهم : إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف . وقال بعضهم : إذا استحق اسم المريض جاز له أن يفطر . وقال بعضهم : إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر . وهو قول أصحابنا .
ثم قال تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } في الإفطار في حال المرض والسفر ، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } بالصوم في المرض والسفر . { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } ، قال الكلبي : يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض . وقال الضحاك : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } ، يعني إذا غمّ عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوماً . قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون : «وَلِتُكَمِّلُوا»؛ بنصب الكاف وتشديد الميم ، وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف؛ وهما لغتان يقال : كملت الشيء وأكملته مثل وصَّيت وأوصيت ثم قال : { وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } ، أي لتعظموا الله على ما هداكم لشرائعه وسننه وأمر دينه؛ { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر . وقال مقاتل : لعلكم تشكرون في هذه النعم أن هداكم لأمر دينه .
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي } ؛ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } [ غافر : 60 ] ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله في أي وقت ندعو الله حتى يستجاب دعاؤنا؟ فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } ، يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني . وقال بعضهم : سأله بعض أصحابه فقالوا : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } . وقال مقاتل : إن عمر واقع امرأته بعدما صلى العشاء ، فندم على ذلك وبكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتماً ، وكان ذلك قبل الرخصة ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } .
قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين : «دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي» بالياء والباقون كلهم بحذف الياء . وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء . ويقال فإني قريب في الإجابة ، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني ، { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } بالطاعة ، { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } وليصدقوا بوعدي . قال ابن عباس في رواية الكلبي : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } والإيمان أن تقول : آمنت بالله وكفرت بالطاغوت ، وأن وعدك حق وأن لقاءك حق ، وأشهد أنك أحد فرد صمد ، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد ، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنك باعث من في القبور .
وروي عن ابن عباس أنه قال : ما تَرَكْتُ هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية . وروي عن الكلبي أنه قال : ما تركتها منذ أربعين سنة . ويقال : معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم رسول الله { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } ، أي ليصدقوا بتوحيدي . { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ، أي يهتدون من الضلالة .
قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَاءكُمْ } ، يعني الجماع . وروى بكر ، عن عبد الله المزني ، عن ابن عباس أنه قال : الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع ، ولكن الله حيي كريم يكني بما شاء . وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا كُنْتَ جَدِيراً بذلك » فرجع مغتماً فنزلت هذه الآية : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ } ، أي رخص لكم الجماع مع نسائكم . { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ، أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن . ويقال : هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار . { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } ، أي تظلمون أنفسكم . قال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه . وقد سمى الله تعالى هذا الفعل خيانة ، لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر الله به ولم يؤد الأمانة فيه ، فقد خانه بمعصيته . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي فتجاوز عنكم { وَعَفَا عَنكُمْ } ولم يعاقبكم بما فعلتم .
{ فالن باشروهن } ، أي جامعوهن { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } ، يعني اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد الصالح . وقال الزجاج : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } ، أي اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به . { وَكُلُواْ واشربوا } ، نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار ، فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئاً ، فأصبح صائماً فأجهده الصوم ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النهار فقال له : « مَا لَكَ يَا ابْنَ قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَليحاً؟ » فقال : ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجر بالجرين ، حتى أمسيت فأتيت أهلي ، فأرادت أن تطعمني شيئاً سخناً فأبطأت علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب ، فلم آكل فأصبحت صائماً فأمسيت وقد أجهدني الصوم . فنزلت هذه الآية { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ } ، وهذا أمر أباحه الله وليس بأمر حتم . كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
[ الجمعة : 10 ] وكقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } [ المائدة : 2 ] . فلفظه لفظ الأمر والمراد به الإباحة . وقد أباح الله الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر بقوله : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود } ، أي يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل .
ويقال : في الابتداء لما نزل قوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر } ، كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود يجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب ، حتى يتبين له الأسود من الأبيض . وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال : أخذت خيطين ، فجعلت أنظر إليهما ، فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فتبسم وقال : « إِنّكَ لَعَرِيضُ القَفَا؛ إِنَّما هُوَ سَوادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ » ، فنزل قوله : { مِنَ الفجر } فارتفع الاشتباه . ثم قال تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس .
{ وَلاَ تباشروهن } ، يقول : ولا تجامعوهن { وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد } ، يقول : ولا تجامعوهن وأنتم معتكفون فيها ، وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام ، فكان الرجل إذا كان معتكفاً فإذا بدا له ، خرج بالليل إلى أهله فتغشاها ثم يغسل ويرجع إلى المسجد ، فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تباشروهن } ، أي لا تجامعوهن ليلاً ولا نهاراً { وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله } ؛ قال الكلبي : يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } في الاعتكاف . وقال الزجاج : الحد في اللغة هو المنع ، فكل من منع فهو حداد . ولهذا سمي حد الدار حداً ، لأنه يمنع الغير عن دخولها . { كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } ، يعني النهي عن الجماع { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف . ويقال { تِلْكَ حُدُودُ الله } ، أي جميع ما ذكر الله تعالى من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره ، ونبين لهم الآيات لعلهم يتقون ، فينتهون عما نهاهم ويتبعون ما أمرهم .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل } ، أي بالظلم وشهادة الزور . { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } ، يقول تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام . وقال الزجاج : تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم ، وتتركون ما علمتم أنه الحق . { لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا } ، يعني طائفة { مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم } ، أي باليمين الكاذبة وشهادة الزور . ويقال : بالإثم أي بالجور . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه جور . ويقال : إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل .
وهذه الآية نزلت في شأن امرىء القيس بن عباس الكندي وعيدان بن أشوع الحضرمي ، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على صاحبه شيئاً ، فأراد الآخر أن يحلف بالكذب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ وَأَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ ، وَأَنَّهُ لا يَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّما أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ » فنزلت هذه الآية فيهما ، وصارت عامة لجميع الناس . وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « شَاهِدُ الزُّورِ إِذَا شَهِدَ لا يَرْفَعُ قَدَمِيْهِ مِنْ مَكانِهِمَا ، حَتَّى يَلْعَنُهُ الله مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ » .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة } . الأهلة : جمع هلال واشتقاقه من قولهم : استهل الصبي إذا صاح؛ وأهلّ بالحج : أي رفع صوته بالتلبية . وكذلك الهلال يسمى هلالاً ، لأنه يهل الناس بذكره أي يرفعون الصوت عند رؤيته؛ وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته . وقال الضحاك في معنى الآية : إن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه ، فنزلت هذه الآية : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة } .
{ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } ، أي التصرف في حال زيادته ونقصانه سواء . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن عنمة الأنصاري ، لأنهما قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم ينقص؟ فنزلت هذه الآية : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } أي هي : علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج .
ثم قال تعالى : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى } ؛ قال الضحاك : وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه ، وكانوا يدخلونه من أعلاه ، فنزلت هذه الآية . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا أحرم رجل منهم قبل الحج ، فإن كان من أهل المدن يعني من أهل البيوت ، ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج ، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه؛ وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام ، يدخل من خلف الخيمة إلا من الحمس . وإنما سموا الحمس ، لأنهم يحمسون في دينهم ، أي شددوا على أنفسهم ، فحرموا أشياء أحلها الله لهم ، وحللوا أشياء كانت حراماً على غيرهم وهو الدخول من الباب . فنزلت هذه الآية : { وَلَيْسَ البر *** ءانٍ **تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } ، يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم . { ولكن البر } ، يعني التقوى { مَنِ اتقى } ، أي أطاع الله واتبع أمره . ويقال : ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي .
ثم قال تعالى : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } ، يعني ادخلوها محلين ومحرمين . { واتقوا الله } ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم؛ وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : واتقوا الله ولا تعصوه . { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، أي تنجون من العقوبة .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى : { وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم وَلاَ تَعْتَدُواْ } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة ، فنزل بالحديبية بقرب مكة ، والحديبية : اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر ، فصده المشركون عن البيت ، فأقام بالحديبية شهراً ، فصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء ، على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين ، فرجع إلى المدينة وخرج في العام الثاني للقضاء ، فخاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية { وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } ، أي في طاعة الله { الذين يقاتلونكم } ، يعني في الحرم أو في الشهر الحرام ، { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم . { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } ، يعني من يبدأ بالظلم .
{ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } ، أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم ، والشهر الحرام . فأمرهم الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد وقوله : { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } من مكة { والفتنة } ، أي الشرك بالله { أَشَدَّ } ، أي أعظم عند الله { مِنَ القتل } في الشهر الحرام . { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام } ، أي في الحرم ، { حتى يقاتلوكم فِيهِ } ، أي يبدؤوكم بالقتال . { فَإِن قاتلوكم } ، أي بدؤوكم بالقتال { فاقتلوهم كذلك جَزَاء الكافرين } ، أي هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره . قرأ حمزة والكسائي : { وَلاَ تقاتلوهم } بغير ألف { حتى يقاتلوكم } ، { فَإِن قاتلوكم } وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة : بالألف . فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة؛ ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم . { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن قتالكم ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي إذا أسلموا . وهذا كقوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين } [ الأنفال : 38 ] . { وقاتلوهم } ، يعني أهل مكة { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ، يعني الشرك بالله ، { وَيَكُونَ الدّينُ } كله { لِلَّهِ } ، يعني الإسلام . { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن قتالكم وتركوا الشرك { فَلاَ عدوان } ، يقول لا سبيل ولا حجة عليهم في القتل ، { إِلاَّ عَلَى الظالمين } الذين بدؤوكم بالقتال . وقال القتبي : أصل العدوان الظلم ، يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين .
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة ، وطافوا بالبيت ، ونحروا الهدي ، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزلت هذه الآية : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } ، يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه العام الأول وهو ذو القعدة { والحرمات قِصَاصٌ } أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم .
ويقال : إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام { والحرمات قِصَاصٌ } ، يعني قتالكم يكون لِقتالهم قصاصاً ، فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضاً ذلك .
ويقال : إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا : في أي شهر يحرم عليكم القتال؟ وأرادوا أن يقفوا على ذلك ، حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين ، فنزل قوله : { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ } ، أي في وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم . ثم قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } ، أي قاتلكم في الشهر الحرام { فاعتدوا عَلَيْهِ } ، أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء ، لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه . وهذا كقوله عز وجل : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } [ النحل : 126 ] ؛ ثم صارت هذه الآية حكماً في جميع الجنايات . إن من جنى على إنسان أو في ماله ، فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } . ثم قال { واتقوا الله } عن الاعتداء قبل أن يعتدوا عليكم { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } ، يعني يعين من اتقى الاعتداء .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{ أَنْقِقُوا فِي سَبِيلِ الله } ، أي في طاعة الله . قال ابن عباس : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد ، قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا : بماذا نجهز؟ فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد . فنزل قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } ، يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله أي في طاعة الله . { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل . ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا ، أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء ، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا . ومعنى آخر : ولا تمسكوا ، فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم . معنى آخر : ولا تمسكوا ، فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة .
ويقال : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، يعني لا تنفقوا من حرام ، فيرد عليكم فتهلكوا . وقال الزجاج : التهلكة : معناه الهلاك . يقال : هلك يهلك هلاكاً وتهلكة . معناه إن لم تنفقوا عصيتم الله فهلكتم . وروي عن البراء بن عازب ، أن رجلاً سأله عن التهلكة فقال : أهو الرجل إذا التقى الجمعان ، فحمل فيقاتل حتى يقتل؟ قال : لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب . وقال قتادة قيل لأبي هريرة : ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل ، ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال أبو هريرة : كلا والله ولكنه تأويل آية من كتاب الله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد } [ البقرة : 207 ]
وقال أبو عبيدة السلماني : التهلكة أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك .
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثرنا قلنا فيما بيننا : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع؛ فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأمرنا بالغزو . ثم قال تعالى : { وَأَحْسِنُواْ } ، أي أحسنوا النفقة من الصدقة . { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } في النفقة ويقال : وأحسنوا في النفقة ، أي أخلصوا النية في النفقة . ويقال : أحسنوا الظن بالله تعالى فيما أنفقتم ، إنه يخلف عليكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة .
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } ، قرأ الشعبي : { والعمرة لِلَّهِ } بالضم على معنى الابتداء ، وقرأ العامة { والعمرة } بالنصب على معنى البناء . قال ابن عباس : تمام العمرة إلى البيت ، وتمام الحج إلى آخر الحج . وقال مقاتل : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } من المواقيت ، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم؛ وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم . ومعنى قول مقاتل : أنهم كانوا يشركون فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك . فقال : وأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً آخر . ثم خوَّفهم فقال : { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، فيما تعديتم .
ثم قال عز وجل : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } ، أي حبستم عن البيت بعدما أحرمتم . وقال القتبي : الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو . وقال الفراء : الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره . وقال بعضهم : لا يكون الإحصار إلا من العدو . وقال بعضهم : يكون من العدو وغيره ، وبه قال علماؤنا رحمهم الله .
ثم قال : { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } ، أي ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي ، والله تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعدو أن يبعث الهدي ، فينزع عنه بمكة ، ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه ، ويرجع إلى أهله ، ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك . ثم قال تعالى : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } ، يعني المحصر إذا بعث بالهدي ، لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه . يقول : لا يحلق رأسه ، حتى يكون اليوم الذي واعده فيه ، ويعلم أن هديه قد ذبح . ثم صار هذا أصلاً لجميع الحجاج من كان قارناً أو متمتعاً ، لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه وإن لم يكن محصراً .
ثم قال تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ } ، يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى : { أَيَّامًا معدودات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 184 ] يعني إذا كان أفطر . وروي عن كعب بن عجرة أنه قال : فيَّ نزلت هذه الآية . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : « أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ » فقلت : نعم . فأمر بي بأن أحلق رأسي فقال : « احْلِقْ رَأْسَكَ ، وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، أَوْ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَنْسِكْ نَسِيكَةً »
يعني اذبح شاة ، فنزلت هذه الآية : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ، أي شاة يذبحها حتى يبلغ الهدي محله . ويروى عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها : بتشديد الياء . وواحدها هدية . وقرأ الباقون : بالتخفيف يقال للواحدة : هدي وهدية .
ثم قال : { فَإِذَا أَمِنتُمْ } وهذا على سبيل الاختصار والإضمار . ومعناه فإذا أمنتم من العدو ، فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة . ويقال : إذا أمنتم من العدو وبرأتم من المرض ، فحجوا واعتمروا . { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدى } ، يعني فعليه ما تيسر من الهدي؛ وللمتمتع أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة من أشهر الحج . والمحرمون أربعة : مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمع والقارن ، فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد بالعمرة أن يعتمر ولا يحج ، وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعدما فرغ من عمرته ، وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعاً . فمن كان مفرداً بالحج أو بالعمرة ، فلا يجب عليه الهدي؛ ومن كان متمتعاً أو قارناً ، فعليه الهدي . وقال عبد الله بن عمر أنه قال : الهدي : الجزور . وقال ابن عباس : أقله شاة؛ وبه قال علماؤنا .
ثم قال { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج } . قال ابن عباس : آخرها يوم عرفة . { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } . قال بعضهم : إذا رجعتم إلى أهليكم . وقال بعضهم : إذا رجعتم من منى . وقال بعضهم : إذا رجعتم إلى الأمر الأول ، يعني إذا فرغتم من أمر الحج؛ وبهذا القول نقول . ثم قال : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ، في البدل يعني العشرة الكاملة كلها بدل عن الهدي ، يعني { ذلك } الفداء { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام } ، أي ذلك الفداء لمن لم يكن منزله في الحرم . وقال قتادة ومقاتل : ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام يعني الحرم . { واتقوا الله } فيما أمركم به ونهاكم عنه . { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إن خالفتم .
{ الحج أَشْهُرٌ معلومات } ، أي وقت الحج أشهر معلومات وهو : شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة . { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } ؛ قال القتبي : الفرض وجوب الشيء ، يقال : فرضت عليك كذا ، أي أوجبته . قال الله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ، أي ما ألزمتم أنفسكم ، وقال : { ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }
[ الأحزاب : 50 ] ، وقال تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } ، أي فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج ، { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «فَلاَ رِفْثٌ وَلاَ فُسُوقٌ» بالرفع مع التنوين ، والباقون بالنصب بغير تنوين . واتفقوا في قوله : { وَلاَ جِدَالَ } بالنصب؛ غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع . وهذا يقال له : لا التبرية؛ فكل موضع يدخل فيه لا التبرية ، فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين ، وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله : { ياأيها الذين ءامنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] .
وتفسير الرفث هو الجماع كقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187 ] ؛ وقال بعضهم : الرفث : التعرض بذكر النساء ، والفسوق : هو السباب ، والجدال : أن تماري صاحبك حتى تغيظه . أي من كان محرماً لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري . ويقال : الفسوق الذبح للأصنام . كقوله تعالى : { قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 145 ] ، والجدال هو أن قريشاً كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون : نحن أصوب سبيلاً . وروي عن مجاهد أنه قال : قد استقر الحج في ذي الحجة ، فلا جدال فيه؛ وذلك أن المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة ، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة؛ فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وافق ذلك أول عام في ذي الحجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَلا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالأَرْضَ " يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان ، فنزل : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } .
ثم قال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } ، يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال . { يَعْلَمْهُ الله } ، أي يقبله الله فيجازيكم به . { وَتَزَوَّدُواْ } في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة .
{ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } . قال مقاتل وذلك أن أناساً من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد ، ويصيبون من أهل الطريق ظلماً ، فنزلت في شأنهم { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } . وقال بعضهم : تزودوا لسفر الدنيا بالطعام ، وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى فإن خير الزاد التقوى . ويقال خير الزاد التقوى ، هو التوكل على الله وأن لا يؤذي أحدٌ لأجل الزاد والطعام . ثم قال : { واتقون يأُوْلِي الالباب } ، يعني اطيعوني يا ذوي الألباب أي العقول فيما أمرتكم به .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } ؛ وذلك أنهم كانوا إذا حجوا ، كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج ، فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم ، فجعل الله تعالى لهم رخصة في ذلك فقال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } ، أي لا مأثم عليكم أن تطلبوا رزقاً من ربكم من التجارة في أيام الحج . وقال مقاتل : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج ، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا؟ فنزلت هذه الآية . ومعنى آخر : ما روي عن عبد الله بن عمر : أن رجلاً سأله فقال : إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزيني عن حجي؟ فقال : أولست تلبي ، وتقف بعرفات وترمي الجمار؟ فقال : بلى فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني ، فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } . وروي عن ابن عباس نحوه .
ثم قال تعالى : { فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات } ، يقول إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس؛ { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ، يعني بالمزدلفة . وقال عطاء : إنما سميت عرفات ، لأن جبريل كان يعلَّم إبراهيم عليه السلام أمور المناسك فكان يقول له : عرفت؟ فيقول : عرفت . فسميت عرفات . وقال ابن عباس : إنما سميت منى ، لأن جبريل قال لآدم عليهما السلام : تمنَّ . قال : أتمنى الجنة . فسميت منى . قال : وإنما سمي الجمع جمعاً ، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضاً : هو المزدلفة وهو المشعر الحرام .
ثم قال : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } ، يقول : اشكروا الله كما هداكم لدين الإسلام { وَإِن كُنتُمْ } ، أي وقد كنتم { مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالين } عن الهدى ، وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات ، وكان الناس يقفن خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات ، ويفيضون منها؛ فأمر الله تعالى قريشاً أن يقفوا من حيث وقف الناس ، ويفيضوا من حيث أفاض الناس؛ فقال تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله } تعالى لذنوبكم في الموقف .
{ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متجاوز عن ذنوبكم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالناس جميعاً إلى عرفات فيقف بها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الله تَعَالَى يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ بِأَهْلِ عَرَفَات وَيَقُولُ : انْظُرُوا إِلى عِبَادِي جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ شُعْثاً غُبْراً . اشْهَدُوا ، أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ »
ثم قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } ، أي فرغتم من أمر حجكم { فاذكروا الله } باللسان { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } في ذلك الموقف { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ؛ يقول : أو أكثر ذكراً ، وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم ، وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل ، ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون ، قال الله تعالى : فَاذْكُرُونِي بالخير { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } بالخير ، فإن ذلك الخير مني . وقال عطاء بن أبي رباح : قوله : { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } هو كقول الصبي : أبه أبه ، يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله : أب أب . ويقال فاذكروا الله كذكركم آباءكم لأبيكم آدم ، لأنه لا أب له ، بل أشد ذكراً ، لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات .
ثم قال تعالى : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا } ، وهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماءً وأموالاً ، ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة ، فأنزل الله تعالى : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا } . { وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } ، أي من نصيب . { وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً } ؛ قال ابن عباس : يعني الشهادة والمغفرة والغنيمة { وَفِي الاخرة حَسَنَةً } ، أي الجنة . وقال القتبي : الحسنة النعمة كقوله : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } [ التوبة : 50 ] ، أي نعمة . وقال الحسن البصري : { فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي } ، أي العلم والعبادة { وَفِي الاخرة حَسَنَةً } ، أي الجنة قال الإمام : حسنة الدنيا ، ثوابك ، وقوت من الحلال يكفيك ، وزوجة صالحة ترضيك ، وعلم إلى الحق يهديك ، وعمل صالح ينجيك . وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات ، وعفو السيئات ، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات ، والفوز بالدرجات { وَقِنَا عَذَابَ النار } ، أي ادفع عنا عذاب النار .
{ أولئك } ، يعني المؤمنين الذين يدعون بهذا الدعاء { لَهُمْ نَصِيبٌ } ، أي حظ { مِمَّا كَسَبُواْ } من حجهم . ويقال : لهم ثواب مما عملوا . وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة ، فعجِّله لي في الدنيا؛ فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِعُقُوبَةِ الله تَعَالَى ولكن قُلْ : { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } » فدعا بها الرجل فبرأ .
ثم قال : { والله سَرِيعُ الحساب } ؛ قال الكلبي : إذا حاسب فحسابه سريع . ويقال : والله سريع الحفظ . وقال الضحاك : يعني لا يخالطه العباد في الحساب يوم القيامة ولا يشغله ذلك . ويقال : يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة . وقوله تعالى :
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{ وَاذْكُرُواْ الله فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } ، أي معروفات وهي أيام التشريق . وقال القتبي : أيام التشريق . والمعلومات أيام العشر . وقال يحيى بن سعيد : سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات ، قال : الأيام المعدودة : أيام النحر ، والمعلومات : أيام العشر . وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، والمعلومات : أيام النحر بدليل قوله : { واذكروا الله فى أَيَّامٍ معدودات فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ البقرة : 203 ] فذكر النحر في تلك الأيام . وقال الضحاك : معنى قوله : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } ، أي معروفات وهي أيام التشريق ، أي كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؛ ويقال : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } ، يعني التكبير عند رمي الجمار .
قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ } ، أي رجع إلى أهله ، بعدما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تعجيله ، { وَمَن تَأَخَّرَ } إلى آخر النفر { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تأخيره . { لِمَنِ اتقى } ، يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود قال : إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه . ويقال : لمن اتقى بعد انصرافه من حجه عن جميع المعاصي؛ وإنما حذرهم الله تعالى ، لأنهم إذا رجعوا من حجهم ، يجترئون على الله تعالى بالمعاصي ، فحذرهم عن ذلك فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، فيجازيكم بأعمالكم .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه } ، يعني كلامه وحديثه ، وهو أخنس بن شريق ، كان حلو الكلام ، حلو المنظر ، فاجر السريرة . وروى أسباط عن السدي قال : أقبل أخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : إنما جئت أريد الإسلام وقال : الله يعلم أني صادق ، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ثم خرج من عنده ، فمر بزرع للمسلمين فأحرقه ، ومر بحمار للمسلمين فعقره ، فنزلت هذه الآية : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا } ، أي يعجبك كلامه وحديثه . { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } من الضمير أنه يحبه وهو يريد الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } ، أي شديد الخصومة . قال القتبي : أي أشدهم خصومة . يقال : رجل ألد بين اللّد واللدد ، وقوم لد . كما قال في آية أخرى : { فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] .
ثم قال : { وَإِذَا تولى سعى فِى الارض } ، يقول : إذا فارقك رجع عنك ، سعى في الأرض ، أي مضى في الأرض بالمعاصي . { لِيُفْسِدَ فِيهَا } ، أي يعصي الله في الأرض { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } ، أي يحرق الكدس ويعقر الدواب . { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } ، أي لا يرضى بعمل المعاصي .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } في صنعك ، { أَخَذَتْهُ العزة } ، أي الحمية { بالإثم } ، يعني الحمية في الإثم ، يعني تكبراً . يقول الله تعالى : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } ، أي ولبئس الفراش ولبئس القرار . فهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق ، ولكنها صارت عامة لجميع الناس؛ فمن عمل مثل عمله ، استوجب تلك العقوبة . وقال بعض الحكماء ، إن من يقتل حماراً ويحرق كدساً ، استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة؛ فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله؟ وذكر أن يهودياً كانت له حاجة إلى هارون الرشيد ، فاختلف إلى بابه سنة ، فلم تنقض حاجته؛ فوقف يوماً على الباب ، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال : اتق الله يا أمير المؤمنين . فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجداً لله تعالى ، فلما رفع رأسه أمر به ، فقضيت حاجته . فلما رجع قيل : يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي؟ قال : لا ولكن تذكرت قول الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } إلى آخره . وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا ، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا؛ فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كَانُوا كَذَلِكَ » .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
ثم قال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله } . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي ، مولى عبد الله بن جدعان ، وفي نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ياسر أبو عمار بن ياسر ، وسمية أم عمار ، وخباب بن الأرت وغيرهم؛ أخذهم المشركون فعذبوهم . فأما صهيب فإنه كان شيخاً كبيراً وله مال ومتاع ، فقال لأهل مكة : إني شيخ كبير ، وإني لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم ، فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني ، أشتريه منكم بمالي . ففعلوا ذلك ، فأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته ، وتوجه إلى المدينة ، فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له : ربح البيع يا صهيب . فقال له : وبيعك فلا يخسر . فقال : وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب . وقتل ياسر أبو عمار وأم عمار سمية ، فنزلت هذه الآية في شأن صهيب { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاةَ الله } ، أي يشري نفسه ودينه . وهذا من أسماء الأضداد ، يقال : شرى واشترى وباع وابتاع . { ابتغاء مَرْضَاة الله } ، أي طلب يشتري نفسه ودينه رضاء الله . { والله رَءوفٌ بالعباد } ، أي رحيم بهم . ثم صارت هذه الآية عامة لجميع الناس؛ من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه ، فهو من أهل هذه الآية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{ بالعباد يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } . قرأ نافع وابن كثير والكسائي : { السلام } بنصب السين وقرأ الباقون : بالكسر . { والسلام } بالكسر هو الإسلام والسَّلم بالنصب هو المسالمة والصلح . ويقال : السَّلم والسَّلم في اللغة : هو الصلح . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كانوا يتقون السبت ، ويحرمون أكل لحوم الجمال فنزلت : { بالعباد يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } ، أي في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم . { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } ، يعني طاعات الشيطان .
قال مقاتل : استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل قوله : { ادخلوا فِي السلم كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } ، فإن اتباع السنة الأولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان . وقال بعضهم : { ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } ، أي اثبتوا على شرائع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تخرجوا منها .
وقوله : { كَافَّةً } أي عبارة عن الجميع ، فيجوز أن يكون معناه : ادخلوا جميعاً ويجوز أن يكون معناه : ادخلوا في جميع شرائعه ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان . { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ، أي ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُمْ } ، أي ملتم عن شرائع محمد صلى الله عليه وسلم . { مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات } ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وشرائعه ، { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } عزيز بالنعمة حكيم في أمره ، وقال مقاتل أي حكيم حكم عليهم بالعذاب الشديد .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها ( قد ) ، كقوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } [ الغاشية : 1 ] أي قد أتاك . ومرة يراد بها ( الاستفهام ) ، كقوله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] ومرة يراد بها ( السؤال ) ، كقوله : { فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا } [ الأعراف : 44 ] . ومرة يراد بها ( التفهيم ) ، كقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ومرة يراد بها ( التوبيخ ) ، كقوله : { هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين } [ الشعراء : 221 ] . ومرة يراد بها ( الأمر ) ، كقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ، أي انتهوا ، ومرة يراد بها ( الجحد ) ، كقوله في هذا الموضع : { أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ } . { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } ، أي ما ينظرون . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : هذا من المكتوم الذي لا يفسر . . . وروى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري قال : قال ابن عباس : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير يعلمه العلماء ، وتفسير تعرفه العرب ، وتفسير لا يقدر أحد عليه لجهالته ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ومن ادعى علمه فهو كاذب . وهذا موافق لقوله تعالى : { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } [ آل عمران : 7 ] وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا : لا يعلم تأويلها إلا الله . وبعضهم تأولها فقال : هذا وعيد للكفار ، فقال : { هَلْ يَنظُرُونَ } ، أي ما ينتظرون ولا يؤمنون { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } يعني أمر الله تعالى ، كما قال في موضع آخر : { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاًّوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الابصار } [ الحشر : 2 ] ، يعني أمر الله . وقال بعضهم : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } ، يعني بما وعد لهم من العذاب . { فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام } . يعني في غمام فيه ظلمة . وقيل في ظلل يعني بظلل . وقال : على غمام فيه ظلمة .
{ والملئكة } قرأ أبو جعفر بكسر الهاء ، يعني في ظلل من الغمام وفي الملائكة . قال قتادة : وهي قراءة شاذة؛ والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة . وقال قتادة { والملئكة } ، يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم . ويقال : يوم القيامة . { وَقُضِىَ الامر } ، أي فرغ مما يوعدون ، يعني دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار . { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } ، يعني عواقب الأمور . قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { تُرْجَعُ } بنصب التّاء ويكون الفعل للأمور . وقرأ الباقون : بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله .
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
قوله تعالى : { سَلْ بَنِى إسراءيل كَمْ آتيناهم } . قال مقاتل : معناه سل علماء بني إسرائيل كما أعطيناهم . { مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } حين فرق لهم البحر وأغرق عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى . ويقال : { كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } ، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم . ثم قال : { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } ، أي يغيّر نعمة الله تعالى . { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، يعني يقول إذا لم يشكر نعمة الله ، تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
قوله تعالى : { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } ، قال الكلبي : نزلت في شأن رؤساء قريش ، زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير . { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } في أمر المعيشة ، لأنهم كانوا فقراء .
{ والذين اتقوا } ، أي أطاعوا الله وهم فقراء المؤمنين . { فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } ، أي فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا . وقد اختلفوا في قوله : { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } . قال بعضهم : يعني زينها لهم إبليس ، لأن الله تعالى قد زهد فيها وأعلم أنها متاع الغرور ، ولكن الشيطان زيَّن لهم الأشياء ، كما قال في آية أخرى : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] وقال في آية أخرى : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [ النمل : 4 ] ، فكان ذلك مجازاة لكفرهم . وقال بعضهم : معناه أن الله تعالى زين لهم ، لأنه خلق فيهم الأشياء العجيبة ، فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بها .
وروي ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقول الله تعالى لملائكته : لَوْلا أَنْ يَحْزَنَ عَبْدِي المُؤْمِنُ ، لَعَصَبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَلَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا صَبّاً » ومصداق ذلك في القرآن { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] الآية . وقال عليه الصلاة والسلام : « لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ »
ثم قال تعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } ، أي يرزق من يشاء رزقاً كثيراً لا يعرف حسابه . ويقال : أي يرزقه ولا يطلب منه حسابه بما يرزقه . ويقال : بغير حساب أي ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال : بغير حساب أي بغير احتساب . كما قال في آية أخرى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً } [ الطلاق : 3 ] . وكل ما في القرآن : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } ، فهو على هذه الوجوه الأربعة .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } . قال الزجاج : الأمة على وجوه منها القرن من الناس ، كما يقال : مضت أمم أي قرون ، والأمة : الرجل الذي لا نظير له . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] والأمة : الدين وهو الذي قال ها هنا : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } ، أي على دين واحد وعلى ملة واحدة . وقال بعضهم : كان الناس كلهم على دين الإسلام ، جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا . { فَبَعَثَ الله النبيين } . وقال بعضهم : كان الناس كلهم كفاراً في عهد نوح وعهد إبراهيم عليهما السلام فبعث الله للناس النبيين إبراهيم وإسماعيل ، ولوطاً وموسى ومن بعدهم { مُبَشّرِينَ } بالجنة لمن أطاع الله ، { وَمُنذِرِينَ } بالنار لمن عصى الله { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق } ، يقول : بالعدل { لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس } ، أي يقضي بينهم { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } من أمور الدين . { وَمَا اختلف فِيهِ } ، أي في الدين . { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } ، يعني أعطوا الكتاب . { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } ، أي البيان من الله . { بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، يعني اختلفوا فيه حسداً بينهم . { فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ } ، أي هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل { بِإِذْنِهِ } بتوفيقه ويقال : برحمته . { والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، يعني الإسلام . وقال بعضهم : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه أي بعصمته { والله يَهْدِى } أي يوفق من يشاء إلى صراط مستقيم .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } يقول : ظننتم أن تدخلوا الجنة . { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } من أتباع الرسل من قبلكم ، أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم ، يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم . ويقال : لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي من قبلكم . { مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء } . البأساء : الشدة والبؤس ، والضراء : الأمراض والبلاء . { وَزُلْزِلُواْ } ، أي حركوا وأجهدوا ، { حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } قال مقاتل : يعني شعيب النبي صلى الله عليه وسلم وهو اليسع . وقال الكلبي : هذا في كل رسول بعث إلى أمته ، واجتهد في ذلك حتى قال : { متى نَصْرُ الله } ؟ قال الله تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } .
روي عن الضحاك أنه قال : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا فيصيبكم مثل ذلك ، حتى يقول : محمد صلى الله عليه وسلم : { متى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } ، يعني فتح الله تعالى قريب ، أي فتح الله تعالى إلى مكة عاجلٌ . وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب ، فأصابهم خوف شديد وكانوا كما قال الله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الابصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] ، فصدق الله وعده وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً ، وهزم الكفار . فذلك قوله تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } قرأ نافع : { حتى يَقُولَ الرسول } بالرفع على معنى المستأنف . وقرأ الباقون : بالنصب على معنى الماضي .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثّهم على الصدقة ، قال عمرو بن الجموح : يا رسول الله ، كم ننفق وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } ، أي ماذا يتصدقون من أموالهم؟ { قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ } ، أي من مال { فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين . فهذا جواب لقولهم : على من ننفق؟ ونزل في جواب قولهم : ماذا ننفق؟ قوله تعالى : { يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 219 ] ، أي الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة . وقال بعضهم : آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها . وقال بعضهم : هذه الآية ليست بمنسوخة؛ وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام . ثم قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } ، أي يجازيكم به .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } { أي فرض عليكم القتال . { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } ، أي شاق عليكم . وذلك أن الله تعالى ، لما أمرهم بالجهاد ، كرهوا الخروج . وإنما كانت كراهيتهم له ، لأنه كان في الخروج عليهم مشقة ، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى : ثم قال : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } ، يعني الجهاد . { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، لأن فيه فتحاً وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام . { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } ، وهو الجلوس عن الجهاد ، لأنه يسلط عليكم عدوكم . { والله يَعْلَمُ } أن الجهاد خير لكم . { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أن ذلك خير ، حين أحببتم القعود عن الجهاد . ويقال : والله يعلم ما كان فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون . ذلك قوله تعالى .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع تسعة رهط ، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش ، فلقوا العير . وكان ذلك في آخر الشهر ، فأمر عبد الله بن جحش بعض أصحابه ، فحلق رأسه . فلما رآهم المشركون آمنوا وظنوا أنه دخل رجب ، فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم ، فعيَّرهم المشركون بذلك ، فنزلت هذه الآية : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } . قال الزجاج : معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام . وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالاً من الشهر الحرام . { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ، أي عظيم عند الله . ثم قال : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } ، يقول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها . { وَكُفْرٌ بِهِ } ، أي بالله تعالى ويقال : { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالحج .
قوله : { والمسجد الحرام } ؛ وإنما صار خفضاً ، لأنه عطف على سبيل الله ، كأنه قال : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله تعالى . { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } . أي من المسجد { أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ، أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام . { والفتنة } ، يعني الشرك { أَكْبَرُ مِنَ القتل } ، أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام . ثم قال : { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } الإسلام إلى دينهم الكفر . { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } ، يعني إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه . ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام ، فقال تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } الإسلام . { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } بالله تعالى { فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } ، أي بطلت حسناتهم . { فِى الدنيا والاخرة } ، يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب ، كما قال في آية أخرى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }
[ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { أولئك الذين كَفَرُواْ بأايات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] . { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } ، أي دائمون .
قال الفقيه : حدثنا أبو إبراهيم محمد بن سعيد قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا إبراهيم بن داود قال : حدثنا المقدمي ، عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : حدثنا الحضرمي ، عن أبي السوار ، عن جندب بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً ، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال : « لَا تُكْرِه أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى المَسِيرِ » فلما بلغ المكان ، قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال : السمع والطاعة لله ولرسوله ، فرجع رجلان ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون : قتلهم محمد في الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى الآية : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } . فقال المشركون : إن لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
فنزل : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } من مكة { وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله } ، أي في طاعة الله بقتل ابن الحضرمي . { أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله } ، أي ينالون جنة الله . { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بقتالهم في الشهر الحرام ، ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحاً بقوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 36 ] ؛ فنهاهم الله عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا ، وأمرهم بالقتال عاماً . وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز . وقال أبو جعفر الطحاوي : لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز . وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام ، فقال : لا بأس به ، وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
ثم قال تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } . قال بعض المفسرين : إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر ، إلا وقد أعطى هذه الأمة . ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة؛ فكذلك في تحريم الخمر ، كانوا مولعين على شربها ، فنزلت هذه الآية { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } ، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار . { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } في تجارتهم . { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } . فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها . ثم نزلت هذه الآية : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } [ النساء : 43 ] ، فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة ، حتى نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] الآية . فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر . وقيل : إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها .
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم ، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب؟ فأخبرهم أنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم . فقالوا : لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة . فقال : إن خدمة الرب واجبة . فقالوا له : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء . فقال : إن اصطناع المعروف واجب . فقيل له إنه ينهى عن الزنى . فقال : إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً ، فلا أحتاج إليه . فقيل له : إنه ينهى عن شرب الخمر . قال : أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع . وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه ، فلم يبلغ إلى منزله ، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات . وقال بعضهم : في هذه الآية ما يدل على تحريمه ، لأنه سماها إثماً ، وقد حرم الإثم في آية أخرى وهي قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سلطانا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقال بعضهم : أراد بالإثم ، الخمر بدليل قول الشاعر :
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية ، وكان يقول : الناس يطلبون زيادة العقل ، فأنا لا أنقص عقلي .
وأما الميسر ، فكانوا يشترون جزوراً ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه أولاً ، يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء ، ومن بقي سهمه آخراً ، فكان عليه ثمن الجزور كله وليس له من اللحم شيئاً . وقال عطاء ومجاهد : الميسر القمار كله ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب . قرأ حمزة والكسائي : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } بالثاء من الكثرة ، والباقون ( بالياء ) كبير أي ذنب عظم .
قوله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر } ، أي ماذا يتصدقون؟ { قُلِ العفو } ، أي الفضل من المال ، يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله ، ثم نسخ بآية الزكاة . وقرأ أبو عمرو : «قُلِ العَفْوُ» بالرفع ، يعني الإنفاق وهو الزكاة . وقرأ الباقون : بالنصب ، يعني أنفقوا الفضل . { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } ، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة . { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } . { فِى الدنيا والاخرة } ، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم ، ولا يدوم إلا العمل الصالح؛ وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول . وقال بعضهم : معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا ، لعلكم تتفكرون في الآخرة .
قوله تعالى : { فِى الدنيا والاخرة } ، يقول : عن مخالطة اليتامى؛ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] ، تركوا مخالطتهم فشق عليهم ذلك . وكان عند الرجل منهم يتيم ، فجعل له بيتاً على حدة وطعاماً على حدة ، ولا يخالطه بشيء من ماله . فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، قد أنزل الله آية في أموال اليتامى ، ما قد أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة . أفيصلح لنا أن نخالطهم؟ فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } ، أي عن مخالطة اليتامى . { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } . يقول : أي لمالهم خير من ترك مخالطتهم . { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } ، أي تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة ، { فَإِخوَانُكُمْ } في الدين . ويقال : الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم . { والله يَعْلَمُ المفسد } لمال اليتيم { مِنَ المصلح } بماله ، يعني لا بأس بالخلطة ، وإذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به .
ثم قال : { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . قال القتبي : ولو شاء الله ، لضيق عليكم ولشدد عليكم ، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم . وقال الزجاج : { لاعْنَتَكُمْ } ، معناه لأهلككم . وأصل العنت في اللغة من قول العرب : عنت البعير ، إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم . وقال الكلبي { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ } في مخالطتهم فجعلها حراماً . { أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، وقد ذكرناها .
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } . نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وكان يأتي مكة ويخرج منها أناساً من المسلمين كانوا بها سراً من أهل مكة؛ فلما قدم مكة ، جاءته امرأة يقال لها عناق ، كانت بينهما خلة في الجاهلية ، فقالت له : هل لك أن تخلو بي؟ فقال لها : يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك ، وقد حرمت علينا . ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتزوجك إن شئت . فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن ذلك ، فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ } ، يقول : نكاح أمة مؤمنة { خَيْرَ مَنِ } نكاح حرة { مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ، أي أعجبكم نكاحها .
{ وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين } ، يقول : لا تنكحوا نساءكم المشركين ، { حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن } تزويج { مُشْرِكٌ } حر . { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار } ، يعني إلى عمل أهل النار . { والله يَدْعُو إلى * الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } ، يعني إلى التوحيد والتوبة { بِإِذْنِهِ } ، أي بأمره ويقال : يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين ، لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه ، أي بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها { وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ } ، أي أمره ونهيه في أمر التزويج . { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ، ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام . ويقال : إن رجلاً من الأنصار أعتق جارية له ، فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيّروه بذلك ، فنزلت هذه الآية { وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ } .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
ثم قال : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } . قال ابن عباس : نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له : عمرو بن الدحداح ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ أنقربهن أم لا؟ فنزل قوله تعالى { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } يقول عن النساء إذا حضن . ويقال : ويسألونك عن مجامعة النساء في المحيض . { قُلْ هُوَ أَذًى } ، يعني الدم هو قذر نجس . { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } ، أي لا تجامعوهن في حال الحيض . { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } ، يعني لا تجامعوهن وهن حيض ، { حتى يَطْهُرْنَ } . قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر : { حتى يَطْهُرْنَ } بتشديد الطاء والهاء والنصب ، والباقون بالتخفيف أي يغتسلن وأصله يتطهرون ، فأدغمت التاء في الطاء فصار { يَطْهُرْنَ } . فمن قرأ { يَطْهُرْنَ } أي يغتسلن ، ومن قرأ { يَطْهُرْنَ } أي حتى يطهرن من الحيض .
قال الفقيه الزاهد؛ نعمل بالقراءتين جميعاً؛ فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة ، فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشرة ، جاز له أن يقربها بغير غسل . ثم قال تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، يعني أي اغتسلن من الحيض ، { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } ، أي جامعوهن من حيث رخص لكم الله في موضع الجماع .
ويقال : لما نزلت هذه الآية { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } ، اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت؛ فقدم أناس من الأعراب وقالوا : يا رسول الله البرد شديد وقد اعتزلنا النساء ، وليس كلنا يجد سعة لذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّمَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ عَنْ مُجَامَعَتِهِنَّ ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوهُنَّ مِنَ البُيُوتِ كَمَا تَفْعَلُ الأعَاجِمُ »
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين } ، يعني التوابين من الشرك والذنوب . { وَيُحِبُّ المتطهرين } ، أي من الجنابة والأحداث . ويقال : ويحب المتطهرين من إتيانهن في المحيض ، في أدبارهن يتنزهون عن ذلك . ويقال : ويحب التّوابين من الذنوب والمتطهرين الذين لم يذنبوا . فإن قيل : كيف قدَّم بالذكر الذي تاب من الذنوب على الذي لم يذنب؟ قيل له : إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة ، ولا يعجب المتطهر بنفسه؛ كما ذكر في آية أخرى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } [ [ فاطر : 32 ] .
ثم قال عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } . يقول : مزرعة لكم للولد ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } . والحرث في اللغة هو الزرع ، فسمى النساء حرثاً على وجه الكناية ، أي هن للولد كالأرض للزراعة .
قوله : { أنى شِئْتُمْ } ، أي كيف شئتم؛ إن شئتم مستقبلين ، وإن شئتم مستدبرين ، إذا كان في صمام واحد . وذلك أن اليهود كانوا يقولون : لا يجوز إتيان النساء إلا مستلقياً ، وكانوا يقولون : إذا أتاها من خلفها ، يكون الولد أحول ، فنزل قوله تعالى { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يَنْظُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أوِ امْرَأةً فِي دُبُرِهَا » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبرِهَا »
ثم قال تعالى : { وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ } من الولد الصالح . ويقال قدموا لأنفسكم من العمل الصالح . ويقال : سموا الله أي قولوا بسم الله الرحمن الرحيم عند ذلك . ثم قال : { واتقوا الله } ، أي اخشوا الله ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن . { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } ، أي تصيرون إليه يوم القيامة ، فيجزيكم بأعمالكم . { وَبَشّرِ المؤمنين } الذين يحافظون على حدود الله ويصدقون بوعده .
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
ثم قال عز وجل : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم } ، أي علة . وأصل العرضة في اللغة : هو الاعتراض ، فكأنه يعترض باليمين في كل وقت ، فيكون كناية عن العلة . وقيل : العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء ، فمُنِعوا من ذلك . { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ } ، يعني لكي تبروا وتتقوا ، لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا . وبهذا أمر أهل الإيمان . وقال الفراء : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً } . الحلف بالله متعرضاً ، أي مانعاً لكم دون البر . والمعترض بين الشيئين : المانع . وقال القتبي : لا تجعلوا الله بالحلف مانعاً لكم أن تبروا وتتقوا ، ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحماً ، ولا تتصدقوا ، ولا تصلحوا ، أو على شبه ذلك من أبواب البر ، فكفِّروا اليمين . وقال الكلبي : هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة الأنصاري . حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه ، فجعل يقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل ، ولا يحل لي أن لا أبر في يميني . فنزل قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم } .
يقول : علة لأيمانكم { أَن تَبَرُّواْ } ، يعني تصلوا قرابتكم ، وتتقوا اليمين في المعصية ، وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها؛ { وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس } ، أي بين إخوانكم . وروي عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول : لا تحلفوا أن لا تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس . { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فمن حلف على شيء منه ، فعلى الذي حلف عليه أن يفعل ويكفِّر عن يمينه . وقال الزجاج : معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا ، فأعلم الله تعالى أن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر ، واليمين إذا كفَّرت ، فالذنب فيها مغفور .
ثم قال : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم ، { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا . قال ابن عباس : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } ، وهو أن يحلف الرجل بالله في شيء يرى أنه فيه صادق ، ويرى أنه كذلك ، وليس كذلك ، فيكذب فيها . { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه فيها كاذب . ويقال : لا يؤاخذكم الله باللغو في اليمين ، إذا حلفتم وكفرتم ، إذا كان الحنث خيراً؛ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، أي أثمتم بغير كفارة .
{ والله غَفُورٌ } لمن حنث وكفر بيمينه . { حَلِيمٌ } حيث رخص لكم في ذلك ولم يعاقبكم . { لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ } ، يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم ، { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } ، يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين ، { فَإِن فَآءوا } ، يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر بعد اليمين ، وكفَّروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج؛ { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } ، يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع ، حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة بمضي أربعة أشهر . وقال بعضهم : لا يقع الطلاق ، ولكن يؤمر الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها . وقال بعضهم يقع الطلاق بمضي أربعة أشهر؛ وهو قول علمائنا . وروي عن عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } ، أي أوجبوا الطلاق بترك الجماع؛ { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } لمقالتهم بكلمة الإيلاء { عَلِيمٌ } بهم .
{ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } ، يعني وجب عليهن العدة { ثلاثة قُرُوء } ، أي ثلاث حيض . وقال بعضهم : ثلاثة أطهار . وقال أكثر أهل العلم : المراد به الحيض . وأصل القرء : الوقت . وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات ، ولكن المراد به الخصوص ، لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات : الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخولة . ثم قال : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } ، يعني الحمل والحيض ، لا يحل لها أن تقول : إني حامل وليست بحامل أو إني حائض وليست بحائض { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر } ، يقول إن كن يصدقن بالله واليوم الآخر .
{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا } ، يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء ، يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعياً . { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف } ، يقول بما عرف شرعاً ، { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ، أي فضيلة في النفقة والمهر . { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة .
ثم بيّن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة ، فقال تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، يعني يقول : الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان . { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } ، يعني إذا راجعها ، يمسكها بمعروف ، ينفق عليها ، ويكسوها ، ولا يؤذيها ، ويحسن معاشرتها؛ { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } ، يعني يؤدي حقها ، ويخلي سبيلها . ويقال : { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } ، يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها . ويقال : يتركها حتى تنقضي عدتها . ويقال يؤتي حقها ويخلي سبيلها ويقال : أو تسرح بإحسان . قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طلق تطليقة أو تطليقتين ، كان الزوج أحق بها؛ وإذا طلقها الثالثة ، كانت المرأة أحق بنفسها؛ واحتج بقول الأعشى وكانت امرأته من بني مروان ، فأخذه بنو مروان حتى يطلق امرأته ، فلما طلقها واحدة قالوا له : عد فطلقها الثانية ، فلما طلقها الثانية قالوا له : عد فطلقها الثالثة ، فعرف أنها بانت منه ولا تحل له ، فقال عند ذلك :
أَيَا جَارتِي بِينِي فإِنَّكِ طَالِقَه ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَه
وبَيِنِي فَإِنَّ البَيْنَ خَيْرٌ مِنَ العَصَا ... وَأَنْ لاَ تَزَالُ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَه
وَذُوقِي قَنَى الحَيِّ إنِّي ذَائِق ... قَنَاة أُنَاسٍ مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَائِقَه
لقدكان في شأن قومِك منكحٌ ... وفتيان هزان الطوال العرايضة
ثم قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } . نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، وزوجها ثابت بن قيس؛ وكانت تبغضه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أنا ولا ثابت فقال لها : « أَتُرَدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ » فقالت : نعم وزيادة . فقال : « أَمَّا الزِّيَادَة ، فلا » فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها وخلعها من زوجها ، فذلك قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } من المهر؛ { إِلاَّ أَن يَخَافَا } ، يعني : يعلما { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } ، أي أمر الله فيما أمر ونهى . قرأ حمزة { يَخَافَا } بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله ، والباقون : بالنصب . وقرأ ابن مسعود : { إِلا أَنْ يخافوا } .
ثم قال : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } ، يقول : إن علمتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام ، { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } ، أي لا حرج على الزوج أن يأخذ ممَّا افتدت به المرأة ، إن كان النشوز من قبل المرأة . فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج ، فلا يحل له أن يأخذ ، بدليل ما قاله في آية أخرى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } [ النساء : 20 ] .
ثم قال تعالى : { بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله } ، أي أحكامه وفرائضه؛ { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ، أي لا تجاوزوها . { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } ، أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه بترك ما أمر الله تعالى أو بعمل ما نهاه؛ { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } ، يقول : الضارون الشاقون بأنفسهم . ويقال : { تِلْكَ حُدُودُ الله } ، يعني الطلاق مرتان ، فلا تجاوزوهما إلى الثالثة . ومن يتعد حدود الله بالتطليقة الثالثة ، فأولئك هم الظالمون؛ { فَإِن طَلَّقَهَا } الثالثة ، { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } الثالثة ، { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ، أي تتزوج بزوج آخر ويدخل بها؛ وإنما عرف الدخول بالسنة . وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثاً ، وكانت تدعى تميمة بنت وهب ، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمن ، ولم يكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها : « أَتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ » فقالت : نعم . قال : « لَيْسَ ذلك مَا لَمْ تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ » فذلك قوله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ، يعني إذا طلقها الثالثة .
قوله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا } ، يعني واحدة أو اثنتين؛ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } ، يعني المرأة والزوج { أَن يَتَرَاجَعَا } . ويقال : فإن طلقها الزوج الثاني بعدما دخل عليها ، فلا جناح عليهما يعني المرأة والزوج الأول أن يتراجعا ، يعني أن يتزوجها مرة أخرى . { إِن ظَنَّا } ، يعني إن علما { أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } ، أي فرائض الله؛ يقول إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني . قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } ، أي فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه ، { يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } . ويقال : إنما قال : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، لأن الجاهل إذا بيّن له ، فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد؛ والعالم يحفظ ويتعاهد . فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال .
ثم وقوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن ، وقبل أن يخرجن من العدة؛ { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان . قوله : { أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ؛ أو لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة . { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } ؛ والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض ، وأرادت أن تغتسل ، راجعها ثم طلقها؛ يريد بذلك أن يطول عليها عدتها . فنهى الله عن ذلك فقال تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } . { لّتَعْتَدُواْ } ، أي لتظلموهن . { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } الإضرار ، { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ، يقول : أضر بنفسه بمعصيته في الإضرار . وقال الزجاج : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ، يعني عرَّض نفسه للعذاب ، لأن إتيان ما نهى الله عنه ، تعرض لعذاب الله ، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه .
ثم قال : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } ، يعني القرآن لعباً . ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقاً ، ويجعلونه لعباً ، فنزل : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } . قرأ عاصم في رواية حفص : { هُزُواً } بغير همز ، وكذلك قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الصمد : 4 ] والباقون : بالهمز . وهما لغتان ، ومعناهما واحد . ثم قال تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } ، يقول : احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام . { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة } ، يقول : احفظوا ما ينزل الله عليكم في القرآن من المواعظ { والحكمة } يعني الفقه في القرآن { يَعِظُكُمْ بِهِ } ، يقول : ينهاكم عن الضرار .
{ واتقوا الله } في الضرار ، { واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } من أعمالكم فيجازيكم به . { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، يقول : انقضت عدتهن؛ { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } ، يقول : لا تحبسوهن ولا تمنعوهن { أَن يَنكِحْنَ أزواجهن إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف } بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح ، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم ندم فخطبها فرضيت؛ وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها : وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه .
فنزلت هذه الآية : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف ذلك يُوعَظُ بِهِ } ، أي يؤمر به . { مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } ، أي يصدق بالله واليوم الآخر { ذلكم أزكى لَكُمْ } ، يعني خير لكم ويقال : أصلح لكم ، { وَأَطْهَرُ } من الريبة .
{ والله يَعْلَمُ } من حب كل واحد منهما لصاحبه { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك . ويقال : ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة ، لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها ، فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء . وقال الضحاك : والله يعلم أن الخير في الوفاء والعدل ، وأنتم لا تعلمون ما عليكم بالتفريق من العقوبة ومن العذاب . وقال مقاتل : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً ، وقال : « إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنَاً فَلَا تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الدَّحْدَاحِ » ، فقال : آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح ، كان للحاكم أن يزوجها .
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ، يعني سنتين كاملتين ، { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } ، يعني أن يكمل الرضاعة . فإن قيل : لما ذكر الحولين ، فما الحاجة إلى الكاملين؟ قيل له : هذا للتأكيد ، لأن بعض الحولين يسمى حولين ، كما قال في آية أخرى : { الحج أَشْهُرٌ معلومات فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب } [ البقرة : 197 ] ، وإنما هي شهران وعشرة أيام . فهاهنا لما ذكر الحولين الكاملين ، علم أنه أراد الحولين بغير نقصان .
ثم قال تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } ، أي على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم؛ { وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } ، أي على قدر طاقته . { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } ، يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته . { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } يقول : لا ينزع الولد من الأم لكونها أحق بولدها من غيرها . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } بضم الراء على معنى الخبر تبعاً لقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } ، ولفظه لفظ الخبر والمراد به النهي ، وقرأ الباقون : بالنصب على صريح النهي . { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } ، يعني الأب لا يضار بالولد ، فتطرح الأم الولد إليه بعدما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها ، فلا يجوز لها أن تفعل ذلك . ويقال : { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } يعني إذا كان الأب يجد ظئراً أرخص من الأم؛ والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير ، فإن الأب لا يجبر على ذلك ، وله أن يدفع إلى ظئر أخرى .
قال تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } ، يعني إذا مات الأب وله وارث سوى الأب ، فعلى وارث الصبي مثل ما على الأب . ويقال : على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره . ويقال مثل ذلك ، يعني الكسوة الرزق في رضاع الصبي ونفقته . { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } ، أي فطاماً { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } ، يعني الأب والأم دون الحولين . ويقال : بعد الحولين . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } إن لم يرضعاه سنتين ، أي لا حرج عليهما . { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } ، يعني أن تأخذوا ظئراً لأولادكم ، إذا أرادت الأم النكاح؛ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } ما أتيتم بالمعروف ، يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر { مَّا ءاتَيْتُم بالمعروف } ، ما أعطيتم بما تعرفونه . ويقال : أعطيتم ما شرطتم لهن .
ثم خوفهما في الإضرار ، فقال تعالى : { واتقوا الله } ، يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه . { واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } من الإضرار فيجازيكم به . قرأ ابن كثير : «مَا أَتَيْتُمْ» بغير مد ، يعني ما جئتم وفعلتم؛ وقرأ الباقون بالمد ، يعني ما أعطيتم .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } ، أي يموتون؛ { وَيَذَرُونَ أزواجا } ، أي يتركون نساء من بعدهم . { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } ، يعني ينتظرن بأنفسهن { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ، لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن من بيوتهن ولا يتزين . { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، يعني انقضت عدتهن؛ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، أي فلا إثم عليكم { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من الزينة والكحل والخضاب . وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها ، فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة ، فأباح الله تعالى لهن الزينة بعد العدة .
ويقال : فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن { بالمعروف } ، يعني إذا تزوجن بزوج آخر ، إذا كان الزوج كفواً لها ، فلا يمنع من نكاحها . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك . وهذه الآية عامة ، يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة . ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء } . فقد أباح للخاطب أن يتعرض للنكاح ، ونهاه عن الخطبة والعقد؛ فقال : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } يقول : لا بأس بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها ، فيعرض لها ويقول : إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي ، فأرجو أن يكون بيننا اجتماع ، ونحو ذلك من الكلام . فهذا هو التعريض من خطبة النساء { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } ، يعني أضمرتم في أنفسكم . قال الزجاج : كل شيء سترته فقد أكننته وكننته فهو مكنون ، فلذلك أباح الله تعالى التعريض .
ثم قال : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، يعني خافوا الله في العدة من تزويجهن . { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } ، يعني نكاحاً ويقال : جماعاً . وقال القتبي : سمي الجماع سراً ، لأنه يكون في السر فيكنى عنه . { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } ، يعني عدة حسنة ، نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } ، يقول : ولا تحققوا عقدة النكاح ، يعني لا تتزوجوهن في العدة . { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } ، يعني حتى تنقضي عدتها . { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } ، يعني ما في قلوبكم من الوفاء وغيره . { فاحذروه } ، يعني أن تخالفوه فيما أوجب عليكم . { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } ، أي غفور ذو تجاوز ، حليم حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة .
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، أي لا حرج عليكم { إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ؛ قرأ حمزة والكسائي { ***تَمَاسُّوهُنَّ } بالألف من المفاعلة ، وهو فعل بين اثنين؛ وقرأ الباقون بغير ألف ، لأن الفعل للرجال خاصة . وقال بعضهم : المس هو الجماع خاصة ، فما لم يجامعها لا يجب عليه تمام المهر . وقال بعضهم : إذا جامعها أو خلا بها ، وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهراً؛ وإن لم يكن سمى لها مهراً ، فلها مهر مثلها إن دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها المتعة . فذلك قوله تعالى : { حَلِيمٌ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ، يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها ، فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها .
قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ، يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولم تسموا لهن مهراً { وَمَتّعُوهُنَّ } ، يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها ، فعلى الزوج أن يمتعها { عَلَى الموسع قَدَرُهُ } . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : «قَدَرَهُ» بنصب الدال ، وقرأ الباقون بالجزم؛ ومعناهما واحد .
قوله : { وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ متاعا بالمعروف } ؛ قال ابن عباس في رواية الكلبي : أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك { حَقّاً } ، أي واجباً { عَلَى المحسنين } أن يمتعوا النساء على قدر طاقتهم .
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } ، يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن ، هكذا قال في رواية الضحاك ، { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ، يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر . { إَّلا أَن يَعْفُونَ } ، يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئاً ، { أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } ، يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق . { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } ، يقول : أن تعفو بعضكم بعضاً كان أقرب إلى البر ، فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل . ويقال : إن الله تعالى ندب إلى الإنسانية ، فأمر كل واحد منهما بالعفو ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } ، يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك . { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم بذلك .
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{ حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } ؛ قال ابن عباس : أي حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها؛ { حافظوا عَلَى } ، يعني الصلاة الوسطى خاصة حافظوا عليها . ويقال : هي صلاة العصر . ويقال هي صلاة الصبح ويقال : هي صلاة الظهر .
حدثنا القاسم بن محمد بن روزية قال : حدثنا عيسى بن خشنام قال : حدثنا سويد بن سعيد ، عن مالك بن أنس ، عن داود بن الحصين أنه بلغه ، عن رجل ، عن زيد بن ثابت أنه بلغه ، عن علي وابن عباس أنهما كانا يقولان : صلاة الوسطى صلاة الصبح .
قال مالك : وذلك رأي . أخبرني القاسم بن محمد قال : حدثنا عيسى بن خنشام قال : حدثنا سويد بن سعيد بن مالك بن أنس ، عن داود بن الحصين ، عن رجل ، عن زيد بن ثابت أنه قال : صلاة الوسطى : صلاة الظهر .
وبهذا الإسناد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن القعقاع بن الحكم ، عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها أنه قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها ، فأملت علي : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى : صلاة العصر .
قال الفقيه : حدثنا أبو إبراهيم الترمذي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي جعفر الطحاوي قال : حدثنا علي بن معبد قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن عمرو بن رافع ، مولى عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال : اكتتبتني حفصة ابنة عمر مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها ، حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت : اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر . ويقال : هي قراءة عبد الله بن مسعود .
وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا : صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن علي أنه قال : كنت ظننت أنها صلاة الفجر ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر ، قال : « مَلأَ الله بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً ، شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى ، صَلاةِ العَصْرِ » وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر ، لأن ذلك وقت الشغل ويخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات . وقد أكد بالذكر قال : { حافظوا عَلَى } خاصة . ومن طريق المعقول يدل أيضاً على أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر ، لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل .
ثم قال تعالى : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } ، أي قوموا لله طائعين في الصلاة مطيعين . ويقال : صلوا لله قائمين ، فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة .
كما قال في آية أخرى : { يامريم اقنتى لِرَبِّكِ واسجدى واركعى مَعَ الراكعين } [ آل عمران : 43 ] . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال : « التِي يُطِيلُ القُنُوتَ فِيهَا » ، يعني القيام . ويقال : قانتين ، يعني ساكتين ، كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال : كنا نتكلم في الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين } ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وقال الزجاج : المشهور في اللغة الدعاء في القيام ، وحقيقة القانت القائم بأمر الله تعالى .
ثم قال : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } ، يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياماً ، فإن لم تستطيعوا فصلوا ركباناً على الدواب ، حيث ما توجهت بكم بالإيماء . وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر صلاة الخوف ، ثم قال في آخره « فَإنْ كانَ الخَوْفُ أَشَدَّ مِنْ ذِّلِكَ ، صَلُّوا عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَاناً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا » { فَإِذَا أَمِنتُمْ } ، يعني العدو والخوف ، { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم } ، يعني صلوا كما علمكم أربعاً أو اثنتين . وعلمكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ، يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
ثم قال عز وجل : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا } ، أي يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم { وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم } ، أي يوصون لنسائهم . قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «وَصِيَّةٌ» بالضم ، يعني عليهم وصية؛ وقرأ الباقون : بالنصب ، يعني يوصون وصية لأزواجهم . { متاعا } ، أي نفقة وكسوة { إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } ، يقول : لا يخرجن من بيوت أزواجهن . وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولاً وهكذا كان في الجاهلية . ألا ترى إلى قول لبيد :
وَهُمُ رَبِيعٌ لِلمُجَاوِرِ فِيهِم ... وَالمُرْمِلاتِ إِذَا تَطَاوَلَ عَامُهَا
ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشراً ، ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " ويقال : نسخ بآية الميراث . ثم قال تعالى : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ *** فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } ، يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي السنة ، ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بد لها منه . { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } ؛ وقد ذكرناها .
{ وللمطلقات متاع بالمعروف } . والمطلقات أربع : مطلقة يسمى لها مهراً ، ومطلقة لم يسم لها مهراً ، ومطلقة دخل بها ، ومطلقة لم يدخل بها ، فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهراً وطلقها قبل الدخول . كما ذكر في الآية التي سبق ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة . { حَقّا عَلَى المتقين } ، أي واجباً على المتقين ، وذلك فيما بينه وبين الله تعالى ، فلا يجب عليه إلا في المطلقة التي ذكرنا . { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } ، يعني أمره ونهيه ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ما أمرتم به . ويقال : آياته يعني دلائله . ويقال : آيات القرآن .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ } ، يقول : ألم تخبر : وهذا على سبيل التعجب ، كما يقال : ألا ترى إلى ما صنع فلان؟ ويقال : ألم تر ، يعني ألم تعلم؟ ويقال : ألم ينته إليك خبرهم؟ يعني الآن نخبرك عنهم . قال ابن عباس : وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا ، فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعوناً ، فامتنعوا عن الخروج إلى هناك ، ونزلوا في موضعهم ، فهلكوا كلهم؛ فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل ، فخرجوا ليدفنوهم ، فعجزوا عن ذلك لكثرتهم ، فحظروا عليهم الحظائر . ثم أحياهم الله بعد ثمانية أيام ، وبقيت منهم بقايا من البحر ومعهم النتن إلى اليوم وقال بعضهم : بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقسوة ، فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم الله تعالى .
وقال بعضهم : إن أرضاً وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين ، فنزلوا منزلاً فماتوا كلهم؛ فمر بهم نبي يقال له حزقيل عليه السلام فقال : الحمد لله القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه . فدعا لهم فأحياهم الله تعالى؛ فذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ } . قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك : ثمانية آلاف ، ويقال : سبعون ألفاً ، ويقال : ثمانية عشر ألفاً . وقال بعضهم : هم ألوف كما قال الله تعالى ، ولا يعرف كم عددهم إلا الله . { حَذَرَ الموت } ، أي خرجوا من ديارهم مخافة الموت .
{ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } ، أي أماتهم الله؛ { ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } ، يعني على أولئك الكفار حين أحياهم . يقال : هو ذو منَ على جميع الناس . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } رب هذه النعمة ، يعني الكفار . ويقال : على الذي أحياهم .
وفي هذه الآية : دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب ، فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق . وفي هذه الآية إبطال قول من يقول : إن الإحياء بعد الموت لا يجوز ، وينكر عذاب القبر؛ لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله : { وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما أحياهم الله قال لهم : { قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } . ويقال : هذا أمر بالجهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال لهم : قاتلوا في سبيل الله . { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، أي سميع لمقالتهم ، عليم بالأرض التي وقع فيها الوباء .
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قوله عز وجل : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } . نزلت في شأن أبي الدحداح ، قال : يا رسول الله ، إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما ، أيكون لي مثلها في الجنة؟ قال «نَعَمْ» . قال : وأم الدحداح معي؟ يعني امرأته . قال : «نَعَمْ» . قال : والدحداح معي؟ يعني ابنه . فقال : «نَعَمْ» . قال : أشهدك أني قد جعلت حديقتي لله تعالى . ثم جاء إلى الحديقة ، فقام على الباب وتحرج الدخول فيها ، بعدما جعلها لله تعالى ونادى : يا أم الدحداح اخرجي ، فإني جعلت حديقتي لله تعالى ، فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى ، وقالت له : هنيئاً لك بما فعلت أو كما فعلت ، فنزل قوله تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يعني ألفي ألف ضعف .
قال الفقيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضيل قال : حدثنا المعلى بن منصور قال : حدثنا جعفر قال : حدثنا علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي قال : بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال : إن الله تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة ، فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال : ليس كذا قلت ، ولم يحفظ الذي حدثك عني . وإنما قلت : ألفي ألف حسنة . ثم قال أبو هريرة : أو لستم تجدون في كتاب الله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } . فقوله : { كَثِيرَةٍ } أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف .
ثم قال تعالى : { والله يَقْبِضُ } ، أي يقتر الرزق على من يشاء؛ { وَيَبْصُطُ } ، أي يوسع على من يشاء من عباده . ويقال : يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا والآخرة . وقال بعضهم يسلب قوماً ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو : { فَيُضَاعِفَهُ } بالألف وبضم الفاء ، وقرأ عاصم { فَيُضَاعِفَهُ } بالألف وبنصب الفاء ، وقرأ ابن كثير { فَيُضْعِفُهُ } بغير ألف وبضم الفاء ، وقرأ ابن عامر : { فَيُضْعِفُهُ } بغير ألف وبنصب الفاء . فأما من قرأ : { فَيُضَاعِفَهُ } [ بالألف والضم ] ، { يضاعفه } فهما لغتان بمعنى واحد . يقال : ضاعفت الشيء وضعفته . ومن قرأ بضم الفاء عطفه على قوله : { يُقْرِضُ الله } . ومن نصبه فعلى جواب الاستفهام . وقرأ نافع { ***يَبْصُطُ } بالصاد ، وقرأ الباقون : بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة . وفي كل موضع يكون الصاد قريباً من الطاء ، جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل : الصراط ، لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ موسى } ، يعني الرؤساء والقادة . وقال بعضهم : اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ وهم الجماعة التي تملأ باديتهم . وقال بعضهم : الناظر إذا نظر إليهم ، امتلأ عينه هيبة منهم؛ وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم ، وسبوهم ، وأخرجوهم من ديارهم . وكان رئيسهم جالوت ، فلما اضطر المسلمون في ذلك جاؤوا إلى نبي لهم يقال له : أشمويل بن هلقانا عليه السلام بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان ، { إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ } ، يعني أشمويل : { ابعث لَنَا مَلِكًا } ، يعني ادع لنا الله تعالى أن يجعل لنا ملكاً ، يعني رجلاً ينتظم به أمرنا . { نقاتل فِى سَبِيلِ الله } .
ف { قَالَ } لهم أشمويل : { هَلْ عَسَيْتُمْ } . قرأ نافع : { هَلْ عَسَيْتُمْ } بكسر السين ، وقرأ الباقون : بالنصب ، وهي اللغة المعروفة . والأول لغة لبعض العرب { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا } ، يعني إذا بعث الله لكم ملكاً وفرض عليكم القتال ، لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال . { قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله } ، يقول : كيف لا نقاتل في سبيل الله؛ { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } ، يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا .
{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } ، أي فرض عليهم القتال . { تَوَلَّوْاْ } وتركوا القتال ولم يثبتوا { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً . { والله عَلِيمٌ بالظالمين } ، يعني أن الله تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال .
ثم بيّن لهم القصة بقوله : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } ، يعني قال : أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل الله معه ، وقد جعل لكم طالوت ملكاً؛ وكان طالوت فيهم حقير الشأن ، وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب ، والملك في سبط يهوذا . ولم يكن طالوت من أهل بيت النبوة ولا من أهل بيت الملك . ويقال : كان رجلاً يبيع الخمر ، ويقال : كان بقاراً ، ويقال : كان دباغاً ، ولكنه كان عالماً فرفعه الله بعلمه . { قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } ، يعني المسلمون قالوا لنبيهم : من أين يكون له الملك { عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ } ؟ لأن منا الملوك . { وَلَمْ يُؤْتَ } طالوت { سَعَةً مّنَ المال } ينفق علينا . والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه .
{ قَالَ } لهم نبيهم عليه السلام : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } ، يعني اختاره عليكم { وَزَادَهُ بَسْطَةً } ، أي فضيلة { فِي العلم والجسم } ؛ وكان رجلاً جسيماً وكان عالماً . ويقال : كان عالماً بأمر الحرب . { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ } .
والواسع في اللغة : هو الغني . ويقال : واسع بعطية الملك ، عالم لمن يعطيه . ويقال : واسع يعني باسط الرزق ، عليم بمن يصلح له الملك . فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه . وقالوا له : إن كان الله تعالى أمرك بذلك ، فأتنا بآية قال الله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } ؛ وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت ، وكان التابوت للمسلمين ، فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر . فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مزبلة أي في مخرأة لهم فابتلاهم الله تعالى بالباسور . ويقال إن أصل الباسور من ذلك الوقت ، وأصل الجذام من وقت أيوب عليه السلام وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل . فجعل الله تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم ، فذلك قوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } يعني علامة ملكة { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } .
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } . قال الكلبي : سكينة أي : طمأنينة ، إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر . وقال مقاتل : السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان ، فإذا صوَّتت ، عرفوا أن النصر لهم . ويقال : كانت جوهراً أحمر يسمع منه الصوت . ويقال : كانت ريحاً تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت .
قوله تعالى : { وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون } ، يعني الرضاض من الألواح ، وقفيز من منّ في طست من ذهب ، وعصا موسى ، وعمامة هارون؛ قال الكلبي : وكان التابوت من عود الشمشار الذي يتخذ منه الأمشاط ، فلما ابتلاهم الله تعالى بالباسور ، عرفوا أن ذلك من التابوت ، فقالوا : لعل إله بني إسرائيل الذي فينا ، يعنون التابوت ، هو الذي يفعل بنا هذا الفعل ، فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادها في المدينة ، وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين ، ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل؛ فضربت الملائكة جنوبهما ، وساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل ، فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم . وذلك قوله تعالى : { تَحْمِلُهُ الملائكة } ، يعني الملائكة ساقوا العجلة . { إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ } ، يعني إن في رد التابوت علامة لملك طالوت { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، أي مصدقين بأن ملكه من الله تعالى فعرفوا وأطاعوه .
قوله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود } ، يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفاً ، فصاروا في حر شديد ، فأصابهم عطش شديد ، فسألوا طالوت الماء . ف { قَالَ } لهم طالوت : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } وهو بين الأردن وفلسطين؛ وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره؛ وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال ، لأن من لا يريد القتال إذا خالط العسكر ، يدخل الضعف والوهن في العسكر ، لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون .
ويقال : إن أشمويل هو الذي أخبر طالوت بالوحي ، حتى أخبر طالوت قومه حيث قال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي } ، يعني ليس معي على عدوي ، إذا شرب بغير غرفة . { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى } ، يعني لم يشرب منه يعني غرفة . { فَإِنَّهُ مِنّى } ، أي معي على عدوي { إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : { غُرْفَةً } بنصب الغين ، وقرأ الباقون برفع الغين . فمن قرأ بالنصب ، يكون مصدر غرفة ، أي مرة واحدة باليد . ومن قرأ بالضم ، هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل : الخَطوة والخُطوة . قال بعض المفسرين : الغَرفة بكف واحدة والغُرفة بالكفين . وقال بعضهم : كلاهما لغتان ومعناهما واحد .
فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش ، وقفوا في النهر ، { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } بغير غرفة { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر : « أَنْتُمْ عَلَى عَدَدِ المُرْسَلِينَ وَعَدَدِ قَوْمِ طَالوتَ ثَلاثمائةٍ وثلاثة عشر » ، فأمر من شرب بغير غرفة أن يرجعوا . ويقال : قد ظهر على شفاههم علامة ، عرف بها من شرب من الذي لم يشرب ، فردهم وأمسك المخلصين منهم .
{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ } ، يعني جاوز النهر . { هُوَ } ، يعني طالوت { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } ودنوا إلى عسكر جالوت ، وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح . { قَالُواْ } ، أي المؤمنون : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ، لما رأوا من كثرتهم . { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } ، يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم . ويقال : أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو قوله : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } ، وهم أهل العلم منهم : { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } ، يعني كم من جند قليل ، { غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } عدتهم { بِإِذُنِ الله } ، أي بنصر الله وأمره ، إذا خلصت نيتهم ، وطابت أنفسهم بالموت في طاعة الله { والله مَعَ الصابرين } بالنصرة على عدوهم أي معينهم .
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } ، يقول : خرجوا واصطفوا لجالوت . دعوا الله تعالى ، { قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } ، أي أصبب علينا صبراً ، معناه ارزقنا الصبر على القتال ، { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } عند القتال { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
قال وكان داود عليه السلام راعياً ، وكان له سبعة أخوة مع طالوت؛ فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم وكان اسمه إيشا أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج ، مرَّ على حجر فقال له الحجر : خذني فإني حجر إبراهيم قتل بي عدوه ، فأخذه وجعله في مخلاته ثم مرَّ بآخر فقال له : خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا ، ثم مرَّ بثالث فقال له : خذني فأنا الذي أقتل جالوت ، فأخذه وجعله في مخلاته؛ فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت وقال : من يبارزني؟ فلم يخرج إليه أحد .
ثم قال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق ، لخرج إلي بعضكم . فقال داود لإخوته : أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ فقالوا له : اسكت . فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته ، فمر طالوت به وهو يحرض الناس ، فقال له داود : وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت : أنكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي . قال داود : فأنا أخرج إليه . فأعطاه طالوت درعه وسيفه ، فلما خرج في الدرع جرها ، لأن طالوت كان أطول الناس ، فرجع داود إلى طالوت وقال : إني لم أتعود القتال في الدرع ، فرد الدرع إليه . فقال له طالوت : فهل جربت نفسك؟ قال : نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين . فقال له طالوت : إن الذئب ضعيف ، فهل جربت نفسك في غير هذا؟ قال : نعم دخل أسد في غنمي فضربته ، ثم أخذت بلحييه فشققتها ، فقال له : هذا أشد ، ثم قال له ما اسمك؟ قال : داود بن إيشا . فعرفه . فرأى أنه أجلد إخوته ، فأخذ قذافته وخرج . فلما رآه جالوت قال : خرجت إليّ لتقتلني بالقذافة كما تقتل الكلاب؟ فقال له داود : وهل أنت إلا مثل الكلاب؟ قال الكلبي : وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل ، فقال له جالوت : إما أن ترميني وإما أن أرميك . فقال له داود : بل أنا أرميك . ثم أخذ واحداً من الأحجار الثلاثة فرماه ، فوقع في صدره ونفذ من صدره فقتل خلفه خلقاً كثيراً . وقال بعضهم : صارت الأحجار كلها واحداً؛ فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقاً كثيراً . وقال بعضهم : رمى واحداً بعد واحد ، فقتل جالوت وخلقاً كثيراً وهزمهم الله بإذنه ، فذلك قوله عز وجل : { فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } .
ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه ، فقال له وزراؤه : إن دفعت إليه نصف ملكك ، فيصير منازعاً لك في ملكك ، ويفسد عليك الملك . فامتنع من ذلك وأراد قتل داود عليه السلام وكان في ذلك ما شاء الله حتى دفع إليه النصف ، ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك ، فتحول الملك كله إلى داود . ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود . فذلك قوله عز وجل : { وآتاه الله الملك } ، يعني ملك اثني عشر سبطاً { والحكمة } ، يعني النبوة ، وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة؛ { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } ، أي علم داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه وكلام الدواب .
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } ، أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين عليهم السلام ويدفع بالمؤمنين عن الكفار ، { لَفَسَدَتِ الارض } ، أي هلك أهلها .
ويقال : ولولا دفع الله جالوت بطالوت ، لهلكت بنو إسرائيل كلهم . ويقال : ولولا دفع الله البلايا بسبب المطيعين ، لهلك الناس كما جاء في الأثر : لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع ، لصببت عليكم العذاب صباً . وروي عن الحسن أنه قال : لولا الصالحون لهلك الطالحون . ويقال : لولا ما أمر الله المؤمنين بحرب الكفار ، لفسدت الأرض بغلبة الكفار . ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض ، لأن في كل أرض بلدة يتولد فيها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان ، فينتفع بها أهل سائر البلدان؛ وينتفع بعضهم ببعض ، فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض .
قرأ نافع هاهنا { وَلَوْلاَ دِفَاع الله } وفي الحج : { إِنَّ الله يُدَافِعُ } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } بغير ألف ، { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامنوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [ الحج : 38 ] بالألف . وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان .
ثم قال تعالى : { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } ، أي ذو منّ عليهم بالدفع عنهم . { تِلْكَ آيات الله } وهو ما قصّ عليه من أخبار الأمم . { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ، أي ننزلها بقراءة جبريل عليك { بالحق } ، أي بالصدق . { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } ، يعني إنك لمن جملة المرسلين الذين ذكرناهم . وقال الزجاج تلك آيات الله ، أي هذه الآيات التي أنبئت ، أي العلامات التي تدل على توحيده وتثبت رسالته ، إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون؛ وإنك من هؤلاء المرسلين ، لأنك قد أتيتهم بالعلامات .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{ تِلْكَ الرسل } { الذين أنزلنا عليك خبرهم في القرآن ، { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في الدنيا . ويقال : التفضيل يكون على ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر . والثاني : أن تكون أمته أكثر . والثالث : أن يكون بنفسه أفضل . ثم بيّن تفضيلهم فقال : { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } ، مثل موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } ، يعني إدريس عليه السلام كما قال تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] . وقال الزجاج : جاء في التفسير أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم ، لأنه أرسله إلى الناس كافة . وليس شيء من الآيات التي أعطاها الله الأنبياء عليهم السلام إلا والذي أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ، لأنه قد كلمته الشجرة ، وأطعم من كف من التمر خلقاً كثيراً ، وأمرَّ يده على شاة أم معبد فدرت لبناً كثيراً بعد الجفاف ، ومنها انشقاق القمر فذلك قوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 32 ] ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَقَفَّيْنَا } ، يعني العجائب والدلائل وهو : أن يحيي الموتى بإذنه ، ويبرىء الأكمه والأبرص؛ { وأيدناه بِرُوحِ القدس } ، يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله .
{ وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } التي أتاهم بها موسى وعيسى عليهما السلام وقال الزجاج : يحتمل وجهين : ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء الله اضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين ، كما قال تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض أَوْ سُلَّماً فِى السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَةٍ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بالكتاب والرسل . { وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا } وجعلهم على أمر واحد . { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ، أي يعصم من يشاء من الاختلاف ، ويخذل من يشاء؛ فلا مرد لأمره ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
قوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } ، أي تصدقوا . قال بعضهم : أراد به الزكاة المفروضة . وقال بعضهم : صدقة التطوع . ثم بيّن لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه . قال تعالى : { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ، يقول : لا فداء فيه { وَلاَ خُلَّةٌ } يعني الصدقة وهذا كما قال في آية أخرى : { الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] . { وَلاَ شفاعة } للكافرين كما يكون في الدنيا .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة } بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم : «لاَ بَيْعَ فِيهِ وَلاَ خِلاَلَ» وقرأ الباقون بالضم مع التنوين . ثم قال تعالى عز وجل : { والكافرون هُمُ الظالمون } أنفسهم . والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . وكان المشركون يقولون : الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند الله؛ فوحد الله نفسه .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
فقال عز وجل : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } ؛ يقول : لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو . ويقال : الإثبات إذا كان بعد النفي ، فإنه يكون أبلغ في الإثبات ، فلهذا قال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؛ فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات ، فيكون ذلك أبلغ في الإثبات . { الحى القيوم } ، يقول : الحي الذي لا يموت ، ويقال : الحي الذي لا بدىء له ، يعني لا ابتداء له؛ { القيوم } ، يعني القائم على كل نفس بما كسبت ، ويقال : القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم : هو الدائم .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ؛ روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : السنة والنوم ، كلاهما واحد ، ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له : سنة ويكون بين النائم واليقظان ، فإذا وصل إلى القلب صار نوماً . ويقال : معناه : أنه ليس بغافل عن أمور الخلق ، فيكون النوم على وجه الكناية . وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم .
وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران عليه السلام حين رفع إلى السماء ، سأل بعض الملائكة؛ أينام ربنا؟ وقال بعضهم : خطر ذلك بقلبه ، ولم يتكلم به فأمره الله تعالى أن يأخذ زجاجتين ، وأمره بأن يحفظهما ، ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام ، فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له : يا موسى لو كان لي نوم ، لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } . كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك ، ويقال : معناه أن كل ما في السموات والأرض يدل على وحدانيته . { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ } ، يقول : من ذا الذي يجترىء أن يشفع عنده { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } دون أمره ، رداً لقولهم حيث قالوا : هم شفعاؤنا عند الله . وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ، يعني الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، هو الذي يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، يعني يعلم أن الأصنام لا يدعون الألوهية . { وَمَا خَلْفَهُمْ } ، يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم . وقال مقاتل : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ، يعني ما كان قبل خلق الملائكة { وَمَا خَلْفَهُمْ } ، أي ما يكون بعد خلقهم . وقال الزجاج : يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم . وقال الكلبي : يعلم ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِى الدين } ، يعني لا تكرهوا في الدين أحداً ، بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب . { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } ، أي قد تبين الهدى من الضلالة . ويقال : قد تبين الإسلام من الكفر ، فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام .
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } ، يعني بالشيطان ويقال : الصنم . ويقال : هو كعب بن الأشرف ، { وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } ، يقول : بالثقة يعني بالإسلام . ويقال : فقد تمسك بلا إله إلا الله . { لاَ انفصام لَهَا } ، يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها . ويقال : قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة . { والله سَمِيعٌ } بقولهم ، { عَلِيمٌ } بهم .
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{ الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ } ، أي حافظهم ومعينهم وناصرهم . { يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور } ، يعني من الكفر إلى الإيمان . واللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي ، يعني أخرجهم . ويقال : ثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات . ويقال : يخرجهم من الظلمات ، أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة .
{ والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } ، يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه . ويقال : المشركون أولياؤهم الشياطين . { يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات } ، يعني يدعونهم إلى الكفر ، كما قال في آية أخرى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بأاياتنآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] ، يعني ادع قومك . { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } ، يعني أهل النار هم فيها خالدون أي دائمون .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ } ، يقول : ألم تخبر بقصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه . { أَنْ آتاه الله الملك } ، وهو النمرود بن كنعان ، وهو أول من ملك الدنيا كلها . وكانوا خرجوا إلى عيد لهم ، فدخل إبراهيم عليه السلام على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا ، قال لهم : أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا له : من تعبد أنت؟ قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت . وقال بعضهم : كان النمرود يحتكر الطعام ، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترون منه ، وإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل عليه إبراهيم ولم يسجد له ، فقال له النمرود : ما لك لم تسجد؟ فقال : أنا لا أسجد إلا لربي . فقال النمرود : من ربك؟ فقال له إبراهيم : { رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ } له النمرود : { أَلَمْ تَرَ إِلَى } ، قال إبراهيم كيف تحيي وتميت؟ فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر ، ثم قال : قد أمت أحدهما وأحييت الآخر . { قَالَ } له { إِبْرَاهِيمَ } : إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت؛ وإن ربي يحيي الميت .
فخشي إبراهيم أن يلبس النمرود على قومه ، فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم النمرود ، فجاءه بحجة أظهر من ذلك حيث قال : { فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } فإن قيل : لِمَ لَمْ يثبت إبراهيم على الحجة الأولى؟ وانتقل إلى حجة أخرى؛ والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود . قيل له : الانتقال على ضربين : انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام ، وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام . وإبراهيم عليه السلام انتقل بعد الإلزام ، لأنه قد تبين له فساد قوله ، حيث قال له : إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت . وجواب آخر : إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن للمناظرة ، وإنما كان قصده إظهار الحجة ، فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة ، وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكتة ، ولأن الكافر هو الذي ترك حدّ النظر ، حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم ، ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه ، حيث قال : أنا أحيي وأميت .
وقوله تعالى : { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } ، أي انقطع وسكت متحيراً . يقال : بهت الرجل إذا تحير . { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } ، أي لا يرشدهم إلى الحجة والبيان . وروي في الخبر أن الله عز وجل قال : وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة ، حتى آتي بالشمس من المغرب ، ليعلم أني أنا القادر على ذلك؛ ثم أمر النمرود بإبراهيم فألقي في النار ، وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة ، اشتغلوا بالعقوبة؛ فأنجاه الله من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى .
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ثم قال عز وجل : { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ } ؛ قال بعضهم : معناه إحيائي ليس كإحياء النمرود ، ولكن إحيائي كإحياء عزير عليه السلام أحييته بعد مائة عام . وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } [ البقرة : 243 ] و { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إبراهيم فِى رِبِّهِ أَنْ آتاه الله الملك إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذى كَفَرَ والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } [ البقرة : 258 ] { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ } . قال مقاتل : والذي مرَّ على قرية هو عزير بن شرخيا ، وكان من علماء بني إسرائيل ، فمرَّ بدير هرقل بين واسط والمدائن على حمار فمرَّ بها { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } . وقال الضحاك بن مزاحم : هو عزير النبي عليه السلام مرَّ ببيت المقدس ، وقد خربها بخت نصر ، وقتل منهم سبعين ألفاً ، وأسر منهم سبعين ألفاً ، أي من بني إسرائيل فمرَّ عزير فقال : { أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ } .
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن بخت نصر غزا بني إسرائيل ، فسبى منهم ناساً كثيرةً ، فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا؛ وكان من علماء بني إسرائيل ، فجاء بهم إلى بابل . فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطىء دجلة ، فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له ، فربط حماره تحت ظل شجرة ، ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكناً { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ، يقول : ساقطة على سقوفها ، وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف ، فهي خاوية على عروشها . قال بعض أهل اللغة : الخاوية ، الخالية . وقال بعضهم : بقيت حيطانها لا سقوف عليها . وقال الزجاج : عروشها هي الخيام وهي بيوت الأعراب .
فتناول من الفاكهة والتين والعنب ، ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة ، ثم عصر من العنب فشربه ، ثم جعل فضل التين والعنب في سلة ، وفضل العصير في الزق؛ ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة ثمرها وفناء أهلها ف { قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } فلم يشك في البعث ، ولكن أحب أن يريه الله كيف يحيي الموتى . فلما تكلم عزير بذلك ، نام في ذلك الموضع .
{ فَأَمَاتَهُ الله } في منامه { مِاْئَةَ عَامٍ } ، وأمات حماره ، { ثُمَّ بَعَثَهُ } الله تعالى في آخر النهار ، ومنعه الله تعالى في حال موته عن أبصار الناس والسباع والطير .
فلما بعثه الله تعالى ، سمع صوتاً { قَالَ } له : { كَمْ لَبِثْتَ } ، أي كم مكثت في نومك يا عزير؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا } ؛ ثم نظر إلى الشمس ، وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . { قَالَ } له : { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } ، يعني كنت ميتاً مائة عام ، ثم أخبره ليعتبر . فقال : { فانظر إلى طَعَامِكَ } ، يعني الفاكهة؛ { وَشَرَابِكَ } ، يعني العصير . { لَمْ يَتَسَنَّهْ } ، يعني لم يتغير ، كقوله : {
قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو : { كَمْ لَبِثْتَ } بإدغام الثاء والتاء . وقرأ الباقون بإظهارها . وقرأ الكسائي : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } بغير هاء عند الوصل وأثبتت عند القطع . وقرأ حمزة : بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعاً . وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع . وقرأ نافع : { أَلَمْ تَرَ } بمد الألف ، وكذلك في جميع القرآن نحو هذا ، إلا في قوله : { قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 188 ] وقرأ الباقون بغير مد؛ ومعنى القراءتين في هذا كله واحد .
ثم نظر عزير عليه السلام إلى حماره وقد بلي فنودي : انظر إلى حمارك ، فإذا هو عظم أبيض يلوح ، وقد تفرقت أوصاله . ثم سمع صوتاً قال : أيتها العظام البالية ، إني جاعل فيكن روحاً فاجتمعن ، فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه ، ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق . فخرَّ عزير ساجداً لله تعالى وقال عند ذلك : أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ فذلك قوله تعالى : { وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } ، أي عبرة للناس ، لأن أولاده قد صاروا شيوخاً وقد كان شاباً . { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالزاي ، وقرأ الباقون بالراء . فمن قرأ بالراء ، فمعناه كيف نحييها . ونظيرها { أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الارض هُمْ يُنشِرُونَ } [ الأنبياء : 21 ] ، أي يبعثون الموتى . ومن قرأ بالزاي : أي كيف يضم بعضها إلى بعض . النشز : ما ارتفع من الأرض . وهذا كما جاء في الأثر : الرضاع ما أنبت اللحم ، وأنشز العظم . وقال أهل اللغة : أصل النشز الحركة؛ يقال : نشز الشيء إذا تحرك ، ونشزت المرأة عن زوجها والمراد ها هنا تضمنها .
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ } ، قرأ حمزة والكسائي : { أَعْلَمُ } بالجزم على مضي الأمر ، وقرأ الباقون : { قَالَ أَعْلَمُ } على معنى الخبر عن نفسه ومعناه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيباً . { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } من الإحياء وغيره . وقال بعضهم : أن عزيراً لما أحياه الله تعالى قال في نفسه : كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحسبوا غيبته ، فقالوا له : بل لبثت مائة عام وهذا قول من قال : إن هذا لم يكن عزيراً النبي عليه السلام بل رجل آخر سوى عزير النبي عليه السلام .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى } ، وذلك أن النمرود لما قال له : أنا أحيي وأميت . ووصف لهم ذلك ، فسألوا إبراهيم فقالوا له : كيف يحيي ربك الموتى؟ فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة ، حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة ، فسأل ربه فقال : { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى } .
وقال مقاتل : مرَّ إِبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر ، يأكل منها دواب البحر والطيور ، وبعضها يصير مستهلكاً في الأرض ، فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير ، كيف يجمعها الله تعالى ، فأراد أن يعاين ذلك فقال : { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى } . ف { قَالَ } له ربه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ؟ يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى؟ { قَالَ بلى } قد صدقت؛ { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ، أي ليسكن قلبي . ويقال : إنما قال له : أو لم تؤمن؟ لكي يظهر إقراره ، لكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقراً بذلك في ذلك الوقت ، فظهر إقراره بقوله : بلى . وقال سعيد بن جبير : ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلاً .
{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } ، فأخذ ديكاً وحمامة وطاووساً وغراباً؛ وفي بعض الروايات أخذ طاووساً وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها . { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } ، أي فقطعهن؛ وقال السدي : يعني فدقهن ، وقال الأخفش : يعني اضممهن إليك . وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال : فيه تقديم وتأخير ، فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض ، { ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } ، ثم فرقهن في أربعة أجبل . { ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا } . ففعل ذلك ودعاهن ، فسعين على أرجلهن .
ويقال : إنه لما وضعهن على الجبال ، هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة؛ فواحدة من قبل المشرق ، والأخرى من قبل المغرب ، وواحدة من قبل اليمين ، والأخرى من قبل الشمال؛ فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى ، حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها : فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض . فقال عند ذلك قوله : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } في ملكه ، { حَكِيمٌ } حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي ، ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة . قرأ ابن كثير أرْني بجزم الراء ، وقرأ الباقون بالكسر؛ وقرأ حمزة فصرهن بكسر الصاد ، والباقون بالضم . فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن ، ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك؛ ويقال هما لغتان ومعناهما وتفسيرهما واحد .
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } ؛ نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما حثّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فضة وقال : يا رسول الله ، كانت لي ثمانية آلاف درهم ، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضتها لربي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَارَكَ الله لَكَ فِيْمَا أَمْسَكْتَ وَفِيْمَا أَعْطَيْتَ » وقال عثمان بن عفان : يا رسول الله ، علي جهاز من لا جهاز له ، فنزلت هذه الآية { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } ؛ وفي الآية مضمر ، ومعناه مثل النفقة التي تنفق في سبيل الله { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } . وطريق آخر مثل الذين ينفقون أموالهم ، كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف { أَنبَتَتْ } الحبة { سَبْعَ سَنَابِلَ } ، أي أخرجت سبع سنابل . { فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } ، فيكون جملتها سبعمائة . فشبه المتصدق بالزارع ، وشبه الصدقة بالبذر ، فيعطيه الله بكل صدقة سبعمائة حسنة .
ثم قال تعالى : { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } ، أي يزيد على سبع مائة لمن يشاء ، فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع؛ إذا كان الزارع حاذقاً في عمله ، ويكون البذر جيداً ، وتكون الأرض عامرة ، يكون الزرع مخصباً طيباً؛ فكذلك المتصدق ، إذا كان صالحاً ، والمال طيباً ويوضع في موضعه ، فيصير الثواب أكثر .
{ والله واسع } ، أي واسع الفضل لتلك الأضعاف ، { عَلِيمٌ } بما ينفقون وبما نووا فيها . قرأ ابن كثير وابن عامر : والله { يضاعف } بتشديد العين وحذف الألف ، وقرأ الباقون { يضاعف } بالألف؛ ومعناهما واحد . فالذي قرأ { يضاعف } من التضعيف ، والذي قرأ { يضاعف } من المضاعفة .
ثم قال تعالى : { الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } ، أي يتصدقون بأموالهم؛ { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى } ، أي لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك ، ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة ، فيقول له : إني أعطيتك كذا وكذا . وقال بعضهم : المنَّ يشبَّه بالنفاق ، والأذى يشبّه بالرياء . ثم تكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : إذا فعل ذلك ، لا أجر له في صدقته وعليه وزرٌ فيما منَّ على الفقير به . وقال بعضهم : ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه . وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمنِّ .
ثم قال تعالى : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } ، أي ثوابه في الآخرة . { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم من العذاب . { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا من أمر الدنيا . ويقال : الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان ، حين اشترى بئر رومة ، ثم جعلها سبيلاً على المسلمين .
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب . { وَمَغْفِرَةٌ } أي يعفو ويتجاوز عمن ظلمه خير من صدقة يعطيها ، ثم يمن على من تصدق عليه . ويقال : قول معروف للفقير ، يعني إذا أتاه سائل سأله ، ولم يكن عنده شيء يعطيه ، فيدعو له بالجنة والمغفرة . { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ } يعطيها له ، و { يَتْبَعُهَا أَذًى } . ويقال : وعد المعطي خير من صدقة يتبعها أذى . ويقال : وعد الكريم خير من نقد اللئيم . ويقال : دعاء الفقير إذا دعا لصاحب الصدقة ، ومغفرة الله خير من الصدقة التي يتبعها أذى . ويقال : قول معروف أن يتجاوز عمن أساء إليه ، ويحسن له القول خير له من صدقة يتبعها أذى ويقال : الأمر بالمعروف ، والصبر على ما أصابه ، والتجاوز عن الذي أضرّ به ، خير من صدقة يتبعها أذى . ثم قال : { والله غَنِىٌّ حَلِيمٌ } أي غني عما عندكم من الصدقة حليم ، حيث لم يعجل العقوبة على من يمن بالصدقة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى } فالله تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم ، لكي لا يذهب أجرهم ، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال تعالى : { كالذى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } .
يعني المشرك إذا تصدق ، فأبطل الشرك صدقته ، كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن ، ثم ضرب لهما مثلاً جميعاً لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك . فقال تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } .
قال القتبي : الصفوان الحجر الذي لا ينبت عليه شيء ، يعني كمثل حجر صلب عليه تراب . { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } يعني المطر الشديد { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } يعني المطر ترك الصفا نقياً أجرد أملس ليس عليه شيء من تراب فكذلك نفقة صاحب الرياء ، ونفقة المشرك لم يبق لهما ثواب .
ثم قال تعالى : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } والله لا يهدي القوم الكافرين . أي لا يجدون للصدقة ثواباً في الآخرة ، وهذا كما قال في آية أخرى : و { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَىْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ إبراهيم : 18 ] . { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } يعني لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص ، ولا يوفقهم الله بل يخذلهم مجازاة لكفرهم ، ثم ضرب مثلاً لنفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله تعالى ، ولا يمن بها فقال عز وجل :
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } يعني يتصدقون طلب رضاء الله تعالى بصدقاتهم { وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني وتصديقاً من قلوبهم ، يعني يصدقون الله تعالى بالثواب في الآخرة ، والخلف في الدنيا . ويقال : وتثبيتاً من أنفسهم ، يعني وتحقيقاً من قلوبهم يقصدون بها وجه الله . { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } يعني بستاناً في مكان مستو مرتفع . { أَصَابَهَا وَابِلٌ } يعني البستان أصابه المطر الشديد { فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : أكلها بجزم الكاف ، ونصب اللام . وقرأ الباقون بالضم أكلها ، وتفسير القراءتين واحد ، وقرأ عاصم وأبو عمرو بربوة بنصب الراء ، وقرأ الباقون بالضم ، وقرأ ابن سيرين بكسر الراء ، وفيه ثلاث لغات : رَبْوَة وَرِبْوَةَ وَرَبْوة . وتفسير القراءات واحد .
وفي الآية تقديم وتأخير ، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فأتت أكلها ضعفين ، يعني البستان إذا أصابه المطر أو الطل ، والطل البطيء من المطر ، وهو مثل الندى ، فأتت أكلها ضعفين ، يعني اخضرت أوراق البستان ، وأخرجت ثمرها ضعفين ، فكذلك الذي يتصدق به لوجه الله تعالى يكون له الثواب ضعفين ، يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا نهاية له { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ثم ضرب مثلاً آخر ، لعمل الكافر والمنافق فقال تعالى :
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } يقول : مثل الكافر كمثل شيخ كبير ، له بستان ، وله أولاد صغار ضعفاء عجزة ، لا حيلة لهم ، ومعيشته ومعيشة ذريته من بستانه { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت } يعني ريحاً بها نار ، أي فأتته السموم الحارة ، فأحرقت بستانه ، ولم يكن له قوة أن يغرس مثل بستانه ، ولم يكن عند ذريته خير يعينونه ، فيبقى متحيراً ، فكذلك الكافر إذا لقي ربه أحوج ما كان ، فلا يجد خيراً ، ولا يدفع عن نفسه ، ولا يكون له معين ، ولا يعود إلى الدنيا ، كما لا يعود الشيخ الكبير شاباً ، وكان أحوج إليه قوله تعالى { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } في أمثاله فتعتبرون .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{ تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات } يقول : من حلالات { مَّا كَسَبْتُم } في الآية أمر بالصدقة من الحلال ، وفيها دليل : أن من تصدق من الحرام لا يقبل ، لأن الواجب عليه أن يردها إلى موضعها .
ويقال : أنفقوا من طيبات ، يعني من مال اللذيذ ، والشهي عندكم مما كسبتم . يقول : مما جمعتم من الذهب والفضة قوله تعالى : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض } أي من الثمار والحبوب . { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ } أي لا تعمدوا إلى رديء المال فتصدقوا منه ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثّ الناس على الصدقة ، فجعل الناس يأتون بالصدقة ، ويجمعون في المسجد ، فجاء رجل بعذق من تمر عامته حَشَفٌ فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ، يعني لا تعمدوا إلى الخشف فتتصدقوا منه { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } بل الطيب { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } يعني إلا أن يهضم أحدكم ، فيأخذ دون حقه مخافة أن يذهب جميع حقه ، فيأخذ ذلك للضرورة مخافة موت حقه ، والله تعالى غني عن ذلك ، فلا يقبل إلا الطيب ، ويقال : إلا أن تغمضوا ، يعني إلا أن يضطر أحدكم ، فمسته الحاجة فرضي بذلك . قوله تعالى : { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غني عما عندكم من الصدقات ، حميد في أفعاله .
ويقال : حميد بمعنى محمود ويقال : حميد من أهل أن يحمد ويقال : حميد يقبل القليل ، ويعطي الجزيل .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } يقول الشيطان يأمركم بشيئين ، والله تعالى يأمركم بشيئين : أما الشيطان ، فإنه يأمركم بالفقر ، ويقول : لا تنفقوا ولا تتصدقوا ، فإنكم تحتاجون إلى ذلك . { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } قال الكلبي : يعني يمنع الزكاة . ويقال : جميع الفواحش مثل الزنى وقول الزور وغير ذلك { والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ } لذنوبكم يعني المغفرة من الله . { وَفَضْلاً } يعني خلفاً في الدنيا { والله واسع } الفضل { عَلِيمٌ } بما تنفقون . ويقال : عليم بمواضع الصدقات .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } قال ابن عباس : يعني النبوة . وقال الكلبي : يعني الفقه . وقال مقاتل : يعني علم القرآن . ويقال : الإصابة في القول . ويقال : المعرفة بمكائد الشيطان ووساوسه . وقال مجاهد : الإصابة في القوم والفهم والفقه . { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } يقول من يعط علم القرآن ، فقد أعطي خيراً كثيراً . { وَمَا يَذَّكَّرُ } أي ما يتفكر . ويقال : ما يتعظ بما في القرآن { إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب } يعني ذوو العقول . ويقال : إن من أعطي الحكمة والقرآن ، فقد أعطي أفضل مما أعطي من جميع كتب الأولين من الصحف وغيرها ، لأنه تعالى قال لأولئك وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ، وسمي لهذا خيراً كثيراً ، لأن هذا جوامع الكلم .
وقال بعض الحكماء : من أعطي العلم والقرآن ، ينبغي أن يعرف نفسه ، ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم ، لأن ما أعطي أفضل مما أعطوا أصحاب الدنيا ، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعاً قليلاً . وقال : قل متاع الدنيا قليل ، وسمى العلم خيراً كثيراً .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
لقوله { وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } يقول ما تصدقتم من صدقة . { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } فوفيتم بنذوركم { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } أي يحصيه ويقبله منكم ، وهذا وعد من الله تعالى ، فكأنه يقول : إنه لا ينسى بل يعطي ثوابكم . { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } يعني ليس للمشركين من مانع في الآخرة يمنعهم من العذاب { إِن تُبْدُواْ الصدقات } وذلك أن الله تعالى لما حثهم على الصدقة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزل قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } ، يعني إن تعلنوا الصدقات المفروضة . { فَنِعِمَّا هِىَ } قرأ حمزة والكسائي وابن عامر ، فنعما هي بنصب النون وكسر العين ، وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع في رواية ورش ، وابن كثير بكسر النون وكسر العين ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ، فنعما بكسر النون وجزم العين ، وكل ذلك جائز وفيه ثلاث لغات نِعِم نَعِم ونِعْم ، وما زيدت فيها للصلة .
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص ، ويكفر بالياء وضم الراء . وقرأ حمزة ونافع والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونكفر بالنون وضم الراء ، فمن قرأ بالجزم ، فهو جزاء الصدقة ، ومن قرأ بالضم فهي على المستقبل ، يعني إن تعلنوا الصدقات فحسن { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من صدقة العلانية .
فأما صدقة التطوع فقد اتفقوا أن الصدقة في السر أفضل ، وأما الزكاة المفروضة قال بعضهم : السر أفضل ، لأنه أبعد من الرياء وقال بعضهم : العلانية أفضل ، لأن الزكاة من شعائر الدين ، فكل ما كان أظهر ، كان أفضل كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين ، ولأن في ذلك زيادة رغبة لغيره في أداء الزكاة ثم قال تعالى : { وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني فيما تصدقتم في السر والعلانية يتقبل منكم ، ويكون في ذلك كفارة سيئاتكم ، ويعطي ثوابكم في الآخرة .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة القضاء ، وخرجت معه أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمها قتيلة ، وجدها أبو قحافة ، فسألا منها حاجة فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنكما لستما على ديني ، فاستأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } ، أي يوفق من يشاء لدينه . فإن قيل قد قال في آية أخرى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقال هاهنا : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } أي يوفق .
قيل ما يشاء إنما أراد به هناك الدعوة . وهاهنا أراد به الهدى خاصة ، وهو التوفيق إلى الهدى .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ } يعني ما تنفقوا من مال ، فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار ، أو على المسلمين .
وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلاً من أهل الذمة ، يسأل على أبواب المسلمين فقال : ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شاباً ، ثم ضيعناك بعدما كبرت وضعفت ، فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء ثواب الله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي يوف ثوابه إليكم . { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم وصدقاتكم ، فيكون ما الأولى بمعنى الشرط ، وما الثانية للجحود وما الثالثة للخبر .
ثم بيّن موضع الصدقة فقال تعالى : { لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } يعني النفقة والصدقة للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في طاعة الله ، وهم أصحاب الصفة كانوا نحواً من أربعمائة رجل ، جعلوا أنفسهم للطاعة ، وتركوا الكسب والتجارة . قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الارض } أي لا يستطيعون الخروج إلى السفر في التجارة . { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } قرأ حمزة وعاصم وابن عامر : يحسبهم بنصب السين في جميع القرآن ، وقرأ الباقون : بالكسر وتفسير القراءتين واحد ، يعني يظن الجاهل بأمرهم وشأنهم أنهم { أَغْنِيَاء مِنَ التعفف } لأنهم يظهرون أنفسهم للناس باللباس وغيره ، كأنهم أغنياء ويتعففون عن المسألة . قوله { تَعْرِفُهُم بسيماهم } أي بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى } يعني إلحاحاً قال ابن عباس رضي الله عنه : لا يسألون الناس إلحاحاً ولا غير إلحاح ، ويقال : أصله من اللحاف ، لأن السائل إذا كان ملحاً ، فكأنه يلصق بالمسؤول فيصير كاللحاف يلتصق ، وجعل ذلك كناية عنه .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } يعني عليم بما أنفقتم ويقال هذا على معنى التحريض ، فكأنه يقول عليكم بالفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . وقال بعضهم : هذا على معنى التعجب ، فكأنه يقول عجباً للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ويقال : إنه رد إلى أول الآية { وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } { لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ } ثم قال تعالى : { الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار } قال مقاتل والكلبي : نزلت هذه الآية في شأن علي بن أبي طالب ، كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها ، فلما نزل التحريض على الصدقة تصدق بدرهم بالليل ، وبدرهم بالنهار ، وبدرهم في السر ، وبدرهم في العلانية ، فنزلت هذه الآية { الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار } . { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يعني خفية وظاهراً .
ويقال : هذا حثّ لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } يعني يأكلون الربا استحلالاً { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي يتخبطه الشيطان { مِنَ المس } أي من الجنون . ويقال : إنهم يبعثون يوم القيامة ، وقد انتفخت بطونهم كالحباب ، وكلما قاموا سقطوا ، والناس يمشون عليهم ، فيكون ذلك علامة آكل الربا ويقال يكون بمنزلة المجنون { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } { الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } معناه استحلوا الرِّبا ، وكان الرجل إذا حل أجل ماله طالبه فيقول له المطلوب : زدني في الأجل ، وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك .
فإذا قيل لهما : إن هذا رباً قالا : الزيادة في أول البيع ، وعند حلول الأجل سواء . ويقال : إنهم استحلوا الربا وقالوا : الربا والبيع في الحل سواء ، فالله تعالى أبطل قولهم فقال تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ } ولم يقل جاءته ، لأن التأنيث ليس بحقيقي ، ويجوز أن يذكر ويؤنث ، لأنه انصرف إلى المعنى ، يعني فمن جاءه نهي { مّن رَّبّهِ } في القرآن في بيان تحريم الربا { فانتهى } عن أكل الربا { فَلَهُ مَا سَلَفَ } يعني ليس عليه إثم فيما مضى قبل النهي ، لأن الحجة لم تقم عليهم ، ولم يعلموا بحرمته ، وأما اليوم فمن تاب عن الربا ، فلا بدَّ له من أن يرد الفضل ، ولا يكون له ما سلف ، لأن حرمة الربا ظاهرة بين المسلمين ، لأن كتاب الله تعالى فيهم .
ثم قال عز وجل : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } في المستأنف إن شاء عصمه ، وإن شاء لم يعصمه { وَمَنْ عَادَ } إلى استحلال الرِّبا { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } قال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : « سَيَأْتِي عَلَى الَّناسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَكَلَ الرِّبا ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلِ الرِّبا أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ » وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرِّبا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَاباً ، أدْنَاها كَإِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ » ، يعني كالزاني بأمه .
ثم قال تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } أي يبطله ، ويذهب ببركته { وَيُرْبِى الصدقات } يقول : يقبلها ويضاعفها . ويقال : إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة ، إما أن يذهب عنه أم عن ولده ، أو ينفقه فيما لا يصلح { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } يعني جاحد بتحريم الرِّبا { أَثِيمٍ } يعني عاص بأكله { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { والذين يُمَسّكُونَ } يعني الصلوات الخمس { وَءاتُواْ الزكواة } يعني أعطوا الزَّكاة المفروضة { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد ذكرناه { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } أي أطيعوا الله ولا تعصوه فيما نهاكم من أمر الرِّبا { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين بتحريمه .
وقال أهل اللغة : إن الحقيقة على ثلاثة أوجه : إن بمعنى ما ، كقوله : { إِنِ الكافرون } { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة فَإِذَا هُمْ خامدون } [ يس : 29 ] . وإن بمعنى لقد ، كقوله { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] . { وتالله أَن كُنَّا وتالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [ الصافات : 56 ] ، { فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } [ يونس : 29 ] ، وإن بمعنى إذ كقوله : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، { ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] نزلت هذه الآية في نفر من بني ثقيف ، وفي بني المغيرة من قريش ، وكانت ثقيف يربون لبني المغيرة في الجاهلية ، وكانوا أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وأخواهما يربون لبني المغيرة ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ، وضع الرِّبا كله ، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم على الناس يأخذونه ، وما كان عليهم من رباً للناس ، فهو موضوع عنهم لا يؤخذ منهم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً ، وكتب في أسفله إنَّ لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم ، فلما حلّ الأجل طلب ثقيف رباهم ، فاختصموا إلى أمير مكة ، وهو عتاب بن أسيد ، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية { عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يعني مصدقين بتحريم الرِّبا . ثم خوفهم فقال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي لم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } .
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذِنوا بمد الألف وكسر الذال ، وقرأ أبو عمرو وورش عن نافع ، فأْذَنُوا بترك الهمزة ونصب الذال ، وقرأ الباقون بجزم الألف ونصب الذال ، فمن قرأ { فَأْذَنُواْ } بالجزم معناه : فاعلموا بِحَرْبٍ مِّنَ الله ، يعني بإهلاك من الله . ويقال معناه : فاعلموا بأنكم كفار بالله وَرَسُولِهِ ومن قرأ فآذنوا بالمد يقول : اعلموا بعضكم بعضاً بحرب ، أي بإهلاك من الله تعالى ورسوله . فقالوا : ما لنا بحرب من الله ورسوله طاقة فما توبتنا؟؟
فقال تعالى : { فَإِن تُبْتُمْ * فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم } التي أسلفتم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ رِباً كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رباً وُضِعَ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، وكُلُّ دَمٍ كانَ في الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ »
ثم قال : { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } يعني الطالب لا يظلم بطلب الزيادة ، ويرضى برأس المال ، ولا يظلم المطلوب ، فينتقص عن رأس المال ، وذلك أنهم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة ، فشكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا : ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت إدراك ثمارهم ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يعني إن كان المطلوب ذو شدة { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } يقول : أجله أن يتيسر عليه بإدراك ثماره { وَأَن تَصَدَّقُواْ } يقول : لو تصدقتم ولا تأخذونه فهو { خَيْرٌ لَّكُمْ } ويقال : لئن تصدقتم بالتأخير فهو خير لكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الصدقة خير لكم .
قرأ نافع إلى ميسرة بضم السين . وقرأ الباقون والنصب ، وهما لغتان ومعناهما واحد . وقرأ عطاء فناظرة بالألف . وقرأ العامة بغير ألف ، ومعناها واحد . وقرأ عاصم وأن تصدقوا بتخفيف الصاد . وقرأ الباقون بالتشديد ، لأن التاء أدغم في الصاد ، وأصله تتصدقوا . ثم قال تعالى : { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ } يقول اجتنبوا عذاب يوم ترجعون { فِيهِ إِلَى الله } يعني في يوم القيامة { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يقول : وهم لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً .
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال آخر آية نزلت من القرآن { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } قرأ أبو عمرو ترجعون بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بالضم ونصب الجيم قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } روي عن ابن عباس أنه قال : الآية نزلت في السلم . ويقال كل دين إلى أجل سلماً كان أو غيره . { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني إلى أجل معلوم .
وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم { فاكتبوه } يعني الدين والأجل . ويقال : أمر بالكتابة ، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد ، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة . ويقال : أمر بالكتابة لكي لا ينسى . ويقال : من أدان ديناً ، ولم يكتب ، فإذا نسي ودعى الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى : أمرتك بالكتابة فعصيت أمري ، وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها ، وإن شئت فأمسكها .
ثم قال تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل } يعني يكتب الكاتب عن البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته ، ولا يزاد على المطلوب على حقه ، ولا ينقص من حق الطالب .
ويقال : إن هذا أمر للكاتب بالكتابة ، وكانت المكاتبة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب ، لأن الكتبة كانوا قليلاً ثم نسخ بقوله : { ياأيها الذين ءامنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ] وقال بعضهم : الكتابة لم تكن واجبة ، ولكن الأمر على معنى الاستحباب ثم قال : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ } يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أن يكتب { كَمَا عَلَّمَهُ الله } يعني يكتب شكراً لما أنعم الله عليه حيث علمه الكتابة ، واحتاج غيره إليه ، فكما أكرمه الله تعالى بالكتابة وفضله بذلك ، فيعرف شكره ، ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه . ثم قال : { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكتابة ، لأن قول المطلوب حجة على نفسه ، فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقراراً منه بوجوب الحق عليه .
ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئاً من حق الطالب .
فقال تعالى : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } يعني المطلوب { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يقول : لا ينقص من الحق شيئاً ، يعني المطلوب . ويقال : يعني الكاتب ، ولا يبخس في الكتابة شيئاً { فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق } يعني إذا كان المطلوب { سَفِيهًا } أي جاهلاً بالإملاء ، ويقال أحمق { أَوْ ضَعِيفًا } يعني صبيّاً عاجزاً عن الإملاء . ويقال : أخرس أو مجنون { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ } يعني لا يحسن { أَن يُمِلَّ هُوَ } على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } يعني : ولي الحق أي الطالب هكذا قال في رواية الكلبي . وقال في رواية الضحاك . يعني ولي المدين يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي يرجع الإملاء عليه فليملل وليه { بالعدل } أي بالحق .
ثم أمر بالإشهاد فقال تعالى : { واستشهدوا } على حقكم { شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ } فليكن رجلاً { وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } يعني من العدول { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يعني إذا نسيت إحدى المرأتين . { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى } يعني : إذا حفظت إحداهما الشهادة فتذكر صاحبتها ويقال : إذا امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة ، فتعظها الأُخرى حتى تشهد . قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف ونصب التاء وجزم اللام ، وإنما كسر الألف على معنى الابتداء والشرط ، وجزم اللام لحرف الشرط ، فَتُذْكِرُ بضم الراء . وقرأ الباقون بنصب الألف ، ومعناه لأن تضل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ، فتذكر بالتخفيف . وقرأ الباقون بنصب الذال وتشديد الكاف ، وهما لغتان أذكرته وذكرته .
ثم قال : { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } يعني : الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد ، فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام ، لأن الله تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة . ويقال : إباء الشهادة على ثلاثة أوجه : أحدهما أن يمتنع عن أدائه . والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه ، لكيلا تقبل شهادته . والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي ، فيصير منهما لا تقبل شهادته ، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي ، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته . ثم قال تعالى { وَلاَ يَأْبَ } يقول ولا تملوا { أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } يعني قليل الحق أو كثيره { إِلَى أَجَلِهِ } لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال { ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ } أي أعدل { وَأَقْوَمُ } وأصوب { للشهادة وَأَدْنَى } يقول : أحرى وأجدر { أَلاَّ تَرْتَابُواْ } يعني : لا تشكوا في شيء من حقوقكم .
ثم استثنى الله تعالى { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً } قرأ عاصم تجارة حاضرة بالنصب وقرأ الباقون بالرفع ، فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون ، والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة .
ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } يعني تداولونها أيديكم ، ولم يكن المال مؤجلاً { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي حرج { أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } يعني التجارة . ثم قال { وَأَشْهِدُواْ } على حقكم { إِذَا تَبَايَعْتُمْ } على كل حال ، نقداً كان أو مؤجلاً ، وهذا أمر استحباب ، ولو ترك الإشهاد جاز البيع . ثم قال تعالى { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد ، فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ، ولهما حاجة مهمة ، فيمنعهما عن حاجتهما ، وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما ، أو يطلب غيرهما { وَإِن تَفْعَلُواْ } يقول : إن تضاروا الكاتب والشاهد { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يقول معصية منكم وترك الأدب قوله : { واتقوا الله } في الضرر ويقال : واتقوا الله ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد { وَيُعَلّمُكُمُ الله } في أمر الكتابة ، ويقال : ويؤدبكم الله { والله بِكُلّ شَيْء } من أعمالكم { عَلِيمٌ } .
{ وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } أي كنتم مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا } يعني لم تجدوا من يكتب الكتاب وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ، ولم تجدوا كاتباً ، يعني الكاتب والصحيفة { فرهان مَّقْبُوضَةٌ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن ، والباقون فرهان ، فمن قرأ فرهان ، فهو جمع الرهن ، ومن قرأ فرهن فهو جمع الرهان ، وهو جمع الجمع . ويقال : كلاهما واحد ، وهو جمع الرهن ، يعني إذا كنتم في السفر ، ولم تجدوا من يكتب ، ولم تجدوا الصحيفة والدواة ، فاقبضوا الرهن . وفي الآية دليل أن الرهن لا يصح إلا بالقبض لأنه جعل الرهن بالقبض .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } يعني إذا كان الذي عليه الحق أميناً عند الطلب ، ولم يطلب منه الرهن ، ورضي بدينه بغير رهن قوله : { فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته } يعني أن المطلوب يقضي دينه حيث ائتمنه الطالب ، ولم يرتهن منه { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ولا يمنع حقه ، ثم رجع إلى الشهود فقال : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } عند الحاكم يقول : من كانت عنده شهادة ، فليؤدها على وجهها ولا يكتمها { وَمَن يَكْتُمْهَا } يعني الشهادة { وَإِن كُنتُمْ على } يعني فاجر قلبه . قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } من كتمان الشهادة وإقامتها ، فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته لكيلا يكتمها .
قرأ حمزة وعاصم فليؤد الذي أوتمن ، بضم الألف ، والباقون يقرؤون بسكون الألف وكلاهما واحد .
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق كلهم عبيده وإماؤه ، وهو خالقهم ورازقهم ، وحكمه نافذ فيهم ، معناه لا تعبدوا أحداً سواه ، لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام ، ويقال : لله ما في السموات وما في الأرض ، يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته ، ثم قال : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يعني إن تظهروا ما في قلوبكم أو تضمروه { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } أي يجازيكم به الله . وقال بعضهم : يعني في كتمان الشهادة أن تعلنوا الشهادة أو تخفوها يحاسبكم به الله ، أي يجازيكم به الله .
وقال الكلبي : وإن تعلنوا ما في أنفسكم من المعصية أو تسروها ، ولا تظهروها يجازيكم . قال : لما نزلت هذه الآية شقّ على المسلمين ، وقالوا : يا رسول الله إنا لنحدث أنفسنا بالأمر المعصية ، ثم لا نعملها ، أو نعملها فهو سواء ، فشق ذلك على المؤمنين مشقة شديدة ، فلما علم الله مشقة ذلك على المؤمنين ، أنزل على نبيه ما هو أهون عليه منه فقال : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] .
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الدبيلي ، قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي »
قال سفيان : بلغني أن الأنبياء كانوا يأتون قومهم بهذه الآية { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } فيقولون : لا نطيق هذا ، ولا نحتمله ، فأعقبهم الله المؤاخذة ، فلما عرض على هذه الأمة قبلوا ، فأعقبهم الله تعالى أن وضعها عنهم ، فأنزل الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] الآية .
ثم قال عز وجل : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أي لمن تاب عن الذنوب { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أي من أقام على ذلك ، وأصر عليه . ويقال : فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ، لمن انتزع عنه ، ويعذب من يشاء بالذنب الصغير إذا أصر عليه . ويقال : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار . قرأ عاصم وابن عامر ، فيغفر بضم الراء على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالجزم على جواب الشرط ، وكذلك في قوله : { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } ثم قال : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن } روي عن الحسن وعن مجاهد : أن هذه الآية نزلت في قصة المعراج ، وهكذا روي في بعض الروايات عن عبد الله بن عباس .
وقال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها ليلة المعراج . وقال بعضهم : لم يكن ذلك في قصة المعراج ، لأن ليلة المعراج كانت بمكة ، وهذه السورة كلها مدنية ، فأما من قال : إنها كانت في ليلة المعراج . قال : لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبلغ فوق السموات في مكان مرتفع ، ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى . فقال له جبريل : إني لم أجاوز هذا الموضع ، ولم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك ، فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله ، فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ " فقال الله تعالى : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال : «السَّلامُ عَلَيْنَا ، وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ» . فقال جبريل : وأهل السموات كلهم ، أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلاَّ الله ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . قال الله تعالى على معنى الشكر آمن الرسول ، أي : صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال : { والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } يعني : يقولون آمنا بجميع الرسل ، ولا نكفر بواحد منهم ، ولا نفرق بينهم ، كما فرقت اليهود والنصارى .
فقال له ربه عز وجل : كيف قبولهم للآي التي أنزلتها؟ وهي قوله : { لِّلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِى الارض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، فقال : رسول الله : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي أطعنا مغفرتك يا ربنا { وَإِلَيْكَ المصير } أي : المرجع قال الله تعالى عند ذلك : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقتها .
ويقال : إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائماً لمن لا يقدر عليها { لَهَا مَا كَسَبَتْ } من الخير { وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } من الشر فقال له جبريل عند ذلك : سل تعط فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا " يعني : إن جهلنا { أَوْ أَخْطَأْنَا } يعني : إن تعمدنا ، ويقال إن عملنا بالنسيان ، أو أخطأنا يعني عملنا بالخطأ ، فقال له جبريل : قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان شيئاً آخر ، فقال عند ذلك : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } يعني ثقلاً { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم ، وكانوا إذا أذنبوا بالليل ، وجدوه مكتوباً على بابهم ، وكانت الصلوات عليهم خمسين ، فخففت عن هذه الأمة ، وحطّ عنهم بعدما فرض عليهم إلى خمس صلوات ثم قال : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } يقول : لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق ، فتعذبنا .
. ويقال : ما يشق ذلك علينا ، لأنه لو أمر بخمسين صلاة ، لكانوا يطيقون ذلك ، ولكنه يشقّ عليهم ، ولا يطيقون الإدامة على ذلك { واعف عَنَّا } من ذلك كله { واغفر لَنَا وارحمنا } أي : تجاوز عنا ويقال : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا من الخسف ، وارحمنا من القذف ، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ ، وبعضهم أصابهم الخسف ، وبعضهم القذف ثم قال : { أَنتَ مولانا } أي : أنت ولينا وحافظنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فاستجيب دعاؤه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ » ويقال : إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة ، وضربوا الطبل ، وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر ، علموا بخروجهم أو لم يعلموا ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع ، أوحى الله تعالى إليه هذه الآيات ، ليعلم أمته بذلك . ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة ، وبيّن أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق والإيلاء ، وأقاصيص الأنبياء ، وبيّن حكم الربا والدين ، ثم ذكر تعظيمه بقوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِى السماوات والارض إِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } [ لقمان : 26 ] الآية .
ثم ذكر تصديق جميع ذلك حيث قال : { الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } ، أي صدق الرسل بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون . كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله .
قرأ حمزة والكسائي وكتابه على معنى الوحدان . وقرأ الباقون وكتبه على معنى الجمع . ثم قال : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } ، فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله .
قرأ الحضرمي لا يفرق بالياء ، ومعنا كل آمن بالله ، وكل لا يفرق .
وقرأ ابن مسعود لا يفرقون بين أحد من رسله . { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، أي قبلنا ما سمعنا ، لأن من سمع ولم يقبل قيل له : أصم ، لأنه لم ينتفع بسماعه .
وقرأ أبو عمرو من رسله ، برفع السين ، وكذلك في جميع القرآن غير هذه الحروف الأربعة ، مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون ، وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن . ومعنى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } ، أي اغفر غفرانك ، وهو من أسماء المصادر كالكفران والشكران { وَإِلَيْكَ المصير } .
يعني نحن مقرون بالبعث .
ثم قال : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني : طاقتها قال الفقيه : حدثنا أبو الحسين قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن عبد الله قال : حدثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ هذه الأُمَّةِ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ، أَوْ هَمَّتْ بِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ » ثم قال { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا } ، أي لا تؤاخذ أحداً بذنوب غيره ، كما قال في آية أخرى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ الأنعام : 164 ] وقوله : إن نسينا أي إن تركنا أو أخطأنا ، يعني إن كسبنا خطيئة ، فأخبر الله تعالى بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن المؤمنين ، وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم دعوة يدعون بها من بعده ، لأن هذا الدعاء قد استجيب له ، فينبغي أن يحفظ ، ويدعى به كثيراً .
قال الفقيه : حدثنا القاضي الخليل قال : حدثنا السراج قال : حدثنا أحمد بن سعيد الرازي قال : حدثنا سهل بن بكار قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثِ خِصَالٍ : جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِداً ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً ، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلاَئِكَةِ ، وَأُوتِيتُ هذه الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي ، ولا تُعْطَى أَحَداً بَعْدِي »
وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، فإنَّهُمَا تَجِيئَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالغَمَامَتَيْنِ أوْ كَالغَيَايَتَيْنِ ، أوْ كَفِرْقَتَيْنِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، وَيُحَاجَّانَ عَنْ صَاحِبِهِمَا » ثم قال : « تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ » ، يعني السَّحَرَةَ .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل عليه ملك فقال له : إن الله يبشرك بنورين ، لم يعطهما نبياً قبلك ، فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لا يقرأ بحرف منهما إلا أعطيته نوراً . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ بَلَغَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ ثلاثمائةِ آيةٍ ، لَتَكَلَّمَتْ » يعني : لصارت بحال تتكلم ، لأنه لا يبقى شيء ، إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب . والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{ الم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم { الله } يعني ، هو الله الذي { لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } الذي لا يموت ولا يزول أبداً .
ويقال الحي الذي لا بادىء له { القيوم } يعني القائم على كل نفس بما كسبت . ويقال : القائم بتدبير الخلق .
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الحي قبل كل حي ، والحي بعد كل حي ، الدائم الذي لا يموت؛ ولا تنقضي عجائبه ، والقائم على العباد بأرزاقهم وآجالهم . ويقال : الحي القيوم هو اسم الله الأعظم . ويقال : إن عيسى ابن مريم عليهما السلام ، كان إذا أراد أن يُحيي الموتى ، يدعو بهذا الاسم يا حَيُّ يَا قَيّوم . ويقال : إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام دعا بقوله يا حَيُّ يا قيوم ويقال : إن بني إسرائيل ، سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم فقال لهم : قولوا اهيا يعني يا حي شراهيا يعني يا قيوم ويقال : هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به ، ثم قال تعالى :
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن { بالحق } أي بالعدل ويقال لبيان الحق { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني موافقاً للكتب المتقدمة في التوحيد ، وفي بعض الشرائع { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن قَبْلُ } يعني أنزل التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى من قبل هذا الكتاب .
وروي عن الفراء أنه قال : اشتقاق التوراة من وري الزند وهو ما يظهر من النور والضياء ، فسمي التوراة بها ، لأنه ظهر بها النور والضياء لبني إسرائيل ، ومن تابعهم ، وإنما سمي الإنجيل ، لأنه أظهر الدين بعدما درس ، وقد سمي القرآن إنجيلاً أيضاً لما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : يا رب أرى في الألواح أقواماً أناجيلُهم في صدورهم ، فاجعلهم أمتي قال الله تعالى : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما أراد بالأناجيل القرآن .
قرأ حمزة والكسائي ، وابن عامر التوراة بكسر الراء ، والباقون بالفتح ثم قال تعالى : { هُدًى لّلنَّاسِ } معناه : وأنزل التَّورَاة على موسى ، والإنجيل على عيسى عليهما السلام ، بياناً لبني إسرائيل من الضلالة { وَأَنزَلَ الفرقان } على محمد صلى الله عليه وسلم بعد التوراة والإنجيل .
وقال الكلبي الفرقان هو الحلال والحرام ، يعني بيان الحلال والحرام . ويقال : المخرج من الشبهات { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله } أي جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن ، وما أوتي من آيات نبوته { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة .
قال الكلبي : نزلت هذه الآية في وفد نجران ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجادلوه بالباطل . ويقال : في شأن اليهود . ويقال : في شأن مشركي العرب . { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أي منيع بالنقمة ينتقم ممن عصاه { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء } لا يذهب ولا يغيب عليه شيء { فِي الارض وَلاَ فِى السماء } معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم ، فيجازيهم يوم القيامة ، وهم وفد نجران ، وسائر المشركين .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
ثم أخبر عن صنعه ، ليعتبروا بذلك فقال تعالى : { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَاء } أي يخلقكم كيف يشاء قصيراً أو طويلاً ، حسناً أو ذميماً ، ذكراً أو أنثى .
ويقال : شقيّاً أو سعيداً . وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الوَلَدُ يَكُونُ في بَطْنِ أُمِّهِ ، يكونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً ، ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً ، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ ، ثُمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ »
وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ، ليسألوا ما عنده من الحديث . فقال لهم : إني مشغول بأربعة أشياء ، فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له : وما ذاك الشغل؟ فقال أحدها : إني أتفكر في يوم الميثاق . حيث قال : هؤلاء في الجنة ، ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت . والثاني حيث صوّرني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام : يا رب شقي أم سعيد؟ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت . والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول : يا رب أمع الكفار أم مع المؤمنين؟ فلا أدري كيف يخرج الجواب . والرابع حيث يقول : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] ، فلا أدري من أي الفريقين أكون . ثم قال تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يعني لا خالق ولا مصور إلا هو { العزيز } يعني المنيع بالنقمة لمن جحده { الحكيم } يحكم تصوير الخلق على ما يشاء .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن { مِنْهُ آيات محكمات } يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام . ويقال : ناسخات لم تنسخ قط { هُنَّ أُمُّ الكتاب } يعني أصل كل كتاب ، وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أولادكم مِّنْ إملاق نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الأنعام : 151 ] وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول : فاتحة الكتاب أم الكتاب؟ فقال له ابن عباس : بل أم الكتاب قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أولادكم مِّنْ إملاق نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الأنعام : 151 ] إلى آخر ثلاث آيات الآية .
ثم قال تعالى { وَأُخَرُ متشابهات } قال الضحاك أي منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ألم ، والمص ويقال المحكم ما كان واضحاً لا يحتمل التأويل ، والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ ، والمعنى مختلف .
ويقال : المحكم الذي هو حقيقة اللغة ، والمتشابه ما كان مجاوزاً . ويقال : المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه ، فإن قيل : إذا أنزل القرآن للبيان ، فكيف لم يجعل كله ، واضحاً؟ قيل : الحكمة في ذلك ، والله أعلم أن يظهر فضل العلماء ، لأنه لو كان الكل واضحاً ، لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض . وهكذا يفعل كل من يصنف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً ، وبعضه مشكلاً ، ويترك للحيرة موضعاً ، لأن ما هان وجوده ، قل بهاؤه .
ثم قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يعني مَيْل عن الحق وهم اليهود { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } قال الضحاك : يعني ما نسخ منه { ابتغاء الفتنة } أي طلب الشرك واستبقاؤه ما هم عليه { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي طلب ثناء هذه الأمة . ويقال : طلب وقت قيام الساعة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } يعني منتهى ملك هذه الأمة ، وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم حيي بن أخطب وغيره ، فقالوا : بلغنا أنه نزل عليك ألم ، فإن كنت صادقاً في مقالتك ، فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة ، لأن الألف في حساب الجمل واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فنزل { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } ، يعني : منتهى ملك هذه الأمة ، ثم قال تعالى : { والرسخون فِي العلم } قال الكلبي ومقاتل : استأنف الكلام يعني لما قال { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } ، فقد تم الكلام ثم استأنف فقال : { والرسخون فِي العلم } أي البالغون العلم في كتبهم التوراة والإنجيل { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } يعني القرآن { كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه .
وقال بعضهم : هو معطوف عليه . يقول : وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يعني يعلمون تأويله . ويقولون : { بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا } .
وروى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ ، وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون في العلم : آمنا به ، وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل . وقال عامر الشعبي : لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير ، لأني أحلُّ حلاله ، وأحرّم حرامه ، وأومن بمتشابهه ، وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه .
ثم قال تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب } يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس . ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه ، حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } يعني لا تُحَوّل قلوبنا عن الهدى { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } يعني بعد ما أكرمتنا بالإسلام ، وهديتنا لدينك { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } يعني ثَبِّتْنا على الهدى { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } أي المعطي المثبت للمؤمنين { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس } بعد الموت { لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائنٌ لا محالة .
{ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } في البعث ويقال معناه { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
ثم قال تعالى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني اليهود ويقال جميع الكفار { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } كثرة { أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } شيئاً يعني من عذاب الله { شَيْئاً } في الدنيا إذا نزل بهم شدة أو مرض ، ولا في الآخرة عند نزول العذاب . ويقال : كل ما لم ينفق في طاعة الله ، فهو حسرة له يوم القيامة . ويقال : إنما ذكر الأموال والأولاد ، لأن أكثر الناس يدخلون النار ، لأجل الأموال والأولاد ، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة ، لكيلا يفني الناس أعمارهم ، لأجل المال والولد ، وإنما ذكر الله تعالى الكفار ، لكي يعتبر بذلك المؤمنون ثم قال تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار } أي حطب النار .
قرأ بعضهم وُقُودُ النار بضم الواو ، يعني إيقاد النار كما قال في آية أخرى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] قالوا : معناه إذا أرادت النار أن تنطفىء ، بدلهم الله جلوداً غيرها لتتقد النار { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } يعني أن صنيع الكفار معك ، كصنيع آل فرعون مع موسى .
وقال مقاتل : كأشباه آل فرعون بالتكذيب بالعذاب في الدنيا . ويقال : إهلاك الله إياهم بالقتل ، كإهلاك آل فرعون بالغرق .
ويقال تعاونُهم وتظاهرهم فيما بينهم عليك ، كتظاهُر آل فرعون على موسى { والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي قبل آل فرعون ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط { كَذَّبُواْ بئاياتنا } أي بدلائلنا وعجائبنا ويقال بكتبي ورسلي كما كذبك قومك يا محمد { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } أي أهلكهم وعاقبهم بشركهم { والله شَدِيدُ العقاب } للكافرين .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
قوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال الضحاك : يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد ، فرحوا بذلك ، فنزل قوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } من أهل مكة { سَتُغْلَبُونَ } بعد هذا { وَتُحْشَرُونَ إلى * نَارُ جَهَنَّمَ } وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم المشركين يوم بدر ، قالت اليهود هذا النبي الأمّي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة ، فأرادوا تصديقه ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى له ، فلما كان يوم أحد ، ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : والله ما هو إياه ، فقد تغيّرت صفته وحاله ، فشكوا فيه ولم يسلموا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فنقضوا ذلك العهد ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } وقال عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال ، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ، وقَدِم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، فقال : « يا مَعْشَر اليَهُودِ ، أَسْلِمَوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً » قالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك . إنك قتلت نفراً من قريش كانوا أَغماراً لا يعرفون القتال فإنك لو قاتلنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } يعني تُهْزمون وتُقْهَرون وتُحْشرون بعد القتل إلى جهنم { وَبِئْسَ المهاد } يعني لبئس موضع القرار جهنم . قرأ حمزة والكسائي سَيُغْلبونَ وَيُحشرُون بالياء على معنى الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
ثم قال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } يعني عبرة { فِي فِئَتَيْنِ } أي جَمْعَيْن ، يعني جَمْع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجمع كفار أهل مكة { التقتا فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } قرأ نافع ترونهم على معنى المخاطبة ، والباقون بالياء على معنى الخبر ، وذكر عن الفراء أنه قال كان الكفار ثلاثة أمثال المسلمين ، لأن المسلمين كانوا ثلاثمائة ونيفاً ، وكان الكفار تسعمائة ونيّفاً . وقوله : مثليهم أي ثلاثة أمثالهم ، والمعنى في ذلك عن طريق اللغة أن الإنسان إذا كان عنده ألف درهم يقول احتاج إلى مثليها ، فإنه يحتاج إلى ثلاثة آلاف . وقال الزجاج : هذا القول لا يصح في اللغة ، ولا في المعنى ، ولكن المسلمين يرونهم مثليهم في العدد ، لكي لا يجبنوا ، لأنه أعلمهم أن المائة تغلب المائتين ، فأراهم في { رَأْىَ العين } أن المشركين مثليهم في العدد ، لكي لا يجبنوا ، وهذا كما قال في آية أخرى ، { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } [ الأنفال : 44 ] ، وذلك أن المشركين كانوا تسع مائة ، فأرى الله المسلمين أنهم ستمائة ، لكي لا يجبنوا ، وأرى الكفار أن المسلمين أقل من ثلاثمائة ، ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب حتى انهزموا ، فكان في ذلك دلالة من الدلالات ، فمن قرأ بالتاء على معنى المخاطبة لليهود إن لكم آية وعلامة حيث رأيتم غلبة المسلمين على الكفار مع قلة المسلمين ، وكثرة الكفار ، فإن قيل : إن اليهود لم يكونوا حضوراً في ذلك الوقت ، فكيف يرون ذلك؟ قيل له : إذا انتشر الخبر فهموا ، وعلموا ذلك صار كالمعاينة ، ولأن لهم جواسيس عند المسلمين يخبرون اليهود بذلك ، فصار كأن كلهم رأى ذلك ، ومن قرأ بالياء معناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم .
ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة ، كانوا ألفاً وثلاثمائة رجل ، فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون ، وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب ، وكان أبو سفيان بن حرب في تلك العير ، فرجع إلى مكة ، وحثّهم على المسير ، ولم يكن حاضراً وقت الحرب ، وإنما قال الكلبي في كتابه : نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه ، لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج ، ولم يخرج معهم ثم قال تعالى : { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي يقوي بنصرته ، وهم أهل بدر ، فأرسل إليهم الملائكة ، وهزم المشركين { إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لاِوْلِى الابصار } يعني من ينصر الحق .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{ زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } حُسِّن وحُبِّب إليهم ، وقد يكون التزيين من الله تعالى . كما قال في آية أخرى { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [ النمل : 4 ] كما قال في آية أخرى { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] فأما التزيين من الله تعالى ، فهو على وجهين : يكون على جهة الامتحان للمؤمنين مع العصمة ، وقد يكون للكفار على جهة العقوبة مع الخذلان ، وأما التزيين من الشيطان ، فهو على جهة الوسوسة . فقال : زين للناس حب الشهوات { مِنَ النساء والبنين } بدأ بالنساء ، لأن فتنة النساء أشد من فتنة جميع الأشياء .
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما تَرَكْتُ لأُمَّتِي فِتْنَةً أَشَدَّ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ » ، ولأن النساء فتنتهن ظاهرة من وقت آدم عليه السلام إلى يومنا هذا .
ويقال : في النساء فتنتان ، وفي الأولاد فتنة واحدة : إحداهما أنها تؤدي إلى قطيعة الرحم ، لأن المرأة تأمر زوجها بقطيعة الرحم عن الأمهات والأخوات . والثانية يبتلي بجمع المال من الحلال والحرام ، وأما البنون ، فإن الفتنة فيهم واحدة ، وهي ما ابتلي به من جمع المال لأجلهم . فذكر البنين وأراد به الذكور والإناث .
وقال بعض الحكماء : أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا ، وإن ماتوا أحزنونا .
ثم قال تعالى { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } روي عن الفراء أنه قال : القناطير جمع قنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسع قناطير .
وروي عن أبي عبيدة أنه قال : المقنطرة مُفَعَّلة من الورق . كما يقال : ألف مؤلفة ، وبذر مبذرة . ويقال : المقنطرة هي المكيلة ، ثم اختلفوا في مقدار القنطار ، فروي عن مجاهد أنه قال : القنطار سبعون ألف دينار . وقال أبو هريرة : القنطار اثني عشر ألف أوقية . وقال معاذ بن جبل : ألف ومائتا أوقية . وقال بعضهم : مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ من ذهب . حكاه الكلبي ، وقال : هو لغة رومية .
وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن القنطار ما هو؟ فقال : هو مثل دية أحدكم .
ثم قال تعالى : { والخيل المسومة } يعني الراعية كما قال في آية أخرى { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي ترعون . وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل .
وقال يحيى بن كثير : هي السمينة المصورة . وقال أبو عبيدة المُعْلَمة . { والانعام } يعني الإبل والبقر والغنم { والحرث } يعني الزرع ، ذكر أربعة أصناف كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس ، أما الذهب والفضة ، فيتمول به التجار ، وأما الخيل المُسَوَّمة ، فيتمول بها الملوك ، وأما الأنعام ، فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول به أهل الرساتيق ، فيكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول به ، وأما النساء والبنين فهي فتنة للجميع .
ثم زهد في ذلك كله ، ورغب في الآخرة فقال تعالى : { ذلك متاع الحياة الدنيا } أي منفعة الحياة الدنيا تذهب ، ولا تبقى { والله عِندَهُ حُسْنُ المأب } أي المرجع في الآخرة الجنة ، لا تزول . ولا تفنى . ثم بَيّن أن الذي وعد المؤمنين في الآخرة ، خير مما زين للكفار فقال تعالى : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } أي من الذي زين للناس في الدنيا { لّلَّذِينَ اتقوا } الشرك والفواحش والكبائر . ويقال للذين اتقوا الزينة ، فلا تشغلهم عن طاعة الله { عِندَ رَبّهِمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } يعني البساتين تجري من تحت شجرها ، ومساكنها الأنهار ، فهو خير من الزينة الدنيوية وما فيها .
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَشِبْرٌ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » قال : { خالدين فِيهَا } يعني مقيمين فيها أبداً { وأزواج مُّطَهَّرَةٌ } معناه في الخَلْق والخُلُق ، فأما الخَلْقُ فإنهن لا يَحضنَ ولا يتمخَّطْن ، ولا يأتين الخلاء ، وأما الخُلُق ، فإنهن لا يَغِرْن ولا يحسدن ، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن { ورضوان مّنَ الله } أي مع هذه النعم لهم رضوان من الله ، وهو من أعظم النعم كما قال في آية أخرى { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] قرأ عاصم في رواية أبي بكر وَرُضْوَان بضم الراء ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان ، وتفسيرهما واحد { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي عالم بأعمالهم وثوابهم .
ثم وصفهم فقال تعالى : { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا } أي صَدَّقْنَا { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : خطايانا التي كانت في الشرك وفي الإسلام { وَقِنَا عَذَابَ النار } يعني ادفع عنا عذاب النار { الصابرين } يعني الجنة التي ذكر للذين اتقوا الشرك ، وللصابرين الذين يصبرون على طاعة الله ، ويصبرون على المعاصي ، ويصبرون على ما أصابهم من الشدة والمصيبة . { والصادقين } يعني الصادقين في إيمانهم ، وفي قلوبهم ، وفي وعدهم بينهم وبين الناس ، وبينهم وبين الله تعالى . ثم قال : { والقانتين } يعني المطيعين لله تعالى { والمنافقين } الذي يتصدقون من أموالهم في سبيل الله { والمستغفرين بالاسحار } يعني يصلون لله عند الأسحار . ويقال : يصلون لله بالليل ، ويستغفرون عند السَّحَر .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } يعني أن الله تعالى قَبْل أن يخلق الخلق شهد أن لا إله إلا هو { والملئكة } ولما خلق الملائكة شهدوا بذلك ، ثم لما خلق الله المؤمنين شهدوا بمثل ذلك وهم { أُوْلُو * العلم } يعني المؤمنين شهدوا بذلك { قَائِمَاً بالقسط } يعني الله قائماً بالعَدْل على كل نفس . ويقال : من أقرّ بهذه الشهادة على عقد قلبه ، فقد قام بالعدل . وقال مقاتل : سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام وأصحابه ، قالوا لرؤساء اليهود اتبعوا دين محمد صلى الله عليه وسلم . فقالت اليهود : ديننا أفضل من دينكم . فقال الله عز وجلَّ : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ * العلم } يشهدون بذلك ، وأولو العلم بالتوراة يشهدون بذلك ، ويشهدون أن الله قائم بالقسط ، أي بالعدل ، وأن الدين عند الله الإسلام .
قال الكلبي : وفيه وجه آخر وذلك أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، قدم عليه حَبْران من أحبار الشام ، فلما نظرا إلى المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا عليه قالا له : أنت محمد؟ قال : «نَعَمْ» . قالا : وأنت أحمد؟ قال : " أَنا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ " قالا : أَخْبِرْنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى ، فنزلت هذه الآية { شَهِدَ الله } . . . الخ . فأسلم الرجلان وصدَّقا أن الدين عند الله الإسلام .
وروي عن أبي عبيدة أنه قال : شَهِدَ الله يعني عَلِم الله وبَيَّن الله ، فالله عز وجل دَلَّ على توحيده بجميع ما خلق ، فبيّن أنه لا يقدر أحدٌ أن ينشىء شيئاً واحداً مما أنشأ الله تعالى ، وشَهِدت الملائكة بما علمت من عظيم قدرته ، وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم ، وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه ، وفي هذه الآية بيان فضل أهل العلم ، لأنه ذكر شهادة نفسه ، ثم ذكر شهادة الملائكة ، ثم ذكر شهادة أهل العلم . ثم قال تعالى : { لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } فشهد بمثل ما شهد من قبل ، لتأكيد الكلام .
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، لكل حي من العرب صنم أو صنمان ، فلما نزلت هذه الآية ، أصبحت تلك الأصنام كلها قد خرت ساجدة .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ثم قال عز وجل { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } قرأ الكسائي إنَّ الدين بالنصب على معنى البناء يعني شهدوا أنه لا إله إلا هو ، وأَنَّ الدين عند الله الإسلام ، والباقون بالكسر على معنى الابتداء ، ومعناه إن الدين المرضيَّ عند الله الإسلام { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } في هذا الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم اليهود والنصارى ، فلما بعث الله تعالى محمداً ، كفروا حسداً منهم ، هكذا قال مقاتل . ويقال : إنهم كانوا مسلمين ، وكانا يسمّون بذلك ، وكان عيسى عليه السلام سمى أصحابه مسلمين ، فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيَّروا ذلك الاسم ، وسُمُّوا يهوداً ، وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس ، وسماهم نصارى ، فذلك قوله : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يعني غَيّروا الاسم حسداً منهم ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لأنه قد جاء في آية أخرى { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والارض وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ النحل : 77 ] وقوله : { سَرِيعُ الحساب } يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله ، لأنه عالم بجميع ما عملوا ، لا يحتاج إلى إثبات شيء ، وتذكر شيء . ويقال : إذا حاسب ، فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد ، كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
ثم قال تعالى : { فَإنْ حَاجُّوكَ } أي خاصموك وجادلوك في الدين { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } أي أخلصت ديني لله . وقال الزجاج : إن الله تعالى أمر نبيه أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين ، بأنه اتبع أمر الله الذي هم أجمعون مقرون . أنه خالقهم ورازقهم ، فأراهم الآيات والدلالات بأنه رسوله . وقوله : { أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } أي قصدت بعبادتي الله ، وأقررت بأنه لا إله غيره { و } كذلك { مِنْ اتبعن } وقال القتبي : معنى أسلمت وجهي لله ، يعني أسلمت لله ، والوجه زيادة كما قال : كل شيء هالك إلا وجهه ، يعني إلا هو { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } يعني أُعْطُوا التَّوْرَاة والإنْجيل { والاميين } يعني مشركي العرب { ءأَسْلَمْتُمْ } يعني أخلصتم بالتوحيد . ويقال : اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر ، فكأنه يقول أَسْلِمُوا ، كما قال في آية أخرى : فهل أنتم منتهون؟ يعني انتهوا . وقال في آية أخرى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] ، أي توبوا إلى الله . { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } يعني أخلصوا بالتوحيد وأسلموا وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب ، فقد اهتدوا من الضلالة { وَإِن تَوَلَّوْاْ } يقول إن أَبَوا أن يُسلموا { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } بالرسالة { والله بَصِيرٌ بالعباد } يعني بأعمالهم ، ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ ، وقد فَعلتَ ما أمرتَ به .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله } يعني يجحدون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ } يعني يتولون آباءهم بالقتل ، ويرضون بذلك .
قرأ حمزة يقاتلون بألف من المقاتلة ، والباقون بغير ألف ، وقرأ نافع النبيئين بالهمزة . وقرأ الباقون بغير همز { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } يعني بالعدل ، وهم مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف ، فكانوا يقتلونهم ، فعَيَّرهم الله بذلك ، وأوعدهم النار فقال : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي وجيع ويقال : أليم يعني مؤلم { أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم } يعني بطل ثواب حسناتهم ، فلا ثواب لهم { فِي الدنيا والاخرة وَمَا لَهُم مّن ناصرين } يعني مانعين يمنعونهم من النار .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يعني أُعْطُوا حظاً من علم التوراة قال مقاتل : نزلت في كعب بن الأشرف ، وجماعة منهم حين قالوا؛ نحن أَهْدَى سبيلاً ، وما بعث الله رسولاً بعد موسى عليه السلام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَقْولُ لَكُمْ حَقٌّ فأَخْرِجُوا التَّورَاةَ » ، فأَبَوا . فأنزل الله تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } { يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } وقال الكلبي : نزلت في يهوديين من أهل خيبر زَنَيا ، وكان الحكم في كتابهم الرجم ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى عليهما بالرجم فقالوا : ليس هذا بحكم الله ، فدعا بالتوراة ، ودعا بابن صوريا ، وكان يسكن فَدَك ، وكان أعور ، فحلَّفه بالله ، فأقرّ بالقصة ، فأنزل الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله } الآية . ثم قال : { ذلك } أي ذلك الجزاء . قال مقاتل فيها تقديم وتأخير ، ومعناه فبشرهم بعذاب أليم { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار } ويقال : إنما جزاؤهم خلاف الكتاب ، لأنهم قالوا لن تمسنا النار { إِلا أَيَّامًا معدودات } يعني أربعين يوماً على عدد أيام عبادة العجل ويقال على عدد أيام الدنيا . ويقال : إن مذهبهم كان مذهب جَهْم ، لأنهم لا يرون الخلود في النار { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم } عَفْوُ الله عنهم بتأخير العذاب { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يكذبون على الله ، وهو قولهم { وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير } [ المائدة : 18 ] ، فذلك قولهم الذي غرهم .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
ثم خوَّفهم فقال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم } فقال فكيف يصنعون وكيف يحتالون إذا جمعناهم؟ { لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } يعني يوم القيامة ، لا شك فيه عند المؤمنين ، بأنه كائن { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي وفيت وأُعْطِيَتْ كل نفس ثواب ما عملت { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يُنْقَصُون من ثواب أعمالهم شيء .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{ قُلِ اللهم مالك الملك } قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت في شأن المنافقين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين : إن محمداً يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك؟ فنزلت هذه الآية .
وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء ، وهو قول مقاتل وقال بعضهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق ، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول ، وضرب ضربة ، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان : رأيت شيئاً عجيباً . فقال له النبي : « هَلْ رَأَيْتَ ذلك » ؟ قال : نعم . فقال : رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام ، ثم ضرب ضربة أخرى ، فظهر أيضاً كذلك . فقال : رأيت قصور أهل فارس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ ، وَمُلْكُ فَارِسَ » فقال المنافقون : إن محمداً لا يأمن على نفسه ، واضطر إلى حفر الخندق ، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس ، فنزلت هذه الآية .
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا : إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج ، فلو كان هو نبياً ، كيف ينام على الحصير؟ فنزلت هذه الآية { قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } وأصل اللهم في اللغة يا الله أمنا بخير ، أي اقْصِدْنا بالرحمة ، ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان ككلمة واحدة . فقال : { اللهم } ، يعني اللهم يا مالك الملك ، { تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } يعني تؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم ومن تبعه { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء } من فارس والروم { وَتُعِزُّ مَن تَشَاء } يعني أهل الإسلام { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } يعني أهل الشرك والطغيان { بِيَدِكَ الخير } يعني النصرة والغنيمة والعز { إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } من الذل والعز وقال الضحاك : تؤتي الملك من تشاء ، يعني الإسلام ، وتعز من تشاء بالإسلام ، وتذل من تشاء بالشرك ، بيدك الخير ، يعني الهداية والسعادة ، إنك على كل شيء قدير .
وقال الزَّجَّاج : تؤتي الملك من تشاء ، معناه تولي الملك من تشاء أن تؤتيه ، وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه ، إلا أنه حذف الهاء ، لأن في الكلام دليلاً عليه . قال مقاتل : وقد قيل في الملك قولان : أحدهما هو المال والعبيد ، والآخر من جهة الغلبة بالدين ثم قال تعالى { تُولِجُ اليل فِى النهار } يعني ما نقص من الليل دخل في النهار ، حتى يبلغ خمسة عشرة ساعة هو أطول ما يكون ، والليل تسع ساعات ، وهو أقصر ما يكون { وَتُولِجُ النهار فِى اليل } يعني أن ما نقص من النهار دخل في الليل ، حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات .
وهو قول الكلبي . ويقال : { تُولِجُ اليل فِى النهار } أي تذهب بالليل ، وتجيء بالنهار ، وتذهب بالنهار ، وتجيء بالليل ، هكذا إلى أن تقوم الساعة . ثم قال { وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص المَيِّت بالتشديد ، والباقون المَيْت بالتخفيف ، وهما لغتان ومعناهما واحد .
قال الكلبي : يعني تخرج البيضة ، وهي ميتة من الطير ، وهو حي ، وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة ، وتخرج النطفة ، وهي ميتة من الإنسان الحي ، وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ، وتخرج الحبة من السنبلة إلى آخره . وقال الحسن البصري : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن . ويقال : يخرج الجاهل من العالم ، ويخرج العالم من الجاهل . وروى معمر عن الزهري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال : «مَنْ هذه؟» قالوا إحدى خالاتك . قال : «وَمَنْ هِيَ؟» قالوا هي خالدة بنت الأَسْوَد بن عَبْد يغوث . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ " ، وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافراً . ثم قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء ، فكأنه يقول : ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء . كما قال تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ويقال : من غير أن يحاسبه في الإعطاء . ويقال : بغير تقتير . ويقال : بغير حساب كما قال ويرزقه من حيث لا يحتسب .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
ثم قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت في شأن المنافقين عبد الله بن أَبيّ ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق ، وكانوا قد أظهروا الإيمان ، وكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة ، ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال مقاتل : نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } ، فهذا نهي بلفظ المغايبة ، يعني لا يتخذونهم أولياء في العون والنصرة { مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء } يعني ليس في ولاية الله من شيء . ويقال : ليس في دين الله من شيء ، لأن ولي الكافر يكون راضياً بكفره ، ومن كان راضياً بكفره ، فهو كافر مثله كقوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } [ امائدة : 51 ] .
ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين ، ربما يُبْتَلون في أيدي الكفار فقال تعالى : { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } . قرأ يعقوب الحضرمي تقية ، وقراءة العامة تقاة ، ومعناهما واحد ، يعني يرضيهم بلسانه ، وقلبه مطمئن الإيمان ، فلا إثم عليه كما قال الله تعالى في آية أخرى { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] قرأ حمزة والكسائي { تقاة } بالإمالة . وقرأ الباقون بتفخيم الألف ثم قال : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } يعني يخوّفكم الله بعقوبته ، أي الذي يتخذ الكافر وليّاً بغير ضرورة ، وهذا وعيد لهم . ويقال : إذا كان الوعيد مبهماً ، فهو أشد ثم قال تعالى : { وإلى الله المصير } أي مرجعكم في الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ } يقول : إن تسروا ما في قلوبكم من النكوث ، وولاية الكفار { أَوْ تُبْدُوهُ } يعني تعلنوه للمؤمنين { يَعْلَمْهُ الله } لأن الله عليم { وَيَعْلَمُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } من عمل ، فليس يخفى عليه شيء { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من السر والعلانية ، والعذاب والمغفرة قدير { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } في الدنيا { مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } يعني تجد ثوابه حاضراً ، ولا ينقص من ثواب عمله شيء { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } يعني من شر في الدنيا { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } يعني تتمنى النفس أن تكون بينها ، وبين ذلك العمل أجلاً بعيداً ، كما بين المشرق والمغرب ، ولم تعمل ذلك العمل قط ثم قال : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي عقوبته في عمل السوء { والله رَءوفٌ بالعباد } قال ابن عباس : يعني بالمؤمنين خاصة ، وهو رحيم بهم .
ويقال : رؤوف بالذين يعملون السوء ، حيث لم يعجّل بعقوبتهم . ويقال : ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } ، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله { والله رَءوفٌ بالعباد } .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
ثم قال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام ، قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأبناء ، ولنحن أشدّ حباً لله . فقال الله لنبيه : قل إن كنتم تحبون الله تعالى : { فاتبعونى } على ديني ، فإني رسول الله أؤدي رسالته { يُحْبِبْكُمُ الله } .
قال الزجاج : تحبون الله ، أي تقصدون طاعته ، فافعلوا ما أمركم الله عز وجل ، لأن محبة الإنسان لله وللرسول طاعته له ، ورضاه بما أمر ، والمحبة من الله عفوه عنهم ، وإنعامه عليهم برحمته . { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ويقال : الحب من الله عصمته وتوفيقه ، والحب من العباد طاعة كما قال القائل :
تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه ... هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَه ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ
فلما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً ، كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فنزلت هذه الآية : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } فقرن طاعته بطاعة رسوله رغماً لهم ، ويقال : أطيعوا الله فيما أنزل ، والرسول فيما بَيّن { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني إن أعرضوا عن طاعتهما { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أي لا يغفر لهم .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{ إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم } يعني اختاره ويقال : اختار دينه ، وهو دين الإسلام .
ويقال : قد اختاره لخمسة أشياء : أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته . والثاني أنه علّمه الأسماء كلها . والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له . والرابع أسكنه الجنة . والخامس جعله أباً للبشر ، واختار نوحاً عليه السلام بخمسة أشياء : أولها أنه جعله أباً للبشر ، لأن الناس كلهم غرقوا ، فصارت ذريته هم الباقين . والثاني أنه أطال عمره . ويقال : طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمرهُ ، وحَسُن عَمَلُهُ . والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين . والرابع أنه حمله على السفينة . والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع ، وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات ، واختار آل إبراهيم عليه السلام بخمسة أشياء : أولها أنه جعله أبا الأنبياء ، لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني أنه اتخذه خليلاً ، والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماماً ، والخامس أنه ابتلاه الله بخمس كلمات ، بكلمات ، فوفقه حتى أتمَّهن ثم قال : { إِنَّ الله } قال مقاتل : يعني به أبا موسى وهارون . وقال الكلبي : هو عمران أبو مريم ، وهو من ولد سليمان النبي عليه السلام فإنه أراد به آل موسى وهارون ، إنما كان اختارهما على العالمين ، حيث بعث على قومه المن والسلوى ، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء في العالم ، وإن أراد به أبا مريم ، فإنه اصطفى آله ، يعني مريم بولادة عيسى عليه السلام بغير أب ، ولم يكن ذلك لأحد في العالم . وقال الكلبي : يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية { عَلَى العالمين } يعني عالمي زمانهم .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
ثم قال تعالى : { ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي بعضهم على إثر بعض . ويقال : بعضهم على دين بعض . { والله سَمِيعٌ } لقولهم عليم بهم وبدينهم . ويقال : قوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، انصرف إلى ما بعده ، أي سميع بقول امرأة عمران { إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان ، وذلك أنها لما حبلت ، قالت : لئن نجَّانِي الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرَّراً ، والمحرر من لا يعمل للدنيا ، ولا يتزوج ، ويتفرغ لعمل الآخرة ، ويلزم المحراب ، فيعبد الله تعالى فيه ، وهذا قول مقاتل .
وقال الكلبي : محرراً ، أي خادماً لبيت المقدس ، ولم يكن محرراً إلا الغلمان . فقال لها زوجها : إن كان الذي في بطنك أنثى ، والأنثى عورة ، فكيف تصنعين؟ فاهتمت بذلك وقالت : يا { رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } وأنت تعلم { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } السميع لدعائي العليم بنيتي ، وما في بطني { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } أي ولدت فإذا هي أنثى { قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } يعني ولدتها جارية { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ، والله أعلم بما وَضَعْتُ ، بجزم العين ، وضم التاء ، يعني أن المرأة قالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ ، والباقون بنصب العين وسكون التاء ، فيكون هذا قول الله إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة . ثم قال تعالى : { وَلَيْسَ الذكر كالانثى } في الخدمة .
قال بعضهم : هذا قول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وليس الذكر كالأنثى يا محمد . وقال بعضهم : هي كلمة المرأة ، أنها قالت : وليس الذكر كالأنثى في الخدمة . وقال مقاتل : فيها تقديم ، فكأنه يقول : قالت رب إني وَضعَتُهَا أُنْثى ، وليس الذكر كالأنثى ، والله أعلم بما وضعت ، ثم قالت : { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الرب بلغتهم { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ } يعني أعصمها وأمنعها بك { وَذُرّيَّتَهَا } إن كان لها ذرية { مِنَ الشيطان الرجيم } يعني الملعون . ويقال : المطرود من رحمة الله . ويقال : الرجيم بمعنى المرجوم كما قال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } ر ز س [ الملك : 5 ] .
حدثنا أبو الليث ، قال : حدثنا الخليل بن أحمد القاضي . قال : حدثنا أبو العباس قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا مِنْ مَوُلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَنْخَسُهُ حِينَ يُولَدُ ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخَاً مِنْ الشَّيْطَانِ ، إلاَّ مَرْيَمَ وَاْبْنَها عِيسَى عَلَيْهِما السَّلامُ » ، قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } وقال الزجاج : معنى قوله { إِذْ } يعني إن الله اختار آل عمران ، { إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } : واصطفاهم ، إذ قالت الملائكة .
وقال أبو عبيدة : معناه قالت امرأة عمران ، وقالت الملائكة و«إذ» زيادة . وقال الأخفش : معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران ، واذكر إذ قالت الملائكة ، وقال أهل اللغة : المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد ، ثم إن حنة لفتها في خرق ، ثم وضعتها في بيت المقدس عند المحراب ، فاجتمعت القراء ، أي الزهاد فقال زكريا : أنا أحق بها ، لأن خالتها عندي . فقال القُرّاء : إن هذه محررة ، فلو تركت لخالتها ، فكانت أمها أحق بها ، ولكن نتساهم ، فخرجوا إلى عين سلوان ، فأَلْقَوْا أقلامهم في النهر . قال بعضهم : كانت أقلامهم من الشَّبَّة ، فغابت أقلامهم في الماء ، وبقي قلم زكريا على وجه الماء . وقال بعضهم كانت أقلامهم من قَصَب ، فبقيت أقلامهم على وجه الماء ، وغاب قلم زكريا في الماء . وقال بعضهم : أَلْقَوْا أَقلامهم في النهر ، فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا ، فإنه جرى من الجانب الأعلى ، فعلموا أن الحق له ، فضمّها إلى نفسه فذلك قوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي تقبل منها نَذْرها { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } وقال مجاهد غذاها غذاء حسناً ، ورباها تربية حسنة { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتشديد ، أي كفلها الله إلى زكريا . وقرأ الباقون بالتخفيف ، أي ضمها زكريا إلى نفسه ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية حفص زكريا بغير إعراب ، وجزم الألف . وقرأ الباقون بالإعراب والمد ، وهما لغتان معروفتان عند العرب ، فمن قرأ كفلها بالتشديد ، قرأ زكريا بنصب الألف ، لأنه يصير مفعولاً ، ومن قرأ كفلها بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل .
وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محراباً في غرفة ، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط ، لا يصعد إليها إلا بسلم ، واستأجر ظئراً ، فكان يغلق عليها الباب ، وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله ، فتكون عند خالتها ، وكانت خالتها امرأة زكريا . وهذا قول الكلبي .
وقال مقاتل : كانت أختها امرأة زكريا ، وكانت إذا طهرت من حيضها ، واغتسلت ردها إلى المحراب . وقال بعضهم : كانت لا تحيض ، وكانت مطهرة من الحيض ، وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء ، رأى عندها فاكهة الصيف ، وإذا دخل عليها في أيام الصيف ، وجد عندها فاكهة الشتاء ، وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة ، إذا رأى الفاكهة في غير أوانها ، وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين ، فذلك قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } ويقال : المحراب في اللغة أشرف المجالس ، وهو المكان العالي ، وقد قيل : إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف { قَالَ } لها زكريا { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } يعني : من أين لك هذا؟ فإنه لا يدخل عليك أحد غيري { فَقَالَتْ } مريم { هُوَ } أي هذا الرزق { مِنْ عِندِ الله } أي من فضل الله { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } في غير حينه . ويقال : من حيث لا يحتسب .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } يقول عند ذلك طمع في الولد ، وكان آيساً من ذلك ، وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه ، وقد صار ذلك بيده ، وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات . فقال عند ذلك : إن الله قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف ، وبرزق الصيف في الشتاء ، فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } { قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } أي من عندك { ذُرّيَّةً طَيّبَةً } أي من عندك تقية مهذبة . ويقال : مستوي الخلق . ويقال : مسلمة مطيعة . ويقال : تقية { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء } أي مجيب له .
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{ فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى المحراب } قرأ حمزة والكسائي بالياء ، أي جبريل عليه السلام وإنما صار مذكراً على معنى الجنس ، كما يقال : فلان ركب السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وقرأ الباقون ، فنادته على معنى التأنيث ، لأن اللفظ لفظ الجماعة ، والمراد به أيضاً جبريل { أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى } قرأ حمزة وابن عامر : إن الله يبشرك ، بكسر الألف ، ومعناه : فنادته الملائكة . وقالوا له : إن الله يبشرك . وقرأ الباقون بالنصب ، ومعناه : فنادته الملائكة ، بأن الله يبشرك بيحيى قال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى ، والله تعالى حي ، فسماه الله تعالى يحيى ، ويقال : لأنه أحيا به رحم أمه . ويقال : لأنه حي به المجالس . ويقال غير ذلك { بيحيى } ، بأن الله يحييه ، فيكون حياً عند الله أبداً ، لأنه شهيد قال الله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ثم قال تعالى : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } يعني بعيسى عليه السلام وكان يحيى أول من صدق بعيسى عليهما السلام ، وهو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله وروحه ، فلما شهد بذلك يحيى ، عجب بنو إسرائيل لصغره ، فلما شهد سمع زكريا شهادته ، فقام إلى عيسى ، فضمه إليه ، وهو في خرقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين . وقال بعضهم صدقه وهو في بطن أمه ، كانت أم يحيى عند مريم ، إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى ، وكل واحد منهما كان في بطن أمه ، وذلك قوله مصدقاً بكلمة من الله { وَسَيّدًا } يعني حكيماً { وَحَصُورًا } يعني لا يأتي النساء ، وهو قول الكلبي . وقال سعيد بن جبير : السيد الذي يملك غضبه ، والحصور الذي لا يأتي النساء .
وقال مقاتل : يعني لا ماء له ، يعني أن يحيى لم يكن له ماء في الصلب . وقال بعضهم : هذا لا يصح ، لأن العنة عيب بالرجال ، والنبي لا يكن معيباً ، ولكن معناه أنه كان مانعاً نفسه من الشهوات ، لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته ، كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له ، ثم قال تعالى : { وَنَبِيّا مّنَ الصالحين } يعني أن يحيى كان نبياً من الصالحين ، فلما بشره جبريل بذلك { قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام } قال ذلك على وجه التعجب ، لا على وجه الشك ، قال لجبريل : رب أي يا سيِّدي من أين يكون لي غلام؟ يعني ولد ، وهذا قول الكلبي .
وقال بعضهم قوله رب ، يعني قال : يا الله على وجه الدعاء ، يا رب من أين يكون لي ولد؟ { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } قال القتبي : هذا من المقلوب ، يعني بلغت الكبر . وقال الكلبي : كان يوم بشر ابن تسعين سنة ، وامرأته قريبة في السن منه . وقال الضحاك : كان ابن مائة وعشرين سنة ، فذلك قوله ، { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } أي الهرم { وامرأتى عَاقِرٌ } لا تلد { قَالَ كذلك } قال بعضهم : تم الكلام عند قوله كذلك ، يعني هكذا كما قلت : إنه قد بلغك الكبر ، وامرأتك عاقر ثم قال تعالى : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } وقال بعضهم : معناه . قال : كذلك يعني الله تعالى هكذا قال : أنه يكون لك ولد ، والله يفعل ما يشاء ، إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر ، وإن شاء في حال الكبر .
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
ثم قال تعالى : { قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف { قَالَ رَبّ } يعني علامة الحبل { أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ } يعني أنك تصبح ، فلا تطيق الكلام ثلاثة أيام { إِلاَّ رَمْزًا } أي كلاماً خَفِيّاً . ويقال : الرمز بالشفتين والحاجبين ، والإيماء باليد والرأس .
قال بعضهم : كان منع الكلام عقوبة له ، لأنه بُشِّر بالولد ، فسأل آية فحبس الله لسانه عن الناس ثلاثة أيام ، ولم يحبسه عن ذكر الله ، وعن الصلاة . وقال بعضهم : لم يكن عقوبة ، ولكن كانت كرامة له ، حين جعلت له علامة لظهور الحبل ، ومعجزة له . وروى أسباط عن السدي أنه قال : لما بُشِّر بيحيى قال له الشيطان : إن النداء الذي سمعت بالبشارة من الشيطان ، ولو كان من الله ، لأوحى إليك ، كما أوحى إلى سائر الأنبياء . فقال عند ذلك : اجْعَل لي آية ، حتى أعلم أن هذه البشارة منك . قال : { أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ } .
وقال في آية أخرى : { قَالَ رَبِّ اجعل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] ، يعني أنك مستوي الخَلْق ، ولا علة بك ، ثم أمره بذكر ربه ، لأن لسانه لم يمنع عن ذكر الله تعالى فقال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشى والإبكار } يعني بالغداة والعَشِيِّ ويقال بالليل والنهار .
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ وَإِذْ قَالَتِ الملئكة } يعني جبريل { الملئكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك } يعني اختارك بالإسلام { وَطَهَّرَكِ } من الذنوب والفواحش . ويقال : من دم الحيض والنفاس { واصطفاك على نِسَاء العالمين } يعني بولادة عيسى بغير أب .
وقال بعضهم : اصطفاك أي فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها { العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ } يعني أطيعي . ويقال : أطيلي القيام في الصلاة . وقال مجاهد : قامت في الصلاة حتى تورَّمَتْ قدماها ، ونحل جسمها . ثم قال تعالى : { واسجدى واركعى مَعَ الركعين } أي مع المسلمين ، يعني مع قراء بيت المقدس .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قوله { ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب } يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب ، مما غاب عنك خبره ، ولم تكن حاضراً ، وفي الآية دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ، ولم يكن قرأ الكتب ، وأخبر عن ذلك ، وصدقه أهل الكتاب بذلك ، فذلك قوله تعالى : { ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } يعني لم تكن عندهم ، وإنما تخبر عن الوحي . فقال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في أمر مريم { إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم } يعني جبريل عليه السلام وحده { إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } قرأ نافع وعاصم وابن عامر { يُبَشّرُكِ } بالتشديد في جميع القرآن .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في حم ، عسق { ذَلِكَ الذى يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } [ الشورى : 23 ] بالتخفيف ، وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] ووافقه الكسائي في بعضها ، فمن قرأ بالتشديد ، فهو من المباشرة ، ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه يفرحك ، وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض ، ودخلت المغتسل كما قال في سورة مريم ، { واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] ، يعني أرادت أن تغتسل في جنب المشرفة ، فلما دخلت المغتسل ، رأت بشراً كهيئة الإنسان كما قال { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] ، فخافت مريم ، ثم قالت : { قَالَتْ إنى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] ، لأن التقي يخاف الرحمن . فقال لها جبريل : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] ، وذكرها هنا بلفظ آخر . ومعناه واحد قال : { إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة وَمِنَ المقربين } [ آل عمران : 45 ] ، أي بولد بغير أب يصير مخلوقاً بكلمة من الله ، وهو قوله كن فكان { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ويقال إنما سمي المسيح ، لأنه يسيح في الأرض . ويقال : المسيح بمعنى الماسح ، كان يمسح وجه الأعمى فيبصر .
وقال الكلبي : المسيح الملك . ثم قال { وَجِيهاً } أي ذا جاه { فِى الدنيا والاخرة } له منزلة { فِى الاخرة } وقال مقاتل : فيها تقديم يعني وجيهاً في الدنيا { وَمِنَ المقربين } في الآخرة عند ربه . وقال الكلبي : { وَجِيهًا فِي الدنيا } يعني في أهل الدنيا بالمنزلة ، { وَفِي الاخرة مِنَ المقربين } في جنة عدن { وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } أي في حال صغره ، وهو طفل في حجر أمه طفلاً وكهلاً ، يعني إذا اجتمع عقله وكبر ، فإن قيل : ما معنى قوله كهلاً؟ والكلام من الكهل لا يكون عجباً .
قيل له : المراد منه كلام الحكمة والعبرة . ويقال : كهلاً بعد نزوله من السماء ، وهو قول الكلبي { وَمِنَ الصالحين } مع آبائه في الجنة { قَالَتْ } مريم { رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ } يعني من أين يكون لي ولد { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } وهو كناية عن الجماع ف { قَالَ } جبريل { كذلك } يعني هكذا كما قلت أنه لم يمسسك بشر ولكن { الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا } يعني إذا أراد أن يخلق خَلْقاً { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فنفخ جبريل في جيبها ، يعني في نفسها قال بعضهم : وقع نفخ جبريل في رحمها ، فعلقت بذلك . وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل ، لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة ، وبعضه من الإنس ، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وأخذ الميثاق من ذريته ، فجعل بعضهم في أصلاب الآباء ، وبعضهم في أرحام الأمهات ، فإذا اجتمع الماءان صار ولداً ، وإن الله تعالى جعل المَاءَيْن جميعاً في مريم ، بعضه في رحمها ، وبعضه في صلبها ، فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها ، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها ، لا تحبل ، فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل ، وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها ، فاختلط الماءان فعلقت بذلك ، فذلك قوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا } ، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً سبحانه ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } بغير أب ، ثم قال تعالى : { وَيُعَلّمُهُ الكتاب } قرأ نافع وعاصم { وَيُعَلّمُهُ } بالياء يعني أن الله يعلمه ، وقرأ الباقون بالنون ، ومعناه أن الله يقول ونعلمه { الكتاب } يعني كتب الأنبياء . وهذا قول الكلبي .
وقال مقاتل : يعني الخط والكتابة ، فعلّمه الله بالوحي والإلهام { والحكمة } يعني الفقه { والتوراة والإنجيل } يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه . وقال بعضهم : وهو عالم بالتوراة . وقال بعضهم : ألهمه الله بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة .
ثم قال : { وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل } نصب رسولاً لمعنيين : أحدهما يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، والثاني ويكلم الناس ورسولاً . أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وذكر الزجاج فالمعنى والله أعلم ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم . ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر ، حيث قال لقومه : إني قد جئتكم بآية من ربكم ، يعني علامة لنبوتي ، ثم بيّن العلامة فقال : { أَنِى أَخْلُقُ } أي أقدر { لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله } ويقال : إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له : اخلق لنا خفَّاشاً ، واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك ، فأخذ طيناً ، وجعل منه خفاشاً ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، فكأن تسوية الطين ، والنفخ من عيسى عليه السلام والخلق من الله عز وجل كما أن النفخ من جبريل عليه السلام والخلق من الله عز وجل ويقال : إنما طلبوا منه خلق خفاش ، لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ، ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور ، ويكون له ضرع يخرج منه لبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة ، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا .
وقالوا : هذا سِحْر .
ثم قال تعالى : { وَأُبْرِىء الاكمه والابرص } الأكمه الذي ولد أعمى فقالوا : إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا ، فذهبوا إلى جالينوس ، وأخبروه بذلك فقال جالينوس : إذا ولد أعمى ، لا يبصر بالعلاج ، والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج ، فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاؤوا بالأكمه والأبرص ، فمسح يده عليهما ، فأبصر الأعمى ، وبرأ الأبرص ، فآمن به بعضهم ، وجَحَد بعضهم . وقالوا : هذا سِحْر . ثم قال تعالى : { وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل } فأَخْبَروا بذلك جالينوس . فقال : الميت لا يعيش ، ولا يحيى بالعلاج ، فإن كان هو يحيي الموتى ، فهو نبي ، وليس بطبيب ، فطلبوا منه أن يحيي الموتى ، فأحيا أربعة نفر ، أحدهم عازر ، وكان صديقاً له ، فبلغه أنه مات ، فذهب مع أصحابه ، وقد دفن ، وأتى عليه أيام ، فدعا الله ، فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر ، فعاش وَوُلد له . والثاني ابن العجوز ، مَرّ به وهو يحمل على سرير ، فدعا الله ، فقام بإذن الله تعالى ، ولبس ثيابه ، وحمل السرير على عنقه ، ورجع إلى أهله . والثالث ابنة من بنات العاشر ماتت ، وأتى عليها ليلة ، فدعا الله تعالى ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها . والرابع سام بن نوح ، لأن القوم قالوا له : إنك تحيي من كان موته قريباً ، فلعلهم لم يموتوا ، وأصابتهم سكتة ، فأحيي لنا سام بن نوح . فقال : دلوني على قبره ، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره ، فدعا الله تعالى ، فأحياه وخرج من قبره قد شابت رأسه . فقال له عيسى : كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال : يا روح الله إنك لما دعوتني ، سمعت صوتاً يقول أَجِبْ روحَ الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن ذلك الهول شابت رأسي ، فسأله عن النَّزْع .
فقال له : يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، ثم قال للقوم : صدقوه فإنه نبي الله ، فآمن به بعضهم ، وكذب به بعضهم . وقالوا : هذا ساحر ، فأرنا آية نعلم أنك صادق ، فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وما نَدَّخر للغد ، فأخبرهم . فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا ، وادّخرت كذا وكذا ، فذلك قوله عز وجل : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر .
ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه ، وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه ، فكان في زمن موسى عليه السلام الغالب عليهم السحر ، فبيَّن لهم من جنس ذلك ، ليعرفوا أن ذلك ليس بِسِحْر ، وأنه من الله تعالى ، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام علم الطب ، فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه ، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب ، وكان في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والشعر ، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله .
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ } يعني فيما صنع عيسى عليه السلام علامة لنبوته { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين أنه نبي ، قرأ نافع : فيكون طائراً ، وكذلك في سورة المائدة . وقرأ الباقون بغير ألف ، ومعناهما واحد . ويقال : الطائر واحد ، والطير جماعة . ثم قال : { وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } ومعناه جئتكم مصدقاً ، يعني الكتاب الذي أنزل عليّ ، وهو الإنجيل مُصَدِّقاً ، أي موافقاً لما بين يدي من التوراة { وَلاِحِلَّ لَكُم } يعني أرخص لكم { بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } مثل الشحوم ، ولحوم الإبل ، ولحم كل ذي ظفر ، وأما الميت ، ولحم الخنزير ، فهو حرام أبداً . قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } يعني أني لم أحل لكم شيئاً بغير برهان ، فحقيق عليكم اتباعي ، لأني أتيتكم ببرهان ، وأتيتكم بتحليل الطيبات { فاتقوا الله } فيما أمركم ونهاكم { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم وأنهاكم ، وأنصح لكم { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا : إن الله هو المسيح . وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، فاعترف عيسى أنه عبد الله ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } أي خالقي وخالقكم ، ورازقي ورازقكم ، فاعبدوه ، أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم ، لا عوج فيه ، وهو طريق الجنة .