كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله عز وجل : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من الأمور وهو على حماره ، فبال الحمار وهو راكب عليه يكلم الأنصار . فقال عبد الله بن أُبيّ المنافق : خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار ، ثم قال : أف . وأمسك على أنفه فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قوله ، فانصرف عبد الله بن رواحة . فقال : اتقوا هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لبوله أطيب ريحاً منك . فاقتتلا فاجتمع قوم ابن رواحة وهم الأوس ، وقوم عبد الله بن أبي وهم الخزرج ، فكان بينهم ضرب النعال ، والأيدي ، والسعف ، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم . فأنزل الله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } بالعدل فكره بعضهم الصلح ، فأنزل قوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الاخرى } يعني : استطالت فلم ترجع إلى الصُّلح { فقاتلوا التى تَبْغِى } يعني : تظلم { حتى تَفِىء إلى أَمْرِ الله } يعني : ترجع إلى ما أمر الله عز وجل . وروى أسباط عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد ، فأبغضت زوجها ، وأرادت أن تلحق بأهلها ، وكان قد جعلها في غرفة له ، وأمر أهله أن يحفظوها ، وخرج إلى حاجة له ، فأرسلت إلى أهلها ، فجاء ناس من أهلها ، وأرادوا أن يذهبوا بها ، فاقتتلوا بالنعال ، والتلاطم . فنزل قوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } الآية . ثم صارت الآية عامة في جميع المسلمين . إذا اقتتل فريقان من المسلمين ، وجب على المؤمنين الإصلاح بين الفريقين . فإن ظهر أن أحد الفريقين ظالم ، فإنه يقاتل ذلك الفريق حتى يرجع إلى حكم الله .
ثم قال : { فَإِن فَاءتْ } يعني : رجعت إلى الصلح { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } يعني : بالحق { وَأَقْسِطُواْ } يعني : اعدلوا بين الفريقين ، ولا تميلوا { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } يعني : العادلين .
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } يعني : كالأخوة في التعاون لأنهم على دين واحد . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « المُؤْمِنَ للمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعْضاً » وَرُوي عنه أنه قال : « المُؤْمِنُونَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِر الأَعْضَاءِ إِلَى الحُمَّى وَالسَّهَرِ » .
ثم قال : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني : الفريقين من المؤمنين مثل الأوس والخزرج . { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } قرأ ابن سيرين : إِخْوَانِكُم بالنون . وقرأ يعقوب الحضرمي : بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ بالتاء . يعني : جمع الأخ . وقراءة العامة { أَخَوَيْكُمْ } بالياء على تثنية الأخ . يعني : بين كل أخوين .
ثم قال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يعني : اخشوا الله عز وجل ، ولا تعصوه ، لكي ترحموا ، فلا تعذبوا .
قوله عز وجل : { تُرْحَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ } يعني : لا يستهزىء الرجل من أخيه . وقال بعضهم : الآية نزلت في ثابت بن قيس ، حيث عيّر الذي لم يوسع له في المكان ، وقال بعضهم : الآية نزلت في الذين ينادونه من وراء الحجرات . استهزؤوا من ضعفاء المسلمين ، { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } يعني : أفضل منهم ، وأكرم على الله تعالى { وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء } يعني : لا تستهزىء امرأة من امرأة ، وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة { عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ } يعني : أفضل . ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء ، فلا يجوز أحد أن يسخر من صاحبه ، أو من أحد من خلق الله تعالى . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أكون مثله .
ثم قال : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : لا يطعن بعضكم بعضاً . وقال القتبي : ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم كما قال : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] . يعني : بأمثالهم .
ثم قال : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب } يعني : لا تسموا باللقب . وقال محمد بن كعب القرظي : هو الرجل يكون على دين من الأديان ، فيسلم ، فيدعونه بدينه الأول : يا يهودي ، ويا نصراني . ويقال : لا تعيروا المسلم بالملة التي كان عليها ، ولا تسموه بغير دين الإسلام . وقال أهل اللغة : الألقاب والأنباز واحد . ومنه قيل في الحديث : « قومٌ نَبْزُهُمُ الرَّافِضَةُ » أي : لقبهم { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب } أي : لا تداعوا بها . ويقال : هو اللقب الذي يكرهه الرجل . يعني : أنه ينبغي للمؤمن أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه . وقرأ بعضهم { وَلاَ تَلْمِزُواْ } بضم الميم . وقراءة العامة : بالكسر ، وهما لغتان . يقال : لمز فلان فلاناً ، يلمز ويلمزه إذا عابه . وذكر في التفسير أن الآية نزلت في مالك بن أبي مالك ، وعبد الله بن أبي حدرد ، وذلك أن أبا مالك كان على المقاسم . فقال لعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي : يا أعرابي . فقال له عبد الله : يا يهودي . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلا عليه ، حتى تظهر توبتهما ، فنزل { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان } يعني : بئس التسمية لإخوانكم بالكفر وهم مؤمنون { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } من قوله { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } فأوثقا أنفسهما حتى قبلت توبتهما .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله عز وجل : { الظالمون ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } يعني : لا تحققوا الظن { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } يعني : معصية أي : إِنَّ ظن السوء بالمسلم معصية . وقال سفيان الثوري : الظن ظنان . ظن فيه إثم ، وظن لا إثم فيه . فالظن الذي فيه إثم ، أن يظن ويتكلم به . وأما الظن الذي لا إثم فيه ، فهو أن يظن ، ولا يتكلم به ، لأنه قال : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } ولم يقل : جميع الظن إثم .
ثم قال : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } يعني : لا تطلبوا ، ولا تبحثوا عن عيب أخيكم { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } روى أسباط عن السدي قال : كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر ، فنزلوا منزلاً ، فضربوا خيامهم ، وصنعوا طعامهم ، ونام سلمان ، فقال بعض القوم لبعض : ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياماً مضروبة ، وطعاماً مصنوعاً ، فلما استيقظ سلمان ، قالوا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتمس لنا إداماً نأتدم به . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : « أَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ ائْتَدَمُوا » . فأخبرهم . فقالوا : ما طعمنا بعد ، وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتوه ، فقال : « ائْتَدَمْتُمْ مِنْ صَاحِبِكُمْ ، حِينَ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ نَائِمٌ » ثم قرأ : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } يعني : فكما تكرهون أكل لحمه ميتاً ، فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب . ويقال : كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكان يطبخ لهما ، فنزلوا منزلاً ، فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام ، فبعثاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر عنده شيئاً من الطعام ، فقال أسامة : لم يبق عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الطعام ، فرجع إليهما ، فقالا : إنه لو ذهب إلى بئر كذا ، ليبس ماؤها ، فنزلت هذه الآية . ويقال : نزلت في شأن زيد بن ثابت ، وذلك أن نفراً ذكروا فيه شيئاً ، فنزل : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } قرأ نافع : مَيِّتاً بتشديد الياء ، والخفض . والباقون بالجزم . وقال أهل اللغة : الميت . والميت واحد مثل ضيق وضيّق ، وهين وهيّن ، ولين وليّن .
ثم قال : { واتقوا الله } في الغيبة ، وتوبوا إليه { إِنَّ الله تَوَّابٌ } يعني : قابل التوبة { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة .
قوله تعالى : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } قال مقاتل : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، أمر بلالاً ليؤذن . فقال الحارث بن هشام . أما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا الغراب . يعني : بلال . فنزل { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } { إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } يعني : آدم وحواء { وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ } يعني : رؤوس القبائل ، مثل مضر ، وربيعة { وَقَبَائِلَ } يعني : الأفخاذ مثل بني سعد ، وبني عامر .
{ لتعارفوا } في النسب { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } يعني : وإن كان عبداً حبشياً أسود مثل بلال . وقال في رواية الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس ، كان في أذنيه ثقل ، وكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يوماً واحداً وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء فتخطى رقابهم حتى جلس قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رجل من القوم : هذا يتخطى رقابنا ، فلم لا يجلس حيث وجد المكان؟ فقال ثابت : من هذا؟ فقالوا : فلان . فقال ثابت : يا ابن فلانة ، وكان يعيّر بأمه ، فخجل . فنزلت هذه الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ عَيَّرَ فُلاناً بِأُمِّهِ » فقال ثابت بن قيس : أنا قد ذكرت شيئاً . فقرأ هذه الآية عليه ، فاستغفر ثابت . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : القبائل ، والأفخاذ : الصغار ، والشعوب : الجمهور مثل مضر . وقال الضحاك : الشعوب : الأفخاذ الصغار ، والقبائل مثل بني تميم ، وبني أسد . وقال القتبي : الشعوب أكثر من القبيلة . وقال الزجاج : الشعب أعظم من القبيلة ، ومعناه : إني لم أخلقكم شعوباً وقبائل لتتفاخروا ، وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، يقولُ الله عَزَّ وَجَلَّ : إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ لأنْفُسِكُمْ نَسَباً ، وَجَعَلْتُ لِنَفْسِي نَسَباً ، فَرفَعْتُم نَسَبَكُم ، وَوَضَعْتُمْ نَسَبي ، فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي ، وَأَضَعُ نَسَبَكُم . يعني : قلت : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } وقلتم : أنتم فلان وفلان » .
ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأتقيائكم { خَبِيرٌ } بافتخاركم { قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا } قال ابن عباس : نزلت في بني أسد ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قحط أصابهم ، فجاؤوا بأهاليهم ، وذراريهم ، يطلبون الصدقة ، وأظهروا الإسلام ، وقالوا : يا رسول الله نحن أسلمنا طوعاً ، وقدمنا بأهالينا ، فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا . ويقال : كانت قبيلتان جهينة ، ومزينة ، قدموا بأهاليهم . فنزلت الآية { قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا } يعني : صدقنا { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } يعني : لم تصدقوا في السر ، كما صدقتم في العلانية { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } يعني : دخلنا في الانقياد ، والخضوع . ويقال : استسلمنا مخافة القتل والسبي { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } يعني : التصديق . ويقال : لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في السر ، كما تطيعونه في العلانية { لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم شَيْئاً } يعني : لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً . قرأ أبو عمرو : { لا } بالألف والهمز . والباقون : { وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ } بغير ألف ولا همز . ومعناهما واحد يقال : لاته يلته وألته يألته إذا نقص حقه { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لو صدقوا بقلوبهم ، ثم بيّن الله عز وجل لهم من المصدق .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
فقال عز وجل : { إِنَّمَا المؤمنون } يعني : المصدقون في إيمانهم { الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } يعني : لم يشكوا في إيمانهم { وجاهدوا } الأعداء { بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } أي : في طاعة الله { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } في إيمانهم . فلما نزلت هذه الآية ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلفوا بالله أنهم لمصدقوه في السر ، فنزل : { قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } الذي أنتم عليه { والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } يعني : سر أهل السموات ، وسر أهل الأرض { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } أي : يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره .
قوله عز وجل : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } يعني : بقولهم جئناك بأهالينا ، وأولادنا { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان } يعني : وفقكم للإيمان { إِن كُنتُمْ } بأنكم مخلصون في السر ، والعلانية .
قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } يعني : سر أهل السموات ، وسر أهل الأرض . { والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، في رواية إبان { يَعْمَلُونَ } بالياء على معنى الخبر عنهم . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة . أي : بصير بما يعملون من التصديق وغيره ، والخير ، والشر ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
قوله تبارك وتعالى : { ق } قال قتادة : هو اسم من أسماء الله تعالى ، كقوله : قادر ، وقاهر . ويقال : هو اسم من أسماء القرآن . وقال مجاهد : هو افتتاح السورة . وقال بعضهم : { ق } يعني : قضي الأمر كما قال في { حم } حم الأمر ، والدليل عليه قول الشاعر
فقلت لها قفي قالت قاف ... يعني : وقفت فذكر القاف ، وأراد به تمام الكلام . وقال ابن عباس : هو جبل من زمردة خضراء ، محيط بالعالم ، فخضرة السماء منها ، وهي من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من وراءه ، والحجاب دون { ق } بمسيرة سنة ، وما بينهما ظلمة ، وأطراف السماء ملتصقة بها . ويقال : خضرة السماء من ذلك الجبل . ويقال : { ق } يعني : إن الله عز وجل قائم بالقسط .
ثم قال : { ق والقرءان } يعني : الشريف . وقال الضحاك : هو جبل محدق بالدنيا ، من زبرجدة خضراء ، وخضرة السماء منها ، ليس في الأرض بلدة من البلدان ، ولا مدينة من المدائن ، ولا قرية من القرى ، إلا وفيها عرق من عروقها ، وملك موكل عليها ، واضع كفه بها . فإذا أراد الله عز وجل بقوم هلاكهم ، أوحى الله عز وجل إلى ذلك الملك ، فحرك منها عرقاً ، فخسف بهم ، فأقسم الله عز وجل بقاف { ق والقرءان } يعني : الشريف ، إنكم لمبعوثون يوم القيامة ، لأن أهل مكة أنكروا البعث ، فصار جواب القسم مضمراً فيه ، وهو ما ذكرناه إنكم مبعوثون . ويجوز أن يكون جواب القسم { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] فيكون معناه : { ق والقرءان المجيد } لقد علمنا ما تنقص الأرض ، فحذف اللام ، لأن ما قبلها عوض عنها كما قال { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } [ الشمس : 9 ] يعني : لقد أفلح . وقال القتبي : هذا من الاختصار ، فكأنه قال : { ق والقرءان المجيد } لتبعثن .
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } يعني : من أهل مكة { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عَجِيبٌ } يعني : أمر عجيب أن يكون محمد رسولاً ، وهو من نسبهم .
قوله تعالى : { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } بعد الموت ، نجدد بعدما متنا ، نصير خلقاً جديداً ، { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } يعني : رد طويل لا يكون أبداً . ويقال : رجع يرجع رجعاً إذا رجعه غيره ، ورجع يرجع رجوعاً إذا رجع بنفسه ، كقوله : صد يصد صدوداً ، وصد يصد صداً ، { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } أي : ذلك صرف بعيد .
قوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ } يعني : ما تأكل الأرض من لحومهم ، وعروقهم ، وما بقي منهم ، ويقال : تأكل الأرض جميع البدن إلا العصعص ، وهو عجب الذنب ، وذلك العظم آخر ما يبقى من البدن . فأول ما يعود ، ذلك العظم ويركب عليه سائر البدن { وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ } يعني : اللوح المحفوظ .
قوله عز وجل : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق } يعني : كذبوا بالقرآن ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، والبعث . { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : حين جاءهم { فَهُمُ } يعني : قريش { فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } يعني : في قول مختلف ، ملتبس . المريج أن يقلق الشيء فلا يستقر . ويقال : مرج الخاتم في يدي مرجاً إذا قلق للهزال . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي : من ترك الحق . يقال : من ترك الحق أمرج عليه رأيه ، والتبس عليه دينه .
ثم دلهم على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه ، الذي يدل على وحدانيته فقال : { أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بنيناها } بغير عمد { وزيناها } بالكواكب { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } يعني : شقوق ، وصدوع ، وخلل .
قوله تعالى : { والارض مددناها } يعني : بسطناها مسير خمسمائة عام من تحت الكعبة ، { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } يعني : الجبال الثوابت .
قوله : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } يعني : حسن طيب من الثمار ، والنبات .
قوله تعالى : { تَبْصِرَةً } يعني : في هذا الذي ذكره من خلقه ، { تَبْصِرَةً } لتبصروا به . ويقال : عبرة . { وذكرى } يعني : تفكراً ، وعظة . { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } يعني : مخلص بالتوحيد . ويقال : راجع إلى ربه .
قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا } يعني : المطر فيه البركة حياة لكل شيء ، { فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات } يعني : البساتين { وَحَبَّ الحصيد } يعني : حين ما يخرج من سنبله . ويقال : ما يحصد ، وما لا يحصد ، كل ما كان له حب . ويقال : هي الحبوب التي تحصد .
قوله عز وجل : { والنخل باسقات } يعني : أطوال { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } يعني : الكفري نضيد . يعني : مجتمع . يقال : نضد بعضه على بعض .
ويقال : ثمر منضود إذا كان متراكباً بعضه على بعض . ويقال : إنما يسمى نضيداً ما كان في الغلاف { رّزْقاً لّلْعِبَادِ } يعني : جعلناه طعاماً للخلق . يعني : الحبوب ، والثمر . { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } يعني : بالماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } إذا لم يكن فيها نبات ، فهذا كله صفات بركة المطر .
ثم قال : { كذلك الخروج } يعني : هكذا الخروج من القبر . كما أحييت الأرض الميتة بالنبات ، فكذلك لما ماتوا ، وبقيت الأرض خالية ، أمطرت السماء أربعين ليلة كمني الرجل ، فدخل في الأرض ، فتنبت لحومهم ، وعروقهم ، وعظامهم من ذلك ، ثم يحييهم . فذلك قوله : { كذلك الخروج } . ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على إيذاء الكفار . يعني : لا تحزن بتكذيب الكفار إياك ، لأنك لست بأول نبي ، وكل أمة كذبت رسلها ، مثل نوح ، وهود عليهم السلام وغيرهم فقال عز وجل :
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْم نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ } والرسّ : بئر دون اليمامة ، وإن عليها قوماً كذبوا رسلهم ، فأهلكهم الله تعالى { وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وإخوان لُوطٍ } يعني : قومه { وَثَمُودُ وَقَوْمُ } يعني : قوم شعيب { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } يعني : قوم حمير . ويقال : تبع كان اسم ملك . وروى وكيع عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز قال : جاء عبد الله بن عباس إلى عبد الله بن سلام ، فسأله عن تبع ، فقال : كان تبع رجلاً من العرب ، ظهر على الناس ، وسبا على فتية من الأحبار . فكان يحدثهم ، ويحدثونه . فقال قومه : إن تبعاً ترك دينكم ، وتابع الفتية . فقال : تبع للفتية : ألا ترون إلى ما قال هؤلاء . فقالوا : بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب ، وينجو منها الصادق . قال : نعم . فقال تبع للفتية : ادخلوه ، فتقلدوا مصاحفهم . ثم دخلوها ، فانفرجت لهم حتى قطعوها . ثم قال لقومه : ادخلوها . فلما دخلوا ، وجدوا حر النار كفوا . فقال لهم : لتدخلنها ، فدخلوها . فلما توسطوا ، أحاطت بهم النار ، فأحرقتهم ، وأسلم تبع وكان رجلاً صالحاً . ويقال : كان اسمه سعد بن ملكي كرب ، وكنيته : أبو كرب .
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل } يعني : جميع هؤلاء كذبوا رسلهم { فَحَقَّ وَعِيدِ } يعني : وجب عليهم عذابي . معناه : فاحذروا يا أهل مكة مثل عذاب الأمم الخالية ، فلا تكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال عز وجل : { أَفَعَيِينَا بالخلق الاول } قال مقاتل : يعني : أعجزنا عن الخلق الأول حين خلقناهم ، ولم يكونوا شيئاً . فكذلك نخلقهم ، ونبعثهم . أي : ما عيينا عن ذلك ، فكيف نعيي عن بعثهم . ويقال : معناه أعيينا خلقهم الأول ، ولم يكونوا شيئاً ، لأن الذي قد كان ، فإعادته أيسر في رأي العين من الابتداء . يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه . وقال الزجاج : هذا تقرير تقرر ، لأنهم اعترفوا في الابتداء ، أن الله عز وجل خلقهم ، ولم يكونوا شيئاً .
ثم قال : { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : في شك من البعث بعد الموت . ويقال : بل أقاموا على شكهم .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } يعني : جنس الإنسان ، وأراد به جميع الخلق { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } يعني : ما يحدث به قلبه ، ويتفكر في قلبه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } يعني : في القدرة عليه ، وحبل الوريد عرق يخالط القلب . ويقال : هو العرق الذي داخل العنق الذي هو عرق الروح ، فأعلمه الله تعالى أنه أقرب إليه من ذلك العرق . ويقال : الوريدان عرقان بين الحلقوم ، والعلباوين . والحبل هو الوريد . وأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظي اسميه .
قوله عز وجل : { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } يعني : يكتب الملكان عمله ، ومنطقه . يعني : يتلقيان منه ويكتبان .
وقال أهل اللغة تلقى ، وتلقف ، بمعنى واحد . { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } يعني : عن يمين ابن آدم ، وعن شماله قاعدان . أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، وصاحب اليمين موكل على صاحب الشمال ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، وكان في الأصل قعيدان ، ولكن اكتفى بذكر أحدهما فقال : قعيد .
ثم قال عز وجل : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } يعني : ما يتكلم ابن آدم بقولٍ { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } يعني : عنده حافظ حاضر . وقال الزجاج : { عَتِيدٌ } أي : ثابت ، لازم .
قوله تعالى : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } يعني : جاءت غمرته بالحق أنه كائن . ويقال : جاءت نزعات الموت بالحق . يعني : بالسعادة ، والشقاوة . يعني : يتبين له عند الموت . ويقال : فيه تقديم ، ومعناه : جاءت سكرة الحق بالموت . روي عن أبي بكر الصديق ، أنه كان يقرأ { وَجَاءتْ سَكْرَةُ * الحق } { بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يعني : يقال له : هذا الذي كنت تخاف منه ، وتكره . ويقال : ذلك اليوم الذي كنت تفر منه .
{ وَنُفِخَ فِى الصور } يعني : النفخة الأخيرة وهي نفخة البعث { ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد } يعني : العذاب في الآخرة { وَجَاءتْ } أي : جاءت يوم القيامة { كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } سائق يسوقها إلى المحشر ، ويسوقها إلى الجنة ، أو إلى النار . { وَشَهِيدٌ } يعني : الملك يشهد عليها . وقال القتبي : السائق هاهنا ، قرينها من الشياطين ، يسوقها . سمي سائقاً ، لأنه يتبعها ، والشهيد : الملك . ويقال : الشاهد أعضاؤه . ويقال : الليل ، والنهار ، والبقعة ، تشهد عليه .
ويقال له : { لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } يعني : من هذا اليوم ، فلم تؤمن به ، وقد ظهر عندك بالمعاينة { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } يعني : غطاء الآخرة . ويقال : أريناك ما كان مستوراً عنك في الدنيا . ويقال : أريناك الغطاء الذي على أبصارهم ، كما قال : { غَفْلَةٍ مّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } أي : نافذ . ويقال : شاخص بصره لا يطرف ، يديم النظر حين يعاين في الآخرة ، ما كان مكذباً به . ويقال : { حَدِيدٍ } أي : حاد كما يقال : { حَفِيظٌ } يعني : حافظ ، وقعيد بمعنى قاعد . وقال الزجاج : هذا مثل . ومعناه : إنك كنت بمنزلة من عليه غطاء { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } يعني : علمك بما أنت فيه نافذ .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
قوله عز وجل : { وَقَالَ قَرِينُهُ } يعني : ملكه الذي كان يكتب عمله { هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } يعني : هذا الذي وكلتني به قد أتيتك به ، وهو حاضر يقول الله عز وجل { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ } يعني : يقول للملكين ألقيا في جهنم { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } وقال بعضهم هذا أمر للملك الواحد بلفظ الاثنين ، وقال الفراء : يرى أصل هذا أن الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة نفر ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء : قيلاً يا صاحبي ، ويا خليلي ، قال الشاعر : فقلت لصاحبي لا تحبساني ، وأدنى ما يكون الأمر والنهي في الإعراب اثنان ، فجرى كلامهم على ذلك ومثل هذا قول امرىء القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ويقال : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ، على معنى تكرير الأمر ، يعني : ألق ألق ، وهو على معنى التأكيد ، وكذلك في قوله : قفا ، معناه قف قف .
وقال الزجاج : عندي أن قوله أَلْقِيَا أَمر للملكين ، وقال بعضهم : الأمر للواحد بلفظ الاثنين واقع في إطلاق العرب ، وكان الحجاج يقول : يا حرسي اضربا عنقه { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } ، يعني : كل جاحد بتوحيد الله تعالى معرض عن الإيمان ، وقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة . ويقال هذا في جميع الكفار الذين ذكر صفتهم في هذه الآية ، وهي قوله : { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } يعني بخيلاً لا يخرج حق الله من ماله ، ويقال : «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» يعني يمتنع عن الإسلام { مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } المعتدي هو الظلوم الغشوم ، والمريب الشاك في توحيد الله تعالى قوله تعالى : { الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } يعني : أشرك بالله عز وجل { فألقياه فِى العذاب الشديد } يعني : في النار { قَالَ قرِينُهُ } يعني : شيطانه { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } يعني : لم يكن لي قوة أن أضله { ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ } يعني : في خطأ طويل بعيد عن الحق ، يقول الله تعالى لابن آدم وشيطانه { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } أي لا تختصموا عندي { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } يعني : أخذت عليكم الحجة ، وأخبرتكم بالكتاب والرسول { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } يعني : لا يغير قضائي وحكمي الذي حكمت ، ويقال : لا يكذب وعيدي { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } يعني : لا أعذب أحداً بغير ذنب ، ويقال : مَا يُبَدِّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، يعني : لا يغير عن جهته ، ولا يحذف منه ، ولا يزاد فيه ، لأني أعلم كيف ضلوا ، وكيف أضللتموهم ، وروى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ وُكِّلَ بِهِ قَرِيُنُه مِنَ الجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ " قالوا : وإياك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم »؟ قال :
« وَإيَّايْ وَلَكِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ، فَلاَ يَأمُرُنِي إلاَّ بِخَيرٍ » وعن الربيع ، عن أنس ، قال : سألت أبا العالية عن قوله عز وجل : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] وهاهنا يقول : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } فقال : لا تختصموا لدي في أهل النار ، والأخرى في المؤمنين في المظالم ، فيما بينهم ، وقال مجاهد : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بظلام لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] يعني : لقد قضيت ما أنا قاض قوله عز وجل : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ } قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { يِقُولُ } بِاليَاء يعني : يقول الله تعالى ، قرأ الباقون بالنون ، ومعناه كذلك يوم صار نصباً على معنى مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ في ذلك اليوم ، ويقال على معنى أنذرهم يوم ، كقوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِىَ الامر وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ] ثم قال { هَلِ امتلات } يعني : هل أوفيتك ما وعدتك ، وهو قوله لأَملأن جَهَنَّمَ { فَتَقُولُ } النار { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } يعني : هل من زيادة وقال عطية : هل من موضع ، ويقال معناه هل امتلأت ، أي قد امتلأت ، فليس من مزيد ، ويقال : أنا طلبت الزيادة تغيظاً لمن فيها ، وروى وكيع بإسناده عن أبي هريرة قال : « لا تَزَالُ جَهَنَّمَ تَسَأَل الزِّيَادَة حتى يضع الله فيها قدمه فَتَقُولُ جَهَنَّمَ يَا رَبَّ قط قط » أي حسبي حسبي ، وقال في رواية الكلبي نحو هذا ، ويقال تضيق بأهلها حتى لا يكون فيها مدخل لرجل واحد . قال أبو الليث : قد تكلم الناس في مثل هذا الخبر قال بعضهم : نؤمن به ولا نفسره ، وقال بعضهم : نفسره على ما جاء بظاهر لفظه ، وتأوله بعضهم وقال : معنى الخبر بكسر القاف يضع قدمه وهم أقوام سالفة فتمتلىء بذلك .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
قوله عز وجل : { وَأُزْلِفَتِ الجنة } يعني : قربت وأدنيت الجنة { لّلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك والكبائر ، ويقال زينت الجنة .
ثم قال عز وجل : { غَيْرَ بَعِيدٍ } يعني : ينظرون إليها قبل دخولها ، ويقال غَيْرَ بَعِيدٍ ، يعني : دخولهم غير بعيد ، فيقال لهم { هذا مَا تُوعَدُونَ } في الدنيا { لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي مقبل إلى طاعة الله ، حفيظ لأمر الله تعالى في الخلوات وغيرها ، ويقال : الأواب الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها ، وروى مجاهد عن عبيد بن عمير مثل هذا قوله عز وجل : { مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب } يعني : يخاف الله عز وجل ، فيعمل بما أمره الله ، وانتهى عما نهاه ، وهو في غيب منه { وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } يعني : مقبلاً إلى طاعة الله مخلصاً ويقال لهم : { ادخلوها بِسَلامٍ } ذكر في أول الآية بلفظ الواحدان ، وهو قوله وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، ثم ذكر بلفظ الجماعة وهو قوله : { ادخلوها } لأن لفظه من اسم جنس ، يقع على الواحد ، وعلى الجماعة ، مرة تكون عبارة عن الجماعة ، ومرة تكون عن الواحدان { ادخلوها بِسَلامٍ } يعني : بسلامة من العذاب والموت والأمراض والآفات { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } أي لا خروج منه قوله عز وجل : { لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ فِيهَا } يعني : يتمنون فيها { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } يعني : زيادة على ما يتمنون من التحف والكرامات ، ويقال هو الرؤية وكقوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أولئك أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } [ يونس : 26 ] ثم قال عز وجل : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } يعني : قبل أهل مكة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } يعني : أشد من أهل مكة { فَنَقَّبُواْ فِى البلاد } يعني : طافوا وتقلبوا في أسفارهم وتجاراتهم ، ويقال : تغربوا في البلاد { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } يعني : هل من فرار ، وهل من ملجأ من عذاب الله .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله عز وجل : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى } يعني : فيما صنع لقومك { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } يعني : عقل لأنه يعقل بالقلب فكني عنه { أَوْ أَلْقَى السمع } يعني : استمع إلى القرآن { وَهُوَ شَهِيدٌ } يعني : قلبه حاضر غير غائب عنه ، وقال القتبي : وهو شهيد ، يعني : استمع كتاب الله ، وهو شاهد القلب والفهم ، ليس بغافل ، ولا ساه ، وروى معمر عن قتادة قال : لمن كان له قلب من هذه الأمة ، أو ألقى السمع . قال رجل من أهل الكتاب : استمع إلى القرآن ، وهو شهيد على ما في يديه من كتاب الله تعالى ، وروي عن عمر أنه قرأ : { فَنَقَّبُواْ } بالتخفيف ، يعني : فتبينوا ونظروا وذكروا ، ومنه قيل للعريف نقيب القوم ، لأنه يتعرف أمرهم ، ويبحث عنهم .
وقرأ يحيى بن يعمر { فَنَقَّبُواْ } بضم النون ، وكسر القاف ، يعني : تبينوا ، وقرأ الباقون بالتشديد يعني : طوفوا ، وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ ق : 36 ] يعني : هل من ملجأ من الموت ، قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والارض } وذلك أن اليهود قالوا : لما خلق الله السموات والأرض وفرغ منهما ، استراح في يوم السبت فنزل قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } يعني : ما أصابنا من إعياء ، وإنما يستريح من يعيى .
قوله عز وجل : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } من المنكر ، وهو قولهم : استراح ، ويقال : فاصبر على ما يقولون من التكذيب ، وقال في رواية الكلبي : نزلت في المستهزئين من قريش ، وفي أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } يعني : صل لربك صلاة الفجر ، وصلاة الظهر ، وصلاة العصر { وَمِنَ اليل } يعني : المغرب والعشاء { فَسَبّحْهُ } يعني : صل له وهو المغرب والعشاء { وأدبار السجود } يعني : ركعتي المغرب ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة { وأدبار } بكسر الألف ، والباقون بالنصب ، فهو جمع الدبر ، ومن قرأ بالكسر فعلى مصدر أدبر يدبر إدباراً ، قال أبو عبيدة : هكذا نقرأ يعني : بالنصب ، لأنه جمع الدبر ، وإنما الإدبار ، هو المصدر كقولك : أدبر ، يدبر ، إدباراً ، ولا إدبار للسجود ، وإنما ذلك للنجوم .
قوله عز وجل : { واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد } قرأ أبو عمرو ، ونافع ، وابن كثير : الْمُنَادِي بالياء في الوصل ، وهو الأصل في اللغة ، والباقون بغير ياء ، لأن الكسر يدل عليه فاكتفى به ، ومعنى الآية اعمل واجتهد ، واستعد ليوم القيامة ، يعني : استمع صوت إسرافيل { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } يعني : من صخرة بيت المقدس { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق } يعني : نفخة إسرافيل بالحق أنها كائنة ، وقال مقاتل : في قوله : { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال صخرة : بيت المقدس ، وهي أقرب الأرض من السماء ، بثمانية عشر ميلاً ، وقال الكلبي : باثني عشر ميلاً { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } من قبورهم إلى المحاسبة ، ثم إلى إحدى الدارين ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، وقال أبو عبيدة : يوم الخروج اسم من أسماء يوم القيامة ، واستشهد بقول العجاج أليس يوم سميت خروجاً أعظم يوماً سميت عروجاً ، قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ } يعني : نحيي في الآخرة ، ونميت في الدنيا الأحياء ، ويقال : إنا نحن نحيي الموتى ونميت الأحياء { وَإِلَيْنَا المصير } يعني : المرجع في الآخرة ، يعني : مصير الخلائق كلهم .
قوله عز وجل : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الارض عَنْهُمْ سِرَاعاً } يعني : تصدع الأرض عنهم ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر { تَشَقَّقُ } بتشديد الشين ، والباقون بالتخفيف ، لأنه لما حذف إحدى التاءين ترك الشين على حالها ، ثم قال : { سِرَاعاً } يعني : خروجهم من القبور سراعاً { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } يعني : جمع الخلائق علينا هين { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } في البعث من التكذيب { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } يعني : بمسلط ، يعني : لم تبعث لتجبرهم على الإسلام ، وإنما بعثت بشيراً ونذيراً ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال .
ثم قال : { فَذَكّرْ بالقرءان } يعني : فعظ بالقرآن بما وعد الله فيه { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } يعني : من يخاف عقوبتي وعذابي والله أعلم .
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قوله تعالى : { والذريات ذَرْواً } أقسم الله عز وجل ، بالرياح إذا أذرت ذرواً ، وروى يعلى بن عطاء ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الرياح ثمانية : أربعة منها رحمة ، وأربعة منها عذاب ، فالرحمة منها : الناشرات ، والمبشرات ، والذاريات ، والمرسلات ، وأما العذاب : العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وعن أبي الطفيل قال : شهدت عليّاً رضي الله عنه وهو يخطب ويقول : سلوني عن كتاب الله عز وجل ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بالليل ، أم بالنهار فسأله ابن الكواء فقال له : ما { والذريات ذَرْواً } قال : الرياح . قال { فالحاملات وِقْراً } ؟ قال : السحاب قال : فما { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن جرت بالتسيير على الماء . { فالمقسمات أَمْراً } ؟ قال : الملائكة .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : والذاريات الرياح ، قال : ما ذرت الريح ، فالحاملات وقرأً يعني : السحاب الثقال ، الموقرة من الماء ، فالجاريات يسراً ، يعني : السفن جرت بالتسيير على الماء ، فالمقسمات أمراً ، يعني : أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، لكل واحد منهم أمر مقسوم ، وهم المدبرات أمراً ، أقسم الله تعالى بهذه الآية : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } يعني : الذي توعدون من قيام الساعة { لصادق } يعني : لكائن ويقال : في الآية مضمر ، فأقسم الله تعالى برب الذاريات ، يعني : ورب الرياح الذاريات ، ورب السحاب الحاملات ، ورب السفن الجاريات ، ورب الملائكة المقسمات ، إنما توعدون لصادق . { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } يعني : المجازات على أعمالهم لواقع ، ثم بين في آخر الآية ما لكل فريق من الجزاء ، فبين جزاء أهل النار أنهم يفتنون ، وبين جزاء المتقين أنهم في جنات وعيون .
ثم قال عز وجل : { والسماء ذَاتِ الحبك } أقسم بالسماء ذات الحسن والجمال ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني : ذات الخلق الحسن . وقال مجاهد : المتقن من البنيان ، يعني : البناء المحكم . ويقال : الحبك يعني : ذات الطرائق ويقال للماء القائم إذا ضربته الريح ، فصارت فيه الطرائق له حبك ، وكذلك الرمل إذا هبت عليه الريح ، فرأيت فيه كالطرائق فبذلك حبك .
قوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } يعني : متناقض مرة قالوا ساحراً ، ومرة قالوا مجنون ، والساحر عندهم من كان عالماً غاية في العلم ، والمجنون من كان جاحداً غاية في الجهل ، فتحيروا ، فقالوا : مرة مجنون ، ومرة ساحر ، ويقال : إنكم لفي قول مختلف ، يعني : مصدقاً ومكذباً ، يعني : يؤمن به بعضهم . ويكفر به بعضهم .
ثم قال عز وجل : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } يعني : يصرف عنه من صرف ، وذلك إن أهل مكة أقاموا رجالاً على عقاب مكة ، يصرفون الناس ، فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع ، ومنهم من لا يرجع ، فقال : يصرف عنه من قد صرفه الله عن الإيمان وخذله ، ويقال : يصرف عنه من قد صرفه يوم الميثاق ، ويقال يصرف عنه من كان مخذولاً لم يكن من أهل الإيمان .
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
ثم قال عز وجل : { قُتِلَ الخرصون } يعني : لعن الكاذبون { الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ ساهون } يعني : في جهالة وعمي وغفلة عن أمر الآخرة ، ساهون يعني : لاهين عن الإيمان ، وعن أمر الله تعالى { يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } يعني : أي أوان يوم الحساب استهزاء منهم به ، فأخبر الله تعالى عن ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } يعني : بالنار يحرقون ، ويعذبون . ويقول لهم الخزنة : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } يعني : هذا العذاب الذي كنتم به تستهزئون . يعني : تستعجلون على وجه الاستهزاء .
ثم بيّن ثواب المتقين فقال عز وجل : { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } يعني : في بساتين ، وأنهار .
قوله تعالى : { ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } يعني : قابضين ما أعطاهم ربهم من الثواب { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } في الدنيا { مُحْسِنِينَ } بأعمالهم . قرأ عاصم : { ءاخِذِينَ } نصب على الحال ، ومعنى { فِى جنات وَعُيُونٍ } في حال آخذين ما آتاهم ربهم .
ثم قال : { كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } يعني : قليل من الليل ما ينامون . وقال بعضهم : كانوا قليلاً . ثم الكلام يعني : مثل هؤلاء المتقين { كَانُواْ قَلِيلاً } . ثم أخبر عن أعمالهم ، فقال : { مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } يعني : لا ينامون بالليل ، كقوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقياما } [ الفرقان : 64 ] . وقال الضحاك : كانوا من النائمين . وقال الحسن : لا ينامون إلا قليلاً . وقال الربيع بن أنس : لا ينامون بالليل إلا قليلاً { وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } يعني : يصلون عند السحر . ويقال : يصلون بالليل ، ويستغفرون عند السحر عن ذنوبهم { وَفِى أموالهم حَقٌّ } يعني : نصيب للفقراء { لَّلسَّائِلِ والمحروم } السائل : المسكين الذي يسأل الناس . والمحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس . ويقال : المحروم المحترف الذي لا يبلغ عيشه . وقال الشعبي : أعياني أن أعلم من المحروم . روى سفيان عن ابن إسحاق ، عن قيس ، قال : سألت ابن عباس : من السائل والمحروم؟ فقال : السائل : الذي يسأل . والمحروم : المحارب الذي ليس له سهم في الغنيمة ، وهكذا قال إبراهيم النخعي ، ومجاهد ، والربيع بن أنس . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : المحروم : الفقير الذي إذا خرج إلى الناس استعف ، ولم يعرف مكانه ، ولا يسأل الناس فيعطونه . وقال الزجاج : المحروم الذي لا ينمو له مال . ويقال : هي بالفارسية بي دولة يعني : لا إقبال له .
قوله : { وَفِى الارض ءايات لّلْمُوقِنِينَ } يعني : فيمن أهلك قبلهم ، لهم عبرة . ويقال : فيها علامة وحدانية الله تعالى ، كأنه قال جعلت جميع الأشياء مرآتك ، لتنظر إليها ، وترى ما فيها ، ومراد النظر في المرآة ، رؤية من لم يَرَ فكأنه قال : وانظر في آيات صنعي ، لتعلم أفي صانع كمل الأشياء؟ فإذا نظرت إلى النقش ، والنقش يدل إلى نقاشه وإذا نظرت إلى النفس وعجائب تركيبها يدل على خالقها ، وإذا نظرت في الأرض فمختلف الأشياء عليها يدل إلى ربها ، وهي البحار ، والجبال ، والأنهار ، والأثمار . { وَفِى أَنفُسِكُمْ } يعني : وعلامة وحدانيته في أنفسكم { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } يعني : تتفكرون في خلق أنفسكم ، كيف خلقكم وهو قادر على أن يبعثكم .
قوله عز وجل : { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } يعني : من السماء يأتي سبب رزقكم ، وهو المطر . ويقال : وعلى خالق السماء رزقكم { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني : ما توعدون من الثواب ، والعقاب ، والخير ، والشر . قال مجاهد : { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني : الجنة ، والنار . وهكذا قال الضحاك .
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
ثم قال عز وجل : { فَوَرَبّ السماء والارض } أقسم الرب بنفسه { إِنَّهُ لَحَقٌّ } يعني : ما قسمت من الرزق لكائن { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } يعني : كما تقولون لا إله إلا الله ، أو يعني : كما أن قولكم لا إله إلا الله حق ، كذلك قولي سأرزقكم حق . ويقال : معناه كما أن الشهادة واجبة عليكم ، فكذلك رزقكم واجب علي . ويقال : معناه هو الذي ذكر في أمر الآيات ، والرزق حق . يعين : صدق مثل ما أنكم تنطقون . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَبَى ابْنُ آدَمَ أنْ يُصَدِّقَ رَبَّهُ حَتَّى أقْسَمَ لَهُ ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ » . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية أبي بكر { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } بضم اللام . والباقون : بالنصب . فمن قرأ بالضم ، فهو نعت بالحق ، وصفه له . ومن قرأ بالنصب ، فهو على التوكيد على معنى أنه لحق حقاً مثل نطقكم .
قوله عز وجل : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين } يعني : جاء جبريل مع أحد عشر ملكاً عليهم السلام المكرمين ، أكرمهم الله تعالى ، وقال : أكرمهم إبراهيم ، وأحسن عليهم القيام ، { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا } فسلموا عليه ، فرد عليهم السلام { قَالَ سلام } قرأ حمزة ، والكسائي ، قال : سلم أي : أمري سلم . والباقون { سلام } أي : أمري { سلام } أي : صلح .
ثم قال : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } يعني : أنكرهم ، ولم يعرفهم . وقال كانوا لا يسلمون في ذلك الوقت ، فلما سمع منهم السلام أَنْكَرَهُمْ . { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } يعني : عهد إلى أهله . ويقال : عدل ، ومال إلى أهله . ويقال : عدل من حيث لا يعلمون لأي شيء عدل . يقال : راغ فلان عنا ، إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون .
{ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } قال بعضهم : كان لبن البقرة كله سمناً ، فلهذا كان العجل سميناً { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } فلم يأكلوا { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } فقالوا : نحن لا نأكل بغير ثمن . فقال إبراهيم : كلوا ، فاعطوا الثمن . قالوا : وما ثمنه؟ فقال : إذا أكلتم ، فقولوا بسم الله . وإذا فرغتم ، فقولوا : الحمد لله ، فتعجبت الملائكة عليهم السلام لقوله ، فلما رآهم لا يأكلون { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } يعني : أظهر في نفسه خيفة . ويقال : ملأ عنهم خيفة ، فلما رأوه يخاف { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } منا يعني : لا تخشى منا { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } يعني : إسحاق { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ } يعني : أخذت امرأته في صيحة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } يعني : ضربت بيديها ، خديها تعجباً { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } يعني : عجوزاً عاقراً لم تلد قط ، كيف يكون لها ولد؟ فقال لها جبريل : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ } يكون لك ولد { هُوَ الحكيم } في أمره .
حكم بالولد بعد الكبر { العليم } عليم بخلقه . ويقال : عليم بوقت الولادة . فلما رآهم أنهم الملائكة { قَالَ } لهم { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } يعني : ما أمركم ، وما شأنكم ، ولماذا جئتم أيها المرسلون؟ { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ } يعني : قال جبريل أرسلنا الله تعالى { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } يعني : قوم كفار مشركين { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ } يعني : لكي نرسل عليهم { حِجَارَةً مّن طِينٍ } مطبوخ ، كما يطبخ الآجر { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } يعني : معلمة . وقال : مخططة بسواد ، وحمرة . ويقال : مكتوب على كل واحد اسم صاحب الذي يصيبه .
ثم قال : { عِندَ رَبّكَ } يعني : جاءت الحجارة من عند ربك للمشركين ، فاغتم إبراهيم لأجل لوط .
قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } أي : في قريات لوط { مِنَ المؤمنين } يعني : من المصدقين { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } يعني : غير بيت لوط .
قوله عز وجل : { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } يعني : أبقينا في قريات لوط آية . يعني : عبرة في هلاكهم من بعدهم .
ثم قال : { لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الاليم } يعني : العذاب الشديد .
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
ثم قال : { وَفِى موسى } عطف على قوله { وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] { وَفِى موسى } { إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ } يعني : حجة بينة ، وهي اليد ، والعصا { فتولى بِرُكْنِهِ } يعني : أعرض عنه فرعون بجموعه . يعني : مع جموعه وجنوده . ويقال : { فتولى بِرُكْنِهِ } يعني : أعرض بجانبه { وَقَالَ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ } يعني : عاقبناه ، وجموعه { فنبذناهم فِى اليم } قال الكلبي يعني : أغرقناهم في البحر وقال مقاتل يعني : في النيل { وَهُوَ مُلِيمٌ } يعني : يلوم نفسه ، ويلومه الناس . وقال : { مُلِيمٌ } أي : مذنب . وقال أهل اللغة : ألام الرجل ، إذا أتى بذنب يلام عليه .
ثم قال : { وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } يعني : سلطنا عليهم الريح الشديد ، وإنما سميت عقيماً ، لأنها لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم لا خير فيه . ويقال : سميت عقيماً لأنها لا تلقح الأشجار ، ولا تثير السحاب ، وهي الدبور . وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال ، ولا أنزل سفرة من ريح إلا بمكيال ، إلا قوم نوح طغى على خزانة الماء ، فلم يكن لهم عليه سبيل ، وعتت الريح يوم عاد على خزانها ، فلم يكن لهم عليها سبيل وروى عكرمة عن ابن عباس قال : العقيم الذي لا منفعة لها .
ثم قال : { مَا تَذَرُ مِن شَىْء } يعني : ما تترك من شيء هو لهم ، ولا منهم ، { أَتتَ عَلَيْهِم إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } يعني : مرت عليه إلا جعلته كالرماد . ويقال : الرميم : الورق الجاف ، المتحطم ، مثل الهشيم المحتظر ، كما قال كهشيم المحتظر ، بعد ما كانوا كنخل متقصر . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما أرسل على عاد من الريح ، إلا مثل خاتمي هذا . يعني : إن الريح العقيم تحت الأرض ، فأخرج منها مثل ما يخرج من ثقب الخاتم ، فأهلكهم .
ثم قال : { وَفِى ثَمُودَ } يعني : قوم صالح { إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } يعني : قال لهم نبيهم صالح عليه السلام عيشوا إلى منتهى آجالكم ، ولا تعصوا أمر الله { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } يعني : تركوا طاعة ربهم { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } يعني : العذاب . قرأ الكسائي : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } بغير ألف ، وجزم العين . والباقون : بألف . وهي الصيحة التي أهلكتهم بالصعقة ، قوله من قولك : صعقتهم الصاعقة . يعني : أهلكتهم . وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ صعقة مثل الكسائي . { وَهُمْ يَنظُرُونَ } يعني : ظهرت النار من تحت أرجلهم ، وهم يرونها بأعينهم . ويقال : سمعوا الصيحة ، وهم ينظرون متحيرون . { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } يعني : ما استطاعوا أن يقوموا لعذاب الله تعالى ، حتى أهلكوا .
{ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } يعني : ممتنعين من العذاب .
ثم قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ } وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وقوم نوح : بكسر الميم . يعني : في قوم نوح كما قال : وفي ثمود . والباقون : بالنصب . يعني : وأهلكنا قوم نوح . ويقال : معناه فأخذناه ، وأخذنا { مِن قَبْلُ } هؤلاء الذين سميناهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } يعني : قوم نوح من قَبْل . يعني : عاصين .
قوله عز وجل : { والسماء بنيناها بِأَيْدٍ } يعني : خلقناها بقوة ، وقدرة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } يعني : نحن قادرون على أن نوسعها كما نريد . ويقال : { والسماء } صار نصباً لنزع الخافض . ومعناه و { وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله وَهُوَ الحكيم العليم } [ الزخرف : 84 ] آية .
ثم قال : { والارض فرشناها } يعني : وفي الأرض آية ، بسطناها مسيرة خمسمائة عام من تحت الكعبة { فَنِعْمَ الماهدون } يعني : نعم الماهدون نحن . ويقال : في قوله : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } يعني : نحن جعلنا بينهما ، وبين الأرض سعة .
ثم قال عز وجل : { وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } يعني : صنفين ، الذكر والأنثى ، والأحمر والأبيض ، والليل والنهار ، والدنيا والآخرة ، والشمس والقمر ، والشتاء والصيف . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يعني : تتعظون فيما خلق الله ، فتوحدوه .
قوله عز وجل : { فَفِرُّواْ إِلَى الله } يعني : توبوا إلى الله من ذنوبكم . ويقال : معناه { فَفِرُّواْ } من الله { إِلَى الله } أو { فَفِرُّواْ } من عذاب الله ، إلى رحمة الله ، أو { فَفِرُّواْ } من معصيته ، إلى طاعته . ومن الذنوب إلى التوبة . { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : مخوفاً من عذاب الله تعالى بالنار { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } يعني : لا تقولوا له شريكاً ، وولداً { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني : فإن فعلتم ، فإني لكم مخوف من عذابه ، فلم يقبلوا قوله ، وقالوا : هذا { ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } .
يقول الله تعالى تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ } يعني : هكذا ما أتى في الأمم الخالية من رسول ، { إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } كقول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } يعني : توافقوا ، وتواطؤوا فيما بينهم . وأوصى الأول الآخر أن يقولوا ذلك . ويقال : توافقوا ، وتواطؤوا به كل قوم ، وجعلوا كلمتهم واحدة أن يقولوا { ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } .
قال الله عز وجل : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون } يعني : عاتين في معصية الله تعالى .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
ثم قال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } يعني : فأعرض عنهم يا محمد ، بعد ما بلغت الرسالة ، وأعذرت ، { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } يعني : لا تلام على ذلك ، لأنك قد فعلت ما عليك { وَذَكَرَ } يعني : عظ أصحابك بالقرآن { فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } يعني : المصدقين تنفعهم العظة . ويقال : فعظ أهل مكة ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين . يعني : من قدر لهم الإيمان .
ثم قال عز وجل : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : ما خلقتهم ، إلا أمرتهم بالعبادة ، فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين . وقال مجاهد : يعني ما خلقتهم إلا لآمرهم ، وأنهاهم . ويقال : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : إلا ليوحدون ، وهم المؤمنون ، وهم خلقوا للتوحيد والعبادة ، وخلق بعضهم لجهنم ، كما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] فقد خلق كل صنف للأمر ، والنهي الذي يصلح له .
ثم قال : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ } يعني : ما خلقتهم ، لأن يرزقوا أنفسهم { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } يعني : لا أكلفهم أن يطعموا أحداً من خلقي . وأصل هذا أن الخلق عباد الله ، وعياله . فمن أطعم عيال رجل ورزقهم ، فقد رزقه إذا كان رزقهم عليه .
ثم قال : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } يعني : { الرزاق } لجميع خلقه { ذُو القوة المتين } يعني : { ذُو القوة } على أعدائه ، الشديد العقوبة لهم ، والمتين في اللغة : الشديد القوي قرأَ الأعمش : { ذُو القوة المتين } بكسر النون ، جعله من نعت القوة . وقراءة العامة بالضم ، ومعناه : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } وهو { ذُو القوة المتين } .
قوله عز وجل : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يعني : أشركوا وهم مشركو مكة { ذَنُوباً } يعني : نصيباً من العذاب { مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم } يعني : مثل نصيب أصحاب من عذاب الذين مضوا ، وأصل الذنوب في اللغة هو الدلو الكبير ، فكيف عنه ، لأنه تتابع . يعني : مثل عذاب الذين أهلكوا نحو قوم عاد ، وثمود ، وغيرهم . { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } يعني : بالعذاب ، لأن النضر بن الحارث كان يستعجل بالعذاب ، فأمهله إلى يوم بدر ، ثم قتل في ذلك اليوم ، وصار إلى النار .
قوله عز وجل : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ } يعني : من عذاب يوم القيامة . والويل : الشدة من العذاب . يقال : الويل وادٍ في جهنم .
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى : { والطور } أقسم الله تعالى بالجبل وكل جبل فهو طور بلغة النبط . ويقال : بلغة السريانية . ولكن عني به الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام بمدين .
ثم قال : { وكتاب مُّسْطُورٍ } يعني : في اللوح المحفوظ . ويقال : أعمال بني آدم { فِى رَقّ مَّنْشُورٍ } يعني : في صحيفة منشورة ، كما قال : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] يعني : مفتوحاً يقرؤونه . ويقال : { كِتَابٌ *** مُّسْطُورٍ } يعني : القرآن . { فِى رَقّ مَّنْشُورٍ } يعني : المصاحف . ويقال : في اللوح المحفوظ .
ثم قال : { والبيت المعمور } وهو في السماء السابعة . ويقال : في السماء السادسة ويقال : في السماء الرابعة . وروى وكيع بإسناده عن علي ، وابن عباس في قوله : { والبيت المعمور } قالا : هو بيت في السماء حيال الكعبة ، يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ، ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة . قال بعضهم : بناه الملائكة قبل أن يخلق آدم عليه السلام وقال بعضهم : هو البيت الذي بناه آدم بمكة ، فرفعه الله تعالى في أيام الطوفان إلى السماء بحيال الكعبة . وقال بعضهم : أنزل الله بيتاً من ياقوتة في زمان آدم عليه السلام ووضع بمكة ، فكان آدم يطوف به وذريته من بعده إلى زمن الطوفان ، فرفع إلى السماء ، وهو { البيت * المعمور } طوله كما بين السماء والأرض .
ثم قال : { والسقف المرفوع } يعني : السماء المرتفعة من الأرض مقدار خمسمائة عام { والبحر المسجور } يعني : البحر الممتلىء تحت العرش ، وهو بحر مكفوف . يقال له : الحيوان يحمي الله به الموتى يوم القيامة ، فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء . ويقال : أقسم بخالق هذه الأشياء { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } يعني : العذاب الذي أوقع الكفار فهو كائن { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } يعني : لا يقدر أحد أن يرفع عنهم العذاب .
ثم بيّن أن ذلك العذاب في أي يوم يكون فقال : { يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً } يعني : تدور السماء بأهلها دوراً ، وتموج بعضهم في بعض من الخوف . صار اليوم نصباً لنزع الخافض . ومعناه : أن عذاب ربك لواقع في { يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً } يعني : في يوم القيامة { وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } يعني : { ***تسير } على وجه الأرض { الجبال سَيْراً } مثل السحاب حتى تستوي بالأرض { فَوَيْلٌ } الشدة من العذاب { يَوْمَئِذٍ } يعني : يوم القيامة { لّلْمُكَذّبِينَ } بيوم القيامة .
ثم نعتهم فقال : { الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } يعني : في باطل يلهون ، ويستهزئون .
قوله عز وجل : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } يعني : تدفعهم خزنة جهنم . ويقال : { يَدَّعُونَ } يعني : يزعجون إليها إزعاجاً شديداً ، ويدفعون دفعاً عنيفاً .
ومنه قوله تعالى : { فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم } [ الماعون : 2 ] أي : يدفع عما يجب . ويقال : دعاً يعني : دفعاً على وجوههم يجرون ، فإذا دنوا منها ، قالت لهم الخزنة : { هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } يعني : لم تصدقوا بها ، ولم تأمنوا بها في الدنيا . { أَفَسِحْرٌ هذا } العذاب الذي ترون لأنفسكم ، لأنكم قلتم في الدنيا للرسول ساحراً ، ومجنون . { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } النار . ويقال : بل أنتم لا تعقلون .
ثم قال لهم : { اصلوها } يعني : ادخلوا فيها { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } يعني : فإن صبرتم ، أو لم تصبروا ، فهو { سَوَاء عَلَيْكُمْ } اللفظ لفظ الأمر ، المراد به الخبر . يعني : إن صبرتم أو لم تصبروا ، فلا تنجون منها أبداً { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من الكفر والتكذيب .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
ثم بيّن حال المتقين فقال : { إِنَّ المتقين فِى جنات } يعني : الذين يتقون الشرك ، والفواحش في بساتين { وَنَعِيمٍ فاكهين } يعني : معجبين . ويقال : ناعمين . ويقال : فرحين . { بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } في الجنة من الكرامة { ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم } يعني : دفع عنهم عذاب النار . ويقول لهم الخزنة : { كُلُواْ واشربوا } يعني : كلوا من ألوان الطعام ، والثمار ، واشربوا من ألوان الشراب ، { هَنِيئَاً } يعني : لا داء ، ولا غائلة فيه ، ولا يخاف في الأكل ، والشرب ، من الآفات ما يكون في الدنيا ، { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : هذا الثواب لأعمالكم التي عملتم في الدنيا .
ثم قال : { مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ } يعني : نائمين على سرر { مَصْفُوفَةٌ } قد صف بعضها إلى بعض ، فكانوا على سرر ، وكل من كان ، اشتاق إلى صديقه يلتقيان .
قوله تعالى : { وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ } يعني : بيض الوجوه . العين : حسان الأعين .
قوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ } يعني : صدقوا بالله ، ورسوله ، وصدقوا بالبعث { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } يعني : ألحقناهم ذرياتهم . قرأ أبو عمرو : { وأتبعناهم } { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } الثلاثة كلها بالألف . وقرأ نافع : اثنان بغير ألف ، والآخر : بالألف . وقرأ ابن عامر الأول : بغير ألف . والآخران : بالألف . والباقون : كلها ألف . فمن قرأ : { اتبعناهم } معناه : ألحقناهم . يعني : الذين آمنوا ، وجعلنا ذريتهم مؤمنين ، ألحقنا بهم ذريتهم في الجنة في درجتهم . ومن قرأ : { ءامَنُواْ واتبعتهم } بغير ألف ، يعني : ذريتهم معهم . ومن قرأ { ذرياتهم } بالألف ، فهو جمع الذرية . ومن قرأ : بغير ألف ، فهو عبارة عن الجنس ، ويقع على الجماعة أيضاً . وقال مقاتل : معناه الذين أدركوا مع آبائهم ، وعملوا خيراً في الجنة ، ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل ، فهم معهم في الجنة . ويقال : إن أحدهم إذا كان أسفل منه ، يلحق بهم ، لكي تقر عينه . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يرفع الله المسلم ذريته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه .
ثم قال : { ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء } يعني : ما نقصناهم من عمل الآباء إذا كانوا مع الأبناء ، حتى يبلغ بهم ذريتهم ، من غير أن ينقص من أجر أولئك شيئاً ، ولا من ذريتهم . { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } يعني : كل نفس مرتهنة بعملها يوم القيامة .
ثم رجع إلى صفة المتقين في التقديم ، وكرامتهم ، قوله تعالى : { وأمددناهم بفاكهة } يعني : أعطيناهم من ألوان الفاكهة { وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } يعني : يتمنون . قرأ ابن كثير : { ألتناهم } بكسر اللام ، وهي لغة لبعض العرب . واللغة الظاهرة : بالفتح ، وهي من آلت يألت وهو النقصان .
قوله عز وجل : { يتنازعون فِيهَا كَأْساً } يعني : يتعاطون في الجنة .
تعطيهم الخدم قدح الشراب ، ولا يكون كأساً إلا مع الشراب ، { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } يعني : لا باطل في الجنة { وَلاَ تَأْثِيمٌ } يعني : لا إثم في شرب الخمر . ويقال : { لا تَأْثِيمٌ } يعني : لا تكذيب فيما بينهم . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { لا لَغْواً فِيهَا } بنصب الواو ، { وَلاَ تَأْثِيماً } بنصب الميم . والباقون : بالضم مع التنوين . فمن قرأ : بالنصب ، فهو على التبرئة . ومن قرأ : بالضم ، فهو على معنى الخبر . يعني : ليس فيها لغو ولا تأثيم ، كما قال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] .
ثم قال عز وجل : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } يعني : في الحسن ، والبياض ، مثل اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي ، ولم تره الأعين . وروى سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً قال : يا نبي الله هذا الخادم ، فكيف المخدوم؟ فقال : والذي نفسي بيده ، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر ، على سائر الكواكب .
ثم قال : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } يعني : يتحدثون ، ويتساءلون في الجنة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا . ثم يقول : صرت إلى هذه المنزلة الرفيعة .
قوله تعالى : { قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } يعني : في الدنيا { فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } يعني : خائفين من العذاب .
ثم قال : { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا } يعني : من علينا بالمغفرة ، والرحمة . { ووقانا عَذَابَ السموم } يعني : دفع عنا عذاب النار .
قوله عز وجل : { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } يعني : في الدنيا ندعو الرب { إِنَّهُ هُوَ البر } الصادق في قوله ، وفيما وعد لأوليائه . ويقال : { البر } بمعنى النار { الرحيم } قرأ نافع ، والكسائي : أنه بالنصب . ومعناه : إنا كنا من قبل ندعوه بأنه هو البر . وقرأ الباقون : بالكسر على معنى الاستئناف .
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعظ الناس ولا يبالي في قولهم .
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
فقال عز وجل : { فَذَكّرْ } يعني : فعظ بالقرآن { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ } يعني : برحمة ربك . ويقال : هو كقوله : ما أنت بحمد الله مجنون . وقال أبو سهل : متعظ بالقرآن ، ولست أنت والحمد لله { بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ } ويقال : فذكر . يعني : ذكرهم بما أعتدنا للمؤمنين المتقين ، وبما أعتدنا للضالين الكافرين { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ } يعني : لست تقول بقول الكهنة ، ولا تنطق إلا بالوحي .
ثم قال : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } يعني : أيقولون هو شاعر يأتي من قبل نفسه ، وهو قول الوليد بن المغيرة ، وأبي جهل ، وأصحابهما . { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } يعني : أوجاع الموت ، وحوادثه . قال قتادة : { رَيْبَ المنون } الموت . وقال مجاهد : { رَيْبَ المنون } حوادث الدهر . وقال القتبي : حوادث الدهر ، وأوجاعه ، ومصايبه . ويقال : إنهم كانوا يقولون : قد مات أبوه شاباً ، وهم ينتظرون موته { قُلْ تَرَبَّصُواْ } يعني : انتظروا هلاكي { فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين } وذكر في التفسير ، أن الذين قالوا هكذا ماتوا كلهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا } يعني : أتأمرهم عقولهم ، وتدلهم على التكذيب ، والإيذاء بمحمد صلى الله عليه وسلم . { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } يعني : بل هم قوم عاتون في معصية الله تعالى . { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } يعني : أيقولون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه . واللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الزجر والوعيد .
ثم قال : { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون بالرَّسول ، والكتاب ، عناداً وحسداً منهم .
قوله عز وجل : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } يعني : إن قلتم إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول : من ذات نفسه ، فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به { إِن كَانُواْ صادقين } في قولهم .
ثم قال : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء } يعني : من غير رب . كانوا هكذا خلقاً من غير شيء . ومعناه : كيف لا يعتبرون بأن الله تعالى خلقهم ، فيوحدونه ، ويعبدونه . ويقال : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء } يعني : لغير شيء . ومعناه : أخلقوا باطلاً لا يحاسبون ، ولا يؤمرون ، ولا ينهون .
ثم قال : { أَمْ هُمُ الخالقون } يعني : أهم خلقوا الخلق؟ أم الله تعالى؟ ومعناه : أن الله تعالى خلق الخلق ، وهو الذي يبعثهم يوم القيامة .
ثم قال : { أَمْ خَلَقُواْ السموات والارض } يعني : بل الله تعالى خلقهم { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } بتوحيد الله الذي خلقهما ، أنه واحد لا شريك له .
ثم قال { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ } يعني : مفاتيح رزق ربك . ويقال : مفاتيح ربك الرسالة ، فيضعونها حيث شاؤوا ، ولكن الله يختار من يشاء ، كقولهم : { أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [ القمر : 25 ] .
ثم قال : { أَمْ هُمُ المسيطرون } يعني : أهم المسلطون عليهم ، يحملونهم حيث شاؤوا على الناس ، فيجبرونهم بما شاؤوا . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، في إحدى الروايتين : { المسيطرون } بالسين . والباقون : بالصاد . وقرأ حمزة : { المزيطرون } بإشمام الزاء . وقال الزجاج : تسيطر علينا ، وتصيطر . وأصله السين ، وكل سين بعدها طاء ، يجوز أن تقلب صاداً ، مثل مسيطر ، ويبسط .
ثم قالوا : { المسيطرون أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } يعني : سبباً إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } يعني : يرتقون عليه ، فيستمعون القول من رب العالمين { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ } أي : بحجة بينة .
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
ثم قال عز وجل : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } .
ثم بيّن جهلهم ، وقلة أحلامهم ، أنهم يجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم .
قال عز وجل : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } ومعناه : أن الحجة واجبة عليهم من كل وجه ، لأنك قد أتيتهم بالبيان والبرهان ، ولم تسألهم على ذلك أجراً . فقال : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ } يعني : أتطلب منهم { أَجْراً } بما تعلمهم من الأحكام ، والشرائع . { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } يعني : من أجل المغرم ، يمتنعون عن الإيمان . يعني : لا حجة لهم في الامتناع ، لأنك لا تسأل منهم أجراً ، فيثقل عليهم لأجل الأجر .
قوله عز وجل : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } يعني : عندهم الغيب بأن الله لا يبعثهم { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } يعني : أمعهم كتاب يكتبون بما شاؤوا؟ يعني : ما في اللوح المحفوظ ، فهذا كله لفظ الاستفهام ، والمراد به : الزجر .
ثم قال عز وجل : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } بل يريدون وعيداً بالنبي صلى الله عليه وسلم { فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } يعني : بل هم المعذبون ، الهالكون .
قوله عز وجل : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } يعني : ألهم خالق غير الله يخلق ، ويرزق ، ويمنعهم من عذابنا { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } يعني : تنزيهاً لله تعالى عما يصفون من الشريك ، والولد .
ثم ذكر قسوة قلوبهم فقال : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا } يعني : جانباً من السماء ساقطاً عليهم { يَقُولُواْ } يعني : لقالوا من تكذيبهم { سحاب مَّرْكُومٌ } يعني : متراكماً بعضه على بعض ، لأنهم كانوا يقولون : لا نؤمن بك حتى تسقط علينا كسفاً .
ثم قال الله تعالى : لو فعلنا ذلك ، لم يؤمنوا ، ولا ينفعهم من قسوة قلوبهم .
ثم قال : { فَذَرْهُمْ } يعني : فتخل عنهم يا محمد { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ } يعني : يعاينوا يومهم { الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ } يعني : يموتون . ويقال : يعذبون . قرأ عاصم ، وابن عامر ، { يُصْعَقُونَ } بضم الياء والباقون . { يُصْعَقُونَ } بنصب الياء ، وكلاهما واحد ، وهما لغتان .
ثم وصف حالهم في ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } يعني : لا ينفعهم صنيعهم شيئاً { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعني : لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب .
ثم قال عز وجل : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } يعني : من قبل عذاب النار قد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : عذاب القبر وقال معمر عن قتادة : قال : عذاب القبر في القرآن .
ثم قرأ { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } ويقال { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } يعني : القتل . ويقال : الشدائد ، والعقوبات في الدنيا . { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون بالعذاب .
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم فقال : { واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } يعني : لما أمرك ربك ، ونهاك عنه .
ويقال : واصبر على تكذيبهم ، وأذاهم . { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } يعني : فإنك بمنظر منا ، والله تعالى يرى أحوالك ، ولا يخفى عليه شيء . وقال الزجاج : { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } بمعنى فإنك بحيث نراك ، ونحفظك ، ولا يصلون إلى مكرك . ويقال : نرى ما يصنع بك . { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } يعني : صل بأمر ربك قبل طلوع الشمس . يعني : صلاة الفجر وقبل الغروب . يعني : صلاة العصر . { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } يعني : صل صلاة المغرب والعشاء ويقال : حين تقوم صلاة الفجر ، والظهر ، والعصر . ومعناه : صل صلاة النهار ، وصلاة الليل . ويقال : { سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } يعني : قل سبحانك اللهم وبحمدك إذا قمت إلى الصلاة وهذا قول ربيع بن أنس .
{ وإدبار النجوم } يعني : ركعتي الفجر . وروى سعيد بن جبير ، عن زاذان ، عن عمر رضي الله عنه : لا صلاة بعد طلوع الفجر ، إلا ركعتي الفجر ، وهما إدبار النجوم . وروى أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال : { والركع السجود } الركعتان بعد المغرب ، { وإدبار النجوم } الركعتان قبل الفجر . وروى وكيع عن ابن عباس أنه قال : بت ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعتي الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة . فقال ابن عباس : الركعتان اللتان قبل الفجر ، { فِى النجوم } واللاتي بعد المغرب { والركع السجود } وفي الآية ، دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل ، لأنه أمر بركعتي الفجر بعد ما أدبرت النجوم ، وإنما أدبرت النجوم بعد ما أسفر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
قوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } قال ابن عباس رضي الله عنه : أقسم الله تعالى بالقرآن ، إذا نزل نجوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً بعد وقت . الآية ، والآيتان ، والسورة ، والسورتان ، وكان بين أوله وآخره إحدى وعشرون سنة . قال مجاهد : أقسم الله بالثريا إذا غابت ، وسقطت . والعرب تسمي الثريا : نجماً . ويقال : أقسم بالكواكب المضيئة . ويقال : أقسم بجميع الكواكب . { مَا ضَلَّ صاحبكم } وذلك أن قريشاً قالوا له : قد تركت دين آبائك ، وخرجت من الطريق؛ وتقول شيئاً من ذات نفسك فنزل : { والنجم إِذَا هوى } { مَا ضَلَّ صاحبكم } يعني : ما ترك دين أبيه إبراهيم { وَمَا غوى } يعني : لم يضل قوماً . والغاوي والضال واحد . يقال : الضلال : قبل البيان . والفساد؛ بعد البيان . قرأ حمزة والكسائي : { إِذَا هوى } { وَمَا غوى } كله بالإمالة في جميع السورة . وقرأ نافع وأبو عمرو : بين الإمالة ، والفتح في جميع السورة . والباقون : بالتخفيف . وكل ذلك جائز في اللغة .
ثم قال : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } يعني : ما ينطق بهذا القرآن بهوى نفسه ، والعرب تجعل عن مكان الباء . تقول : رميت عن القوس ، أي : بالقوس { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } أي : بالهوى { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى } يعني : ما هذا القرآن إلا وحي يوحى إليه { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } يعني : أتاه جبريل عليه السلام ، وعلمه ، وهو { شَدِيدُ القوى } وأصله في اللغة ، من قوى الجبل ، وهو طاقاته ، والواحد قوة . ويقال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } يعني : الله تعالى يعلمه بالوحي وهو ذو القوة المتين .
قوله عز وجل : { ذُو مِرَّةٍ } يعني : ذي قوة . وأصل المرة : القتل ، فيعبر به عن القوة . ومنه الحديث : « لاتَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيَ وَلا لِذِي مَرَّةٍ سَوِيٍ » .
ثم قال عز وجل : { فاستوى } يعني : جبريل عليه السلام . ويقال : { فاستوى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { وَهُوَ بالافق الاعلى } يعني : من قبل مطلع الشمس جبريل ، فرآه على صورته ، وله جناحان ، أحدهما بالمشرق ، والآخر بالمغرب .
{ ثُمَّ دَنَا فتدلى } إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما دنا منه ، انتقص حتى إذا قرب منه مقدار قوسين ، رآه كما في سائر الأوقات ، حتى لا يشك جبريل { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } يعني : في القرب مقدار قوسين . وقال بعضهم : ليلة المعراج ، دنا من العرش مقدار قوسين ، وإنما ذكر القوسين لأن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس . ويقال : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } يعني : قدر ذراعين ، وإنما سمي الذراع قوساً ، لأنه تقاس به الأشياء . { أَوْ أدنى } يعني : بل أدنى . ويقال : أو بمعنى واو العطف . يعني : مقدار قوسين أو أقرب من ذلك .
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله تعالى : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } يعني : أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه جبريل ما قرأ . ويقال : تكلم مع عبده ليلة المعراج ما تكلم . ويقال : أمر عبده بما أمر .
ثم قال : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } يعني : ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بصره من أمر ربه في رؤية جبريل عليه السلام . ويقال : في رؤية الله تعالى بقلبه . قال محمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل رأيت ربك : فقال : رأيته بفؤادي . ولم أره بعيني ، قرأ الحسن ما كذَّب بتشديد الذال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومعناه لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذباً . والباقون : بالتخفيف . يعني : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى .
ثم قال عز وجل : { أفتمارونه على مَا يرى } قرأ حمزة : { أفتمارونه } بنصب التاء ، وجزم الميم بغير ألف . وهكذا روي عن ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهما ، ومعناه : أفتجحدونه فيما رأى . والباقون : { أفتمارونه } يعني : أفتجادلونه لأنه رأى من آيات ربه الكبرى .
ثم قال : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } يعني : لقد رأى جبريل مرة أخرى . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : رأى ربه مرة ، فقال : إن الله كلم موسى مرتين ، ورأى محمداً مرتين ، فبلغ ذلك إلى عائشة رضي الله عنها ، وعن أبيها ، فقالت : قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام؛ فقيل لها : يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } فقالت : أنا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : رأيت جبريل نازلاً في الأفق على خلقته ، وصورته . ويقال : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } يعني : رآه بفؤاده وأكثر المفسرين يقولون : إن المراد به جبريل . يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم لما رجع من عند ربه ليلة أسري به ، رأى جبريل . { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } فقال مقاتل : السدرة هي شجرة طوبى ، ولو أن رجلاً ركب نجيبه ، وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم ، لما وصل إلى المكان الذي ركب منه ، تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل ، وجميع ألوان الثمار . ويقال : هي شجرة غير شجرة طوبى ، وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة ، تخرج أنهار الجنة من أصل تلك الشجرة . وإنما سميت { سِدْرَةِ المنتهى } لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها . ويقال : أرواح الشهداء تنتهي إليها . ويقال : الملائكة ينتهون إليها ، ولا يجاوزنها . ويقال : لأن علم كل واحد ينتهي إليها ، ولا يتجاوزنها ، ولا يدري ما فوق ذلك . وروي عن طلحة بن مطرف ، عن مرة ، عن عبد الله قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وإليها ينتهي ما عرف من تحتها ، وإليها ينتهي ما هبط من فوقها ، وهي النهاية التي ينتهي إليها من فوق ، ومن تحت ، ولا يتجاوز عن ذلك .
ثم قال عز وجل : { عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } وإنما سميت المأوى لأنه يأوي إليها أرواح الشهداء . قرأ سعد بن أبي وقاص ، وعائشة رضي الله عنهما : { جَنَّةُ المأوى } بالتاء . وقيل لسعد : إن فلاناً يقرأ عندها { جَنَّةُ المأوى } بالهاء . قال سعد : ما له أجنه الله . وعن أبي العالية قال : سألني ابن عباس : كيف تقرأها يا أبي العالية؟ قال : قلت له جنة . قال : صدقت هي مثل قوله : { جنات المأوى } . وقراءة العامة { جَنَّةُ } وهي من جنات .
ثم قال : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } يعني : يغشاها من الملائكة ما يغشى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ماذا يغشى؟ قال : جراد من ذهب . ويقال : فراش من ذهب . وقال الحسن : يغشاها نور مثل الجراد من ذهب .
ثم قال : { مَا زَاغَ البصر } يعني : ما مال ، وما عدل بصر محمد صلى الله عليه وسلم عما رأى { وَمَا طغى } وما تعدى ، وما جاوز إلى غيره . ويقال : { وَمَا طغى } يعني : وما ظلم صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى تلك الليلة التي عرج به إلى السماء { لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } وهو الرفرف الأخضر ، قد غطى الأفق ، فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وجاوز سدرة المنتهى . وقال ابن مسعود : رأى جبريل وله ستمائة جناح ، وهم { مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر برؤية جبريل ، تعجبوا منه ، وأنكروا ، فأخبر الله تعالى أنه قد رآه مرة أخرى ، وأنه قد { لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ } .
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)
ثم قال عز وجل : { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى } قرأ مجاهد : { اللات } بتشديد التاء . يقال : كان رجلاً يلت السويق بالزيت ، ويطعم الناس . وقال السدي : كان رجلاً يقوم على آلهتهم ، ويلت السويق لهم . ويقال : كانت حجارة يعبدونها ، وينزل عندها رجل يبيع السويق ، ويلته ، فسميت تلك الحجارة باللات . وقرأه العامة بغير تشديد . قال مقاتل : وإنما سمي { اللات والعزى } لأنهم قالوا : هكذا أسماء الملائكة ، وهم بناته فنزل { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ والانثى } وقال قتادة : { اللات } كان لأهل الطائف ، { والعزى } لقريش ، ومناة للأنصار . ويقال : إن المشركين أرادوا أن يجعلوا من آلهتهم من أسماء الحسنى ، فأرادوا أن يسموا الواحد منها الله ، فجرى على لسانهم { اللات } وأرادوا أن يسموا الواحد منها العزيز ، فجرى على لسانهم العزى ، وأرادون أن يسموا الواحد منها المنان فجرى على لسانهم مناة . ويقال : إن العزى كانت نخلة بالطائف يعبدونها ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطع تلك النخلة ، فخرجت منها امرأة تجر شعرها على الأرض ، فأتبعها بفأس ، فقتلها ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « تِلْكَ العُزَّى قَتَلَهَا فَلاَ تُعْبَدُ العُزَّى أَبَداً » . ويقال : أول الأصنام كانت اللات ، ثم العزَّى ثم مناة . وهو قوله : { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى } { ومناة الثالثة الاخرى } يعني : أفرأيتم عبادتها تنفعهم في الآخرة .
ثم قال : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى } يعني بني مدلج ، ويعبدون الملائكة ، ويقولون : هم بناته فيشفعوا لنا { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } أي : جائرة معوجة . قرأ ابن كثير : بهمز الألف ، والمد . والباقون : بغير همز ، ومعناهما واحد ، وهو اسم الصنم . وقرأ ابن كثير : { ضئزى } بالهمزة . والباقون : بغير همزة ، ومعناهما واحد . يقال : ضازه ، يضيزه ، إذا نقصه حقه . يقال : ضزت في الحكم أي جرت .
ثم قال : { ضيزى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } يعني : الأصنام ، { أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ } بالتقليد { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان } يعني : من عذر ، وحجة لكم بما تقولون { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني : ما يعبدون ، وما يتبعون إلا الظن ، ولا تعرفونها أنها يقيناً آلهة ، { وَمَا تَهْوَى الانفس } يعني : يتبعون ما تشتهي أنفسهم ، وعبدوه ، وتركوا دين الله ، { وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى } يعني : أتاهم الكتاب ، والرسول ، وبين لهم طريق الهدى .
ثم قال عز وجل : { أَمْ للإنسان مَا تمنى } يعني : ما يتمنى بأن الملائكة تشفع له ، فيكون الأمر بتمنيه ، { فَلِلَّهِ الاخرة والاولى } يعني : ثواب الآخرة والأولى . ويقال : أهل السموات ، وأهل الأرض كلهم عبيده ويقال : له نفاذ الأمر في الآخرة ، والأولى . ويقال : جميع ما فيها يدل على وحدانيته .
ثم قال : { وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات اَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً } يعني : لا تنقطع شفاعتهم ، رداً لقولهم : إنهم يشفعون لنا .
ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى } يعني : من كان معه التوحيد ، فيشفع له بإذن الله تعالى .
ثم قال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يعني : لا يصدقون بالبعث { لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى } باسم البنات ، وفيه تنبيه للمؤمنين ، لكي لا تقولوا مثل مقالتهم ، وزجراً للكافرين عن تلك المقالة .
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قال عز وجل : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يعني : ليس لهم حجة على مقالتهم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني : ما يتبعون إلا الظن يعني : على غير يقين { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً } يعني : لا يمنعهم من عذاب الله شيئاً { فَأَعْرَضَ مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } يعني : اترك من أعرض عن القرآن ، ولا يؤمن به . { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } يعني : لم يرد بعلمه الدار الآخرة ، إنما يريد به منفعة الدنيا { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } يعني : غاية علمهم الحياة الدنيا . ويقال : ذلك منتهى علمهم ، لا يعلمون من أمر الآخرة شيئاً ، وهذا كقوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة غافلون } .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } يعني : هو أعلم بمن ترك طريق الهدى { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } يعني : من تمسك بدين الإسلام ، ومعناه : فأعرض عنهم ، ولا تعاقبهم ، فإن الله عليم بعقوبة المشركين ، وبثواب المؤمنين ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال .
ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم فقال : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق { لِيَجْزِىَ الذين فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } يعني : ليعاقب في الآخرة الذين أشركوا ، وعملوا المعاصي { وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } يعني : ويثيب الذين آمنوا ، وأدوا الفرائض الخمسة بإحسانهم .
ثم نعت المحسنين فقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } قرأ حمزة والكسائي : { كَبِير الإثم } بلفظ الوحدان ، والمراد به : الجنس . والباقون : { يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم } بلفظ الجماعة . قال بعضهم : { كبائر الإثم } يعني : الشرك بالله ، { والفواحش } يعني : المعاصي . وقال بعضهم : { كبائر الإثم والفواحش } بمعنى واحد ، لأن كل فاحشة كبيرة ، وكل كبيرة فاحشة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « الْكَبَائِرُ أَرْبَعَةٌ : الشِّرْكُ بِالله ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ الله ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله » . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكبائر سبعة . فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس ، فقال : هي إلى السبعين أقرب . ويقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقيل : كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة ، كما روي عن بعضهم أنه قال : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار .
قال : { إِلاَّ اللمم } وقال بعضهم : { اللمم } هو الصغائر من الذنوب . يعني : إذا اجتنبت الكبائر ، يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، وهو كقوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] قال مقاتل : نزلت في شأن نبهان التمار ، وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر ، فقال لها : ادخلي الحانوت ، فعانقها ، وقبلها ، فقالت المرأة : خنت أخاك ولم تصب حاجتك ، فندم ، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى مسروق عن ابن مسعود : قال زنى العينين النظر ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، وإنما يصدق ذلك الفرج ، أو يكذبه . فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمماً . وقال عكرمة : { اللمم } النظر ، وحديث النفس ، ونحو ذلك . وروى طاوس ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى . فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ نَظَرُ النَّاظِرِ ، وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى ، وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أوْ يُكَذِّبُهُ » . وقال عبد الله بن الزبير : { اللمم } القبلة ، واللمس باليد . وقال بعضهم : { اللمم } كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه . وروى منصور ، عن مجاهد قال : في قوله : { إِلاَّ اللمم } هو الرجل يذنب الذنب ، ثم ينزع عنه . وروي عن أبي هريرة : قال : { اللمم } النكاح . وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال : صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية . يقول الله تعالى في كتابه { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] . وروي عن الحسن أنه قال : { اللمم } هو أن يصيب النظرة من المرأة ، والشربة من الخمر . ثم ينزع عنه . وروي عن مجاهد أنه قال : الذي يلم بالذنب ، ثم يدعه . وقد قال الشاعر
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأيّ عَبْدِ للَّه لا أَلَمَّا
وقال بعضهم : { إِلاَّ اللمم } ومعناه : ولا اللمم . ومعناه : أن تجتنبوا صغائر الذنوب ، وكبائرها ، كما قال القائل : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير ، والعيش . يعني : ولا اليعافير ، ولا العيس . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إيَّاكُمْ وَالمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ » . وسئل زيد بن ثابت عن قوله : { إِلاَّ اللمم } قال : حرم الله الفواحش ما ظهر منها ، وما بطن .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } يعني : واسع الفضل ، غافر الذنوب للذين يتوبون . ويقال : معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر .
ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } يعني : هو أعلم بحالكم منكم { إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الارض } يعني : إذ هو خلقكم من الأرض . يعني : خلق آدم من تراب ، وأنتم من ذريته . { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } يعني : كنتم صغاراً { فِى بُطُونِ أمهاتكم } كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله ، { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ } يعني : لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب ، ولا تمدحوها .
ويقال : { وَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : لا يمدح بعضكم بعضاً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرابَ » . والمدح على ثلاثة أوجه : أوله أن يمدحه في وجهه ، فهو الذي نهي عنه . والثاني : أن يمدحه بغير حضرته ، ويعلم أنه يبلغه ، فهو أيضاً منهي عنه . والثالث : أن يمدحه في حال غيبته ، وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ، ويمدحه بما هو فيه ، فلا بأس بهذا . ويقال : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : لا تطهروا أنفسكم من العيوب . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَاحِلَةً » . { بِمَنِ اتقى } يعني : من يستحق المدح ، ومن لا يستحق المدح .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
ثم قال : { أَفَرَأَيْتَ الذى تولى } يعني : أعرض عن الحق ، وهو الوليد بن المغيرة ، ومن كان في مثل حاله { وأعطى قَلِيلاً } يعني : وأنفق قليلاً من ماله { وأكدى } يعني : هو أمسك عن النفقة . قال مقاتل : أنفق الوليد بن المغيرة على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نفقة قليلة ، ثم انتهى عن ذلك . وقال القتبي : { وأكدى } أصله من كديه الدكية وهي الصلابة فيها . فإذا بلغها الحافر ، يبس حفرها ، فقطع الحفرة . يعني : تركها . فقيل : لمن طلب شيئاً ، ولم يدرك أخره ، وأعطى شيئاً ، ولم يتم وأكدى .
ثم قال عز وجل : { عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى أَمْ } يعني : أعنده علم الآخرة { فَهُوَ يرى } صنيعه . وقيل : يعلم ما في اللوح المحفوظ ، فيرى صنيعه . { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى } يعني : ألم يخبر بما بيّن الله تعالى في صحف موسى . قال بعضهم : { صُحُفِ موسى } يعني : التوراة . وقال بعضهم : هو كتاب أنزل عليه قبل التوراة { وإبراهيم الذى وفى } يعني : في كتاب إبراهيم { الذى وفى } يعني : بلغ الرسالة . ويقال : { وفى } بمعنى عمل ما أمر به . وذلك أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعثمان : إنك تنفق مالك ، فعن قريب تفتقر . فقال عثمان : إن لي ذنوباً . فقال الوليد : ادفع إلي بعض المال حتى أدفع ذنوبك ، فدفع إليه ، فأنزل الله تعالى { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى } يعني : ألم يبين الله تعالى في كتاب موسى ، وكتاب إبراهيم ، { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } يعني : لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى . ويقال : { وإبراهيم الذى وفى } يعني : بما ابتلاه الله تعالى بعشر كلمات . ويقال : بذبح الولد . ويقال : كان يصلي كل غداة أربع ركعات ، صلاة الضحى فسماه وفياً .
ثم قال عز وجل : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } يعني : ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا من خير أو شر { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } يعني : يرى ثواب عمله في الآخرة .
قوله عز وجل { ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الاوفى } يعني : يعطى ثوابه كاملاً { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } يعني : إليه ينتهي أعمال العباد ، وإليه يرجع الخلق كلهم ، فهذا كله في مصحف موسى ، وإبراهيم .
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
ثم قال : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } يعني : { أَضْحَكَ } أهل الجنة في الجنة . قال : { وأبكى } أهل النار في النار . ويقال : { أَضْحَكَ } في الدنيا أهل النعمة ، { وأبكى } أهل الشدة ، والمعصية . { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } يعني : يميت في الدنيا ، ويحيي في الآخرة للبعث { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين } يعني : اللونين ، والصنفين ، { الذكر والانثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } يعني : تهراق في رحم الأنثى . وقال القتبي : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } يعني : تقدر ، وتخلق . ويقال : ما تدري ما يمني لك الماني . يعني : ما يقدر لك المقدر .
ثم قال عز وجل : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الاخرى } يعني : البعث بعد الموت . يعني : ذلك إليه ، وبيده ، وهو قادر على ذلك ، فاستدل عليهم بالفعل الآخر بالفعل الأول ، أنه خلقهم في الابتداء من النطفة ، وهو الذي يحييهم بعد الموت { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } يعني : حول وأعطى المال . { وأقنى } يعني : أفقر . ويقال : { أغنى } يعني : يعطي { وأقنى } يعني : يُرضي بما يُعطي . ويقال : { أغنى } نفسه عن الخلق { وأقنى } يعني : أفقر الخلق إلى نفسه . وروى السدي عن أبي صالح : { أغنى } بالمال ، { وأقنى } يعني : بالقنية . وقال الضحاك : { أغنى } بالذهب ، وبالفضة ، والثياب ، والمسكن ، { وأقنى } بالإبل ، والبقر ، والغنم ، والدواب . وقال عكرمة : { أغنى } يعني : أرضى { وأقنى } يعني : وأقنع .
ثم قال : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } يعني : وأن الله هو خالق الشعرى . قال ابن عباس : هو كوكب تعبده خزاعة يطلع بعد الجوزاء ، يقول الله تعالى وأنا ربها ، وأنا خلقتها ، فاعبدوني .
ثم خوفهم فقال عز وجل : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاولى } بالعذاب ، وهم قوم هود عليه السلام ، وكان بعدهم عاد آخر سواهم ، فلهذا سماهم عاد الأُولى { وَثَمُودَ فَمَا أبقى } يعني : قوم صالح عليه السلام ، فأهلكهم الله ، وما بقي منهم أحد . قرأ نافع ، وأبو عمرو { عَادٍ الاولى } بحذف الهمزة ، وإدغام التنوين . والباقون : { عَاداً } بالتنوين الأولى ، بالهمزة . وكلاهما جائز عند العرب . وقرأ حمزة ، وعاصم ، رواية حفص : { وَثَمُودُ } بغير تنوين . والباقون : { ثموداً } بالتنوين . قال أبو عبيد نقرأ بالتنوين مكان الألف الثانية في المصحف .
ثم قال : { مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ } يعني : أهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى } يعني : أشد في كفرهم ، وطغيانهم ، لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فدعاهم ، فلم يجيبوا ، وكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه .
ثم قال عز وجل : { والمؤتفكة أهوى } يعني : مدينة قوم لوط . وسماها مؤتفكة لأنها ائتفكت . أي : انقلبت { أهوى } أي : أسقط . ويقال : { المؤتفكة } يعني : المكذبة { والمؤتفكة أهوى } يعني : أهوى من السماء إلى الأرض ، وذلك أن جبريل عليه السلام حيث قلع تلك المدائن ، فرفعها إلى قريب من السماء ، ثم قلبها ، وأهواها إلى الأرض .
{ فغشاها مَا غشى } يعني : فغشاها من الحجارة { مَا غشى } كقوله : { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ الحجر : 74 ] .
ثم قال : { فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى } يعني : بأي نعمة من نعماء ربك تتجاحد أيها الإنسان ، بأنها ليست من الله تعالى .
قوله عز وجل : { هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { نَّذِيرٍ } مثل { النذر الاولى } يعني : رسولاً مثل الرسل الأولى ، ثم نوح ، وهود ، وصالح صلوات الله عليهم ، وقد خوفهم الله ليحذروا معصيته ، ويتبعوا ما أمرهم الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { أَزِفَتِ الازفة } يعني : دنت القيامة { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } يعني : ليس للساعة من دون الله { كَاشِفَةٌ } عن علم قيامها ، وهذا كقوله : { يَسْألُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السماوات والارض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 187 ] .
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
ثم قال عز وجل : { أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ } يعني : من القرآن تعجبون تكذيباً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاءً . { وَلاَ تَبْكُونَ } مما فيه من الوعد { وَأَنتُمْ سامدون } يعني : لاهين عن القرآن . روي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : هو الغناء . كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ، ولعبوا ، وهي بلغة أهل اليمن . وقال قتادة { سامدون } يعني : غافلون .
ثم قال عز وجل : { فاسجدوا لِلَّهِ } يعني : صلوا لله . ويقال : اخضعوا لله { واعبدوا } يعني : أطيعوا . ويقال : { فاسجدوا لِلَّهِ } في الصلاة { واعبدوا } يعني : وحدوه . ويقال : هو سجدة التلاوة بعينها . وروي عن الشعبي أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم ، وسجد معه المؤمنون ، والمشركون ، والجن ، والإنس .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
قوله تعالى : { اقتربت الساعة } يعني : دنا قيام الساعة ، لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان من علامات الساعة { وانشق القمر } وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة لنبوته ، فانشق القمر نصفين . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : فانشق القمر نصفين ، فرأيت حراء بين فلقتي القمر ، أي : شقتي القمر . وعن جبير بن مطعم قال : انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وروى قتادة ، عن أنس قال : سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة . وقال بعضهم : { اقتربت الساعة وانشق القمر } يعني : تقوم الساعة ، وينشق القمر يوم القيامة . وأكثر المفسرين قالوا : إن هذا قد مضى . وقال عبد الله بن مسعود : ما وعد الله ورسوله من أشراط الساعة كلها قد مضى ، إلا أربعة طلوع الشمس من مغربها ، ودابة الأرض ، وخروج الدجال ، وخروج يأجوج ومأجوج .
ثم قال : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ } يعني : إذا رأوا آية من آيات الله مثل انشقاق القمر ، يعرضوا عنها ، ولا يتفكروا فيها . { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } يعني : مصنوعاً . سيذهب . ويقال : معناه ذاهباً يذهب ، ثم التئام القمر . وقال القتبي : { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } يعني : شديد القوى ، وهو من المرة ، وهو القتل . وقال الزجاج : في مستمر قولان : قول ذاهب ، وقول دائم . وقال الضحاك : لما رأى أهل مكة انشقاق القمر . وقال أبو جهل : هذا سحر مستمر فابعثوا إلى أهل الآفاق ، حتى ينظروا إذا رأوا القمر منشقاً أم لا . فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً ، قالوا : هذا سحر مستمر يعني : استمر سحره في الآفاق .
قوله عز وجل : { وَكَذَّبُواْ } يعني : كذبوا بالآية ، وبقيام الساعة . { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } في عبادة الأصنام { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } يعني : كل قول من الله له حقيقة منه في الدنيا سيظهر ، وما كان منه في الآخرة سيعرف . يعني : ما وعد لهم من العقوبة . ويقال : معناه مستقر لأهل النار عملهم ، ولأهل الجنة عملهم . يعني : يعطي لكل فريق جزاء أعمالهم .
ثم قال : { وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الانباء } يعني : جَاء لأهل مكة من الأخبار عن الأمم الخالية { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } يعني : ما فيه موعظة لهم ، وزجر عن الشرك ، والمعاصي .
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
قوله تعالى : { حِكْمَةٌ بالغة } يعني : جاءهم كلمة بالغة ، وهو القرآن يعني : حكمة وثيقة { فَمَا تُغْنِى النذر } يعني : لا تنفعهم النذر إن لم يؤمنوا ، كقوله : { قُلِ انظروا مَاذَا فِى السماوات والارض وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] ويقال : { فَمَا تُغْنِى النذر } لم تنفعهم الرسل إذا نزل بهم العذاب إن لم يؤمنوا .
قوله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } يعني : اتركهم ، وأعرض عنهم ، بعدما أقمت عليهم الحجة . { يَوْمَ يَدْعُو الداع } يعني : يدعو إسرافيل على صخرة بيت المقدس { إلى شَىْء نُّكُرٍ } يعني : إلى أمر فظيع ، شديد ، منكر { خُشَّعاً } يعني : ذليلة { أبصارهم } خاشعاً ، نصب على الحال يعني : يخرجون ، خاشعاً . قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو { خاشعا } بالألف مع النصب . والباقون : خُشعاً بضم الخاء ، بغير ألف ، وتشديد الشين بلفظ الجمع ، لأنه نعت للجماعة . ومن قرأ : بلفظ الواحد ، فلأجل تقديم النعت . وقرأ ابن مسعود : { خاشعة } بلفظ التأنيث . وقرأ ابن كثير : { إلى شَىْء نُّكُرٍ } بجزم الكاف . والباقون : بالضم ، وهما لغتان .
ثم قال عز وجل : { يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث } يعني : من القبور ، { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } يعني : انتشروا عن معدنهم ، ويجول بعضهم في بعض .
قوله تعالى : { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } يعني : مقبلين إلى صوت إسرافيل { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } يعني : شديد عَسِر عليه . وروي في الخبر : « أنَّهُمْ إذا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ ، يَمْكِثُونَ وَاقِفِينَ أَرْبَعِينَ سَنَّةً » ويقال : مائة سنة ، حتى يقولوا أرحنا من هذا ، ولو إلى النار ، ثم يؤمرون بالحساب .
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه كما لقي الرسل من قومهم فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } يعني : قبل قومك يا محمد { قَوْمُ نُوحٍ } حين أتاهم بالرسالة { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } نوحاً { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } يعني : قالوا لنوح : إنك مجنون { وازدجر } يعني : أوعد بالوعيد . ويقال : صاحوا به حتى غشي عليه . وقال القتبي : { وازدجر } أي : زجر . وهو افتعل من ذلك ، فلما ضاق صدره { فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ } يعني : مقهور فيما بينهم { فانتصر } يعني : أعني عليهم بالعذاب ، فأجابه الله كما في سورة الصافات : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون } [ الصافات : 75 ] .
قوله عز وجل : { فَفَتَحْنَا أبواب السماء } يعني : طرق السماء { بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } يعني : منصباً كثيراً . وقال القتبي : { بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } أي : كثير ، سريع الانصباب . ومنه يقال : همر للرجل إذا كثر من الكلام ، وأسرع فيه . قرأ ابن عامر : { فَفَتَحْنَا } بتشديد التاء على تكثير الفعل . وقرأ الباقون : بالتخفيف ، لأنها فتحت فتحاً واحداً .
قوله عز وجل : { وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً } يعني : أخرجنا من الأرض عيوناً مثل الأنهار الجارية { فَالْتَقَى الماء } يعني : ماء السماء ، وماء الأرض ، { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } يعني : على وقت قد قضى { وَحَمَلْنَاهُ } يعني : حملنا نوحاً { على ذَاتِ ألواح } يعني : على سفينة قد اتخذت بألواح { وَدُسُرٍ } يعني : سفينة قد شدت بالمسامير .
وقال بعضهم : كانت سفينة نوح من صاج . وقال بعضهم : من خشب شمشار . ويقال : من الجوز . وقال القتبي : الدسر المسامير ، واحدها دسار ، وهي أيضاً الشريط الذي يشد بها السفينة .
ثم قال : { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } يعني : تسير السفينة بمنظر منا ، وأمرنا . ويقال : بمراد وحفظ منا . وقال الزجاج في قوله : { فَالْتَقَى الماء } ولم يقل الماءان ، لأن الماء اسم لجميع ماء السماء ، وماء الأرض . فلو قال : ماءان لكان جائزاً ، لكنه لم يقل .
ثم قال : { جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ } يعني : الحمل على السفينة ، ثواب لنوح الذي كفر به قومه . وقرأ بعضهم : { جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ } بالنصب يعني : الفرق عقوبة لمن كذب بالله تعالى ، وبنوح .
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ تركناها ءايَةً } أي : سفينة نوح أبقيناها عبرة للخلق . وقال بعضهم : يعني : تلك السفينة بعينها كانت باقية على الجبل إلى قريب من خروج النبي صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : يعني : جنس السفينة صارت عبرة ، لأن الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة ، فاتخذت الناس السفن بعد ذلك في البحر ، فلذلك كانت آية للناس .
ثم قال : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يعني : هل من معتبر يعتبر بما صنع الله تعالى بقوم نوح ، فيترك المعصية . ويقال : فهل من مذكر يتعظ بأنه حق ، ويؤمن به . وقال أهل اللغة : أصل مدكر ، مفتعل من الذكر ، مذتكر ، فأدغمت الذال في التاء ، ثم قلبت دالاً مشددة .
ثم قال : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } يعني : كيف رأيت عذابي ، وإنذاري لمن أنذرهم الرسل ، فلم يؤمنوا ، والنذر بمعنى الإنذار .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان } يعني : هوّنا القرآن { لِلذّكْرِ } يعني : للحفظ . ويقال : هونا قراءاته . وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَوْلا قَوْلُ الله تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } { مَا ألقى مَعَاذِيرَهُ } { لاَ تُحَرّكْ بِهِ } ويقال : هوناه لكي يذكروا به ثم قال : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يعني : متعظ ، يتعظ بما هون من قراءة القرآن . وروى الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } بالدال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فَهَلْ مِنْ مُذَّكِر " يعني : بالذال .
قوله تعالى : { كَذَّبَتْ عَادٌ } يعني : كذبوا رسولهم هود { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } يعني : أليس وجوده حقاً ، ونذر جمع نذير قال القتبي : النذر جمع النذير ، والنذير بمعنى الإنذار ، مثل التنكير بمعنى الإنكار . يعني : كيف كان عذابي ، وإنكاري .
ثم بيّن عذابه فقال عز وجل : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } يعني : سلطنا عليهم ريحاً باردة { فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ } يعني : شديدة استمرت عليهم ، لا تفتر عنهم سبع ليال ، وثمانية أيام ، حسوماً دائمة { تَنزِعُ الناس } يعني : تنزع أرواحهم من أجسادهم ، وهذا قول مقاتل . ويقال : { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } يعني : يوم مشؤوم عليهم : { مُّسْتَمِرٌّ } يعني : استمر عليهم بالنحوسة . وقال القتبي : الصرصر ريح شديدة ذات صوت تنزع الناس . يعني : تقلعهم من مواضعهم . { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } يعني : صرعهم ، فكبهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من الأرض ، فشبههم لطولهم بالنخيل الساقطة . وقال مقاتل : كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً . وقال في رواية الكلبي : كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعاً ، فاستهزؤوا حين ذكر لهم الريح ، فخرجوا إلى الفضاء ، فضربوا بأرجلهم ، وغيبوها في الأرض إلى قريب من ركبهم ، فقالوا : قل للريح حتى ترفعنا ، فجاءت الريح فدخلت تحت الأرض ، وجعلت ترفع كل اثنين ، وتضرب أحدهما على الآخر بعدما ترفعهما في الهواء ، ثم تلقيه في الأرض ، والباقون ينظرون إليهم حتى رفعتهم كلهم ، ثم رمت بالرمل والتراب عليهم ، وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يوماً .
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
قال الله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وقد ذكرناه { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر } يعني : صالحاً حين أتاهم { فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا } يعني : خلقاً مثلنا { نَّتَّبِعُهُ } في أمره { إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال وَسُعُرٍ } يعني : إنا إذا فعلنا ذلك { لَفِى } خطأ وعناء . وقال الزجاج : يعني : إنا إذا فعلنا ذلك { لَفِى ضلال } وجنون . وهذا كما يقال : ناقة مسعورة إذا كان بها جنون . ويجوز أن يكون { وَسُعُرٍ } جمع في معنى العذاب .
ثم قال عز وجل : { الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ } يعني : اختص بالنبوة ، والرسالة من بيننا ، { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } يعني : كاذباً على الله { أَشِرٌ } يعني : بطراً متكبراً .
قوله عز وجل : حدّثنا { سَيَعْلَمُونَ غَداً } قرأ ابن عامر ، وحمزة { ستعلمون } بالتاء على معنى المخاطبة . يعني : أن صالحاً قال لهم { ذلك غَداً } والباقون : بالياء على معنى الخبر عنهم من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعلمون غداً يعني : يوم القيامة { مَّنِ الكذاب الاشر } أهم ، أم صالح؟ ومعناه : أنه يتبين لهم أنهم هم الكاذبون ، وكان صالحاً صادقاً في مقالته .
ثم قال : { إِنَّا مُرْسِلُواْ } يعني : نخرج لهم { الناقة } وذلك حين سألوا صالحاً بأن يخرج لهم ناقة من الحجر ، فدعا صالح ربه ، فأوحى الله تعالى إليه أني مخرج الناقة { فِتْنَةً } يعني : بلية { لَّهُمْ فارتقبهم } يعني : انتظر هلاكهم { واصطبر } على الإيذاء .
قوله تعالى : { وَنَبّئْهُمْ } يعني : وأخبرهم { أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } يوم للناقة ، ويوم لأهل القرية { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } يعني : إذا كان يوم الناقة تحضر الناقة ، ولا يحضرون ، وإذا كان يومهم لا تحضر الناقة ، وكل فريق يحضر في نوبته { فَنَادَوْاْ صاحبهم } يعني : مصدع أو قذار { فتعاطى فَعَقَرَ } يتناول الناقة بالسهم يعقرها { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة } يعني : صيحة جبريل عليه السلام { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } قال قتادة : يعني : كرماد محترق . وقال الزجاج : الهشيم ما يبس من الورق ، وتحطم ، وتكسر قرأ بعضهم : { كَهَشِيمِ المحتظر } بنصب الظاء . وقراءة العامة : بالكسر : فمن قرأ بالنصب فهو اسم الحظيرة ، ومعناه : كهشيم المكان الذي يحضر فيه الهشيم . ومن قرأ بالكسر : فهو صاحب الحظيرة ، يعني : يجمع الحشيش في الحظيرة ، لغنمه فداسته الغنم .
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } يعني : سهلناه للحفظ ، لأن كُتب الأولين يقرؤها أهلها نظراً ، ولا يكادون يحفظون من أولها إلى آخرها ، كما يحفظ القرآن { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يعني : متعظ به .
قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر } يعني : بالرسل ، لأن لوطاً عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بجميع الرسل ، فكذبوهم ، ولم يؤمنوا ، فأهلكهم الله تعالى .
وهو قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا } يعني : حجارة من فوقهم { إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ } يعني : وقت السحر .
قوله تعالى : { نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا } يعني : رحمة من عندنا على آل لوط . صار نعمة نصباً لأنه مفعول . ومعناه : ونجيناهم بالإنعام عليهم { كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } يعني : هكذا يجزي الله تعالى من شكر نعمته ، ولم يكفرها . ويقال : { مَن شَكَرَ } يعني : من وحد الله تعالى ، لم يعذبه في الآخرة مع المشركين ، فكما أنجاهم في الدنيا ينجيهم في الآخرة ، ولا يجعلهم مع المشركين .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } يعني : خوفهم لوط عقوبتنا { فَتَمَارَوْاْ بالنذر } يعني : شكوا بالرسل ، فكذبوا ، يعني : لوط . ويقال : معناه شكوا بالعذاب الذي أخبرهم به الرسل أنه نازل بهم .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } يعني : طلبوا منه الضيافة ، وكانت أضيافه جبريل مع الملائكة ، فمسح جبريل بجناحه على أعينهم ، فذهب أبصارهم ، وذلك قوله : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } يعني : أذهبنا أعينهم ، وأبصارهم ، { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الخبر . يعني : فذوقوا عذاب الله تعالى ، أي : عقوبة الله ما أخبر الله تعالى .
ثم قال : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } يعني : أخذهم وقت الصبح عذاب دائم . يعني : عذاب الدنيا موصولة بعذاب الآخرة { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ } يقال لهم : ذوقوا عذاب الله تعالى ، وإنذاره .
ثم قال : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وقد ذكرناها .
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر } يعني : الرسل وهو موسى ، وهارون ، { كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا } يعني : بالآيات التسع { فأخذناهم } يعني : عاقبناهم عند التكذيب ، { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } يعني : عقوبة منيع بالنقمة على عقوبة الكفار ، مقتدراً يعني : قادراً على عقوبتهم ، وهلاكهم .
ثم خوف كفار مكة فقال : { أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } يعني : أكفاركم أقوى في النذر من الذين ذكرناهم ، فأهلكهم الله تعالى ، وهو قادر على إهلاكهم { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر } يعني : براءة في الكتب من العذاب . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الزجر . يعني : ليس لكم براءة ، ونجاة من العذاب .
ثم قال عز وجل : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } يعني : ممتنع من العذاب يقول الله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع } يعني : سيهزم جمع أهل مكة في الحرب { وَيُوَلُّونَ الدبر } يعني : ينصرفون من الحرب ، منهزمين . يعني : به : يوم بدر ، وفي هذا علامة من علامات النبوة ، لأن هذه الآية نزلت بمكة ، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب ، فكان كما قال . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، أن عمر رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } فكنت لم أعلم ما هي ، وكنت أقول : أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر ، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ، ويقول : «سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلَّوْنَ الدُّبَر» وقال الزجاج : «ويولون الدبر» يعني : الإدبار ، كقوله تعالى : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ آل عمران : 111 ] لأن اسم الواحد يدل على الجمع ، وكذلك قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ } [ القمر : 54 ] أي : أنهار . وذكر عن الفراء أنه قال : إنما وحّد لأنه رأس آية تقابل بالتوحيد رؤوس الآي . وكذلك في الدبر ، لموافقته رؤوس الآي .
ثم قال : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } يعني : مجمعهم { والساعة أدهى وَأَمَرُّ } يعني : عذاب الساعة أعظم وأشد من عذاب الدنيا .
ثم وصف عذاب الآخرة فقال : { إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ } يعني : المشركين في الدنيا في ضلالة ، وخطأ ، وخلاف ، وفي سعير في الآخرة . والسعر جماعة السعير . ويقال : { السعر } يعني : في عناء .
ثم أخبرهم بمستقرهم فقال عز وجل : { وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } يعني : يجرون في النار على وجوههم ، ويقول لهم الخزنة : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } يعني : عذاب النار .
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
ثم قال : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } يعني : خلقنا لكل شيء شكله مما يوافقه . وروي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : هذه الآية نزلت في أهل القدر { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } وقال محمد بن كعب القرظي : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } نزلت تعبيراً لأهل القدر . قال أبو الليث : حدّثنا أبو جعفر . قال : حدّثنا أبو القاسم ، حدّثنا محمد بن الحسن ، حدّثنا سفيان عن وكيع ، عن زياد بن إسماعيل ، عن محمد بن عبادة ، عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت الآية { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } وروى الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } قال : خلق لكل شيء من خلقه ما يصلحهم من رزق ، ومن الدواب ، وخلق لدواب البر ، ولغيرها من الرزق ما يصلحها ، وكذلك لسائر خلقه .
قوله عز وجل : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة } يعني : وَمَا أمرنا بقيام الساعة إلا مرة واحدة { كَلَمْحٍ بالبصر } يعني : كرجع البصر . ومعناه : إذا أمرنا بقيام الساعة واحدة ، فنقول : كن فيكون أقرب من طرف البصر .
ثم قال : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم } يعني : عَذَّبنا أشباهكم ، وأهل ملتكم . ويقال : إخوانكم حين كذبوا رسلهم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يعني : معتبر يعتبر فيكم ، فيعلم أن ذلك حق ، ويخاف عقوبة الله .
ثم قال عز وجل : { وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزبر } يعني : وكل شيء عملوه في الكتاب يحصى عليهم { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } يعني : مكتوباً في اللوح المحفوظ .
ثم قال : { إِنَّ المتقين } يعني : الذين يتقون الشرك ، والفواحش ، { فِى جنات وَنَهَرٍ } يعني : في بساتين ، وأنهار جارية ، { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } يعني : في أرض كريمة . ويقال في مجلس حسن ، وهي أرض ( الجنة ) { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } يعني : في جوار مليك ، قادر على الثواب ، قادر على خلقه ، مثيب ، ومعاقب . وقال القتبي : النهر الضياء ، والسعة ، من قولك انهرت الطعنة إذا وسعتها . [ قال أبي بن كعب رضي الله عنه : من قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غب بعثه الله تعالى ووجهه مثل القمر ليلة البدر ، وإن قرأ بها في كل ليلة كان أفضل ] . والله أعلم بالصواب .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
قوله تبارك وتعالى : { الرحمن عَلَّمَ القرءان } وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { اسجدوا للرحمن } قال كفار مكة : وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وقالوا : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب . فأنزل الله تعالى : { الرحمن } فأخبر عن نفسه ، وذكر صفة توحيده ، فقال : { الرحمن } يعني : الرحمن الذي أنكروه { عَلَّمَ القرءان } يعني : أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليقرأ عليه جبريل عليه السلام ، ويعلمه ، { خَلَقَ الإنسان } يعني : الذي خلق آدم من أديم الأرض . ويقال : خلق محمداً . ويقال : { خَلَقَ الإنسان } أراد به جنس الإنسان . يعني : جعله مخبراً ، مميزاً ، حتى يميز الإنسان من جميع الحيوان { عَلَّمَهُ البيان } يعني : الكلام . ويقال : يعني : الفصاحة . ويقال : الفهم .
ثم قال : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } يعني : بحساب ، ومنازل ، ولا يتعدانها . ويقال : { بِحُسْبَانٍ } يعني : يدلان على عدد الشهور ، والأوقات ، ويعرف منها الحساب { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } { والنجم } كل نبات ينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ، مثل الكرم ، والقرع ، ونحو ذلك ، { أَوْ الشجر } كل نبات له ساق { يَسْجُدَانِ } يعني : ظلهما يسجدان لله تعالى في أول النهار ، وآخره ويقال : { يَسْجُدَانِ } يعني : يسبحان الله تعالى كما قال : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } ويقال : خلقهما على خلقه ، فيها دليل لربوبيته ، ويدل الخلق على سجوده . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } قال : نجوم السماء ، وأشجار الأرض ، يسجدان بكرة وعشياً .
ثم قال عز وجل : { والسماء رَفَعَهَا } يعني : من الأرض مسيرة خمسمائة عام { وَوَضَعَ الميزان } يعني : أنزل الميزان للخلق ، يوزن به ، وإنما أنزل في زمان نوح عليه السلام ، ولم يكن قبل ذلك ميزان { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان } يعني : لكي لا تظلموا في الميزان . ويقال : ووضع الميزان . يعني : أنزل العدل في الأرض ألا تطغوا في الميزان . يعني : لكي لا تميلوا عن العدل { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } يعني : اعدلوا في الوزن { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } يعني : لا تنقصوا حقوق الناس في الوزن . ويقال : { وَأَقِيمُواْ الوزن } يعني : أقيموا اللسان بالقول ، { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } يعني : لا تقولوا بغير حق . { والارض وَضَعَهَا لِلاْنَامِ } يعني : بسط الأرض للخلق { فِيهَا فاكهة } يعني : وخلق من الأرض ، من ألوان الفاكهة ، { والنخل ذَاتُ الاكمام } يعني : ذات النخيل الطويل ، الموقرة بالطلع ، ذات الخلق ، وإنما العجائب في خلقه ، وما يتولد منه لأنه يتولد من النخيل ، من المنافع ما لا يحصى . وقال القتبي : { ذَاتُ الاكمام } يعني : ذات الكوى قبل أن تتفتق ، وغلاف كل شيء أكمه { ذَاتُ الاكمام } يعني : ذات الغلاف .
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
ثم قال : { والحب ذُو العصف } يعني : ذو الورق { والريحان } يعني : ثمره . وقال مجاهد : { العصف } يعني : ورق الحنطة { والريحان } الرزق . وقال الضحاك : الحب ، الحنطة ، والشعير ، { والعصف } : التبن وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : { ذُو العصف } الزرع { والريحان } الورق بلسان حمير . ويقال : { العصف } السنبل { والريحان } ثمرته ، وما ينتفع به . ويقال : { ***الريحان } يعني : الرياحين ، جمع الريحان وهو نبت لا ساق له . قرأ ابن عامر : { الاكمام والحب ذُو العصف } بنصب الباء ، وإنما نصبه لأنه عطف على قوله : { الارض وَضَعَهَا لِلاْنَامِ } { والحب } يعني : وخلق الحب ذا العصف { والريحان } . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : { والحب ذُو العصف والريحان } بضم النون والباء ، لأنه عطف على قوله : { فِيهَا فاكهة } وقرأ حمزة ، والكسائي ، هكذا إلا أنَّهما كسرا النون في قوله : { والريحان } عطفاً على { العصف } على وجه المجاورة .
وقد ذكر الله تعالى من أول السورة نعماءه ، ثم خاطب الإنس والجن فقال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } وإن لم يسبق ذكرهما ، لأن في الكلام دليلاً ، وقد ذكرهما من بعده ، وهو قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس } وقال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس { تُكَذّبَانِ } يعني : تتجاحدان بأنها ليست من الله تعالى . قال بعضهم : { الله لَعَلَّكُمْ } ونعماء الله واحد . إلا أن الآلاء أعم ، والنعماء أخص . ويقال : الآلاء النعمة الظاهرة وهو التوحيد ، والنعماء : النعمة الباطنة وهو المعرفة بالقلب ، كقوله : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } [ لقمان : 20 ] وقال بعضهم : { ***الآلاء } إيصال النعم ، والنعماء رفع البلايا . مثاله أن رجلاً لو كانت له يد شلاء فله الآلاء وليست النعماء . وكذلك لسان الأخرس ، ورجل مقعد ، فله الآلاء ، وليست له النعماء . وأكثر المفسرين لم يفصلوا بينهما ، وقد ذكر في هذه السورة دفع البلية ، وإيصال النعمة . فكل ذلك سماه الآلاء . وروى محمد بن المنذر ، عن جابر ، بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أصحابه سورة الرحمن ، فسكت القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الجنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدّاً مِنْكُمْ ، مَا قَرَأْتَ عَلَيْهِمْ { والريحان فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } إلاَّ قَالُوا : ولا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا فَلَكَ الحَمْدُ » . وفي رواية أخرى : أنه قال : « مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ إلاَّ قَالُوا وَلا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا فَلَكَ الْحَمْدُ » .
ثم قال : { خَلَقَ الإنسان } يعني : آدم { مِن صلصال } يعني : الطين اليابس الذي يتصلصل أي : يصوت ، كما يصوت الفخار .
ويقال : الصلصال الطين الجيد الذي ذهب عنه الماء ، وتشقق . { كالفخار } يعني : الطين الذي يصنع به الفخار . وقال في موضع آخر : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] وقال في موضع آخر : { الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } [ السجدة : 7 ] وقال في موضع آخر : { مِن صلصال } فهذا كله قد كان حالاً بعد حال .
{ وَخَلَقَ الجان } يعني : أبا الجن . ثم قال هو إبليس : { مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ } يعني : من لهب من نار ، وليس لها دخان . وقال بعضهم : خلق من نار جهنم . وقال بعضهم : من النار التي بين الكلة الرقيقة بين السماء ، ومنها يكون البرق ، ولا يرى السماء إلا من وراء تلك الكلة .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فبأي نعمة أنتم . يعني : خلقكم أيها الإنس من نفس واحدة ، وخلقكم أيها الجن من نفس واحدة . فكيف تنكرون هذه النعمة أنها ليست من الله تعالى؟ .
ثم قال : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } يعني : هو { رَبُّ المشرقين } مشرق الشمس ، ومشرق القمر . وقيل : مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف { وَرَبُّ المغربين } يعني : مغرب الشتاء ، والصيف .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : نعمة أنتم من نعمائه أيها الجن والإنس تتجاحدان؟ ومعناه : أنتم حيث ما كنتم من مشارق الأرض ومغاربها في ملك الله تعالى ، وتأكلون رزقه ، وهو عالم حيث ما كنتم ، وهو حافظكم ، وناصركم ، فكيف تنكرون هذه النعم .
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
قوله عز وجل : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } يعني : أرسل البحرين . ويقال : خلَّى البحرين . ويقال : خلق البحرين { يَلْتَقِيَانِ } يعني : مالح ، وعذب ، { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } يعني : حاجز { لاَّ يَبْغِيَانِ } يعني : لا يختلطان فيغير طعمه . وأصل البغي : التطاول ، والجَوْرُ ، والظلم . وقال بعضهم : بينهما حاجز لطيف لا يراه الخلق ، وإنما العبرة في ذلك أنه لا يرى . ويقال : بعضهم ليس هناك شيء ، وإنما تمنعهما من الاختلاط قدرة الله تعالى . ويقال : { يَلْتَقِيَانِ } أي : يتقابلان أحدهما بحر الروم ، والآخر بحر فارس . وقيل : بحر الهند { وَبَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } أي : لا يختلطان { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } . بلطف الله تعالى أي : باللطف تمنع عن الامتزاج ، وهما بحر واحد ، لن يمس أحدهما بالآخر . وقال الزجاج : البرزخ الحاجز ، فهما من دموع العين مختلطان ، وفي قدرة الله منفصلان . وقيل : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } أي : جزيرة العرب . وقيل : بحر السماء ، والأرض ، كقوله تعالى : { فَفَتَحْنَآ أبواب السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 ، 12 ] وبينهما برزخ الهواء ، والأرض ، وسكان الأرض .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : خلق البحرين لمنفعة الخلق ، وبين لكم العبرة ، وقدرته ، ولطفه ، لتعتبروا به ، وتوحدوه ، فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى؟ .
ثم قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ } يعني : من بحر مالح اللؤلؤ { وَالمَرْجَانُ } ما صغر منه . ويقال : اللؤلؤ يعني : الصغار { وَالمَرْجَانُ } يعني : العظام .
وقرأ نافع وأبو عمرو { يَخْرُجُ } بضم الياء ونصب الراء على فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون : بنصب الياء ، وضم الراء . وقرأ بعضهم : بكسر الراء . يعني : يخرج الله تعالى ، ونصب اللؤلؤ ، والمرجان لأنه مفعول به .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : خلق في البحر اللؤلؤ لمنفعة الخلق ، ولصلاحهم ، ولكي تعتبروا به ، فكيف تنكرون هذه النعمة .
ثم قال عز وجل : { وَلَهُ الجوار * لِتَجْرِىَ فِى البحر } يعني : السفن التي تجري في الماء { كالاعلام } يعني : كالجبال فشبّه السفن في البحر بالجبال في البر . وقرأ حمزة { المنشآت } بكسر الشين . والباقون : بالنصب . فمن قرأ : بالكسر يعني : المبتدئات في السير .
ثم قال : { والريحان فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } أنه جعل السفن في البحر لمنفعة الخلق ، فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى .
ثم قال عز وجل : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } يعني : كل شيء على وجه الأرض يفنى { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } يعني : ذو الملك ، والعظمة ، والإكرام ، { ذُو الجلال والإكرام } يعني : ذو الملك ، والعظمة ، والإكرام ، يعني : ذو الكرم ، والتجاوز ، فلما نزلت هذه الآية ، قالت الملائكة : هلكت بنو آدم ، فلما نزل { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أيقنوا بهلاك أنفسهم ، وهذا من النعم ، لأنه يحذرهم ، وبين لهم ليتهيؤوا لذلك .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } ومعناه إن الله تعالى يعينكم ، فتوكلوا عليه ، ولا تعتمدوا على الناس ، لأنهم لا يقدرون على دفع الهلاك عن أنفسهم ، والله هو الباقي بعد فناء الخلق ، وهو الذي يتجاوز عنكم ، ويعينكم ، فكيف تنكرون ربكم الذي خلقكم ، وأحسن إليكم؟ .
قوله تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِى * السموات والارض } يعني : الملائكة يسألون لأهل الأرض المغفرة ، ويسأل أهل الأرض جميع حوائجهم من الله تعالى .
ثم قال : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } يعني : في كل يوم يُعز ، ويذل ، ويحيي ، ويميت ، ويعطي ، ويمنع . وذلك أن اليهود قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً فنزل { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فأخبر الله تعالى أنه يقضي في جميع الأيام ، وكان هذا من النعم . وذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي أرسل إلى محمد بن الحنفية يتوعده قال : لأفعلن بك كذا وكذا . فأرسل إليه محمد بن الحنفية وقال : إن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة إلى اللوح المحفوظ ، وكل يوم يعز ، ويذل ، ويعطي ، ويمنع ، فأرجو أن يرزقني الله تعالى ببعض نظراته ، أن لا يجعل لك علي سلطان . فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك بن مروان ، فكتب عبد الملك بهذه الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية ، ووضعها في خزانته ، فكتب إليه ملك الروم يتوعده في شيء ، فكتب إليه عبد الملك بتلك الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية ، فكتب إليه صاحب الروم : والله ما هذا من كنزك ، ولا من كنز أهل بيتك ، ولكنها من كنز أهل بيت النبوة .
ثم قال عز وجل : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : تجحدون نعمته ، وأنتم تسألون حوائجكم منه .
قوله عز وجل : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } أي : سنحفظ عليكم أعمالكم أيها الجن والإنس . فنجازيكم بذلك . وروى جبير عن الضحاك في قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } قال : هذا وعيد من غير شغل . إن الله تعالى لا يشغل بشيء . وقال الزجاج : الفارغ في اللغة على ضربين . أحدهما : الفراغ من الشغل ، والآخر القصد للشيء ، كما تقول سأفرغ لفلان أي : سأجعل قصدي له . قرأ حمزة ، والكسائي ، { الله لَكُمْ } بالياء . والباقون : بالنون . وكلاهما يرجع إلى معنى واحد . يعني : سيحفظ الله عليكم أعمالكم ، ويحاسبكم بما تعملون .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : ما عملتم فإنه لا ينسى ، ولا يمنح ثوابه ، وينصفكم من ظلمكم ، فكيف تنكرون هذه النعم بأنها ليست من الله تعالى؟ واعلموا أن هذه النعم كلها من الله ، فاشكروه . فكيف تنكرون من هو يجازيكم بأعمالكم ، ولا يمنع ثواب حسناتكم ، وينصركم على أعدائكم؟ فهذه النعم كلها من الله ، فاشكروه ، ووحدوه .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
ثم قال : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم } يعني : إن قدرتم { أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض } يعني : أن تخرجوا من أطراف السَّمَوَاتِ ، والأرض ، ونواحيها ، { فانفذوا } يعني : فاخرجوا إن استطعتم . قال مقاتل : هذا الخطاب للجن ، والإنس في الدنيا . يعني : إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السماوات والأرض هروباً من الموت ، فانفذوا { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان } يعني : أينما أدرككم الموت . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذا الخطاب في يوم القيامة ، وذلك أن السماء تتشقق بالغمام ، وتنزل ملائكة السموات ، ويقومون حول الدنيا محيطين بها ، وجاء الروح وهو ملك يقوم صفّاً وهو أكبر من جميع الخلق ، فحينئذٍ يقال لهم : { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان } يعني : لا تنجون إلا بحجة ، وبرهان .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فبأي نعمة من نعمائه تجحدون حيث بيّن لكم أحوال يوم القيامة حتى تتوبوا ، وترجعوا . ويقال : معناه ذلك اليوم لا يفوته أحد ولا يعينكم أحد غيره ، فكيف تجحدون هذه النعم .
ثم قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } يعني : يرسل على كفار الجن ، وكفار الإنس ، لهب من النار { وَنُحَاسٌ } يعني : الصُّفْر المذاب يعذبون بهما . ويقال : دخان لهب فيه . ويقال : النحاس هو لباس أهل النار { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } يعني : لا تُمْنعان من ذلك . قرأ ابن كثير : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ } بكسر الشين . والباقون : بالضم . فهما لغتان ، ومعناهما واحد . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { وَنُحَاسٌ } بكسر السين . والباقون : بالضم . فمن قرأ بالكسر عطف على قوله من نار ، ومن قرأ بالضم عطف على قوله شواظ .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : لا يعينكم أحد غير الله ، ولا يحفظكم حين يرسل عليكم العذاب إلا الله فكيف تنكرون قدرته وتوحيده؟ .
ثم قال عز وجل : { فَإِذَا انشقت السماء } يعني : انفرجت السماء لنزول الملائكة ، كقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملئكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] .
ثم قال : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } يعني : صارت كدهن الورد الصافي ، وهذا قول مقاتل . وقال القتبي : صارت حمراء في لون الفرس . يعني : بمنزلة الدابة الجُلْجُون الذي تغير لونه في كل وقت ، يرى لونه على خلاف اللون الأول ، ويقال له : المورد ويقال : الدهن الأديم الأحمر بلغة الفارسي . يعني : الفرس الذي يكون لونه لون الورد الأحمر ، يعنون أخضر يضرب إلى سواد ، يتغير لونه بياض . ويقال : من هيبة ذلك زاغ فيرى أنه كالدهن .
ثم قال عز وجل : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : إذا كان يوم القيامة ، تغيرت السموات من هيبته ، ويأمر الخلق بالحساب ، فهو الذي ينجيكم من هول ذلك اليوم ، فكيف تنكرون هذه النعمة .
ثم قال عز وجل : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ } يعني : عن علمه { إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } يعني : إنسياً ، ولا جنياً لأن الله تعالى قد أحصى عليه : ويقال : لا يسأل سؤال استفهام ، ولكن يسأل سؤال التوبيخ والزجر كقوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] ويقال لا يسأل الكافر لأنه عرف بعلامته .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : إذا كان يوم القيامة ، أعطاكم الثواب ، وأدخلكم في جنته ، فكيف تنكرون وحدانيته؟ ويقال : معناه إن الله قد بين لكم أنه يعلم أعمالكم ، ونهاكم عن الذنوب ، وتجاوز عنكم ، فكيف تنكرون ، وحدانيته .
قوله عز وجل : { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } يعني : يُعرف الكافر بسواد الوجوه ، وزرقة الأعين ، { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام } وذلك أن خزنة جهنم بعد الحساب ، يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون بين نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعونهم على وجوههم ، فيطرحونهم في النار .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : هو الذي يدفع عنكم ذلك العذاب إن آمنتم به ، وأطعتموه ووحدتموه ، فكيف تنكرون هذه النعمة؟ .
ثم قال عز وجل : { هذه جَهَنَّمُ } وذلك أن الكفار إذا دنوا من النار ، تقول لهم الخزنة : هذه جهنم { التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون } يعني : جهنم التي كنتم بها تكذبون في الدنيا .
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } يعني : الشراب الحار الذي قد انتهى حره ، وذلك أنه يسلط عليهم الجوع ، فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعه كرؤوس الشياطين ، فأكلوا منه ، فأخذ في حلقهم ، فاستغاثوا بالماء ، فأتوا من الحميم . فإذا قربوا إلى وجوههم ، تناثر لحم وجوههم ، فيشربون ، فيغلي في أجوافهم ، ويخرج جميع ما فيها ، ثم يلقى عليهم الجوع ، فمرة يذهب بهم إلى الحميم ، ومرة إلى الزقوم ، فذلك قوله تعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : هو الذي ينجيكم من عذاب الآخرة ، إن أطعتم أمره ، وآمنتم برسله ، فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى؟ ويقال : معناه إن إخباري إياكم بهذه العقوبة نعمة لكم ، لكي تنتهوا عن الكفر والمعاصي ، فلا تنكروا نعمتي عليكم .
فقد ذكر الله في هذه الآيات دفع البلاء ، ثم ذكر إيصال النعم لمن اتقاه وأطاع أمره ، فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } يعني : من خاف عند المعصية مقام يوم القيامة بين يدي ربه ، فانتهى عن المعصية ، فله في الآخرة { جَنَّتَانِ } يعني : بستانان . وقال مجاهد : هو الرجل يهم بالمعصية ، فيذكر الله عندها ، فيدعها ، فله أجران . وذكر عن الفراء أنه قال : { جَنَّتَانِ } أراد به جنة واحدة ، وإنما ذكر { جَنَّتَانِ } للقوافي ، والقوافي تحتمل الزيادة والنقصان ما لا يحتمل الكلام . وقال القتبي : هذا لا يجوز ، لأن الله قد وعد ببستانين ، فلا يجوز أن يريد بهما واحداً ، فلو جاز هذا لجاز أن يقال في قوله : تسعة عشر إنما هم عشرون ، ولكن ذكر للقوافي .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : بأي نعمة من نعماء الله تعالى تتجاحدان؟ إذ جعل الجنة ثواب أعمالكم ، فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته؟ قوله تعالى : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } يعني : ذواتاً ألوان . يعني : البساتين فيها ألوان من الثمرات . ويقال : { ذَوَاتَا } أغصان . وقال الزجاج : الأفنان ألوان ، وهي الأغصان أيضاً واحدها فَنَنٌ .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : قد وُعِدْتُّمُ الجنة ، والراحة ، فكيف تنكرون وحدانيته ونعمته؟ .
ثم قال عز وجل : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } يعني : في البساتين نهران من ماء غير آسن أي : غير متغير .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : جعل الأنهار نزاهة لكم زيادة في النعمة ، فكيف تنكرون قدرة الله تعالى ونعمته؟ .
ثم قال : { فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ } يعني : في هذين البساتين ، من كل لون من الفاكهة صنفان ، الحلو ، والحامض . ويقال : لونان { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : جعل فيهما من الراحة والنزاهة من كل نوع من الفاكهة؟ فكيف تنكرون نعمته وقدرته .
قوله عز وجل : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ } يعني : ناعمين على فرش { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هو الديباج الغليظ الأخضر بلغة فارس . وقال مقاتل : { بَطَائِنُهَا } يعني : ظواهرها . وذكر عن الفراء أنه قال : { بَطَائِنُهَا } يعني : الظهارة ، وقد تكون الظهارة بطانة ، والبطانة ظهارة ، لأن كل واحد منهما يكون وجهاً واحداً . وقال القتبي : هذا لا يصح ، ولكن ذكر البطانة تعليماً ، أن البطانة إذا كانت من استبرق ، فالظهارة تكون أجود . وروي عن ابن عباس أنه سئل : أن بطائنها من استبرق فما الظواهر؟ قال هو مما قال الله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .
ثم قال : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } يعني : اجتناؤهما قريب إن شاء تناولهما قائماً ، وإن شاء تناولهما قاعداً ، وإن شاء متكئاً .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : جعل لكم مجالس الملوك مع الفراش المرتفعة ، فكيف تنكرون وحدانية الله ونعمته؟ .
ثم قال عز وجل : { فِيهِنَّ قاصرات الطرف } يعني : في الجنان من الزوجات غاضات البصر ، قانعات بأزواجهن ، لا يشتهين غيرهم ، ولا ينظرون إلى غيرهم .
قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ } يعني : لم يمسسهن إنس ، { قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } يعني : لا إنساً ، ولا جنياً { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : جعل لكم أزواجاً موافقة لطبعكم ، وهن لا يرون غيركم ، فكيف تنكرون الله تعالى؟ .
ثم وصف الزوجات فقال : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } يعني : في الصفاء كالياقوت ، وفي البياض كالمرجان ، { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : جعلهن بحال تتلذذ أعينكم بالنظر إليهن ، فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته؟ .
ثم قال عز وجل : { هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان } يعني : هل جزاء التوحيد وهو قول لا إله إلا الله إلا الجنة . ويقال : هل جزاء من خاف مقام ربه إلا هاتان الجنتان التي ذكرناها في الآية .
ثم قال : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فكيف تنكرون نعمة ربكم ، حيث جعل ثواب إحسانكم الجنة ، وبين لكم لكي تحسنوا ، وتنالوا ثواب الله ، وإحسانه .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
ثم قال عز وجل : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } يعني : من دون الجنتين اللتين ذكرهما ، جنتان أخروان . فالأوليان جنة النعيم وجنة عدن ، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : قد ذكر للمتقين جنتين ، وجنتان أخريان ، زيادة على الكرامة . فكيف تنكرون فضل ربكم . وكرامته .
ثم وصف الجنتين الأخريين فقال : { مُدْهَامَّتَانِ } يعني : خضراوان . ويقال : التي تضرب خضرها إلى السواد { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } بعني جعل لكم الجنان المخضرة ، لأن النظر في الخضرة يُجلي البصر ، فكيف تنكرون وحدانيته .
ثم قال : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } يعني : ممتلئتان فوارتان . وقال القتبي : يعني : تفوران بالماء ، والنضخ أكثر من النضح . وقال مجاهد : { نَضَّاخَتَانِ } يعني : مملوءتان من الخير لا ينقطعان { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : كيف تنكرون من جعل لكم فيهما عينان تفوران على الدوام ، ولا انقطاع لهما .
ثم قال عز وجل : { فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } يعني : في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } معناه : في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة ، كمثل ما في الأوليين ، فأنتم تجدون فيها ألواناً من الثمار ، والفواكه . فكيف تنكرون هذه النعمة .
ثم قال عز وجل : { فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ } يعني : في الجنان كلها زوجات حسان . وقال الزجاج : أصله في اللغة خيرات . وقد قرىء بالتشديد ، وقراءة العامة بالتخفيف . وقال مقاتل : خَيِّرات الأخلاق ، حسان الوجوه ، { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : في هذه الجنان الأربعة ، في كل واحدة منها تجدون خيرة زوجة هي أحسن بما في الأخرى ، فكيف تنكرون عزة ربكم ولا تشكرونه .
ثم وصف الخيرات فقال : { حُورٌ مقصورات } يعني : محبوسات { فِى الخيام } على أزواجهن . وقال ابن عباس : الخيمة الواحدة من لؤلؤة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فكيف تنكرون هذه النعمة حين حَبَسَ الأزواج الطيبات لكم إن أطعتم الله؟ .
ثم قال عز وجل : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } يعني : لم يمسسهن إنس قبلهم ، ولا جان . قرأ الكسائي : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } بضم الميم . والباقون : بالكسر . وهما لغتان ، ومعناهما واحد . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
ثم قال : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ } يعني : نائمين على المجالس الخضر ، على السرر الحسان . ويقال : على رياض { خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } يعني : الزرابيّ الكثيرة الألوان ، وهي الطنافس الحسان . وقال مجاهد : { وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } يعني : الديباج . وقال الزجاج : وإنما قال : { خيرات حِسَانٌ } ولم يقل حسن ، لأن العبقري جماعة . يقال : للواحدة عبقرية ، كما تقول : ثمرة وثمر لوزة ، ولوز ، وأيضاً يكون العبقري اسم جنس ، والعبقري كل شيء بولغ في وصفه ، والعبقري البُسُط .
ويقال : الطنافس المبسوطة .
ثم قال عز وجل : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } يعني : فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس تتجاحدان مع هذه الكرامات التي بين الله تعالى لكم؟ لتعلموا ، فتناولوا تلك الكرامات ما شاء الله .
ثم قال عز وجل : { تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال } يعني : ذي الارتفاع . يعني : ارتفاع المنزلة ، والقدرة { والإكرام } يعني : الكريم ، المتجاوز عن المذنبين . ويقال : الاسم زيادة في الكلام ، ومعناه : تبارك ربك . قرأ ابن عامر : { ذُو الجلال } بالواو . والباقون : { ذِى الجلال } بالياء . فمن قرأ : { ذُو } جعله نعتاً للاسم ، والاسم رفع . ومن قرأ : بالكسر ، جعله نعتاً للرب عز وجل والله أعلم .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
قوله تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } يعني : قامت القيامة ، وإنما سميت القيامة { الواقعة } لثبوتها ، وهي النفخة الآخرة . وقال قتادة : هي الصيحة أسمعت القريب ، والبعيد ، { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } يعني : ليس لها مثوبة ، ولا ارتداد . ويقال : ليس لقيامها تكذيب .
ثم وصف القيامة فقال : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } يعني : خفضت أقواماً بأعمالهم ، فأدخلتهم النار ، ورفعت أقواماً بأعمالهم ، فأدخلتهم الجنة . وقال قتادة في قوله : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } يعني : خفضت أقواماً في عذاب الله ، ورفعت أقواماً في كرامات الله .
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
ثم قال عز وجل : { إِذَا رُجَّتِ الارض رَجّاً } يعني : زلزلت الأرض زلزلة ، وحركت تحريكاً شديداً ، لا تسكن حتى تلقي جميع ما في بطنها على ظهرها .
ثم قال : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } يعني : فتتت الجبال فتاً . ويقال : قُلِعت الجبال قَلْعاً . ويقال : كُسِرت الجبال كسراً . { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } يعني : تراباً وهو ما يسطع من سنابك الخيل . ويقال : الغبار الذي في شعاع الكوة . وقال القتبي : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } يعني : فتتت حتى صارت كالدقيق ، والسويق المبثوث . ثم وصف حال الخلق في يوم القيامة وأخبر أنهم ثلاثة أصناف . اثنان في الجنة ، وواحدة في النار .
ثم نعت كل صنف من الثلاثة على حدة ، فقال : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة } يعني : تكونون يوم القيامة ثلاثة أصناف { فأصحاب الميمنة } يعني : الذين يعطون كتابهم بأيمانهم { مَا أصحاب الميمنة } يعني : ما تدري ما لأصْحاب الميمنة من الخير ، والكرامات : { وأصحاب المشئمة } يعني : الذين يعطون كتابهم بشمالهم { مَا أصحاب المشئمة } يعني : ما تدري ما لأصحاب المشئمة من الشرب ، والعذاب . ويقال : { الميمنة مَا } يعني : الذين كانوا يوم الميثاق على يمين آدم عليه السلام ، ويقال : على يمين العرش { وأصحاب المشئمة } الذين كانوا على شمال آدم عليه السلام . ويقال : على شمال العرش . ويقال : { الميمنة مَا } الذين يكونون يوم القيامة على يمين العرش ، ويأخذون طريق الجنة { وأصحاب المشئمة } الذين يأخذون طريق الشمال ، فيفضي بهم إلى النار .
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
ثم قال عز وجل : { والسابقون السابقون } يعني : السابقين إلى الإيمان ، والجهاد ، والطاعات { السابقون } يعني : هم السَّابِقُونَ إلى الجنة . فذكر الأصناف الثلاثة . أحدها أصحاب اليمين ، الثاني أصحاب الشمال ، والثالث السابقون .
ثم وصف كل صنف منهم بصفة ، فبدأ بصفة السابقين فقال : { أُوْلَئِكَ المقربون } يعني : المقربين عند الله في الدرجات { فِي جنات النعيم } يعني : في جنات عدن { ثُلَّةٌ مّنَ الاولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين } يعني : إن السابقين تكون جماعة من الأولين . يعني : من أول هذه الأمة مثل الصحابة ، والتابعين { وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين } يعني : إن السابقين في آخر هذه الأمة يكون قليلاً . وقال بعضهم : { ثُلَّةٌ مّنَ الاولين } يعني جميعاً من الأمم الخالية ، { وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين } يعني : من هذه الأمة . فحزن المسلمون بذلك حتى نزلت { ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين } فطابت أنفسهم . والطريق الأول أصح . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كِلْتَا الثُّلَّتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي » . وروي عن عبد الله بن يزيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَهْلَ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةَ صِنْفٍ هذه الأُمّةِ مِنْهَا ثَمَانُونَ صِنْفاً » .
ثم قال : { على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } يعني : إن السابقين في الجنة على سرر منسوجة بالدر والياقوت . وقال مجاهد : { مَّوْضُونَةٍ } بالذهب . وقال القتبي : { مَّوْضُونَةٍ } أي : منسوجة . كأن بعضها أدخل في بعض ، أو نضد بعضها على بعض ، ومنه قيل للدرع { مَّوْضُونَةٍ } .
ثم قال : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا متقابلين } يعني : ناعمين على سرر متقابلين في الزيادة . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } ناعمين . وقال مجاهد : { متقابلين } يعني : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض .
ثم قال عز وجل : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } يعني : في الخدمة { ولدان مُّخَلَّدُونَ } يعني : غلماناً خلدوا في الجنة . ويقال : على سن واحد لا يتغيرون ، لأنهم خلقوا للبقاء و من خلق للبقاء ، لا يتغير . ويقال : { مُّخَلَّدُونَ } يعني : لا يكبرون . ويقال : هم أولاد الكفار لم يكن لهم ذنب يعذبون ، ولا طاعة يثابون ، فيكونون خداماً لأهل الجنة .
قوله تعالى : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } هي التي لها عرى .
ثم قال : { وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } يعني : خمراً بيضاء من نهر جار { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } يعني : لا يصدع رؤوسهم بشرب الخمر في الآخرة { وَلاَ يُنزِفُونَ } يعني : لا تذهب عقولهم ، ولا ينفد شرابهم .
ثم قال : { وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } يعني : ما يتمنون ، ويختارون من ألوان الفاكهة { وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } يعني : إن شاء مشويّاً ، وإن شاء مطبوخاً .
ثم قال عز وجل : { وَحُورٌ عِينٌ } قرأ حمزة ، والكسائي { وَحُورٌ عِينٌ } بالكسر عطفاً على قوله : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } والباقون { وَحُورٌ عِينٌ } بالضم .
ومعناها : ولهم حور عين ، والحور : البيض ، والعين : الحسان الأعين { كأمثال اللؤلؤ المكنون } يعني : اللؤلؤ الذي في الصدف ، لم تمسه الأيدي ، ولم تره الأعين ، { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : هذه الجنة مع هذه الكرامات ، ثواباً لأعمالهم .
ثم قال : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } يعني : في الجنة حلفاً ، وكذباً ، { وَلاَ تَأْثِيماً } يعني : كلاماً فيها عند الشرب كما يكون في الدنيا ويقال ولا تأثيماً يعني : ولا إثم عليهم فيما شربوا { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } يعني : إلا قولاً وكلاماً يسلم بعضهم على بعض ، ويبعث الله تعالى إليهم الملائكة بالسلام ، فهذا كله نعت السابقين .
ثم ذكر الصنف الثاني فقال : { وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين } يعني : ما لأصحاب اليمين من الخير ، والكرامة ، على وجه التعجب .
ثم وصف حالهم فقال : { فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } يعني : لا شوك له كالدر الذي يكون في الدنيا . وقال قتادة : { فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } يعني : كثير الحمل . أي : ليس له شوك . وقال القتبي : كأنه نضد شوكه . يعني : قطع . وروي في الخبر : أنه لما نزل ذكر السدر ، قال أهل الطائف : إنها سِدْرنا هذا . فنزل { مَّخْضُودٍ } يعني : موقر بلا شوك .
ثم قال : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } وقال مقاتل : يعني : الموز المتراكم بعضه على بعض . وقال قتادة : هو الموز ، وهذا روي عن ابن عباس . والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره . ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ : { سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ } كقوله تعالى : { طَلْعٌ نَّضِيدٌ } كقوله تعالى : { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } يعني : دائماً لا يزول . وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : قال : في الجنة شجرة يسير الراكب ، في ظلها مائة عام ، ما يقطعها اقرؤوا إن شئتم { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } .
ثم قال : { وَمَاء مَّسْكُوبٍ } يعني : منصباً كثيراً . ويقال : يعني منصباً من ساق العرش { وفاكهة كَثِيرَةٍ } يعني : الفاكهة كثيرة { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } يعني : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } يعني : لا تنقطع عنهم في حين كما يكون في فواكه الدنيا ، بل توجد في جميع الأوقات { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } يعني : لا تمنع منهم ، والممنوعة أن ينظر إليها ، ولا يقدر أن يأكلها كأشجار الدنيا . { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } بعضها فوق بعض مرتفعة .
ثم قال عز وجل : { إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } يعني : الجواري ، والزوجات . يقال : نساء الدنيا خلقناهن خلقاً بعد خلق الدنيا . ويقال : إنهن أفضل ، وأحسن من حور الجنة ، لأنهن عملن في الدنيا ، والحور لم يعملن . وعن أنس بن مالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } قال : « إنَّ مِنَ المُنْشِآتِ الَّتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا عَجِائِزَ عُمْشاً رُمْصاً زُمْناً » .
ثم قال : { فجعلناهن أبكارا } يعني : خلقناهن أبكاراً عذارى .
عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{ عُرُباً } يعني : محبات ، عاشقات ، لأزواجهن ، لا يردن غيرهم قرأ حمزة ، وعاصم ، في إحدى الروايتين { عُرُباً } بجزم الراء . والباقون بالضم . ومعناهما واحد . وقال أبو عبيد : نقرأ بالضم لأنها أقيس في العربية ، لأن واحدتها عَرُوب ، وجمعها عرب ، مثل صَبُور وصُبُر ، وشكور وشكر . ثم قال :
{ أَتْرَاباً } يعني : مستويات في السن ، كأنهن على ميلاد واحد ، بنات ثلاث وثلاثين . وروي عن عكرمة أنه قال : أهل الجنة ميلاد ثلاثين سنة ، رجالهم ونساؤهم ، قامة أحدهم ستون ذراعاً على قامة أبيهم آدم عليه السلام ، شباب جرد مكمولون ، أحسنهم يرى كالقمر ليلة البدر ، وآخرهم كالكوكب الدري في السماء ، يبصر وجهه في وجهها ، وكبده في كبدها ، وفي مخ ساقها ، وتبصر هي وجهها في وجهه ، وفي كبده وفي مخ ساقه ، ولا يبزقون ، ولا يتمخطون ، وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد ، { لاصحاب اليمين } يعني : هذا الذي ذكر كرامة لأصحاب اليمين .
ثم قال عز وجل : { ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين } يعني : جماعة من أول هذه الأمة ، وجماعة من الآخرين . فذكر في السابقين أنهم جماعة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، لأن السابق في أخر الأمة قليل ، وأما أصحاب اليمين يكون جماعة من أول الأمة ، وجماعة من آخر الأمة .
ثم ذكر الصنف الثالث فقال : { وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال } يعني : ما لأصحاب الشمال من شدة ، وشر ، وهوان .
ثم وصف حالهم فقال : { فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } والسموم : الزمهرير يقطع الوجوه وسائر الجسوم . ويقال : السموم : النار الموقدة . والحميم : الماء الحار الشديد ، { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } واليحموم الدخان يعني : دخان جهنم أسود { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } يعني : { لاَّ بَارِدٍ } شرابهم { وَلاَ كَرِيمٍ } منقلبهم .
ثم بين أعمالهم التي استحقوا بها العقوبة بأعمالهم الباطلة فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } يعني : كانوا في الدنيا متكبرين في ترك أمر الله تعالى . ويقال : كانوا مشركين { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } يعني : يثبتون على الذنب العظيم ، وهو الشرك . وإنما سمِّي الشرك حنثاً ، لأنهم كانوا يحلفون بالله ، لا يبعث الله من يموت ، وكانوا يصرون على ذلك . وقال القتبي : { الحنث العظيم } اليمين الغموس . وقال مجاهد : الذنب العظيم . وقال ابن عباس : { الحنث العظيم } هو الشرك { وَكَانُواْ يِقُولُونَ } مع شركهم { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } يعني : بعدما صرنا تراباً ، وعظاماً باليةً ، صرنا أحياء بعد الموت { وَءابَاؤُنَا الاولون } الذين : مضوا قبلنا ، وصاروا تراباً .
قال الله تعالى : قل يا محمد { قُلْ إِنَّ الاولين والاخرين } يعني : الأمم الخالية { لَمَجْمُوعُونَ } وهذه الأمة لمجموعة { إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } في يوم القيامة يجتمعون فيه { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون } بالبعث { لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّوم فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } يعني : يملؤون من طلعها البطون ، { فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم } يعني : على إثره يشربون من الحميم { فشاربون شُرْبَ الهيم } يعني : كشرب الهيم ، وهي الإبل التي يصيبها داء ، فلا تروى من الشراب .
ويقال : الأرض التي أصابتها الشمس وهي أرض سهلة من الرملة . قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة { شُرْبَ الهيم } بضم الشين . والباقون : بالنصب . فمن قرأ بالضم ، فهو اسم . ومن قرأ : بالنصب ، فهو المصدر . ويقال : كلاهما مصدر شربت .
ثم قال : { هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } يعني : جزاءهم يوم الجزاء . ويقال : معناه هو الذي ذكرناه من الزقوم والشراب طعامهم وشربهم يوم الحساب .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
ثم قال : { نَحْنُ خلقناكم } يعني : خلقناكم ، ولم تكونوا شيئاً ، وأنتم تعلمون { فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ } يعني : أفلا تصدقون بالبعث وبالرسل .
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال : { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } يعني : ما خرج منكم من النطفة ، ويقع في الأرحام { تَخْلُقُونَهُ أَم } يعني : منه بشراً في بطون النساء ذكراً أو أنثى { أَم نَحْنُ الخالقون } يعني : بل نحن نخلقه { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } يعني : نحن قسمنا بينكم الآجال ، فمنكم من يموت صغيراً ، ومنكم من يموت شاباً ، ومنكم من يموت شيخاً . قرأ ابن كثير : { نَحْنُ قَدَّرْنَا } بالتخفيف وقرأ الباقون : { قَدَّرْنَآ } بالتشديد ، ومعناهما واحد لأن التشديد للتكثير .
ثم قال : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم } يعني : وما نحن بعاجزين إن أردنا أن نأتي بخلق مثلكم ، وأمثل منكم ، وأطوع لله تعالى : { وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : ونخلقكم سوى خلقكم من الصور فيما لا تعلمون من الصور ، مثل القردة ، والخنازير . ويقال : وما نحن بعاجزين على أن نرد أرواحكم إلى أجسامكم بعد الموت .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الاولى } يعني : علمتم ابتداء خلقكم إذ خلقناكم في بطون أمهاتكم ، ثم أنكرتم البعث { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } يعني : فهل لا تتعظون ، وتعتبرون بالخلق الأول ، أنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم أول مرة ، ولم تكونوا شيئاً .
ثم قال : { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } يعني : فهل لا تعتبرون بالزرع الذي تزرعونه في الأرض { ءأَنتُم تَزْرَعُونَهُ } يعني : تنبتونه { أَمْ نَحْنُ الزرعون } يعني : أم نحن المنبتون . يعني : بل الله تعالى أنبته { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما } يعني : يابساً ، هالكاً ، بعدما بلغ { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } يعني : فصرتم تندمون . ويقال : يعني : تتعجبون من يبسه بعد خضرته { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } يعني : معذبون { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } يعني : حرمنا منفعة زرعنا . قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } بهمزتين على الاستفهام وقرأ الباقون : بهمزة واحدة على معنى الخبر .
ثم قال : { أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ } يعني : من السماء { أَمْ نَحْنُ المنزلون } يعني : بل نحن المنزلون عليكم { لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً } يعني : مرّاً ، مالحاً ، لا تقدرون على شربه { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } يعني : هلا تشكرون رب هذه النعمة ، وتوحدونه حين سقاكم ماء عذباً .
ثم قال عز وجل : { أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ } يعني : تقدحون ، والعرب تقدح بالزند والزند خشبة يحك بعضه على بعض ، فيخرج منه النار { ءأَنتُم أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا } يعني : خلقتم شجرها { أَمْ نَحْنُ المنشئون } يعني : الخالقون . يعني : الله أنشأها ، وخلقها لمنفعة الخلق ، { نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً } يعني : النار موعظة وعبرة في الدنيا من نار جهنم . وقال مجاهد : { نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً } يعني : النار الصغرى للنار الكبرى { ومتاعا لّلْمُقْوِينَ } يعني : منفعة لمن كان ساخراً . وقال قتادة : المقوي الذي قد فني زاده . وقال الزجاج : المقوي الذي قد نزل بالقوى ، وهي الأرض الخالية .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
ثم قال عز وجل : { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } يعني : اذكر التوحيد باسم ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم الرب العظيم . ويقال : صل بأمر ربك . ويقال : سبح لله ، واذكره .
قوله عز وجل : { فَلاَ أُقْسِمُ } قال بعضهم : يعني : أقسم و ( لا ) زيادة في الكلام . وقال بعضهم : { لا } رد لقول الكفار .
ثم قال : { بمواقع النجوم } يعني : بنزول القرآن ، نزل نجوماً آية بعد آية ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : { بمواقع النجوم } يعني : بحكم القرآن { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } يعني : القسم بالقرآن عظيم { لَّوْ تَعْلَمُونَ } ذلك . ويقال : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } يعني : لو تصدقون ذلك . قرأ حمزة ، والكسائي : { بمواقع النجوم } بغير ألف . وقرأ الباقون : { بمواقع النجوم } بلفظ الجماعة . فمن قرأ : { بمواقع } فهو واحد دل على الجماعة . ويقال : { بمواقع النجوم } يعني : بمساقط النجوم . يعني : الكواكب .
ثم قال عز وجل : { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } يعني : الذي يقرأ عليك يا محمد ، لقرآن شريف ، كريم على ربه ، { فِى كتاب مَّكْنُونٍ } يعني : مستور من خلق الله ، وهو اللوح المحفوظ { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } يعني : اللوح المحفوظ . ويقال : لا تمسه إلا الملائكة المطهرون من الذنب ، ولا يقرؤه إلا الطاهرون . ويقال : لا يمس المصحف إلا الطاهر . وروى معمر ، عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً فيه " لا يُمَسُّ القُرْآنُ إلاَّ عَلَى طُهُورٍ " . وروى إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال : «كنا مع سلمان فخرج ، يقضي حاجته ، ثم جاء ، فقلنا : يا عبد الله لو توضأت ، لعلنا نسألك عن آيات الله؟ فقال : إني لست أمسه ، لأنه لا يمسه إلا المطهرون . فقرأ علينا ما نسينا . يعني : يجوز للمحدث أن يقرأ ، ولا يجوز أن يمس المصحف . وأما الجنب لا يجوز له أن يمس المصحف ، ولا يقرأ آية تامة .
ثم قال : { تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين } يعني : أنزل الله تعالى جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن يقرؤه عليه من رب العالمين .
ثم قال عز وجل : { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } يعني : تكفرون . وقال الزجاج : المدهن والمداهن : الكذاب المنافق . وقال بعض أهل اللغة : أصله من الدهن ، لأنه يلين في دينه . يعني : ينافق ، ويرى كل واحد أنه على دينه . ويقال : { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } يعني : مكذبون { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } يعني : شكر رِزْقكُمْ { أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } يعني : تقولون للمطر إذا مطرتم مُطِرْنا بنوء كذا . وروي عن عاصم في بعض الروايات : { أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } بالتخفيف .
يعني : تجعلون شكر رزقكم الكذب ، وهو أن يقولوا : مُطِرنا بنوء كذا . وقرأ الباقون : { تُكَذّبُونَ } بالتشديد . يعني : تجعلون شكر رزقكم التكذيب ، ولا تنسبون السقيا إلى الله تعالى الذي رزقكم .
ثم قال : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } يعني : بلغ الروح الحلقوم { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } إلى الميت { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يعني : أمر الله تعالى وهو ملك الموت أقرب إليه منكم ، حين أتاه لقبض روحه { ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } ما حضر الميت { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } يعني : غير محاسبين . ويقال : غير مملوكين ، أذلاء عن قولك : دِنْتُ له بالطاعة ، وإنما سمي { يَوْمِ الدين } لأنه يوم الإذلال ، والهوان . ويقال : { غَيْرَ مَدِينِينَ } يعني : غير مجزيين { تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صادقين } يعني : إنكم غير محاسبين ، فهلا رددتم عنه الموت؟
ثم ذكر الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في أول السورة فقال : { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين } يعني : إذا كان هذا الميت من المقربين عند الله من السابقين { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } قرأ الحسن : { فَرَوْحٌ } بضم الراء المهملة ، وقراءة العامة : بالنصب . وقال أبو عبيد : لولا خلاف الأمة لقرأته بالضم . وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قرأ : بالضم . وقال القتبي : { الروح } يعبر عن معان . فالروح روح الأجسام الذي يقبض عند الممات وفيه حياة النفس ، والروح جبريل ، وكلام الله روح ، لأنه حياة من الجهل ، وموت الكفر ، ورحمة الله روح كقوله { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] أي : برحمة . والروح : الرحمة ، والرزق . ويقال : { الروح } حياة دائمة لا موت فيها { والريحان } الرزق . ويقال : هي النبات بعينها . ومن قرأ : بالنصب . فهو الفرح . ويقال : الراحة . ويقال : هي الرحمة .
ثم قال : { وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ } يعني : لا انقطاع { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين } يعني : إن كان الميت من أصحاب اليمين { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } يعني : سلام الله لهم . ويقال : يسلمون عليك من الجنة . ويقال : سلام عليك منهم . ويقال : ترى منهم ما تحب من السلام . ويقال : { فسلام لَّكَ } يعني : يقال له ثوابه عند الموت ، وفي القبر ، وعلى الصراط ، وعند الميزان ، بشارة لك إنك من أهل الجنة .
ثم قال عز وجل : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين } يعني : إن كان الميت { مِنَ المكذبين } بالبعث { الضالين } عن الهدى { فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ } يعني : جزاؤهم ، وثوابهم ، من حميم { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } يعني : يدخلون الجحيم وهي ما عظم من النار { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } يعني : إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص ، وما أعد الله لأوليائه وأعدائه ، وما ذكر مما يدل على وحدانيته ، { لَهُوَ حَقُّ اليقين } { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } يعني : اذكر اسم ربك بالتوحيد .
ويقال : نزه الله تعالى عن السوء . يعني : قل سبحان الله . ويقال : أثن على الله تعالى . ويقال : صل لله تعالى . وروي عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الوَاقِعَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ » . والله أعلم بالصواب .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قوله تعالى : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات } يعني : صلى لله ما في السموات من الملائكة { والارض } من المؤمنين ، فسمى الصلاة تسبيحاً ، لأنه يجري فيها التسبيح . ويقال : { سَبَّحَ للَّهِ } ، يعني : ذكر الله ما في السموات . يعني : جميع ما في السَّموات من الشمس ، والقمر والنجوم والأرض ، يعني : جميع ما في الأرض من الإنس ، والأشجار ، والأنهار ، والجبال ، وغير ذلك . ويقال : { سَبَّحَ للَّهِ } يعني : خضع لله جميع ما في السَّموات ، والأرض ، وقال بعضهم : التسبيح آثار صنعه ، يعني : في كل شيء دليل لربوبيته ، ووحدانيته . ويقال : هو التسبيح بعينه . يعني : يسبح جميع الأشياء كقوله : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والارض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] وقال الحسن البصري ( لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم ) . وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أفْضَلُ الكَلامِ أرْبَعَةٌ : سُبْحَانَ الله ، وَالحَمْدُ لله ، وَلاَ إله إلاَّ الله ، وَالله أَكْبَرُ » وَلا يَضُرُّكَ بِأيِّهِنَّ بَدَأْتَ . { وَهُوَ العزيز الحكيم } يعني : العزيز بالنقمة لمن لا يوحّده ، { والعزيز } في اللغة : الذي لا يعجزه عما أراد . ويقال : { القوى العزيز } الذي لا يوجد مثله { الحكيم } في أمره ، وقضائه .
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
ثم قال عز وجل : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } يعني : له خزائن السَّموات والأرض . يعني : خزائن السَّموات المطر ، وخزائن الأرض النبات . ويقال : معناه له نفاذ الأمر في السَّموات والأرض .
ثم قال : { لاَ إله } يعني : يحيي للبعث ، ويميت في الدنيا { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } من الإحياء والإماتة .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الاول } يعني : الأول قبل كل أحد { والاخر } بعد كل أحد { والظاهر } يعني : الغالب على كل شيء { والباطن } يعني : العالم بكل شيء . ويقال : { هُوَ الاول } يعني : مؤول كل شيء { والاخر } يعني : مؤخر كل شيء { والظاهر } يعني : المظهر { والباطن } يعني : المبطن . ويقال : هو { الاول } يعني : خالق الأولين { والاخر } يعني : خالق الآخرين { والظاهر } يعني : خالق الآدميين ، وهم ظاهرون . { والباطن } يعني : خالق الجن ، والشياطين الذين لا يظهرون . ويقال : { هُوَ الاول } يعني : خالق الدنيا { والاخر } يعني : خالق الآخرة . { والظاهر والباطن } يعني : عالم بالظاهر والباطن . ويقال : { هُوَ الاول } بلا ابتداء { والاخر } بلا انتهاء . { والظاهر والباطن } يعني : منه نعمة ظاهرة . ويقال : هو { الاول والاخر والظاهر والباطن } يعني : هو الرب الواحد .
ثم قال : { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } يعني : من أمر الدنيا والآخرة .
ثم قال عز وجل : { هُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارض } يعني : ما يدخل في الأرض من الماء ، والكنوز ، والأموات ، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات ، والكنوز ، والأموات ، { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } وهو المطر ، والثلج ، والرزق ، والملائكة ، { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يعني : ما يصعد فيها من الملائكة ، وأعمال العباد ، والأرواح ، { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } يعني : عالم بكم ، وبأعمالكم ، أينما كنتم في الأرض { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم بالخير خيراً ، وبالشر شراً .
ثم قال عز وجل : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } .
ثم قال عز وجل : { يُولِجُ اليل فِى النهار } يعني : يُدخل الليل في النهار ، إذا جاء الليل ذهب النهار . { وَيُولِجُ النهار فِى اليل } يعني : يُدخل النهار في الليل ، إذا جاء النهار ذهب الليل . ومعنى آخر : يعني : يدخل زيادة الليل في النهار . يعني : يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة ، والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات . والليل والنهار أربع عشرون ساعة .
ثم قال عز وجل : { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : بما في القلوب من الخير والشر .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
ثم قال : { بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا برسوله ، { وَأَنْفِقُواْ } يعني : تصدقوا في طاعة الله تعالى { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } يعني : مما جعلكم مالكين من المال . ويقال : معناه إن الأموال والدنيا كلها لله تعالى ، فيجعل العباد مستخلفين على أمواله ، وأمرهم بالنفقة ، مما جعلهم خليفة فيها .
ثم بيّن ثواب الذين آمنوا فقال : { فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وتصدقوا ، { لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } يعني : عظيم وهو الثواب الحسن في الجنة . ويقال : إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة . ويقال : إنها ليست بمنسوخة ، ولكنها حث على الصدقة ، والنفقة في طاعة الله تعالى .
ثم قال عز وجل : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } يعني : ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى { والرسول يَدْعُوكُمْ } قرأ بعضهم : { والرسول } بضم اللام . يعني : ما لكم لا تؤمنون بالله ، وتم الكلام .
ثم قال : { والرسول يَدْعُوكُمْ } إلى توحيد الله تعالى . وقراءة العامة { والرسول } بكسر اللام . يعني : ما لكم لا تصدقون بالله ، وبرسوله حين يدعوكم ، { لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ } يعني : لتصدقوا بوحدانية الله تعالى { وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } يعني : أخذ الله تعالى إقراركم ، والميثاق حين أخرجكم من صلب آدم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين قرأ أبو عمرو : { وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } بضم القاف ، وكسر الخاء ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، والباقون : يعني : أخذ الله ميثاقكم .
ثم قال : { هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ } هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، يقرأ عليه { بَيّنَاتٍ فاسأل } يعني : آيات القرآن ، واضحات بيّن فيها الحلال ، والحرام ، والأمر ، والنهي . { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : يدعوكم من الشرك إلى الإيمان . ويقال : { بَيّنَاتٍ فاسأل } يعني : واضحات . ويقال : { ءايات } يعني : علامات النبوة { لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور } يعني : ليوفقكم الله تعالى للهدى ، ويخرجكم من الكفر . { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } يعني : هداكم لدينه ، وأنزل عليكم .
ثم قال عز وجل : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } يعني : ما لكم ألا تصدقوا ، أو ألا تنفقوا أموالكم في طاعة الله .
{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والارض } يعني : إلى الله يرجع ميراث السموات والأرض ، أي : شيء ينفعكم ترك الإنفاق ، ميتون ، تاركون أموالكم . ويقال : معناه : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } والأموال كلها لله تعالى وهو يأمركم بالنفقة . ويقال : أنفقوا ما دمتم في الحياة ، فإنكم إن بخلتم ، فإن الله هو يرثكم ، ويرث أهل السموات . يعني : أنفقوا قبل أن تفنوا ، وتصير كلها ميراثاً لله تعالى بعد فنائكم ، وإنما ذكر لفظ الميراث ، لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان ميراثاً ، فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم .
ثم قال : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم } يعني : لا يستوي منكم في الفضل ، والثواب عند الله تعالى { مَّنْ أَنفَقَ } مَاله في طاعة الله { مِن قَبْلِ الفتح } يعني : قاتل العدو . وفي الآية : تقديم يعني : من أنفق وقاتل { مِن قَبْلِ الفتح } يعني : فتح مكة . ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار . يعني : الذين أنفقوا أموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاتلوا الكفار ، لا يستوي حالهم وحال غيرهم . ويقال : نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه كان جالساً مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقعت بينهم منازعة في شيء ، فنزل في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } ماله { مِن قَبْلِ الفتح } يعني : من قبل ظهور الإسلام { وقاتل } يعني : وجاهد { أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } يعني : أبا بكر رضي الله عنه { مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا } العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : هذا التفضيل لجميع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين . وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سَيَأْتِي قَوْمٌ بَعْدَكُمْ يَحْقِرُونَ أعْمَالَكُمْ مَعَ أعْمَالِهِمْ » . قالوا : يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ فقال : « لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ، مَا أدْرَكَ فَضْلَ أحَدِكُمْ ولا نِصْفَهُ » . { أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } قال الفقيه : حدثني الخليل بن أحمد . ثنا الدبيلي . ثنا عبيد الله عن سفيان ، عن زيد بن أسلم { مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا } { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } قرأ ابن عامر : { وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى } بضم اللام . والباقون : بالنصب . فمن قرأ بالضم ، صار ضمّاً لمضمر فيه ، فكأنه قال : أولئك وعد الله الحسنى . ومن نصب : معناه وعد الله كلّاً الحسنى يعني : الجنة .
ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني : ما أنفقتم .
ثم قال : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } يعني : من ذا الذي يعطي من أموال الله قرضاً حسناً . يعني : وفقاً بالإخلاص ، وطلب ثواب الله تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } في الحسنات ، ويعطي من الثواب ما لا يحصى { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني : ثواباً حسناً في الآخرة . ويقال : نزلت الآية في شأن أبي الدحداح . ويقال : هو حث لجميع المسلمين .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
ثم قال عز وجل : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } يعني : في يوم القيامة على الصراط { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } يعني : بتصديقهم في الدنيا ، وبأعمالهم الصالحة ، فيعطى لهم النور ، يمضون به على الصراط ، فيكون النور بين أيديهم ، وأيمانهم ، وعن شمائلهم ، إلا أن ذكر الشمائل مضمر . وتقول لهم الملائكة : { بُشْرَاكُمُ اليوم } يعني : أبشروا هذا اليوم بكرامة الله تعالى . { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا } يعني : مقيمين في الجنة ، ونجوا من العذاب { ذلك هُوَ الفوز العظيم } .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } يعني : نُصِبْ من نوركم ، فتضيء معكم . وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال : «بينما العباد يوم القيامة عند الصراط ، إذ غشيتهم ظلمة . ثم يقسم الله تعالى النور بين عباده ، فيعطي الله المؤمن نوراً ، ويبقى الكافر والمنافق لا يعطيان نوراً ، فكما لا يستضيء الأعمى بنور البصر ، كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان ، فيقولان : انظرونا نقتبس من نوركم ، فيقال لهم : { قِيلَ ارجعوا } حيث قسم النور فيرجعون ، فلا يجدون شيئاً ، فيرجعون ، وقد ضرب بينهم بسور . وعن الحسن البصري قال : إن المنافقين يخادعون الله ، وهو خادعهم ، لأنه يعطي المؤمن والمنافق نوراً ، فإذا بلغوا الصِّراط ، اطفىء نور المنافق ، فيقول : المنافقون { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } قال : فيشفق المؤمنون حين طفىء نور المنافقين ، فيقولون : عند ذلك { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } . قرأ حمزة { انظرونا } بنصب الألف ، وكسر الظاء المعجمة . والباقون : بالضم . فمن قرأ : بالنصب ، فمعناه : أمهلونا . ومن قرأ بالضم ، فمعناه : انتظرونا . فقال لهم المؤمنون : ارجعوا { وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً } يعني : ارجعوا إلى الدنيا ، فإنا جعلنا النور في الدنيا . ويقال : ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور ، واطلبوا نوراً ، فيرجعون في طلب النور ، فلم يجدوا شيئاً ، { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } يعني : ظهر لهم . ويقال : بين أيديهم بسور . يعني : بحائط بين أهل الجنة ، وأهل النار ، { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ } يعني : باطن السور { فِيهِ الرحمة } يعني : الجنة { وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب } يعني : النار . ويقال : هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف ، فيظهر بين الجنة ، والنار . باب يعني : عليه : باب فيجاوز فيه المؤمنون ، ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة { ينادونهم } من وراء السور { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يعني : ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم ، وكنا معكم في الجماعات ، والصلوات ، فيجيبهم المؤمنون . { قَالُواْ بلى } يعني : قد كنتم معنا في الدنيا ، أو في الظاهر . { ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني : قد أصبتم أنفسكم حيث كفرتم في السر . ويقال : { فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني : ثبتم على الكفر الأول في السر { وَتَرَبَّصْتُمْ } يعني : انتظرتم موت نبيكم .
ويقال : { تربصتم } يعني : أخرتم التوبة ، وسوّفْتُمْ فيها . { وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم } يعني : شككتم في الدين ، وشككتم في البعث { وَغرَّتْكُمُ الامانى } يعني : أباطيل الدنيا { حتى جَاء أَمْرُ الله } يعني : القيامة { وَغَرَّكُم بالله الغرور } يعني : الشياطين . وقال الزجاج : { الغرور } على ميزان فعول ، وهو من أسماء المبالغة ، وكذلك الشياطين { الغرور } لأنه يغري ابن آدم كثيراً .
ثم قال : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } يعني : في هذا اليوم وهو يوم القيامة . وقرأ ابن عامر : { فاليوم لاَ } بالتاء لأن الفدية مؤنثة . وقرأ الباقون : بالياء . وجمع على المعنى ، لأن معنى الفدية فداء ، ومعناه : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ } الفداء يعني : المنافقين { وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } يعني : الذين جحدوا بتوحيد الله تعالى ، { مَأْوَاكُمُ النار } يعني : مصيركم إلى النار يعني : المنافقين ، والكافرين { هِىَ مولاكم } يعني : هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب { وَبِئْسَ المصير } يعني : بئس المرجع النار للكافرين ، والمنافقين .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } يعني : ألم يجىء وقت تخاف قلوبهم ، فترق قلوبهم . يقال : إناءً يأني إناءً إذا حان وجاء وقته وأوانه . قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد . ثنا : أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدبيلي . قال : حدّثنا أبو عبيد الله . قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن القاسم قال : ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة ، فقالوا : حدّثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : { الذى نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها } ثم ملوا ملَّة أخرى فقالوا : حدّثنا يا رسول الله . فأنزل الله تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } ويقال : إن المسلمين قالوا لسلمان الفارسي : حدّثنا عن التوراة ، فإن فيها عجائب . فنزل { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } فكفوا عن السؤال ، ثم سألوه عن ذلك ، فنزلت هذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } يعني : ترق قلوبهم لذكر الله { وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } يعني : القرآن بذكر الحلال والحرام . قرأ نافع ، وعاصم ، في رواية حفص { وَمَا نَزَلَ } بالتخفيف . والباقون : بالتشديد على معنى التكثير ، والمبالغة .
ثم وعظهم فقال : { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ } يعني : ولا تكونوا في القسوة كاليهود ، والنصارى ، من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامد } يعني : الأجل . ويقال : خروج النبي صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } يعني : جفّت ، ويبست قلوبهم عن الإيمان ، فلم يؤمنوا بالقرآن إلا قليل منهم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } يعني : عاصون . ويقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني : المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم . وقال أبو الدرداء : استعيذوا بالله من خشوع النفاق . قيل : وما خشوع النفاق؟ قال : أن ترى الجسد خاشعاً ، والقلب ليس بخاشع .
قوله تعالى : { اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض } يعني : يصلح الأرض ، فاعتبروا بذلك { بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني : بعد يبسها ، وقحطها ، فكذلك يحيي القلوب بالقرآن ، ويصلح بعد قساوتها حتى تلين ، كما أحيا الأرض كذلك بعد موتها بالمطر .
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات } يعني : العلامات في القرآن { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : لكي تعقلوا أمر البعث كذلك إنكم أيضاً تبعثون .
قوله تعالى : { إِنَّ المصدقين والمصدقات } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، في رواية أبي بكر { إِنَّ المصدقين والمصدقات } كليهما بالتخفيف ، والباقون : بالتشديد . فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه : إن المؤمنين من الرجال ، والمؤمنات من النساء ، فمن صدق الله ورسوله ورضي بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم . ومن قرأ : بالتشديد . يعني : المتصدقين من الرجال ، والمتصدقات من النساء ، فأدغمت التاء في الصاد ، وشددت .
{ وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } يعني : يتصدقون ، محتسبين بطبيعة أنفسهم ، صادقين من قلوبهم { يُضَاعَفُ لَهُمُ } الحسنات ، والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة ، إلى ما لا يحصى ، { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني : ثواباً حسناً في الجنة .
ثم قال عز وجل : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } يعني : صدّقوا بتوحيد الله ، وصدقوا بجميع الرسل ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون } والصدِّيق : اسم المبالغة في الفعل . يقال : رجل صدِّيق ، كثير الصدق . وقال ابن عباس رضي الله عنه : فمن آمن بالله ورسله فهو من الصدِّيقين .
ثم قال : { والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } قال مقاتل : هذا استئناف فقال : { الشهداء } يعني : من استشهد عند ربهم . يعني : يطلب شهادة على الأمم { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } يعني : ثوابهم { وَنُورُهُمْ } ويقال : هذا بناء على الأول . يعني : { أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة . ويقال : معناه { أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون } { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الشهداء } عند ربهم ، ويكون لهم أجرهم ، ونورهم . قال مجاهد : كل مؤمن صديق ، شهيد .
ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل : { والذين كَفَرُواْ } يعني : بوحدانية الله تعالى { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا } يعني : جحدوا بالقرآن { أولئك أصحاب الجحيم } .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
ثم قال عز وجل : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } يعني : باطلاً ، ولهواً . يعني : فرحاً يلهون فيها { وَزِينَةٌ } يعني : زينة الدنيا { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } عن الحسب { وَتَكَاثُرٌ فِى الاموال والاولاد } تفتخرون بذلك . وروى إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَامَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا » .
ثم ضرب للدنيا مثلاً آخر فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } يعني : كمثل مطر نزل من السماء فينبت به الزرع ، والنبات ، { أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } يعني : فرح الزارع بنباته ، ويقال : { أَعْجَبَ الكفار } يعني : الكفار بالله ، لأنهم أشد إعْجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين . ويقال : { الكفار } كناية عن الزراع ، لأن الكَفْر في اللغة هو التغطية ، ولهذا سمي الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بالباطل . فسمي الزراع كفاراً لأنهم يغطون الحب تحت الأرض ، وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان ، والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار ، لأن ميلهم إلى الدنيا أشد { ثُمَّ يَهِيجُ } يعني : ييبس فيتغير { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بعد خضرته { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } يعني : يابساً . ويقال : { حطاما } يعني : هالكاً ، فشبّه الدنيا بذلك ، لأنه لا يبقى ما فيها ، كما لا يبقى هذا النبت { فِى الاخرة عَذَابُ شَدِيدٍ } لمن افتخر بالدنيا ، واختارها { وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان } لمن ترك الدنيا ، واختار الآخرة على الدنيا . ويقال : عذاب شديد لأعدائه ، ومغفرة من الله لأوليائه .
ثم قال : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } يعني : كمتاع الغرور ، يعني : كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج ، والخزف ، يسرع إلى الفناء ولا يبقى .
ثم قال عز وجل : { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } يعني : سارعوا بالأعمال الصالحة . ويقال : بادروا بالتوبة . وقال مكحول : سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح { وَجَنَّةٍ } يعني : إلى جنة { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والارض } يعني : لو ألصقت بعضها على بعض . يعني : سبع سموات ، وسبع أرضين ، ومدت مد الأديم ، لكان عرض الجنة أوسع من ذلك؛ وإنما بين عرضها ، ولم يبين طولها . ويقال : لو جعلت السموات والأرض لكانت الجنة بعد ذلك . هذا مثل يعني : إنها أوسع شيء رأيتموه { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } يعني : خلقت ، وهيئت للذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا برسله ، { ذلك فَضْلُ الله } يعني : ذلك الثواب فضل الله على العباد { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } يعني : يعطيه من يشاء من عباده ، وهم المؤمنون ، { والله ذُو الفضل العظيم } يعني : ذو العطاء العظيم ، وذو المَنّ الجسيم .
قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } يعني : من قحط المطر ، وغلاء السعر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، { وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } من البلايا ، والأمراض ، والأوجاع .
{ إِلاَّ فِى كتاب } يعني : إلا في اللوح المحفوظ { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } يعني : من قبل أن نخلق تلك النسمة . وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال : دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحَجَّاج أراد قتله ، فبكى رجل من قومه فقال سعيد : ما يبكيك؟ قال : لما أصابك من مصيبة . قال : فلا تبك ، قد كان في علم الله تعالى أن يكون هذا . ألم تسمع قول الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } يعني : من قبل أن نخلقها . ويقال : قبل أن نخلق تلك النفس { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني : هيناً ، { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } يعني : لكيلا تحزنوا { على مَا فَاتَكُمْ } من الرزق والعافية ، إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم قبل خلقكم ، { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } يعني : بما أعطاكم في الدنيا ، ولا تفتخروا بذلك { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } يعني : متكبراً ، فخوراً ، بنعم الله تعالى ، ولا يشكروه . قرأ أبو عمرو { بِمَا ءاتاكم } بغير مدّ . والباقون : بالمد . فمن قرأ : بغير مد ، فمعناه : لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا ، فإنه إلى نفاد . ومن قرأ : بالمد بما أعطاكم . وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ، ويفرح . ولكن المؤمن من جعل الفرح والمصيبة صَبْراً .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
ثم قال عز وجل : { الذين يَبْخَلُونَ } يعني : لا يحب الذين يبخلون . يعني : يمسكون أموالهم ، ولا يخرجون منها حق الله تعالى { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } ويقال : الذين يبخلون . يعني : يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويأمرون الناس بالبخل . يعني : يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته . { وَمَن يَتَوَلَّ } يعني : يعرض عن النفقة . ويقال : يعرض عن الإيمان { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } يعني : غنيٌّ عن نفقتهم ، وعن إيمانهم ، { الحميد } في فعاله . قرأ حمزة ، والكسائي ، { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } بنصب الخاء ، والباء . وقرأ الباقون : بضم الباء ، وإسكان الخاء ، ومعناهما واحد . قرأ نافع ، وابن عامر : { فَإِنَّ الله * الغنى الحميد } الذي لا غني مثله . والباقون : { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } بإثبات هو .
ثم قال : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } يعني : بالأمر ، والنهي ، والحلال ، والحرام ، { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } يعني : أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم { والميزان } يعني : العدل . ويقال : هو الميزان بعينه ، أنزل على عهد نوح عليه السلام { لِيَقُومَ الناس بالقسط } يعني : لكي يقوم الناس { بالقسط } يعني : بالعدل { وَأَنزْلْنَا الحديد } يعني : وجعلنا الحديد { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني : فيه قوة شديدة في الحرب . وعن عكرمة أنه قال : { وَأَنزْلْنَا الحديد } يعني : أنزل الله تعالى الحديد لآدم عليه السلام ، العلاة ، والمطرقة ، والكلبتين فيه بأس شديد .
ثم قال عز وجل : { ومنافع لِلنَّاسِ } يعني : في الحديد { منافع * لِلنَّاسِ } مثل السكين ، والفأس ، والإبرة . يعني : من معايشهم . { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ } يعني : ولكن يعلم الله من ينصره على عدوه { وَرُسُلَهُ بالغيب } بقتل أعدائه كقوله : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } ويقال : لكي يرى الله من استعمل هذا السلام في طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالغيب . يعني : يصدق بالقلب { إِنَّ الله قَوِىٌّ } في أمره { عَزِيزٌ } في ملكه .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم } يعني : بعثناهما إلى قومهما ، { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا } يعني : في نسليهما { النبوة والكتاب } وكان فيهم الأنبياء مثل موسى ، وهارون ، وداود ، ويونس ، وسليمان ، وصالح ، ونوح ، وإبراهيم عليهم السلام { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون } يعني : كثير من ذريتهم تاركون للكتاب .
قوله عز وجل : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم } يعني : وصلنا ، وأَتْبَعْنَا على آثارهم { بِرُسُلِنَا } واحداً بعد واحد { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } يعني : وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم { وَقَفَّيْنَا على } يعني : أعطيناه الإنجيل { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه } يعني : الذين آمنوا به ، وصدقوه ، واتبعوا دينه ، { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } يعني : المودة . والمتوادين الذين يود بعضهم بعضاً .
ويقال : الرأفة على أهل دينهم ، يرحم بعضهم بعضاً ، وهم الذين كانوا على دين عيسى ، لم يتهوَّدوا ، ولم يتنصروا .
ثم استأنف الكلام فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } يعني : ابتدعوا رهبانية { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } يعني : لم تكتب عليهم الرهبانية { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } وذلك أنه لما كثر المشركون ، خرج المسلمون منهم ، فهربوا ، واعتزلوا في الغيران ، واتبعوا الصوامع ، فطال عليهم الأمد ، ورجع بعضهم عن دين عيسى ابن مريم ، وابتدعوا النصرانية . قال الله تعالى : { ابتدعوها } يعني : الرهبانية ، والخروج إلى الصوامع ، والتبتل للعبادة { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } يعني : ما أوجبنا عليهم ، ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان الله . يعني : أمرناهم بما يرضي الله تعالى لا غير ذلك . ويقال : { ابتدعوها } لطلب رضى الله تعالى { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } يعني : لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم . ويقال : فما أطاعوا الله حين تهودوا ، وتنصَّروا .
قال الله تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا } في الآخرة { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } يعني : عاصين . وهم الذين تهودوا . وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئاً ، لم يكن واجباً عليه أن يتبعه ، ولا يتركه ، فيستحق اسم الفسق . وروي عن بعض الصحابة أنه قال : عليكم بإتمام هذه التراويح ، لأنها لم تكن واجبة عليكم . فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ثم قال عز وجل : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } يعني : أطيعوه فيما يأمركم به ، وفيما ينهاكم عنه ، { ياأيها الذين } محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني : اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم : آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } يعني : أجرين من فضله ، ويقال : لما نزلت في أهل مكة { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } [ القصص : 54 ] ، حزن المسلمون ، فنزل فيهم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } وأصل الكِفْل النصيب ، يعني : نصيبين من رحمته ، أحدهما : بإيمانه بنبيه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال عز وجل : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } يعني : يجعل لكم سبيلاً واضحاً تهتدون به ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } يعني : يغفر لكم ذنوبكم ، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : يغفر الذنوب للمؤمنين { رَّحِيمٌ } بهم ، { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّن فَضْلِ الله } ولا مؤكدة في الكلام ، ومعناه لأن يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ورحمته ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل الله إلا برحمته لا برحمته ، { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } يعني : الثواب من الله تعالى { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } من كان أهلاً لذلك من العبادة { والله ذُو الفضل العظيم } يعني : هو المعطي وهو المانع والله أعلم بالصواب .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ } يعني : تخاصمك ، { فِى زَوْجِهَا } يعني : من قبل زوجها . وروى أبو العالية الرياحي : أن الآية نزلت في شأن أوس بن الصامت وفي امرأته خويلة بنت دعلج ، وعن عكرمة أنه قال : نزلت في امرأة اسمها خويلة بنت ثعلبة وفي زوجها أوس بن الصامت ، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » . قالت : انظر يا نبي الله ، جعلني الله فداك يا نبي الله في شأني ، وجعلت تجادله ، وعائشة رضي الله عنها تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت عائشة رضي الله عنها : اقصري حديثك ومجادلتك يا خويلة ، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربّد ليوحى إليه ، فأنزل الله تعالى { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ } .
وروى سفيان ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، قال : كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء ، فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى في الظهار ما جعل ، وجعل في الإيلاء ما جعل .
ثم قال : { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } يعني : تتضرع المرأة إلى الله مخافة الفرقة { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } يعني : محاورتكما ومراجعتكما { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يعني : سميعاً لمقالة خويلة بصير بأمرها ، وقال مقاتل فهي خويلة بنت ثعلبة .
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله تعالى : { الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ } قرأ عاصم { يظاهرون } بضم الياء وكسر الهاء ، والتخفيف من ظاهر يظاهر ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، { يَظْهَرُونَ } بنصب الياء ، مع التشديد ، وهو في الأصل يتظهرون ، فأدغمت التاء في الظاء ، والمعنى في هذا كله واحد ، يقال : ظاهر من امرأته ، وتظهَّر منها ، وأظهر منها ، ، إذا قال لها : أنت عليّ كظهر أمي .
ثم قال : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } وروى الفضل عن عاصم ، أمهاتُهم بضم التاء ، لأنه خبر ما ، كقولك ما زيد عالم ، وقرأ الباقون بالكسر ، لأن التاء في موضع النصب ، فصار خفضاً لأنها تاء الجماعة ، وهي لغة أهل الحجاز ، فينصبون خبر «ما» ، كقوله ما هذا بشراً ، ما هن كأمهاتهم في الحرمة { أمهاتهم إِنْ } يعني : ما أمهاتهم { إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ } يعني : الأم التي ولدته ، والأم التي أرضعته ، لأنه قال في موضع آخر { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] .
ثم قال : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً } يعني : قولاً منكراً وكذباً { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } يعني : ذو تجاوز { غَفُورٌ } ، حيث جعل الكفارة لرفع الحرمة ، ولم يجعل فرقة بينهما .
ثم قال : { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : يعودون لنقض ما قالوا ، ولرفع ما قالوا في الجاهلية { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني : فعليه تحرير رقبة ، ويقال { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } فيه تقديم وتأخير ، يعني : ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا ويقال : معناه ثم يعودون لما قالوا في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يتكلمون بهذا القول فيرجعون إلى ذلك القول بعد الإسلام ، وقال بعضهم : لا تجب الكفارة حتى يقول مرتين ، لأنه قال : ثم يعودون لما قالوا ، يعني : يعودون مرة أخرى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } هذا القول خلاف جميع أهل العلم ، وإنما تجب الكفارة إذا قال مرة واحدة . والكفارة ما قال الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 92 ] يعني : عتق رقبة { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } يعني : من قبل أن يجامعها .
ويقال من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } يعني : هذا الحكم الذي تؤمرون به { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من الوفاء وغيره . وقوله تعالى { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } يعني : من لم يجد الرقبة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } يعني : فعليه صيام شهرين متتابعين ، لا يفصل بينهما { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } يعني : من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه . وفي الآية دليل أن المرأة لا يسعها أن تدع الزوج يقربها قبل الكفارة ، لأنه نهاهما جميعاً عن المسيس قبل الكفارة ، واتفقوا على أنه إذا أفطر في شهرين يوماً بغير عذر عليه أن يستقبل ، واختلفوا فيمن أفطر لمرض ، أو عذر ، أو غيره .
قال عطاء إذا أفطر من مرض ، فالله أعذره بالعذر يبدله ، ولا يستأنف ، وقال طاوس : يقضي ولا يستأنف ، وهكذا قال سعيد بن المسيب : فهؤلاء كلهم قالوا : لا يستقبل ، وقال إبراهيم النخعي والزهري والشعبي : يستقبل ، وهكذا قال عطاء الخراساني ، والحكم بن كيسان ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم .
ثم قال : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً } يعني : فعليه في قول أهل المدينة لكل مسكين صاع من الحنطة . أو التمر .
وفي قول أهل العراق منوان من حنطة ، أو صاع من تمر ، بدليل ما روى سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر البياض ، قال : كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من أهلي ، فتظاهرت من أهلي حتى ينسلخ الشهر ، فبينما هي تخدمني ذات ليلة ، إذ انكشف لي منها شيء ، فواقعتها ، فلما أصبحت أخبرت قومي ، فقلت : اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما نذهب وما نأمن أن ينزل فيك قرآن ، فأتيته فأخبرته ، فقال : « حَرِّرْ رَقَبَةً » فقلت ما أملك إلا رقبتي ، قال : « فَصُمْ شَهْرَيْنِ » قلت : وهل أصابني إلا من قبل الصيام ، قال : « فأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً » قلت : والذي بعثك بالحق نبياً لقريش ما لنا طعام . ثم قال : « انْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ » فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي ، وقد أمر لي بصدقتكم ، فقد بين في هذا الخبر أنه يجب وسقاً من تمر ، والوسق ستون صاعاً ، بالاتفاق .
ثم قال : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله } يعني : لتصدقوا بوحدانية الله تعالى { وَرَسُولُهُ } يعني : وتصدقوا برسوله { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعني : هذه فرائض الله ، وأحكامه { وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : الذين لا يؤمنون بالله وبرسوله ، وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتناجي النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بعض كلامها ، ويخفى عليه بعضه ، إذ أنزل الله تعالى { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا } وهكذا قال الأعمش .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } يعني : يعادون ، ويشاقون الله ورسوله ، ويقال يشاقون أولياء الله ورسوله ، يعني : الذين يشاقون أولياء الله ، لأن أحداً لا يعادي الله ، ولكن من عادى أولياء الله فقد عادى الله تعالى .
ثم قال : { كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } قال مقاتل : أخذوا كما أخذ الذين من قبلهم من الأمر ويقال : عذبوا كما عذب الذين من قبلهم ، وقال أبو عبيد : أهلكوا ويقال : غيظوا كما غيظ الذين من قبلهم والكبت هو الغيظ ، ويقال : أحزنوا ، وقال الزجاج : أذلوا وغلبوا { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } يعني : القرآن فيه بيان أمره ونهيه ويقال : آيات واضحات { وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } يهانون فيه ، ثم قال : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } الأولين والآخرين يبعثهم الله من قبورهم { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من خير أو شر ليعلموا وجوب الحجة عليهم { أحصاه الله وَنَسُوهُ } يعني : حفظ الله عليهم أعمالهم وهم نسوا أعمالهم ويقال : { وَنَسُوهُ } يعني : وتركوا العمل في الدنيا { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } يعني : شاهداً بأعمالهم ثم قال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ } يعني : ألم تعلم ، اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني : أنك تعلم ، ويقال : معناه إني أعلمتك أن الله يعلم . { مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } . يعني : سر أهل السَّموات وسر أهل الأرض { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } يعني : لا يتناجى ثلاثة فيما بينهم ، ولا يتكلمون فيما بينهم بكلام الشر إلا هو رابعهم ، لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم . { وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } يعني : كان هو سادسهم ، لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم . { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } يعني : عالم بهم وبأحوالهم { أَيْنَمَا *** كَانُواْ } في الأرض . { ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } يعني : يخبرهم بما عملوا يوم القيامة من خير أو شر . وذلك أن نفراً كانوا يتناجون عند الكعبة قال بعضهم لبعض : لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يسمع رب محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، فامتنعوا من ذلك ثم عادوا إلى النجوى .
{ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى } يعني : عن قول السر فيما بينهم ، { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم } يعني : بالكذب { والعدوان } يعني : بالجَوْرِ والظلم ، { أَلَمْ تَرَ } يعني : خلاف أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم . قرأ حمزة { ***وينتجون } ، والباقون { عَنْهُ ويتناجون } وهما لغتان ، يقال : تناجى القوم وانتجوا .
ثم قال : { وَإِذَا *** جَاءوكَ حَيَّوْكَ } يعني : إذا جاءك اليهود حيوك { بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } ، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم : السام عليكم .
فيقول : وعليكم . فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام ، لَعَنَكُم الله وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَهْلاً يا عَائِشَةُ ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ . وَإيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ » . قالت : أو لم تسمع ما قالوا؟ قال : « أَوَ لَمْ تَسْمَعِي ما رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ؟ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ » . فقالت اليهود فيما بينهم : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول ، لاستجيب دعاؤه علينا حيث قال : عليكم ، فنزل { وَإِذَا *** جَاءوكَ حَيَّوْكَ } يعني : سلموا عليك بما لم يُحَيِّكَ به الله يعني : بما لم يأمرك به الله أن تحيي به ، ويقال : بما لم يسلم عليك به الله .
{ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ } يعني : فيما بينهم . { لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله } يعني : هلا يعذبنا الله { بِمَا نَقُولُ } لنبيه ، يقول الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } يعني : مصيرهم إلى جهنم ، { يَصْلَوْنَهَا } يعني : يدخلونها ، { فَبِئْسَ المصير } ما صاروا إليه .
قوله تعالى : { المصير ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } قال مقاتل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } باللسان دون القلب { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } فيما بينكم ، { فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية ، كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ليحزنوا المؤمنين . وهذا الخطاب للمخلصين في قول بعضهم ، لأن الله تعالى أمرهم أن لا يتناجوا بالإثم والعدوان ، كفعل المنافقين يعني : بالعداوة والظلم { أَلَمْ تَرَ } يعني : خلاف أمر الرسول أي : لا تخالفوا أمره { وتناجوا بالبر والتقوى } يعني : بالذي أمركم الله تعالى به ، بالطاعة والتقى يعني : ترك المعصية .
ثم خوفهم فقال : { واتقوا الله } يعني : اخشوا الله ، فلا تتناجوا بمثل ما تتناجى اليهود والمنافقون . { الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم . ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان } يعني : نجوى المنافقين من تزيين الشيطان . قال قتادة : إذا رأى المسلمون المنافقين جاؤوا متناجين ، فشق عليهم ، فنزل { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان } يعني : نجوى المنافقين في المعصية من الشيطان . { لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ } ؛ قرأ نافع { لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ } بضم الياء ، والباقون بالنصب ، ومعناهما واحد . ثم قال : { وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً } يعني : ليس نجوى المنافقين يضر شيئاً للمؤمنين ، أي : لا يضرهم { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، إلا أن يشاء . الله ثم أمر المؤمنين بأن يتوكلوا على الله ، وهو قوله تعالى : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
ثم قال عز وجل : { المؤمنون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } . قرأ عاصم { فِى المجالس } بلفظ الجمع ، والباقون { فِى المجالس } يعني : في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم . نزلت في ثابت بن قيس ، وكان في أذنيه شيء من الثقل ، فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مجالسهم ، فبقي قائماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « رَحِمَ الله مَنْ وَسَّعَ لأَخِيهِ » فنزلت الآية . وروى معمر ، عن قتادة أنه قال : كان الناس يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم : إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ، { فافسحوا } يعني : وسعوا المجلس . { يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } يعني : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا .
وروى معمر ، عن الحسن قال : هذا في الغزاة؛ وقال مجاهد : { تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } يعني : مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } إلى كل خير وقتال عدو وأمر بالمعروف . وروي عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ ، ولكن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا » . قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين { انشزوا } بالضم للشين ، والباقون بالكسر وهما لغتان . يقال : نشز ينشز يعني : إذ قيل لكم انهضوا يعني : قوموا لا تتثاقلوا ، ويقال : { انشزوا } يعني : قوموا للصلاة وقضاء حق أو شهادة فانشزوا يعني : انهضوا .
ثم قال : { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات } يعني : من كان له إيمان وعلم ، وكان له فضائل على الذين يقومون وليس بعالم . قال الضحاك : { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } وقد تم الكلام . ثم قال : { والذين أُوتُواْ العلم درجات } يعني : لأهل العلم درجات ، أي : الذين أوتوا العلم في الدنيا ولهم درجات في العقبى . قال : وللعلماء مثل درجة الشهداء ، وقال مقاتل : إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة ، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم : ادخل الجنة بعملك ، ويقال للعالم : أقم على باب الجنة واشفع للناس . وقال ابن مسعود : { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم } على الذين آمنوا منكم ولم يؤتوا العلم درجات . ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من التفسح في المجلس وغيره .
قوله تعالى : { خَبِيرٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول } يعني : إذا كلمتم الرسول سراً ، { فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } يعني : تصدقوا قبل كلامكم بصدقة . { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني : التصدق خير لكم من إمساكه ، { وَأَطْهَرُ } لقلوبكم وأزكى من المعصية . { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } ما تتصدقون ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لِمَنْ لم يجد الصدقة .
وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يمكنوا الفقراء من سماع كلامه ، وكان يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم ، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند المناجاة ، فانتهوا عن ذلك ، فقدرت الفقراء على سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته .
وقال مجاهد : نُهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا ، فلم يناجه إِلاَّ عَليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً تصدق به وكلم النبي صلى الله عليه وسلم في عشر كلمات ، ثم أنزلت الرخصة بالآية التي بعدها وهو قوله : { ءَأَشْفَقْتُمْ } يعني : أبخلتم يا أهل الميسرة { أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } ؟ فلو فعلتم كان خيراً لكم ، { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } وتكرهوا ذلك ، فإن الله تعالى غني عن صدقاتكم . { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : تجاوز عنكم . { أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ } ، فَنَسَخَت الزكاةُ الصدقة التي عند المناجاة . { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما يأمركم به وينهاكم عنه . { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الخير والشر والتصدق والنجوى .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } يعني : المنافقين اتخذوا اليهود أولياء وتولَّوهم وناصحوهم ، وهم اليهود ، وغضب الله عليهم ثم قال : { مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يعني : ليسوا منكم في الحقيقة ولا من اليهود في العلانية ، وهذا كقوله : لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . وكانوا إذا سألهم المسلمون : إنكم تتولون اليهود ، كانوا يحلفون بالله إنهم من المؤمنين ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : { يَحْلِفُونَ بالله أَنَّهُمْ مِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ } فأخبر الله تعالى إنهم لكاذبون في أيمانهم ، فقال : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني : يحلفون أنهم مصدقون في السر وهم يعلمون أنهم مكذبون .
{ أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } في الآخرة . { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : بئس ما كانوا يعملون بولايتهم اليهود وكذبهم وحلفهم ، ثم قال عز وجل : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } يعني : جعلوا حلفهم بدلاً عن القتل ، ليأمنوا بها عن القتل والسبي؛ { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } يعني : صَدُّوا وصرفوا الناس عن دين الله تعالى في السر . { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يهانون فيه .
قوله تعالى : { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا } يعني : لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً . { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } يعني : دائمين . ثم قال عز وجل : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } يعني : المنافقين واليهود ، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ } يعني : يحلفون لله تعالى في الآخرة ، { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } في الدنيا؛ وحَلفهم في الآخرة ما قال الله تعالى في سورة الأنعام { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وروى معمر ، عن قتادة قال : المنافق يحلف لله تعالى يوم القيامة ، كما كان حلف لأوليائه في الدنيا .
ثم قال : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } يعني : يحسبون أن يمينهم تنفعهم شيئاً ، { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } في قولهم ، ويقال : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } من الدين ، ويقال : { وَيَحْسَبُونَ } يعني : يحسب المؤمنون أنهم على شيء ، يعني : إن المنافقين على شيء من الدين ، يعني : إذا سمعوا حلفهم . قال الله تعالى : من الدين يعني : إذا سمعوا حلفهم ، قال الله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } في حلفهم وهم كافرون في السر . ثم قال : { استحوذ } يعني : غلب { عَلَيْهِمُ الشيطان } ، ويقال : استولى عليهم الشيطان . { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } يعني : جند الشيطان { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون } يعني : خسروا أنفسهم وأموالهم في الآخرة .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله عز وجل : { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } يعني : يعادون الله ويخالفون الله ورسوله { أُوْلَئِكَ فِى الاذلين } يعني : في الأسفلين في الدرك الأسفل من النار ، وهم المنافقون ويقال : { أُوْلَئِكَ فِى الاذلين } يعني : في الهالكين .
قوله تعالى : { كتاب الله } يعني : قضى الله { لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } يعني : لأغلبن في الدنيا بالحجة والدلائل في الآخرة ، ويقال : { لاَغْلِبَنَّ } يعني : لأقهرن أنا ورسلي ، فتكون العاقبة للمؤمنين . { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } ، ويقال : { كتاب الله } يعني : قضى الله ذلك قضاء ثابتاً { لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } ، وغلبة الرسل تكون على نوعين : من بعث منهم في الحرب ، فغلب في الحرب ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } أي : مانع حزبه من أن يذل والعزيز الذي لا يغلب ولا يقهر .
ثم قال : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } يعني : البعث بعد الموت . { يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ } يعني : يتخذون خلة وصداقة مع الكافرين . نزلت في «حاطب بن أبي بلتعة» وفيه نزل { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } ثم قال عز وجل : { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } يعني : لا تتخذوا مع الكافرين صداقة ، وإن كانوا من أقربائه .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } يعني : الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة . هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني : التصديق { وَأَيَّدَهُمْ } ، يعني : أعانهم { بِرُوحٍ مّنْهُ } أي : قَوَّاهم بنور الإيمان وبإِحياء الإيمان ، وذلك يوصلهم إلى الجنة ، { وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } ، يعني : في الآخرة { خالدين فِيهَا } ، يعني : في الجنة . { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } بإيمانهم وطاعتهم ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالثواب والجنة . { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } يعني : جند الله . { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ، يعني : جند الله هم الناجون ، الذين فازوا بالجنة وبنعمة الله تعالى وفضله؛ والله أعلم بالصواب .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
قوله تبارك وتعالى : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات } ، يعني : صلى لله ، ويقال : خضع لله ، ويقال : هو التسبيح بعينه { مَا فِي السموات } من الملائكة . { وَمَا فِى الارض } يعني : من الخلق . { وَهُوَ العزيز } في ملكه ، { الحكيم } في أمره . ثم قال عز وجل : { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : يهود بني النضير . { مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } . وكان بدأ أمر بني النضير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث ، أحد البعوث مرشد بن أبي مرشد الغنوي ، وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي ، فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع ، فنزلوا عند شجرة ، فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم ، فسقطت نوايات بالأرض ، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار ، فكمنوا بالجبل .
فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم ، فرأت النوايات التي سقطت في الأرض ، فأنكرت صفرهن فعرفت أنها تمر المدينة ، فصاحت في قومها : أنتم أتيتم . فجاؤوا يطلبونها ، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل ، فقالوا لهم : انزلوا ولكم الأمان . فقالوا : لا نعطي بأيدينا . فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق ، فجرحوه وحسبوا أنه قد مات ، فتركوه فنجا من بينهم .
وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ، ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ، ويقاتلهم حتى فنيت سبله؛ ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف . ثم قال : اللهم إني قد حميت دينك أول النهار ، فاحم جسدي في آخره . وكانوا يجردون من قتل أصحابه ، فلما قتلوا عاصماً ، حمته الدبر وهي الذنابير ، حتى جاء السيل من الليل ، فذهب به الدبر .
وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الدثنة ، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة ، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام ، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه ، فقال لهم : اتركوني أصلي ركعتين ، فصلاهما . ثم قال : لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت ، لازددت . فقال : اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام ، فبلغ أنت عني السلام . ثم التفت إلى وجوههم ، وقال : اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدناً يعني : متفرقين ، ولا تبقي منهم أحداً . ثم صلبوه . وأما صاحبه ، الذي أسر معه ، اشتراه صفوان بن أمية .
وأما البعث الثاني ، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه ، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق ، وارتث هو من وسط القتلى فنجا .
وأما البعث الثالث ، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن ، ويفقهوننا في الدين ، فهم في ذمتي وجواري .
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار ، فساروا نحو بئر معونة . فلما ساروا ليلة من المدينة ، بلغهم أن عمرو بن مالك مات ، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، ورجل آخر؛ فساروا حتى بلغوا بئر معونة ، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك : نحن في ذمتك وذمة أبيك ، أفنقدم إليك أم لا؟ فقال : أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا .
فخرج إليهم عامر بن الطفيل ، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، كانوا تخلفوا . فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير ، فرمى عليهم بعلقة دم ، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم ، فقال بعضهم لبعض : قد قتل أصحابنا . فصعدوا أعلى الجبل ، فنظروا فإذا القوم صرعى ، وقد اعتكفت عليهم الطير ، فقال الحارث بن الصمة : أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي .
فخرج إليهم فقاتل القوم ، فقتل منهم رجلين . ثم أخذوه فقالوا له : ما تحب أن نصنع بك؟ فقال لهم : ابلغوا بي مصارع قومي . فلما بلغ مصارع أصحابه ، أرسلوه فقاتلهم ، فقتل منهم اثنين . ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري ، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين ، قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من أنتما؟ قال : كلابيان . فقتلهما عمرو بن أمية الضمري ، وأخذ سلبهما ، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فقال : بئس ما صنعت حين قتلتهما .
فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة ، صلى الصبح في ذلك اليوم ، وقال في الركعة الثانية : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان ، اللهم غفار ، غفر الله لها وسالم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله .
فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه؛ فاستعان النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار؛ فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال : أعينوني في عقل أصابني ، فقال : هؤلاء حلفائي . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم إلى بني النضير ، فقال حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا .
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم فقال حيي بن أخطب لأصحابه : إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن ، فاقتلوه لا تروا شراً أبداً .
فنزل جبريل عليه السلام وأخبره ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة ، حتى دخل المدينة فجاء إنسان ، فسألوه عنه فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت . فقاموا من هناك ، فقال حيي بن أخطب : عجل أبو القاسم عليه ، فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأله . فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جمع الناس وجاء بالجيش ، واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف ، فقال بعضهم لبعض : قد كان قتل قبل ذلك ، وقال بعضهم : قتل في هذا الوقت . فبعث محمد بن سلمة ، فخرج محمد بن سلمة ، وأبو نائلة ، ورجلان آخران ، فأتوه بالليل ، وقالوا : أتيناك نستقرض منك شيئاً من التمر . فخرج إليهم فقتلوه ، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير ، فقال لهم : اخرجوا منها . فإذا جاء وقت الجذاذ ، فجذوا ثماركم . فقالوا : لا نفعل .
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، نحن نعطيك الذي سألتنا . قال : « لاَ ولكن اخْرُجُوا مِنْهَا ، وَلَكُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاّ الحَلَقَةُ » يعني : السلاح ، قالوا : لا . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، وأمر بقطع نخيلهم ، ونقب بيوتهم . فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم ، فكلما نقب المسلمون بيت فروا إلى بيت ، آخر ينتظرون المنافقين . وقد قال المنافقون لهم : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، وإن قوتلتم لننصرنكم . فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم ، قال بعضهم لبعض : ليس لنا مقام بعد النخيل ، فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة .
فأخذ أموالهم ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعطها أحداً من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين ، وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة ، فنزلت هذه الآية : { وَهُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } يعني : بني النضير { لاِوَّلِ الحشر } ، يعني : أول الإجلاء من المدينة . وقال عكرمة : من شك بأن الحشر هو الشام ، فليقرأ هذه الآية { هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاِوَّلِ الحشر } . فلما قال لهم : اخرجوا من المدينة ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر .
فقال لهم : إنهم أول من يحشر ، وأخرج من ديارهم .
ثم قال : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } ، يعني : ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم . وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة ، وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتم لا يخرجون . { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ } ، يعني : وحسبوا بني النضير أنهم { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } يعني : أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله . { فاتاهم الله } ، يعني : أتاهم أمر الله ، ويقال : { فاتاهم الله } بما وعد لهم . { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } ، يعني : لم يظنوا أنه ينزل بهم ، وهو قتل كعب بن الأشرف ، ويقال : خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم . { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } ، يعني : جعل في قلوبهم الخوف .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين } . وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب ، وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ، ويدخلونها ، وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها . ويقال : كان اليهود ينقبون بيوتهم ، ليرموا بها على المسلمين؛ وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ، ليتمكنوا من الحرب . ويقال : كان اليهود أنفقوا في بيوتهم ، فلما علموا أنهم يخرجون منها ، جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المسلمون؛ وكان المؤمنون يخربونها ، ليدخلوا عليهم . قرأ أبو عمرو { يُخْرِبُونَ } بالتشديد . والباقون بالتخفيف . قال بعضهم : هما لغتان : خرب وأخرب . وروي عن الفراء أنه قال : من قرأ بالتشديد ، فمعناه يهدمون؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه يعطلون . ثم قال { فاعتبروا ياأولى الابصار } ، يعني : من له البصارة في أمر الله .
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء } ، يعني : لولا أن قضى الله عليهم الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام ، { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } ؛ يعني : لعذبهم بالقتل والسبي . { وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابُ النار } ، يعني : ذلك الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة . { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله } ، يعني : خالفوا الله ورسوله في الدين ، ويقال : عادوا الله ورسوله . { وَمَن يُشَاقّ الله } وأصله من يشاقق الله ، إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت ، يعني : من يخالف الله ورسوله في الدين ، { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، يعني : إذا عاقب ، فعقوبته شديدة .
قوله عز وجل : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } يعني : من نخلة { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا } فلم تقطعوها ، { فَبِإِذْنِ الله } يعني : بأمر الله . وقال عكرمة : لما دخل المسلمون على بني النضير ، أخذوا يقطعون النخل ، فنهاهم بعضهم ، وتأولوا قوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 205 ] وقال بعضهم : يقطع ويتأول قوله تعالى : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ التوبة : 120 ] ، فأنزل الله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } . وقال الزهري في قوله : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } اللينة : ألوان النخل كلها إلا العجوة ، وقال الضحاك : اللينة : النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة ، وقال مجاهد : اللينة : الشجرة المثمرة .
وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل ، وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين . فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها ، وبتحليل من قطعها ، وإنما قطعها وتركها بإذن الله تعالى . وعن ابن عباس أنه قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل ، فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة ، فقالوا للمؤمنين : تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض ، فدعوها قائمة؛ فإنما هي لمن غلب ، فنزل : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا } وهي العجوة { فَبِإِذْنِ الله } يعني : القطع والترك بإذن الله .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن سلام ، وأبا ليلى المازني بقطع النخل ، فكان أبو ليلى يقطع العجوة ، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون ، فقيل لأبي ليلى : لِمَ تقطع العجوة؟ قال : لأن فيه كبت العدو . وقيل لابن سلام : لِمَ تقطع اللون ، قال : لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين . فأنزل الله تعالى رضاً بما فعل الفريقان ، فقال الله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } . ثم قال عز وجل : { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } يعني : وليذل العاصين الناقضين العهد .
ثم قال عز وجل { وما أفاء الله على رسوله } يعني ما أعطى الله رسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقسم بين فقراء المهاجرين فنزل { وما أفاء الله على رسوله منهم } يعني ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير { فما أوجفتم } يعني ما أجريتم { عليه من خيل ولا ركاب } يعني لا على خيل ولا على إبل أتيتم بل إنكم } مشيتم مشيا حتى فتحتموها
ويقال أوجف الفرس والبعير إذا أسرعا يعني لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا
{ ولكن الله يسلط رسله } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { على من يشاء } من بني النضير
والله على كل شيء قدير من النصرة والغنيمة
ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم فقال { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يعني من بني النضير وفدك ويقال بني قريظة والنضير وخيبر
{ فلله وللرسول } يعني لله أن يأمركم فيه بما أحب
وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري قال كانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خالصا لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح فقسمها بين المهاجرين
ثم قال { ولذي القربى } يعني قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم
{ واليتامى والمساكين وابن السبيل }
وروى مالك بن أنس عن عمر قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بني النضير وخيبر وفدك
فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم جزأين بين المسلمين وحبس جزءا للنفقة
فما فضل عن أهله رده إلى فقراء المسلمين
ثم قال { كي لا يكون } المال { دولة }
قرأ أبو جعفر المدني { دولة } بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب يعني لكي لا يكون دولة
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي { دولة } بنصب الدال والباقون بالضم { دولة } فمن قرأ بالضم فهو اسم المال الذي يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لهذا
وأما النصب فهو النقل والانتقال من حال إلى حال { بين الأغنياء منكم } يعني لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء ليقسموه بينهم
ثم قال { وما آتاكم الرسول فخذوه } يعني ما أعطاكم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة فخذوه ويقال وما أمركم الرسول فاعملوا به { وما نهاكم عنه فانتهوا } يعني فامتنعوا عنه
{ واتقوا الله إن الله شديد العقاب } لمن عصاه
ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين يعني الغنائم { للفقراء المهاجرين } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } يعني تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين يعني اعرفوا حقهم وصلوهم { الذين أخرجوا من ديارهم } يعني أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم
يبتغون فضلا من الله ورضوانا { يعني يطلبون رزقا في الجنة ورضوان الله تعالى { وينصرون الله ورسوله } بالسيف يعني يطيعون الله فيما أمرهم بطاعته
{ أولئك هم الصادقون } يعني الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار في ذلك فقالوا هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم
فأثنى الله تعالى على الأنصار فقال عز وجل والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يعني استوطنوا الدار يعني دار المدينة من قبل هجرتهم يعني نزلوا دار الهجرة في المدينة { والإيمان } يعني تبوءوا الإيمان أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال الله تعالى { يحبون من هاجر إليهم }
يعني يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } يعني لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا يعني المهاجرين
ويقال حاجة يعني حزازة وهو الحزن ويقال { ولا يجدون في صدورهم } بخلا وكراهة بما أعطوا
{ ويؤثرون على أنفسهم } في القسمة من الغنيمة يعني تركوها للمهاجرين
{ ولو كان بهم خصاصة } يعني حاجة
وروى وكيع عن فضيل بن عمران عن رجل عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي إلى الضيف ما عندك فنزل { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }
ويقال إن رجلا من الأنصار أهدي له برأس مشوي فقال لعل جاري أحوج مني فبعث إليه
ثم إن جاره بعثه إلى جار آخر فطاف سبعة أبيات ثم عاد إلى الأول فنزل { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }
قال الله تعالى { ومن يوق شح نفسه } يعني ومن يمنع بخل نفسه { فأولئك هم المفلحون } يعني الناجين
وروى وكيع بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال } بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة {
وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم فقال { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين ويقال يعني الذين هاجروا من بعد الأولين
{ يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } يعني أظهروا الإيمان قبلنا يعني المهاجرين والأنصار
{ ولا تجعل في قلوبنا غلا } يعني غشا وحسدا وعداوة { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } يعني رحيما بعبادك المؤمنين
وفي الآية دليل أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة
ومن شتمهم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ ثم ذكر الأنصار ثم ذكر الذين جاؤوا من بعدهم وقد وصفهم الله بصفة الأولين إذ دعا لهم
وفي الآية دليل أن الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين وفيه وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين
ثم نزل في شأن المنافقين فقال { ألم تر إلى الذين نافقوا } يعني منافقي المدينة
{ يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير
{ لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعني ولا نطيع محمدا صلى الله عليه وسلم في خذلانكم
{ وإن قوتلتم لننصرنكم } يعني لنعينكم
{ والله يشهد إنهم لكاذبون } في مقالتهم وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة في قلوبهم
فقال الله تعالى { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } يعني لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم
{ ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } يعني لا يمنعونهم على ذلك
{ ولئن نصروهم ليولن الأدبار } يعني ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك ولن ينصروهم { ليولن الأدبار } يعني رجعوا منهزمين
{ ثم لا ينصرون } يعني لا يمنعون من الهزيمة
ثم قال عز وجل { لأنتم أشد رهبة } يعني أنتم يا معشر المسلمين { أشد رهبة في صدورهم من الله } يعني خوفهم منكم أشد من عذاب الله في الآخرة
{ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب فقال عز وجل { لا يقاتلونكم جميعا } يعني لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم
{ إلا في قرى محصنة } يعني حصينة أو من رواء جدر يعني يقاتلونكم من وراء الجدار فحذف الألف وهو جمع الجدار
قرأ ابن كثير وأبو عمرو من وراء جدار بالألف والباقون جدر بحذف الألف وهو جماعة
فمن قرأ { جدار } فهو واحد يريد به الجمع
ثم قال { بأسهم بينهم شديد } يعني قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد وأما مع المؤمنين فلا
ثم قال { تحسبهم جميعا } يعني تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم واحدة
{ وقلوبهم شتى } يعني قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة
{ ذلك بأنهم } يعني ذلك الاختلاف بأنهم { قوم لا يعقلون } يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
ثم ضرب لهم مثلا فقال عز وجل { كمثل الذين من قبلهم } يعني مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم يعني أهل بدر
{ قريبا } يعني كان قتال بدر قبل ذلك بقريب وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك
{ ذاقوا وبال أمرهم } يعني عقوبة ذنبهم { ولهم عذاب أليم } يعني عذابا شديدا في الآخرة
ثم ضرب لهم مثلا آخر وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم
{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } يعني برصيصا الراهب
وروى عدي بن ثابت عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل راهب عبد الله تعالى زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم فيبرؤون على يديه
وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى وقع عليها فحملت
فلما استبان حملها لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى قتلها ودفنها
ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل حتى لقي أحدا من أخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا
فبلغ ذلك إلى ملكهم فسار الملك مع الناس فأتوه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب
فلما رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل لك أن تطيعني فيما أقول لك وأخلصك مما أنت فيه فقال نعم
قال اسجد لي سجدة واحدة
فسجد له فذلك قوله كمثل الشيطان إذا قال للإنسان اكفر يعني اسجد { فلما كفر } يعني سجد
قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين قال ذلك على وجه الاستهزاء كذلك المنافقون خذلوا اليهود كما خذل الشطيان الراهب { فكان عاقبتهما } يعني عاقبة الشيطان والراهب { أنهما في النار خالدين فيها } يعني مقيمين فيها
وكان ابن مسعود يقرأ خالدان فيها وقراءة العامة { خالدين فيها } بالنصب
وإنما هو نصب على الحال
{ وذلك جزاء الظالمين } يعني الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } يعني اخشوا الله ويقال أطيعوا الله
{ ولتنظر نفس ما قدمت لغد } يعني ما عملت لغد وأسلفت لغد أي ليوم القيامة ومعناه تصدقوا واعملوا بالطاعة لتجدوا ثوابه يوم القيامة
ثم قال { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } من الخير والشر
ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود
ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين فقال { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } يعني تركوا أمر الله تعالى
{ فأنساهم أنفسهم } يعني خذلهم الله تعالى حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها
{ أولئك هم الفاسقون } يعني العاصين ويقال { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } أي تركوا ذكر الله وما أمرهم به { فأنساهم أنفسهم } يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق ويقال { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } يعني تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم { فأنساهم أنفسهم } يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا
{ أولئك هم الفاسقون } يعني الناقضين للعهد
ثم ذكر مستقر الفريقين فقال { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } يعني لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معصومون وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة
وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة
ويقال { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } في الآخرة لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان
ثم قال { أصحاب الجنة هم الفائزون } يعني المستعدون الناجون وأصحاب النار الهالكون
ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن فقال عز وجل { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } يعني القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزل على جبل { لرأيته خاشعا } يعني خاضعا { متصدعا من خشية الله } يعني خاضعا متصدعا ويقال ويرق من خوف عذاب الله فكيف لا يرق هذا الإنسان ويخشع ويقال هذا على وجه المثل يعني لو كان الجبل له تميز لتصدع من الخشية من خشية الله ثم قال { وتلك الأمثال نضربها للناس } أي نبينها للناس { لعلهم يتفكرون } أي لكي يتعظوا في أمثال الله يعني فيعتبرون ولا يعصون الله تعالى
ثم قال { هو الله الذي لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا رازق غيره
{ عالم الغيب والشهادة } يعني عالم السر والعلانية ويقال الغيب ما غاب عن العباد
والشهادة ما شاهدوه وعاينوه ويقال { عالم } بما كان وبما يكون ويقال { عالم } بأمر الآخرة وبأمر الدنيا
ثم قال { هو الرحمن الرحيم } يعني العاطف على جميع الخلق بالرزق و { الرحيم } بالمؤمنين
ثم قال تعالى { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك } يعني مالك كل شيء وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا
ثم قال { القدوس } يعني الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب
ثم قال { السلام } يعني يسلم عباده من ظلمه ويقال سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء
ثم قال { المؤمن } يعني يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال { المؤمن } أي يصدق في وعده ووعيده ويقال { المؤمن } يعني قابل إيمان المؤمنين
ثم قال { المهيمن } يعني الشهيد على عباده بأعمالهم ويقال { المهيمن } يعني المويمن فقلبت الواو هاء وهو بمعنى الأمين
ثم قال { العزيز } يعني الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال { العزيز } الذي لا يوجد مثله
ثم قال { الجبار } يعني القاهر لخلقه على ما أراده ويقال الغالب على خلقه ومعناهما واحد
ثم قال { المتكبر } يعني المتعظم على كل شيء ويقال { المتكبر } الذي تكبر عن ظلم عباده
ثم قال { سبحان الله } يعني تنزيها لله تعالى { عما يشركون } يعني عما وصفه الكفار من الشريك والولد ويقال { سبحان الله } بمعنى التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك
قوله تعالى } هو الله الخالق { يعني الخالق الخلق في أرحام النساء ويقال خالق النطف في أصلاب الآباء { المصور } للولد في أرحام الأمهات ويقال { الخالق } يعني المقدر
{ البارئ } الذي يجعل الروح في الجسد ويقال { البارئ } يعني خالق الأشياء ابتداء
ثم قال { له الأسماء الحسنى } يعني الصفات العلى ويقال { له الأسماء الحسنى } وهي تسعة وتسعون اسما وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة
ثم قال { يسبح له ما في السماوات والأرض } يعني يخضع له ما في السموات والأرض يعني جميع الأشياء كقوله وإن من شيء إلا يسبح بحمده الإسراء 44
ثم قال { وهو العزيز } يعني العزيز في ملكه { الحكيم } في أمره
فإن قال قائل قد قال الله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم } النجم 32 فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه والله سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة فيستوجب به المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه
وجواب آخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك الخصال أفضال من الله تعالى ولم يكن ذلك بقدرة العبد فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه
والله سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له ليس لغيره فيستوجب فيه المدح
ومثال هذا أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من الله تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء نزلت في حاطب بن أبي بلتعة العبسي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهز الجيش للخروج إلى فتح مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى الغزو ورى بغيره يعني يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى وكان الناس لا يعلمون إلى أي ناحية يريد الخروج
فأمر الناس بأن يتجهزوا إلى الخروج للغزو ولم يعلموا إلى أين يخرج إلا الخواص من أصحابه
فبينما الناس يتجهزون إذ قدمت امرأة من مكة يقال لها سارة مولاة بني عمر بن الصيف بن هشام بن عبد مناف وكانت امرأة مغنية فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لماذا جئت فقالت جئت لتعطيني شيئا
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت بعطياتك من شبان قريش فقالت منذ قتلتهم ببدر لم يصل إلي شيء إلا القليل
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعطى شيئا لترجع
فلما أرادت الخروج أتاها حاطب بن أبي بلتعة فقال لها إني معطيك عشرة دنانير وكساء على أن تبلغي إلى أهل مكة كتابا
فأجابته إلى ذلك فخرجت إلى مكة فنزل جبريل عليه السلام في أثرها بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي والزبير والمقداد انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة معها كتاب فخذوه منها
فخرجوا حتى أتوا الروضة فإذا هي سارة هناك فقالوا لها أخرجي الكتاب
فقالت ما معي كتاب
فألحوا عليها فحلفت أنه ليس معها كتاب فلم يصدقوها حتى نزعت جميع ثيابها فرمت بها إليهم
فنظروا إلى ثيابها فلم يجدوا فيها الكتاب ونظروا في راحلتها وأمتعتها فلم يجدوا فيها الكتاب
فقال بعضهم لبعض تعالوا حتى نرجع
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقول المرأة أصدق أم قول
جبريل فوالله لا أرجع حتى آخذ منها الكتاب ولأحملن رأسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسل السيف ليضرب رأسها فأخرجت الكتاب من عقاصها
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة وأخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم وإنه أراد بالكتاب إليهم مودتهم فقام إليه عمر وقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا يا حاطب فقال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكل من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهاليهم فأردت أن أتخذ فيهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت هذا كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام
وقد علمت أن الله تعالى منجز وعده ما وعد ألا لينصر نبيه صلى الله عليه وسلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم فنزل { يا أيها الذين آمنوا } فسماهم مؤمنين { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } يعني في العون والنصرة
{ تلقون إليهم بالمودة } يعني تكتبون وتبعثون إليهم بالصحيفة والنصيحة ويقال معناه تخبرونهم كما يخبر الرجل أهل مودته حيث توجهون إليهم بالمودة والنصيحة والكتاب
{ وقد كفروا بما جاءكم من الحق } يعني من القرآن والرسول
{ يخرجون الرسول وإياكم } يعني أخرجوكم من مكة
{ أن تؤمنوا بالله ربكم } يعني لأجل إيمانكم بربكم يعني بوحدانية ربكم
{ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } يعني لا تلقون إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي وطلب رضاي
{ وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } يعني ما أسررتم وما أظهرتم من المودة لأهل الكفر وأعلنتم الإقرار بالتوحيد
{ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } يعني من يفعل بعد منكم فقد أخطأ قصد الطريق
ثم قال عز وجل { إن يثقفوكم } وهذا إخبار من الله تعالى للمؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم لكيلا يميلوا إليهم فقال { إن يثقفوكم } يعني أن يظهروا عليكم ويقال إن يأخذوكم ويقال إن يقهروكم ويغلبوكم
{ يكونوا لكم أعداء } يعني يتبين لكم أنهم أعداؤكم فيظهر لكم عداوتهم عند ذلك
{ ويبسطوا إليكم أيديهم } بالقتل والتعذيب { وألسنتهم بالسوء } يعني بالشتم
{ وودوا لو تكفرون } يعني تمنوا أن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك بسبب قرابتكم
{ لن تنفعكم أرحامكم } يعني قرابتكم { ولا أولادكم } الذين كانوا بمكة
{ يوم القيامة يفصل بينكم } يعني يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة
قرأ عاصم { يفصل بينكم } بنصب الياء وكسر الصاد مع التخفيف يعني يفصل الله بينكم وبينهم يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { يفصل بينكم } بضم الياء ونصب الصاد مع التخفيف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والمعنى مثل الأول
وقرأ حمزة والكسائي { يفصل بينكم } بضم الياء وكسر الصاد مع التشديد يعني يفصل الله بينكم والتشديد للتكثير وقرأ ابن عامر { يفصل بينكم } بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله والتشديد للتكثير
ويقال الفصل هو القضاء يعني يقضي بينكم على هذا
{ والله بما تعملون بصير } يعني عالم بأعمالكم
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
قوله عز وجل : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم } يعني : هلا فعلتم كما فعل إبراهيم ، تبرأ من أبيه لأجل كفره؟ ويقال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } يعني : قدوة حسنة وسنة صالحة في إبراهيم فاقتدوا به . { والذين مَعَهُ } يعني : من كان مع إبراهيم من المؤمنين . { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ } أي : لمن كفر من قومهم : { أَنَاْ بَرَاء مّنكُمْ } يعني : من دينكم ، { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ } يعني : برآء مما تعبدون { مِن دُونِ الله } من الآلهة . { كَفَرْنَا بِكُمْ } يعني : تبرأنا منكم . قرأ عاصم { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } بضم الألف ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان إسوة وأُسوة وهما بمعنى الاقتداء .
ثم قال : { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } يعني : حتى تصدقوا بالله وحده ، فأعلم الله تعالى أن أصحاب إبراهيم تبرؤوا من قومهم ، وعادوهم ، لأجل كفرهم ، فأمر الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بهم . ثم قال : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم } ، يعني : اقتدوا بهم إلا قول إبراهيم { لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } يعني : لأدعون لك أن يهديك الله ويكون على هذا التفسير إلا بمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني : لأدعون لك أن يهديك الله يعني : إبراهيم تبرأ من قومه ، لكنه يدعو لأبيه بالهدى . ثم قال : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء } يعني : ما أقدر أن أمنعك من عذاب الله من شيء ، إن لم تؤمن .
ثم علَّمهم ما يقولون ، فقال : قولوا { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } يعني : فوَّضنا أمرنا إليك وأمر أهالينا ، { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } يعني : أقبلنا إليك بالطاعة؛ { وَإِلَيْكَ المصير } يعني : المرجع في الآخرة . قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، فتقتر علينا الرزق وتبسط عليهم ، فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل؛ { واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه { إِنَّكَ أَنتَ الغفور الرحيم } .
وقال بعضهم : هذا كله حكاية عن قول إبراهيم أنه دعا ربه بذلك ، ويقال : هذا تعليم لحاطب بن أبي بلتعة هلاّ دعوت بهذا الدعاء ، حتى ينجو أهلك ولا يسلط عليهم عدوك . قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } يعني : في إبراهيم وقومه في الاقتداء . { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر } يعني : لمن يخاف الله ويخاف البعث؛ ويقال : { لّمَن كَانَ يَرْجُو } ثواب الله وثواب يوم القيامة . { وَمَن يَتَوَلَّ } يعني : يعرض عن الحق؛ ويقال : يأبى عن أمر الله تعالى . { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } يعني : الغني عن عباده الحميد في فعاله .
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
ثم قال عز وجل : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ } يعني : لعل الله أن يجعل بينكم { وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم } ، كفار مكة . { مّنْهُم مَّوَدَّةً } ؛ وذلك أنه لما أخبرهم عن إبراهيم بعداوته مع أبيه ، فأظهر المسلمون العداوة مع أرحامهم ، فشق ذلك على بعضهم ، فنزل { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } يعني : صلة . قال مقاتل : فلما أسلم أهل مكة ، خالطوهم وناكحوهم ، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأسلمت وأسلم أبوها . ويقال : يسلم منهم فيقع بينكم وبينهم مودة بالإسلام؛ وهذا القول أصح ، لأنه كان قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك . { والله قَدِيرٌ } على المودة؛ ويقال : { قَدِيرٌ } بقضائه وهو ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة . { والله غَفُورٌ } لمن تاب منهم ، { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة .
ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ، وهم خزاعة وبنو مدلج ، فقال عز وجل : { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين } يعني : عن صلة الذين لم يقاتلوكم في الدين ، { وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ } يعني : أن تصلوهم ، { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } يعني : تعدلوا معهم بوفاء عهدهم . { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } يعني : العادلين بوفاء العهد ، يقال : أقسط الرجل ، فهو مقسط إذا عدل . وقسط يقسط ، فهو قاسط إذا جار .
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين } يعني : عن صلة الذين قاتلوكم في الدين ، وهم أهل مكة ، ومن كان في مثل حالهم من أهل الحرب . { وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم } يعني : عاونوا على إخراجكم من دياركم . { أَن تَوَلَّوْهُمْ } يعني : أن تناصحوهم . { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } منكم يعني : يناصحهم ويحبهم منكم ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } يعني : الكافرون الظالمون لأنفسهم .
قوله عز وجل : { الظالمون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية ، وكتب بينه وبينهم كتاباً : « إِنَّ مَنْ لَحِقَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِأَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَحِقَ مِنْهمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَيْهِمْ » . فجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، فجاء زوجها في طلبها ، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ارْدُدْهَا فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ شَرْطاً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّمَا كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ وَلَمْ يَكُنْ فِي النَّسَاءِ » . فأنزل الله تعالى : { إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات } نصب على الحال { فامتحنوهن } يعني : اختبروهن ، ما أخرجكن من بيوتكن؟ { فامتحنوهن } يعني : اسألوهن ، ويقال : استخلفوهن ما خرجنا إلا حرصاً على الإسلام ، ولم تكن لكراهية الزوج ، ولا لغير ذلك { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } يعني : أعلم بسرائرهن .
{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } يعني : إذا ظهر عندكم إنها خرجت لأجل الإسلام ، ولم يكن خروجها لعداوة وقعت بينها وبين زوجها ، { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } يعني : لا تردوهن إلى أزواجهن . { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } يعني : لا تحل مؤمنة لكافر ، { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } يعني : ولا نكاح كافر لمسلمة .
قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ } يعني : أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر . قال مقاتل : يعني : إن تزوجها أحد من المسلمين ، يدفع المهر إلى الزوج؛ فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين ، فليس لزوجها الكافر شيء . ثم قال : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } يعني : لا حرج على المسلمين أن يتزوجوهن . { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } يعني : مهورهن ، فرد المهر على الزوج الكافر منسوخ . وفي الآية دليل أن المرأة إذا خرجت من دار الحرب ، بانت من زوجها . وفي الآية تأييد لقول أبي حنيفة : أنَّهُ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا . وفي أقوال أبي يوسف ومحمد : عليها العدة .
ثم قال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } . قرأ أبو عمرو { وَلاَ تُمْسِكُواْ } بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . فمن قرأ بالتخفيف ، فهو من أمسك يمسك ، ومن قرأ بالتشديد فهو من مسك بالشيء يمسكه تمسيكاً ، ومعناهما واحد ، وهو أن المرأة إذا كفرت ، ولحقت بدار الحرب ، فقد زالت العصمة بينهما . فنهى أن يقبضها من بعد انقطاعها ، وجاز له أن يتزوج أختها أو أربعاً سواها . وأصل العصمة الحبل ، ومن أمسك بالشيء فقد عصمه . وقال : معناه لا ترغبوا فيهن ولا تعتدوا فيهن؛ ويقال : لا تعتد بامرأتك الكافرة ، فإنها ليست لك بامرأة . وكان للمسلمين نساء في دار الحرب ، فتزوجن هناك . ثم قال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ } يعني : اسألوا من أزواجهن ما أنفقتم عليهن من المهر . { وَلْيَسْئَلُواْ } منكم { مَّا أَنفَقُواْ } يعني : ما أعطوا من مهر المرأة التي أسلمت . وهذه الآية نسخت ، إلا قوله : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ثم قال : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } يعني : أمره ونهيه { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يعني : يقضي بينكم { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قوله عز وجل : { وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } يعني : إذا ارتدت امرأة ولحقت بدار الحرب ، فعاقبتم يعني : فغنم من المشركين شيئاً ، { فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم } من الغنيمة { مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } من الغنيمة ، مثل الذين أعطوا نساءهم من المهر . وهذه الآية منسوخة بالإجماع . قرأ إبراهيم النخعي : { فعاقبتم } بغير ألف ، وعن مجاهد أنه قرأ : { فعاقبتم } ؛ وقراءة العامة { فعاقبتم } فذلك كله يرجع إلى معنى واحد يعني : إذا غلبتم العبد واعتصمتم ، واصبتموهم في القتال . { واتقوا الله } يعني : اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم . { الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } يعني : مصدقين . ثم قال : { مُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } يعني : النساء إذا أسلمن ، فبايعهن { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } ، يعني : لا يعبدن غير الله . { وَلاَ يَسْرِقْنَ } ، يعني : لا يأخذن مال أحد بغير حق . { وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } يعني : ولا يقتلن بناتهن ، كما قتلن في الجاهلية؛ ويقال : لا يشربن دواءً ، فيسقطن حملهن .
ثم اختلفوا في مبايعة النساء ، وقال بعضهم : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً وأخذ في الثوب ، وقال بعضهم : كان يشيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصافحهن عمر ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، وفرغ من مبايعة الرجال ، وهو على الصفا ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه ، فبايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن . فقالت هند ، امرأة أبي سفيان : إنِّي قَدْ أصَبْتُ مِنْ مَالِ أبِي سُفْيَان ، فَلاَ أدْرِي أَحَلاَلٌ أمْ لا؟ فقال أبو سفيان : نَعَمْ مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عَفَا الله عَمّا سَلَفَ .
وفي خبر آخر ، أنها قالت : أرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِنِي مَا يَكْفِينِي وَلِوَلَدي ، هَلْ يَحِلُّ لِي أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَلِوَلَدِكِ بِالمَعْرُوفِ » . ثم قال : { وَلاَ يَزْنِينَ } فلما قال ذلك ، قالت هند : أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟ فضحك عمر عند ذلك ، ثم قال : تَعَالَيْ { وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } يعني : لا يقتلن بناتهن الصغار ، فقالت هند : ربيناهم صغاراً أفنقتلهم كباراً؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } يعني : لا تجيء بصبي من غير زوجها ، فتقول للزوج : هو منك . فقالت هند : إنَّ البُهْتَانَ أَفْحَشُ وَمَا تَأْمُرْنَا إلاَّ بِالرُّشْدِ .
ثم قال عز وجل : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } يعني : في طاعة مما أمر الله تعالى ، ويقال : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } يعني : فيما نهيتهن عن النوح وتمزيق الثياب ، أو تخلو مع الأجنبي ، أو نحو ذلك ، فقالت هند : ما جَلَسْنَا هَذَا المَجْلِسِ وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيكَ فِي شَيْءٍ ثم قال { فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله } يعني : إذا بايعن على ذلك ، فاسأل الله لهن المغفرة لما كان في الشرك .