كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{ وَمَن يُطِعِ الله والرسول } قال في رواية الكلبي : نزلت الآية في شأن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد الحب له ، وكان قليل الصبر عنه حتى تغير لونه ونحل جسمه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ " ؟ فقال : ما بي من مرض ، ولكني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك ، وأذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك . فنزل قوله تعالى { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين } في الجنة . وقال في رواية الضحاك : وذلك أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبيَّ الله ، وإن صرنا إلى الجنة فإنك تفضلنا في الدرجات ، كما أنك تفضلنا بدرجات النبوة ، فلا نراك . فنزل { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } الآية .
حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا أبو العباس ، قال : حدّثنا قتيبة ، قال : حدّثنا جهضم ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي أن رجلاً من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي ، فلولا أني آتيك فأراك لا ريب أي لا شك أني سوف أموت . قال : وبكى الأنصاري . فقال : «مَا أَبْكَاكَ؟» قال : ذكرت أنك تموت ونموت وترفع مع النبيين ، ونكون نحن وإن دخلنا الجنة دونك ، فلم يجبه بشيء ، فأنزل الله تعالى { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } { مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } أي من المسلمين . ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } في الجنة ، أي رفقاء كقوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] أي أطفالاً ، وكقوله { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المنافقون : 4 ] أي الأعداء { ذلك الفضل مِنَ الله } أي المنّ والعطية من فضل الله { وكفى بالله عَلِيماً } بالثواب في الآخرة .
قوله تعالى : { عَلِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي عدتكم من السلاح { فانفروا ثُبَاتٍ } يعني عصباً سرايا { أَوِ انفروا جَمِيعاً } مع النبي صلى الله عليه وسلم بأجمعكم .
وقال عز وجل : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } فاللام الأولى زيادة للتأكيد ، واللام الثانية للقسم . أي وإن منكم من يتثاقل ويتخلف عن الجهاد ، يعني المنافقين ، فهذا الخطاب للمؤمنين ، فكأنه يقول : إن فيكم منافقين يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد { فَإِنْ أصابتكم } معشر المسلمين { مُّصِيبَةٍ } يعني نكبة وشدة وهزيمة من العدو { قَالَ } ذلك المنافق الذي فيكم وتخلف عن الجهاد : { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ } بالجلوس { إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أي حاضراً في تلك الغزوة . قوله تعالى : { وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله } يعني الفتح والغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } أي معرفة ووداً في الدين { مَوَدَّةٌ ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ } في تلك الغزوة { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } فأصيب غنائم كثيرة . وقال مقاتل : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه : فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة في الدين ولا ولاية . قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } بالتاء لأن المودة مؤنثة ، وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي .
ثم أمر المنافقين بأن يقاتلوا لوجه الله تعالى ، فقال عز وجل :
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{ فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } يعني فليقاتل الذين معكم في طاعة الله { الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا } أي يختارون الدنيا على الآخرة . ويقال : هذا الخطاب للمؤمنين ، فكأنه يقول : فليقاتل في سبيل الله الكفار الذين يشرون الحياة الدنيا { بالاخرة } . ثم قال تعالى : { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله } أي في طاعة الله { فَيُقْتَلْ } يقول فيستشهد : { أَو يَغْلِبْ } أي يقتل العدو ويهزمهم { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً عظيماً في الجنة ، فجعل ثوابهما واحداً ، يعني : إذ غلب أو غلب يستوجب الثواب في الوجهين جميعاً ، وقال الضحاك في قوله : { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله } قال : ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، غفرت له ذنوبه ووجبت له الجنة . والفواق بالرفع : ما بين الحلبتين . والفواق : بالنصب الراحة . وذلك قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً عظيماً في الجنة .
ثم حثّ المؤمنين على القتال فقال تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين } أي وعن المستضعفين { مِنَ الرجال والنساء والولدان } ويقال : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين . ويقال : { وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله } وفي خلاص المستضعفين . وقال الضحاك : وذلك أن كفار قريش أسروا سبعة نفر من المسلمين وكانوا يعذبونهم ، فأمر الله تعالى بقتال الكفار ليستنقذوا الأسرى من أيديهم { الذين يَقُولُونَ } يعني المستضعفين بمكة ، يدعون الله تعالى ويقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا } بالشرك { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } أي من عندك حافظاً يحفظنا { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } أي مانعاً يمنعنا منهم . قال الكلبي : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، جعل الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم ولياً ، وعتاب بن أسيد نصيراً ، وكان عتاب بن أسيد ينصف الضعيف من الشديد ، فنصرهم الله به وأعانهم ، وكانوا أعز من بمكة من الظلمة قبل ذلك ، فصار المسلمون الضعفاء أعزاء كما كان الكفار قبل ذلك .
ثم مدح الله المؤمنين بقتالهم لوجه الله تعالى ، فقال تعالى : { الذين كَفَرُواْ * يقاتلوا فِى سَبِيلِ الله } أي في طاعة الله وإعزاز الدين وذم المنافقين ، وبيّن أن قتالهم للشيطان ، فقال تعالى : { والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت } أي في طاعة الشيطان . ثم حرض المؤمنين على القتال فقال : { فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان } أي جند الشيطان وهم المشركون { إِنَّ كَيْدَ الشيطان } أي مكر الشيطان { كَانَ ضَعِيفاً } أي واهياً . ويقال : أراد به يوم بدر حيث قال لهم الشيطان أي الكفار : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه . ويقال : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أي مكره ضعيف لا يدوم ، وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة أي ما له ري .
ثم قال عز وجل :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } يعني ألم تخبر عنهم ، ويقال : إن معناه ألا ترى إلى هؤلاء ، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سراً ، لما كانوا يلقون منهم من الأذى ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : مهلاً كفوا أيديكم عن قتالهم { وَإِذْ أَخَذْنَا } فإني لم أؤمر بقتالهم ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال ، فكره بعضهم فنزلت هذه الآية : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } عن القتل { وَإِذْ أَخَذْنَا } أي أتموها { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } أي فرض عليهم القتال بالمدينة { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس } أي يخشون عذاب الكفار { كَخَشْيَةِ الله } أي كخشيتهم من عذاب الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أي بل أشد خشية ، ويقال : معناه أو أشد خشية يعني أكثر خوفاً { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال } أي لم فرضت علينا القتال { لَوْلا أَخَّرْتَنَا } أي يقولوا هلاّ أجلتنا { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت ، فبيّن الله تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال : { قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ } أي منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم . وقال عليه الصلاة والسلام : " مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا "
ثم قال تعالى : { والاخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى } يقول : ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } وقد ذكرناه . قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر : ( ولا تظلمون ) بالتاء على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين . قوله تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } أي في الأرض يأتيكم الموت { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء ، حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم . وقال القتبي : «البروج» : الحصون ، و «المشيدة» : المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت ، فأخبرهم الله تعالى أنهم لا يموتون قبل الأجل ، إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت ، وإن كانوا في موضع حصين . وهذا قوله تعالى : { الذين قَالُواْ لإخوانهم وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } [ آل عمران : 168 ] ثم أخبر عن المنافقين فقال : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ } أي الفتح والغنيمة والخصب يقولوا : { هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } أي نكبة وهزيمة { يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } أي من شؤمك ، يعني : أصابتنا بسببك ، أنت الذي حملتنا على هذا . { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } يقال : الرخاء والشدة ، ويقال : القدر خيره وشره من الله تعالى . ثم قال تعالى : { فَمَا لِهَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ } يعني المنافقين لا يكادون يفقهون { حَدِيثاً } أي لا يفهمون قولاً أن الشدة والرخاء من الله تعالى ، أي لا يسمعون ولا يفهمون ما يحدثهم ربهم في القرآن .
قوله تعالى :
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{ مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } يعني : النعمة وهو الفتح والغنيمة { فَمِنَ الله } أي : وبفضله { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } يعني : البلاء والشدة من العدو أو الشدة في العيش { فَمِن نَّفْسِكَ } أي فبذنبك ، وأنا قضيته عليك . ويقال : ما أصابك من حسنة يوم بدر فمن الله ، وما أصابك من سيئة يوم أحد فمن نفسك ، أي بذنب أصحابك ، يعني بتركهم المركز . ويقال : { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } يعني الدلائل والعلامات لنبوتك فمن الله ، { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } يعني انقطاع الوحي فمن نفسك يعني بترك الاستثناء ، حيث انقطع عنك جبريل أياماً بترك استثنائك به . ويقال : { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } يعني تكثير الأمة فمن الله { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } من أذى الكفار فبتعجيلك كقوله تعالى : { لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ } ويقال : فيه تقديم وتأخير ومعناه { فَمَا لِهَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } بقولهم { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } قل : كلٌّ من عند الله .
ثم قال تعالى : { وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } أي ليس عليك سوى تبليغ الرسالة { وكفى بالله شَهِيداً } على مقالتهم وفعلهم . ثم قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } يعني من يطع الرسول فيما أمره فقد أطاع الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم بأمر الله تعالى ، وفي طاعة الله تعالى ، ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ أحَبّنِي فَقَدْ أحَبَّ الله وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله » فقال المنافقون : إن هذا الرجل يريد أن نتخذه حناناً ، فأنزل الله تعالى تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] وقال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم قال تعالى : { وَمَن تولى } أي أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي رقيباً ، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال .
ثم أخبر عن أمر المنافقين فقال : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي يقولون بحضرتك : قولك طاعة . وأمرك معروف ، فمرنا بما شئت فنحن لأمرك نتبع { فَإِذَا بَرَزُواْ } أي خرجوا { مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ } أي ألغت ويقال غيرت { طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الذى تَقُولُ } وقال الزجاج : لكل أمر قضي بليل قد بيت ، قرأ أبو عمرو وحمزة { بَيَّتَ طَائِفَةٌ } بالإدغام لقرب مخرج التاء من الطاء ، وقرأ الباقون بالإظهار لأنهما كلمتان . ثم قال تعالى : { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } يعني : يحفظ عليهم ما يغيرون . وقال الزجاج : { والله يَكْتُبُ } له وجهان ، يجوز أن يكون ينزله إليك في كتابه ، وجائز أن يكون : يحفظ ما جاؤوا به . ثم قال تعالى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي اتركهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } أي شهيداً . ويقال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي ثق بالله { وكفى بالله وَكِيلاً } أي شهيداً . أو يقال : وتوكل على الله ثقة لك . ثم نسخ بقوله تعالى : { ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ التوبة : 73 ] .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } يعني أفلا يتفكرون في مواعظ القرآن ليعتبروا بها ، ويقال : أفلا يتفكرون في معاني القرآن فيعلمون أنه من عند الله تعالى؟ لأنه { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أي تناقضاً كثيراً ، ويقال : أباطيل وكذباً كثيراً؛ لأن الاختلاف في قول الناس ، وقول الله تعالى لا اختلاف فيه ، فلهذا قال أهل النظر : إن الإجماع حجة ، لأن الإجماع من الله تعالى ، ولو لم يكن من الله تعالى لوقع فيه الاختلاف . ولهذا قالوا : إن القياس إذا انتقض سقط الاحتجاج به لأنه لو كان حكم الله تعالى لم يرد عليه النقض . قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الامن أَوِ الخوف } يعني المنافقين إذا جاءهم خبر من أمر السرية بالفتح والغلبة على العدو ، سكتوا وقصروا عما جاءهم من الخبر أو الخوف ، أي وإن جاءهم خبر من السرية ببلاء وشدة نزلت بالمؤمنين { أَذَاعُواْ بِهِ } أي أفشوه { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ } قال الكلبي : يقول لو سكتوا عن إفشائه حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يفشيه وأولو الأمر منهم مثل أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } يقول : يبتغونه { مِنْهُمْ } فيكون هؤلاء الذين يستمعونه ويفشونه ويعلمونه إلا قليلاً منهم .
يقول الله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي لولا منّ الله عليكم ورحمته ونعمته { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } فيه تقديم وتأخير . وقال مقاتل : أذاعوا به أي أفشوه { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم لا يفشون الخبر . وقال الزجاج : { أَذَاعُواْ بِهِ } أي أظهروه . ومعنى { يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي يستخرجونه ، وأصله من النبط وهو أول الماء الذي يخرج من البئر إذا حفرت ، ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوا من قبل الرسول ومن قبل أولي الأمر منهم ، لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعف المسلمين وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وذوي العلم ، وكانوا يعلمون مع ذلك . وقال عكرمة لعلمه الذين يخوضون فيه ويسألون عنه . وقال أبو العالية : يعني الذين يستحسنونه منهم . وقال الضحاك : ولو ردوا أمرهم في الحلال والحرام إلى الرسول في التصديق به والقبول منه ، وإلى أولي الأمر منهم ، يعني حملة الفقه والحكمة ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، يعني يتفحصون عن العلم . { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بالقرآن { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } وهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وفي هذه الآية دليل على جواز الاستنباط من الخبر والكتاب ، لأن الله تعالى قد أجاز الاستنباط من قبل الرسول وأهل العلم .
ثم قال : { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } أي في طاعة الله { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } قال مقاتل : يعني ليس عليك ذنب غيرك .
وقال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه قد ضمن له النصر . وقال أبو بكر في أهل الردة : لو خالفتني يميني لجاهدت بشمالي . ويقال : واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بأن يخرج إلى بدر الصغرى ، فكره المسلمون الخروج فأمره الله تعالى بأن يخرج وإن كان وحده . فقال : { وَحَرّضِ المؤمنين } أي على القتال ، يعني على الجهاد بقتال أعداء الله { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أي يمنع قتال الذين كفروا . والبأس هو القتال ، كما قال في آية أخرى { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وَءَاتَى المال على حُبِّهِ ذَوِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاة وَءَاتَى الزكواة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا والصابرين فِى البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُوا وأولئك هُمُ المتقون } [ البقرة : 177 ] ثم قال تعالى : { والله أَشَدُّ بَأْساً } أي عذاباً . ويقال : { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي أشد عقوبة في الآخرة عن عقوبة الكفار في الدنيا .
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
قوله تعالى : { مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } قال الضحاك : يعني من سنّ سنة حسنة في الإسلام ، فله أجرها وأجر من عمل بها ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء . { وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } أي من سنّ في الإسلام سنة قبيحة محدثة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء . وقال الكلبي : { مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً } يعني : يصلح بين اثنين يكن له أجر منها { وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً } يمشي بالنميمة والغيبة ، { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } يعني إثم منها . وقال مجاهد : إنما هي شفاعة في الناس بعضهم لبعض ، يعني يشفع لأخيه المسلم في دفع المظلمة عنه . وروى سفيان عن عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اشْفَعُوا إِلَيَّ تُؤْجَرُوا فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي الأمْرَ فَأَمْنَعُهُ كَيْ مَا تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا » وقال الحسن : الشفاعة تجري أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها ، والكفل في اللغة النصيب . كقوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } والمقيت المقتدر . يقال : أقات على الشيء يعني اقتدر . ويقال : المقيت الشاهد على الشيء ، الحافظ له ، ويقال : مقيتاً يعني : بيده الرزق وعليه قوت كل دابة ، كقوله تعالى { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أقواتها فى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ } يعني إذا سلم عليكم { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي ردوا جوابها بأحسن منها { أَوْ رُدُّوهَا } أي مثلها ، فأمر الله تعالى المسلمين برد السلام ، بأن يردوا بأحسن منها ، وهو أن يقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أو يرد مثله ، فيقول : وعليكم السلام ، وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها للمسلمين ، أو ردوها لأهل الذمة ، فيقول لهم : وعليكم ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلاً دخل عليه ، وقال : السلام عليكم ، فقال له : « وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ » ودخل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه فقال : « لَكَ عِشْرُونَ حَسَنَةً » ودخل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه فقال : « لَكَ ثَلاثُونَ حَسَنَةً » وروي عنه أنه نهى أن ينقص الرجل من سلامه أو من ردّه ، وهو أن يقول : السلام عليك ، ولكن ليقل : السلام عليكم . ويقال : إنما ذلك للمؤمنين ، لأن المؤمن لا يكون وحده ولكن يكون معه الملائكة .
وفي هذه الآية دليل أن السلام سنة ، والرد واجب لأن الله تعالى أمر بالرد ، والأمر من الله تعالى واجب ويقال : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } يعني إذا أهدي إليكم بهدية ، فكافئوا بأفضل منها أو مثلها . وهذا التأويل ذكر عن أبي حنيفة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً } أي مجازياً .
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } نزلت في شأن الذين شكوا في البعث ، فأقسم الله تعالى بنفسه { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } وهذه لام القسم ، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم . وقوله : { إلى يَوْمِ القيامة } قال بعضهم : إلى صلة في الكلام ، معناه ليجمعنكم يوم القيامة . ويقال : ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم إلى يوم القيامة ، ثم يبعثكم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه ، وهو البعث . يعني : لا شك فيه عند المؤمنين ، ويقال : يعني لا ينبغي أن يشك فيه . ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } أي من أوفى من الله قولاً وعهداً . قرأ حمزة والكسائي : ( ومن أزدق ) بالزاي . وقرأ الباقون : { أَصْدَقُ } وأصله الصاد ، إلا أنه لقرب مخرجيهما يجعل مكانه زاي .
قوله تعالى :
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين فِئَتَيْنِ } نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام ، فخرجوا من أموالهم . ويقال : كان قوم من المنافقين بمكة ، خرجوا إلى الشام ، فاختلف المسلمون في أمرهم ، فبيّن الله تعالى للمسلمين نفاقهم ، فقال تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين } يعني صرتم في المنافقين فئتين ، أي فريقين تختصمون في أمرهم { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } أي أذلهم . ويقال : أهلكهم . ويقال : أركسهم أي ردهم إلى كفرهم . ويقال : ركست الشيء وأركسته إذا رددته إلى الحال الأول .
ثم قال تعالى : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } يعني : أترشدون إلى الهدى من أضله الله { وَمَن يُضْلِلِ الله } عن الهدى { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } يعني ديناً . ويقال : مخرجاً . ثم قال تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } أي ترجعون عن هجرتكم { كَمَا كَفَرُواْ } أي كما رجعوا { فتكونوا } أنتم وهم على الكفر { فِيهِ سَوَآء } ومن هذا يقال في المثل : إن من أحرق يوماً كدسه يتمنى حرق أكداس الأمم . فكذلك الكفار كانوا يتمنون أن يكون الناس كلهم كفاراً ، حتى يحترقوا معهم . قال الله تعالى : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء } في الدين والنصرة { حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دار الهجرة بالمدينة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : أبوا الهجرة { فَخُذُوهُمْ } يعني : فأسروهم { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } يعني : أين وجدتموهم من الأرض { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } في العون . ثم استثنى الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } وهم خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة ، وهلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه ، صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من أتاهم من المسلمين فهو آمن ، ومن جاء منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن . وفي هذه الآية إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام ، إذا كانت في الموادعة مصلحة للمسلمين .
ثم قال تعالى : { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } أي ضاقت قلوبهم { ءانٍ *** يقاتلوكم } من قبل العهد { أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ } معكم من قبل القرابة . ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فلقاتلوكم } ذكر منته على المؤمنين أنه يدفع عنهم البلاء ومنعهم عن قتالهم ، ثم قال تعالى { فَإِنِ اعتزلوكم } في القتال { فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } أي الصلح ، معناه أنهم لو ثبتوا على صلحهم فلا تقاتلوهم ، فذلك قوله : { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي حجة وسلطاناً في قتالهم .
ثم قال عز وجل : { سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } وهم أسد وغطفان ، كانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : آمنا بك .
وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا : آمنا بالعقرب والخنفساء . يقول : إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما أرادوا به الاستهزاء . وقال مجاهد : هم ناس من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان ، ويريدون أن يأمنوا ها هنا وها هنا . فذلك قوله تعالى : { كُلَّمَا * رُدُّواْ إِلَى الفتنة } يقول : كلما دعوا إلى الشرك { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } يقول : عادوا إليه ودخلوا فيه { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } في القتال { وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم } أي لم يلقوا إليكم الصلح { وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ } عن قتالكم ، يعني إن لم يكفوا أيديهم { فَخُذُوهُمْ } يعني أسروهم { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } يعني : حيث أدركتموهم ووجدتموهم { وَأُوْلَئِكُمْ } يعني أهل هذه الصفة { جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا } يعني : حجة { مُّبِيناً } أي حجة مبينة في القتال .
وقوله تعالى :
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ } يقول : وما جاز لمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً إلا خطأ ، بغير قصد منه . ويقال : معناه : ولا خطأ أي ما جاز له يقتل عمداً ولا خطأ . ثم قال تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً } نزلت الآية في شأن عياش بن أبي ربيعة ، حين قتل الحارث بن زيد ، وذلك أن عياشاً هاجر إلى المدينة مؤمناً ، فجاءه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام ، وهما أخواه لأمه ، ومعهما الحارث بن زيد فقالوا له : إن أمك تناشدك بحقها ورحمها أن ترجع إليها وإنك أحب الأولاد إليها ، وقد حلفت ألا يظلها بيت ولا تأكل طعاماً ، ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ، فارجع إليها وكن على دينك . فخرج معهم ، فلما خرج من المدينة أوثقوه بحبل وضربوه ، وحملوه إلى مكة ، وألقوه في الشمس ، وحلفت أمه بأن لا يحله أحد ما لم يكفر بالله ، فتركوه على حاله حتى أعطاهم الذي أرادوه ، فحلُّوه من الوثاق فقال له الحارث بن زيد : إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته ، وإن كان ضلالة ، فقد كنت في ضلالة ، فحلف عياش بأن يقتل الحارث بن زيد إذا لقيه خالياً . ثم إن عياشاً خرج إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم الحارث بن زيد بعد ذلك ، فلقيه عياش في بعض سكك المدينة ولم يعلم بإسلامه فقتله ، ثم علم بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالأمر الذي كان منه ، فنزلت هذه الآية فيه ، وصارت الآية عامة لجميع الناس . وهو قوله : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي فعليه عتق رقبة مؤمنة ، ولو أعتق رقبة كافرة لم يجز بالإجماع { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } أي وعليه دية مسلمة إلى أهل القتيل ، والدية مائة من الإبل { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } وأصله يتصدقوا ، فأدغم التاء في الصاد ، وأقيم التشديد مقامه . ومعناه : إلا أن يعفو عنه أولياء القتيل ، ولا يأخذوا منه شيئاً .
ثم قال : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } يعني إن كان القتيل من أهل الحرب وقد أسلم في دار الحرب ، فقتله رجل في دار الحرب ، فعلى القاتل الكفارة عتق رقبة مؤمنة ، ولا دية عليه . وهذا بالإجماع . وقد نزلت في شأن أسامة بن زيد ، قتل رجلاً يقال له مرداس وكان مسلماً ، فنزلت هذه الآية . وروي عن عطاء بن السائب عن ابن عباس أنه قال : كان الرجل يأتي فيسلم ، ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم ، فتغزوهم جيوش من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل ، فنزلت هذه الآية { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وليس عليه دية .
ثم قال : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } يعني إن كان المقتول من أهل الذمة { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } أي فعليه دية مسلمة { إلى أَهْلِهِ } { و } عليه أيضاً { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن مستأمنين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكساهما وحملهما ، فلما خرجا من عنده لقيهما عمرو بن أمية الضمري فقتلهما ، ولم يعلم أنهما مستأمنان ، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرّين مسلمين ، فنزلت هذه الآية { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله : إن دية الذمي والمسلم سواء . وهكذا روي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم أن دية الذمي والمسلم سواء ، مائة من الإبل . ثم قال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي قاتل الخطأ ، إذا لم يجد رقبة مؤمنة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } أي فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله } أي تلك الكفارة توبة للقاتل من الله تعالى ، ويقال سبب التجاوز من الله . ثم قال : { وَكَانَ الله عَلِيماً } يعني عليماً بالقاتل { حَكِيماً } حكم بالكفارة على من قتل خطأ .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } روي عن سالم بن أبي الجعد قال : كنت عند عبد الله بن عباس بعدما كفّ بصره ، فجاءه رجل فناداه : ما تقول فيمن قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال : جزاؤه جهنم خالداً فيها . { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } فقال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال : وأنى له الهدى ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : « يَأَتِي قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً وَيَتَعَلَّقُ بِهِ المَقْتُولُ عِنْدَ عَرْشِ الرحمن ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هذا فِيمَ قَتَلَنِي؟ » فوالذي نفسي بيده في هذا أنزلت هذه الآية ، فما نسختها آية بعد نبيكم ، وما نزل بعده من برهان . وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا : لا توبة له . وقال غيرهم : له التوبة لأن الله تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حسنات وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حسنات وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ] ويقال : معناه فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، أي داخلاً فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد ، كما أن الرجل يقول : خلدت فلاناً في السجن أي أدخلته . ويقال فجزاؤه جهنم أي إن جازاه . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا وَعَدَ الله لِعَبْدِهِ ثَوَاباً فَهُوَ مُنْجِزُهُ ، وَإِنْ أَوْعَدَ لَهُ العُقُوبَةَ فَلَهُ المَشِئَةُ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْه » ويقال : معناه من يقتل مؤمناً متعمداً يعني مستحّلاً لقتله ، فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، لأنه كفر باستحلاله . ويقال : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } يعني يقتله متعمداً لأجل إيمانه ، كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكذلك ها هنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافراً . ويقال هو منسوخ بقوله تعالى { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] ويقال : معناه فجزاؤهم جهنم بقتله خالداً فيها بارتداده ، لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد عن الإسلام ، وهو مقيس بن ضبابة ، وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر إلى بني النجار ، وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله ، فإن وجدوه قتلوه ، وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يميناً وغرموا الدية ، فلما أتاهم مقيس بن ضبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم الرسالة ، فقالوا سمعاً وطاعة لأمر الله ورسوله . وقالوا : ما نعرف قاتله ، فحلفوا وغرموا الدية . فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه : إني بعت دم أخي بمائة من الإبل . ودخلت فيه حمية الجاهلية ، وقال : أقتل هذا الفهري مكان أخي ، وتكون الدية فضلاً لي . فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعراً .
قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالداً فيها وكل من يعمل مثل عمله .
ثم قال عز وجل :
{ عَظِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله } أي يقول إذا خرجتم وصرتم في الجهاد { فَتَبَيَّنُواْ } نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد ، لقي رجلاً يقال له مرداس فقال له مرداس : لا إله إلا الله . وسلم عليهم وقال : السلام عليكم إني مؤمن ، فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَقَتَلْتَ رَجُلاً يَقُولُ لا إله إِلأ الله » ؟ فقال أسامة : إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلى الله عليه وسلم : « هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ » فقال أسامة : استغفر لي فقال له : « فَكَيْفَ لَكَ بِلاَ إله إِلأ الله » ثلاث مرات . ثم استغفر له الرابعة ، وأمره بأن يعتق رقبة . وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان ، عن رجل من بجيلة قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى ، فقصدت رجلاً بالسيف ، فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَقَتَلْتَ مُسْلِماً » فقال : يا رسول الله؛ إنه قال متعوّذاً فقال صلى الله عليه وسلم : « أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ » فقال يا رسول الله : استغفر لي فقال : « لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ » فمات الرجل فدفنوه ، ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه ، ثم أصبح على وجه الأرض ثلاث مرات ، فلما رأى ذلك قومه استحيوا وحزنوا ، فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية { عَظِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } أي قفوا وانظروا من تقتلون . قرأ حمزة والكسائي { فتثبتوا } بالثاء ، وقرأ الباقون { الله فَتَبَيَّنُواْ } بالباء ، فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت يقول : قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم . ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب .
ثم قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي : { السلام } بالألف . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة { السلام } بغير ألف . وأما من قرأ { السلام } فلأن مرداساً قال لهم : السلام عليكم . وأما من قرأ { السلام } فهو الدخول والانقياد والمتابعة ، يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له لست مؤمناً ، وأسلم واستسلم بمعنى واحد ، أي دخل في الانقياد .
كما تقول : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأربع إذا دخل في الربيع . ثم قال : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه ، وأخذوا ما كان معه من الغنيمة ، فعيّرهم الله تعالى بطمعهم في المال . ثم قال : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي عند الله ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى ، ويقال : غنائم كثيرة في الدنيا ، فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم .
ثم قال تعالى : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } أي هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس ، تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تخيفوا أحداً ، وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } بالهجرة ويقال : هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل ، ويقال : أي كنتم كفاراً ، فمنَّ الله عليكم بالإسلام . ثم قال تعالى : { فَتَبَيَّنُواْ } أي قفوا وانظروا في أمركم لكي لا تقتلوا مؤمناً ، فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمناً . ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي عالماً بكم وبأعمالكم .
ثم قال تعالى :
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين } يعني القاعدين عن الجهاد لا يكون حالهم مثل حال الذين يجاهدون في الثواب والأجر { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } أي القاعدين الذين لا عذر لهم ، ومن كان له عذر فهو خارج من هذا . قال ابن عباس : يعني ابن أم مكتوم ومحمد بن جحش . ويقال : عبد الله بن جحش . فقال : إنا عميان فهل لنا من رخصة فنزلت { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } . حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص ، قال : حدّثنا أبو جعفر الطحاوي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن داود ، قال : حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأوسي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد ، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر } { والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت . وكان رجلاً أعمى ، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن يرضَّ فخذي ، ثم سري عنه أي زال عنه التغير فأنزل الله تعالى : { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } يعني : إلا أن يكون أولي الضرر .
قرأ نافع والكسائي وابن عامر : { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } بنصب الراء ، وقرأ حمزة وعاصم وابن كثير وأبو عمرو { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } بالضم . وقرأ بعضهم { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } بالكسر . فمن قرأ بالضم جعله نعتاً للقاعدين ، أي يعني لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر . ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الاستثناء ، ويقال : هو نصب على الحال . ومن قرأ بالكسر فلحرف الكسر وهو من قوله تعالى : { والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين } أي بغير عذر { دَرَجَةً } أي فضيلة في الآخرة { وَكُلاًّ } يعني : المجاهدين والقاعدين والمعذورين { وَعَدَ الله الحسنى } أي وعد الله لهم الثواب وهو الجنة .
ثم قال تعالى : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } أي بغير عذر ، ثم بيّن الأجر فقال : { درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً } أي فضائل من الله في الجنة أي سبعين درجة . روى هشام بن حسان ، عن جبلة بن عطية ، عن ابن محيريز قال : ما بين الدرجتين حضر الفرس أو الجواد سبعين عاماً . ثم قال تعالى : { وَمَغْفِرَةٌ } يعني مغفرة لذنوبهم { وَرَحْمَةً } نعمة في الجنة { وَكَانَ الله غَفُوراً } لمن جاهد { رَّحِيماً } إذ سوّى بين من له عذر بالفضل مع غيره .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
قوله تعالى :
{ إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } يعني ملك الموت يقبض أرواحهم { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } يعني الذين أسلموا بمكة ، وتخلفوا عن الهجرة ، وخرجوا مع المشركين إلى بدر ، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا وكفروا ، فقتل بعضهم ، فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال تعالى : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } يعني الملائكة تقول لهم : في أي شيء كنتم؟ ويقال : أين كنتم عن الهجرة؟ { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الارض } أي يقولون : كنا مقهورين في أرض مكة ، لا نقدر أن نظهر الإيمان { قَالُواْ } أي : قالت الملائكة { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة } يعني المدينة مطمئنة آمنة { فتهاجروا } يعني : تهاجروا إليها . فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي منزلهم ومصيرهم إلى النار { وَسَاءتْ مَصِيراً } أي بئس المصير صاروا إليها . حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص ، قال : حدّثنا الطحاوي قال حدّثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري ، عن حيوة بن شريح ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إن ناساً من المسلمين مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله ، فأنزل الله تعالى { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ - الاْيَةَ } .
ثم استثنى أهل العذر فقال : { إِلاَّ المستضعفين } أي المقهورين { مِنَ الرجال والنساء والولدان } فليس مأواهم جهنم وهم الذين { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أي لا يجدون سعة الخروج عنهم إلى المدينة ، ولا يعرفون طريقاً إلى المدينة { فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي يتجاوز عنهم ، وعسى من الله واجب { وَكَانَ الله عَفُوّاً } عنهم { غَفُوراً } لهم فلا يعاقبهم ، فقال عبد الله بن عباس : أنا ممن استثنى الله يومئذٍ؛ وكنت غلاماً صغيراً وكان ذلك قبل نسخ الهجرة ، ثم نسخت الهجرة بعد فتح مكة . حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص ، قال : حدّثنا الطحاوي ، قال : حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم ، قال : حدّثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، خطب الناس فقال في خطبته : « وَلاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ » وروى طاوس عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : « إِنَّهُ لاَ هِجْرَةَ ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا »
ثم قال تعالى :
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } يقول : في طاعة الله إلى المدينة { يَجِدْ فِى الارض مُرَاغَماً كَثِيراً } يقول : ملجأ ومحولاً من الكفر إلى الإيمان { واسعة } من الرزق . وقال القتبي : المراغم والمهاجر واحد . ويقال : راغمت وهاجرت ، لأنه إذا أسلم خرج مراغماً لأهله أي مغايظاً لهم ، والمهاجر المنقطع . وقيل للذاهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة مراغم ، لأنه إذا خرج هجر قومه . وروي عن معمر عن قتادة قال : لما نزلت { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ } الآية . فقال رجل من المسلمين وهو مريض : والله ما لي عذر إني أجد الدليل في الطريق وإني لموسر فاحملوني فحملوه فأدركه الموت في الطريق ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو بلغ إلينا لتمّ أجره وقد مات بالتنعيم ، وجاء بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة ، فنزلت هذه الآية : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت } يعني في الطريق { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أي ثوابه على الله الجنة { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما كان منه في الشرك { رَّحِيماً } حين قبل توبته ، وكان اسمه جندع بن ضمرة .
قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض } يعني إذا خرجتم إلى السفر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } ويقول : لا مأثم ولا حرج عليكم { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ } يعني يقتلكم . والفتنة في أصل اللغة الاختبار ، ثم سمي القتل فتنة لأن معنى الاختبار كما قال { فَمَآ ءامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } [ يونس : 83 ] أي يقتلهم . فالله تعالى قد أباح قصر الصلاة عند الخوف ، ثم صار ذلك عاماً لجميع المسافرين أن يقصروا من الصلاة خافوا أو لم يخافوا . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » ثم قال تعالى : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } ظاهر العداوة ، ومعناه كونوا بالحذر منهم .
قوله تعالى :
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } يعني بالمؤمنين ، ومعناه : إذا كنت بحضرة العدو وحضرت الصلاة { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي جماعة منهم { مَعَكَ } في الصلاة { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } يعني الذين يصلون معك ، ويقال : وليأخذوا أسلحتهم الذين هم بإزاء العدو { فَإِذَا سَجَدُواْ } يعني : إذ صلوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } أي ينصرفون إلى موضع العدو ، ويقفون هناك { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ } كانوا بإزاء العدو { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } ركعة أخرى ، ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة؛ ولكن ذكر في الخبر عن عبد الله بن عمر وغيره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة ، وبالطائفة الأخرى ركعة كما ذكر في الآية؛ ثم جاءت الطائفة الأولى ، وذهبت هذه الطائفة إلى موضع العدو ، حتى قضت الطائفة الأولى الركعة الأخرى وسلموا ، ثم جاءت الطائفة الأخرى ، وقضوا الركعة الأولى وسلموا ، حتى صارت لكل طائفة ركعتان . وهذا اختيار أصحابنا في صلاة الخوف ثم قال تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ } يقول : تمنى الذين كفروا { لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } يعني أمتعة الحرب { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة } يعني : يحملون عليكم حملة واحدة ، وإنما حذرهم لكي يكونوا بالحذر منهم .
ثم قال تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة أنمار ، فهزمهم وسبى ذريتهم ، فلما رجعوا أصابهم المطر ، فنزلوا وادياً تحت الأشجار ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده ، فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه . وكان بعض المشركين على ذلك الجبل ، فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه ، فجاءه واحد منهم يقال له حويرث بن الحارث ، وقال : أنا أقتله ، فأتاه وقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : « الله عزَّ وَجَلَّ » فسلَّ سيفه وأراد أن يضربه ، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الكافر في صدره دفعة ، فسقط السيف من يده . فوثب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه وقال : « مَنْ يُخَلِّصُكَ مِنِّي؟ » فقال : لا أحد . فقال له : « إِنْ أَسْلَمْتَ حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ سَيْفَكَ » فقال : لا أسلم . ولكن أعاهد الله تعالى ألا أكون لك ولا عليك أبداً ، فرد عليه سيفه فقال الرجل : يا محمد أنت خير مني ، لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني ، فرجع الكافر إلى أصحابه ، فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم ثم انقطع السيل . وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة ، وقرأ عليهم هذه الآية { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى } أي أصابتكم الجراحات { أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } من العدو يعني كونوا بالحذر منهم . وقال الضحاك : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي تقلدوا سيوفكم ، فإنما ذلك هيبة الغزاة . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين } في الآخرة { عَذَاباً مُّهِيناً } يهانون فيه .
ثم قال عز وجل :
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة } قال بعضهم : فإذا فرغتم من الصلاة { فاذكروا الله } بالقلب واللسان على أي حال كنتم { قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } إن لم تستطيعوا القيام ، ويقال : فإذا قضيتم الصلاة ، أي إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدوابّ ، أو قياماً أو قعوداً أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام ، إذا كان خوفاً أو مرضاً . وهذا كما قال في آية أخرى { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 239 ] يقال : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابا مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] أي فرغتم من صلاة الخوف { فاذكروا الله } أي فصلوا لله ، وصلاة الصحيح قياماً والمريض قاعداً ، أو على جنوبكم إن كان المرض أشد من ذلك . ثم قال تعالى : { فَإِذَا اطمأننتم } يقول : أمنتم ورجعتم إلى منازلكم { فَإِذَا قَضَيْتُمُ } يعني : فأتموا الصلاة أربعاً . وهذا كقوله { يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ } أي مطمئنين .
ثم قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً } يعني فرضاً مفروضاً معلوماً ، للمسافر ركعتان ، وللمقيم أربع . وقال مقاتل : { كتابا مَّوْقُوتاً } يعني فريضة معلومة كقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بإحسان ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 178 وغيرها ] أي فرض عليكم . وقال الزجاج : { كتابا مَّوْقُوتاً } أي مفروضاً موقتاً فرضه .
قوله تعالى { وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم } يقول : لا تضعفوا في ابتغاء القوم ، أي في طلب المشركين أبي سفيان وأصحابه بعد يوم أحد ، وذلك أن المسلمين لما أصابتهم الجراحات يوم أحد ، وكانوا يضعفون عن الخروج إلى الجهاد ، فأمرهم الله تعالى بأن يظهروا من أنفسهم الجد والقوة ، وهذا الخطاب لهم ، ولجميع المسلمين الغزاة إلى يوم القيامة . قوله : { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } قال عكرمة : الألم الوجع ، وكذلك قال الضحاك والسدي : إن أصابكم الوجع والجراحات في الحرب { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } أي يصيبهم الوجع مثل ما يصيبكم ، ولكم زيادة ليست للمشركين ، وذلك قوله تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } يعني الثواب في الآخرة { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما كان { حَكِيماً } بما يكون . ثم قال :
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } يعني : أنزلنا عليك جبريل عليه السلام ، ليقرأ عليك القرآن بالعدل والأمر والنهي { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله } أي بما أعلمك الله وألهمك ، وبما أوحي إليك { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } ولا تكن للسارقين معيناً . وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر ، عن جده قتادة بن النعمان ، قال : كان بنو أبيرق وكانوا ثلاثة : بشر ، وبشير ، ومبشر . فكان بشر يكنى أبا طعمة ، وكان شاعراً ، وكان منافقاً ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول : قال فلان وكان لعمي رفاعة بن زيد علية فيها طعام وسلاح ، فطرقه بشر من الليل ، فأخذ ما فيها من الطعام والسلاح ، فلما أصبح عمي دعاني وقال لي : إنه أغير علينا الليلة فقلت : من فعله؟ فقال : بشير وأخوه . فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن بشيراً قد سرق من عمي الطعام والسلاح ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، وأما السلاح فليردوه علينا ، فجاء قومه وكانوا أهل لسان وبيان فقالوا : إن رفاعة وابن أخيه عمدوا إلى أهل بيت منا يتهمونهم بالسرقة ، فوقع قولهم عند النبي صلى الله عليه وسلم موقعاً ، فبين الله خيانتهم فنزل : { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } وهو ابن طعمة . وقال الضحاك : سرق طعمة بن أبيرق اليهودي درعاً للزبير بن العوام ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للزبير : « لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى ذلك بِحُجَّةٍ قَيِّمَةٍ وَشَهَادَةٍ صَحِيحَةٍ » فأنزل الله تعالى تصديقاً لقوله : { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } . وقال مقاتل : سرق طعمة بن أبيرق المنافق درعاً من يهودي ، فلما جاؤوا إلى بيته بالأثر ، رمى الدرع في دار رجل من الأنصار وأنكر ، فجاء قومه ليبرئوه من السرقة فنزلت هذه الآية . وقال الكلبي : سرق طعمة بن أبيرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، فوضعه عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين ، وأنكر السرقة فجاء قومه يخاصمون عنه ، فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } .
قوله تعالى : { واستغفر الله } عن جدالك عن طعمة حين جادلت عنه { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ثم قال تعالى : { وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } يقول : ولا تخاصم عن الذين يضرون أنفسهم بالسرقة { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } أي خائناً بالسرقة فاجراً برميه على غيره . ثم قال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس } قال الضحاك : لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته ، وجعل الدرع تحت التراب فنزل { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس } بالتراب { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } يقول : لا يخفى مكان الدرع على الله { وَهُوَ مَعَهُمْ } أي رقيب حفيظ عليهم .
ويقال : يستخفون يعني يستترون من الناس وهم قوم طعمة ، ولا يستخفون من الله يقال : ولا يقدرون أن يستتروا من الله { وَهُوَ مَعَهُمْ } يعني عالماً بهم وبخيانتهم { إِذْ يُبَيّتُونَ } يقول : إذ يؤلفون ويغيرون { مَا لاَ يرضى مِنَ القول } يقول : ما لا يرضو لأنفسهم من القول وهم سرقوا ، ويقال : ما لا يرضى الله ولا يحبه . ثم قال : { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } أي عالماً بهم وبخيانتهم ، ثم أقبل على قوم طعمة فقال : { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } يقول : ها أنتم هؤلاء { جادلتم } أي خاصمتم { عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة } يقول : فمن يخاصم الله عنهم يوم القيامة { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي كفيلاً ، ويقال خصيماً .
وقال الضحاك : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد على طعمة بن أبيرق ، وكان طعمة مطاعاً في اليهود ، فجاءت اليهود شاكين في السلاح ، وهربوا بطعمة وجادلوا عنه ، فنزل { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } يعني اليهود الآية .
ثم قال :
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } قال الضحاك : نزلت الآية في شأن وحشيّ قاتل حمزة رضي الله عنه ، أشرك بالله وقتل ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني لنادم فهل لي من توبة؟ فنزل { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } الآية . وقال الكلبي : نزلت في شأن طعمة { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } بسرقة الدرع أو يظلم نفسه برميه غيره وجحوده ، ثم يستغفر الله أي يتوب إلى الله { يَجِدِ الله غَفُوراً } متجاوزاً { رَّحِيماً } لمن اتقى الشرك . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء ، وإذا سمعته من غيره حلفته . وحدثني أبو بكر الصديق ، وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال : ما من عبد يذنب ذنباً ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ، ويستغفر الله تعالى إلا غفر الله له . وتلا هذه الآية { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } الآية .
ثم قال تعالى : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } يعني الشرك بالله تعالى { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } أي يضر بنفسه { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } يعني عمل بالمعصية { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } قال مقاتل : وهو طعمة حين رمى بالدرع في دار الأنصاري واتهمه به ، وهو قوله { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } . وقال الضحاك : يعني به المنافقين حيث قالوا في عائشة رضي الله عنها قولاً عظيماً ، فقال : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } بالمعاصي { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } يعني عائشة وصفوان . ثم قال تعالى : { فَقَدِ احتمل بهتانا } يقول : فقد قال كذباً { وَإِثْماً مُّبِيناً } ذنباً طاهراً . قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } يعني فضل الله عليك بالنبوة ، ورحمته بالوحي { لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي جماعة { أَن يُضِلُّوكَ } أي يخطئون في الحكم { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } أي وما يرجع وبال ذلك إلا على أنفسهم { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } وإنما يضرون بأنفسهم . قال الضحاك : نزلت الآية في وفد ثقيف ، قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا ، فلم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } وقال الكلبي : يعني قوم طعمة . ثم قال : { وَأَنزَلَ * عَلَيْكَ الكتاب } يعني القرآن { والحكمة } يعني يعني القضاء والمواعظ { وَعَلَّمَكَ } بالوحي { مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } قبل الوحي { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } بالنبوة . ثم قال :
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{ لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } وهو ما يتناجون فيما بينهم ، ويقال : في كثير من أحاديثهم ، وهم وفد ثقيف أو قوم طعمة { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } يقول : إلا نجوى من أمر بصدقة { أَوْ مَعْرُوفٍ } يعني لقرض ، كقوله { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً } [ النساء : 6 ] ويقال : المعروف يعني القول بالمعروف والنهي عن المنكر { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } يعني : يذهب فيما بين اثنين ليصلح بينهما { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } الذي ذكرنا { ابتغاء } يعني طلباً { مَرْضَاتَ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } يعني في الآخرة { أَجْراً عَظِيماً } قرأ حمزة وأبو عمرو { نُؤْتِيهِ } بالياء ، أي يؤتيه الله تعالى . وقرأ الباقون { نُؤْتِيهِ } بالنون ، أي نحن نعطيه في الآخرة أجراً عظيماً أي ثواباً عظيماً .
قوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } يعني يخالفه في التوحيد { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } أي من بعد ما تبين لهم التوحيد { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي يتبع ديناً غير دين المؤمنين ، ويقال : يتبع طريقاً أو مذهباً غير طريق المؤمنين . وفي الآية دليل أن الإجماع حجة ، لأن من خالف الإجماع فقد خالف سبيل المؤمنين . وقال الضحاك : قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ، فنزلت هذه الآية { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } أي دين الإسلام { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } المسلمين { نُوَلّهِ مَا تولى } نكله إلى الأصنام يوم القيامة ، وهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ، ولا ينجونهم من عذاب الله تعالى . وقال مقاتل : { نُوَلّهِ مَا تولى } أي نتركه وما اختار لنفسه . وقال الكلبي : { نُوَلّهِ مَا تولى } يعني نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا ، وهذا كما قال بعض الحكماء : من أراد أن يعلم كيف يعامل معه في الآخرة ، فلينظر كيف يعامل هو في الدنيا . وقال الكلبي : نزلت الآية في شأن طعمة ، لما ظهر حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ، فنقب بمكة حائطاً لرجل ، فسقط حجر فبقي في النقب حتى وجدوه على حاله ، فأخرجوه من مكة فخرج إلى الشام ، فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه ، فنزل قوله : { نُوَلّهِ مَا تولى } . { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو { نُوَلّهِ وَنُصْلِهِ } بجزم الهاء ، وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان .
ثم قال تعالى :
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قال الضحاك : وذلك أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا ، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ولياً ، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ، ولا مكابرة له ، وإني لنادم وتائب مستغفر ، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ويقال : نزل في شأن وحشيّ ، وقد ذكرناه من قبل . { وَمَن يُشْرِكْ بالله } أي من يعبد غير الله { فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } يعني فقد ضل عن الهدى ضلالاً بعيداً عن الحق . ثم قال تعالى في ذم الكفار وبيّن جهلهم فقال : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا } يقول : ما يعبدون من دون الله إلا أصناماً أمواتاً ، وهذا قول ابن العباس . وعن الحسن أنه قال : الإناث الشيء الميت الذي ليس فيه روح . وقال السدي : سموها إناثاً : اللات والعزى ومناة . ثم قال تعالى : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً } وذلك أن الشيطان كان يدخل في الصنم ويكلمهم ، وهم يعبدون الصنم وفيه الشيطان . ويقال : إبليس زين لهم عبادة الأصنام ، وإذا عبدوا بإذنه فكأنهم عبدوا الشيطان . ثم قال : مريداً أي مارداً مثل قدير وقادر ، والمارد العاتي . ويقال : كل فاسد مفسد يكون مريداً ، أي يكون فاسداً لنفسه ويفسد غيره .
ثم قال تعالى : { لَّعَنَهُ الله } يعني طرده الله من رحمته وهو إبليس ، حيث لم يسجد لآدم فلما لعنه { وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي حظاً معلوماً ، قال مقاتل : يعني من كل ألف واحد في الجنة وسائرهم في النار ، فهذا نصيب مفروض . ثم قال : { وَلاَضِلَّنَّهُمْ } يعني عن الهدى والحق { وَلامَنّيَنَّهُمْ } يعني لأخبرنهم بالباطل أنه لا جنة ولا نار ولا بعث { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام } وهي البحيرة ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشقون آذان الأنعام ويسمونها بحيرة ، وذكر قصتهم في سورة المائدة . ثم قال : { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } قال عكرمة : هو الخصاء ، وهكذا روي عن ابن عباس وأنس بن مالك . وروي عن سعيد بن جبير قال : هو دين الله ، وهكذا قال الضحاك ومجاهد . وقيل لمجاهد : إن عكرمة يقول : هو الخصاء فقال : ما له لعنه الله وهو يعلم أنه غير الخصاء . فبلغ ذلك عكرمة ، فقال : هو فطرة الله . وقال الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم ، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا خلق الله عز وجل . { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً } أي يعبد الشيطان ويطيعه { مِن دُونِ الله } يعني ترك أمر الله تعالى وطاعته { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي ضلّ ضلالاً مبيناً بيناً عن الحق . ثم قال تعالى : { يَعِدُهُمْ } يعني الشيطان ، يخوفهم بالفقر حتى لا يصلوا رحماً ولا ينفقوا في خير { وَيُمَنّيهِمْ } أي يخبرهم بالباطل أنه لا ثواب لهم في ذلك العمل { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } أي باطلاً . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني الذين يطيعون الشيطان مصيرهم إلى جهنم { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أي مفرّاً ومهرباً . قوله تعالى :
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
قوله تعالى :
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي صدقوا بالله تعالى والرسول والقرآن ، وأدوا الفرائض ، وانتهوا عن المحارم { سَنُدْخِلُهُمْ جنات } وهي البساتين { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } وهي أربعة أنهار : نهر من ماء غير آسن ، ونهر من لبن ، ونهر من خمر ، ونهر من عسل مصفى . { خالدين فِيهَا أَبَداً } يعني مطمئنين فيها ، لا يتغير بهم الحال . فهذا وعد من الله تعالى . ثم قال : { وَعْدَ الله حَقّا } أي صدقاً وكائناً ، أنجز لهم ما وعد لهم من الجنة { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } أي قولاً ووعداً ، قوله تعالى : { لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب } وذلك أن أهل الكتاب قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى . وقال المؤمنون : إنا أسلمنا لا تضرنا الذنوب فنزل : { لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب } يقول : ليس لكم يا معشر المسلمين ما تمنيتم ، ولا أهل الكتاب ما تمنوا { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } أي من يعمل معصية دون الشرك يعاقب به . وقال الزجاج : معناه ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، وقد جرى ما يدل على إضمار الثواب وهو قوله : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي إنما يدخل الجنة من آمن وعمل صالحاً ، ليس كما تمنيتم و { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } أي لا ينفعه تمنيه .
ويقال : لما نزلت هذه الآية { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } شق ذلك على المسلمين . وقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأواءُ؟ أي الشدة فذَلِكَ كُلُّهُ جَزَاؤُهُ » حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا العباسي ، قال : حدّثنا الحسن بن صباح ، قال : حدّثنا عبد الوهاب الخفاف ، عن زياد ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : مرّ ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب ، فنظر إليه فقال : يغفر الله لك ثلاثاً ، والله ما علمتك إلا كنت صواماً قواماً وصّالاً للرحم ، أما والله إني لأرجو مع مساوىء ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها أبداً ، ثم التفت فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا » وروى محمد بن قيس ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } شق ذلك على المسلمين ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَكُلُّ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ تُشَاكُهُ والنَّكْبَةُ تَنْكُبُهُ » وقال الضحاك : السوء الكفر .
وقال مجاهد : قالت قريش : لن نبعث ولن نعذب ، فنزلت : { لَّيْسَ بأمانيكم } أي أماني كفار قريش ولا أماني أهل الكتاب { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } أي يعاقب عليه .
ثم قال تعالى : { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً } يعني الكافر لا يجد لنفسه { مِن دُونِ الله } أي من عذاب الله ولياً يمنعه { وَلاَ نَصِيراً } ينفعه ويمنعه من العذاب . ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } يعني يؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } أي من رجل أو امرأة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي مصدق بالثواب والعقاب { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة } لا شك فيها { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم { نَقِيراً } وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة . قرأ أبو عمرو وابن كثير { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة } بضم الياء ونصب الخاء ، على معنى فعل ما لم يسم فاعله . وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الخاء ، أي يدخلون الجنة بأعمالهم .
ثم فضل دين الإسلام على سائر الأديان فقال تعالى :
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ } أي أخلص دينه { لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله ويقال : وهو موحد { واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } أي مستقيماً ، ويقال : مائلاً إلى دين الإسلام . ثم قال تعالى { واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان يوسع على الضعفاء الطعام ، واحتاج في بعض الأوقات إلى الطعام ، فبعث غلمانه مع الجمال إلى خليل له بمصر ليقرضه شيئاً من الطعام فيرد عليه إذا أدرك إنزاله ، فلما انتهوا إليه قال : إني أخاف أن أحتاج قبل إدراك الإنزال ، فلم يدفع إليهم ورجعوا ، فاستحيا الغلامان أن يدخلوا في قرية إبراهيم والناس ينظرون إليهم وليس معهم شيء ، فجعلوا الرحل في الجواليق وحملوا على الجمال ، وجاؤوا إلى منزل إبراهيم عليه السلام وألقوا الأحمال وتفرقوا ، وجاء واحد منهم وأخبر إبراهيم بالقصة فاغتمّ لذلك ودخل البيت ونام ، فخرجت جواريه ونظرن إلى الأحمال فإذا الجواليق دقيق ، فرفعن منها وجعلن يخبزن خبزاً ، حتى إذا استيقظ إبراهيم عليه السلام وخرج وقال : من أين هذا الدقيق؟ فقلن : من عند خليلك المصري . فقال إبراهيم : ليس هذا من عند خليلي المصري ولكن من عند خليل السماء . فاتخذه الله تعالى خليلاً بذلك .
ويقال : لما دخلت عليه الملائكة في شبه الآدميين ، وجاءهم بعجل سمين فلم يأكلوا منه ، وقالوا : إنا لا نأكل شيئاً بغير ثمن . فقال لهم : أعطوني ثمنه وكلوه . قالوا : وما ثمنه؟ قال : أن تقولوا في أوله بسم الله وفي آخره الحمد لله . فقالوا فيما بينهم : حقاً على الله أن يتخذه خليلاً فاتخذه الله خليلاً .
ويقال : إنه أضاف رؤساء الكفار ، وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له : ما حاجتك؟ فقال : حاجتي أن تسجدوا لله سجدة ، فسجدوا . فدعا الله تعالى وقال : اللهم إني قد فعلت ما أمكنني ، فافعل أنت ما أنت أهل لذلك . فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلاً لذلك .
وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ وَإِفْشَائِهِ السَّلاَمَ وَصَلاَتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ » ثم قال عز وجل : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض } كلهم عبيده وفي ملكه وحكمه نافذ فيهم { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } أحاط علمه بكل شيء .
قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } أي يسألونك عن ميراث النساء ، نزلت في أم كجة التي ذكرنا في أول السورة { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } أي يبين لكم ما لهن من الميراث { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } أي وكتاب الله يفتيكم بذلك { فِى يتامى النساء } يعني في ميراث يتامى النساء { اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ } لا تعطونهن { مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أي ما فرض لهن من الميراث { وَتَرْغَبُونَ } أي وتزهدون { أَن تَنكِحُوهُنَّ } لدمامتهن .
وروى معمر عن إبراهيم قال : كان الرجل يكون عنده اليتيمة الدميمة ولها مال ، ويكره أن يزوجها من غيره من أجل مالها . قال إبراهيم : وكان عمر يأمر الرجل إذا كانت عنده اليتيمة الدميمة ولها مال ، أن يتزوجها . وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كانت يتيمة في حجر رجل ، فأراد أن يتزوجها ولم يكمل صداق نصابها ، فأمروا بإكمال الصداق . وقال مجاهد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً ، ويقولون : لا يغزون ، ففرض الله لهم الميراث وأمر لليتيم بالقسط . ثم قال تعالى : { والمستضعفين } يقول : يسألونك عن ميراث المستضعفين { مِنَ الولدان } ويقال : يفتيكم في المستضعفين من الولدان { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } أي بالعدل { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } يجازيكم . وفي هذه الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز ، وفيه أنه إذا زوج من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم .
قوله تعالى :
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{ وَإِنِ امرأة خافت } أي علمت { مِن بَعْلِهَا } يعني زوجها { نُشُوزاً } يعني عصياناً في الأثرة { أَوْ إِعْرَاضاً } عنها وترك محادثتها ، نزلت في رافع بن خديج تزوج امرأة أشبّ من امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة . وقال في رواية الكلبي : نزلت في ابنة محمد بن مسلمة ، وفي زوجها أسعد بن الزبير تزوجها وهي شابة ، فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها ، وجفا بنت محمد بن مسلمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزل : { وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } يعني ترك مجامعتها { أَوْ إِعْرَاضاً } يعني يعرض بوجهه ويقل مجالستها ومحادثتها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي لا إثم على الزوج والمرأة { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا } بضم الياء والتخفيف ، وهو من الصلح . وقرأ الباقون { ءانٍ } بالألف وتشديد الصاد ، لأن أصله وتصالحا فأدغمت التاء في الصاد ، وأقيم التشديد مكانه/
ثم قال : { صُلْحاً والصلح خَيْرٌ } يعني الصلح خير من الفرقة . ويقال : الصلح خير من النشوز ، ويقال : الصلح خير من الخصومة والخلاف . وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } قال : قول الرجل لامرأته أنت كبيرة ، وإني أريد أن أستبدل بك شابة ، فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئاً ورضيت بذلك ، فذلك الصلح بينهما . قال : وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح ، ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس ، لقوله تعالى : { والصلح خَيْرٌ } . ثم قال تعالى : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } يعني الشح حملها على أن تدع نصيبها ، ويقال : شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى ، وشحّ الرجل بنصيبه من الأخرى . وقال مقاتل : طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى . ثم قال تعالى : { وَإِن تُحْسِنُواْ } يقول تحسنوا إليهن { وَتَتَّقُواْ } الميل والجور { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } في الإحسان والجور .
قوله تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } يقول : لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب بين الشابة والكبيرة { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي ولو جهدتم ، ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } بالنفقة والقسمة إلى الشابة { فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بعل . وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ ، فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ » وفي رواية أخرى
« وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ » وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول : « اللَّهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ » يعني الحب والجماع .
ثم قال تعالى : { وَإِن تُصْلِحُواْ } يعني تصلحوا بينهما بالسوية { وَتَتَّقُواْ } الجور والميل { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } حيث رخص لكم في الصلح . ثم قال عز وجل : { وَإِن يَتَفَرَّقَا } يعني الزوج والمرأة { يُغْنِى الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } يعني من رزقه . وقال مجاهد : يعني الطلاق . وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح ، فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه فشكا إليه الفقر ، فأمره بالطلاق ، فسئل عن ذلك فقال : أمرته بالنكاح . وقلت : لعله من أهل هذه الآية { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 32 ] فلما لم يكن من أهل هذه الآية . قلت : فلعله من أهل هذه الآية ( وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته ) وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : فَتَذَرُوهَا كَأَنَّهَا مسجونة . ثم قال : { وَكَانَ الله واسعا } يعني واسع الفضل { حَكِيما } حكم بفرقتهما وتسويتهما .
ثم قال تعالى :
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا } أي أمرنا { الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } يعني أهل التوراة والإنجيل { وإياكم } يعني أمرناكم يا أمة محمد عليه السلام في كتابكم { أَنِ اتقوا الله } فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد ، ثم بعد التوحيد بالشرائع { وَإِن تَكْفُرُواْ } يقول : تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية الله تعالى { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } يعني هو غني عن عبادتكم { وَكَانَ الله غَنِيّاً } عن إيمان الخلق وطاعتهم { حَمِيداً } محموداً في أفعاله . وقوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } يعني كلهم عبيده وإماؤه ، ويقال : هذا موصولاً بالأول ، وكان الله غنياً حميداً في أفعاله ، لأن له ما في السموات وما في الأرض ، وهو رازقهم والمدبر في أمورهم . ثم قال : { وكفى بالله وَكِيلاً } أي حفيظاً وربّاً ، ثم ذكر التهديد لمن رجع عن عبادته فقال : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } أي يهلككم إذا عصيتموه { وَيَأْتِ بِاخَرِينَ } أي يخلق خلقاً جديداً غيركم من هو أطوع لله منكم ، وهذا كما قال في آية أخرى { هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] .
ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } أي يذهبكم ويأتِ بغيركم . ويقال : في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة ، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً ، فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره .
قوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا } يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه الله ، فليعمل لآخرته كما قال : { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة } يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهو الجنة . ويقال : في الآية مضمر فكأنه يقول : من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : كان المشركون مقرين بأن الله خالقهم ، وأنه يعطيهم خير الدنيا ، فأخبر الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه . وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة ، لأن الدنيا والآخرة لله تعالى ، فاعبدوه إما لأجل الدنيا وإما لأجل الآخرة . وروي في بعض الأخبار أن في جهنم وادياً تتعوذ منه جهنم ، أعد للقراء المرائين . ثم قال : { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } يعني عالماً بنية كل واحد منهم . وروى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نِيَّةُ المُؤمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُ المُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ » وكان يعمل على نيته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ } أي كونوا قوامين بالعدل ، وأقيموا الشهادة لله بالعدل ، ومعناه قولوا الحق { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } أي وإذا كانت عندكم شهادة ، فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم { أَوِ الوالدين والاقربين } ثم قال : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } أي أدوا الشهادة لا تكتموها ، سواء كان لغني أو لفقير ، ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه ، ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره . ويقال : اشهدوا على الوالدين كانا غنيين أو فقيرين { فالله أولى بِهِمَا } أي بالغني وبالفقير . ويقال : أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين . ثم قال : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } أي لا تشهدوا بهواكم ، ولكن اشهدوا على ما شهدتم عليه .
ثم قال تعالى : { أَن تَعْدِلُواْ } يعني أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير . ويقال : فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا . وقال مقاتل : يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة ، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى .
وقال تعالى : { وَإِن تَلْوُواْ } أي تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم ، فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة { أَوْ تُعْرِضُواْ } عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم . قرأ حمزة وابن عامر : { وَأَنْ } بواو واحدة يعني من الولاية ، يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم . وقرأ الباقون : { وَإِن تَلْوُواْ } بواوين من التحريف { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من كتمان الشهادة وإقامتها { خَبِيراً } يعني عالماً . فهذا تهديد للشاهد لكيلا لا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموها . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُقِمْ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَومِ الآخِرِ فَلا يَجْحَد لِحَقَ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ يُؤَدِّهِ ، وَلاَ يُلْجِئْهُ إِلَى السُّلْطَانِ والخُصُومَةِ »
قوله تعالى { خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } قال الضحاك : يعني أخبار أهل الكتابين الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم . وقال في رواية الكلبي : نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس وغيرهم ، قالوا : يا رسول الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « بَلْ آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكِتَابِهِ القُرْآنِ ، وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ » فنزلت هذه الآية { خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } ويقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } خاطب به جميع المؤمنين ، آمنوا بالله يعني اثبتوا على الإيمان .
وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني يوم الميثاق { بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ } ويقال : نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن ، فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال : { واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 24 ] وكانوا لم يغرقوا بعد . ويقال : إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } أي بزعمهم كما قال { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي بزعمه . قرأ نافع وعاصم عن حمزة والكسائي { والكتاب الذى نَزَّلَ } بنصب النون والزاي { والكتاب الذى نَزَّلَ } بنصب الألف . وقرأ الباقون ( نزل ) بضم النون وكسر الزاي ، ونزل وأنزل بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر } أي من يجحد بوحدانية الله تعالى وملائكته أنهم عبيده ، وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده ، وبالبعث بعد الموت { فَقَدْ ضَلَّ } عن الهدى { ضلالا بَعِيداً } عن الحق . وقوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } قال مقاتل : يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام ، ثم كفروا من بعد موسى ، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام والإنجيل ، ثم كفروا من بعده { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . ويقال : إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث ، ثم كفروا به بعدما بعث ، ثم ازدادوا كفراً يعني ثبتوا على كفرهم . وقال في رواية الكلبي : آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال في رواية الضحاك : نزلت في شأن أبي عامر الراهب ، وهو الذي بنى مسجد الضرار ، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر ، ثم آمن ثم كفر ومات على كفره . وقال الزجاج : يجوز أن يكون محارباً آمن ثم كفر ، ثم آمن ثم كفر ، ويجوز أن يكون منافقاً أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، ثم آمن ثم كفر ، ثم ازداد كفراً بإقامته على النفاق . فإن قيل : إن الله تعالى لا يغفر كفراً مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله { إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ } ؟ قيل له : لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه ، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول ، فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول ، فذلك قوله عز وجل : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } يعني إذا ماتوا على كفرهم { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } أي يوفقهم طريقاً .
ثم قال تعالى :
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{ بَشّرِ المنافقين } وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] فقال المؤمنون هذا لك فما لنا؟ فنزل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] فقال المنافقون : فما لنا؟ فنزل قوله تعالى { بَشّرِ المنافقين } { بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الآخرة . ثم نعت المنافقين فقال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين } يعني اليهود { أَوْلِيَاء } في العون والنصرة { مِن دُونِ المؤمنين } ثم عيّرهم بذلك فقال { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، العزة في اللغة المنفعة والغلبة كما يقال : من عزَّ بزَّ ، أي من غلب سلب . ويقال : عز الشيء إذا اشتد وجوده ، ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار ، والنصرة من الله تعالى ، فقال : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } يعني الظفر والنصر كله من الله تعالى ، وهذا كما قال في آية أخرى { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] .
ثم قال : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن ، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم ، وهو قوله { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } إلى قوله { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] فامتنع المسلمون عن القعود معهم ، فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين ، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن ، فنزلت هذه الآية { فَقَدْ * نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا } أي يجحد بها { وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي حتى يأخذوا في كلام أحسن . ثم قال تعالى : { إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } يعني : لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر ، وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها ، فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية . وروى جويبر عن الضحاك أنه قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة . قرأ عاصم { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ } بنصب النون والزاي ، وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على فعل ما لم يسم فاعله .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً } يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم ، فبدأ بالمنافقين لأنهم شر من الكفار ، وجعل مأواهم جميعاً النار . وقال في رواية الكلبي : قوله تعالى { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } نسخ بقوله عز وجل { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 69 ] وقال عامة المفسرين : إنها محكمة وليست بمنسوخة .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال تعالى :
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{ الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } يعني ينتظرون بكم الدوائر ، وهو تغيير الحال عليكم { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله } يعني النصرة والغلبة على العدو { قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } فأعطونا من الغنيمة { وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ } يعني الظفر والغلبة على المؤمنين { قَالُواْ } للكفار { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } يعني : ألم نخبركم بصورة المسلمين ونطلعكم على سرهم ، ونخبركم عن حالهم . ويقال : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } يعني : ألم نغلب عليكم بالمودة لكم . والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء ، كقوله تعالى { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فأنساهم ذِكْرَ الله أولئك حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون } [ المجادلة : 19 ] ثم قال : { وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين } يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم . قال الله تعالى : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة } أي بين المؤمنين والمنافقين والكافرين { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } أي الحجة ، ويقال : دولة دائمة أي لا تدوم دولتهم . وروي عن علي كرم الله وجهه ، أنه سئل عن قوله عز وجل إن الله تعالى يقول : { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } وهم يسلطون علينا ويغلبوننا ، فقال : لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة يوم القيامة .
ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم ، فقال تعالى : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله } أي يظنون أنهم يخادعون الله { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي يجازيهم جزاء خداعهم ، وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة ، ثم يسلبهم النور فيبكون في ظلمة . ثم قال تعالى : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله } يعني المنافقين { قَامُواْ كسالى } أي متثاقلين { بِرَبّ الناس } أي لا يرونها حقاً ، ويصلون مراءاة للناس وسمعة { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } قال ابن عباس : لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً وتقبل منهم ، ولكن لن يريدوا به وجه الله تعالى . ثم قال : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } أي مترددين . ويقال : منفضحين بين ذلك { لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق ، ولا مع اليهود في الظاهر { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي من يخذله الله عن الهدى { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي مخرجاً . ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } أي صدقوا . قال مقاتل : الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون { لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } ويقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } في الظاهر وأسروا النفاق . ويقال : يعني المؤمنين المخلصين ، كانت بينهم وبين اليهود صداقة ، وكانوا يأتونهم فنهاههم الله تعالى عن ذلك . فقال : { لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } . ثم قال تعالى : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } يعني حجة مبينة في الآخرة .
ثم بيّن مأوى المنافقين في الآخرة فقال تعالى :
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{ إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار } المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع ، ويقال : لليربوع جحران أحدهما نافقاء ، والآخر قاصعاء ، فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر ، ولهذا يسمى المنافق منافقاً لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم ، ويخرج عن الإسلام إلى الكفر . قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم الدرك بجزم الراء ، وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان : الدرك والدرك ، وجماعتهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض ، فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية .
ثم قال تعالى : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أي مانعاً يمنعهم من العذاب . ثم قال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } من النفاق { وَأَصْلَحُواْ } أعمالهم { واعتصموا بالله } أي تمسكوا بدين الله وبتوحيده { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } أي بتوحيدهم لله بالإخلاص ، فإن فعلوا ذلك { فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين } أي المصدقين على دينهم لهم ، ما للمسلمين وعليهم ما عليهم . ثم قال : { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين } أي يعطي الله المؤمنين { أَجْراً عَظِيماً } يعني ثواباً عظيماً في الآخرة . وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم شر خلق الله ، لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار . ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام . ثم قال بعد هذا كله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين } ولم يقل هم المؤمنون . ثم قال : { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين } ولم يقل : سوف يؤتيهم الله بغضاً لهم وإعراضاً عنهم ، والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين ، يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله ، فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية . قوله تعالى : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } أي ما يصنع الله بعذابكم { إِن شَكَرْتُمْ } يعني إن آمنتم بالله تعالى ووحدتموه ، ويقال : معناه ما حاجة الله إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له { وَءامَنتُمْ } به وصدقتم رسله . ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً } أي شاكراً للقليل من أعمالكم ، عليماً بأعمالكم وثوابكم . ويقال : شاكراً يقبل اليسير ويعطي الجزيل ، عليماً بما في صدوركم . ويقال : بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكراً ولا مؤمناً .
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول } أي لا يحب أن يذكر بالقول القبيح لأحد من الناس { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } فيقتص من القول بمثل ما ظلم ، فلا جناح عليه . نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، شتمه رجل فسكت أبو بكر مراراً ، ثم ردّ عليه ، ويقال : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } فيدعو الله تعالى على ظالمه . وقال الفراء : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } يعني ولا من ظلم . وقال السدي : يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح . وقال الضحاك : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء } أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل ، فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلاً أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم . وقال مجاهد : هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم ، يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه ، فقد رخص له أن يذكر كلاماً عنهم ويقول فيهم . ويقال : يعني يسبه مثل ما سبه ما لم يكن كلاماً فيه حد أو كلمة لا تصلح ، ولو لم يقل كان أفضل . وقرأ بعضهم : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } متصل بما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم ، يعني من إشراك بالله ، وهو شاذ من القراءة ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً } أي سميعاً بدعاء المظلوم ، عليماً بعقوبة الظالم .
ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار ، فقال تعالى : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً } يعني إن تظهروا حسنة { أَوْ تُخْفُوهْ } يعني الحسنة { أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء } يعني يتجاوز عن ظالمه ولا يجهر بالسوء عنه ، فهو أفضل لأن الله تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم ، وذلك قوله { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } يعني أن الله أقدر على العقوبة لكم ، فيعفو عنكم . قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ } قال ابن عباس : نزلت الآية في أهل الكتاب ، يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بغيرهما ، وهو قوله : { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } يعني يريدون أن يتخذوا ديناً لم يأمر به الله ورسوله { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ } بموسى وعزير والتوراة { وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعيسى والإنجيل والقرآن { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } يعني بين اليهودية والإسلام . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } حين كفروا ببعض الرسل { وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } يهانون فيه . وقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } يعني أقروا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بجميع الرسل { وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } في الإيمان والتصديق ، يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام ، ويصدقون بجميع الكتب { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { سَوْف نؤتّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي سنعطيهم ثوابهم في الجنة { وَكَانَ الله غَفُوراً } لذنوبهم { رَّحِيماً } بهم لما كان منهم في الشرك . قرأ عاصم في رواية حفص : { يُؤْتِيهِمْ } بالياء؛ وقرأ الباقون { نؤتيهم } بالنون .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء } يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام . ويقال : إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا : لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين { فَقَالُواْ } لموسى عليه السلام { أَرِنَا الله جَهْرَةً } يعني عياناً ، وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } أي أحرقتهم النار { بِظُلْمِهِمْ } أي بقولهم وسؤالهم { ثُمَّ اتخذوا العجل } أي ومع ذلك ، قد عبدوا العجل وهم قوم موسى في حال غيبته { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } أي جاءهم موسى بالآيات والعلامات { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } كله ولم نستأصلهم { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن } أي حجة بينة ، وهي اليد والعصا { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ } يقول : قلعنا فوقهم { الطور بميثاقهم } يعني بإقرارهم بما في التوراة حين أبوا أن يتقبلوا الشرائع { وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً } يعني باب أريحة منحنية أصلابهم { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السبت } يقول : لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت . قرأ نافع في رواية ورش { لاَ تَعْدُواْ } بالتشديد ، لأن أصله لا تعتدوا ، فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه . وقرأ الباقون { لاَ تَعْدُواْ } بالتخفيف من عدا يعدو عدواناً .
ثم قال تعالى : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } يعني إقراراً وثيقاً شديداً في التوراة ، يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق . ثم قال عز وجل : { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } ولم يذكر في هذه الآية جوابهم ، والجواب فيه مضمر فكأنه قال : وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ، فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله { فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقهم وَكُفْرِهِم بأايات الله وَقَتْلِهِمُ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ثم قال : { وَكُفْرِهِم بئايات الله } يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم . ثم قال تعالى : { وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ } يعني : وبقتلهم الأنبياء بغير جرم { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } يعني : ذا غلاف ولا نفقه حديثك ، وقرأ بعضهم : غلف بضم اللام وجماعة الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك . قال الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا } يعني ختم الله على قلوبهم { بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لا يؤمنون إلا قليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض . وقال مقاتل : يعني ما أقل ما يؤمنون ، يقول : بأنهم لا يؤمنون البتة .
ثم قال تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } وذلك أن مريم كانت متعبدة لله تعالى ناسكة ، اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب ، فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان ، وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال : كان ابن عمها ، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم وبيّن بهتانهم فقال : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } يعني لعنهم الله وخذلهم بذلك { وَقَوْلِهِمْ } أي وبقولهم { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } هذا قول الله لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم . ثم قال الله تعالى { رَسُولِ الله } يعني الذي هو رسول الله؛ وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت ، فأمر ملك اليهود رجلاً يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس ، فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده ، فألقى الله شبه عيسى عليه ، فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه . ثم قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فيما بينهم ، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم فقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ } يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه . ثم قال { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ } أي من قتله { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل { إِلاَّ اتباع الظن } أي قالوا قولاً بالظن { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي لم يستيقنوا بقتله ، ويقال : يقيناً ما قتلوه { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } وقال مقاتل : بل رفعه الله إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر . وقال الضحاك : رفعه في يوم عاشوراء بين صلاتي المغرب والعشاء . ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله عَزِيزاً } أي منيعاً حين منع عيسى من القتل { حَكِيماً } حين حكم رفعه إلى السماء .
وقوله عز وجل :
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب } يقول : وما من أهل الكتاب { إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } يعني بعيسى عليه السلام { قَبْلَ مَوْتِهِ } وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة ، وقالت له : يا عدو الله أتاك عزير فكذبته ، ويقال للنصراني : يا عدو الله أتاك عبد الله ورسوله ، وهو عيسى ، فزعمت أنه ابن الله ، فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد الله ورسوله ، ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ، ويكون إيمانهم عليهم شهيداً يوم القيامة . وروي عن مجاهد أنه قال : ما من أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته ، فقيل له : وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام؟ فقال : نعم . وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى ، فآمر بضرب عنقه ، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان ، فقال له شهر بن حوشب : إنه حين يعاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه . فقال له الحجاج : من أين أخذت هذا؟ قال : أخذته من محمد بن الحنفية . فقال له الحجاج : لقد أخذت من عين صافية . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن .
قال الفقيه : حدّثنا عمر بن محمد ، قال : حدّثنا أبو بكر الواسطي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدّثنا يزيد بن زريع ، عن رجل ، عن الحسن في قوله : { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى ، والله إنه لحي عند الله الآن ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون . وروي عن ابن عباس أنه قال : يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة نبياً إماماً مهدياً ، ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة . وقال الضحاك : يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بعد خروج الدجال ، فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس ، ثم يقتل الدجال ، ويكسر الصليب ، ويهدم البيع والكنائس ، ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام .
ثم قال تعالى : { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيداً ، بأنه قد بلغهم الرسالة . قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالاً لهم ، وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } أي بصرفهم كثيراً من الناس عن دين الله على وجه التقديم { وَأَخْذِهِمُ الربا } أي حرم عليهم الحلال بكفرهم ، وبصرف الناس عن دين الله ، وبأخذهم الربا { وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي يعني عن أخذ الربا في التوراة { وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل } وهو أخذ الرشوة في الحكم { وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي هيأنا لهم عذاباً وجيعاً دائماً .
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
وقوله : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها ، ولم تكن حرمت بظلمنا ، فنزل { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق ، ويقال : إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذي أنزل إليك من القرآن هو الحق ، وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم . ثم قال : { والمؤمنون } يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } ثم قال : { والمؤمنون بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } يعني يصدقون بالقرآن { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ويصدقون بما أنزل من قبلك من كتب الله .
ثم وصفهم فقال : { والمقيمين الصلاة } قال بعض الجهال : هذا غلط الكاتب حيث كتب مصحف الإمام ، كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين . واحتج بما روي عن عائشة أنها قالت : ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب : قوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } وقوله { والصابئون والنصارى } وقوله { إِنْ هاذان لساحران } وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر ، لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة رضي الله عنهما ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام ، فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب الله تصحيفاً يصلحه غيرهم ، وهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى في قوله { والمقيمين الصلاة } قال بعضهم : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة ، يعني بالنبيين المقيمين الصلاة . وقال بعضهم : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك .
ثم قال تعالى : { والمؤتون الزكواة } يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة { والمؤمنون بالله واليوم الاخر } يعني المقرون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت . ثم قال : { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } أي يعطيهم الله في الآخرة ثواباً عظيماً وهو الجنة . قرأ حمزة { سيؤتيهم } بالياء وقرأ الباقون بالنون .
قوله تعالى :
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{ إنا أوحينا إليك } يعني أرسلنا إليك جبريل { إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ } يعني كما أرسلنا إلى نوح ، ويقال : أوحينا إليك بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد ، كما أوحينا إلى نوح بأن يثبت على التوحيد ، ويدعو الناس إلى التوحيد { والنبيين مِن بَعْدِهِ } أي أوحينا إليهم بذلك { وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل *** وإسحاق } وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام { وَيَعْقُوبَ } وهو ابن إسحاق { وَالاسْبَاطَ } وهم أولاد يعقوب عليه السلام ، كانوا اثني عشر سبطاً ، أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد ، ويدعوا الناس إلى ذلك ، { و } أوحينا إلى { عيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } قرأ حمزة : { زَبُوراً } بضم الزاي . وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن ، ومعناهما واحد ، وهو عبارة عن الكتاب . ثم قال : { وَرُسُلاً قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } يعني قد سميناهم لك من قبل ، يعني بمكة { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } يعني لم نسمهم لك ، وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف . وقال مقاتل : كان الأنبياء ألف ألف ، وأربعمائة ألف ، وأربعة وعشرين ألفاً . وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرَبَعَةُ آلافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ » قال الفقيه أبو الليث : حدّثنا الفقيه أبو جعفر ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد القاضي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن حشيش البصري ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، عن أبي ذر الغفاري قال : قلت يا نبي الله كم كانت الأنبياء؟ وكم كان المرسلون فقال صلى الله عليه وسلم : « كَانَتِ الأنْبِياءُ مِائَةَ ألْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ ، وَكَانَ المُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ » ثم قال : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } قال بعضهم : معناه أنه قد أوحى إليه ، وإنما سماه كلاماً على وجه المجاز كما قال في آية أخرى { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] أي يستدلون بذلك ، والعرب تقول : قال الحائط كذا . وقال عامة المفسرين وأهل العلم : إن هذا كلام حقيقة لا كلام مجاز ، لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال : قال الحائط قولاً ، فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز ، وقال في موضع آخر : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز . وقال في موضع آخر { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين ، فأراهم في المنام أو من وراء حجاب بكلام مثل ما كلم الله موسى ، أو يرسل رسولاً وهو رسالة جبريل إلى المسلمين . ثم قال تعالى :
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي أرسلنا رسلاً مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار { لِئَلاَّ يَكُونَ } يقول : لكيلا يكون { لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } يعني : بعد إرسال الرسل ، كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولاً . ولو أن الله تعالى لم يرسل رسولاً كان ذلك عدلاً منه إذ أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه ، ولكن أرسل تفضلاً منه ، ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم . ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } . { عَزِيزاً } بالنقمة لمن يجحده { حَكِيماً } حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام . قوله تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } قال ابن عباس : وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك ، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم ، فأتِنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث فنزل : { لكن الله يَشْهَدُ } يعني إن لم يشهد لك أحد منهم ، فالله تعالى أعظم شهادة من خلقه ، هو يشهد لك بأنك نبيّ ويظهر نبوتك . قال القتبي : هذا من الاختصار لأنه لما نزل { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] قال المشركون : لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك؟ فنزلت هذه الآية حكاية قولهم . فقال تعالى { لكن الله يَشْهَدُ } { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } لأن كلمة لكن إنما تجيء بعد نفي شيء ، فوجب ذلك الشيء بها .
ثم قال تعالى : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي بأمره . ويقال : أنزل القرآن الذي فيه علمه . ثم قال تعالى : { والملئكة يَشْهَدُونَ } أيضاً على شهادتك بالذي شهدت أنه الحق { وكفى بالله شَهِيداً } فلا أحد أفضل من الله تعالى ، شهادة بأنه أنزل عليك القرآن . قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } يعني صرفوا الناس عن دين الله { قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } عن الحق . ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ } أي جحدوا وأشركوا { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } أي ما داموا على كفرهم { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } يعني : لا يوفقهم لطريق الإسلام { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } يعني : يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم . ويقال : إلا العمل الذي يجبرهم إلى جهنم . وقال الضحاك : لا يهديهم طريقاً يوم القيامة ، أي لا يرفع لهم إلا طريق جهنم . وذلك أن أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة ، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار . ثم قال تعالى : { خالدين فِيهَا أَبَداً } أي دائمين فيها { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } أي خلودهم وعذابهم في النار هيّن على الله تعالى .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ أَيُّهَا الناس } قال ابن عباس : يعني أهل مكة { قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ } أي بشهادة أن لا إله إلا الله ، ويقال : ببيان الحق . ويقال : للحق ، يعني للعرض والحجة وقوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمُ } على وجه المجاز ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فيهم ، ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] أي ظهر فيكم ثم قال : { يأَيُّهَا الناس قَدْ } أي صدقوا بوحدانية الله تعالى ، والقرآن الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم خيراً لكم من عبادة الأوثان ، لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئاً . ثم قال تعالى : { وَإِن تَكْفُرُواْ } أي إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله غنيٌّ عنكم { فَإِنَّ للَّهَ مَا فِي السموات والارض } كلهم عبيده وإماؤه { وَكَانَ الله عَلِيماً } بخلقه { حَكِيماً } في أمره .
ثم قال تعالى : { حَكِيماً يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } قال الضحاك : أي لا تكذبوا في دينكم . وقال بعض أهل اللغة : الغلو مجاوزة القدر في الظلم . ويقال : الغلو أن تجاوز ما حدَّ لك . وقال القتبي : يعني لا تفرطوا في دينكم ، فإن دين الله بين المقصر والغالي . وغلا في القول إذا تجاوز المقدار . وقال ابن عباس : وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا : عيسى هو الله . وقالت النسطورية : هو ابن الله . وقالت المرقوسية ويقال لهم الملكانية : هو ثالث ثلاثة ، فنزل { حَكِيماً يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } . قال مقاتل : الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق . ويقال : لا تتعمقوا في دينكم . ثم قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } يعني : لا تصنعوا بالله بما لا يليق بصفاته ، فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له .
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ } وهو قوله { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ثم قال : { وَرُوحٌ مّنْهُ } قال ابن عباس في رواية الكلبي : يعني أمر منه فأتاها جبريل ، فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها ، ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى { مَّا كَانَ الله } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى وبما جاءكم به الرسل من الله تعالى { وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } يعني : لا تقولوا إن الله ثالث ثلاثة { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } يقول : توبوا إلى الله تعالى من مقالتكم ، فالتوبة خيرٌ لكن من الإصرار على الكفر { إِنَّمَا الله إله واحد } ثم نزّه نفسه عما قال الكفار فقال : { سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } . ثم قال تعالى : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } من الخلق { وكفى بالله وَكِيلاً } يعني كفيلاً ويقال شاهداً ولا شاهد أفضل منه .
قوله تعالى :
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله } يعني : لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر . ويقال : لن يحتشم أن يكون عبداً لله . ويقال : إن وفد نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر عيسى عليه السلام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : كان عبد الله ورسوله ، فقالوا : لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول ، فنزل تكذيباً لقولهم { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } يعني كان عيسى مقرّاً بالعبودية . ثم قال تعالى : { وَلاَ الملئكة المقربون } يعني حملة العرش لن يأنفوا عن الإقرار بالعبودية . وقال مقاتل : الملائكة المقربون أقرب إليه ، فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام وهو عبد من عباده؟
ثم قال تعالى : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ } أي يتعظم { عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } والاستكبار هو الاستنكاف ، يقال : استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } يأمر بهم إلى النار . ثم قال عز وجل : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي يوفر لهم ثواب أعمالهم { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي من رزقه في الجنة { وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا } عن عبادة الله تعالى { فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } أي وجيعاً دائماً { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله } يعني من عذاب الله { وَلِيّاً } يعينهم { وَلاَ نَصِيراً } مانعاً يمنعهم .
ثم قال عز وجل :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } أي بياناً من ربكم وحجة من ربكم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أي بياناً من العمى وبيان الحلال من الحرام ، وهو القرآن . قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله } أي صدقوا بوحدانية الله تعالى { واعتصموا بِهِ } أي تمسكوا بدينه { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ } يعني الجنة { وَفَضَّلَ } أي الثواب { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ } أي يرشدهم إلى دينه ، ويوفقهم لذلك . وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول : يهديهم في الدنيا { صراطا مُّسْتَقِيماً } أي ديناً لا عوج فيه ، ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة .
قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ } يعني يسألونك في حكم الميراث { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } روي عن قتادة أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد ، وكذلك قال ابن عباس : وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : إني قد رأيت رأياً فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان : الكلالة ما عدا الوالد والولد . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ثلاث لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا كان أحب إليّ من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والخلافة ، وأبواب الربا . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : « أَلَمْ تَرَ الآيةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي النِّسَاءِ { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } » يعني هذا تفسير الكلالة . وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي أختاً فما لي من ميراثها؟ فنزلت هذه الآية ، فبيّن ميراث جابر أولاً ثم ميراث أخته ، فصارت الآية عامة لجميع الناس . قال : { إِن امرؤ هَلَكَ } يعني إن مات رجل { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } من المال { وَهُوَ يَرِثُهَا } يعني إذا ماتت الأخت والأخ حيّ ورثها { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد ، ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه؟ ولكن بيّن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن للابنة النصف ، وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخاً ، فللابنة النصف وما بقي فللأخ . وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف قال ابن عباس : لا ترث الأخت مع الابنة شيئاً ، وخالفه جميع الصحابة وقالوا كلهم : الأخوات مع البنات عصبة .
ثم قال تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } يعني : إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين ، وإن كنَّ أكثر من ذلك فلهنَّ الثلثان أيضاً بالإجماع . ثم قال : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء } يعني إخوة وأخوات { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الانثيين } يعني لكل أخٍ سهمان ولكل أخت سهم ، هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة ، فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث ، ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكرنا في أول السورة ، وهذا بالإجماع . ثم قال عز وجل : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أي يبين الله لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها . وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ لقمان : 10 ] يعني أن لا تميد بكم ، وقد يذكر لا ويراد حذفه كقوله { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] يعني أن تسجد وكقوله { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } [ القيامة : 1 ] أقسم ثم قال تعالى : { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } من قسمة المواريث وغيره ، أي اتبعوا ما أنزل الله تعالى وبيّن لكم في كتابه ، والله أعلم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ } فهذا نداء المدح ، والنداء في القرآن على سبع مراتب : نداء المدح ، مثل قوله { مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى } { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } . ونداء الذم ، مثل قوله تعالى : { عَمُونَ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } { قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين } [ الجمعة : 6 ] . ونداء التنبيه ، مثل قوله { القرءان خَلَقَ الإنسان } . ونداء الإضافة ، مثل قوله { فِى عِبَادِى } ونداء النسبة ، مثل قوله : { تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ } { مَعِىَ بَنِى إسراءيل } . ونداء الاسم : مثل قوله { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } { وَقَتَلَ دَاوُودُ } . ونداء التعبير ، مثل قوله : { مّنْ أَهْلِ الكتاب } فهاهنا نداء المدح : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } وهو من جوامع الكلم ، لأنه قال { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني صدقوا ، ولم يقل بأي شيء صدقوا ، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، وصدقوا بجميع الرسل ، وبالبعث ، والحساب ، والجنة ، والنار . وقال عبد الله بن مسعود : كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن ، فإذا سمعت الله يقول : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه ، ويقال : جميع ما في القرآن { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } نزل بالمدينة ، وكل ما يقال في القرآن { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } نزل أكثره بمكة ، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً . ويقال : كل ما في القرآن { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } ذكر في مقابله في الإنجيل يا أيها المساكين .
ثم قال : { أَوْفُواْ بالعقود } يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن ، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها . وقال مقاتل : { أَوْفُواْ بالعقود } يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين . ويقال : جميع العقود التي بينه وبين الناس ، والتي بينه وبين الله تعالى . وهذا من جوامع الكلم ، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها : العقود التي عقد الله تعالى على عباده من الأوامر والنواهي . والنوع الثاني : العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان ، وغير ذلك . والنوع الثالث : العقود التي بينه وبين الناس ، مثل البيوع والإجارات وغير ذلك . فوجب الوفاء بهذه العقود كلها . ثم قال : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } يعني رخصت لكم { بَهِيمَةُ الانعام } والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش ، دليله على قوله تعالى { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 142 ] ثم قال : { ثمانية أزواج } وأما البهيمة فهي كل حيّ لا يتميز ، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز .
ثم قال : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يعني : رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك ، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة ، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يعني إلا ما بين في هذه السورة . ثم قال : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } يعني : أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . ثم قال : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم ، وليس لأحد أن يدخل في حكمه . وهذا كقوله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والارض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } [ الكهف : 26 ] وقال { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ } « [ سورة الأنبياء : 23 ] .
قوله تعالى : { يُرِيدُ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات ، واحدها شعيرة ، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج ، وهو السعي بين الصفا والمروة ، والخروج إلى عرفات ، ورمي الجمار ، والطواف ، واستلام الحجر وغير ذلك . وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك . ثم قال : { وَلاَ الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام { وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد } يقول : لا تتعرضوا له ولا تستحلوا . وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة ، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك ، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة ، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك ، فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته ، فيأمن بذلك ليعرف أنه كان حاجاً ، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك ، يعني : من فعل ذلك لا يتعرض له .
ثم قال تعالى { وَلاَ الشهر } يقول : ولا تستحلوا قاصدين { البيت الحرام } نزلت في " شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني " دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه ، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة فساقها ، وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة ، فهمَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله ، فنزل { وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ } { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ } يعني الربح في المال { وَرِضْوَاناً } يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا .
ثم نسخ بقوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ولم ينسخ قوله { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } ولكنه محكم ، فوجب إتمام أمور المناسك ، ولهذا قال أصحابنا : إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده ، فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك ، ثم عليه القضاء في السنة الثانية . ونسخ قوله { وَلاَ الشهر الحرام } فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 36 ] وقوله تعالى { وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد } فهو محكم أيضاً ، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرماً ، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية . فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض ، بعضها منسوخة وبعضها محكمة ، فإن قيل : قد قال : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا } فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم ، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً؟ قيل له : لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار ، وإنما بيّن النهي عن التعرض للذين يقصدون البيت ، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بيّن في آية أخرى أنه لم يقبل منه ، وإن لم يذكر ها هنا وهو قوله { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 5 ] وقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم ، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وكقوله { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ سورة البقرة : 187 ] الآية . وقال الضحاك { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } يعني إذا خرجتم من إحرامكم وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا . ثم قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } يقول : ولا يحملنكم عداوة كفار مكة { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } يعني عام الحديبية { أَن تَعْتَدُواْ } على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم .
وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به ، وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } يعني بغض قوم وعداوتهم { أَن تَعْتَدُواْ } يعني تجاوزوا الحد في المكافأة . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { شَنَانُ } بجزم النون . وقرأ الباقون { شَنَانُ } بالنصب . وقال القتبي : لا يقال في المصادر فعلان ، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران ، وفي المصادر يقال : فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { أَن صَدُّوكُمْ } بكسر الألف على معنى الابتداء . وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء .
ثم قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } يعني : تعانوا على أمر الله واعملوا به . وروى ابن عباس : البرُّ ما أمر الله تعالى به ، يعني تحاثُّوا على أمر الله واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه ، وامتنعوا عنه . وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ » وقد قيل : الدالُّ على الشر كصانعه . ثم قال : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } قال القتبي : العدوان على وجهين : عدوان في السبيل كقوله { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } [ البقرة : 193 ] وكقوله { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] والثاني عدوان في الظلم كقوله { ياأيها الذين ءامنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ المجادلة : 9 ] وكقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } [ سورة المائدة : 2 ] يعني به حجاج أهل اليمامة ، وصارت الآية عامة في جميع الناس . ثم قال : { واتقوا الله } يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب .
قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } يعني حرم عليكم أكل الميتة ، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام ، إلا الجراد والسمك ، فقد أباحهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : « أُحِلَّتْ لَنَا السَّمَكُ والجَرَادُ وَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ » ثم قال { والدم } يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه ، وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى
{ قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 145 ] وأما الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو مباح ، مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم . ثم قال : { وَلَحْمَ الخنزير } يعني أكل لحم الخنزير ، فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك ، وهذا حرام بإجماع المسلمين . ثم قال : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله ، وأصل الإهلال رفع الصوت ، ومنه استهلال الصبي ، وإهلال الحج ، وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم ، فحرم الله تعالى ذلك . ثم قال : { والمنخنقة } وهي الشاة التي تختنق فتموت ، وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها . ثم قال : { والموقوذة } يعني : حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت ، وأصله في اللغة هي الإشراف على الهلاك ، فإذا ضرب بالخشب حتى أشرف على الموت ثم يتركه يقال : وقذه ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك . ثم قال : { والمتردية } وهي الشاة التي تخر من الجبل ، أو تتردى في بئر فتموت { والنطيحة } وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها . ثم قال : { وَمَا أَكَلَ السبع } وهي فريسة السبع ، فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله .
قال القتبي : أصل الذكاة من التوقد ، يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئاً من الحطب ، وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها . وقال الزجاج : أصل الذكاة تمام الشيء . وقوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يعني ما أدركتم ذبحه على التمام . ثم قال : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } قال القتبي : النصب هو حجر أو صنم منصوب ، كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب ، ويقال : كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلهتهم . ثم قال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام } والأزلام القداح ، واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزوراً ، وجعلوا لحمه على تسعة أجزاء ، وأعطى كل واحد منهم سهماً من سهامه ، فجمعوا السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار ، ثم يخرج هذا الرجل واحداً واحداً من السهام ، فكل من خرج سهمه يأخذ جزءاً من ذلك اللحم ، فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم ، ولا يكون للذي بقي اسمه آخراً شيء من اللحم ، وكان ثمن الجزور كله عليه . وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح ، وكان لكل واحد منها سهم ، ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم ، وهو السفيح والمنيح والوغد ، وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو : القذ ، والتوأم ، والرقيب ، والمعلى ، والحلس ، والناقس ، والمسبل .
ويقال : كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح ، في واحد منها مكتوب أمرني ربي ، وفي الآخر نهاني ربي ، فيخرج أحدهما ، فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج ولم يجز له التخلف ، وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج ، فنهى الله تعالى عن ذلك كله بقوله : { ذلكم فِسْقٌ } يعني هذه الأفعال معصية وضلالة واستحلالها كفر .
قم قال : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يعني كفار العرب أن تعودوا كفاراً حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وليس معهم مشرك . وقال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة سبع ، ويقال : سنة ثمان . ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا . قال الله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } يقول : فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم { واخشون } في ترك أمري . ثم قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني أتممت لكم شرائع دينكم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها ، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام ، فنزلت هذه الآية { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني دينكم ، حلالكم وحرامكم . وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس ، أنه قرأ { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال له يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة ، ويوم عرفة .
قال الفقيه : حدّثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدّثنا ابن صاعد ، قال : حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب : إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . فقال عمر : إني لأعلم حيث نزلت ، وفي أي يوم نزلت ، أنزلت بيوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة . فإن قيل : في ظاهر هذه الآية دليل أن الدّين يزيد حيث قال { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . قيل له : ليس فيها دليل ، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم ، وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك . ألا ترى أنه قال في سياق الآية { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك ، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر ، كما جاء في الخبر أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه ، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما ، وقرر ولم يرد به الابتداء .
وقال مجاهد : معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته . وقال قتادة : معناه أخلص لكم دينكم .
ثم قال : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } يعني منتي ، فلم يحج معكم مشرك { وَرَضِيتُ } يعني اخترت { لَكُمُ الأسلام دِيناً } وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، ثم مضى لسبيله صلوات الله عليه . وقال الزجاج : { اليوم } صار نصباً للظرف ، ومعناه اليوم أكملت لكم دينكم . وقال معاذ بن جبل : النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة ، فصار كأنه قال : رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماماً حتى يضع قدميه فيها . ثم رجع إلى أول الآية فقال : { فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ } وذلك أنه لما بيّن المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله ، فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال : { فَمَنِ اضطر } يعني : أجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه { فِى مَخْمَصَةٍ } يعني مجاعة ، وأصل الخمص ضمور البطن ودقته ، فإذا جاع فقد خمص بطنه . ثم قال : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع ، وأصل الجنف الميل . وقال الزجاج : يعني غير متجاوز للحد ، وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله . وقال أهل المدينة : المضطر يأكل حتى يشبع . وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله : يأكل مقدار ما يأمن به الموت ، وكذلك قال الشافعي . ثم قال : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : غفور فيما أكل ، رحيم حين رَخَّص له في أكله عند الاضطرار . قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو { فَمَنِ اضطر } بكسر النون لاجتماع الساكنين ، وقرأ الباقون بالضم .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } نزلت الآية في شأن «عديّ بن حاتم الطائي» قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَكُلْ مَا أمْسَكَ عَلَيْكَ " فقلت : وإن قتله؟ قال : " إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئاً فَكُلْ ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ . وَإنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئاً فَلاَ تَأْكُلْ ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ " قال : قلت فإذا خالط كلابنا كلابٌ أخرى حين ترسلها؟ قال : " ا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَكَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ عَلَيْكَ " ونزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } يعني ماذا رخص لهم من الصيد ويقال لما أنزل قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } قالوا : إن الله تعالى حرم هذه الأشياء ، فأي شيء لنا حلال يا رسول الله؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } يعني رخص لكم الحلالات من الذبائح { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } يعني وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح من الطير والكلاب الكواسب . ويقال : الجوارح الجارحات . ثم قال : { مُكَلّبِينَ } بكسر اللام ، وقرأ بعضهم بالنصب ، فمن قرأ بالكسر يعني به أصحاب الكلاب المعلِّمين للكلاب ، ومن قرأ بالنصب أراد به الكلاب يعني الكلاب المعلَّمة . { مُكَلّبِينَ } يعني معلمين . ثم قال : { تُعَلّمُونَهُنَّ } يعني تؤدبونهن في طلب الصيد { مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } يقول : كما أدبكم الله تعالى . وروي عن مجاهد أنه سئل عن الصقر والبازي والفهد ، قال : هذه كلها جوارح ولا بأس بصيده إذا كان معلماً . ثم قال : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } يعني : حبسن عليكم { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } إذا أرسلتم الكلاب على الصيد . وفي هذه الآية دليل أن الكلب إذا كان أكل لا يؤكل لأنه أمسك لنفسه ، وفيها دليل أنه لا يجوز إلا بالتسمية لأنه قد أباح على شرط التسمية ، وعلى شرط أن يمسك لصاحبه ، وفيها دليل أيضاً أن الكلب إذا كان غير معلَّم لا يجوز أكلُ صيده ، وفيها دليل أيضاً أن العالِم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ، لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ، وأن الإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس وهذا كما روي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال : لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يُحْسِن .
ثم خَوّفهم فقال : { واتقوا الله } أي اخشوا الله ولا تأكلوا الميتة ، ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } يعني سريع المجازاة ، وقوله تعالى : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } يعني المذبوحات من الحلال ، يعني اليوم أظهر وبيّن حله .
ثم قال : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني ذبائح أهل الكتاب { لَكُمُ الطيبات } يعني حلال لكم أكله { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } يعني ذبائحكم وطعامكم رخص لهم أكله . وقال الزجاج : تأويله أحل لكم أن تطعموهم لأن الحلال والفرائض إنما تعتمد على أهل الشريعة . ثم قال : { والمحصنات مِنَ المؤمنات } يعني أحل لكم تزوج العفائف من المؤمنات { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني العفائف من أهل الكتاب { مِن قَبْلِكُمْ } يعني : أُعْطوا الكتاب من قبل كتابكم ، وهو التوراة والإنجيل ، واختلفوا في نكاح الصابئة ، وقد ذكرناه في سورة البقرة . ثم قال : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } يعني أعطيتموهن مهورهن { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } يقول : كونوا متعففين عن الزنى { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } يقول : لا تتخذوا خِدْناً فتزنوا بها سراً ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيِّرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سراً ، فحرم الله زنى السر والعلانية ، فلما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب : لولا أن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا ، فنزل { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } قيل : نزل قوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } ثم رخص من حالة الاضطرار ، فقال بعضهم : لا نأخذ الرخصة من الاضطرار فنزل { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } ويقال هذا ابتداء خطاب ، وهو لجميع المسلمين فقال : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } قال ابن عباس : يعني من يكفر بالتوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله فقد حبط عمله . وقال مجاهد : معناه ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، يعني بطل ثواب عمله . { وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } يعني من المغبونين في العقوبة ، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله : إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة ، وجب عليه إعادة تلك الصلاة ، ولو كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج ، لأنه قد بطل ما فعل قبل ارتداده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } يعني إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة وأنتم محدثون ، ويقال : إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } يعني : مع المرافق { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } يعني مع الكعبين . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم ، وفي رواية أبي بكر { وَأَرْجُلَكُمْ } بكسر اللام وقرأ الباقون بالنصب ، فمن قرأ بالنصب فإنه جعله نصباً لوقوع الفعل عليه وهو الغسل ، يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين . ومن قرأ بالكسر جعله كسراً لدخول حرف الخفض وهو الباء ، فكأنه قال : وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، يعني إذا كان عليه خفان ، وقد ثبت ذلك بالسنة . ويقال : صار كسراً بالمجاورة كما قال في آية أخرى { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] قرأ بعضهم بالكسر بالمجاورة ، فهذه الأربعة التي ذكرت في الآية من فرائض الوضوء ، وما سوى ذلك آداب وسنن . فإن قيل : الآية إذا قرئت بقراءتين فالله تعالى قال بهما جميعاً أو بإحداهما؟ قيل له : هذا على وجهين : إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر ، فالله تعالى قال بهما جميعاً ، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين ، وإن كانت القراءتان معناهما واحد ، فالله تعالى قال لإحداهما ، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعاً .
ثم قال تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } قد يوصف الجمع بصفة الواحد كقوله { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } وكقوله : { وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ } قوله : { فاطهروا } معناه فتطهروا إلا أن التاء أدغمت في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا ، أدغمت فيها سكن أول الكلمة وزيدت ألف الوصل للابتداء . ثم قال : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } يعني من الصعيد . ثم قال : { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } يقول : لا يكلفكم في دينكم من ضيق { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } يعني : يطهركم من الأحداث والجنابة { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما أنعم من الرخص { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا الله لما رخص لكم ولم يضيق عليكم .
قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يقول : احفظوا منن الله عليكم بإقراركم بوحدانية الله تعالى { وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ } يعني يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام وقال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } [ الأعراف : 172 ] هكذا قال في رواية الكلبي ومقاتل والضحاك . وقال بعضهم : هو الميثاق الجبلة والإدراك ، فكل من أدرك فقد أخذ عليه الميثاق ، وشهدت له خلقته وجبلته فصار ذلك كالإقرار منه ، ثم قال { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يوم الميثاق ، قلتم سمعنا قولك يا ربنا وأطعنا أمرك .
ثم قال : { واتقوا الله } في نقض العهد والميثاق { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ، يعني : عالم بسرائركم . ثم قال : { الصدور يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بالقسط } يعني قوالين بالحق . ثم قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى * أَن لا ****تَعْدِلُواْ } وذلك أن الله تعالى لما فتح على المسلمين مكة ، أمر الله المسلمين أن لا يكافئوهم بما سلف ، وأن يعدلوا في القول والحكم و النصفة . وذلك قوله { اعدلوا } يعني قولوا الحق والعدل { هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } يعني فإنه أقرب للطاعة . ثم قال : { واتقوا الله } يقول : واخشوا الله بما أمركم به { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الطاعة وغيره .
ثم بيّن ثواب من عمل بطاعته فقال : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني الطاعات { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } يعني ثواب عظيم في الجنة . ويقال : إن أهل مكة قالوا بعدما أسلموا : ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك . فقالوا : وعد الله الذين آمنوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات بعد الإسلام لهم مغفرة لما فعلوا في حال الشرك وأجر عظيم في الآخرة . ثم قال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } يعني : جحدوا وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وماتوا على ذلك { أولئك أصحاب الجحيم } يعني مقيمين فيها أبداً . وقوله تعالى : { الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وصالح بني قريظة وبني النضير ، وهما قبيلتان بقرب المدينة ، وأخذ منهم الميثاق بأن لا يكون بينهم القتال ، وأن يتعاونوا فيما بينهم على الديات ، فدخل مستأمنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجا من عنده فقتلهما «عمرو بن أمية الضمري» ، ولم يعلم بأنهما مستأمنان ، فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حُرَّين مسلمين ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما ، فقالوا : مرحباً حتى نستأذن إخواننا من بني قريظة . وقال في رواية الكلبي : خرج إلى بني قريظة فقالوا : حتى نستأذن إخواننا من بني النضير ، وأدخلوهم داراً وأجلسوهم في صفّة ، وجعلوا يجمعون السلاح ، وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ينتظرون كعب بن الأشرف وكان غائباً ، فنزل جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة وخرج ، فلما أبطأ الرجوع قام أبو بكر فخرج ، ثم خرج عمر ، ثم خرج علي رضي الله عنهم فنزلت هذه الآية : { الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } يقول : أرادوا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } بالمنع .
قال الفقيه أبو الليث : حدّثنا أبو جعفر ، قال : حدّثنا علي بن أحمد ، قال : حدّثنا نصير بن يحيى ، قال : حدّثنا أبو سليمان ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن عبد الله ، عن الزهري ، عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير ليستعين بهم في دية الكافرَيْن اللذيْن قتلهما «عمرو بن أمية الضمري» ، فهمّ بنو النضير بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فسار إليهم فحاصرهم ، وأمر بقطع النخيل وحاصرهم حتى قالوا : أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة يعني السلاح؟ قال : «نعم» ففتحوا الحصون ، وأجلاهم إلى الشام . فهذا الخبر موافق رواية مقاتل أنه خرج إلى بني النضير . وقال الضحاك : كان سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة إلى البقيع إلى قبور الشهداء وحده ، فأتاه رجل من اليهود شديد محارب ، فقال : إن كنت نبياً كما تزعم فأعطني سيفك هذا ، فإن الأنبياء لا يبخلون ، فأعطاه سيفه فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به . فلم يجترىء للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه ، ثم ردّ عليه السيف فنزل : { الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } ثم قال : { واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } ففي الآية مضمر ، فكأنه قال : فاتقوا الله وتوكلوا على الله ، { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويثقوا بالنصر لهم .
قوله تعالى :
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل } يعني في التوراة من الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه وأن يعملوا بما في التوراة ، ثم قال : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } قال مقاتل : يعني شهداء على قومهم ، بعث الله تعالى من كل سِبْطٍ منهم رجلاً ليأخذ كل رجل منهم على سبطه الميثاق ، يكونوا شهداء على قومهم . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } قال : من كل سبط من بني إسرائيل رجلاً ، أرسلهم موسى عليه السلام إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبة منه خمسة أنفس أو أربعة ، فرجع النقباء كلهم ينهون سبطهم عن القتال إلا يوشع بن نون ، وكالب بن يافن ، ويقال كالوب بن يوقنا ، أمرا قومهما بالقتال . وقال القتبي : النقيب الكفيل على القوم ، والنقابة والنكابة شبه العرافة . ويقال : نقيباً يعني أميناً . وقال ابن عباس : نقيباً يعني ملكاً ، حين بعثهم موسى إلى بيت المقدس جعل موسى عليه السلام عليهم اثني عشر ملكاً ، على كل سبط منهم ملك { قَالَ الله } تعالى للنقباء : { إِنّى مَعَكُمْ } ويقال : قال الله لبني إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق في التوراة : { إِنّى مَعَكُمْ } أي معينكم وحافظكم وناصركم { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة } يعني : ما دمتم أقمتم الصَّلاة { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق } يعني : صدقتم برسلي { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } يعني : أعنتموهم . وقال القتبي : أي عظمتموهم والتعزير التعظيم . وقال السدي : يعني نصرتموهم بالسيف . وقال الأخفش : يعني وقَّرْتموهم وقَوَّيتموهم . وقال الضحاك : شرفتموهم بالنبوة كما شرفهم الله تعالى . ويقال : آمنتم برسلي أي أمرتم قومكم ، حتى يؤمنوا برسلي ونصرتموهم { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } أي تأمرون قومكم بذلك .
ثم بيّن جزاءهم وثوابهم إن فعلوا ذلك فقال : { لاكَفّرَنَّ } أي لأمحونَّ { عَنْكُمْ سيئاتكم } يعني ذنوبكم { وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } ثم قال : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } العهد والميثاق { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } يعني أخطأ قصد الطريق . ثم قال عز وجل : { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } يعني لما أخذ عليهم الميثاق نقضوا الميثاق ، فبنقضهم ميثاقهم { لعناهم } أي لعنهم الله ، يعني طردهم من رحمته . ويقال : { لعناهم } يعني عذبناهم بالمسخ . ويقال : بالجزية . ثم قال : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } يعني يابسة ، ويقال : خالية عن حلاوة الإيمان . قرأ حمزة والكسائي { قسية } بغير ألف ، وقرأ الباقون { قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } ومعناهما واحد ويقال : قست فهي قاسية وقسية . ثم قال : { يُحَرّفُونَ الكلم } والكلم جمع كلمة ، يعني يغيرون صفة محمد صلى الله عليه وسلم { عَن مواضعه } يعني في كتابهم مما وافق القرآن ، يعني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، ويقال : استحلوا ما حرم الله تعالى عليهم ولم يعملوا به ، فكان ذلك تغيير الكلم عن مواضعه .
ثم قال : { وَنَسُواْ حَظَّا } يعني تركوا نصيباً { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } يعني مما أمروا به في كتابهم { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } يعني لا يزال يظهر لك منهم الخيانة ونقض العهد .
وقال القتبي عن أبي عبيدة : إن العرب تضع لفظ الفاعل في موضع المصدر ، كقولهم للخوان مائدة ، وإنما يميد بهم ما في الخوان فيجوز أن يكون الهاء صفة للخائن ، كما يقال رجل طاغية وراوية للحديث . ثم قال : { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } يعني : مؤمنيهم لم ينقضوا العهد { فاعف عَنْهُمْ } يعني اتركهم ولا تعاقبهم { واصفح } عنهم يعني : أعرض عنهم { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } الذين يعفون عن الناس ، وهذا قبل الأمر بقتال أهل الكتابين . قوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } وذلك أن الله تعالى لما ذكر حال اليهود ونقضهم الميثاق ، فقال على أثر ذلك إن النصارى لم يكونوا أحسن معاملة من اليهود ، ثم بيّن معاملتهم فقال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } { أَخَذْنَا ميثاقهم } في الإنجيل ، بأن يتبعوا قول محمد صلى الله عليه وسلم { فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } يعني تركوا نصيباً مما أمروا به في الإنجيل من اتباع قول محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال : نقضوا العهد كما نقض اليهود ، ويقال إنما سموا أنفسهم النصارى لأنهم نزلوا قرية يقال لها «ناصرة» ، نزل فيها عيسى عليه السلام فنزلوا هناك وتواثقوا بينهم ، ويقال : إنما سموا النصارى لقول عيسى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصارى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله ءَامَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] .
ثم قال : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } يعني ألقينا بينهم العداوة { والبغضاء } ويقال : الإغراء في أصل اللغة الإلصاق ، يقال : أغريت الرجل إغراءً إذا ألصقت به . ويقال : إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس» ، كان بينه وبين النصارى قتال ، وكان يهودياً فقتل منهم خلقاً كثيراً ، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضاً ، فجاء إلى النصارى ، وجعل نفسه ، أعور وقال لهم : أتعرفوني؟ فقالوا : أنت الذي قتلت منا وفعلت ما فعلت ، فقال : قد فعلت ذلك كله وأنا تائب ، لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء ، فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني . فقال : أي شيء تريد من قومي؟ فتبت على يده ، وإنما جئتكم لأكون بين ظهرانيكم ، وأعلمكم شرائع دينكم ، كما علمني عيسى في المنام فاتخذوا له غرفة ، فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط ، وكان يتعبد في الغرفة ، وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة ، وربما يأمرهم حتى يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة ، ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكراً وينكرون عليه ، فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك ، فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به .
فقال لهم يوماً من الأيام : اجتمعوا قد حضرني علم ، فاجتمعوا ، فقال لهم : أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم؟ قالوا : نعم ، فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء؟ يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً ، فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير ، فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال : حضرني علم . فاجتمعوا وقال لهم : من أي ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا : من قبل المشرق . فقال : ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم؟ فقالوا : من قبل المشرق . فقال : ومن يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا : الله تعالى : فقال : فاعلموا أنه من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه ، فحول صلاتهم إلى المشرق ، فلما مضى على ذلك أيام دعا طائفةً منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة . وقال لهم : إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قرباناً لأجل عيسى ، وقد حضرني علم وأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك . ويقال أيضاً إنه أصبح يوماً وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم : جاءني عيسى الليلة ، وقال : قد رضيت عنك ، فمسح يده على عيني فبرئت ، فالآن أريد أن أجعل نفسي قرباناً . ثم قال لهم : هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ فقالوا : لا . فقال : إن عيسى قد فعل هذه الأشياء ، فاعلموا بأنه هو الله . فخرجوا من عنده . ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضاً ، وقال : إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة ، وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قرباناً ، فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم ، فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول : قد علمني كذا وكذا . وقال الفريق الآخر : أنت كاذب بل علمني كذا وكذا ، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقاً كثيراً وبقيت العداوة بينهم { إلى يَوْمِ القيامة } وهم ثلاث فرق ، فرقة بينهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله . وصنف منهم يقال : لهم الماريعقوبية قالوا : إن الله هو المسيح . وصنف يقال لهم : الملكانية ، قالوا : إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله . فأغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . ويقال : ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين ، وذلك يحبط الأعمال . وقال معاوية بن قرة : إياكم وهذه الخصومات في الدين ، فإنها تحبط الأعمال . ثم قال : { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يعني : ينبئهم في الآخرة الذي هو على الحق .
ثم قال عز وجل :
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ يَا أهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا } يعني؛ محمد صلى الله عليه وسلم { يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } يعني : يكتمون ما بين في التوراة ، وذلك أنهم كتموا آية الرجم وتحريم الخمر وأكل الربا ونعت محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } يعني يتجاوز عن كثير ولا يخبركم به ، وذكر أن رجلاً من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله فقال : ما هذا الذي عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين ، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه أنه لم يترك شيئاً ، وقد بينه كله ، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده وذهب ، وقال لأصحابه : أرى أنه صادق فيما يقول ، لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله .
ثم قال تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ } يعني؛ ضياء من الضلالة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، والنور هو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقتها ، فيسمى القرآن نوراً لأنه يقع في القلوب مثل النور ، لأنه إذا وقع في قلبه يبصر به . ثم قال : { وكتاب مُّبِينٌ } يعني القرآن يبين لكم الحق من الباطل . قوله تعالى : { يَهْدِى بِهِ الله } يعني بالقرآن { مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } يعني مَنْ طلب الحق ورغب فيه { سُبُلَ السلام } يعني دين الله الإسلام ، والسبل جماعة السبيل وهو الطريق ، يعني به طريق الهدى ، والسلام اسم من أسماء الله تبارك وتعالى ، يعني هو دين الله تعالى . ثم قال { وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ } يعني يخرج من قلوبهم حلاوة الكفر ، ويدخل فيها حلاوة الإيمان ويوفقهم لذلك { وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني يوفقهم إلى دين الإسلام .
قوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } يقول من يقدر أن يمنع من عذاب الله شيئاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعاً } يعني : لو أراد الله أن يهلك عيسى وأمه وجميع الخلق ، ولا يقدر عيسى على ردّ ذلك ، فكيف يكون إلهاً وهو لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه . ثم قال : { وَللَّهِ مُلْكُ *** السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } يعني خزائن السموات والأرض ، وجميع الخلق عبيده وإماؤه وحكمه نافذ فيهم . ثم قال : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } لأن نصارى أهل نجران كانوا يقولون : لو كان عيسى بشراً كان له أب ، فأخبر الله تعالى على أنه قادر على أن يخلق خلقاً بغير أب { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من خلق عيسى وغيره .
قوله تعالى :
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأَحِبَّاؤُه } يعني : نحن من الله تعالى بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة ، والوالد إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر . ويقال : معناه نحن أبناء الله وأحباؤه . قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } يعني يحرقكم لأنهم كانوا مقرِّين بأنه يحرقهم أربعين يوماً أياماً معدودة ، قل لهم فهل رأيتم والداً يحرق ولده أو يحرق مُحِبَّه؟ ففي الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه ، ولا يعذبه بذنوبه ، لأنه احتج عليهم فقال : { فَلِمَ يُعَذّبُكُم } إن كنتم أحباء الله تعالى ، وقال في آية أخرى : { وَيَسْألُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } [ البقرة : 222 ] ففيه دليل على أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم ، ولا المجاهدين الذين يجاهدون لقوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ثم قال : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } يعني أنتم لستم بأبناء الله ولا أحبائه ، ولكن أنتم خلق كسائر خلق الله تعالى . ثم قال : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أي يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } فيهينه ويتركه على الكفر { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق { وَإِلَيْهِ المصير } يعني إليه المرجع ، فيجزيهم بأعمالهم .
قوله تعالى : { مّنْ أَهْلِ الكتاب } يعني يا أهل التوراة والإنجيل ، وإنما أضافهم إلى الكتاب والله أعلم على وجه التعيير ، يعني أنتم أهل الكتاب فلم لا تعملون بكتابكم؟ كقوله : يا عاقل لم لا تفعل كذا وكذا ، وإنما تذكر العقل على معنى التعيير أي إنك لا تعمل عمل العقلاء . ثم قال : { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { يُبَيّنُ لَكُمْ } الدين والأحكام والشرائع { على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل } يعني بعد انقطاع من الرسل والوحي . وقال مقاتل : في الآية تقديم وتأخير ، معناه قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل يبين لكم ، وإنما سمي فترة لأن الدين يفتر ويندرس عند انقطاع الرسل ، يعني بين عيسى ومحمد عليهما السلام وقال قتادة : كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وستون سنة . وقال الكلبي : خمسمائة وأربعون سنة . وقال الضحاك ومقاتل : كان بينهما ستمائة سنة . وقال وهب : كان بينهما ستمائة وعشرون سنة . ثم قال : { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } يعني لكي لا تقولوا : ما جاءنا من رسول بعد ما درس الدين ليبشرنا وينذرنا { فَقَدْ جَاءكُمُ } محمد صلى الله عليه وسلم { بَشِيرٍ } بالجنة { وَنَذِيرٌ } من النار { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من المغفرة والعذاب وبعث الرسل .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ : ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : احفظوا منة الله عليكم ونعمته { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } قال في رواية الكلبي : يعني السبعين سوى موسى وهارون عليهما السلام ، وهم الذين اختارهم موسى فانطلقوا معه إلى الجبل . ويقال : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } يعني في بني إسرائيل ، فكان فيهم أربعة آلاف نبي عليهم السلام ثم قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } يعني : بعد العبودية لفرعون . قال ابن عباس : إن الرجل إذا لم يدخل عليه أحد في بيته إلا بإذنه فهو ملك . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } أي جعل لكم أزواجاً وخدماً وبيوتاً وبنين . ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَلَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا » ثم قال : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ } يعني أعطاكم ما لم يعط أحداً من الخلق ، وهو : المن والسلوى والغمام وغير ذلك .
ثم قال عز وجل : { العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ } يعني المطهرة ، والمقدسة في اللغة هو المكان الذي يتطهر فيه ، فتأويله البيت الذي يتطهر فيه الإنسان من الذنوب . ثم قال : { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني التي أمركم الله أن تدخلوها . ويقال : التي وعد لإبراهيم أن يكون ذلك له ولذريته ، وذلك أن الله وعد لإبراهيم أن يكون له مقدار ما يمد بصره فصار ذلك ميراثاً منه حين خرج إبراهيم عليه السلام فقال له جبريل : انظر يا إبراهيم . فنظر فقال : يعطي الله تعالى لك ولذريتك مقدار مد بصرك من الملك . وهي أرض فلسطين وأردن وما حولهما . فقال موسى لقومه : { ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني التي جعل لأبيكم إبراهيم عليه السلام ولكم ميراث منه
وقال القتبي : أصل الكتاب ما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ ، ثم يتفرع منه المعاني . ويقال : كتب يعني قضى كما قال : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مولانا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ التوبة : 51 ] ويقال : كتب أي فرض كما قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي فرض ويقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي جعل كما قال : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } ويقال : كتب أي أمر . كما قال : { ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني أمر الله لكم بدخولها . قال : ويقال كتب هاهنا بمعنى جعل . ثم قال تعالى : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم } يعني لا ترجعوا عما أمرتم به من الدخول { فَتَنقَلِبُواْ } أي فتصيروا { خاسرين } بفوات الدرجات ووجوب الدركات ، أي مغبونين في العقوبة ، فبعث موسى عليه السلام اثني عشر رجلاً من كل سبط رجلاً يأتيهم بخبر الجبارين ، فلما أتوهم لقيهم بعض أصحاب تلك المدينة جاؤوا وأخذوا أصحاب موسى ، فجعل كل رجل رجلين من أصحاب موسى عليه السلام في كمه ، حتى جاؤوا بهم إلى الملك .
ويقال : لقيهم رجل واحد اسمه «عوج» ، فاحتملهم في ثوبه وأتى بهم حتى ألقاهم بين يدي الملك؛ فنظر إليهم وقال : هؤلاء يريدون أن يأخذوا مدينتنا . فأراد قتلهم فقالت امرأته : أيش تصنع بقتل هؤلاء الضعفاء؟ ويكفيهم ما رأوا من أمر القوم وأمر هذه البلدة . فأنعِم عليهم ودعهم حتى يرجعوا ويذهبوا إلى موسى وقومه بالخبر ، فأرسلهم الملك وأعطاهم عنقوداً من العنب فحملوه على عمودين ، فرجعوا إلى موسى عليه السلام وقالوا فيما بينهم : لا تخبروا قوم موسى بهذا الخبر ، فإنهم يجبنون عن القتال ، والله تعالى قد وعد لموسى بأن يفتح عليهم هذه البلدة ، ولا تخبروا أحداً سوى موسى . فلما رجعوا أخبروا بخبرهم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا .
فلما أمر موسى قومه بدخول البلدة { قَالُواْ يَا موسى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } قال مقاتل : يعني طول كل رجل منهم ستة أذرع ونصف . وقال الكلبي : طول كل رجل منهم ثمانون ذراعاً . وقال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي ، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد . ثم قال تعالى : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا } يعني من تلك البلدة ، وهي الأرض المقدسة واسمها إيلياء . ويقال مدينة أخرى يقال لها أريحا { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون } { قَالَ رَجُلاَنِ } يعني يوشع بن نون وكالب { مِنَ الذين يَخَافُونَ } الله تعالى { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } بالإسلام ، ويقال من الذين يخافون الجبارين { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } فلم يخافا وصدقا في مقالتهما { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } وهي أريحا أو إيلياء { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون } يعني أن القوم إذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم ، فتكونوا غالبين { وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ } يعني فثقوا بأنه ناصركم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : مصدقين بوعد الله تعالى ، فقال لهم موسى : ادخلوا عليهم { قَالُواْ يَا موسى } أتصدق اثنين وتكذب العشرة { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } يعني : قل لربك أن ينصرك عليهم كما نصرك على فرعون . وقال أبو عبيدة : يعني اذهب فقاتل وليقاتل معك ربك ، وليتم أمرك كما أتم قبل ذلك فهو يعينك ، فإنا لا نستطيع قتال الجبابرة . ويقال : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } يعني أنت وسيدك هارون ، لأن هارون كان أكبر منه بسنتين أو بثلاث سنين { فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } فغضب موسى عليه السلام من قولهم { قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } هارون .
وقال الزجاج : { لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } يحتمل معنيين ، أحدهما : لا أملك إلا نفسي ، وأخي لا يملك إلا نفسه . ويحتمل : لا أملك إلا نفسي وأخي ، لأن أخاه كان مطيعاً له فهو يملك طاعته . ثم قال : { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } يعني : اقضِ بيننا وبين القوم العاصين .
ثم قَالَ الله تعالى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } يعني الأرض المقدسة ، دخولها محرم عليهم { أَرْبَعِينَ سَنَةً } ثم قال : { يَتِيهُونَ فِى الارض } ضلالاً يعني : يتحيرون فيها ولا يعرفون وجه الخروج منها ضلالاً في التيه . ويقال : فإنها محرمة عليهم ، وتم الكلام . ثم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فعمي عليهم السبيل ، فحبسهم بالنهار وسيّرهم بالليل ، يسهرون ليلتهم ويصبحون حيث أمسوا ، وكان التيه بين فلسطين وأيلة ست فراسخ في اثني عشر فرسخاً ، فمكثوا فيها أربعين سنة لم يقدروا على الخروج منها . قال بعضهم : لم يكن موسى وهارون عليهما السلام في التيه ، لأن الأنبياء لا يعذبون وقال بعضهم : كانا فيه وسهل الله تعالى عليهما كما سهل على إبراهيم عليه السلام النار ، وجعلها برداً وسلاماً . ويقال : إن موسى وهارون قد ماتا في التيه ، وهلكت تلك العصابة ولم يبقَ منهم إلا يوشع وكالب ، فخرج يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة ، وفتحوها عند غروب الشمس . وذكر في الخبر أن يوشع دعا بأن ترد الشمس فردت ثلاث ساعات حتى فتحوا البلدة ، فاختلفت النجوم عن مجاريها من ذلك اليوم ، فخفي على المنجمين ، فلما بقوا في التيه ندم موسى على دعائه ، فأوحى الله تعالى إليه { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } يعني لا تحزن على قوم سميتهم فاسقين . وقال بعضهم : هذا الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم لا تحزن على قومك إن لم يؤمنوا . ويقال : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } صار نصباً بمعنى يتيهون لأن في التفسير ، إن دخلوها لم يكن محرم عليهم أبداً . كذا قاله ابن عباس رضي الله عنه . وإنما دخلها أولادهم . وقال قوم : حرمت أربعين سنة فكانوا يتيهون أربعين سنة وفتحوا .
قوله تعالى :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{ وَاتْلُ عَلَيْهِم } يعني اقرأ على قومك { نَبَأَ } يعني خبر { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ } يعني بالصدق { إِذْ قَرَّبَا قربانا } وذلك أن حواء عليها السلام ولدت غلاماً وجارية في بطن واحد ، قابيل وأخته إقليما ، ثم ولدت في بطن آخر هابيل وأخته ليوذا ، فلما كبروا أمر الله تعالى بأن يزوج كل واحد منهما أخت صاحبه ، وكانت أخت قابيل أحسن ، فأبى قابيل وقال : بل زوج كل واحد منا أخته ، فقال آدم : إن الله تعالى أمرني بذلك . فقال له قابيل : إن الله تعالى لم يأمرك بهذا ، ولكنك تميل إلى هابيل . فأمرهما بأن قربا قرباناً ، فأيكما تقبل قربانه كان أحق بها ، فعمد قابيل وكان صاحب زرع إلى شر زرعه ووضعه عند الجبل ، وعمد قابيل وكان صاحب مواشي إلى خير غنمه فوضعها عند الجبل ، وكان قابيل يضمر في قلبه أنه إن تقبل منه أو لم يتقبل لا يسلم إليه أخته ، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ، وكان ذلك علامة القبول ، وتركت قربان قابيل فذلك قوله : { إِذْ قَرَّبَا قربانا } يعني وضعا قرباناً . { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } يعني هابيل { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر } يعني قابيل ف { قَالَ } قابيل لهابيل { لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ } ولم؟ قال : لأن الله قد قبل قربانك ورد عليّ قرباني . فقال له هابيل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } ولم يكن الذنب مني ، وإنما لم يتقبل منك لخيانتك وسوء نيتك . وقال بعض الحكماء : العاقل من يخاف على حسناته ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } والخاسر من يأمن من عذاب الله لأن الله تعالى قال : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] .
قوله تعالى : { لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ } يعني هابيل قال لقابيل : لئن مددت إليَّ يدك { لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } ثم قال : { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } يعني : إني أريد أن ترجع بإثمي ، يعني بقتلك إياي وبإثمك الذي عملت قبل قتلي وهي الخيانة في القربان وغيره . ويقال : إني أريد أن ترجع بإثمي ، يعني أن لا أبسط يدي إليك لترجع أنت بإثمي وإثمك ، ولا يكون عليَّ من الإثم شيء . ويقال : معناه إني أريد أن تؤخذ بإثمي وإثمك . { فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار } يعني لكي لا يكون من أصحاب النار { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين } . قال الله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } يعني تابعت له نفسه على قتل أخيه ويقال : انقادت له طاعة نفسه . وقال : قتادة زينت له نفسه بقتل أخيه { فَقَتَلَهُ } قال بعضهم : إنه كان لا يدري كيف يقتله ، حتى جاء إبليس فتمثل عنده برجلين ، فأخذ أحدهما حجراً ولم يزل يضرب الآخر حتى قتله ، فتعلم ذلك منه وقال بعضهم : بل كان يعرف ذلك بطبعه ، لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ، ويمكن إتلافها فأخذ حجراً وقتله بأرض الهند ، فلما رجع إلى آدم قال له : ما فعلت بهابيل؟ فقال له قابيل : أجعلتني رقيباً على هابيل؟ فذهب حيث يشاء فبات آدم تلك الليلة محزوناً ، فلما أصبح قابيل رجع إلى الموضع الذي قتله ، فرأى غراباً وقال بعضهم : كان يحمله على عاتقه أياماً لا يدري ما يصنع به حتى رأى غراباً ميتاً ، فجاء غراب آخر وبحث التراب برجليه ودفن الغراب الميت في التراب ، فذلك قوله تعالى فقتله { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } يعني فصار من المغبونين في العقوبة .
قوله تعالى : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض } وقابيل ينظر إليه . وقال القتبي : هذا من الاختصار ، ومعناه بعث غراباً يبحث التراب على غراب الميت { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ } يعني كيف يغطي عورة أخيه { قَالَ } قابيل عند ذلك : { قَالَ ياويلتا أَعَجَزْتُ } يعني أضعفت في الحيلة { أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي } يعني فأغطي عورة أخي { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } على حمله حيث لم يدفنه حين قتله . قال ابن عباس : ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه . ويقال : إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياماً عليه ، ثم إن قابيل كان على ذروة جبل ، فنطحه ثور فوقع على السفح فتفرقت عروقه . ويقال : دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض . وقال مقاتل : كان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل أخاه هربوا فحلقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض ، فتزوج شيث عليه السلام بإقليما . وروي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ » وقال بعضهم : هذه القصة كانت في بني إسرائيل ، وهما أخوان قتل أحدهما الآخر ، ولكن هذا خلاف قول المفسرين .
قال الله تعالى :
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ } يعني من أجل خيانة ابن آدم حين قتل أخاه { كَتَبْنَا } يعني فرضنا { على بَنِى إسراءيل } وغلّظنا وشدّدنا في التوراة { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } يعني قتل نفساً بغير أن يقتل نفساً { أَوْ فَسَادٍ فِى الارض } يعني بغير فساد في الأرض ، وهو الشرك بالله { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } يعني إذا قتل نفساً بغير جرم واستحل قتله ، فكأنه قتل الناس جميعاً ، يعني إذا قتل نفساً فجزاؤه جهنم خالداً فيها . ثم قال : { وَمَنْ أحياها } يعني نجّاها من غرق أو حرق أو يعفو عن القتل { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } يعني : له من الأجر كأنما أحيا الناس جميعاً ، لأن في حياة نفس واحدة يكون منفعة لجميع الناس ، لأنه يدعو لجميع الخلق . ثم قال : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات } يعني بالبيان في الأمر والنهي { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } البيان { فِى الارض لَمُسْرِفُونَ } يعني : لمشركون تاركون لأمر الله تعالى .
قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } إن للتأكيد ، وما صلة يحاربون الله ورسوله ، يعني يخالفون الله ورسوله ، ويتركون أمر الله وأمر رسوله مجاهرة وعياناً { وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً } بالقتل وأخذ المال { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ } قال مقاتل : نزلت هذه الآية في سبعة نفر من بني عرينة ، قدموا المدينة فاجتووها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى إِبِلِنَا وَأَصَبْتُمْ مِنْ ألْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا » ففعلوا ، فصحوا ، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم ، وساروا بالإبل وارتدوا عن الإسلام ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم علياً ، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّة حتى ماتوا . وهذا قبل أن تنزل آية الحدود . وروى أسباط عن السدي قال : نزلت في سودان عرينة ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يمثل بهم فنهاه الله تعالى عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحد الذي أنزل عليه . وقال سعيد بن جبير إنه مثل بهم ثم نزل بعد ذلك : { إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله } الآية . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن ، ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن ، فمر أناس من بني كنانة يريدون الإسلام ، فمروا بأصحاب أبي بردة ولم يكن أبو بردة حاضراً يومئذٍ ، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم فنزلت هذه الآية : { إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } الآية . ثم صارت الآية عامة في جميع الناس .
واختلف العلماء في حكمهم وهم قطاع الطريق وهم ثلاثة أصناف : صنف يأخذ المال ولا يقتل ، وصنف يأخذ المال ويقتل ، وصنف يقتل ولا يأخذ المال . قال بعضهم : إذا وجد من إنسان صنف من هذه الأصناف ، فللإمام أن يقيم عليه أي عقوبات شاء ، لأن الله تعالى قال : { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ } فقد خُيِّر في عقوبتهم ، وهو قول الحسن وعطاء . وقال بعضهم : لكل صنف عقوبة على حدة ، والاختيار عند أصحابنا رحمهم الله أنه إن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ، وإن قتل وأخذ المال قطع وقتل عند أبي حنيفة . وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقتل ولا يقطع . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : إن قَتل قُتل ، وإن قَتل وأخذ المال قطعَ ثم صلب . وروي عن ابن عباس نحو هذا . ويكون أو بمعنى الواو ، فكأنه قال : إن يقتلوا ويصلبوا { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف } وقال بعضهم : يقتل ثم يصلب على وجه النكال والعبرة ، وقال بعضهم : يصلب حياً ثم يطعن في ليته ، يخضخض حتى يموت .
قوله تعالى : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض } يعني يطلب حتى لا يجد قراراً في موضع ويقال : { يُنفَوْاْ مِنَ الارض } يعني يحبس فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فصار كأنه نفي عن الأرض . واحتج هذا القائل بقول بعض أهل السجن في ذلك :
خَرَجْنَا من الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِها ... فَلَسْنَا من الأمواتِ فيها ولاَ الأحْيَا
إذا جاءنَا السَّجَّان يَوْماً لِحَاجَة ... عَجِبْنَا وقلنا جَاءَ هذا من الدُّنْيَا
ويقال : ينفى إلى دار الحرب . ثم قال تعالى : { ذلك لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا } يعني ذلك القتل والقطع لهم عذاب وعقوبة في الدنيا ، ولا يكون ذلك كفارة لذنوبهم إن لم يتوبوا { وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي أشد مما كان في الدنيا ، وهو عذاب النار . ثم استثنى فقال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } يعني رجعوا عن صنيعهم قبل أن يؤخذوا ويردوا المال ، فلا يعاقبون في الدنيا ولا في الآخرة ، ويغفر الله تعالى لهم ذنوبهم وذلك قوله : { فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور لذنوبهم رحيم حين قبل توبتهم .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله } يعني احذروا المعاصي لكي تنجوا من عذاب الله . { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } يعني اطلبوا القرابة والفضيلة بالأعمال الصالحة { وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ } يعني في طاعته . ويقال : جاهدوا العدو { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تنجوا من العقوبة وتنالوا الثواب . قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة } يقول : إن الكافر إذا عاين العذاب ثم تكون له الدنيا جميعاً ومثلها معها فيقدر على أن يفتدي بها ، من العذاب لافتدى بها يقول الله تعالى : لو كان ذلك لهم ففعلوه { مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ } ذلك النداء { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وجيع .
ثم قال تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } وذلك أنهم يريدون أن يخرجوا من الأبواب ، فتستقبلهم الملائكة فيضربونهم بمقامع من حديد ويردونهم إليها { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم أبداً . وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : إن قوماً يخرجون من النار بعدما يدخلونها ، قيل له : سبحان الله أليس الله يقول : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } ؟ فقال جابر : اقرؤوا إن شئتم أول الآية { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني هذا للكفار خاصة دون العاصين من المؤمنين .
قوله تعالى :
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{ وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ } بدأ بالرجل لأن السرقة في الرجال أكثر ، وقال في الزنى : { الزانية والزانى } بدأ بالنساء ، لأن الزنى في النساء أكثر ، وهنَّ الفاتنات للرجال { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } . روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ : «فاقطعوا أيمانيهما» وغيره قرأ أيديهما ، واتفقوا أن المراد به اليمين من الكرسوع ، نزلت الآية في «طعْمَة بن أبَيْرق» ، ثم صارت الآية عامة في جميع السُّرَّاق .
وقال بعضهم : إذا سرق قليلاً أو كثيراً يجب القطع ، واحتج لظاهر الآية . روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَعَنَ الله السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ " وروي عن ابن الزبير أنه قطع في نعل ثمنه درهم . وقال : لو سرق خيطاً لقطعته ، وقال بعضهم : لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم ، أو اربع دينار فصاعداً .
والاختيار عند علمائنا رحمهم الله أن اليد لا تقطع في أقلَّ من عشرة دراهم ، وبه جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضي الله عنهم . قرأ بعضهم : { والسارق والسارقة } بالنصب ، وكذلك قوله : { الزانية والزانى } بالنصب ، وإنما جعله نصباً لوقوع الفعل عليه ، وهو شاذ من القراءة والقراءة المعروفة بالرفع .
وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : رفعه بالابتداء ، لأن القصد ليس إلى واحد من السراق بعينه والزناة بعينه ، إنما هو كقولك من سرق فاقطعوا يده ، ومن زنى فاجلدوه ، ثم قال : { جَزَاء بِمَا كَسَبَا } يعني عقوبة لهما بما سرقا ، { نكالا } يعني : عقوبة ، { مِنَ الله } جزاء صار نصباً لأنه مفعول له يعني : جزاء بجزاء فعلهما ، ثم قال : { والله عَزِيزٌ } حكم على السارق بقطع اليد ، ثم قال عز وجل : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } يعني : من بعد سرقته ، { وَأَصْلَحَ } العمل بعد السرقة { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } يعني : يتجاوز عنه ، { أَنَّ الله غَفُورٌ } لما سلف من ذنبه ، { رَّحِيمٌ } به بعد التوبة ، يعني : إذا تاب ورد المال لا تقطع يده .
ثم قال عز وجل :
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يعني : خزائن السموات والأرض ، يعني : خزائن السموات المطر ، وخزائن الأرض النبات . ويقال : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } يحكم فيها ما يشاء ، { يُعَذّبُ مَن يَشَاء } إذا أصرّ على ذنوبه ، { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } إذا تاب ورجع ، ومعناه : أن السارق إذا تاب ، ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه ، وإن لم يتب قطعت يده .
ألا ترى أن الله تعالى قال : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض ، يُعَذّبُ } إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب ، فافعلوا أنتم مثل ذلك ، لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده ، وهو قوله : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من المغفرة والعذاب .
قوله تعالى : { قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر } نزلت في شأن «أبي لبابة بن عبد المنذر» ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة فأشار إليهم أبو لبابة ، وكان حليفاً لهم ، إنكم إن نزلتم من حصونكم قتلكم فلا تنزلوا ، فنزلت هذه الآية : { قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر } أي يبادرون ويقعون في الكفر ، { مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم } يعني ذلك بألسنتهم { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } في السر .
وقال الضحاك : نزلت الآية في شأن المنافقين ، كانت علانيتهم تصديقاً ، وسرائرهم تكذيباً .
قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ } يعني : قوالون للكذب ، وقال القتبي : تفسير { سماعون لِلْكَذِبِ } أي : قابلون للكذب ، لأن الرجل يسمع الحق والباطل ، ولكن يقال : لا تسمع من فلان قولاً ، أي : لا تقبله ، ومعنى آخر إنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك ، لأنهم إنما جالسوه لكي يقولوا : سمعنا منه كذا وكذا ، وإنما صار { سماعون } رفعاً لأن معناه : هم { سماعون لِلْكَذِبِ } من { سماعون لِلْكَذِبِ سماعون } يعني : أهل خيبر لم يأتوك ، وذلك أن رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا فكرهوا رجمهما ، فكتبوا إلى يهود بني قريظة أن يذهبوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن حكم بالجلد رضوا عنه بحكمه؛ وإن حكم بالرجم لم يقبلوا . وروى نافع عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا له أن رجلاً وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ " فقالوا : يحممان ويجلدان ، يعني : تُسَوَّدُ وجوههما . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها آية الرجم ، فأتوا بالتوراة . فأتوا بها فنشروها؛ فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، وقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها آية الرجم .
فقالوا : صدق عبد الله بن سلام ، يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال ابن عمر : فرأيت الرجل يحنو على المرأة يقيها الحجارة .
وروى الشعبي عن جابر بن عبد الله أنه قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن يسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فإن أمركم بالحد فحدوه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ، فسألوه ، فدعا ابن صوريا وكان عالمهم ، وكان أعور ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنشُدُكَ الله كَيفَ تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُم » ؟ . فقال ابن صوريا : فأما إذ ناشدتني بالله ، فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية ، والاعتناق زنية؛ والقبلة زنية ، فإن شهد أربعة بأنهم رأوه كالميل في المكحلة فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هُوَ ذلك »
وروي عن أبي هريرة قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجال من اليهود ، وقد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعدما أُحْصن ، قالوا : فانطلقوا فلنسأل هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن أفتانا بفتوى فيها تخفيف ، فاحتججنا عند الله تعالى بها ، وإن أفتانا بما فرض الله علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك . فقد تركنا ذلك في التوراة وهي أحق أن تطاع ، فقالوا : يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن ، فما ترى عليه من العقوبة؟ . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقمنا معه ، حتى أتى بيت مدراس اليهود ، فوجدهم يتدارسون التوراة فقال لهم « يا مَعْشَرَ اليَهُودِ ، أَنْشُدُكُمْ بالله الذي أَنْزَلَ التَّورَاة عَلَى مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَم مَا تَجِدُونَ فِي التَّورَاةِ مِنَ العُقُوبَةِ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَد أَحْصَنَ » ؟ . فقالوا : إنا نجد أن يجلد ويحمم ، وسكت حبرهم وهو في جانب البيت؛ فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ينشده ، فقال له حبرهم : إذا ناشدتنا فإنا نجد عليه الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَانَ أَوَّلَ مَا تَرَخَّصْتُمْ بِهِ أمْر اِ تَعَالَى » ؟ ، قال : إنه قد زنى رجل قد أحصن ، وهو ذو قرابة لملك من ملوكنا فسجنه ، وأخر عنه الحد ، وزنى رجل آخر ، فأراد الملك رجمه ، فجاء قومه وقالوا : لا ترجمه حتى ترجم فلاناً ، فاصطلحوا بينهم على عقوبة دون الرجم ، وتركوا الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « فَإنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ » ، فنزل قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ } { لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } . قال الزجاج : يعني : من بعد أن وضعه الله تعالى مواضعه ، وأحل حلاله وحرم حرامه .
{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } يعني : إن أمركم بالجلد فاقبلوه واعملوا به ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } يقولون : إن لم يوافقكم على ما تطلبون ، ويأمركم بالرجم فلا تقبلوا منه .
قال الله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } يعني : كفره ، وشركه ، ويقال : فضيحته ، ويقال : اختباره ، { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } يقول : لن تقدر أن تمنعه من عذاب الله شيئاً .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ } من الكفر ، ولم يرد أن يدخل حلاوة الإيمان في قلوبهم ، وخذلهم مجازاة لكفرهم ، { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } يعني : القتل ، والسبي ، والجزية ، وهو قتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير ، { وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أعظم مما كان في الدنيا .
ثم قال تعالى :
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{ سماعون لِلْكَذِبِ أكالون لِلسُّحْتِ } قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي { السحت } بضم الحاء ، وقرأ الباقون بضمة واحدة ، وهما لغتان السُّحُتُ والسُّحْتُ ، وهو الاستئصال . يقال : أسحته وسَحَتَهُ ، إذا استأصله ، وكانوا يأكلون الرِّشا ، وكان عاقبته الاستئصال ، فسماه به كما قال : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] «أي : يأكلون ما عاقبته نار» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّارُ أوْلَى بِهِ " ، قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال : " الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ " وقال عليه السلام : " لَعَنَ الله الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي " وروي عن وهب بن منبه ، أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء؟ . فقال : لا ، إنما يكره من الرشوة أن ترشو لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقاً قد لزمك . فأما إذا أردت أن ترشو لتدفع عن دينك ، ودمك ، ومالك ، فليس بحرام . قال الفقيه أبو الليث : وبهذا القول نأخذ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة ، وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود ، أنه كان بالحبشة فرشى بدينارين ، وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع .
ثم قال : { فَإِن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ، يعني : أهل الكتاب إذا خاصموا إليك فأنت بالخيار ، إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فأعرض عنهم ، ولا تحكم بينهم .
ثم قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } يعني : بالعدل ، وهو الرجم ، ولها وجه آخر ، أن الصلح كان بينهم أن تكون جراحات بني قريظة نصفاً من جراحات بني النضير ، وفي القتل كذلك ، فأمر الله تعالى بأن يحكم بالعدل بينهم ، وهو قوله عز وجل : { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } يعني العادلين في الحكم . وروي عن عكرمة أنه قال : { فَانٍ جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسختها آية أخرى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لفاسقون } ف ق ك ل [ المائدا : 49 ] وقال مجاهد : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله : { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسختها { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لفاسقون } [ المائدا : 49 ] وقوله : { وَلاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } نسختها قوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] .
وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ، ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين حكم الله ، فيحكم بينهم بكتاب الله تعالى ، وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة : أن لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا .
ثم قال :
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } وكيف يقرّون بحكمك ، { وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله } يعني : آية الرجم ، وحكم الجراحات فلم يقرُّوا بها ، ولا يعملوا بها .
{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } يعني : يعرضون عن العمل به من بعد ما بيّن الله في كتابهم ثم قال : { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } يعني : ليسوا بمصدقين بما عندهم ، وهم يقولون : نحن نؤمن بالتوراة وهم كاذبون .
ثم قال : { إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى } من الضلالة ، { وَنُورٌ } يعني : بيان الشرائع والأحكام . يعني : حكم الرجم والجراحات ، { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } يعني : يقضي بها النبيون الذين أسلموا ، يعني : صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى عيسى ، وبينهما ألف نبي . ويقال : أربعة آلاف نبي . ويقال : أكثر من ذلك ، كانوا يحكمون بما في التوراة . { لِلَّذِينَ هَادُواْ } يعني : كانوا يحكمون لهم وعليهم . ويقال : يحكم بها الأنبياء من لدن موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم بحكم التوراة .
ثم قال تعالى : { والربانيون والاحبار } قال بعضهم : الربانيون العلماء والأحبار القراء ، ويقال : الربانيون الذين في العمل أكثر ، وفي العلم أقل ، والأحبار الذين في العلم أكثر وفي العمل أقل ، مثل الفقهاء والعباد . ويقال : كالفقهاء والعلماء
وقال القتبي : كلاهما واحد وهما العلماء ، { بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله } يعني : عُلِّموا واستُودعوا من كتاب الله التوراة ، { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } بما في كتاب الله الرجم ، وسائر الأحكام .
ثم قال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } يعني : يهود أهل المدينة ، لا تخشوا يهود أهل خيبر ، وأخبروهم بآية الرجم ، { واخشون } في كتمانه ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً } يعني : عرضاً يسيراً .
ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } يعني : إذا لم يقر ، ولم يبيّن ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } قال ابن عباس : من يجحد شيئاً من حدود الله فقد كفر ، ومن أقر ولم يحكم بها فهو فاسق . روى وكيع عن سفيان قال : قيل لحذيفة : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } ، نزلت في بني إسرائيل : فقال حذيفة : نعم الأخوة لكم ، وبنو إسرائيل كانت لكم كل حلوة ، ولهم مرة . لتسلكن طريقهم قدر الشراك . يعني : هذه الآية عامة فمن جحد حكم الله فهو من الكافرين .
ثم بين الحكم الذي في التوراة فقال :
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } يعني : فرضنا على بني إسرائيل ، في التوراة { أَنَّ النفس بالنفس } إذا كان القتل عمداً ، { والعين بالعين } إذا كان عمداً ، { والانف بالانف } إذا كان عمداً ، { والاذن بالاذن } إذا كان عمداً ، { والسن بالسن } إذا كان عمداً ، { والجروح قِصَاصٌ } إذا كان عمداً . وروى عكرمة عن ابن عباس : أن بني النضير كان لهم شرف على بني قريظة ، وكانت جراحاتهم على النصف ، فحملهم على الحق ، وجعل دم القرظي والنضيري سواء . فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف : لا نرضى بحكمك ، لأنك تريد أن تصغرنا بعداوتك . فنزل { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس في وجوب القصاص في النفس ، وفي الجراحات . قرأ عاصم وحمزة ونافع { أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين } والحروف الست كلها بالنصب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر كلها بالنصب ، غير الجروح فإنهم يقرؤونها بالضم على معنى الابتداء . وقرأ الكسائي كلها بالضم إلا النفس .
ثم قال : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } يعني : عفا عن مظلمته في الدنيا ، وترك القصاص ، { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } قال القتبي : فهو كفارة للجارح وأجر للمجروح . وقال مجاهد : كفارة للجارح ، وأجر للعافي . وقال بعضهم : هو كفارة للعافي ، أي يكفر الله تعالى عنه بعفوه بعض ما سلف من ذنوبه . ويقال : { كَفَّارَةٌ لَّهُ } أي للجارح ، يعني : إذا ترك الولي حقه سقط القصاص عن الجارح .
وروى محرر ، عن أبي هريرة ، عن رجل من الأنصار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أُصِيبَ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ لله تَعَالَى ، كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ » وقال الحسن : ينادي منادٍ يوم القيامة : من كان له على الله أجر فليقم ، فلا يقوم إلا من قد عفا .
ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } يعني : يظلمون أنفسهم . والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه . فالذي عرض نفسه للعقوبة ، فقد وضع الشيء في غير موضعه . قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ } يعني : اتبعنا على أثر الرسل عيسى ابن مريم عليه السلام ، { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني : موافقاً لما قبله ، { مِنَ التوراة } يقال : إن عيسى يصدق التوراة .
ثم قال : { وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى } من الضلالة ، { وَنُورٌ } يعني : بيان الأحكام ، { وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } ، يعني : الإنجيل موافقاً للتوراة في التوحيد ، وفي بعض الشرائع ، { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك ، والفواحش .
ثم قال : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل } قرأ حمزة { وَلْيَحْكُمْ } بكسر اللام ونصب الميم ، وقرأ الباقون بالجزم ، فمن قرأ بالكسر ، فمعناه : وآتيناه الإنجيل ، لكي يحكم أهل الإنجيل { بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ } ومن قرأ بالجزم فهو على الأمر ، والمراد به الخبر عن أمر سبق لهم ، يعني : أمرهم الله تعالى أن يحكموا بما في الإنجيل .
ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } يعني : في الإنجيل وكان حكمهم العفو ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } يعني : العاصين .
وقوله تعالى :
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{ وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ } يعني : أنزلنا إليك يا محمد الكتاب بالحق ، يعني : بيان الحق . ويقال : بالعرض والحجة ، ولم ينزله بغير شيء ، { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } يعني : موافقاً للتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، في التوحيد وفي بعض الشرائع .
ثم قال تعالى : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } يقول شاهداً على سائر الكتب ، بأن الكتاب الأول من الله تعالى ويقال : { وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ } يعني : قاضياً عليه ، ويقال : ناسخاً لسائر الكتب .
وروي عن ابن عباس أنه قال : مؤتمناً على ما قبله . وقال القتبي : أميناً عليه . ويقال : ومهيمناً عليه ، في معنى مؤتمن ، إلا أن الهاء أبدلت من الهمزة كما يقال : هَرَقْتُ الماء ، وأرَقْتُه ، وإياك ، وهياك .
ثم قال : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله } يعني : فاحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى في القرآن ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } يعني : لا تعمل بأهوائهم ومرادهم ، { عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق } يعني : لا تترك الحكم بما بين الله تعالى في القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام .
ثم قال : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } يقول : جعلنا لكل نبي شريعة ، والإيمان واحد ، ولم يختلف الرسل في الإيمان ، وإنما اختلفوا في الشرائع . قال القتبي : الشرعة والشريعة واحد ، يعني : السنة والمنهاج الطريق الواضح . وقال الزجاج : الشرعة الدين ، والمنهاج الطريق ، وقد قيل : هما شيء واحد ، وهو الطريق ، ويقال : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } معناه : فرضت على كل أمة ما علمت أن صلاحهم فيه .
ثم قال : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } يعني : جعلكم على شريعة واحدة ، { ولكن لّيَبْلُوَكُمْ } ليخبركم ، { فِيمَا ءاتاكم } يعني : أمركم من السنن ، والشرائع المختلفة ، ليتبين من يطيع الله فيما أمره ونهاه ، ومن يعصيه .
ثم قال : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } يعني : بادروا بالطاعات ، وبالأعمال الصالحة ، وإلى الصف المقدم ، والتكبيرة الأولى . ثم قال : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين والسنن يوم القيامة ، فهذا وعيد وتهديد ، لتستبقوا الخيرات ، ولا تتّبعوا البدعة ، ولا تخالفوا الكتاب .
ثم قال : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } وذلك أن يهود بني النضير قالوا فيما بينهم : اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه . وإنما هو بشر فأتَوْه . فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنّا أحبار اليهود ، وأشرافهم ، وسادتهم ، وأنّا إن اتبعناك اتبعك اليهود ، ولن يخالفونا . وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، فنؤمن بك ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . فنزلت هذه الآية { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } يعني : اقضِ بينهم بما في القرآن ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } في الحكم ، { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } يعني : يصرفوك ، { عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } .
وقال في رواية الضحاك : تزوج مجوسي ابنته ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت نفقتها ، فأمر الله تعالى رسوله أن يفرق بينهما بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } . وقال في رواية الكلبي : طلبوا منه بأن يحكم بينهم في الدماء على ما كانوا عليه في الجاهلية فنزل { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } . قال القتبي : أصل الفتنة الاختبار . ثم يستعمل في أشياء يستعمل في التعذيب كقوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } [ البروج : 10 ] ، وكقوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] وتكون الفتنة الشرك ، كقوله : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } [ البقرة : 193 ] وتكون الفتنة العبرة ، كقوله : { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } [ يونس : 85 ] وتكون الفتنة الصد عن السبيل ، كقوله : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } .
ثم قال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : أبَوْا أن يرضوا بحكمك ، { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني : يعذبهم في الدنيا . قال الكلبي : يعني : بالجلاء إلى الشام ، والإخراج من دورهم . وقال الضحاك : يعني : يريد الله أن يأمر بهم إلى النار بذنوبهم .
ثم قال { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس } يعني : رؤساء اليهود ، { لفاسقون } يعني : لكافرون . والفاسق هو الذي يخرج عن الطاعة .
ثم قال : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } يعني : يطلبون منك شيئاً لم ينزله الله إليك في حكم الزنى والقصاص كما يفعل أهل الجاهلية . قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام ( تبغون ) على معنى المخاطبة ، وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة .
ثم قال : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً } يقول : ومن أعدل من الله قضاءً ، { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يعني : يصدقون بالقرآن .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
يا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارى أوْلِيَاءَ } في العون والنصرة ، وذلك أنه لما كانت وقعة أحد ، خاف أناس من المسلمين أن يظهر عليهم الكفار ، فأراد من كانت بينه وبين النصارى واليهود صحبة أن يتولوهم ويعاقدوهم . فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء } يعني : معيناً وناصراً ، { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } يعني : بعضهم على دين بعض ، { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ } يعني : من اتخذ منهم أولياء ، { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } يعني على دينهم ومعهم في النار .
ثم قال { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : لا يرشدهم إلى الحجة . ويقال لا يرشدهم ما لم يجتهدوا ، ويقصدوا الإسلام . ثم بيّن حال المنافقين . فقال : { فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يعني : شرك ونفاق { يسارعون فِيهِمْ } يقول : يبادرون في معاونتهم ومعاقدتهم وولايتهم ، { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } يعني : ظهور المشركين . ويقال : شدة وجدوبة فاحتجنا إليهم . ويقال : نخشى الدائرة على المسلمين ، فلا ننقطع عنهم .
قال الله تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يعني : نصر محمد صلى الله عليه وسلم الذي أيسوا منه { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يعني : من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير . ويقال : الفتح أي : فتح مكة { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يعني : الخصب . وقال القتبي : الفتح أن يفتح المغلق . ثم قال : النصرة فتح ، لأن النصرة يفتح الله بها أمراً مغلقاً ، كقوله : { الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } » « { صلى الله عليه وسلم } [ النساء : 141 ] وكقوله { فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يعني : إظهار نفاقهم ، { فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ } من النفاق ، { نادمين } لأن المنافقين لما رأوا من أمر بني قريظة والنضير ندموا على ما قالوا .
ثم قال تعالى : { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } يعني : في ذلك الوقت الذي يظهر نفاقهم ، { هَؤُلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } يقول : إذا حلفوا بالله فهو جهد اليمين .
{ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } على دينكم . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر { يَقُولُ الذين آمَنُواْ } بغير واو ، ومعناه : إن الله تعالى لما بيّن حال المنافقين ، بيّن على أثره حال المؤمنين . فقال تعالى : { يَقُولُ الذين آمَنُواْ } يعني : قال الذين آمنوا بعضهم لبعض . وقرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } بالواو وضم اللام ومعناه : عسى الله أن يأتي بالفتح ، ويندم المنافقون ، ويقول الذين آمنوا عند ذلك { هَؤُلاء الذين *** أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } وقرأ أبو عمرو { وَيَقُولُ } بالواو ونصب اللام ، عطفاً على قوله : { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى *** بالفتح } وعسى أن يقول الذين آمنوا .
ثم قال تعالى : { حَبِطَتْ } يعني : بطلت { أعمالهم } يعني : المنافقين الذين كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين وعلى دينهم ، ولم يكونوا معهم { حَبِطَتْ أعمالهم } فلا ثواب لهم في الآخرة { فَأَصْبَحُواْ خاسرين } يعني : صاروا خاسرين في الدنيا وفي الآخرة .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } قرأ نافع وابن عامر ، { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ } بالدالين ، وقرأ الباقون بالدال الواحدة مع التشديد . فأما من قرأ يرتدد ، فهو الأصل في اللغة ، وروي عن أبي عبيدة أنه قال : رأيت في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، بالدالين . وأما من قرأ { يَرْتَدَّ } لأنه أدغم الدال الأولى في الثانية ، فأسكن الأولى ، ثم حرّك الثانية إلى النصب لالتقاء الساكنين . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في شأن أهل الردة الذين ارتدوا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أن العرب ارتدوا وقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما أن نعطي من أموالنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا . وخرج مسيلمة الكذاب فغلب على اليمامة ، وامتنعوا . فشاور أبو بكر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وكيف نقاتل قوماً ، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أُمِرتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ، حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلاَّ الله ، فَإذا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالى " ، فقال أبو بكر الصديق : الزكاة من حقها .
ثم قال : والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقاتلتهم عليه . فاتفقت الصحابة على قول أبي بكر ، وجمعوا العسكر ، وجاءهم من قبل اليمن سبعة آلاف رجل ، واجتمع ثلاثة آلاف من أفناء الناس ، فخرجوا وأميرهم «خالد بن الوليد» ، وقاتلهم ، وخرج مسيلمة الكذاب مع أهل اليمامة ، واجتمع الأعراب معه ، وكان بينهم قتال شديد ، فقتل يومئذٍ من المسلمين مائة وأربعون رجلاً ومنهم «ثابت بن قيس بن شماس» ، «وسالم مولى أبي حذيفة» وغيرهما فكاد المسلمون أن ينهزموا كلهم حتى نصرهم الله ، وأظهرهم على أعدائه ، وقُتل مسيلمة الكذاب ، وأصحابه ، وتاب أهل الردة ، فذلك قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } يعني : يحبون الله { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } يعني : رحيمة ليّنة على المؤمنين { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } يقول : شديدة غليظة { عَلَى الكافرين } يعني : أهل اليمن .
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ ألْيَنُ قُلُوباً ، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً ، الإيمانُ يَمَانٍ ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ " وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ } يعني : الجند من جنود الله ، مرداً وعوناً للخليفة أبي بكر ، يحبهم الله كحب الوالد لولده ، أذلة على المؤمنين كالعبد لسيده ، { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } كالسبع على فريسته .
ويقال : { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هو أبو بكر وأصحابه ، وقال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه . وقال الضحاك : هو أبو بكر وأصحابه ، لما ارتدت العرب جاهدهم حتى ردهم إلى الإسلام . وهذا من شمائل أبي بكر ، حيث اتفقت الصحابة على رأيه ، وذكر أنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ، همَّ المنافقون أن يُظهروا كفرهم ، وتحير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، حتى جاء عمر وصعد المنبر فقال : من قال إن محمداً قد مات فأنا أفعل به كذا وكذا ، بل هو حي حتى يخرج إليكم . وقد وعدنا الله تعالى أن يظهره على الدين كله . فجاء أبو بكر ، فقال له : انزل يا عمر ، فصعد أبو بكر ، فقال : من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد مات محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يعبد الله تعالى فهو حي لا يموت ، ومن أراد أن يرجع عن دينه فليس بيننا وبينه إلا السيف . فخاف المنافقون ، فكتموا نفاقهم وقرأ { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وقرأ { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } [ آل عمران : 144 ] فقال عمر : كأني لم أكن سمعت هذه الآية . ثم اختلاف آخر كان في دفنه ، فقال أبو بكر : يدفن حيث مات فاتفقوا على قوله . ثم اختلاف آخر كان في سقيفة بني ساعدة في الخلافة ، فاتفقوا على قوله . ثم اختلاف أهل الردة ، وكلهم اتفقوا على قوله . فذلك قوله تعالى : { يجاهدون فِى سَبِيلِ الله } يعني : في طاعة الله { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } يعني : لا يخافون ملامة الناس بما يعملون من الطاعات { ذلك فَضْلُ الله } يعني : ذلك توفيق الله { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } يعني : يوفق من يشاء . ويقال : ذلك دين الله الإسلام يهدي به من يشاء { والله واسع عَلِيمٌ } يعني : واسع الفضل عليم بمن يصلح للهدى .
قوله تعالى :
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ } وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن اليهود أظهروا لنا العداوة ، وحلفوا أن لا يخالطونا في شيء ، ومنازلنا فيهم ، بعيدة من المسجد ، ولا نجد محدثاً دون هذا المسجد ، فنزلت هذه الآية { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ } يقول : حافظكم وناصركم الله ورسوله { والذين ءامَنُواْ } فقال : يا رسول الله رضينا بالله ورسوله ، وبالمؤمنين . وقال الضحاك : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، أتاه بنو أسد بن خزيمة ، وهم سبعمائة رجالهم ونساؤهم . فلما قدموا المدينة . فقالوا : يا رسول الله اغتربنا وانقطعنا عن قبائلنا ، وعشيرتنا فمن ينصرنا؟ فنزل { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ } .
ثم قال : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة } قال ابن عباس : وذلك أن بلالاً لما أذّن ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس في المسجد يصلون بين قائم وراكع وساجد ، فإذا هو بمسكين يسأل الناس ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : «هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئاً؟» قال : نعم . قال : «مَاذَا»؟ قال : خاتم فضة . قال : «وَمَنْ أَعْطَاكَ»؟ . قال : ذلك المصلي . قال : «فِي أيِّ حَالٍ أعْطَاكَ»؟ قال : أعطاني وهو راكع . فنظر ، فإذا هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على «عبد الله بن سلام» { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ رَاكِعُونَ } يعني : يتصدقون في حال ركوعهم حيث أشار بخاتمه إلى المسكين حتى نزع من أصبعه ، وهو في ركوعه . ويقال : يراد به جميع المسلمين أنهم يصلون ويؤدون الزكاة .
ثم قال : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ } يعني : يجعل الله ناصره ويجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه { فَإِنَّ حِزْبَ الله } يعني : جند الله { هُمُ الغالبون } . قال محمد بن إسحاق : نزلت هذه الآية في «عبادة بن الصامت» ، حين تبرأ من ولاية اليهود يعني : يهود بني فينقاع ، وتولى الله ورسوله ، فأخبر الله تعالى أن العاقبة لمن يتولى الله ورسوله ، فإن الله ينصر أولياءه ، ويبطل كيد الكافرين ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } يعني : هم الظاهرون على أعدائه والعاقبة لهم وقوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } يعني : الذين آمنوا بلسانهم ، ولم يؤمنوا بقلوبهم . ويقال : أراد به المخلصين نهاهم الله تعالى عن ولاية الكفار . وروى محمد بن إسحاق بإسناده ، عن عبد الله بن عباس قال : كان «رفاعة بن زيد بن تابوت وسويد بن الحارث» قد أظهرا الإسلام ، ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله تعالى { لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ } الإسلام { هُزُواً وَلَعِباً } يعني : سخرية وباطلاً { مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَاء } يعني : مشركي العرب . قرأ أبو عمرو والكسائي { والكفار } بالخفض ، وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالخفض فمعناه : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الكفار أولياء ، ومن قرأ بالنصب ، فهو معطوف على قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا الكفار أَوْلِيَاء } ثم قال : { واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني : إن كنتم مؤمنين فلا تتخذوا الكفار أولياء . قوله تعالى : { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة } يعني : إذا أذن المؤذن للصلاة ، وإنما أضاف النداء إلى جميع المسلمين ، لأن المؤذن يؤذن لهم ويناديهم ، فأضاف إليهم فقال : { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة } { اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } يعني : الكفار ، إذا سمعوا الأذان استهزؤوا به . وإذا رأوهم ركعاً وسجداً ضحكوا واستهزؤوا بذلك . { ذلك } الاستهزاء { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } يعني : لا يعلمون ثوابه . وقال الضحاك : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ، وقال : «من أَتَّخِذُه مؤذّناً؟» . قال : يا محمد عليك بالعبد الأسود ، فإنه مشهود في الملائكة ، وجهير الصوت ، وأحبّ المؤذنين إلى الله تعالى . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً ، وعلمه الأذان ، وأمره أن يصعد سطح المسجد ويؤذن . فلما أذن سخر منه أهل النفاق ، وأهل الشرك ، وكذلك يوم فتح مكة . أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يؤذن على ظهر الكعبة ، فسخر منه كفار الأعراب ، وجهالهم ، فنزل قوله تعالى : { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } يعني : المنافقين ، واليهود ، ومشركي العرب . وروى أسباط عن السدي قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله قال : حرق الله الكاذب . فدخلت خادمته ليلة من الليالي بنار ، وهم نيام فسقطت شرارة في البيت فاحترق البيت ، واحترق هو وأهله ، واستجيب دعاؤه في نفسه . وروي عن ابن عباس هذه الحكاية نحو هذا إلا أنه ذكر اليهودي .
وقوله تعالى :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{ قُلْ يَا أهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا } يقول : ما تطعنون فينا وتعيبوننا ، { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ } أي سوى أنا قد آمنا بالله وآمنا ب { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } يعني : من القرآن ، { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } القرآن يعني : التوراة والإنجيل ، { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } يعني : لم تؤمنوا لفسقكم ، وعصيانكم . وقال الزجاج : معنى { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } هل تكرهون منا إلا إيماننا . وبفسقكم إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق ، لأنكم فسقتم ، ولم تثبتوا على دينكم ، لمحبتكم الرئاسة ومحبتكم المال .
وقوله تعالى { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك } قال مقاتل : وذلك أن اليهود ، قالوا للمؤمنين : ما نعلم أحداً من أهل هذه الأديان أقلّ حظاً في الدنيا ولا في الآخرة منكم ، فنزل { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ } يعني : أخبركم بشر من ذلك { مَثُوبَةً عِندَ الله } يعني : ثواباً عند الله فقالت اليهود : من هم؟ قال : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } فقال المسلمون لليهود : يا إخوة القردة والخنازير . فنكسوا رؤوسهم ، وخجلوا . ومثوبة صار نصباً للتمييز يعني : التفسير .
ثم قال : { وَعَبَدَ الطاغوت } قرأ حمزة { وَعَبَدَ الطاغوت } بنصب العين والدال ، وضم الباء ، وكسر التاء ، من الطاغوت ، لم يصح في اللغة أن يقال لجماعة : الأعبد . وإنما يقال : أعبد ، ولا يقال : عبد . وقرأ الباقون : { وَعَبَدَ الطاغوت } يعني : جعل منهم من عبد الطاغوت ، ومعناه : خذلهم حتى عبدوا الشيطان ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ { وَعَبَدَ الطاغوت } بضم العين ، ونصب الباء بالتشديد ، يعني : جمع عابد . يقال : عابد وعبَّد ، مثل راجع وركَّع ، وساجد ، وسُجَّد . وقرأ ابن مسعود ( وعبدوا الطاغوت ) يعني : يعبدون الطاغوت ، وقرأ بعضهم { وَعَبَدَ الطاغوت } بضم العين والباء ، ونصب الدال ، وهو جماعة العبيد . ويقال : عبيد وعُبُد ، على ميزان رغيف ورُغُف ، وسرير وسُرُر .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } يعني : شر منزلة عند الله { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل } يعني أخطأ عن قصد الطريق وهو الهدى .
ثم قال : { وَإِذَا الذين قَالُواْ ءامَنَّا } وهم المنافقون من أهل الكتاب . قالوا : صدقنا ووجدنا نعتك . وأرادوا بذلك أن يمدحهم المسلمون ، وهذا كقوله { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 188 ] فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } يعني : هم كافرون في الأحوال كلها ، ولا ينفعهم ذلك القول : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } يعني : عليم بمجازاتهم وهذا تهديد لهم .
ثم قال :
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{ وترى كَثِيراً مّنْهُمْ يسارعون فِى الإثم } يعني : المعصية { والعدوان } يعني : الظلم ، وهو الشرك ، { وَأَكْلِهِمُ السحت } يعني : الرشوة في الأحكام ، { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني : لبئس ما كانوا يتزودون من دنياهم لآخرتهم .
ثم قال : { لَوْلاَ ينهاهم الربانيون } يعني : هلاّ ينهاهم الربانيون يعني : علماؤهم وعبادهم . وإنما شكا من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف ، ويجالسونهم ، ويؤاكلونهم ، وكل عالم لم يأمر بالمعروف ، ويجالس أهل الظلم ، والمعصية ، فإنه يدخل في هذه الآية ، فقال : { والاحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } حين لم ينهوهم عن قولهم الإثم ، وأكلهم السحت ، ورضوا بفعلهم
قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } وذلك أن الله تعالى قد بسط عليهم الرزق ، فلما عصوه وجحدوا نعمته ، قتر عليهم الرزق ، فقالوا عند ذلك : يد الله محبوسة عن البسط ، فأمسك عنا الرزق .
قال الله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } يعني : أمسكت أيديهم عن الخير ، ويقال : هذا وعيد لهم ، غلت أيديهم في نار جهنم . ويقال : جُعِلوا بخلاء ، فلا يعطون الناس شيئاً مما أعطاهم الله تعالى .
ثم قال : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } يعني : عُذِّبوا وطُرِدوا من رحمة الله ، لقولهم ذلك . ثم قال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } يعني : رزقه واسع باسط على خلقه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } يقول : يرزق لمن يشاء مقدار ما يشاء ، فله خزائن السموات والأرض . وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قَالَ الله تَعَالى : لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ ، وَآخِرَكُمْ ، وَجِنَّكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ ، سَأَلَ كُلُّ رَجُلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ ، لَمْ يَنْقُصْ ذلك مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِي مِقْدَارَ مَا يُغْتَرَفُ مِنَ البَحْرِ بِرَأسِ إبْرَةٍ وَاحِدَةٍ »
ثم قال تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم } يعني : من اليهود ، { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن ، { مِن رَّبّكَ طغيانا } يعني : تمادياً بالمعصية ، { وَكُفْراً } وجحوداً بالقرآن يعني : كل ما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به ، فيزيد جحودهم في طغيانهم ، وإنما نسب ذلك إلى ما أنزله ، لأن ذلك سبب لطغيانهم وجحودهم . وهذا كما قال في آية أخرى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] يعني : أن ذلك سبب لخسرانهم .
ثم قال تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة } يعني : جعلهم الله مختلفين في دينهم ، متباغضين كما قال في آية أخرى : { لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ الحشر : 14 ] .
ثم قال : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } يقول : كلما أجمعوا أمرهم على المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرقه الله تعالى ، وأطفأ نار مكرهم ، أي : يسكته الله تعالى ، ووهن أمرهم ، وهذا على وجه الكناية كما قال : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ثم قال : { وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً } يعني : يعملون فيها بالمعاصي ، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى ، { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } يعني : لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي ، والله لا يحب أهل الفساد ، ولا عملهم .
وقوله تعالى :
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب } يعني : اليهود والنصارى ، { ءامَنُواْ } يعني : صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { واتقوا } الشرك والمعاصي ، { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم } يعني : غفرنا ذنوبهم ، { ولادخلناهم جنات النعيم } في الآخرة .
ثم قال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } يعني : أقرّوا بما فيهما ، وبيّنوا ما كتموا ، { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } يعني : بما أنزل إليهم من ربهم ، يعني : عملوا بما أنزل إليهم من ربهم في كتابهم؛ ويقال : القرآن . { لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } ، يعني : يرزقهم الله تعالى المطر من فوقهم ، في الوقت الذي ينفعهم ، { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني : النبات من الأرض ، وقال الزجاج : هذا على وجه التوسعة . يقال : فلان خيره من فوقه إلى قدمه ، يعني : لو أنهم فعلوا ما أمروا لأعطاهم الله الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، يعني : صاروا في الخير في الدنيا والآخرة .
وروى أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران .
ثم قال : { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } يعني عصبة وجماعة عادلة ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، من أهل التوراة والإنجيل { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } الذين لم يصدقوا ولم يؤمنوا .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام فجعلوا يستهزئون به ويقولون : إنك تريد أن نتخذك حَنَّاناً كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام ، فلما رأى ذلك سكت عنهم . فأمره الله أن يدعوهم ولا يمنعه عن ذلك تكذيبهم إياه فقال : { يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } يعني : من القرآن { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : كأنك لم تبلغ شيئاً من رسالته ، لأنه أمر بتبليغ جميع الرسالة . فإذا ترك البعض صار بمنزلة التارك للكل . كما أن من جحد آية من كتاب الله تعالى صار جاحداً للجميع ، ويقال : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : فما بلغت المبلغ الذي تكون رسولاً وروى «سمرة بن جندب» ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمُ فَإنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَدْ قَصَّرْتُ عَنْ شَيْءٍ مَنْ تَبْلِيغِ رِسَالاتِ رَبِّي فَأَخْبِرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي كَمَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبَلَّغَ " فقام الناس ، فقالوا : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ، ونصحت لأمتك ، وقضيت الذي عليك . وروى مسروق عن عائشة قالت : من حَدّثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي ، فقد كذب . ثم قرأت { يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } الآية .
ثم قال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } يعني : اليهود ويقال : كيد الكفار . وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه بالليل ، حتى نزلت هذه الآية فخرج إليهم وقال : " لا تَحْرُسُونِي فَإنَّ الله قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ "
ثم قال : { إِنَّ الله * يَهْدِي القوم الكافرين } يعني : لا يرشدهم إلى دينه ، ويقال : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا أُبَالِي مَنْ خَذَلَنِي مِنَ اليَهُودِ وَمَنْ نَصَرَنِي " قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر . { فَمَا بَلَّغْتَ } بلفظ الجماعة . وقرأ الباقون : { يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } بلفظ الواحد يغني عن الجماعة . ثم علّمه كيف يبلغ الرسالة فقال : { قُلْ ياأهل
1649;لكتاب لَسْتُمْ على شَىْء } من الدين ولا ثواب لأعمالكم { حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل } يعني : تعملوا بما في التوراة ، والإنجيل { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ } يعني : حتى تقروا بما أنزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وتعملوا به .
ثم قال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً } يعني : تمادياً بالمعصية ، وكفراً بالقرآن .
يعني : إنما عليك تبليغ الرسالة والموعظة ، فإن لم ينفعهم ذلك فليس عليك شيء . { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } يعني : لا تحزن عليهم إن كذبوك .
وروى محمد بن إسحاق بإسناده عن ابن عباس أنه قال : جاء رافع بن حارثة ، وسلام بن مشكم ، ومالك بن الضيف ، وقالوا : يا محمد : ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ وتؤمن بما عندنا من التوراة؟ وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَلَى ولكنكم أَحْدَثْتُمْ ، وَجَحَدْتُمْ ما فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ المِيثَاقِ ، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ فَبَرِئْتُ مِنْ إحْدَاثِكُمْ » فقالوا : فإنّا قد آمنا بما في أيدينا ، وإنا على الهدى والحق ، ولا نؤمن بك ، فنزل { قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل } .
قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر } قال في رواية الكلبي : هم قوم آمنوا بعيسى ، ولم يؤمنوا بغيره ، ولم يرجعوا . ويقال { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } بألسنتهم وهم المنافقون . ويقال : في الآية تقديم يعني : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } من آمن من اليهود والنصارى والصابئين ، { وَعَمِلَ صالحا } فلهم أجرهم عند ربهم . وقال : في هذه السورة { والصابئون } وقال في موضع آخر : { والصابئين } لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم معطوف على خبر إن ، كان فيه طريقان ، إن شاء رفع ، وإن شاء نصب ، كقوله : «إن زيداً قادم وعمرو» إن شاء نصب الثاني ، وإن شاء رفعه ، كقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر أَنَّ الله برىء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 3 ] وقد قرأ : ورسوله ولكنه شاذ ، وكذلك ها هنا جاز أن يقول : ( والصابئين ) { والصابئون } ، إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع .
ثم قال : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني : لمن آمن ، والذين سبق ذكرهم فلهم ثوابهم عند ربهم الجنة فلا خوف عليهم ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . قوله تعالى : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل } يعني : عهدهم في التوراة ، { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ } يعني : بما لا يوافق هواهم ، { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } مثال عيسى ومن قبله ، { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } مثل يحيى وزكريا ، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، فالله تعالى أمر النبي بتبليغ الرسالة ، وأمره بأن لا يحزن عليهم إن لم يؤمنوا ، لأنهم من أهل السوء الذين فعلوا هذه الأفعال .
ثم قال : { وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } يعني : ظنوا أن لا يبتلوا بتكذيبهم الرسل ، وقتلهم الأنبياء ، ويقال : ظنوا أن لا يعاقبوا ، ولا يصيبهم البلاء والشدة والقحط . ويقال : ظنوا أن قتل الأنبياء لا يكون كفراً . ويقال : ظنوا أن لا تفسد قلوبهم بالتكذيب وقتل الأنبياء . قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو : { أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } بضم النون . وقرأ الباقون بالنصب . فمن قرأ بالنصب ، بمعنى أن . ومن قرأ بالضم يعني : حسبوا أنه لا تكون فتنة . معناه : حسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم .
ثم قال تعالى : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } يعني : عموا عن الحق ، وصمّوا عن الهدى ، فلم يسمعوه ، { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } يقول : تجاوز عنهم ، ورفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } ويقال : معناه تاب الله على كثير منهم ، { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } ويقال : من تاب الله عليهم ، يعني : بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى التوراة { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال : { وَصَمُّواْ ثُمَّ } حين عبدوا العجل ، ثم تاب الله عليهم بعدما قتلوا سبعين ألفاً وهذا على جهة المثل . يعني : لم يعملوا بما سمعوا ، ولم يعتبروا بما أبصروا ، فصاروا كالعمي والصمي .
ثم قال : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل يعني : عليم بمجازاتهم .
قوله تعالى :
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } وذلك أن نصارى أهل نجران يزعمون أنهم مؤمنون بعيسى ، فأخبر الله تعالى أنهم كافرون بعيسى ، وأنهم كاذبون في مقالتهم ، وأخبر أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله ، وأنهم كاذبون على المسيح .
وهو قوله { وَقَالَ المسيح يَابَنِى إسراءيل ****اعبدوا الله } يعني : وحدوا الله وأطيعوه ، { رَبّى وَرَبَّكُمْ } يعني : خالقي وخالقكم ، ورازقي ورازقكم .
ثم قال : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله } يعني : ويموت على شركه ، { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } أن يدخلها ، { وَمَأْوَاهُ النار } يعني : مصيره إلى النار ، { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } يعني : ليس للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب . ثم أخبر أن الفريق الآخر من النصارى هم كفار أيضاً ، فقال : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة } فيه مضمر معناه : ثالث ثلاثة آلهة ، ويقال : ثلث من ثلاثة آلهة ، يعني : أباً وأماً وروحاً قدساً ، يعني : الله ومريم وعيسى . قال الله تعالى ردّاً عليهم : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد } يعني : هم كاذبون في مقالتهم ، ثم أوعدهم الوعيد إن لم يتوبوا فقال : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } يعني : إن لم يتوبوا ، ولم يرجعوا عن مقالتهم ، { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } فهذا لام القسم ، فكأنه أقسم بأنه ليصيبهم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني : إن أقاموا على كفرهم .
ثم دعاهم إلى التوبة فقال : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله } من النصرانية ، { وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } عن مقالتهم الشرك ، فإن فعلوا فإنَّ { والله غَفُورٌ } للذنوب { رَّحِيمٌ } بقبول التوبة ، ويقال : قوله : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه قال : توبوا إلى الله ، وكذلك كل ما يشبه هذا في القرآن ، مثل قوله : ( أتصبرون ) يعني : اصبروا .
ثم بيّن الله تعالى أن المسيح عبده ورسوله ، وبيّن الحجة في ذلك ، فقال :
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلاَّ رَسُولٌ } يعني : هو رسول كسائر الرسل ، { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } وهو من جماعة الرسل ، { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } شبه النبيين ، وذلك حين صدقت جبريل حين قال لها : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] والصديق في اللغة هو المبالغ في التصديق . وقال في آية أخرى : { مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } يعني : المسيح وأمه كانا يأكلان ويشربان . ومن أكل وشرب ، تكون حياته بالحيلة ، والرب : لا يأكل ولا يشرب . ويقال : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } كناية عن قضاء الحاجة . لأن الذي يأكل الطعام . فله قضاء الحاجة . ومن كان هكذا لا يصلح أن يكون ربّاً .
ثم قال : { انظر كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الايات } يعني : العلامات في عيسى ومريم أنهما لو كانا إلهين ما أكلا الطعام ، { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } يقول : من أين يكذبون بإنكارهم بأني واحد . وقال القتبي : { أنى يُؤْفَكُونَ } يعني : أنى يصرفون عن الحق ويعدلون عنه . يقال : أفك الرجل عن كذا ، إذا عدل عنه .
ثم أخبر الله تعالى عن جهلهم ، وقلة عقلهم ، فقال : { قُلْ } يا محمد ، { أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني : عيسى ، { مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ } يقول : ما لا يقدر لكم ، { ضَرّا } في الدنيا { وَلاَ نَفْعاً } في الآخرة : وتركتم عبادة الله ، { والله هُوَ السميع } لقولكم ، { العليم } بعقوبتكم .
وقوله تعالى : { قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } يقول : لا تجاوزوا الحد ، والغلو : هو الإفراط والاعتداء . ويقال : لا تتعمقوا .
ثم قال : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } وهم الرؤساء من أهل الكتاب ، يعني : لا تتّبعوا شهواتهم ، لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان ، { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } وهم رؤساء النصارى ضلوا عن الهدى ، { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } من الناس ، { وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل } يعني : اخطؤوا عن قصد الطريق . وقال مقاتل : نزلت في برصيصا العابد ، فجاءه الشيطان فقال له : قد فضلك الله على أهل زمانك لكي تحل لهم الحرام ، وتحرم عليهم الحلال ، وتسن لهم سنة ، ففعل فاتبعه الناس بذلك ، ثم ندم على فعله . فعمد إلى سلسلة ، فجعلها في ترقوته فعلق نفسه فجاءه ملك ، فقال له : أنت تتوب فكيف لك من تابعك؟ فذلك قوله : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل } وقوله تعالى :
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{ لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل } يعني : اليهود ، { على لِسَانِ دَاوُودُ } وذلك أن الله تعالى مسخهم قردة ، حيث اصطادوا السمك يوم السبت ، { وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } يعني : وعلى لسان عيسى ابن مريم ، حيث دعا عليهم ، فمسخهم الله تعالى خنازير . ويقال : لعن الذين كفروا ، أي : أُبعِدوا من رحمة الله ، على لسان داود ، وعيسى ابن مريم . وقال الزجاج : يحتمل معنيين : أحدهما أنهم مسخوا بلعنتهما ، فجعلوا قردة وخنازير . وجائز أن يكون داود وعيسى لعنا من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يعني : لعن الكفار الذين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } يعني : الذين أصابهم من اللعنة بما عصوا يعني : بعصيانهم { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } في دينهم ، { كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } يعني : لم يمتنعوا عن قبيح من الأفعال ، ورضوا به { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } حين لم ينهوا عن المنكر .
ثم قال : { ترى كَثِيراً مّنْهُمْ } قال مقاتل : يعني : اليهود { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } من مشركي العرب . وقال الكلبي : { ترى كَثِيراً } من المنافقين { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } يعني : اليهود ، { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } معناه : لبئس الفعل الذي كانوا يستوجبون به السخط من الله تعالى ، ويوجب لهم العقوبة والعذاب { وَفِى العذاب هُمْ خالدون } يعني : دائمون .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } يعني : المنافقين ، لو كانوا يصدقون بتوحيد الله ، ونبوة محمد حقيقة وما أنزل إليه من القرآن { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } يعني : لو كان إيمان المنافقين حقيقة ، ما اتخذوا اليهود أولياء في العون والنصرة { ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون } يعني : ناقضين للعهد . ثم قال :
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود } وهم يهود بني قريظة ، وبني النضير ، { والذين أَشْرَكُواْ } يعني : مشركي أهل مكة ، { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } قال بعضهم : إنما أراد الذين هم النصارى في ذلك الوقت ، لأنهم كانوا أقل مظاهرة على المؤمنين ، وأسرع إجابة للإسلام . وقال أكثر المفسرين : إن المراد به النصارى الذين أسلموا ، وفي سياق الآية دليل عليه ، وهو قوله : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين } [ المائدة : 85 ] وروى أسباط عن السدي ، قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً من الحبشة ، وسبعة قسيسين ، وخمسة رهبان ينظرون إليه ويسألونه ، فلما لقوه ، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي . فهاجر النجاشي معهم . فمات في الطريق . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .
وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هم الوفد الذين قدموا مع جعفر الطيار من أرض الحبشة . وعن الزهري ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : ما زلنا نسمع أنها نزلت في النجاشي وأصحابه .
ثم قال : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً } يعني : المتعبدين ، وأصحاب الصوامع ، ويقال : { قِسّيسِينَ } علماؤهم ، { وَرُهْبَاناً } يعني : خائفين من الله تعالى ، وقال بعض أهل اللغة : القس والقسيس : رؤساء النصارى ، والقس بفتح القاف النميمة .
ثم قال : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يعني : لا يتعظمون على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } يعني : تسيل من الدمع ، { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } يقول : مما عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم نعته وصفته ، { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا } بالقرآن بأنه من الله ، { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } يعني : المهاجرين والأنصار . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : { مَعَ الشاهدين } هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون له بالبلاغ ويشهدون للرسل أنهم قد بلغوا الرسالة .
ثم قال : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم ، قال لهم كفار قومهم : تركتم ملة عيسى ويقال : إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم . وقالوا : لم تركتم دينكم القديم ، وأخذتم الدين الحديث؟ . فقالوا : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } ومعناه : وما لنا لا نصدق بالله أن محمداً رسوله ، والقرآن من عنده ، { وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق } يعني : وبما جاءنا من الحق ، { وَنَطْمَعُ } يقول : نرجو ، { أَن يُدْخِلَنَا مَعَ القوم الصالحين } يعني : مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى ، وحكى عن مقالتهم ، وأخبر عن ثوابهم في الآخرة .
فقال : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } من التوحيد ، { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين } يعني : ثواب الموحدين المطيعين .
وقد احتج بعض الناس بهذه الآية ، أن الإيمان هو مجرد القول ، لأنه قال : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } ولكن لا حجة لهم فيها ، لأن قولهم كان مع التصديق ، والقول بغير التصديق ، لا يكون إيماناً .
ثم بيّن عقوبة من ثبت على كفره ، ولم يؤمن ، فقال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } يعني : مات على ذلك ، { أولئك أصحاب الجحيم } والجحيم هو النار الشديدة الوقود . يقال : جحم فلان النار ، إذا شدد وقودها . ويقال : لعيْن الأسد جحمة لشدة توقدها .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{ الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً ، وخوف النار والحساب ، فاجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون ، فتواثقوا بأن يخصوا أنفسهم ، ويترهبوا فنهاهم الله عن ذلك . فنزلت هذه الآية : { الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } .
قال : حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدّثنا أبو القاسم أحمد بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن فضيل ، قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن مدرك بن قزعة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله غلبني حديث النفس ، ولا أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك ، قال صلى الله عليه وسلم : « وَمَا تُحَدِّثُكَ نَفْسُكَ يَا عُثْمَانُ » ؟ قال : تحدثني أن أخصي نفسي . قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ ، فَإِنَّ إِخْصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ » قال : يا رسول الله ، إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال . فقال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ تَرْهِيبَ أُمَّتِي ، الجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ لانْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ » قال : يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض؟ . قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ : فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الغَزْوُ فِي سَبِيلِ الله ، وَالحَجُّ وَالعُمْرَةُ » قال : فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله؟ قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ صَدَقَتَكَ يَوْماً بِيَوْمٍ ، وَتَكُفُّ نَفْسَكَ وَعِيَالَكَ ، وَتَرْحَمُ المَسَاكِينَ ، وَاليَتِيمَ ، أَفْضَلُ مِنْ ذلك » فقال : يا رسول الله ، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خَوْلة . فقال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ ، فَإِنَّ الهِجْرَةَ فِي أُمَّتِي ، مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ الله ، أَوْ هَاجَرَ إِليَّ فِي حَيَاتِي ، أَوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي ، أَوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأَةٌ ، أَوِ امْرَأَتَانِ ، أَوْ ثَلاثٌ ، أَوْ أَرْبَعٌ » قال يا رسول الله فإن نهيتني أن أطلقها ، فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها . قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ المُسْلِمَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ ، كَانَ لَهُ وَصِيفاً فِي الجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ فَرَطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ القِيامَةِ . فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْم القِيَامَةِ » فقال : يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم . قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ ، فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّحْمَ ، وَآكُلُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُطْعِمَنِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيهِ »
قال : يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا أمسّ الطيب . قال : « مَهْلاً يَا عُثْمَانُ ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بَالطَّيِّبِ غبّاً غبّاً » وقال : « لا تَتْرُكْهُ يَا عُثْمَانُ ، لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ ، صَرَفَتِ المَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ » ونزلت هذه الآية { لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } .
{ وَلاَ تَعْتَدُواْ } يقول : يعني : لا تحرموا حلاله ، { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } . ويقال : إن مُحَرِّم ما أحل الله كمُحِلِّ ما حرم الله .
ثم قال : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً } من الطعام والشراب ، { واتقوا الله } ولا تحرموا ما أحلّ الله لكم ، { الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } يعني : إن كنتم مصدّقين به ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه . ثم أمرهم الله تعالى بأن يكفروا أيمانهم ، لأنه لما حرموا الحلال على أنفسهم ، كان ذلك يميناً منهم . ولهذا قال أصحابنا : إذا قال الرجل لشيء حلال : هذا الشيء عليّ حرام يكون ذلك يميناً ، فأمرهم الله تعالى بأن يأكلوا ، ويحنثوا في أيمانهم ، وفي الآية دليل : أن الرجل إذا حلف على شيء ، والحنث خير له ، ينبغي أن يحنث ويكفر بيمينه . وفيها دليل : أن الكفارة بعد الحنث ، لأنه أمرهم بالحنث ، بقوله : فكلوا ثم أمرهم بالكفارة وهو قوله تعالى :
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } قال ابن عباس : اللغو أن يحلف الرجل على شيء بالله ، وهو يرى أنه صادق ، وهو فيه كاذب . وهكذا روي عن أبي هريرة أنه كان يقول : لغو اليمين : أن يحلف الرجل على شيء ، يظن أنه الذي حلف عليه هو صادق ، فإذا هو غير ذلك . وقال الحسن : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك ، وليس هو كذلك . وقال سعيد بن جبير : الرجل يحلف باليمين الذي لا ينبغي أن يحلف بها ، يحرم شيئاً هو حلال ، فلا يؤاخذه الله بتركه ، لكن يؤاخذه الله إن فعل . وقال زيد بن أسلم : هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا ، وأخرجني الله من مالي وولدي ، وقالت عائشة : اللغو : هو قول الرجل لا والله ، وبلى والله ، على شيء لم يعقده قلبه .
ثم قال : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية حفص { عَقَّدتُّمُ } بالتشديد ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية أبي بكر : { عَقَّدتُّمُ } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر : { بِمَا عَقَّدتُّمُ } فمن قرأ : { عاقدتم } فهو من المعاقدة ، والمعاقدة تجري بين الاثنين ، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه بشيء ، ومن قرأ بالتشديد فهو للتأكيد . ومن قرأ بالتخفيف لأن اليمين تكون مرة واحدة . والتشديد تجري في التكرار والإعادة .
وروى عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله قال : سئل وهب بن منبه عن قوله : { عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } قال : الأيمان ثلاثة : لغو وعقد وصبر ، فأما اللغو : فلا والله ، وبلى والله ، لا يعقد عليه القلب ، وأما العقد : أن يحلف الرجل لا يفعله فيفعله ، فعليه الكفارة ، وأما الصبر : بأن يحلف على مال ليقتطعه بيمينه ، فلا كفارة له .
وروى حسين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري قال : الأيمان ثلاثة : يمين تكفر ، ويمين لا تكفر ، ويمين لا يؤاخذ الله بها . وذكر إلى آخره ثم بيّن كفارة اليمين فقال تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال : الغداء والعشاء . وسئل شريح عن الكفارة فقال : الخبز والزيت والخل والطيب . فقال السائل : أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال : ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس . وروي عن ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنهما قالا : لكل مسكين نصف صاع من حنطة يعني : إذا أراد أن يدفع إليهم ، وإن أراد أن يطعمهم ، فالغداء والعشاء .
ثم قال : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال إبراهيم النخعي : لكل مسكين ثوب وقال الحسن : ثوبان أبيضان ثم قال : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني : يعتق رقبة ، ولم يشترط ها هنا المؤمنة ، فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة ، فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة ، { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه { فَصِيَامُ } يعني : صيام { ثلاثة أَيَّامٍ } .
وروى سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح قال : سئل طاوس عن صيام الكفارة ، قال : يفرق . قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ : متتابعات ، قال طاوس : فهو أيضاً متتابعات . وروى مالك عن حميد ، عن مجاهد قال : كان أبي يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات في الكفارة اليمين .
ثم قال : { ذلك } يعني : الذي ذكر { كَفَّارَةُ أيمانكم } عن الطعام والكسوة والعتق والصوم ، ثم قال : { إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أيمانكم } يعني : ليعلم الرجل ما حلف عليه ، فليكفر يمينه إذا حنث ، { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } يعني : أمره ونهيه ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لكي تشكروا رب هذه النعمة ، إذ جعل لكم مخرجاً من أيمانكم بالكفارة ، والكفارة في اللغة : هو التغطية يعني : يغطي إثمه .
قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ } نزلت هذه الآية في شأن سعد بن أبي وقاص ، لأنهم كانوا يشربونها ، وكانت لهم حلالاً . فجرى بين سعد وبين رجل من الأنصار افتخار في الأنساب ، فاقتتلا ، فشج رأس سعد ، فدعا عمر بن الخطاب ، فقال : اللهم أرنا رأيك في الخمر ، فإنها متلفة للمال ، مذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة { يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 219 ] فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية : { إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان } يعني : حرام ، وهو من تزيين الشيطان ، { فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } يعني : فاتركوا شربها ، ولم يقل : فاجتنبوها ، لأنه انصرف إلى المعنى ، ومعناه : اجتنبوا ما ذكرنا ونهيناكم عن ذلك ، قوله : { وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأنعام : 141 ] ولم يقل : من ثمرها .
ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله } يعني : عن طاعة الله ، { وَعَنِ الصلاة } لأنهم مُنِعوا عن الصلاة إذا كانوا سكارى . ولأنه إذا سكر لا يعقل الطاعة وأداء الصلاة .
ثم قال : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } يعني : انتهوا عن شربها ، فقال عمر : قد انتهينا يا رب . وعن عطاء بن يسار : أن رجلاً قال لكعب الأحبار : أحُرِّمت الخمرة في التوراة؟ . قال : نعم هذه الآية { إِنَّمَا الخمر والميسر } مكتوب في التوراة : إنا أنزلنا الحق لنذهب به الباطل ، وتبطل به اللعب والدفف والمزامير والخمر مرة لشاربها ، أقسم الله تعالى بعزه وجلاله ، أن من انتهكها في الدنيا ، أعطشته في الآخرة يوم القيامة ، ومن تركها بعدما حرمتها لأسقينها إياه في حظيرة القدس ، قيل : وما حظيرة القدس؟ قال : الله هو القدس ، وحظيرته الجنة .
ثم قال تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } يعني : في تحريم الخمر ، { واحذروا } عن شربها ، { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } يقول : أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول { فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } فهذا تهديد لمن شرب الخمر بعد التحريم ، فلما نزلت هذه الآية قال : حُييُّ بن أخطب : فما حال من مات منهم وهم يشربونها . فعيّر بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ذلك ، فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } يعني : شربوا قبل تحريمها ، ولم يعرفوا تحريمها .