كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قوله تبارك وتعالى : { يس } قرأ حمزة بين الكسر والفتح . وقرأ الكسائي بالإمالة . وقرأ الباقون : بالفتح . وقرأ ابن عامر ، والكسائي : { يس والقرءان } مدغم بالنون . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة : بإظهار النون . وكل ذلك جائز في اللغة . وقرىء في الشاذ { يَاسِينَ } بنصب النون ، ومعناه : اتل ياسين . لأن يس اسم سورة . وقراءة العامة بالتسكين ، لأنها حروف هجاء ، فلا تحتمل الإعراب مثل قوله تعالى : { الم } وروي عن ابن عباس في تفسير قوله : { يس } يعني : يا إنسان بلغة طيىء . وهكذا قال مقاتل عن قتادة ، والضحاك . وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال : { يس } يعني : يا محمد . وروى معمر عن قتادة قال : { يس } اسم من أسماء القرآن . ويقال : افتتاح السورة . وقال مجاهد : هذه فواتح السور يفتتح بها كلام رب العالمين . وقال شهر بن حوشب . قال كعب : { يس } قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فقال : { يس والقرءان الحكيم } ويا محمد { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } وقال ابن عباس في قوله : { والقرءان الحكيم } أي : أحكم حلاله ، وحرامه ، وأمره ، ونهيه . ويقال : حكيم يعني : محكم من التناقض والعيب . ويقال : { الحكيم } أي : الحاكم كالعليم . يعني : العالم . يعني : القرآن حاكم على جميع الكتب التي أنزلها الله تعالى من قبل { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } فهذا جواب القسم ، ومعناه : يا إنسان { والقرءان الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } يعني : رسولاً كسائر المرسلين جواباً لقولهم : لست مرسلاً { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : إنك على صراط مستقيم ويقال : هذا نعت للرسل يعني : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } الذين كانوا على صراط مستقيم ، أي : على طريق الإسلام .
ثم قال عز وجل : { تَنزِيلَ العزيز الرحيم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم في إحدى الروايتين { تَنزِيلَ } بضم اللام ومعناه : هذا القرآن تنزيل أو هو تنزيل العزيز الرحيم ، وقرأ الباقون { تَنزِيلَ } بالنصب ، ومعناه : نزّله تنزيلاً فصار نصباً بالمصدر .
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
ثم قوله تعالى : { لّتُنذِرَ } يعني : لتخوف بالقرآن { قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } يعني : كما أنذر آباؤهم الأولون { فَهُمْ غافلون } عن ذلك يعني : عما أنذر آباؤهم .
ثم قال عز وجل : { لَقَدْ حَقَّ القول } أي : وجب القول بالعذاب { على أَكْثَرِهِمْ } أي : على الكفار . ويقال : { لَقَدْ حَقَّ القول } وهو قوله : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 وغيرها ] ويقال : { القول } كناية عن العذاب أي : وجب عليهم العذاب { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون بالقرآن { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } قال مقاتل : نزلت في بني مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليدفعنه بحجر ، فأتاه وهو يصلي ، فرفع الحجر ليدمغه ، فيبست يده إلى عنقه ، والتزق الحجر بيده ، ورجع إلى أصحابه ، فخلصوا الحجر من يده . ورجل آخر من بني المغيرة ، أتاه ليقتله ، فطمس الله على بصره ، فلم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، فلم يرهم حتى نادوه ، فذلك قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا *** فَهِىَ **إِلَى الاذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } وذكر في رواية الكلبي نحو هذا ، وقال بعضهم : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } أي : نجعل في أعناقهم أغلالاً يوم القيامة . ويقال : معناه { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } أي : جعلنا أيديهم ممسكة عن الخيرات ، مجازاة لكفرهم . { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } أي : حائلاً لا يهتدون إلى الإسلام ، ولا يبصرون الهدى ، وقال بعضهم : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } يعني : أيديهم . ولم يذكر في الآية اليد ، وفيها دليل ، لأن الغل لا يكون إلا باليد إلى العنق . فلما ذكر العنق فكأنما ذكر اليد . وروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، أنهما قرآ : إنا جعلنا في { أيمانهم *** أغلالا } . وقرأ بعضهم { فَى أَيْدِيهِمْ } . وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد . لأنه لا يجوز أن يكون الغل بأحدهما دون الآخر كقوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [ النحل : 81 ] ولم يذكر البرد لأن في الكلام دليلاً عليه .
ثم قال : { فَهِىَ * إِلَى الاذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : رددنا أيديهم إلى أعناقهم { إِلَى الاذقان } أي : الحنك الأيسر { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : رافعو الرأس إلى السماء ، غاضّو الطرف لا يبصر موضع قدميه . وقال قتادة : أي مغلولين من كل خير .
ثم قال عز وجل : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } أي : ظلمة { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } أي : ظلمة { فأغشيناهم } بالظلمة { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآء عَلَيْهِمْ } الآية .
يعني : خوفتهم ، اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التوبيخ { وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ } يعني : خوفتهم { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : أم لم تخوفهم لا يصدقون . إنما نزلت الآية في شأن الذين ماتوا على كفرهم ، أو قتلوا على كفرهم . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { سَدّا } بنصب السين في كلاهما . وقرأ الباقون : بالضم . وقال أبو عبيدة : قراءتنا بالضم لأنهما من فعل الله تعالى ، وليس من فعل بني آدم . وقال القتبي : المقمح الذي يرفع رأسه ، ويغض بصره . يقال : بعير قامح إذا روي من الماء فقمحت عيناه . وقال : والسد الجبل { فأغشيناهم } يعني : أعمينا أبصارهم عن الهدى .
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
ثم قال عز وجل : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } يعني تخوف بالقرآن من اتبع الذكر ، يعني من قبل الموعظة وسمع القرآن { وَخشِىَ الرحمن بالغيب } يعني : أطاعه في الغيب { فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } في الدنيا { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } في الآخرة .
ثم قال عز وجل : { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى } يعني : نبعثهم في الآخرة { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } يعني : نحفظ ما أسلفوا ، وما عملوا من أعمالهم . ويقال : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } يعني : تكتب أعمالهم الكرام الكاتبون ، وما عملوا من خير أو شر { وَءاثَارَهُمْ } يعني : ما استنوا من سنة خير أو شر عملوه ، واقتدى بهم من بعدهم ، فلهم مثل أجورهم ، أو عليهم مثل أوزارهم من غير أن ينقص منه شيئاً ، وهذا كقوله عز وجل : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ » إلى آخره وقال مجاهد : { وَءاثَارَهُمْ } يعني : خطاهم . وروى مسروق أنه قال : مَا خَطَا عَبْدٌ خُطْوَةً إلاَّ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ أوْ سَيّئَةٌ . وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : إن بني سلمة ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يَا بَنِي سَلَمَةَ دِيَارُكُمْ فَإِنَّمَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ » . ثم قال : { وَكُلَّ شىْء أحصيناه } أي : حفظناه وبيَّناه { فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } يعني : في اللوح المحفوظ .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قوله عز وجل : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } أي : وصف لهم شبهاً { أصحاب القرية } أهل القرية وهي أنطاكية { إِذْ جَاءهَا المرسلون } يعني : رسل عيسى عليه السلام { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } قال مقاتل : هما تومان وطالوس { فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } يعني : قويناهما بثالث وهو شمعون وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { فَعَزَّزْنَا } بالتخفيف ، ومعناهما : غلبنا . نقول : عزه يعزه إذا غلبه ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الخطاب } [ ص : 23 ] يعني : غلبني في القول . وقرأ الباقون : { فَعَزَّزْنَا } بالتشديد ، ومعناه : قوينا ، وشددنا الرسالة برسول ثالث ، وذلك أن عيسى ابن مريم عليهما السلام رسول إلى أنطاكية . وإنما كان إرساله بإذن الله عز وجل . فأضاف إليه حيث قال : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } ثم بعث بعد ذلك شمعون . وروي في بعض الروايات أن عيسى عليه السلام أوصى إلى الحواريين أن يتفرقوا في البلدان . ثم رفع عيسى إلى السماء ، وكان مجيء الرسل بعدما رفع عيسى . وفي بعض الروايات : أنه أرسل الرسل ، ثم رفع ، وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء عليهم السلام بدعاء عيسى عليه السلام فلما جاء الرسولان الأولان ، ودخلا أنطاكية ، وجعلا يناديان فيها بالإيمان بالرحمن ، يعني : يدعوان إلى الإيمان بالله عز وجل ، ويزجران أهلها عن عبادة الأصنام والشيطان ، فأخذوهما شرط الملك ، وأتَوْا بهما إلى الملك ، فلما دخلا على الملك ، قالا : إن الأوثان التي تعبدون ليست بشيء ، وإن إلهاكم الله الذي في السماء ، وأن من مات منكم صار إلى النار . فغضب الملك ، وجلدهما ، وسجنهما ، ثم حضر شمعون ودخل أنطاكية ، وجاء إلى السجن فقال للسجان : ائذن لي حتى أدخل السجن ، فإني أريد أن أدفع إلى كل واحد كسرة خبز ، فأذن له . فدخل وجعل يعطي لكل واحد كسرة خبز ، حتى انتهى إلى صاحبيه ، فقال لهما : إني أريد أن آتي الملك ، وأطلب فكاككما ، حتى أخلصكما ، فإنكما لم تأتيا الأمر من قبل وجهه . ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف ، وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زماناً من دهرها ثم ولدت غلاماً ، فأسرعت بشأنه ، فأطعمته الخبز قبل أوانه ، فغص بلقمة فمات . فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء ، فأصابكما البلاء ، ثم انطلق شمعون ، وتركهما ، فقعد عند بيت الأصنام ، حتى إذا دخلوا بيت الأصنام ، دخل في صلاتهم ، فقام بين يدي تلك الأصنام يصلي ، ويتضرع ، ويسجد لله تعالى ، ولا يشكون أنه على ملتهم ، وأنه إنما يدعو آلهتهم ، ففعل ذلك أياماً ، فذكروا ذلك للملك ، فدعاه ، وكلمه ، وقال له : من أين أنت؟ فقال : أنا رجل من بني إسرائيل ، وقد انقرض أهلي ، وكنت بقيتهم ، وجئت إلى أصحابك آنس بهم ، وأسكن إليكم ، فسأله الملك عن أشياء ، فوجده حسن التدبير ، والرأي فلبث فيهم ما شاء الله ، فلما رأى أمره قد استقام ، قال : يا أيها الملك إنِّي قد بلغني أنك سجنت رجلين منذ زمان يدعوانك إلى إله غير إلهاك ، فهل لك أن تدعوهما ، فأسمع كلاهما وأخاصمهما عنك؟ فقال الملك : نعم .
فدعاهما ، وأقيما بين يديه ، فقال لهما شمعون ، أخبراني عن إلهاكما؟ فقالا : إنه يبرىء الأكمه والأبرص ، فدعي برجل ولد أعمى فدعوا الله تعالى ، فأبصر الأعمى . قال شمعون : فأنا أفعل مثل ذلك . فأتي بآخر ، فدعا شمعون رضي الله عنه فبرىء ، فقال لهما شمعون ، لا فضل لكما عليّ بهذا . ثم أتي برجل أبرص ، فدعوا ، فبرىء ، وفعل شمعون بآخر مثل ذلك . فقال لهما شمعون : فهل عندكما شيء غير هذا؟ فقالا : نعم إن ربنا يحيي الموتى . فقال شمعون : أنا لا أقدر على ذلك . ثم قال للملك : هل لك أن تأتي بالصنم فلعله يحيي الموتى ، فيكون لك الفضل عليهما ولإلاهك؟ فقال الملك : إنك تعلم أنه لا يسمع ، ولا يبصر ، فكيف يحيي الموتى؟ ثم قال له شمعون سلهما هل يستطيعان أن يفعلا مثل ما قالا؟ فقال الملك : إن عندنا ميتاً قد مات منذ سبعة أيام ، وكان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه ، واستأذنوا في دفنه ، فأمرهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه ، فَأمَرَهم بإحضار ذلك الميت ، فلم يزالا يدعوان الله تعالى ، وشمعون يعينهما بالدعاء في نفسه ، حتى أحياه الله تعالى . فقال شمعون : أنا أشهد أنهما صادقان وأن إلههما حق ، فاجتمع أهل المصر ، وقالوا : إن كلمتهم كانت واحدة ، فرجموهم بالحجارة ، وجاء أب الغلام ، فأسلم ، وقتل أب الغلام أيضاً ، وهو حبيب بن إسرائيل النجار . ثم إن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام فصاح صيحة فماتوا كلهم ، فذلك قوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ } يعني : هؤلاء الثلاثة { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } وأروهم العلامة .
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله عز وجل : { قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } يعني : آدمي مثلنا { وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء } يعني : لم يرسل الرسل من الآدميين { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } بأنكم رسل الله تعالى . يعني : أرسلكم عيسى بأمر الله تعالى ، فأنكروا ذلك { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ } يعني : أن الرسل قالوا : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } يعني : أرسلنا عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى { وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } يعني : قال أهل أنطاكية : إنا تشاءمنا بكم ، وهذا الذي يصيبنا من شؤمكم ، وهو قحط المطر { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } يعني : لنقتلنّكم { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طائركم مَّعَكُمْ } يعني : شؤمكم معكم ، وبأعمالكم الخبيثة . ويقال : إن الذي يصيبكم ، كان مكتوباً في أعناقكم ، { أَءن ذُكّرْتُم } يعني : إن وعظتم بالله . قرأ نافع وأبو عمرو { أَيْنَ } بهمزة واحدة ممدودة . وقرأ الباقون : بهمزتين . وقرأ زر بن حبيش : { ءانٍ ذُكّرْتُم } بهمزة واحدة مع التخفيف والفتح . يعني : لأنكم وعظتم؟ فلم تتعظوا . ومن قرأ بالاستفهام فمعناه : إن وعظتم تطيرتم . قالوا : هذا جواباً لقولهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } ويقال : معناه { أَءن ذُكّرْتُم } . يعني : حين وعظتم بالله تشاءمتم بنا .
ثم قال : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } يعني : مشركون .
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قوله تعالى : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة } يعني : من وسط المدينة ، وهو حبيب بن إسرائيل النجار { رَجُلٌ يسعى } يعني : يسعى في مشيه . وقال بعضهم : هو الذي عاش ابنه بعد الموت ، بدعاء الرسل ، فجاء وأسلم . وقال بعضهم : كان ابنه مريضاً ، فبرىء بدعوة الرسل ، فصدق بهم ، فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل ، جاء ليمنع الناس عن قتلهم . وقال قتادة : كان في غار يدعو ربه فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم { قَالَ يَا قَوْمٌ اتبعوا المرسلين } يعني : دين المرسلين ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجراً؟ فقالوا : لا . فقال : للقوم { اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً } يعني : على الإيمان { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } يدعوكم إلى التوحيد . فقال له قومه : تبرأت عن ديننا ، واتبعت دين غيرنا . فقال : { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } يعني : خلقني . قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين : { وَمَا لِىَ } بسكون الياء . وقرأ الباقون : بالفتح . وهما لغتان وكلاهما جائز .
ثم قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني : تصيرون إليه بعد الموت ، وهذا كقوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ آل عمران : 180 ] فقالوا له : ارجع إلى ديننا . فقال حبيب : { أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } يعني : أعبد من دونه أصناماً { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ } يعني : ببلاء وشدة إذا فعلت ذلك { لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً } يعني : لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي { وَلاَ يُنقِذُونَ } يعني : لا يدفعون عني الضرر { إِنّى إِذاً لَّفِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : إني إذا فعلت ذلك لفي خسران بيّن { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون } يعني : فاشهدوني ، وأعينوني بقول لا إله إلا الله . وقال ابن عباس : أُلقي في البئر وهو الرس كما قال { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 12 ] وقال قتادة : قتلوه بالحجارة . وهو يقول : رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون . وقال مقاتل : أخذوه ووطؤوه ، تحت أقدامهم ، حتى خرجت أمعاؤه ، ثم ألقي في البئر ، وقتلوا الرسل الثلاثة . فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة ف { قِيلَ } له { ادخل الجنة قَالَ ياليت ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى } وذلك حين دخلها ، وعاين ما فيها من النعيم ، تمنى أن يسلم قومه فقال : { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى } بالذي غفر لي ربي . ويقال : بمغفرتي . ويقال : بماذا غفر لي ربي؟ فلو علموا ، لآمنوا بالرسل .
ثم قال : { وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين } أي : الموحدين في الجنة . نصح لهم في حياته ، وبعد وفاته .
يقول الله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السماء } يعني : من بعد حبيب النجار { مِن جُندٍ } من السماء ، يعني : الملائكة { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } يعني : لم نبعث إليهم أحداً { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } يعني : ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام { فَإِذَا هُمْ خامدون } يعني : ميتون لا يتحركون { خامدون ياحسرة عَلَى العباد } يعني : يا ندامة على العباد في الآخرة .
يعني : يقولون : يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام { مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ } في الدنيا { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
ثم خوّف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } يعني : ألم يعلموا؟ ويقال : ألم يخبروا كم أهلكنا { قَبْلَهُمْ مّنَ القرون } يعني : كم عاقبنا من القرون الماضية { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الدنيا { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } قرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، بتشديد الميم . وقرأ الباقون : بالتخفيف . فمن قرأ بالتشديد فمعناه : وما كل إلا جميع . ومن قرأ بالتخفيف فما زائدة ومؤكدة . والمعنى وإن كل لجميع لدينا محضرون . يعني : يوم القيامة محضرون عندنا ، ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه ، فيعرفوا توحيده .
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
قوله تعالى { وَآيَةٌ لَهُمُ } يعني علامة وحدانيته { الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } يغني الأرض اليابسة أحييانها بالمطر لتنبت { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } يعني الحبوب كلها { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا } يعني وخلقنا في الأرض { جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } يعني البساتين والكروم { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون } يعني أجرينا في الأرض الأنهار تخرج ن العيون { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } يعني من الثمرات { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم } يعني لم تعمل أيديهم ، ويقال : والذي عملت أيديهم مما يزرعون { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } رب هذه النعم فيوحدوه ، وقرأ حمزة والكسائي { ثَمَرِهِ } بالضم . وقرأ الباقون : بالنصب . والثَّمر بالنصب ، جماعة الثمرة . والثمرات جمع الجمع وهو الثمر ، مثل كتاب وكتب . والثُّمر بالضم جمع الثمار . قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : { وَمَا عَمِلَتْ } بغير هاء . وقرأ الباقون : بالهاء . ومعناهما واحد .
ثم قال : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر ، يعني : اشكروا رب هذه النعم ووحدوه .
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
ثم قال عز وجل : { سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا } يعني : تنزيهاً لله عز وجل الذي خلق الأصناف كلها { مِمَّا تُنبِتُ الارض } يعني : ألواناً من النبات والثمار . ففي كل شيء خلق الله تعالى دليلاً على وحدانيته تعالى وربوبيته { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } يعني : خلق من جنسهم أصناف الذكر والأنثى ، وألواناً مختلفة { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : وخلق من الخلق ما لا يعلمون ، وهذا كقوله : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها ، فقال عز وجل : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل } يعني : علامة وحدانيته الليل { نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } يعني : نخرج ونميز منه النهار { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } يعني : داخلون في الظلمة . ويقال : يبقون في الظلمة . ويقال : إن الله خلق الدنيا مظلمة .
ثم قال : { والشمس } سراجاً ، فإذا طلعت الشمس ، صارت الدنيا مضيئة . وإذا غربت الشمس ، بقيت الظلمة . كما كانت ، وهو قوله تعالى : { نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } يعني : ننزع الضوء منه { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } يعني : يبقون في الظلمة . ويقال : نسلخ الليل . يعني : نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى منه شيء من ضوء النهار ، كما نسلخ الليل من النَّهَار ، فكذلك نسلخ النهار من الليل . فكأنه يقول : الليل نسلخ منه النهار ، والنهار نسلخ منه الليل ، فاكتفى بذكر أحدهما ، لأن في الكلام دليلاً . وقد ذكر في آية أخرى قال : { خَلَقَ السماوات والارض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار } [ الزمر : 5 ] .
ثم قال عز وجل : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } قال مقاتل : يعني : لوقت لها . وقال الكلبي : تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها ، ولا تتجاوزها . ثم ترجع إلى أول منازلها . وقال القتبي : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } يعني : إلى مستقر لها . ومستقرها أقصى منازلها في الغروب . وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة ، حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ، ثم ترجع فذلك مستقرها ، لأنها لا تجاوزها . وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس ، فقال : « يا أبَا ذَرَ أَتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ » قلت : الله ورسوله أعلم . قال : « فإنَّهَا تَغْربُ ، وَتَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ ، وَتَسْتَأْذِن فَيُؤْذَنُ لَهَا ، وَيُوشِكُ أنْ تَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا ، حَتَّى تَسْتَشْفِعَ ، وَتَطْلُبَ ، فَإذا طَالَ عَلَيْهَا ، قيلَ لَهَا : اطلعي مَكَانَكِ ، فذلك قوله : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } قال : مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ » . ثم قال : { ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } العزيز بالنقمة ، العليم بما قدّره من أمرها ، وخلقها .
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { والشمس تَجْرِى لمُّسْتَقِرٌّ لَهَا } يعني : لا تقف ، ولا تستقر ، ولكنها جارية أبداً .
ثم قال عز وجل : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو { والقمر } بالضم وقرأ الباقون : بالنصب . فمن قرأ بالضم ، فله وجهان . أحدهما أن يكون على الابتداء ، والآخر معناه : { وَءايَةٌ لَّهُمُ } القمر عطف على قوله : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل } ومن قرأ بالنصب ، فمعناه : وقدرنا القمر . وقال مقاتل في قوله : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } يعني : قدرناه منازل في السماء ، يبدو رقيقاً ، ثم يستوي ، ثم ينقص في آخر الشهر . وقال الكلبي : { قدرناه مَنَازِلَ } أي : قدرناه منازل بالليل ، ينزل كل ليلة في منزل ، ويصعد في منزل ، حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه ، ثم يعود إلى أدنى منازله . ويقال : إن القمر يدور في منازله في شهر واحد ، مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة ، قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخاً مستديرة ، والشمس هكذا . وكان ضوؤهما واحداً ، فأخذ تسعة وتسعون جزءاً من القمر ، فألحقت بالشمس . وروي عن ابن عباس أنه قال : القمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً ، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً . وقال بعضهم : القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها .
ثم قال تعالى : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } يعني : صار كالعذق اليابس ، المنقرس ، الذي حال عليه الحول . ويقال : للقمر ثمانية وعشرون منزلاً ، فإذا صار في آخر منازله ، دقّ حتى يعود كالعذق اليابس . والعرجون إذا يبس ، دق واستقوس ، فشبه القمر به . يعني : صار في عين الناظر كالعرجون ، وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه ، إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقاً .
ثم قال عز وجل : { لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } يعني : أن تطلع في سلطان القمر . وقال عكرمة : لكل واحد منهما سلطان للشمس سلطان بالنهار ، وللقمر سلطان بالليل . فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } يعني : لا يدرك سواد الليل ضوء النهار ، فيغلبه على ضوئه { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يعني : في دوران يجرون ، ويدورون ، ويقال : { يَسْبَحُونَ } يعني : يسيرون فيه بالانبساط ، وكل من انبسط في شيء ، فقد سبح فيه ، وقال بعضهم : السماء كالموج المكفوف ، والشمس والقمر ، والكواكب الدوارة يسبحون فيها وقال بعضهم : الأفلاك كثيرة ، مختلفة في السير ، تقطع القمر في ثمانية وعشرين يوماً ، والشمس تقطع في سنة . وقال بعضهم : الفلك واحد ، وجريهن مختلف ، والفلك في اللغة كل ما يدور .
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
ثم قال عز وجل : { وَءايَةٌ لَّهُمُ } يعني : علامة لكفار مكة على معرفة وحدانية الله تعالى ، { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } يعني : آباءهم ، واسم الذرية يقع على الآباء والنسوة ، والصبيان ، وأصله الخلق ، كقوله عز وجل : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] يعني : خلقنا . ويقال : { ذُرّيَّتُهُم } خاصة .
ثم قال : { فِى الفلك المشحون } يعني : في سفينة نوح عليه السلام الموقرة المملوءة . يعني : حملنا ذريتهم في أصلاب آبائهم قرأ نافع وابن عامر : { ذُرّياتِهِمْ } بلفظ الجماعة . وقرأ الباقون : { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } وأراد به الجنس .
ثم قال عز وجل : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } يعني : من مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون في البحر . وقال قتادة : يعني : الإبل يركب عليها في السير ، كما تركب السفن في البحر . وقال السدي : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } . فقال : هذه السفن الصغار . يعني : الزوارق . وقال عبد الله بن سلام : هي الإبل .
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح . قال : قال لي ابن عباس : ما تقول في قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قلت : هي السفن . قال : خذ مني بآذان إنما هي الإبل . فلقيني بعد ذلك . فقال : إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها ، هي كما قلت ألا ترى أنه يقول : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } يعني : إن نشأ نغرقهم في الماء { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } يعني : لا مغيث لهم { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } يعني : لا يمنعون ، فلا ينجون من الغرق .
قوله عز وجل : { إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا } يعني : إلا نعمة منا ، حين لم نغرقهم . ويقال : معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم { ومتاعا إلى حِينٍ } يعني : بلاغاً إلى آجالهم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
ثم قال عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } يعني : { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } من أمر الآخرة فاعملوا لها { وَمَا خَلْفَكُمْ } من أمر الدنيا فلا تغتروا بها . وقال مقاتل : { اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية { وَمَا خَلْفَكُمْ } يعني : { واتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } أي : من عذاب الآخرة . والأول قول الكلبي .
ثم قال : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يعني : لكي ترحموا فلا تعذبوا { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ } مثل انشقاق القمر { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يعني : مكذبين . وهذا جواب لقوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } الآية .
ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } يعني : تصدقوا من المال الذي أعطاكم الله عز وجل : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } على وجه الاستهزاء منهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني : في خطأ بيّن . قال بعضهم : هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة . وقال بعضهم : هذا قول الله تعالى . يعني : قل لهم يا محمد : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } وروي عن ابن عباس مثل هذا . ثم قال عز وجل : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } يعني : متى هذا الوعد الذي تعدونا به يوم القيامة { إِن كُنتُمْ صادقين } بأنا نبعث بعد الموت ، فيقول الله تعالى : { مَا يَنظُرُونَ } بالعذاب { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } يعني : لا حظر لإهلاكهم ، فليس إلا صيحة واحدة { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَخِصّمُونَ } بكسر الياء والخاء . وقرأ نافع { يَخِصّمُونَ } بنصب الياء ، وسكون الخاء . وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر في إحدى الروايتين : بنصب الياء ، وكسر الخاء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بنصب الياء والخاء . وقراءة حمزة { يَخِصّمُونَ } بنصب الياء ، وجزم الخاء بغير تشديد . ومعناه : تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً . ومن قرأ بالتشديد . فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد ، وشددت . ومن قرأ : بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء . ومن قرأ بكسر الخاء ، فلسكونها ، وسكون الصاد . وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : لينفخن في الصور ، والناس في طرقهم ، وأسواقهم ، حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان ، فما يرسله واحد منهما ، حتى ينفخ في الصور ، فيصعق به ، وهي التي قال الله تعالى : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« تَقُومُ السَّاعَةُ والرَّجُلانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْب ، فَلا يَطْوِيَانِهِ ، وَلا يَتَبايَعَانِهِ . وَتَقُومُ السَّاعَةُ ، وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ النَّاقَةَ ، فَلا يَصِلُ الإنَاءُ إلَى فِيه . وَتَقُومُ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلُوطُ الْحَوْضَ ، فَلا يَسْقِيَ فِيهِ » . ثم قال تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } يعني : يموتون من ساعتهم بغير وصية ، فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } يعني : ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق فأخبر الله تعالى بما يلقون في النفخة الأولى ثم أخبر بما يلقون في النفخة الثانية . يعني : إذا بعثوا من قبورهم بعد الموت فذلك قوله : { وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث } من القبور { إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } يعني : يخرجون من قبورهم أحياء . وكان بين النفختين أربعين عاماً في رواية ابن عباس . وقيل : أكثر من ذلك . ورفع العذاب عن الكفار بين النفختين . فكأنهم رقدوا . فلما بعثوا { قَالُواْ يأَبَانَا ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } يعني : من أيقظنا من منامنا . قال : فيقول لهم الحفظة من الملائكة { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } على ألسنة الرسل { وَصَدَقَ المرسلون } بأن البعث حق . ويقال : إن المؤمنين هم الذين يقولون : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } بأن البعث كائن .
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
ثم قال عز وجل : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } قال الكلبي : يعني : في الآخرة . وقال مقاتل : في بيت المقدس لحسابهم .
ثم قال : { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } يعني يوم القيامة لا تنقص نفس مؤمنة ، ولا كافرة ، من أعمالهم شيئاً { وَلاَ تُجْزَوْنَ } يعني : ولا تثابون { إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير أو شر .
ثم قال : { إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون } يعني : يوم القيامة في شغل مما هم فيه . أي : عن الذي هم فيه فاكهون . يعني : ناعمين . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو { فِى شُغُلٍ } بجزم الغين . وقرأ الباقون : بالضم . وهما لغتان . يقال : شغْل وشغُل مثل عُذْر وعذُر وعمْر وعمُر . قرأ أبو جعفر المدني : { فاكهون } بغير ألف ، وقراءة العامة { فاكهون } بالألف . فمن قرأ بغير ألف يعني : يتفكهون . قال أبو عبيد : يقال : للرجل إذا كان يتفكه بالطعام ، أو بالشراب ، أو بالفاكهة ، أو بأعراض الناس ، إن فلاناً يتفكه . ومنه يقال للمزاحة فكاهة . ومن قرأ بالألف يعني : ذوي فاكهة . وقال الفراء : فاكهة وفكهة لغتان ، كما يقال حذر وحاذر . وروي في التفسير { فاكهون } يعني : ناعمون . وفكهون معجبون . وقال الكلبي ومقاتل في قوله : { إِنَّ أصحاب الجنة } الآية يعني : شغلوا بالنعيم في افتضاض الأبكار العذارى عن أهل النار ، فلا يذكرونهم يعني : معجبين بما هم فيه من النعم والكرامة . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : حدّثنا محمد بن الفضل بإسناده عن عكرمة في قوله : { فِى شُغُلٍ فاكهون } قال في افتضاض الأبكار . وروى زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالجمَاعِ » فقال رجل من أهل الكتاب : إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة . فقال الرسول : « يَفِيضُ مِنْ جَسَدِ أحَدِهِمْ عَرَقٌ مِثْلُ المِسْكِ الأذْفَرِ فَيَضْمُرُ بذلكَ بَطْنُهُ » . ثم قال تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال } قرأ حمزة والكسائي { فِي ظُلَلٍ } وقرأ الباقون { فِى ظلال } فمن قرأ { فِي ظُلَلٍ } فهو جمع الظلة . يقال : ظلة وظلل مثل حلة وحلل . ومن قرأ بكسر الظاء فهو جمع الظل يعني : هم في ظلال العرش والشجر ويقال معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد . يعني : إن أهل الجنة { هُمْ وأزواجهم } الحور العين في القصور { عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ } يعني : على السرر عليها الحجال . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : الأرائك سرر في الحجال . وقال الكلبي : لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا ، فإذا تفرقا فليست بأريكة { مُتَّكِئُونَ } أي : ناعمون . وإنما سمي هذا لأن الناعم يكون متكئاً .
ثم قال : { لَهُمْ فِيهَا فاكهة } يعني : لهم في الجنة من أنواع الفاكهة { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } يعني : ما يتمنون مما يشتهوا من الخير ، { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } يعني : يرسل إليهم ربهم بالتحية والسلام . والعرب تقول : ادّعي ما شئت ، { يَدَّعُونَ } يتمنون . فقوله عز وجل : { سَلاَمٌ قَوْلاً } يعني : يقال لهم سلام كأنهم يتلقونه بالسلام { مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } ويقال : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سلام } يعني : لهم ما يشاؤون خالصاً .
ثم قال : { قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } .
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
يقول الله تعالى { وامتازوا اليوم } وذلك أنه إذا كان يوم نادى مناد : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } يعني : اعتزلوا أيها الكفار من المؤمنين ، فإنهم قد تأذوا منكم في الدنيا ، فاعتزلوهم حتى ينجوا منكم . ويقال : إن المنادي ينادي { أَيُّهَا المجرمون } امتازوا ، فإن المؤمنين قد فازوا . وأيها المنافقون امتازوا ، فإن المخلصين قد فازوا . ويا أيها الفاسقون امتازوا فإن الصالحين قد فازوا ويا أيها العاصون امتازوا ، فإن المطيعين قد فازوا . ثم يقول للكفار والمنافقين بعدما امتازوا : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } يعني : ألم أتقدم إليكم . ويقال : ألم أبيّن لكم في القرآن . ويقال : ألم أوضح لكم { تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ } بالكتاب والرسل . وقال القتبي : العهد يكون لمعان ، يكون للأمانة كقوله : { إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } [ التوبة : 4 ] ويكون لليقين ، ويكون للميثاق ، ويكون للزمان . كما يقال : كان ذلك في عهد فلان أي : في زمانه . ويكون العهد للوصية ، كقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } يعني : أن لا تطيعوا الشيطان . قال ابن عباس : من أطاع شيئاً فقد عبده { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } يعني : بيّن العداوة { وَأَنِ اعبدونى هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يعني : أطيعوني ، ووحدوني . يعني : هذا التوحيد طريق مستقيم . ويقال : دين الإسلام هو طريق مستقيم لا عوج فيه ، وهو طريق الجنة .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } يعني : خلقاً كثيراً . وقرأ نافع وعاصم { جِبِلاًّ } بكسر الجيم ، والباء ، والتشديد . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر : { جِبِلاًّ } بضم الجيم ، وجزم الباء . والباقون : بضم الجيم والباء . ومعنى ذلك كله واحد . وقال أهل اللغة : الجبل ، والجبلة كله بمعنى واحد يعني : الناس الكثير { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } ما فعل بمن كان قبلكم ، فتعتبروا فلم تطيعوه ، فلما دنوا من النار قال لهم خزنتها { هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا فلم تصدقوا بها { اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } يعني : اصلوها اليوم بما كفرتم في الدنيا عقوبة لكم في الدنيا { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } وذلك حين قالوا : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : يعملون من الشرك والمعاصي .
ثم قال : { وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } قال مقاتل يعني : لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى { فاستبقوا الصراط } يعني : ولو طمست الكفر ، لاستبقوا الصراط ، أي : لجازوا الطريق { فأنى يُبْصِرُونَ } يعني : فمن أين يبصرون الهدى بعدما جعلت قلوبهم قاسية ، وجعلت على أعمالهم غطاء ، وَأكِنَّةً على قلوبهم . قال الكلبي : { وَلَوْ نَشَاء } لفقأنا أعين الضلالة ، فأبصروا الهدى ، واستبقوا الطريق فَأنَّى يُبْصِرُونَ الطريق . ويقال : فأنى يبصرون . الهدى وقال بعضهم : ولو نشاء لأعمينا أبصارهم في أسواقهم ، ومجالسهم ، كما فعلنا بقوم لوط عليه السلام حين كذبوه وراودوه عن ضيفه { فاستبقوا الصراط } يعني : فابتدروا الطريق هرباً إلى منازلهم ، ولو فعلنا ذلك بهم .
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
ثم قال عز وجل : { وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم } يعني : إن شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } ولا يتقدمون ، ولا يتأخرون . وهذا قول مقاتل . وقال الكلبي : لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً } يعني : فما قدروا ذهاباً ، ولا يرجعون .
قوله عز وجل : { وَمَن نّعَمّرْهُ } يعني : من أطلنا عمره في الدنيا { نُنَكّسْهُ فِى الخلق } يعني : نرده إلى أرذل العمر ، فلا يعقل فيه كعقله الأول . قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر { نُنَكّسْهُ } بضم النون الأولى ، ونصب الثانية ، وكسر الكاف مع التشديد . وقرأ الباقون : { نُنَكّسْهُ } بنصب النون الأولى ، وجزم الثانية ، وضم الكاف ، والتخفيف ، ومعناهما واحد . يقال : نكسَه ونكسَّه وأنكسه بمعنى واحد . ومعناه : من أطلنا عمره ، نكسنا خلقه . فصار بدل القوة ضعفاً . وبدل الشباب هرماً . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر مكاناتهم وقرأ الباقون { مكانتهم } والمكانة والمكان واحد . مثل المنزل والمنزلة والمكانات جمع المكانة .
ثم قال : { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } يعني : أفلا تفهمون أن الله هو الذي يفعل ذلك ، فتوحدوه ، وليس لمعبودهم قدرة على ذلك . قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء ، على معنى المخاطبة . وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة : { وَأَنِ اعبدونى } بالياء . وقرأ الباقون : بغير ياء . لأن الكسر يدل عليه .
ثم قال عز وجل : { وَمَا علمناه الشعر } جواباً لقولهم إنه شاعر يعني : أرسلنا إليه القرآن ، ولم نرسل إليه الشعر { وَمَا يَنبَغِى لَهُ } يعني : لم يكن أهلاً لذلك . وقال : ما يسهل له ، وما يحضره الشعر { وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ } يعني : ما هو إلا عظة { الرَ تِلْكَ } يعني : يبين الحق من الضلالة . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر ، ولم يتمثل بشيء من الشعر ، إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة
سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلا ... وَيَأْتِيكَ بِالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ ، مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالأَخْبَارِ » . فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله . فقال : « لَسْتُ بِشَاعِرٍ وَلا يَنْبَغِي لِي أنْ أَتَكَلَّمَ بِالشِّعْر » . فإن قيل : روي عنه أنه كان يتكلم بالشعر لأنه ذكر أنه قال
أنَا النَّبِيُّ لا كَذِب ... أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وذكر أنه عثر يوماً فدميت أصبعه فقال
هَلْ أنْتِ إلاَّ إصْبَعٌ دَمِيت ... وِفِي كِتَابِ الله مَا لَقِيت
وذكر أنه قال يوم الخندق
بِسْمِ الإله وَبِهِ هُدِينَار ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شقِينَا
قيل له : هذه كلمات تكلم بها فصارت موافقة للشعر ، وليست بشعر .
ثم قال عز وجل : { لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } يعني : من كان مؤمناً ، لأن المؤمن هو الذي يقبل الإنذار . ويقال : { مَن كَانَ حَيّاً } يعني : عاقلاً راغباً في الطاعة . قرأ نافع وابن عامر : { لّتُنذِرَ } بالتاء على معنى المخاطبة . يقول : لتنذر يا محمد . وقرأ الباقون : بالياء على معنى الخبر عنه . يعني : لتنذر يا محمد . ويقال : يعني : لتنذر بالقرآن من كان مهتدياً في علم الله تعالى الأزلي { وَيَحِقَّ القول } يعني : وجب العذاب { عَلَى الكافرين } يعني : قوله : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] ثم وعظهم ليعتبروا .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
فقال عز وجل : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم } يعني : أولم ينظروا فيعتبروا فيما أنعم الله عز وجل عليهم .
قوله : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما } يعني : أنا خلقنا لهم بقوتنا ، وبقدرتنا ، وبأمرنا ، { أنعاما } يعني : الإبل ، والبقر ، والغنم ، { فَهُمْ لَهَا مالكون } يعني : الأنعام . وقال قتادة : يعني : ما في بطونها { وذللناها لَهُمْ } يعني : سخرناها لهم ، فيحملون عليها ، ويسوقونها حيث شاؤوا ، فلا تمتنع منهم { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } في انتفاعهم وحوائجهم { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } من الإبل ، والبقر ، والغنم ، { وَلَهُمْ فِيهَا } يعني : في الأنعام { منافع } في الركوب ، والحمل ، والصوف ، والوبر ، { ومشارب } يعني : ألبانها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } رب هذه النعمة ، فيوحدونه . يعني : اشكروا ، ووحدوا ، { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } يعني : تركوا عبادة رب هذه النعم ، وعبدوا الآلهة { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } يعني : لعل هذه الآلهة تمنعهم من العذاب في ظنهم .
يقول الله عز وجل : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } يعني : منعهم من العذاب { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } يعني : الكفار للأصنام جند يتعصبون لها ، ويحضرونها في الدنيا للآلهة . ويقال : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } يعني : لآلهتهم كالعبيد ، والخدم . قيام بين أيديهم . وقال الحسن : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ } في الدنيا { مُحْضَرُونَ } في النار .
ثم قال عز وجل : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } يعني : لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من التكذيب { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني : ما يظهرون لك من العداوة .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قوله عز وجل : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } روى سفيان ، عن الكلبي ، عن مجاهد قال : أتى أبيّ بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالي ، قد أتى عليه حين ، فقام ففته بيده ، ثم قال : يا محمد أتعدنا أنا إذا متنا وكنا مثل هذا بعثنا؟ فأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان } الآية . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرون الماضية أنهم يبعثون بعد الموت ، وأنكم يا أهل مكة معهم ، فأخذ أبيّ بن خلف الجمحي عظماً بالياً ، فجعل يفته بيده ، ويذروه في الرياح ، ويقول : عجباً يا أهل مكة إن محمداً يزعم أنا إذا متنا ، وكنا عظاماً بالية مثل هذا العظم ، وكنا تراباً ، أنا نعاد خلقاً جديداً ، وفينا الروح ، وذلك ما لا يكون أبداً ، فنزل { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } يعني : أولم يعلم هذا الكافر أنا خلقناه أول مرة من نطفة { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } جدل بالباطل . ويقال { خَصِيمٌ } بيَّن الخصومة فيما يخاصم { مُّبِينٌ } أي : بيّن { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } يعني : وصف لنا شبهاً في أمر العظام . ويقال : وصف لنا بالعجز { وَنَسِىَ خَلْقَهُ } يعني : وترك ابتداءه حين خلقه من نطفة . ويقال : ترك النظر في خلق نفسه فلم يعتبر و { قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } يعني : بالية . والرميم : العظم البالي . يقال : رمّ العظم إذا بلي .
قال الله تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : قل يا محمد يحيي العظام الذي خلقها أول مرة يعني : في أول مرة ولم يكن شيئاً .
ثم قال عز وجل : { وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } يعني : { عَلِيمٌ } بخلقهم ، وببعثهم .
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا في البعث فقال : { الذى جَعَلَ لَكُمُ } يعني : قل يا محمد العظام يحييها { الذى جَعَلَ لَكُمُ } { مّنَ الشجر الاخضر نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ } قال الكلبي : كل شجرة يقدح منها النار إلا شجرة العناب ، فمن ذلك القصارون يدقون عليه { فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ } يعني : تقدحون . يعني : فهو الذي يقدر على أن يبعثكم .
ثم قال عز وجل : { أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض } وهي أعْظَمُ خلقاً { بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } في الآخرة . والكلام يخرج على لفظ الاستفهام . ويراد به التقرير .
ثم قال : { بلى } هو قادر على ذلك { وَهُوَ الخلاق العليم } يعني : الباعث { العليم } ببعثهم .
قوله عز وجل : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } من أمر البعث وغيره { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } خلقاً .
قرأ ابن عامر والكسائي : { فَيَكُونُ } بالنصب ، وقد ذكرناه في سورة البقرة { فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } يعني : خلق كل شيء من البعث وغيره . ويقال : خزائن كل شيء . ويقال : له القدرة على كل شيء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بعد الموت ، فيجازيكم بأعمالكم . قال : حدّثنا الفقيه أبو الليث رحمه الله . قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان ، بإسناده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْباً ، وَقَلْبُ القُرْآنِ يس ، فَمَنْ قَرَأ يس يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ الله تَعَالَى غُفِرَ لَهُ ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كَمَنْ قَرَأ الْقُرْآن اثْنَتَيْ عَشَرَةَ مَرَّةً . وَأيُّمَا مُسْلِمٍ قُرِئَتْ عِنْدَهُ سُورَةُ يس حِينَ يَنْزِلُ بِهِ مَلِكُ الْمَوْتِ يَنْزِلُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَشَرَةُ أمْلاكٍ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ ، وَيَشْهَدُونَ قَبْضَهُ ، وَيَشْهَدُونَ غَسْلَهُ ، وَيُشَيِّعُونَ جِنَازَتَهُ ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ ، وَيَشْهَدُونَ دَفْنَهُ . وَأيُّمَا مُسْلِمٍ مَرِيضٍ قُرِىءَ عِنْدَهُ سُورَةُ يس وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ ، لا يَقْبِض مَلَكَ المَوْتِ رُوَحَهُ حَتَّى يَجِيءَ رَضْوَانُ خَازِنُ الْجَنَّةِ بِشُرْبَةٍ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ فَيَشْرَبُهَا وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَيَقْبِضُ مَلَكُ الْمَوْتِ رُوحَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ رَيَّانُ ، وَيَدْخَلُ قَبْرَهُ وَهُوَ رَيَّان ، وَيَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ وَهُوَ رَيَّان ، وَيُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ وَهُوَ رَيَّانُ ، وَيُحَاسَبُ وَهُوَ رَيَّان ، وَلا يَحْتَاجُ إلَى حَوْضٍ مِنْ حِيَّاضِ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلامُ حَتَّى يُدْخُلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان » وَالله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأوَّاب وعلى آله وسلم .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قوله تبارك وتعالى : { والصافات صَفَّا } قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { والصافات صَفَّا } قال : أقسم الله تعالى بصفوف الملائكة الذين في السموات ، كصفوف المؤمنين في الصلاة . ويقال : يعني : صفوف الغزاة في الحرب ، كقوله عز وجل :
{ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ويقال : بصفوف الأمم يوم القيامة لقوله عز وجل : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } [ الكهف : 48 ] ويقال : صف الطيور بين السماء والأرض صافات بأجنحتها لقوله : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [ النور : 41 ] ويقال : صفوف الجماعات في المساجد . وفي الآية بيان فضل الصفوف ، حيث أقسم الله بهن .
ثم قال عز وجل : { فالزجرات زَجْراً } يعني : الملائكة الذين يزجرون السحاب ، ويؤلفونه ، ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر بها . ويقال : { فالزجرات } يعني : فالدافعات وهم الملائكة الذين يدفعون الشر عن بني آدم ، موكلون بذلك . ويقال : { الزاجرات } يعني : ما زجر الله تعالى في القرآن بقوله : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 130 ] { وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ويقال : هي التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، وما كان من عند الله من كتب . ويقال : { صَفَّا فالزجرات زَجْراً } يعني : هم الأنبياء ، والرسل ، والعلماء ، يزجرون الناس عن المعاصي ، والمناهي ، والمناكر { فالتاليات ذِكْراً } يعني : الملائكة وهو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء . ويقال : هم المؤمنون الذين يقرؤون القرآن . ويقال : { فالتاليات ذِكْراً } قال : هم الصبيان يتلون في الكتاب من الغدوة إلى العشية . كان الله تعالى يحول العذاب عن الخلق ، ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء . أولها أذان المؤذنين ، والثاني تكبير المجاهدين ، والثالث تلبية الملبين ، والرابع صوت الصبيان في الكتاب . وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : { والصافات صَفَّا } قال : الملائكة { فالزجرات زَجْراً } قال : الملائكة { فالتاليات ذِكْراً } قال : الملائكة وهكذا قال مجاهد : قد أقسم الله بهذه الأشياء { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } ويقال : أقسم بنفسه فكأنه يقول : وخالق هذه الأشياء { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } يعني : ربكم ، وخالقكم ، ورازقكم ، لواحد . { رَب السموات } يعني : الذي خلق السموات { والارض وَمَا بَيْنَهُمَآ } من خلق { وَرَبُّ المشارق } يعني : مشرق كل يوم . وقال في آية أخرى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاولين } [ الرحمن : 17 ] أي : مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف . وقال في هذه السورة { رَبّ المشارق } أي : مشرق كل يوم .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
ثم قال { إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا } يعني : الأدنى . وإنما سميت الدنيا لأنها أقرب إلى الأرض { بِزِينَةٍ الكواكب } أي : بضوء الكواكب . قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { بِزِينَةٍ } بالتنوين { الكواكب } بالكسر بغير تنوين ، بكسر الباء . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { بِزِينَةٍ } بالتنوين { الكواكب } بالنصب ، والباقون { بِزِينَةٍ } بالكسر بغير تنوين { الكواكب } بكسر الباء . فمن قرأ { بِزِينَةٍ الكواكب } بالكسر جعل الكواكب بدلاً من الزينة . والمعنى : إنّا زينا السماء الدنيا بالكواكب . ومن قرأ بالنصب ، أقام الزينة مقام التزيين . فكأنه قال : إنّا زينا السماء الدنيا بتزيننا الكواكب ، فيكون الكواكب على معنى التفسير . ومن قرأ بغير تنوين ، فهو على إضافة الزينة إلى الكواكب . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكواكب معلقة بالسماء ، كالقناديل . ويقال : إنها مركبة عليها ، كما تكون في الصناديق والأبواب .
ثم قال : { وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ } يعني : حفظ الله تعالى السماء بالكواكب من كل شيطان متمرد . يعني : شديد يقال : مرد يمرد إذا اشتد .
ثم قال : { لاَ يَسْمَعُونَ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص : { لاَ يَسْمَعُونَ } بنصب السين والتشديد . والباقون : { يَسْمَعُونَ } بنصب الياء ، وجزم السين ، مع التخفيف . فمن قرأ : بجزم السين فهو بمعنى يسمعون . ومن قرأ بالتشديد فأصله يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين ، وشددت . يعني : لكيلا يستمعون { إلى الملإ الاعلى } يعني : إلى الكتبة { وَيَقْذِفُونَ } يعني : يرمون { مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً } يعني : طرداً من كل ناحية من السماء ، وكانوا من قبل يستمعون إلى كلام الملائكة عليهم السلام قال : حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم . قال : حدّثنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن علي بن الحسن ، عن ابن عباس . قال : بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ في نَفَرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « مَا كُنْتُمْ تَقَولُونَ لِمِثْلِ هذا فِي الجَاهِلِيَّةِ » قالوا : يموت عظيم ، أو يولد عظيم فقال عليه السلام : « إنَّهُ لا يُرْمَى لِمَوْتِ أحَدٍ ، وَلا لِحيَاتِهِ ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ إِذا قَضَى أمْراً يُسَبِّحُهُ حَمْلَةُ الْعَرْشِ ، وَأَهْل السَّمَاءِ السَّابِعَةِ . يَقُولُ : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيَخْبِرُونَهُمْ فَيَسْتَخْبِرَ أهْلَ كُلِّ سَمَاءٍ أهْلَ السَّمَاءِ الأُخْرَى ، حَتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَتَخطَفُ الجِنُّ ، وَيَرْمُونَ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ ، فَهُوَ حَقٌّ . ولكنهم يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَكْذِبُونَ » قال معمر : قلت للزهري : أو كان يرمى به في الجاهلية . قال : نعم . قال : قالت الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ الجن : 9 ] قال : غلظ وشدد أمرها ، حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : { دُحُوراً } يعني طرداً بالشهب فيعيدونهم { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } يعني : دائم . يعني : الشياطين لمن استمع ، ولمن لم يستمع في الآخرة . وقال مقاتل : في الآية تقديم { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } من الشياطين { الخطفة } يختطف يعني : يستمع إلى الملأ الأعلى من كلام الملائكة عليهم السلام { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } والشهاب في اللغة كل أبيض ذي نور ، والثاقب المضيء ، { فاستفتهم } يعني : سل أهل مكة . وهذا سؤال تقدير لا سؤال استفهام .
وقال تعالى : { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } بالبعث { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } يعني : ما خلقنا من السموات ، وما ذكر من المشارق والمغارب . ويقال : { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } بالبعث . يعني : بعثهم أشد { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } يعني : أم خلقهم في الابتداء .
ثم ذكر خلقهم في الابتداء فقال : { إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } يعني : خلقنا آدم وهم من نسله من طين حمئة . ويقال : { لاَّزِبٍ } أي : لاصق . ويقال : { لاَّزِبٍ } يعني : لازم . إِلاَّ أن الباء تبدل من الميم ، لقرب مخرجهما ، كما يقال سمد رأسه ، وسبد إذا استأصله ، واللازب واللاصق واحد .
ثم قال : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } قرأ حمزة والكسائي : { عَجِبْتَ } بضم التاء . وقرأ الباقون : بالنصب . فمن قرأ بالنصب ، فالمعنى بل عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك ، والكافرون يسخرون ، مكذبين لك . ومن قرأ { بَلْ عَجِبْتَ } بالضم ، فهو إخبار عن الله تعالى . وقد أنكر قوم هذه القراءة ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ، لأنه علم الأشياء قبل كونها ، وإنما يتعجب من سمع أو رأى شيئاً لم يسمعه ، ولم يره ، ولكن الجواب أن يقال : العجب من الله عز وجل بخلاف العجب من الآدميين . ويكون على وجه التعجب ، ويكون على وجه الإنكار والاستعظام لذلك القول . كما قال في آية أخرى { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } [ الرعد : 5 ] وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة أن شريحاً كان يقرأ { بَلْ عَجِبْتَ } بالنصب . ويقول : إنما يعجب من لا يعلم . وقال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال إبراهيم النخعي : إن شريحاً كان معجباً برأيه ، وعبد الله بن مسعود كان أعلم منه ، وكان يقرؤها { بَلْ عَجِبْتَ } بالضم . وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ هكذا بالضم ، وهو اختيار أبي عبيدة .
ثم قال : { وَيَسْخُرُونَ } يعني : يسخرون حين سمعوا { وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } يعني : إذا وعظوا بالقرآن ، لا يتعظون { وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً } يعني : علامة مثل انشقاق القمر { يَسْتَسْخِرُونَ } يعني : يستهزئون ، ويسخرون . وقال أهل اللغة سخر واستسخر بمعنى واحد ، مثل قرأ واستقرأ { وَقَالُواْ إِن هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : يبين قوله عز وجل : { أَءذَا مِتْنَا } يعني : يقولون إذا متنا { وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } يعني : لمحيون بعد الموت { أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون قُلْ } يا محمد { نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون } يعني : صاغرون .
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
ثم قال عز وجل : { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } يعني : صيحة ونفخة واحدة ، ولا يحتاج إلى الأخرى { فَإِذَا هُم } يعني : الخلائق { يُنظَرُونَ } يعني : يخرجون من قبورهم ، وينظرون إلى السماء كيف غيرت؟ والأرض كيف بدلت؟ فلما عاينوا البعث ، ذكروا قول الرسل : إن البعث حق . { وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين } يعني : يوم الحساب . ويقال : يوم الجزاء . فردت عليهم الحفظة . ويقولون : { هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } أنه لا يكون .
ثم ينادي المنادي : { احشروا الذين ظَلَمُواْ } يعني : سوقوا الذين كفروا { وأزواجهم } يعني : وأشباههم . ويقال : وقرناءهم ، وضرباءهم . ويقال : وأشياعهم ، وأعوانهم . ويقال : وأمثالهم { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني : من الشياطين الذين أضلوهم . ويقال : كل معبود ، وكل من يطاع في المعصية { فاهدوهم } يعني : ادعوهم جميعاً . ويقال : اذهبوا بهم ، وسوقوهم جميعاً { إلى صراط الجحيم } يعني : إلى طريق الجحيم ، والجحيم ما عظم من النار . ويقال : إلى وسط الجحيم . فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل الله عز وجل ملكاً يقول : { وَقِفُوهُمْ } أي : احبسوهم { أَنَّهُمْ } عن ترك قول لا إله إلاَّ الله . ويقال : في الآية تقديم . يعني : يقال لهم قفوا قبل ذلك . فحبسوا ، أو سئلوا .
ثم يساق بهم إلى الجحيم فيقال لهم : { مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تناصرون } يعني : لم ينصر بعضكم بعضاً ، ولا يدفع بعضكم عن بعض كما كنتم تفعلون في الدنيا .
قوله عز وجل : { بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } أي : خاضعون ذليلون { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } يعني : يسأل ويخاصم بعضهم بعضاً القادة والسفلة ، والعابد ، والمعبود ، ومتابعي الشيطان للشيطان . ويقال : { يَتَسَاءلُونَ } يعني : يتلاومون { قَالُواْ } يعني : السفلة للرؤساء { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } يعني : من قبل الحق أي : الدين فزينتم لنا ضلالتنا . وروي عن الفراء أنه قال : { اليمين } في اللغة القوة والقدرة . ومعناه { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا } بأقوى الحيل ، وكنتم تزينون علينا أعمالنا . وقال الضحاك : تقول السفلة للقادة : إنكم قادرون وظاهرون علينا . ونحن ضعفاء أذلاء في أيديكم . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } عن الحق . يعني : الكفار يقولون : للشيطان . وقال القتبي : إنما يقول هذا : المشركون لقرنائهم من الشياطين { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } يعني : عن أيماننا لأن إبليس قال : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } [ الأعراف : 17 ] وقال المفسرون : من أتاه الشيطان من قبل اليمين ، أتاه من قبل الدين ، وليس عليه الحق . ومن أتاه من قبل الشمال ، أتاه من قبل الشهوات ، ومن أتاه من بين يديه ، أتاه من قبل التكذيب بالقيامة ، ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه ، وعلى من يخلف بعده ، فلم يصل رحماً ، ولم يؤد زكاة .
وقال المشركون لقرنائهم : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } في الدنيا من جهة الدين يعني : أضللتمونا { قَالُواْ } لهم قرناؤهم { بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : لم تكونوا على حق ، فتشبه عليكم ، ونزيلكم عنه إلى الباطل { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان } يعني : من قدرة فنقهركم . ويقال : من ملك فنجبركم عليه { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين } يعني : كافرين عاصين { فَحَقَّ عَلَيْنَا } يعني : وجب علينا جميعاً { قَوْلُ رَبّنَا } وهو السخط . ويقال : { قَوْلُ رَبّنَا } يوم قال لإبليس { لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] { إِنَّا لَذَائِقُونَ } يعني : العذاب جميعاً في النار .
قوله عز وجل : { فأغويناكم } يعني : أضللناكم عن الهدى { إِنَّا كُنَّا غاوين } يعني : ضالين . يقول الله تعالى : { فَإِنَّهُمْ } يعني : الكفار والشياطين { يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } يعني : شركاء في النار ، وفي العذاب يوم القيامة { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } يعني : هكذا نفعل بمن أشرك ، فنجمع بينهم وبين الذين أضلّوهم في النار .
ثم أخبر عنهم فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ } يعني : في الدنيا { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله } يعني : قولوا لا إله إلا الله { يَسْتَكْبِرُونَ } عنها ، ولا يقولونها { وَيَقُولُون اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا } يعني : أنترك عبادة آلهتنا { لِشَاعِرٍ } يعني : لقول شاعر { مَّجْنُونٍ } أي : مغلوب على عقله . يقول الله تعالى : { بَلْ جَاء بالحق } يعني : بالقرآن . ويقال : بأمر التوحيد . ويقال : جاء ببيان الحق { وَصَدَّقَ المرسلين } الذين قبله . قال مقاتل : يعني : صدق محمد صلى الله عليه وسلم بالمرسلين الذين قبله . وقال الكلبي : وبتصديق المرسلين الذين قبله . ومعناهما واحد . ويقال : معناه جاء محمد عليه السلام بموافقة المرسلين عليهم السلام { إِنَّكُمْ } يعني : العابد والمعبود { يَرَوُاْ العذاب الاليم } يعني : لتصيبوا العذاب الوجيع الدائم { وَمَا تُجْزَوْنَ } في الآخرة { إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني : إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي والشرك .
ثم استثنى المؤمنين فقال عز وجل : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } يعني : الموحدين ويقال : { إِلا } بمعنى لكن { عِبَادَ الله المخلصين } .
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
ثم قال { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } يعني : طعام معلوم معروف حين يشتهونه على قدر غدوة وعشية .
ثم بيّن الرزق فقال : { فواكه } يعني : ألوان الفاكهة { وَهُم مُّكْرَمُونَ } بالثواب . ويقال : منعمون { فِي جنات النعيم على سُرُرٍ متقابلين } في الزيارة { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } يعني : يطوف عليهم خدمهم { بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } خمراً جارياً من معين . يعني : الطاهر الجاري { بَيْضَاء } . يعني : بخمرة توجب اللذة { بَيْضَاء لَذَّةٍ } يعني : شهوة { لِلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ } يعني : ليس فيها إثم . ويقال : لا غائلة لها ، ولا يوجع منها الرأس . وروى شريك عن سالم قال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي : لا مكروه فيها ، ولا أذى . وقال القتبي : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي : لا تغتال عقولهم ، فتذهب بها . يقال : الخمر غول للحلم ، والحرب غول للنفوس ، والغول البعد { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قرأ حمزة والكسائي { يُنزَفُونَ } بكسر الزاي . وقرأ الباقون : بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه : لا يذهب عقولهم شربها . ويقال للسكران : نزيف ومنزوف إذا زال عقله . ومن قرأ بالكسر ، فله معنيان : أحدهما لا ينفد شرابهم أبداً ، والثاني أنهم لا يسكرون .
ثم قال عز وجل : { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف عِينٌ } يعني : غاضات الأعين عن غير أزواجهن . يعني : قصرن طرفهن على أزواجهن ، وقنعن بهم ، ولا يبغين بهم بدلاً .
ثم قال : { عِينٌ } أي : حسان الأعين شدة البياض في شدة السواد . يقال لواحدة العين : عيناء . يعني : كبيرة العين . ويقال : الحسن العيناء التي سواد عينها أكثر من بياضها .
ثم قال : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يعني : إنهن أحسن بياضاً من بيض النعم ، والعرب تشبه النساء ببيض النعام . يقال : لا يكون لون البياض في شيء أحسن من بيض النعام . وقال قتادة : البيض التي لم تلوثه الأيدي . ويقال : البيض أراد به القشر الداخل من البيض المكنون قد خبأ ، وكنَّ من البرد والحر { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } يعني : يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا .
قوله عز وجل : { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } يعني : من أهل الجنة { إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } وهو الذي بيّن الله تعالى أمرهما في سورة الكهف { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } [ الكهف : 32 ] فكانا أخوين وشريكين ، وأنفق أحدهما ماله في أمر الآخرة ، واتخذ الآخر لنفسه ضياعاً ، وخدماً ، واحتاج المؤمن إلى شيء ، فجاء إلى أخيه الكافر يسأله ، فقال له الكافر ما صنعت بمالك ، فأخبره أن قدمه إلى الآخرة ، فقال له الكافر : { يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين } يعني : إنك ممن يصدق بالبعث . وطلب منه أن يدخل في دينه ، ولم يقض حاجته ، فذلك قوله : { أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين } يعني : بالبعث بعد الموت .
قوله عز وجل : { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ } يعني : لمحاسبون . فيقول المؤمن لأصحابه في الجنة : { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } حتى ننظر إلى حاله ، وإلى منزله ، فيقول أصحابه : اطلع أنت ، فإنك أعرف به منا { فَأَطَّلِعَ } يعني : فنظر في النار { فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء } يعني : رأى أخاه في وسط الجحيم ، أسود الوجه ، مزرق العين ، فيقول المؤمن عند ذلك قوله : { قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } يعني : والله لقد هممت لتغويني ، ولتضلني . ويقال : { لَتُرْدِينِ } أي : لتهلكني يقال : أرديت فلان أي : أهلكته . والردى : الموت والهلاك . وقال القتبي في قوله : { أَنَاْ * لَمَدِينُونَ } أي : مجازون بأعمالنا . يقال : دنته بما عمل أي جازيته .
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
ثم قال عز وجل : { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى } يعني : لولا ما أنعم الله عليَّ بالإسلام { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } معك في النار ثم أقبل المؤمن على أصحابه في الجنة فقال : يا أهل الجنة { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به النفي . يعني : لا نموت أبداً سوى موتتنا الأولى . وذلك حين يذبح الموت ، فيأمنوا من الموت { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } يعني : لم نكن من المعذبين مثل أهل النار .
قال الله عز وجل : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } يعني : النجاة الوافرة ، فازوا بالجنة ، ونجوا من النار { لِمِثْلِ هذا } يعني : لمثل هذا الثواب ، والنعم ، والخلود ، { فَلْيَعْمَلِ العاملون } أي فليبادر المبادرون . ويقال : فليجتهد المجتهدون . ويقال : فليحتمل المحتملون الأذى ، لأنه فد حفّت الجنة بالمكاره { أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً } يعني : الذي وصفت في الجنة خير ثواباً . ويقال رزقاً . ويقال : منزلاً { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } للكافرين { إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين } يعني : ذكر الشجرة بلاء للمشركين . قال قتادة : زادتهم تكذيباً ، فقالوا : يخبركم محمد أن في النار شجرة ، والنار تحرق الشجر . وقال مجاهد : { إِنَّا جعلناها فِتْنَةً } قول أبي جهل : إنما الزقوم التمر ، والزبد . فقال لجاريته : زقمينا فزقمته . وذكر أن ابن الزبعري قال : الزقوم بلسان البربر ، وإفريقيا التمر والزبد . فأخبر الله تعالى عن الزقوم أنه لا يشبه النخل ، ولا طلعها كطلع النخل ، فقال : { أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً } يعني : نعيم الجنة ، وما فيها من اللذات { خَيْرٌ نُّزُلاً } أي : طعاماً { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } لأهل النار .
قوله عز وجل : { إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين } ثم وصف الشجرة فقال : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم } يعني : في وسط الجحيم { طَلْعِهَا } يعني : ثمرتها { كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين } يعني : رؤوس الحيات ، قبيح في النظر . ويقال : هو نبت لا يكون شيء من النبات أقبح منه ، وهو يشبه الحسك ، فيبقى في الحلق . ويقال : هي رؤوس الشياطين بعينها ، وذلك أن العرب إذا وصفت الشيء بالقبح ، تقول : كأنه شيطان . ثم وصف أكلهم فقال : { فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا } يعني : من ثمرها { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } وهو جماعة المالىء . يعني : يملؤون منها البطون . قال : حدّثنا أبو الليث رحمه الله قال : حدّثنا الفقيه أبو جعفر . قال : حدّثنا محمد بن عقيل . قال : حدّثنا عباس الدوري . قال : حدّثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الله وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . فَلَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قَطَرَتْ فِي الأرْضِ ، لأَمَرَّتْ عَلَى أهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ ، فَكيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ » . قوله عز وجل : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } يعني : خلطاً من حميم من ماء حار في جهنم { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم } يعني : مصيرهم إلى النار .
ثم بيّن المعنى الذي به يستوجبون العقوبة فقال تعالى : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ } يعني : وجدوا { ضَالّينَ فَهُمْ } عن الهدى { فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } يعني : يسعون في مثل أعمال آبائهم ، والإهراع في اللغة المشي بين المشيتين . وقال مجاهد : كهيئة الهرولة .
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ } يعني : أضلّ إبليس قبلهم { أَكْثَرُ الاولين } يعني : من الأمم الخالية . ولم يذكر إبليس لأن في الكلام دليلاً عليه ، فاكتفى بالإشارة . ومثل هذا كثير في القرآن .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } يعني : رسلاً ينذرونهم كما أرسلناك إلى قومك ، فكذبوهم بالعذاب كما كذبك قومك ، فعذبهم الله تعالى في الدنيا { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } يعني : آخر أمر من أنذر فلم يؤمن { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } يعني : الموحدين ، المطيعين ، فإنهم لم يعذبوا .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } يعني : دعا نوح ربه على قومه ، وهو قوله : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] { فَلَنِعْمَ المجيبون } يعني : نعم المجيب أنا { ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } يعني : من الهول الشديد ، وهو الغرق .
قوله : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } لأن الذي حمل معه من الناس ثمانون رجلاً وامرأة غرقوا كلهم ، ولم يبق إلا ولده سام وحام ويافث قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : حدّثنا أبو جعفر . قال : حدّثنا أبو القاسم الصفار بإسناده عن سمرة بن جندب . قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سَام أبُو العَرَبِ ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم » . ثم قال تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين } يعني : أبقينا عليه ذكراً حسناً في الباقين من الأمم ، وهذا قول القتبي : وقال مقاتل : يعني : أثنينا على نوح بعد موته ثناء حسناً .
ثم قال عز وجل : { سلام على نُوحٍ فِى العالمين } يعني : السعادة والبركة على نوح من بين العالمين { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } يعني : هكذا نجزي كل من أحسن { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } يعني : المصدقين بالتوحيد { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين } يعني : قومه الكافرين .
قوله عز وجل : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم } قال مقاتل : يعني : إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى ملته . وقال الكلبي يعني : من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم ، وعلى دينه ، ومنهاجه . وذكر عن الفراء أنه قال : هذا جائز . وإن كان إبراهيم قبله كما قال : { وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون } [ يس : 41 ] . يعني : آباءهم ذريته الذين هو منهم .
قوله عز وجل : { إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني : إبراهيم دعا ربه بقلب سليم . أي : خالص ويقال : { إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي : مخلص سليم من الشرك { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } يعني : إيش الذي تعبدون . ويقال : معناه لماذا تعبدون هذه الأوثان؟ .
قوله عز وجل : { الله ءالِهَةً } يعني : أكذباً آلهة { دُونَ الله تُرِيدُونَ } عبادتها { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين } إذا عبدتم غيره ، فما ظنّكُم به إذ لقيتموه؟ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم } قال مقاتل : يعني : في الكواكب .
ويقال : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم } أي : في أمر النجوم .
ثم تفكر بالعين وبالقلب وذلك أنه رأى كوكباً قد طلع { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } أي : سأسقم . ويقال : مطعوناً . وهو قول سعيد بن جبير ، والضحاك . وقال القتبي : نظر في الحساب لأنه لو نظر إلى الكواكب لقال : نظر نظرة إلى النجوم . وإنما يقال : نظر فيه إذا نظر في الحساب . { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } أي : سأمرض غداً ، وكانوا يتطيرون من المريض . فلما سمعوا ذلك منه هربوا ، فذلك قوله تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدّثنا الخليل بن أحمد . قال : حدّثنا خزيمة . قال : حدّثنا عيسى بن إبراهيم . قال : حدّثنا ابن وهب عن جرير بن حازم ، عن أيوب السجستاني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمَ قَطُّ إلاَّ ثَلاثَ كَذِباتٍ ، ثِنْتَانِ فِي ذَاتِ الله قوله : { إِنّى سَقِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِى المدآئن حاشرين } [ الأنبياء : 63 ] وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَّةَ ، ذلك أنَّهُ قَدِمَ أرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَّةُ ، وَكَانَتْ أحْسَنَ النِّسَاءِ فَقَالَ لَهَا : إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ عَلِمَ أنَّكِ امْرَأَةٌ ، يَغْلِبنِي عَلَيْكِ . فَإنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أنَّكِ أُخْتِي فِي الإسْلامِ ، فإنِّي لا أعْلَمُ فِي الأرْضِ مُسْلِماً غَيْرِي وَغَيْرَكِ . فَلّمَا دَخَلَ الأرْضَ ، رَآهَا بَعْضُ أهْلِ الجَبَّارِ ، فأتَاهُ . فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ دَخَلَ الْيَوْمَ أرْضَكَ امْرَأَةٌ لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ إلاَّ لَكَ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا . فَأُتِي بِهَا . فَقَامَ إبْرَاهِيمُ إلَى الصَّلاةِ ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أنْ بَسَطَ يَدَهُ إلَيْهَا ، فَقُبِضَتْ يَدَهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً . فَقَالَ لَهَا ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي ، وَلا أضُرُّكِ . فَفَعَلَتْ . فَعَادَ ، فَقُبِضَتْ يَدُهُ أشَدَّ مِنَ القَبْضَةِ الأُولَى . فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَفَعَلَتْ . فَعَادَ ، فَقُبِضَتْ أشَدَّ مِنَ القَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ، فَقَالَ لَهَا : ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي ، وَلَكِ عَلَيَّ ألاَّ أضُرُّكِ ، فَفَعَلَتْ ، فَأُطْلِقَتْ يَدُهُ . فَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ : إنَّكَ أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ ، وَلَمْ تَأْتِنِي بإنْسَانٍ ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أرْضِي ، وَأعْطَاهَا هَاجَرَ ، فَأقْبَلَتْ تَمْشِي حَتَّى جَاءَتْ إلَى إبْرَاهِيمَ ، فَلَمَّا رَآهَا إبْرَاهِيمُ انْصَرَفَ مِنَ الصَّلاةِ ، فَقَالَ لَهَا : مَهْيَمْ يَعْنِي مَا الخَبَرُ؟ فَقَالَتْ : خَيْراً كُفِيتُ الفَاجِرَ ، وأخْدَمَنِي خَادِماً » . فقال أبو هريرة : فتلك أمُّكم يا بني ماء السماء . يعني : نسل العرب منها . لأنه روي في الخبر أنها وهبت هاجر لإبراهيم ، فولد منها إسماعيل . ويقال : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } يعني : أعرضوا عنه ذاهبين إلى عيدهم .
قوله عز وجل : { فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } يعني : مال إلى أصنامهم . ويقال : دخل بيوت الأصنام ، فرأى بين أيديهم طعاماً { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } فلم يجيبوه ، فقال : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُون فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } يعني : أقبل يضربهم بيمينه .
ويقال : يضربهم باليمين التي حلف ، وهو قوله : { قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 57 ] ويقال : { باليمين } . يعني : يضربهم بالقوة . واليمين كناية عنها ، لأن القوة في اليمين { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } يعني : يسرعون { قَالَ } إبراهيم { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } بأيديكم من الأصنام . قرأ حمزة : يُزِفون بضم الياء . وقرأ الباقون : بالنصب . فمن قرأ بالنصب فأصله من زفيف النعام ، وهو ابتداء عدوه . ومن قرأ بالضم أي : يصيروا إلى الزفيف ، ويدخلون في الزفيف ، وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد ، وهو الإسراع في المشي .
ثم قال عز وجل : { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يعني : وما تنحتون به يأيديكم من الأصنام . ومعناه : تتركون عبادة من خلقكم ، وخلق ما تعملون ، وتعبدون غيره { قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا } يعني : أتوناً { فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } يعني : في النار العظيمة { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } يعني : أرادوا حرقه وقتله { فجعلناهم الاسفلين } يعني : الآخرين . ويقال : الأذلين . وعلاهم إبراهيم فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أهلكهم الله عز وجل .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{ وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي } يعني : إني مهاجر إلى طاعة ربي . ويقال : من أرض ربي . إلى أرض ربي . وقال مقاتل : يعني : من بابل إلى بيت المقدس . ويقال : من أرض حران إلى بيت المقدس ، ويقال : من أرض حران إلى بيت المقدس ، { سَيَهْدِينِ } يعني : يحفظني ويقال : إني مهاجر إلى ربي يعني : مقبل إلى طاعة ربي { سَيَهْدِينِ } أي سيرشدني ربي . ويقال : سيعينني .
قوله عز وجل : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } يعني : يا رب أعطني ولداً صالحاً من المسلمين { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } يعني : حليم في صغره ، عليم في كبره .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } إلى الحج ، ويقال : إلى الجبل { قَالَ } إبراهيم عليه السلام لابنه { قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام } قال مقاتل : هو إسحاق . وقال الكلبي : هو إسماعيل . وروى معمر عن الزهري قال في قوله : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } قال ابن عباس : هو إسماعيل . وكان ذلك بمنًى . وقال كعب : هو إسحاق . وكان ذلك ببيت المقدس . وقال مجاهد ، وابن عمر ، ومحمد بن كعب القرظي؛ هو إسماعيل . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو إسحاق . وهكذا روي عن ابن عباس ، وهكذا قال وعكرمة ، وقتادة ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم وهكذا قال أهل الكتابين كلهم ، والذي قال : هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر ، أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن » يعني : أباه عبد الله بن عبد المطلب ، وإسماعيل بن إبراهيم . وأما الذي يقول : هو إسحاق يحتج بما روي في الخبر ، أنه ذكر نسبة يوسف ، فقال : كان يوسف أشرف نسباً . يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف ، والله أعلم بالصواب ، والظاهر عند العامة هو إسحاق . فذلك قوله : { قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه ، ولكن معناه : { إِنّى أرى فِى المنام } أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية : { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } وروي في الخبر : « أنَّهُ رَأَى فِي المَنَامِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَذْبَحَ وَلَدَكَ فَاسْتَيْقَظَ خَائِفاً ، وَقَالَ : أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . ثُمَّ رَأَى فِي المَنَامِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِثْلَ ذلك ، فَاسْتَيْقَظَ وَضَمَّ ابْنَهُ إلى نَفْسِهِ ، وَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ ، فَانقادَ لأمْرِ الله تَعَالَى ، وَقَالَ لامْرَأتِهِ سَارَّة إنِّي أرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى طَاعَةِ رَبِّي ، فَابْعَثِي ابْنِي مَعِي ، فَجَهَّزَتْهُ ، وَبَعَثَتْهُ مَعَهُ »
قال كعب الأحبار : قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً . فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه ، فذهب الشيطان ، ودخل على سارة . فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك؟ فقالت : غدا به لبعض حاجته . قال : إنه لم يغد به لحاجته ، ولكنه إنما ذهب به ليذبحه ، فقالت : ولم يذبحه؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك . فقالت : قد أحسن أن يطيع ربه ، فخرج في أثرهما ، فقال للغلام : أين يذهب بك أبوك؟ قال لبعض حاجته . قال : فإنه لا يذهب بك لحاجته ، ولكنه إنما يذهب بك ليذبحك . فقال : ولم يذبحني؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ، ليفعلن . فتركه ولحق بإبراهيم ، فقال : أين غدوت بابنك؟ قال : لحاجة . قال : فإنك لم تغد به لحاجة ، وإنما غدوت به لتذبحه . قال ولم أذبحه؟ قال : تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن . فتركه ، وأيس من أن يطاع .
قوله عز وجل : { فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادعو ، فإن لك دعوة مستجابة . فقال إسحاق : اللَّهم إني أدعوك أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئاً أن تدخله الجنة . وقال مجاهد : إن إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يذبح ابنه بالسكين ، قال ابنه : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفي ، حتى لا أوذيك إذا أصابني حدّ السكين ، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي ، عسى أن ترحمني ، واجعل وجهي إلى الأرض ، ففعل إبراهيم . فلما أمرّ السكينة على حلقه ، انقلبت . فقال : يا أبت ما لك؟ قال : قد انقلبت السكين . قال : فاطعن بها طعناً . قال : فطعن ، فانثنت . قال : فعرف الله عز وجل الصدق منه ، ففداه بذبح عظيم ، وقال : هو إسحاق . وروى أسباط عن السدي قال : كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه . أنه ركب مع أبيه في حاجة ، فأعجبه شبابه ، وحسن هيئته ، وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له ، قال : هو إذاً لله ذبيح . فقيل لإبراهيم في منامه : قد نذرت لله نذراً فاوفيه ، فلما أصبح قال : { قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } يقول : قد أمرت بذبحك { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } قال : فانطلق معي ، وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك ، وأخذ إبراهيم معه حبلاً ، ومدية ، يعني : السكين .
فقال له : يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت . فانطلق به ، حتى أتى به جبلاً من جبال الشام . فأضجعه في أصرة ، وربط يديه ورجليه ، فقال له إسحاق : يا أبتاه شدّ رباطي ، لكي لا أضطرب ، فيصيب الدم ثيابك ، فتراه سارة ، فتحزن ، فبكى إبراهيم بكاء شديداً . وأخذ الشفرة ، فوضعها على حلقه ، وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس ، فجعل يحز ، فلا تصنع شيئاً . فلما رأى إبراهيم ذلك ، قلّبه على وجهه ، فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس ، وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما . فجعل يحز ، فلا تقطع شيئاً فنودي : { أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } ودونك هذا الكبش فهو فداه . فالتفت فإذا هو بكبش أبيض ، أملح ، ينحط من الجبل ، وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفاً ، فخلّى عن ابنه ، وأخذ الكبش فذبحه . وقال وهب بن منبه : لما قال لإسحاق : { السعى قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } ثم قال : يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء . قال : وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين . أحدهما : أن تربط يدي لكيلا أضطرب فأؤذيك ، والثاني أن تجعل وجهي إلى الأرض لكيلا تنظر إلى وجهي فترحمني ، والثالث أن تذهب بقميصي إلى أمي ليكون القميص عندها تذكرة مني . فذلك قوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } قرأ حمزة والكسائي { مَاذَا ترى } بضم التاء . يعني : ماذا ترى من صبرك . ويقال : معناه ماذا تشير . وقرأ الباقون : بالنصب ، وهو من الرأي . يعني : ماذا ترى من صبرك . ويقال : معناه ماذا تشير فيما أمر الله به . ويقال : هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد : بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي ، والآخر يستعمل في رؤية العين { قَالَ يَاءادَمُ * ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } على الذبح .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } يعني : اتفقا على أمر الله تعالى . قال قتادة : أسلم هذا نفسه لله تعالى . وأسلم هذا ابنه لله تعالى . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ : { فَلَمَّا أسلاما وتله للجبين } يعني : رضيا { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } يعني : صرعه على جبينه . أي : على وجهه . وقال القتبي { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } يعني : جعل إحدى جبينيه على الأرض ، وهما جبينان ، والجبهة بينهما { وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } وقال القتبي : الواو زيادة . ومعناه : فلما أسلما وتله للجبين ناديناه وهذا كما قال امرىء القيس
فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَة الحَيِّ وانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ خَبْت ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ
يعني : انتحى ، والواو زيادة . وقال بعضهم : في الآية مضمر . ومعناه { فَلَمَّا أَسْلَمَا } سلما { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } وذكر عن الخليل بن أحمد أنه سئل عن هذه الآية : فقال : ليس لنا في كتاب الله عز وجل متكلم .
فقيل له : فما مثله في العربية . فقال : قول امرىء القيس : فلما أجزنا ، ساحة الحي أجزنا وانتحى بنا . كذلك قوله : { أَسْلَمَا } سلما { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } . { وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } يعني : أوفيت الوعد ، وائتمرت ما أمرت لقول الله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } كما فعلت يا إبراهيم .
قوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } يعني : الاختبار البيّن . ثم قال : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } يعني : بكبش عظيم . والذبح بكسر الذال اسم لما يذبح ، وبالنصب مصدر . وروي عن ابن عباس أنه قال : حدثني من رأى قرني الكبش ، معلقين في الكعبة ، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عن إسماعيل عليهما السلام .
ثم قال : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين } قال : الثناء الحسن { سلام على إبراهيم } يعني : سلام الله على إبراهيم . ويقال : هذا موصول بالأول . يعني : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين * سلام على إبراهيم } يعني : أثنينا عليه السلام في الآخرين .
قوله : { كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } يعني : المصدقين ، المخلصين .
ثم قال عز وجل : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } يعني : بشرناه بنبوة إسحاق بعدما أمر بذبح إسحاق . وقال ابن عباس : بشر بإسحاق بعدما أمر بذبح إسماعيل . وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة .
ثم قال عز وجل : { وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } أي : على إبراهيم وعلى إسحاق ، وبركته النماء ، والزيادة في الأموال ، والأولاد ، فكان من صلبه ذرية لا تحصى { وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } مثل موسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان ، وعيسى عليهم السلام ومؤمنو أهل الكتاب { وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ } يعني : الذين كفروا بآيات الله عز وجل . وروي عن ابن عباس أنه قال : قد رعي الكبش في الجنة أربعين خريفاً . وقال بعضهم : هي الشاة التي تقرب بها هابيل ابن آدم عليهما السلام فتقبل منه قربانه ، ورفع إلى السماء حياً ، ثم جعل بدلاً عن ذبح إسماعيل أو إسحاق . ويقال : هي الشاة التي خلقها الله تعالى لأجله . وقال بعضهم : إنها وعلة من البر ، يعني : بقرة وحش من البر جبلية .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون } يعني : أنعمنا عليهما بالنبوة { ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم } يعني : من الغرق { ونصرناهم } يعني : موسى ، وقومه ، { فَكَانُواْ هُمُ الغالبون } بالحجة على فرعون { وءاتيناهما } يعني : موسى وهارون { الكتاب المستبين } يعني : المبين الذي قد بيّن فيه الحلال والحرام { وهديناهما الصراط المستقيم } يعني : ثبتناهما على دين الإسلام { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخرين } يعني : الثناء الحسن في الباقين { سلام على موسى وهارون } يعني : السلامة منا ، والمغفرة عليهما { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي : نكافىء المحسنين { إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } يعني : من المرسلين .
قوله عز وجل : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين } يعني : نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وقال بعضهم : إنه إدريس . وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ { وَأَنْ إِدْرِيسَ لَمِنَ المرسلين سلام على إِدْرِيسَ } . وقال بعضهم : إلياس هو الخضر عليه السلام . وقال بعضهم : إلياس غير الخضر . وإلياس صاحب البراري . والخضر صاحب الجزائر ، ويجتمعان في كل يوم عرفة بعرفات ويقال : هو من سبط يوشع بن نون ، بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك ، فكذبوه ، فأهلكهم الله تعالى بالقحط . وقال الله عز وجل لإلياس : سلني أعطك . قال : ترفعني إليك . فرفعه الله تعالى إليه ، وجعله أرضياً ، سماوياً ، إنسياً ، ملكياً ، يطير مع الملائكة ، فذلك قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الأمر . يعني : اتقوا الله تعالى { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ } ربّاً . روى عكرمة عن ابن عباس قال : البعل الصنم . وقال مجاهد : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ } رباً . وروى جبير عن الضحاك قال : مرّ رجل وهو يقول : من يعرف بعل البقرة . فقال رجل أنا بعلها . فقال له ابن عباس إنك زوج البقرة . فقال الرجل : يا ابن عباس أما سمعت قول الله تعالى يقول : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } يعني : رباً وأنا ربها ويقال : البعل كان اسم ذلك الصنم خاصة الذي كان لهم . ويقال : كان صنماً من ذهب ، فقال لهم : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي الصنم { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } الذي خلقكم يعني : تتركون عبادة الله { الله رَبُّكُمُ } قرأ حمزة . والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص { الله رَبُّكُمُ } { وَرَبُّ ءابَائِكُمُ } كلها بالنصب . وقرأ الباقون كلها بالضم . فمن قرأ : بالنصب . يرده إلى قوله : { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ } على صفة أحسن الخالقين . ومن قرأ بالضم ، فهو على معنى الاستئناف . فكأنه قال : هو الله ربكم ورب آبائكم الأولين .
ثم قال عز وجل : { فَكَذَّبُوهُ } يعني : كذبوا إلياس { فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } يعني : هم وآلهتهم لمحضرون النار { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } فإنهم لا يحضرون النار { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين } يعني : الثناء الحسن { سلام على إِلْ يَاسِينَ } قرأ نافع ، وابن عامر ، { سلام على إِلْ يَاسِينَ } وقرأ الباقون : { إلْيَاسِين } .
ومن قرأ { على إِلْ يَاسِينَ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ويقال : آل محمد . فياسين اسم والال مضاف إليه ، وآل الرجل أتباعه . وقيل : أهله . ومن قرأ الياسين ، فله طريقان أحدهما أنه جمع الياس . ومعناه : الياس ، وأمته من المؤمنين . كما يقال : رأيت المهالبة . يعني : بني المهلب . والثاني أن يكون لقبان الياس والياسين مثل ميكال وميكائيل .
ثم قال : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } وقد ذكرناه . قوله عز وجل : { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين } .
قوله : { إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِين إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين } وقد ذكرناه .
ثم قال عز وجل : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } يعني : إنكم يا أهل مكة لتمرون على قرياتهم ، إذا سافرتم بالليل والنهار ، فذلك قوله : { وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين } يعني : من جملة المرسلين { إِذْ أَبَقَ } يعني : إذ فرّ . ويقال : إذ هرب . ويقال : خرج { إِلَى الفلك المشحون } يعني : المُوقد من الناس ، والدواب . ويقال : المجهز الذي قد فرغ من جهازه { فساهم } يعني : اقترعوا وقد ذكرت قصته في سورة الأنبياء { فَكَانَ مِنَ المدحضين } يعني : من المقروعين والمدحض في اللغة هو المغلوب في الحجة ، وأصله من دحض الرجل إذ ذلّ من مكانه .
قوله : { فالتقمه الحوت } يعني : ابتلعه الحوت { وَهُوَ مُلِيمٌ } قال أهل اللغة : المليم الذي استوجب اللوم ، سواء لأمره ، أو لا . والملوم الذي يلام ، سواء استوجب اللوم أو لا . ويقال : وهو ملوم يعني : يلوم نفسه { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } قال مقاتل والكلبي : لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك . ويقال : { لَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } في بطن الحوت { لَلَبِثَ } أي : لمكث { فِى بَطْنِهِ } ولكان بطنه قبره { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يعني : إلى يوم القيامة .
قوله عز وجل : { فنبذناه بالعراء } يعني : نبذه الحوت على ساحل البحر . ويقال : بالفضاء على ظاهر الأرض . وقال أهل اللغة : العراء هو المكان الخاليّ من البناء ، والشجر ، والنبات . فكأنه من عرى الشيء { وَهُوَ سَقِيمٌ } يعني : مريض . وذكر في الخبر أنه لم يبقَ له لحم ، ولا ظفر ، ولا شعر ، فألقاه على الأرض كهيئة الطفل لا قوة له ، وقد كان مكث في بطن الحوت أربعين يوماً .
ثم قال : { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ } قال مقاتل : يعني : من قرع . وهكذا قال قتادة ، ومجاهد . وقال أهل اللغة : كل شيء ينبت بسطاً ، فهو يقطين ، هكذا قال الكلبي . وذكر في الخبر أن وعلة كانت تختلف إليه ، ويشرب من لبنها ، فكان تحت ظل اليقطين ، ويشرب من لبن الوعلة ، يعني : بقرة الوحش حتى تقوى ، ثم يبست تلك الشجرة ، فاغتم لذلك ، وحزن حزناً شديداً ، وبكى فأوحى الله تعالى إليه إنك قد اغتتمت بيبس هذه الشجرة ، فكيف لم تغتم بهلاك مائة ألف أو يزيدون؟ فذلك قوله : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } يعني : كما أرسلناه قبل ذلك إلى قومه ، وهم مائة ألف .
يعني : أهل نينوى { أَوْ يَزِيدُونَ } . يعني : بل يزيدون . ويقال : يعني : ويزيدون وكانوا مائة وعشرين ألفاً { فَئَامِنُواْ } يعني : لما جاءهم العذاب ، أقروا وصدقوا ، فصرف الله عنهم العذاب ، فذلك قوله : { فمتعناهم إلى حِينٍ } يعني : أبقيناهم إلى منتهى آجالهم . فخرج يونس عليه السلام ، فمر بجانب مدينة نينوى ، فرأى هناك غلاماً يرعى ، فقال : من أنت يا غلام؟ فقال : من قوم يونس . فقال : فإذا رجعت إليهم فأخبرهم بأنك قد رأيت يونس . فقال الغلام : إنه من يحدث ، ولم تكن له بينة قتلوه . فقال له يونس : تشهد لك هذه البقعة ، وهذه الشجرة . فدخل ، وقال للملك : إني رأيت يونس عليه السلام يقرئك السلام ، فلم يصدقوه ، حتى خرجوا . فشهدت له الشجرة ، والبقعة . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فأخذ الملك بيد الغلام ، وقال : أنت أحق بالملك مني . فأقام الغلام أميرهم أربعين سنة .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
ثم قال عز وجل : { فاستفتهم } يعني : سل أهل مكة { أَلِرَبّكَ البنات } قال مقاتل : وذلك أن جنساً من الملائكة ، يقال لهم : الجن منهم إبليس . قال بعض الكفار : إن الله عز وجل اتخذتهم بناتاً لنفسه ، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهم؟ فقالوا : سروات الجن . فذلك قوله : { أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } يعني : يختارون له البنات ، ولأنفسهم البنين .
ثم قال : { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون } يعني : كانوا شاهدين حاضرين حين خلقهم بناتاً { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ } يعني : من كذبهم { لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قلوبهم .
ثم قال عز وجل : { أَصْطَفَى البنات على البنين } وذكر عن نافع أنه قرأ بإسقاط الألف في الوصل وهو قوله : { لكاذبون اصطفى } وبكسرها في الابتداء . وجعلها ألف وصل ، ولم يجعلها ألف قطع ، ولا ألف استفهام . ومعناها : أن الله عز وجل حكى عن كفار قريش أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأنهم من إفكهم ليقولون : ولد الله ، وإنهم لكاذبون في قولهم : اصطفى البنات على البنين . وقرأ الباقون : { لكاذبون اصطفى } بإثبات الألف على معنى الاستفهام . فلفظه لفظ الاستفهام ، والمراد به الزجر .
ثم قال عز وجل : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } يعني : كيف تقضون بالحق { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أنه لا يختار البنات على البنين { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ } يعني : ألكم حجة . ويقال : ألكم عذر بيّن في كتاب الله ، أنزل الله إليكم بأن الملائكة بناته { فَأْتُواْ بكتابكم } يعني : أي بعذركم وحجتكم { إِن كُنتُمْ صادقين } في مقالتكم .
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
ثم قال عز وجل : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } يعني : وصفوا بين الرب ، وبين الملائكة نسباً حين زعموا أنهم بناته . ويقال : جعلوا بينه وبين إبليس قرابة . وروى جبير عن الضحاك قال : قالت قريش : إن إبليس أخو الرحمن . وقال عكرمة : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } قالوا : الملائكة بنات الله ، وجعلوهم من الجن . وهكذا قال القتبي .
ثم قال : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة } قال مقاتل والكلبي : يعني : علمت الملائكة الذين قالوا إنهم البنات { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أن من قال : إنهم بناته لمحضرون في النار . ويقال : لو علمت الملائكة أنهم لو قالوا بذلك ، أدخلوا النار ثم قال عز وجل :
{ سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } يعني : تنزيهاً لله عما يصف الكفار . ثم استثنى على معنى التقديم والتأخير ، يعني : فقال إنهم لمحضرون { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } يعني : الموحدين . فإنهم لا يقولون ذلك .
ثم قال عز وجل : { فَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين } يعني : ما أنتم عليه بمضلين أحداً بآلهتكم { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } يعني : إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم . ويقال : إلا من كان في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم . ويقال : إلا من قدرت عليه الضلالة ، وعلمت ذلك منه ، وأنتم لا تقدرون على الإضلال والهدى { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } يعني : قل يا جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم . يعني : مصلى معروفاً في السماء ، يصلي فيه ويعبد الله تعالى فيه { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } يعني : صفوف الملائكة في السموات . وروي عن مسروق ، عن ابن مسعود قال : إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك ساجد . وروي : أو قدماه . وروي عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْر إلاَّ وَفِيهِ جَبْهَةُ مَلَك سَاجِد » . ويقال : إن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : لمزمل : 20 ) { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في السموات ، يعبد الله عز وجل فيه { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } يعني : المصلين { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ والله يُقَدِّرُ اليل والنهار عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الارض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَءَاخَرُونَ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[ المزمل : 20 ] { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا } يعني : إن أهل مكة كانوا يقولون : لو أتانا بكتاب مثل اليهود والنصارى ، لكنا نؤمن ، فذلك قوله عز وجل : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين } يعني : لو جاءنا رسول { لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين } يعني : الموحدين . فلما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به . ويقال : يعني : بالقرآن { فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يعني : يعرفون في الآخرة ، وهذا وعيد لهم . ويقال في الدنيا .
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا } يعني : قد مضت كلمتنا بالنصرة لعبادنا { المرسلين } يعني : الأنبياء عليهم السلام وهو قوله عز وجل : { كَتَبَ الله لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلى إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } في الدنيا على أعدائهم { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } يعني : المؤمنون أهل ديننا . ويقال : رسلنا لهم الغالبون في الدنيا بالغلبة ، والحجة في الآخرة { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } يعني : فأعرض عنهم إلى نزول العذاب ، وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال { حتى حِينٍ } قال الكلبي : إلى فتح مكة . ويقال : إلى أن تؤمر بالقتال { وأبصارهم } يعني : أعلمهم ذلك { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } يعني : يرون ماذا يفعل بهم إذا نزل بهم العذاب { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } يعني : أفبعذاب مثلي { يَسْتَعْجِلُونَ } { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } يعني : بقربهم وحضرتهم { فَسَاء صَبَاحُ المنذرين } يعني : بئس الصباح صباح من أنذر بالعذاب . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل بقرب خيبر قال : « هَلَكَت خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرينَ » يعني : من أنذرتهم فلم يؤمنوا .
قوله عز وجل : { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } وتكرار الكلام للتأكيد ، والمبالغة في الحجة .
ثم نزّه نفسه عما قالت الكفار ، فقال عز وجل : { سبحان رَبّكَ } يا محمد { رَبّ العزة } والقدرة { عَمَّا يَصِفُونَ } يعني : عما يقولون وقرىء في الشاذ { رَبّ العزة } ويكون نصباً على المدح ، وفي الشاذ قرىء ( رَبُّ العِزَّة ) بالرفع على معنى هو رب العزة . وقراءة العامة : بالكسر على معنى النعت .
ثم قال عز وجل : { وسلام على المرسلين } بتبليغ الرسالة . ففي الآية دليل وتنبيه للمؤمنين بالتسليم على جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام . ثم قال : { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } على هلاك الكافرين الذين لم يوحدوا ربهم . ويقال : حمد الرب نفسه ليكون دليلاً لعباده ، ليحمدوه سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
قوله تعالى : { ص والقرءان } قرأ الحسن : صاد بالكسر . وجعلها من المصادات . يقول عارض القرآن : أي عارض عملك بالقرآن . ويقال : بقلبك . وروى معمر ، عن قتادة ، في قوله { ص } قال : هو كما تقول تلق كذا أي : هيىء نفسك لقدوم فلان . يعني : طهر نفسك بآداب القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم : « القُرْآنُ مَأْدُبَةُ الله تَعَالَى فَتَطَّعمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ » وكان عيسى ابن مريم يعمر ، يقرأ صَادَ بالنصب ، وكذلك يقرأ قاف ، ونون بالنصب . ومعناه : اقرأ صاد ، وقراءة العامة بسكون الدال ، لأنها حروف هجاء ، فلا يدخلها الإعراب ، وتقديرها الوقف عليها . وقيل : في تفسير قول الله تعالى : { ص } يعني : الله هو الصادق . ويقال : هو قسم . { والقرءان } عطف عليه قسم بعد قسم . ومعناه أقسمت بصاد ، وبالقرآن . وقال علي بن أبي طالب : الصاد اسم بحر في السماء . وقال ابن مسعود في قوله : { ص والقرءان } يعني : صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من الباطل . وقال الضحاك : معناه صدق الله .
ثم قال { ص والقرءان ذِى } يعني : والقرآن ذي الشرف . ويقال : فيه ذكر من كان قبله ، وجواب القسم عند قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } [ ص : 64 ] والجواب قد يكون مؤخراً عن الكلام كما قال : { والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 ، 2 ] وجوابه قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] وقوله : { والسمآء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] وجوابه قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] وقال بعضهم : جواب القسم هاهنا { كَمْ أَهْلَكْنَا } ومعناه : لكم أهلكنا ، فلما طال الكلام حذف اللام .
ثم قال : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ } أي : في حمية . كقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } [ البقرة : 206 ] يعني : الحمية . ويقال : { فِى عِزَّةٍ } يعني : في تكبر { وَشِقَاقٍ } يعني : في خلاف من الدين بعيد . ويقال : في عداوة ، ومباعدة ، وتكذيب . وقال القتبي : بل في اللغة على وجهين أحدهما لتدارك كلام غلطت فيه . تقول : رأيت زيداً بل عمراً . والثاني أن يكون لترك شيء ، وأخذ غيره من الكلام كقوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } .
ثم خوّفهم فقال عز وجل : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } يعني : من أمة { فَنَادَوْاْ } يعني : فنادوا في الدنيا ، واستغاثوا { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } يعني : وليس تحين فرار . قال الكلبي : فكانوا إذا قاتلوا ، قال بعضهم لبعض : { مَنَاصٍ } يعني : يقول احمل حملة واحدة ، فينجو من نجا ، ويهلك من هلك . فلما أتاهم العذاب قالوا : { مَنَاصٍ } مثل ما كانوا يقولون . فقال الله تعالى : ليس تحين فرار وهي لغة اليمن . وقال القتبي : النوص التأخر . والبوص التقدم في كلام العرب . وروى معمر عن قتادة في قوله : { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال : نادوا على غير حين النداء . وقال عكرمة : نادوا وليس تحين انفلات . وقال أبو عبيدة : اختلفوا في الوقف . فقال بعضهم : يوقف عند قوله : { وَّلاَتَ } ثم يبتدأ ب { حِينَ مَنَاصٍ } لأنا لا نجد في شيء من كلام العرب ولات . أما المعروف لا ولأنَّ تفسير ابن عباس يشهد لها ، وذلك أنه قال : ليس تحين فرار . وليس هي أخت لا ولا بمعناها . قال أبو عبيد ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له : مصحف الإمام . وهو مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه فوجدت التاء متصلة مع حين .
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
ثم قال عز وجل : { وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ } يعني : مخوف منهم ، ورسول منهم يعني : من العرب وهو محمد صلى الله عليه وسلم { وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ } يكذب على الله تعالى أنه رسوله { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا } يعني : كيف يتسع لحاجتنا إله واحد { إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ } يعني : لأمر عجيب . والعرب تحول فعيلاً إلى فعال . وهاهنا أصله شيء عجيب . كما قال في سورة ق { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [ ق : 2 ] { وانطلق الملا مِنْهُمْ } قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما مرض أبو طالب ، دخل عليه نفر من قريش ، فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويقول ويقول ، ويفعل ويفعل ، فأرسل إليه ، فانهه عن ذلك ، فأرسل إليه أبو طالب ، وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل ، فخشي أبو جهل إن جاء النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه ، أن يكون أرق له عليه . فوثب أبو جهل ، فجلس في ذلك المجلس ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد مجلساً إلا عند الباب . فلما دخل ، قال له أبو طالب : يا ابن أخي إن قومك يشكونك ، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم ، وتقول وتقول ، وتفعل وتفعل . فقال : « يَا عَمُّ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً ، تُدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ ، وَتُؤَدِي إليهِم بِهَا العَرَبُ والعَجَمُ الجِزْيَةَ » فقالوا : وما هي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ إله إلاَّ الله » فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، ويقولون : { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ وانطلق الملا مِنْهُمْ } يعني : الأشراف من قريش { أَنِ امشوا } يعني : امكثوا { واصبروا } يعني : اثبتوا { على ءالِهَتِكُمْ } يعني : على عبادة آلهتكم { إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ } يعني : لأمر يراد كونه بأهل الأرض . ويقال : إن هذا لشيء يراد . يعني : لا يكون ولا يتم له { مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الاخرة } يعني : في اليهود والنصارى { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } يعني : يختلقه من قبل نفسه . ويقال : في قوله : { إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ } يعني : أراد أن يكون .
ثم قال عز وجل : { عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا بْل } يعني : أخصّ بالنبوة من بيننا . يقول الله عز وجل : { بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى } يعني : في ريب من القرآن والتوحيد { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } أي : لم يذوقوا عذابي كقوله : { قَالَتِ الاعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أعمالكم شَيْئاً إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[ الحجرات : 14 ] أي : لم يدخل فهذا تهديد لهم ، أي : سيذوقوا عذابي .
ثم قال : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ } يعني : مفاتيح رحمة ربك . يعني : مفاتيح النبوة بأيديهم ، ليس ذلك بأيديهم ، وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء { العزيز الوهاب } يعني : بيد الله { العزيز } في ملكه { الوهاب } لمن يشاء . بل الله يختار من يشاء للوحي ، فيوحي الله عز وجل وهي الرسالة لمن يشاء { وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب } يعني : إن لم يرضوا بما فعل الله تعالى ، فليتكلفوا الصعود إلى السماء . وقال القتبي : أسباب السماء أي : أبواب السماء ، كما قال القائل . ولو نال أسباب السماء بسلم . قال : ويكون أيضاً { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب } يعني : في الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى إلى السماء ، فتأتيهم بآية ، وهذا كله تهديد ، وتوبيخ بالعجز .
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
ثم قال عز وجل : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } يعني : جند عند ذلك ، وما زائدة . يعني : حين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم { مَهْزُومٌ } يعني : مغلوب { مّن الاحزاب } يعني : من الكفار . وقال مقاتل : فأخبر الله تعالى بهزيمتهم ببدر . وقال الكلبي : يعني عند ذلك إن أرادوه { مَهْزُومٌ } مغلوب .
ثم قال عز وجل : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } يعني : من قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد } يعني : ذو ملك ثابت ، شديد دائم ويقال : ذو بناء محكم . ويقال : يعني : في عز ثابت . والعرب تقول : فلان في عز ثابت الأوتاد . يريدون دائم شديد ، وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد . ويقال : هي أوتاد كانت لفرعون يعذب بها ، وكان إذا غضب على أحد شدّه بأربعة أوتاد .
ثم قال : { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب لئَيْكَةِ } يعني : الغيضة وهم قوم شعيب عليه السلام { أُوْلَئِكَ الاحزاب } يعني : الكفار ، سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا على أنبيائهم . أي : تجمعوا ، وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش ، حزب من هؤلاء الأحزاب { إِن كُلٌّ } يعني : ما كل { إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ } يعني : وجب عذابي عليهم .
قوله عز وجل : { وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء } يعني : قومك { إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } يعني : النفخة الأولى { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } يعني : من نظرة ، ومن رجعة . قرأ حمزة والكسائي { فَوَاقٍ } بضم الفاء . وقرأ الباقون : بالنصب . ومعناهما واحد . يسمى ما بين حلبتي الناقة { فَوَاقٍ } لأن اللبن يعود إلى الضرع . وكذلك إفاقة المريض يعني : يرجع إلى الصحة . فقال : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } يعني : من رجوع . وقال أبو عبيدة : من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة يذهب بها إلى إفاقة المريض ، ومن ضمها جعلها من فواق الناقة ، وهو ما بين الحلبتين ، يعني : ما لها من انتظار . وقال القتبي : الفُواق والفَواق واحد ، وهو ما بين الحلبتين .
ثم قال تعالى : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } قال ابن عباس وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : « مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ » فقالوا : { رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } يعني : صحيفتنا ، وكتابنا في الدنيا { قَبْلَ يَوْمِ الحساب } والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة . ويقال : لما نزل قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] فقالوا { رَبَّنَا عَجّل لَّنَا } هذا الكتاب { قَبْلَ يَوْمِ الحساب } استهزاء .
ثم عزّى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل : { اصبر على مَا يَقُولُونَ } من التكذيب { واذكر عَبْدَنَا دَاودُ ذَا الايد } يعني : ذا القوة على العبادة { إِنَّهُ أَوَّابٌ } يعني : مقبل على طاعة الله عز وجل .
وقال مقاتل : { أَوَّابٌ } يعني : مطيع .
قوله عز وجل : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ } يعني : ذلّلنا الجبال { يُسَبّحْنَ } مع داود عليه السلام { بالعشى والإشراق } يعني : في آخر النهار ، وأوله . وروى طاوس أن ابن عباس قال لأصحابه : هل تجدون صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا : لا . قال : بلى . قوله : { يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } كانت صلاة الضحى يصليها داود عليه السلام .
ثم قال عز وجل : { والطير مَحْشُورَةً } يعني : مجموعة { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } يعني : مطيع . وقال عمرو بن شرحبيل : الأواب بلغة الحبشة المسيح . وقال الكلبي : المقبل على طاعة الله تعالى .
قوله عز وجل : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } يعني : قوّينا حراسه . قال مقاتل والكلبي : كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل . ويقال : قوينا ملكه ، وأثبتناه ، وحفظناه عليه . وروي في الخبر أن غلاماً استعدى على رجل ، وادعى عليه . بقراً فأنكر المدعى عليه ، وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه ، فسأل داود من الغلام البينة ، فلم يقمها ، فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه ، ويسلم البقر إلى الغلام . فقال داود : هو منام ثم أتاه الوحي بذلك ، فأخبر بذلك بنو إسرائيل ، فجزعت بنو إسرائيل وقالوا : رجل لطم غلاماً لطمة فقتله بذلك . فقال داود عليه السلام : هذا أمر الله تعالى به ، فسكتوا . ثم أحضر الرجل فأخبره أن الله تعالى أمره بقتله . فقال الرجل : صدقت يا نبي الله : إني قتلت أباه غيلة ، وأخذت البقر ، فقتله داود ، فعظمت هيبته ، وشدد ملكه . فلما رأى الناس ذلك جلّ أمره في أعينهم ، وقالوا : إنه يقضي بوحي الله تعالى ، ثم إن الله تعالى أرخى سلسلة من السماء ، وأمره بأن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ، ومن كان ظالماً لا يقدر على أخذ السلسلة . وقد كان غصب رجل من رجل لؤلؤاً ، فجعل اللؤلؤ في جوف عصاً له ، ثم خاصمه المدعي إلى داود عليه السلام فقال المدعي : إن هذا أخذ مني لؤلؤاً ، وإني لصادق في مقالتي . فجاء ، وأخذ السلسلة ، ثم قال المدعى عليه : خذ مني العصا ، فأخذ عصاه ، وقال : إني قد دفعت إليه اللؤلؤ ، وإني لصادق في مقالتي ، فجاء وأخذ السلسلة . فتحير داود عليه السلام في ذلك ، فرفعت السلسلة ، وأمره بأن يقضي بالبينات والأيمان ، فذلك قوله عز وجل : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } يعني : الفهم ، والعلم . ويقال : يعني النبوة { وَفَصْلَ الخطاب } يعني : القضاء بالبينات ، والأيمان . وقال قتادة ، والحسن؛ { وَفَصْلَ الخطاب } يعني : البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
ثم قال عز وجل : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } يعني : خبر الخصم . ويقال : خبر الخصوم أي : وهل أتاك يا محمد ، ما أتاك ، حين أتاك ، ويقال : وقد أتاك { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } والتسور أن يصعد في مكان مرتفع ، وإنما سمي المحراب سوراً ، لارتفاعه من الأرض . ويقال { تَسَوَّرُواْ } يعني : دخلوا عليه من فوق الجدار . وقال الحسن البصري : وذلك أن داود عليه السلام جزأ الدهر أربعة أيام . فيوماً لنسائه ، ويوماً لقضائه ، ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه ، ويوماً لبني إسرائيل ليسألونه فقال يوماً لبني إسرائيل : أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوماً لا يصيب الشيطان منه شيئاً؟ فقالوا : يا نبي الله ، والله لا نستطيع . فحدث داود نفسه أنه يستطيع ذلك . فدخل محرابه ، وأغلق بابه ، فقام يصلي في المحراب ، فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون ، فوقع قريباً منه ، فنظر إليه ، فأعجبه ، فوقع في نفسه منه ، فدنا منه ليأخذه ، فوقع قريباً منه وأطمعه ، أن سيأخذه ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، حتى إذا كان في الرابعة ، ضرب يده عليه فأخطأه ، ووقع على سور المحراب . قال : وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء ، فضرب يده عليه ، وهو على سور المحراب ، فأخطأه وهرب الطائر ، فأشرف داود ، فإذا بامرأة تغتسل ، فلما رأته نقضت شعرها ، فغطى جسدها ، فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته ، فنزل من محرابه ، ولبست المرأة ثيابها ، وخرجت إلى بيتها ، فخرج حتى عرف بيتها ، وسألها من أنت؟ فأخبرته : فقال : هل لك زوج؟ قالت : نعم . قال أين هو؟ فقالت : في بعث كذا وكذا ، وجند كذا وكذا . فرجع ، وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا ، فاجعل فلاناً في أول الخيل . فقدم في فوارس ، فقاتل ، فقتل . ثم انتظر حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، وتزوجها . فبينما هو في المحراب ، إذ تسور عليه ملكان ، وكان الباب مغلقاً ، ففزع منهما ، فقالا : لا تخف { خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق } يعني : اقض بيننا بالعدل . ثم خاصم أحدهما الآخر ، فقال : { إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } إلى آخره . فعلم داود عليه السلام أنه مراد بذلك ، فخرّ راكعاً وأناب . قال الحسن : سجد أربعين ليلة ، لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة . قال : ولم يذق طعاماً ، ولا شراباً ، حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك . وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس ، أنه سجد أربعين يوماً حتى سقط جلد وجهه ، ونبت العشب من دموعه . فقال : يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي ، وذكر أن جبريل عليه السلام قال له : اذهب إلى أوريا فاستحل منه ، فإنك تسمع صوته في يوم كذا ، فأتاه ذات ليلة ، فناداه ، فأجابه ، فاستحل منه ، فقال : أنت في حلّ .
فلما رجع ، قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك . قال : لا . قال : فإنك لم تفعل شيئاً . قال : فارجع ، فأخبره بالذي صنعت ، فرجع داود فأخبره بذلك ، فقال : أنا خصمك يوم القيامة ، فرجع مغتماً ، وبكى أربعين يوماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يقول : إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي ، وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء ، فسري عنه ذلك ، وكان محزوناً في عمره ، باكياً على خطيئته . وروي في خبر آخر ، أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم : يا إله إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فيستجاب لهم . فقال لهم داود عليه السلام اذكروني فيهم . فقولوا : يا إله إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وداود ، فقالوا : الله أمرك بهذا . قال : لا . فقالوا : لا نزيد فيهم ما لم يأمرك الله تعالى بذلك . فسأل داود ربه أن يجعله فيهم ، فأوحى الله تعالى إليه ، وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد ، وما لقي إسحاق ويعقوب عليهم السلام فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم ، فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم . وقال بعضهم : هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي مثل داود أنه يفعل مثل ذلك ، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه ، فقال للمدعي : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فنسبه إلى الظلم بقول المدعي . فكان ذلك منه زلة ، فاستغفر ربه عن زلته ، فذلك قوله : { إِذْ دَخَلُواْ على * دَاوُودُ } وقال بعضهم : كانوا اثنين . فذكر بلفظ الجماعة فقال : { إِذْ دَخَلُواْ على * دَاوُودُ } وقال بعضهم : كانوا جماعة ، ولكنهم كانوا فريقين فقال : { إِذْ دَخَلُواْ على * دَاوُودُ ****فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } يعني : استطال ، وظلم بعضنا على بعض { فاحكم بَيْنَنَا بالحق } يعني : اقض بيننا بالعدل { وَلاَ تُشْطِطْ } أي ولا تجر في الحكم ، والقضاء . ويقال : أشططت إذا جرت { واهدنا إلى سَوَاء الصراط } يعني : أرشدنا إلى أعدل الطريق .
قوله عز وجل : { إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } يعني : أعطني هذه النعجة . وهذا قول الكلبي ومقاتل . وقال القتبي { أَكْفِلْنِيهَا } يعني : ضمها إليّ ، واجعلني كافلها { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } يعني : غلبني في الكلام { قَالَ } داود { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } أي : مع نعاجه { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } يعني : من الإخوان والشركاء { لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } يعني : ليظلم بعضهم بعضاً { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فإنهم لا يظلمون { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } يعني : قليل منهم الذين لا يظلمون . فلما قضى بينهما داود عليه السلام أحب أن يعرفهما ، فصعد إلى السماء حيال وجهه { وَظَنَّ * دَاوُودُ } يعني : علم داود .
ويقال : ظن بمعنى أيقن . إلا أنه ليس بيقين عياناً ، لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم . { أَنَّمَا فتناه } يعني : ابتليناه ، واختبرناه . ويقال : إنهما ضحكا ، وذهبا . فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه بذلك . وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ { أَنَّمَا فتناه } بالتخفيف ، ومعناه ظن أن الملكين اختبراه ، وامتحناه في الحكم وقراءة العامة { فتناه } بالتشديد يعني : أن الله عز وجل قد اختبره ، وامتحنه بالملكين { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } يعني : { وَخَرَّ } وقع راكعاً ساجداً { وَأَنَابَ } يعني : أقبل إلى طاعة الله تعالى بالتوبة . وروى عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الله البجلي قال : إن داود لم يرفع رأسه إلى السماء ، مذ أصاب الخطيئة حتى مات . وذكر في الخبر أن داود كان له تسع وتسعون امرأة ، فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده ، فولد له منها سليمان ، وكان خليفته بعده .
يقول الله عز وجل : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك } يعني : ذنبه { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } لقربة { وَحُسْنُ مَئَابٍ } أي : المرجع في الآخرة . وروي أن كاتباً كان يكتب قوله تعالى : { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } وكان تحت شجرة ، فقرأها ، وكتبها ، فخرت الشجرة ساجدة لله تعالى ، وهي تقول : اللهم اغفر بها ذنباً ، وخرت الدواة ساجدة كذلك ، وهي تقول اللهم : احطط عني بها وزراً . وكذلك الصحيفة التي في يده ، وهي تقول : اللهم أحدث مني بها شكراً . وعن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رأيتني الليلة ، وأنا نائم ، كأني أصلي خلف الشجرة ، فقرأت السجدة فسجدتُّ فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجراً ، وضع عني بها وزراً ، واجعلها لي عندك ذخراً ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال ابن عباس فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية سجدة ، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة . وأيضاً سئل ابن عباس عن سجدة { ص } من أين سجدت . قال : أما تقرأ هذه الآية : { وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاودُ وسليمان } ، ثم قال : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين } [ الأنعام : 90 ] فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداءً به .
ثم قوله عز وجل : { مَئَابٍ ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض } يعني : أكرمناك بالنبوة ، وجعلناك خليفة ، والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله ، فقام مقام الخلفاء الذين قبله ، وكان قبله النبوة في سبط ، والملك في سبط آخر ، فأعطاهما الله تعالى لداود .
ثم قال : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } يعني : بالعدل { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } أي : لا تمل إلى هوى نفسك ، فتقضي بغير عدل . ويقال : لا تعمل بالجور في القضاء ، { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } كما اتبعت في بتشايع ، وهي امرأة أوريا ، { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } يعني : عن طاعة الله تعالى . ويقال : يعني : الهوى يستزلك { عَن سَبِيلِ الله } { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يعني : عن دين الله الإسلام { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } يعني : بما تركوا من العمل ليوم القيامة ، فلم يخافوه . ويقال : بما تركوا الإيمان بيوم القيامة .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قوله عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق { باطلا } يعني : عبثاً لغير شيء ، بل خلقناهما لأمر هو كائن { ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } يعني : يظنون أنهما خلقتا لغير شيء ، وأنكروا البعث { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } يعني : جحدوا من النار يعني : من عذاب النار { أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وذلك أن كفار مكة قالوا : إنا نعطى في الآخرة ، من الخير أكثر مما تعطون فنزل : { أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } في الثواب { كالمفسدين فِى الارض } يعني : كالمشركين . وقال في رواية الكلبي : نزلت في مبارزي يوم بدر { أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : علياً ، وحمزة ، وعبيدة رضي الله عنهم { كالمفسدين فِى الارض } يعني : عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد . ويقال : نزلت في جميع المسلمين ، وجميع الكافرين . يعني : لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة ، كما قال في آية أُخرى : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً محياهم ومماتهم سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] .
ثم قال عز وجل : { أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } يعني : كالكفار في الثواب . اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الوعيد .
ثم قال عز وجل : { كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك } يعني : أنزلنا جبريل عليه السلام به إليك { مُّبَارَكٌ } يعني : كتاب مبارك فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به ، وصدقه ، وعمل بما فيه ، { لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته } أي : لكي يتفكروا في آياته . قرأ عاصم في إحدى الروايتين : { لِتَدَبَّرُوا } بالتاء مع النصب ، وتخفيف الدال . وهو بمعنى : لتتدبروا . فحذفت إحدى التاءين ، وتركت الأخرى خفيفة ، وقراءة العامة { مبارك لّيَدَّبَّرُواْ } بالياء ، وتشديد الدال . وهو بمعنى : ليتدبروا . فأدغمت التاء في الدال ، وشددت .
ثم قوله عز وجل : { وَلِيَتَذَكَّرَ } يعني : وليتعظ بالقرآن { أُوْلُو الالباب } يعني : ذوو العقول من الناس .
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
{ وَوَهَبْنَا لداود سليمان } يعني : أعطينا لداود سليمان . وروي عن ابن عباس أنه قال : أولادنا من مواهب الله عز وجل .
ثم قرأ : و { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والارض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور } [ الشورى : 49 ] فوهب الله تعالى لداود سليمان { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } يعني : مقبلاً إلى طاعة الله تعالى .
قوله عز وجل : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشى } يعني : في آخر النهار { الصافنات الجياد } يعني : الخيل . قال الكلبي ومقاتل : صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه ، فيقوم على طرف حافره . وقال أهل اللغة : الصافن الواقف من الخيل . وفي الخبر : « مَنْ أَحَبَّ أنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفاً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » يعني : يديمون له القيام ، والجياد الحسان . ويقال : الإسراع في المشي . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : إن أهل دمشق من العرب ، وأهل نصيبين جمعوا جموعاً ، وأقبلوا ليقاتلوا سليمان ، فقهرهم سليمان ، وأصاب منهم ألف فرس عراب ، فعرضت على سليمان الخيل ، فجعل ينظر إليها ، ويتعجب من حسنها ، حتى شغلته عن صلاة العصر ، وغربت الشمس ، ثم ذكرها بعد ذلك ، فغضب ، وقال : { رُدُّوهَا عَلَىَّ } ، فضرب بسوقها ، وأعناقها بالسيف ، حتى خرّ منها تسعمائة فرس ، وهي التي كانت عرضت عليه ، وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه كما كان في أيدي الناس الآن من الجياد ، فهو من نسلها أي : من نسل المائة الباقية .
قوله تعالى : { فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير } يعني : آثرت حب المال { عَن ذِكْرِ رَبِى } يعني : عن الصلاة ، وهي صلاة العصر { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } يعني : حتى غابت الشمس ، وهذا إضمار لما لم يسبق ذكره . يعني : ذكر الشمس لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة عن العبارة . قوله . عز وجل { رُدُّوهَا عَلَىَّ } يعني : قال سليمان : ردوا الخيل عليّ ، فردت عليه { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق } يعني : يضرب السوق وهو جماعة الساق { والاعناق } وهو جمع العنق . وروي عن إبراهيم النخعي قال : كانت عشرين ألف فرس . وقال السدي : كانت خيل لها أجنحة . وقال أبو الليث : يجوز أن يكون مراده في سرعة السير ، كأن لها أجنحة . وقال بعضهم : كانت الجن والشياطين أخرجتها من البحر . وقال عامة المفسرين في قوله : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والاعناق } يعني : فضرب سوقها ، وأعناقها . وقال بعضهم : لم يعقر ولكن جعل على سوقهن ، وعلى أعناقهن ، سمة وجعلها في سبيل الله . قال : لأن التوبة لا تكون بأمر منكر . ولكن الجواب عنه أن يقال له : يجوز أن يكون ذلك مباحاً في ذلك الوقت ، وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله تعالى .
ثم قال عز وجل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } ابتليناه { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } يعني : شيطاناً .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن سليمان أمر بأن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل ، فعاقبه الله تعالى . فأخذ شيطان يقال له : صخر خاتمه ، وجلس على كرسيه أربعين يوماً ، وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة { ثُمَّ أَنَابَ } يعني : رجع إلى ملكه ، وأقبل على طاعة الله تعالى . وقال الحسن في قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : شيطاناً . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : سألت كعباً عن قوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : شيطاناً . يعني : أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه ، فقذفه في البحر ، فوقع في بطن سمكة ، وانطلق سليمان يطوف ، فتصدق عليه بسمكة ، فشواها ليأكل ، فإذا فيها خاتمه . وقال وهب بن منبه : إن سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب ، وكان لها عبد ، فطلبت منه أن يجزرها لعبدها . يعني : ينحر الجزور فأجزرها ، فكره ذلك منه ثم ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه . وروى معمر عن قتادة في قوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : كان الشيطان جلس على كرسيه أربعين ليلة ، حتى ردّ الله تعالى إليه ملكه . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال : شيطان يقال له صخر . قال له سليمان يوماً : كيف تفتنون الناس؟ فقال له : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه ، نبذه في البحر ، فذهب ملكه ، وقعد صخر على كرسيه ، ومنعه الله تعالى نساء سليمان ، فلم يقربهن ، فأنكرته أم سليمان ، أهو سليمان أم آصف؟ فكان يقول : أنا سليمان . فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه ملكه ، ودخل صخر البحر فاراً . وذكر شهر بن حوشب نحو هذا ، وقال : لما جلس سليمان على سريره ، بعث في طلب صخر ، فأتي به ، فأمر به ، فقورت له صخرة ، وأدخله فيها ، ثم أطبق عليها ، وألقاه في البحر ، وقال : هذا سجنك إلى يوم القيامة . وقال بعضهم : هذا التفسير الذي قاله هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح ، لأنه لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطاناً من الشياطين على أحكام المسلمين ، ويجلسه على كرسي نبي من الأنبياء عليهم السلام ولكن تأويل الآية والله أعلم : أن سليمان كان له ابن ، فجاء ملك الموت يوماً زائراً لسليمان ، فرآه ابنه فخافه ، وتغيّر لونه ، ومرض من هيبته ، فأمر سليمان عليه السلام الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك عنه ، فلما رفعته الريح فوق السحاب ، ودنا أجله ، فقبض ابنه ، وألقي على كرسيه فذلك قوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } يعني : ابنه الميت . قال : والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت الذي لا يأكل الطعام ، والشراب ، كالميت ونحوه .
وذكر أن سليمان جزع على ابنه ، إذ لم يكن له إلا ابن واحد ، فدخل عليه ملكان ، فقال أحدهما : إن هذا مشى في زرعي فأفسده . فقال له سليمان : لم مشيت في زرعه؟ فقال : لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ، ولم أجد مسلكاً غير ذلك . فقال سليمان للآخر : لم زرعت في طريق الناس ، أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه؟ فقال لسليمان : صدقت . لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على الموت؟ ثم غابا عنه . فاستغفر سليمان فذلك قوله : { ثُمَّ أَنَابَ } يعني : تاب ورجع إلى طاعة الله عز وجل .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قوله عز وجل : { قَالَ رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً } أي : أعطني ملكاً { لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } قال سعيد بن جبير : أعطني ملكاً لا تسلبه كما سلبت في المرة الأولى . ويقال : إنما تمنى ملكاً لا يكون لأحد من بعده ، حتى يكون ذلك معجزة له ، وعلامة لنبوته . { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } يعني : المعطي الملك .
قوله عز وجل : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ } وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح ، والشياطين . فلما دعا بذلك ، سخرت له الريح والشياطين . فقال : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ } يعني : بأمر سليمان . ويقال : بأمر الله تعالى { رُخَاء } يعني : لينة مطيعة { حَيْثُ أَصَابَ } يعني : حيث أراد من الأرض ، والنواحي { أَصَابَ } يعني : أراد . وقال الأصمعي : العرب تقول : أصاب الصواب ، فأخطأ الجواب . يعني : أراد الصواب ، فأخطأ الجواب . { والشياطين } يعني : سخرنا له كل شيء ، وسخرنا له الشياطين أيضاً { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } يعني : يغوصون في البحر ، ويستخرجون اللؤلؤ ، وقال مقاتل : وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر { وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ } يعني : مردة الشياطين موثقين { فِى الاصفاد } يعني : في الحديد ويقال : { الاصفاد } الأغلال .
ثم قال عز وجل : { هذا عَطَاؤُنَا } يعني : هذا عطاؤنا لك ، وكرامتنا عليك { فامنن } يعني : اعتق من شئت منهم ، فخلّ سبيله من الشياطين { أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : احبس في العمل ، والوثاق ، والسلاسل من شئت منهم { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : فلا تبعة عليك في الآخرة فيمن أرسلته ، وفيمن حبسته . ويقال : ليس عليك بذلك إثم { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } يعني : لقربى { وَحُسْنُ مَئَابٍ } يعني : حسن المرجع .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله عز وجل : { واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ } يعني : واذكر صبر عبدنا أيوب { إِذْ نادى رَبَّهُ } يعني : دعا ربه { أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان } يعني : أصابني الشيطان { بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } وهو المشقة والعناء والأمراض ، وعذاب في ماله . يعني : هلاك أهله ، وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء قوله عز وجل : { اركض بِرِجْلِكَ هذا } يعني : قال له جبريل : اضرب الأرض برجلك ، فضرب فنبعت عين من تحت قدميه ، فاغتسل فيها ، فخرج منها صحيحاً ، ثم ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد ، فشرب منها ، فذلك قوله { هذا مُغْتَسَلٌ } يعني : الذي اغتسل منها . ثم قال : { بَارِدٌ وَشَرَابٌ } يعني : الذي شرب منها .
قوله عز وجل : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لاِوْلِى الالباب وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } يعني : قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة . وقال الكلبي { ضِغْثاً } أي : مجتمعاً . وقال مقاتل : الضغث القبضة الواحدة ، فأخذ عيداناً رطبة من الآس ، فيه مائة عود . وقال القتبي : الضغث الحزمة من العيدان ، والكلأ { فاضرب بّهِ } يعني : اضرب به امرأتك { وَلاَ تَحْنَثْ } في يمينك . وقال الزجاج : قالت امرأته : لو ذبحت عناقاً باسم الشيطان؟ فقال : لا ، وَلاَ كَفّاً مِن تُرَاب . وحلف أنه يضربها مائة سوط ، وأمر بأن يبرّ في يمينه { إِنَّا وجدناه صَابِراً } على البلاء الذي ابتليناه { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } يعني : مقبل على طاعة ربه . وقال وهب بن منبه : أصاب أيوب البلاء سبع سنين ، ومكث يوسف في السجن سبع سنين ، ويقال : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } لما هلك ماله . قال : كان ذلك من عطاء الله ، ولما هلك أولاده قال : { الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون } [ البقرة : 156 ] ولما ابتلي بالنفس قال : إني له . ويقال : واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب ، إذ ضاق صدرك من أذى الكفار ، وأمر أمتك ليذكروا صبره ، ويعتبروا ، ويصبروا .
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
ثم قال عز وجل : { واذكر عِبَادَنَا إبراهيم } فجعل العبد نعت إبراهيم خاصة ، كأنه قال : واذكر عبدنا قرأ ابن كثير { واذكر عَبْدَنَا } بغير ألف وقرأ الباقون : { عِبَادِنَا } بالألف . فمن قرأ عبدنا فمعناه : { واذكر عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ } فجعل العبد نعتاً لإبراهيم خاصة ، فكأنه قال : { واذكر عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ } { و } اذكر { لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } ومن قرأ { عِبَادِنَا } يعني : ما بعده مع إِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْحَاقَ ، ويَعْقُوبَ { أُوْلِى الايدى والابصار } يعني : أولي القوة في العبادة ، والأبصار . يعني : ذوي البصر في أمر الله تعالى .
قوله عز وجل : { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } يعني : اختصصناهم بذكر الله تعالى ، وبذكر الجنة ، وليس لهم همّ إلا همّ الآخرة . ويقال : معناه واذكر صبر إبراهيم ، وصبر إسحاق ، وصبر يعقوب ، ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتلَ بشيء . قرأ نافع { بِخَالِصَةٍ } بغير تنوين على معنى الإضافة . وقرأ الباقون مع التنوين . وروي عن مالك بن دينار أنه قال : نزع الله ما في قلوبهم من حب الدنيا ، وذكرها ، وقد أخلصهم بحب الآخرة ، وذكرها . ومن قرأ { بِخَالِصَةٍ } بالتنوين ، جعل قوله : { ذِكْرَى الدار } بدلاً من خالصة . والمعنى : { إِنَّا أخلصناهم } بذكر الدار ، والدار هاهنا دار الآخرة . يعني : جعلناهم لنا خالصين ، بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار ، والرجوع إلى الله تعالى .
ثم قال عز وجل : { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار } يعني : المختارين للرسالة ، الأخيار في الجنة .
ثم قال : { واذكر إسماعيل } قال مقاتل : واذكر صبر إسماعيل ، وهو أشمويل بن هلفانا . وقال غيره : هو إسماعيل بن إبراهيم . يعني : اذكر لقومك صبر إسماعيل ، وصدق وعده { واليسع وَذَا الكفل } واليسع كان خليفة إلياس ، وذا الكفل كفل مائة نبي أطعمهم ، وكساهم ، { وَكُلٌّ مّنَ الاخيار هذا ذِكْرُ } يعني : هذا الذي ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام في هذه السورة { ذُكِرَ } يعني : بيان لعظمته { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } من هذه الأمة { لَحُسْنَ مَئَابٍ } يعني : حسن المرجع .
ثم وصف الجنة فقال عز وجل : { جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب } يعني : تفتح لهم الأبواب فيدخلونها . يعني : الجنة كما قال تعالى في آية أخرى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] فإذا دخلوها ، وجلسوا على السرر ، وكانوا { مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } يعني : ألوان الفاكهة ، والشراب { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } يعني : غاضات أعينهن عن غير أزواجهن { أَتْرَابٌ } يعني : ذات أقران . أي : مستويات على سن واحد { هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب } يقول : { إِنَّ هَذَا } يعني : إنّ هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، بالياء على معنى الإخبار عنهم . وقرأ الباقون : بالتاء على معنى المخاطبة . يقول الله تعالى : { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا } يعني : إن هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } يعني : لا يكون له فناء ، ولا انقطاع عنهم ، وهذا كما قال تعالى : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] ثم قال : { هذا } يعني : هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله : { هذا } .
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل : { هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ } يعني : للكافرين ، لبئس المرجع لهم في الآخرة .
ثم بيّن مرجعهم فقال عز وجل : { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } يعني : يدخلونها { فَبِئْسَ المهاد } يعني : فبئس موضع القرار { هذا فَلْيَذُوقُوهُ } يعني : هذا العذاب لهم { فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وهو ماء حار قد انتهى حرّه . قرأ حمزة والكسائي ، وحفص { غسَّاق } بتشديد السين وقرأ الباقون : بالتخفيف . وعن عاصم روايتان . رواية حفص بالتشديد ، ورواية أبي بكر بالتخفيف . فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال ، وهو ما يسيل من جلود أهل النار . ومن قرأ بالتخفيف جعله مصدر غسق يغسق غساقاً . أي : سال . وروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، أنهما قرآ { غساق } بالتشديد ، وفسراه بالزمهرير . وقال مقاتل : { الغساق } البارد الذي انتهى برده . وقال الكلبي : الحميم هو ماء حار قد انتهى حره . وأما غساق فهو الزمهرير يعني : برد يحرق كما تحرق النار وقال بعضهم : الغساق : المنتن بلفظ الطحاوية ثم قال عز وجل : { وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أزواج } يعني وعذاب آخر من نحوه يعني من نحو الحميم والزمهرير . قرأ أبو عمر ، وابن كثير ، في إحدى الروايتين { وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ } بضم الألف . وقرأ الباقون : { وَأَخَّرَ } بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة ، ومعناه : وأنواع أخر ومن قرأ : { وَأَخَّرَ } بنصب الألف بلفظ الواحد ، يعني : وعذاب آخر من شكله أي : مثل عذابه الأول { أزواج } يعني : ألوان { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } يعني : جماعة داخلة معكم النار . يقال : اقتحم إذا دخل في المهالك ، وأضلوا الدخول . تقول الخزنة للقادة : وهذه جماعة داخلة معكم النار ، وهم الأتباع { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } يعني : لا وسع الله لهم { إِنَّهُمْ صَالُو النار } يعني : داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } يعني : لا وسع الله عليكم { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } يعني : أسلفتموه لنا ، وبدأتم بالكفر قبلنا ، فاتبعناكم { فَبِئْسَ القرار } يعني : بئس موضع القرار في النار .
قوله عز وجل : { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا } الأمر هذا الذي كنا فيه { فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار } يعني : فقراء المسلمين .
قوله عز وجل : { أتخذناهم سِخْرِيّاً } قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، { سِخْرِيّاً أتخذناهم } بالوصل .
وقرأ الباقون : بالقطع فمن قرأ بالقطع ، فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار } لأن { أَمْ } تدل على الاستفهام . ومن قرأ : بالوصل ، فمعناه : أنا { أتخذناهم سِخْرِيّاً } وجعل { أَمْ } بمعنى بل . وقرأ حمزة والكسائي ونافع { سِخْرِيّاً } بضم السين . وقرأ الباقون بالكسر . قال القتبي : فمن قرأ بالضم ، جعله من السخرة . يعني : تستذلهم . ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم .
ثم قال : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار } يعني : مالت ، وحادت أبصارنا عنهم ، فلا نراهم . قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } يعني : يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{ قُلْ } يا محمد { إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ } يعني : رسول أخوفكم عذاب الله تعالى ، وأبيّن لكم ، أن الله تعالى واحد { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار } يعني : قاهر لخلقه { رَب السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا العزيز } بالنقمة { الغفار } للمؤمنين .
قوله عز وجل : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } يعني : القرآن حديث عظيم ، لأنه كلام رب العالمين { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } يعني : تاركون ، فلا تؤمنون به . وقال الزجاج : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } يعني : قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل { نَبَأٌ عَظِيمٌ } فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم عليه السلام ، فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي ، أو بقراءة كتب ، ولم يكن قرأ الكتب .
ثم قال : { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى } يعني : الملائكة عليهم السلام { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } يعني : يتكلمون حين قالوا : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] وإنما عرفت ذلك بالوحي .
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ إِن يوحى إِلَىَّ } يعني : ما يوحي إليَّ { إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } إِلاَّ أَنا رسول بيّن .
ثم قال عز وجل : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ } يعني : آدم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } يعني : جمعت خلقه { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } يعني : وجعلت الروح فيه { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } يعني : اسجدوا له { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } يعني : سجدوا كلهم دفعة واحدة { إِلاَّ إِبْلِيسَ } أبى عن السجود { استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين } يعني : وصار من الكافرين { قَالَ يَا إِبْلِيسَ } ما منعك يعني : يا خبيث { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } يعني : الذي خلقته بيدي قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها ، ولا نعرف تفسيرها . يعني : قوله : { بِيَدَىَّ } يعني : الذي خلقت بيدي . وقال بعضهم : تفسيرها كما قال الله تعالى : { خَلَقْتَهُ بِيَدَىَّ } . ولا نفسر اليد . ونقول : يد لا كالأيدي . وهذا قول أهل السنة والجماعة . وقال بعضهم : نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى . يعني : خلقه بقدرته ، وقوته ، وإرادته . فإن قيل : قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته ، وقدرته ، وإرادته . فما الفائدة في التخصيص هنا؟ قيل له : قد ذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضاً ، وهو قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أنعاما فَهُمْ لَهَا مالكون } [ يس : 71 ] ويقال : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي : بقوتي . قوة العلم ، وقوة القدرة . ويقال : { خَلَقْتَهُ بِيَدَىَّ } أي : بماء السماء ، وتراب الأرض ، كقوله : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] وكما قال عليه السلام : « خَلَقَ الله تَعَالَى الخَلْقَ مِنْ مَاءٍ » وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن . وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضاً ما له ظهر وبطن . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لاَ تَقُولُوا فَلاَنٌ قَبِيح فَإِن الله عز وجل خلق آدم عَلَى صُورَتِهِ » . ومن قال : إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر ، ولكن المعنى في الخبر ، ما روي عن بعض المتقدمين أنه قال : إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة ، وخلق آدم عليه السلام بتلك الصورة ، فمن ذلك قال : « إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوَرتِهِ » أي : على تلك الصورة التي اختارها الله . روى شبل عن ابن كثير أنه قرأ : { بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ } موصولة الألف ، وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام ، بدليل قوله عز وجل : { أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } ومن قرأ موصولة ، فهو على معنى الوجوب .
وتكون { أَمْ } بمعنى بل ، { أَسْتَكْبَرْتَ } يعني : تعظمت عن السجود { أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } يعني : بل كنت من العالين ، من المخالفين لأمري . { قَالَ } إبليس : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } .
قوله عز وجل : { قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } وقد ذكرناه من قبل { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين قَالَ فالحق والحق أَقُولُ } يقال : معناه قولي الحق . وأقول : الحق . قرأ حمزة وعاصم { فالحق } بالضم القاف . وقرأ الباقون ، واتفقوا في الثاني أنه بالنصب . فمن قرأ بالضم فمعناه : أنا الحق ، والحق أقول . ويقال : فمعناه : فالحق مني ، والحق أقول . ويقال : معناه فقولنا الحق ، وأقول الحق { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء . يعني : الزموا الحق ، واتبعوا الحق .
ثم قال : { والحق أَقُولُ } يعني : وأقول الحق كقوله عز وجل : { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] .
ثم قال عز وجل : { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } يعني : من ذريتك ، وممن تبعك في دينك . { قُلْ } يا محمد { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } يعني : على الذي أتيتكم به من القرآن من أجر ، ولكن أعلمكم بغير أجر { وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } يعني : ما أتيتكم به من قبل نفسي ، وما تكلفته من تلقاء نفسي ، { إِنْ هُوَ } يعني : ما هذا القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } يعني : إلا عظة للجن ، والإنس ، { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } يعني : خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين . يعني : بعد الموت . ويقال : بعد الإسلام . ويقال : بعد ظهور الإسلام ، والله أعلم بالصواب .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قول الله تبارك وتعالى : { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله } يعني : القرآن صار رفعاً بالابتداء ، وخبره من الله تعالى . أي : نزل الكتاب من عند الله { العزيز } بالنقمة { الحكيم } في أمره . ومعناه : نزل جبريل بهذا القرآن من عند الله { العزيز الحكيم } وقال بعضهم : صار رفعاً لمضمر فيه . ومعناه : هذا الكتاب تنزيل .
قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } يعني : أنزلنا إليك جبريل بالكتاب { بالحق } { فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } يعني : استقم على التوحيد ، وعلى عبادة الله تعالى مخلصاً ، وإنما خاطبه ، والمراد به قومه . يعني : وحدوا الله تعالى ، ولا تقولوا مع الله شريكاً .
ثم قال : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } يعني : له الولاية ، والوحدانية . ويقال : له الدين الخالص ، والخالص هو دين الإسلام . فلا يقبل غيره من الأديان ، لأن غيره من الأديان ليس هو بخالص سوى دين الإسلام .
قوله عز وجل : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يعني : عبدوا من دونه أرباباً ، وأوثاناً ، { مَا نَعْبُدُهُمْ } على وجه الإضمار . قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ } يعني : يقولون ما نعبدهم . وروي عن عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، أنهما كانا يقرآن { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } قالوا : { مَا } بالياء ، وقراءة العامة مَا نَعْبُدُهُمْ } على وجه الإضمار ، لأن في الكلام دليلاً عليه { نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } يعني : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عند الله . ويقال : { لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } يعني : منزلة .
يقول الله تعالى : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } يعني : يقضي بينهم يوم القيامة { فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين .
ثم قال عز وجل : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى } أي : لا يرشد إلى دينه { مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } في قوله : الملائكة بنات الله وعيسى ابن الله { كَفَّارٌ } يعني : كفروا بالله بعبادتهم إياهم . ويقال : معناه لا يوفق لتوحيده من هو كاذب على الله ، حتى يترك كذبه ، ويرغب في دين الله . { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } كما قلتم { لاصطفى } يعني : لاختار من الولد { مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } من خلقه إن فعل ذلك .
ثم قال : { سبحانه } نزه نفسه عن الولد ، وعن الشرك ، { هُوَ الله الواحد القهار } يعني : الذي لا شريك له { القهار } يعني : القاهر لخلقه .
ثم بيّن ما يدل على توحيده ، ويعجز عنه المخلوقون . قوله عز وجل : { خُلِقَ السموات والارض بالحق } يعني : للحق ، ولم يخلقهما باطلاً لغير شيء { يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار } قال مجاهد : يعني : يدهور الليل على النهار { وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل } يعني : يدور النهار على الليل . وقال مقاتل { يُكَوّرُ } يعني : يسلط عليه ، وهو انتقاص كل واحد منهما من صاحبه .
وقال الكلبي : { يُكَوّرُ } يعني : يزيد من النهار في الليل ، فيكون اللَّيل أطول من النهار ، ويزيد من الليل في النهار ، فيكون النهار أطول من الليل . هذا يأخذ من هذا ، وهذا يأخذ من هذا . وقال القتبي { يُكَوّرُ } يعني : يدخل هذا على هذا . وأصل التكوير اللف ، والجمع ، ومنه كور العمامة ومنه قوله : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] { وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل } { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني : ذلل ضوء الشمس ، والقمر ، للخلق { كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : إلى أقصى منازله . ويقال : إلى يوم القيامة . { إِلاَّ هُوَ العزيز } يعني : { العزيز } بالنقمة لمن لم يتب { الغفار } لمن تاب . ويقال : { العزيز } في ملكه . { الغفار } لخلقه بتأخير العذاب .
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله عز وجل : { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } يعني : من نفس آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } حواء { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج } يعني : ثمانية أصناف . وقد فسرناه في سورة الأنعام { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } يعني : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، حالاً بعد حال ، { فِى ظلمات ثلاث } أي : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، وهو الذي يكون فيه الولد في الرحم ، فتخرج بعد ما يخرج الولد ، { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يعني : الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم ، { لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُصْرَفُونَ } يعني : من أين تكذبون على الله ، ومن أين تعدلون عنه إلى غيره؟ فاعلموا ، أنه خالق هذه الأشياء .
ثم قال : { إِن تَكْفُرُواْ } يعني : إن تجحدوا وحدانيته ، { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } يعني : عن إقراركم ، وعبادتكم ، { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } قال الكلبي : يعني : ليس يرضى من دينه الكفر . ويقال : { لاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } وهو ما قاله لإبليس : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . ويقال : { لاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } يعني : بشيء من عبادة الكفار { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } يعني : إن تؤمنوا بالله ، وتوحدوه ، يرضه لكم . يعني : يقبله منكم ، لأنه دينه ، { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } يعني : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يعني : مصيركم في الآخرة { فَيُنَبّئُكُمْ } يعني : فيخبركم ، { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير ، أو شر ، فيجازيكم ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : عالم بما في ضمائر قلوبهم .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
ثم قال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ } يعني : إذا أصاب الكافر شدة في جسده ، { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } يعني : مقبلاً إليه بدعائه { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ } قال مقاتل يعني : أعطاه ، وقال الكلبي : يعني : بدله عافية مكان البلاء { نَسِىَ } ترك الدعاء { مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } ويتضرع به ، { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } يعني : يصف لله شريكاً ، { لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، { لِيُضِلَّ } بنصب الياء ، وهو من ضل يضل . يعني : ترك الهدى . وقرأ الباقون : { لِيُضِلَّ } بالضم . يعني : ليضلّ الناس . ويقال : ليضل نفسه بعبادة غير الله ، ويصرفهم عن سبيل الله . يعني : عن دين الله { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } يعني : عش في الدنيا مع كفرك قليلاً { إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } يعني : من أهل النار .
قوله عز وجل : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً } وأصل القنوت هو القيام . ثم سمي المصلي قانتاً ، لأنه بالقيام يكون . ومعناه : أمن هو مصل كمن لا يكون مصلياً على وجه الإضمار . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ القَانِتِ القَائِمِ » يعني : المصلي القائم . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، { مِن } بالتخفيف . وقرأ الباقون : بالتشديد . فمن قرأ : بالتخفيف ، فقد روي عن الفراء أنه قال : معناه يا من هو قانت . كما تقول في الكلام : فلان لا يصوم ، ولا يصلي ، فيا من يصلي ، ويصوم ، أبشر . فكأنه قال : يا من هو قانت أبشر . ومن قرأ : بالتشديد . فإنَّه يريد به معنى الذي . ومعناه : الذي هو من أصحاب النار . فهذا أفضل أم الذي هو قانت آناء الليل . يعني : ساعات الليل في الصلاة ، ساجداً ، وقائماً في الصلاة ، { يَحْذَرُ الاخرة } يعني : يخاف عذاب الآخرة ، { مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ } يعني : مغفرة الله تعالى { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ } وهم المؤمنون ، { والذين لاَ يَعْلَمُونَ } وهم الكفار في الثواب ، والطاعة . ويقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ } يعني : يصدقون بما وعد الله في الآخرة من الثواب ، { والذين لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يصدقون . ويقال : معناه قل هل يستوي العالم والجاهل . فكما لا يستوي العالم والجاهل ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب } يعني : يعتبر في صنعي ، وقدرتي من له عقل ، وذهن .
قوله عز وجل : { قُلْ ياعباد الذين كَفَرُواْ } يعني : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، { اتقوا رَبَّكُمُ } يعني : اخشوا ربكم في صغير الأمور ، وكبيرها ، واثبتوا على التوحيد .
ثم قال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } يعني : لمن عمل بالطاعة في الدنيا حسنة ، له الجنة في الآخرة .
ويقال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } يعني : شهدوا أن لا إله إلا الله في الدنيا حسنة . يعني : لهم الجنة في الآخرة . ويقال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي : ثبتوا على إيمانهم فلهم الجنة .
قوله : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } قال مقاتل : يعني : الجنة واسعة . وقال الكلبي : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } يعني : المدينة ، فتهاجروا فيها . يعني : انتقلوا إليها ، واعملوا لآخرتكم ، { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ } يعني : هم الذين يصبرون على الطاعة لله في الدنيا ، جزاؤهم ، وثوابهم على الله ، { بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : بلا عدد ، ولا انقطاع . وروى سفيان عن عبد الملك بن عمير ، عن جندب بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ » . قال سفيان لما نزل { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ الأنعام : 160 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم : « رَبِّ زِدْ أُمَّتِي » . فنزل : { مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ والله يضاعف لِمَن يَشَآءُ والله واسع عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] قال : « رَبِّ زِدْ أُمَّتِي » فنزل { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « رَبِّ زِدْ أُمَّتِي » فنزل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله عز وجل :
{ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله ، وملة جدك عبد المطلب ، وسادات قومك يعبدون الأصنام؟ فنزل : { قُلْ } يا نبي الله { إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } يعني : التوحيد ، { وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } من أهل بلدي { قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } وعبدت غيره ، ينزل علي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : في يوم القيامة { قُلِ الله أَعْبُدُ } يعني : أعبد الله { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } أي : توحيدي . { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ } من الآلهة . وهذا كقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ويقال : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ } لفظه لفظ التخبير والأمر ، والمراد به التهديد والتخويف ، كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ } وكقوله : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ويقال : قد بيّن الله ثواب المؤمنين ، وعقوبة الكافرين . ثم قال : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ } وذلك قبل أن يؤمر بالقتال ، فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم ، قالوا : خسرت إن خالفت دين آبائك . فقال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } يعني : أنتم الخاسرون ، لا أنا . ويقال : الذين خسروا أنفسهم بفوات الدرجات ، ولزوم الشركات ، { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } يعني : الظاهر حيث خسروا أنفسهم ، وأهلهم ، وأزواجهم ، { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار } يعني : أطباقاً من نار ، { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } يعني : مهاداً من نار ، أو معناه : أن فوقهم نار ، وتحتهم نار ، { ذلك يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ } أي : ذلك الذي ذكر ، يخوف الله به عباده في القرآن ، لكي يؤمنوا .
{ قَلِيلاً وإياى فاتقون } : أي : فوحدون ، وأطيعون ، { والذين اجتنبوا الطاغوت } قال مقاتل : يعني : اجتنبوا عبادة الأوثان . وقال الكلبي : { الطاغوت } يعني : الكهنة { أَن يَعْبُدُوهَا } يعني : أن يطيعوها ، ورجعوا إلى عبادة ربهم { وَأَنَابُواْ إِلَى الله } أي : أقبلوا إلى طاعة الله . ويقال : رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله { لَهُمُ البشرى } يعني : الجنة . ويقال : الملائكة يبشرونهم في الآخرة ، { فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول } يعني : القرآن { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } يعني : يعملون بحلاله ، وينتهون عن حرامه ، وقال الكلبي : يعني : يجلس الرجل مع القوم ، فيستمع الأحاديث ، محاسن ومساوىء ، فيتبع أحسنه ، فيأخذ المحاسن ، فيحدث بها ، ويدع مساوئه . ويقال : يستمعون القرآن ويتبعون أحسن ما فيه ، وهو القصاص ، والعفو يأخذ العفو لقوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } [ النحل : 126 ] ، [ وقال بعضهم : يستمع النداء ، فيستجيب ، ويسرع إلى الجماعة .
وقال بعضهم : يستمع الناسخ ، والمنسوخ ، والمحكم من القرآن ، فيعمل بالمحكم ، ويؤمن بالناسخ والمنسوخ ] .
ثم قال : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله } أي : وفقهم الله لمحاسن الأمور . ويقال : { هَدَاهُمُ الله } أي : أكرمهم الله تعالى بدين التوحيد { وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الالباب } يعني : ذوي العقول .
قوله عز وجل : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } يعني : وجب له العذاب . ويقال : أفمن سبق في علم الله تعالى أنه في النار ، كمن لا يجب عليه العذاب . { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار } يعني : تستنقذ من هو في علم الله تعالى ، أنه يكون في النار بعمله الخبيث . ويقال : من وجبت له النار : وقدرت عليه .
ثم ذكر حال المؤمنين المتقين فقال عز من قائل : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ } يعني : وحدوا ربهم ، وأطاعوا ربهم ، { لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } في الجنة ، وهي العلالي . غرف مبنية ، مرتفعة بعضها فوق بعض ، { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَعْدَ الله } في القرآن ، { لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الارض } أي : فأدخله في الأرض فجعله ينابيع . يعني : عيوناً في الأرض تنبع . ويقال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الارض } يعني : جارياً في الأرض ، وهي تجري فيها . ويقال : جعل فيها أنهاراً وعيوناً { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أحمر ، وأصفر ، وأخضر ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يتغير { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : يابساً بعد الخضرة . ويقال : { ثُمَّ يَهِيجُ } يعني : ييبس . ويقال : { يَهِيجُ } أي : يتم ، ويشتد من هاج يهيج . أي : تم يتم { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } متغيراً عن حاله ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما } قال القتبي : { حطاما } مثل الرفات ، والفتات . وقال الزجاج : الحطام ما تفتت ، وتكسر من النبت . وقال مقاتل : { حطاما } يعني : هالكاً { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى } أي : فيما ذكر لعظة { لاِوْلِى الالباب } يعني : لذوي العقول من الناس { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } يعني : وسع الله قلبه للإسلام . ويقال : لين الله قلبه لقبول التوحيد ، { فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ } يعني : على هدى من الله تعالى . وجوابه مضمر . يعني أفمن شرح الله صدره للإسلام ، واهتدى ، كمن طبع على قلبه ، وختم على قلبه فلم يهتد . ويقال : { فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ } يعني : القرآن . لأن فيه بيان الحلال والحرام . فهو على نور من ربه لمن تمسك به . ويقال : على نور يعني : التوحيد ، والمعرفة . وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام } قالوا : فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال : « إذا دَخَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ انْفَسَحَ ، وَانْشَرَحَ » . قالوا : فهل لذلك علامة؟ قال : « نَعَمْ . التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ ، وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ » . ثم قال : { فَوَيْلٌ } يعني : الشدة من العذاب { للقاسية قُلُوبُهُمْ } يعني : لمن قست ، ويبست قلوبهم ، { مّن ذِكْرِ الله } تعالى . ويقال : القاسية . الخالية من الخير ، { أولئك } يعني : أهل هذه الصفة { فِى ضلال مُّبِينٍ } أي : في خطأ بيّن .
قوله عز وجل : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } يعني : أحكم الحديث ، وهو القرآن . وذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل الكتاب ، نحو عبد الله بن سلام : أخبرنا عن التوراة ، فإن فيها علم الأولين والآخرين . فأنزل الله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } يعني : أنزل عليكم أحسن الحديث ، وهو القرآن . ويقال : { أَحْسَنَ الحديث } يعني : أحسن من سائر الكتب ، لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن ، { كتابا متشابها } يعني : يشبه بعضه بعضاً ، ولا يختلف . ويقال : { متشابها } يعني : موافقاً لسائر الكتب في التوحيد ، وفي بعض الشرائع .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : { متشابها } يعني : خياراً لا رذالة فيه . ويقال : { متشابها } اشتبه على الناس تأويله .
ثم قال : { مَّثَانِيَ } يعني : أن الأنباء ، والقصص ، تثنى فيه . ويقال : سمي مثاني ، لأن فيه سورة المثاني . يعني : سورة الفاتحة { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } .
ثم قال : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ } يعني : ترتعد مما فيه من الوعيد ، { جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } . ويقال : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ } يعني : تتحرك مما في القرآن من الوعيد . ويقال : ترتعد منه الفرائض . { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ } يعني : بعد الاقشعرار { إلى ذِكْرِ الله } من آية الرحمة ، والمغفرة . يعني : إذا قرأت آيات الرجاء ، والرحمة ، تطمئن قلوبهم ، وتسكن ، { ذلك } يعني : القرآن { هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء } يعني : بالقرآن من يشاء الله أن يهديه إلى دينه { وَمَن يُضْلِلِ الله } عن دينه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعني : لا يقدر أحد أن يهديه ، بعد خذلان الله تعالى .
قوله عز وجل : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } يعني : أفمن يدفع بوجهه شدة سوء العذاب ، وجوابه مضمر . يعني : هل يكون حاله كحال من هو في الجنة . يعني : ليس الضال الذي تصل النار إلى وجهه ، كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ، ليسا سواء . وقال أهل اللغة : أصل الاتقاء في اللغة ، الإوتقاء ، وهو التستر . يعني : وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } يعني : يجر على وجهه في النار ، وهذا كقوله : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 40 ] ويقال : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } معناه : أنه يلقى في النار مغلولاً ، لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، { يَوْمَ القيامة وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ } يعني : للكافرين ، { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من التكذيب .
قوله عز وجل : { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل قومك ، رسلهم ، { فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني : لا يعلمون ، ولا يحتسبون ، وهم غافلون . { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى } العذاب { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى فِى الحياة الدنيا } يعني : أعظم مما عذبوا به في الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ولكنهم لا يعلمون .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ } يعني : بيّنا في هذا القرآن من كل شيء . وقد بيّن بعضه مفسراً ، وبعضه مبهماً مجملاً ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لكي يتعظوا { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } يعني : أنزلناه قرآناً عربياً بلغة العرب { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } يعني : ليس بمختلف ، ولكنه مستقيم . ويقال : غير ذي تناقض . ويقال : غير ذي عيب . ويقال : { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } أي : غير مخلوق . قال أبو الليث رحمه الله : حدثنا محمد بن داود . قال : حدثنا محمد بن أحمد بإسناده . قال : حدثنا أبو حاتم الداري ، عن سليمان بن داود العتكي ، عن يعقوب بن محمد بن عبد الله الأشعري ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . قال : في قوله تعالى : { قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } قال : غير مخلوق { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : لكي يتقوا الشرك { ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : بيّن شبهاً { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون } أي : عبداً بين موالي مختلفين يأمره ، هذا بأمر ، وينهاه هذا عنه . ويقال : { متشاكسون } أي : مختلفون ، يتنازعون ، { وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } أي : خالصاً لرجل لا شركة فيه لأحد . قرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، { سَالِماً } بالألف ، وكسر اللام . والباقون { قِيلاً سلاما } بغير ألف ، ونصب السين . فمن قرأ : سَالِماً فهو اسم الفاعل على معنى سلم ، فهو سالم . ومعناه : الخالص . ومن قرأ { سلاما } فهو مصدر . فكأنه أراد به رجلاً ذا سلم لرجل . ومعنى الآية : هل يستوي من عبد آلهة مختلفة ، كمن عبد رباً واحداً . وقال قتادة : الرجل الكافر ، والشركاء الشياطين ، والآلهة ، وَرَجُلاً سَلَماً . المؤمن يعمل لله تعالى وحده . وقال بعضهم : هذه المثل للراغب ، والزاهد . فالراغب شغلته أمور مختلفة ، فلا يتفرغ لعبادة ربه . فإذا كان في العبادة ، فقلبه مشغول بها ، والزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا ، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً ، { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } يعني : عنده في المنزلة يوم القيامة .
{ الحمد للَّهِ } قال مقاتل : { الحمد للَّهِ } حين خصهم . ويقال : { الحمد للَّهِ } على تفضيل من اختاره ، على من اشتغل بما دونه . ويقال : يعني : قولوا الحمد لله ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أَنَّ عبادة رب واحد ، خير من عبادة أرباب شتى . ويقال : { لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهما لا يستويان . ويقال : { لاَّ يَعْلَمُونَ } توحيد ربهم . { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } ذلك أن كفار قريش قالوا : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] ، يعني : ننتظر موت محمد عليه السلام فنزل : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } يعني : أنت ستُموت ، وهم سيموتون . ويقال : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } يعني : إنك لميت لا محالة ، وإنهم لميتون لا محالة ، والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه .
فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت ، فكل واحد منهم يموت لا محالة ، فسماهم ميتين .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } أي : تتكلمون بحججكم . الكافر مع المؤمن ، والظالم مع المظلوم . فإن قيل : قد قال في آية أخرى : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } [ ق : 28 ] قيل له : إن في يوم القيامة ساعات كثيرة ، وأحوالها مختلفة ، مرة يختصمون ، ومرة لا يختصمون . كما أنه قال : فهم لا يتساءلون ، وقال في آية أخرى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] يعني : في حال يتساءلون ، وفي حال لا يتساءلون ، وهذا كما قال في موضع آخر : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] وقال في آية أخرى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وكما قال في آية أخرى : لا يتكلمون ، وفي آية أخرى أنهم يتكلمون ، ونحو هذا كثير في القرآن . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لاَ تَزَال الخُصومَة بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، حَتى تَتَخَاصَم الرُّوح والجَسَد ، فَيَقُول الجَسَد : إِنَّمَا كُنْتُ بِمَنْزِلَةِ جِذع مُلْقَى ، لاَ أَسْتَطِيع شَيْئاً . وَتَقُولُ الرُّوح : إِنَّمَا كُنْتُ رِيحاً ، لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ شَيْئاً . فَضُرِبَ لَهُما مَثَلُ الأعْمَى والمُقْعَد ، فَحَمَلَ الأَعْمَى المُقْعَد ، فَيَدُلَّهُ المُقْعَد بِبَصَرِهِ ، وَيَحْمِله الأعْمَى بِرجْلَيه» . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أنس قال : سألت أبا العالية عن قوله : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } ثم قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } فكيف هذا؟ قال : أما قوله : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } فهو لأهل الشرك ، وأما قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } فهو لأهل القبلة ، يختصمون في مظالم ما بينهم .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
ثم قال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } أي : فلا أحد أظلم ممن كذب على الله بأن معه شريكاً ، { وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ } يعني : بالقرآن ، وبالتوحيد . ويقال : { وَكَذَّبَ بالصدق } يعني : بالصادق وهو النبي صلى الله عليه وسلم { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } يعني : مأوى للذين يكفرون بالقرآن . فاللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التحقيق كقوله : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ] . { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقرآن { وَصَدَّقَ بِهِ } أي : أصحابه . ويقال : { وَصَدَّقَ بِهِ } المؤمنون . وقال القتبي : { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } هو في موضع جماعة . ومعناه : والذين جاؤوا بالصدق ، وصدقوا به ، وهذا موافق لخبر ابن مسعود . وقال قتادة ، والشعبي ، ومقاتل ، والكلبي : { والذى جَاء بالصدق } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : المؤمنون . وذكر عن علي بن أبي طالب أنه قال : { والذى جَاء بالصدق } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : أبو بكر { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } الذين اتقوا الشرك ، والفواحش . وقرأ بعضهم : وَصَدَقَ بالتخفيف . يعني : النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس كما أنزل عليه ، ولم يزد في الوحي شيئاً ، ولم ينقص من الوحي شيئاً .
{ لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ عِندَ رَبّهِمْ } يعني : لهم ما يريدون ، ويحبون في الجنة ، { ذَلِكَ جَزَاء المحسنين } أي : ثواب الموحدين ، المطيعين ، المخلصين { لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ } يعني : ليمحو عنهم ، ويغفر لهم ، { أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ } يعني : أقبح ما عملوا ، مخالفاً للتوحيد ، { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ } أي : ثوابهم { بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني يجزيهم بالمحاسن ، ولا يجزيهم بالمساوىء ، لأنه ليس لهم ذنب ، ولا خطايا ، فلا يجزيهم بمساوئهم .
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } قرأ حمزة ، والكسائي : عِبَادَهُ بالألف بلفظ الجماعة . يعني : الذين صدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن ، والباقون عَبْدَه بغير أَلف . يعني : النبي صلى الله عليه وسلم . { وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } يعني : بالذين يعبدون من دونه ، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا تزال تقع في آلهتنا ، فاتقِ كيلا يصيبك منها معرة ، أو سوء . فنزل : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } الآية . وروى معمر عن قتادة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها ، فمشى إليها بالفأس . فقالت له : قيمتها يا خالد احذر ، فإن لها شدة ، لا يقوم لها أحد ، فمشى إليها خالد ، فهشم أنفها بالفأس . ويقال : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } يعني : الأنبياء .
ثم قال : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعني : من يخذله الله عن الهدى ، فما له من مرشد ، ولا ناصر { وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ } أي : ليس له أحد يخذله { أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِى انتقام } يعني : عزيزاً في ملكه ، ذي انتقام من عدوه .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله } فعل ذلك ، { قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } يعني : ما تعبدون من دون الله من الآلهة ، { إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ } يعني : إنْ أصابني الله ببلاء ، ومرض في جسدي ، وضيق في معيشتي ، أو عذاب في الآخرة ، { هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ } يعني : هل تقدر الأصنام على دفع ذلك عني ، { أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ } أي : بنعمة ، وعافية ، وخير ، { هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } يعني : هل تقدر الأصنام على دفع تلك الرحمة عني . قرأ أبو عمر : كَاشِفَاتٌ . بالتنوين ، ضُرَّهُ : بالنصب ، مُمْسِكَاتٌ : بالتنوين ، رَحْمَتَهُ : بالنصب ، والباقون : بغير تنوين ، وكسر ما بعده على وجه الإضافة . فمن قرأ بالتنوين : نصب ضره ورحمته ، لأنه مفعول به { قُلْ حَسْبِىَ الله } يعني : يكفيني الله من شر آلهتكم . ويقال : { حَسْبِىَ الله } يعني : أثق به { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : فوضت أمري إلى الله ، { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } أي : يثق به الواثقون . فأنا متوكل ، وعليه توكلت .
{ قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي : في منازلكم . ويقال : { على مَكَانَتِكُمْ } أي : على قدر طاقتكم ، وجهدكم ، { إِنّى عامل } في إهلاككم . لأنهم قالوا له : إن لم تسكت عن آلهتنا ، نعمل في إهلاكك . فنزل : { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } إهلاكي في مكانتكم { إِنّى عامل } في إهلاككم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } من نجا ، ومن هلك . قرأ عاصم في رواية أبي بكر : مكاناتكم بلفظ الجماعة . والباقون : { مَكَانَتِكُمْ } والمكانة ، والمكان واحد .
{ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي : من يأتيه عذاب الله ، يهلكه ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : دائم لا ينقطع أبداً .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق } يعني : أنزلنا عليك جبريل بالقرآن للناس بالحق . يعني : لتدعو الناس إلى الحق ، وهو التوحيد { فَمَنُ اهتدى } أي : وحّد ، وصدق بالقرآن ، وعمل بما فيه فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي : ثواب الهدى لنفسه ، { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } يعني : أعرض ولم يؤمن بالقرآن ، فقد أوجب العقوبة على نفسه . { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني : ما أنت يا محمد عليهم بحفيظ . ويقال : بمسلط . وهذا قبل أن يؤمر بالقتال .
{ الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا } قال الكلبي : الله يقبض الأنفس عند موتها { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } فيقبض نفسها إذا نامت أيضاً ، { فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت } فلا يردها ، { وَيُرْسِلُ الاخرى } التي لم تبلغ أجلها ، { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يردها إلى أجلها . وقال مقاتل : { الله يَتَوَفَّى الانفس } عند أجلها ، والتي قضى عليها الموت ، فيمسكها عن الجسد . على وجه التقديم { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } فتلك الأخرى التي أرسلها إلى الجسد ، إلى أجل مسمى .
وقال سعيد بن جبير : الله يقبض أنفس الأحياء ، والأموات . فيمسك أنفس الأموات ، ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمى .
{ إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : يعتبرون . قرأ حمزة والكسائي : قُضِيَ عليها بضم القاف ، وكسر الضاد ، وفتح الياء ، وبضم التاء في الموت ، على فعل ما لم يسم فاعله . والباقون : { قضى عَلَيْهَا } بالنصب . يعني : قضى الله عليها الموت ، ونصب الموت لأنه مفعول به . { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله } الميم صلة . معناه : اتخذوا . فاللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التوبيخ والزجر . فقال : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله } { شُفَعَاء } يعني : يعبدون الأصنام ، لكي تشفع لهم . { قُلْ أُو لَّوْ كَانُواْ اَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } يعني : يعبدونهم ، وإن كانوا لا يعقلون شيئاً . { قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } أي : قل يا محمد : لله الأمر والإذن في الشفاعة ، وهذا كقوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والارض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلى العظيم } [ البقرة : 255 ] وكما قال : { يتخافتون بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] .
ثم قال : { لَّهُ مُلْكُ السموات والارض } يعني : خزائن السموات والأرض . ويقال : نفاذ الأمر في السموات والأرض . وله نفاذ الأمر في السموات والأرض . { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } يعني : إذا قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله ، اشمأزت . قال مقاتل : يعني انقبضت عن التوحيد . وقال الكلبي : أعرضت ، ونفرت . وقال القتبي : العرب تقول : اشمأز قلبي من فلان . أي : نفر منه . { قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يعني : لا يصدقون بيوم القيامة . { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } يعني : الآلهة { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } بذكرها . وذلك أنه حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ، وذكر آلهتهم استبشروا .
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والارض } صار نصباً بالنداء . يعني : يا خالق السموات والأرض ، { عالم الغيب والشهادة } يعني : عالماً بما غاب عن العباد ، وما لم يغب عنهم . ويقال : عالماً بما مضى ، وما لم يمض ، وما هو كائن . ويقال : عالم السر والعلانية . { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } يعني : أنت تقضي في الآخرة بين عبادك ، { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر الدين .
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : كفروا { مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي : مثل ما في الأرض ، { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي : لفادوا به أنفسهم { مِن سُوء العذاب } أي : من شدة العذاب { يَوْمُ القيامة } . وفي الآية مضمر . أي : لا يقبل منهم ذلك .
{ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله } أي : ظهر لهم حين بعثوا من قبورهم ، { مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } في الدنيا أنه نازل بهم . يعني : يعملون أعمالاً يظنون أن لهم فيها ثواباً ، فلم تنفعهم مع شركهم ، فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب ، { وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي : عقوبات ما عملوا ، { وَحَاقَ بِهِم } أي : نزل بهم عقوبة ، { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يعني : باستهزائهم بالمسلمين . ويقال : باستهزائهم بالرسول ، والكتاب ، والعذاب .
{ فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا } يعني : أصاب الكافر شدة ، وبلاء ، وهو أبو جهل . ويقال : جميع الكفار دعانا أي : أخلص في الدعاء { ثُمَّ إِذَا خولناه } أي : بدلنا ، وأعطيناه مكانها عافية ، { نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } أي : على علم عندي . يعني : أعطاني ذلك ، لأنه علم أني أهل لذلك . ويقال : معناه على علم عندي بالدواء .
{ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } أي : بلية ، وعطية ، يبتلى بها العبد ليشكر ، أو ليكفر ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن إعطائي ذلك بلية ، وفتنة ، { قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : قال تلك الكلمة : الذين من قبل كفار مكة ، مثل قارون ، وأشباهه .
{ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : لم ينفعهم ما كانوا يجمعون من الأموال ، { فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي عقوبات ما عملوا .
قوله : { والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء } يعني : من أهل مكة { سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } يعني : عقوبات ما عملوا ، مثل ما أصاب الذين من قبلهم ، { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : غير فائتين من عذاب الله ، { أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أي : يوسع الرزق لمن يشاء ، { وَيَقْدِرُ } أي : يقتر على من يشاء ، { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : في القبض والبسط { لاَيَاتٍ } أي : لعلامات لوحدانيتي { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون بتوحيد الله .
{ قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } يعني : أسرفوا بالذنوب على أنفسهم . قرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، { قُلْ ياعبادى } بفتح الياء ، والباقون بالإرسال . وهما لغتان ، ومعناهما واحد ، { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } أي : لا تيأسوا من مغفرة الله ، { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } الكبائر ، وغير الكبائر إذا تبتم ، { إِنَّهُ هُوَ الغفور } لمن تاب ، { الرحيم } بعد التوبة لهم . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة . قال : أصاب قوم في الشرك ذنوباً عظاماً ، فكانوا يخافون أن لا يغفر الله لهم ، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ } . وقال مجاهد : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } بقتل الأنفس في الجاهلية . وقال في رواية الكلبي : نزلت الآية في شأن وحشي . يعني : أسرفوا على أنفسهم بالقتل ، والشرك ، والزنى . لا تيأسوا { مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } لمن تاب . وقال ابن مسعود : أرجى آية في كتاب الله هذه الآية . وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص . وروي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : فيها عظة .
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله تعالى : { وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ } يعني : ارجعوا له ، وأقبلوا إلى طاعة ربكم { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } يعني : أخلصوا ، وأقروا بالتوحيد ، { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي : لا تمنعون مما نزل بكم ، { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } قال الكلبي : هذا القرآن أحسن ما أنزل إليهم يعني : اتبعوا ما أمرتم به . ويقال : أحلوا ، وحرموا حرامه ، { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً } أي : فجأة ، { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بنزوله ، { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } يعني : لكي لا تقول نفس . ويقال : معناه اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم خوفاً ، قبل أن تصيروا إلى حال الندامة .
وتقول نفس : { يَا حَسْرَتَى } يعني : يا ندامتا ، { نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } يعني : تركت ، وضيعت من طاعة الله . وقال مقاتل : يعني ما ضيعت من ذكر الله . ويقال : يا ندامتاه على ما فرطت في أمر الله . { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } يعني : وقد كنت من المستهزئين بالقرآن في الدنيا . ويقال : وقد كنت من اللاهين . وقال أبو عبيدة : في جنب الله ، وذات الله واحد .
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى } يعني : قبل ، أو تقول : لو أن الله هداني بالمعرفة ، { لَكُنتُ مِنَ المتقين } أي : من الموحدين . يعني : لو بيّن لي الحق من الباطل ، لكنت من المؤمنين ، { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب } يعني : من قبل أن تقول : { لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً } أي : رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } يعني : من الموحدين .
يقول الله تعالى : { بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى } يعني : القرآن ، { فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت } أي : تكبرت ، وتجبرت عن الإيمان بها ، { وَكُنتَ مِنَ الكافرين } . قرأ عاصم الجحدري : { بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى } يعني : القرآن . { فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت } ، وَكُنْتِ ، كلها بالكسر . وهو اختيار ابن مسعود ، وصالح ، ومن تابعه من قراء سمرقند . وإنما قرأ بالكسر ، لأنه سبق ذكر النفس ، والنفس تؤنث . وقراءة العامة كلها بالنصب ، لأنه انصرف إلى المعنى . يعني يقال للكافر : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله } يعني : قالوا : بأن لله شريكاً ، { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } صار وجوههم رفعاً بالابتداء . ويقال : معناه مسودة وجوههم { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ } أي : مأوى للّذين تكبروا عن الإيمان ، { وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ } يعني : ينجي الله الذين اتقوا الشرك من جهنم . قال مقاتل ، والكلبي : بأعمالهم الحسنة لا يصيبهم العذاب . وقال القتبي : بمنجاتهم . قرأ حمزة ، والكسائي : بِمَفَازَاتِهم بالألف ، وكذلك عاصم في رواية أبي بكر . والباقون { بِمَفَازَتِهِمْ } بغير ألفِ والمفازة الفوز ، والسعادة ، والفلاح ، والمفازات جمع . { لاَ يَمَسُّهُمُ السوء } أي : لا يصيبهم العذاب { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في الآخرة .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : حفيظ . ويقال : كفيل بأرزاقهم ، { لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والارض } يعني : بيده مفاتيح السموات والأرض . ويقال : خزائن السموات والأرض ، وهو المطر ، والنبات . وقال القتبي : المقاليد : المفاتيح . يعني : مفاتيحها ، وخزائنها ، وواحدها إقليد . ويقال : إنها فارسية ، معربة ، إكليد .
{ والذين كَفَرُواْ بئايات الله } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن ، { أولئك هُمُ الخاسرون } يعني : اختاروا العقوبة على الثواب ، { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى } قرأ ابن عامر : تأمرونني بنونين ، وقرأ نافع : { تَأْمُرُونّى } بنون واحدة ، والتخفيف . وقرأ الباقون : بنون واحدة ، والتشديد ، والأصل : تأمرونني بنونين ، كما روي عن ابن عامر ، إلا أنه أدغم إحدى النونين في الأخرى ، وشدد ، وتركها نافع على التخفيف .
{ أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } يعني : أيها المشركون تأمروني أن أعبد غير الله { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } يعني : الأنبياء بالتوحيد ، { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } أي : ثوابك ، وإن كنت كريماً عليَّ . فلو أشركت بالله ، ليحبطنّ عملك { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } في الآخرة . فكيف لو شرك غيرك ، فالله تعالى علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشرك بالله ، ولكنه أراد تنبيهاً لأمته ، أنَّ من أشرك بالله ، حبط عمله ، وإن كان كريماً على الله .
{ بَلِ الله فاعبد } أي : استقم على عبادة الله ، وتوحيده . وقال مقاتل : بل الله فاعبد ، أي : فوحد الله تعالى . وقال الكلبي : يعني أطع الله تعالى ، { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } على ما أنعم الله عليك من النبوة ، والإسلام ، والرسالة . ويقال : هذا الخطاب لجميع المؤمنين . أمرهم بأن يشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم ، وأكرمهم بمعرفته ، ووفقهم لدينه ، { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عظموا الله حق عظمته ، ولا وصفوه حق صفته ، ولا عرفوا الله حق معرفته . وذلك أن اليهود والمشركين ، وصفوا الله تعالى بما لا يليق بصفاته ، فنزل : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } وفيه تنبيه للمؤمنين ، لكيلا يقولوا مثل مقالتهم ، ويعظموا الله حق عظمته ، ويصفوه حق صفته ، { فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] .
ثم قال : { والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة } أي : في قدرته ، وملكه ، وسلطانه ، لا سلطان لأحد عليها ، وهذا كقوله : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] . وقال القتبي : { فِى قَبْضَتُهُ } أي : في ملكه ، نحو قولك للرجل : هذا في يدك ، وقبضتك . أي في ملكك . { والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } أي : بقدرته . ويقال : في الآية تقديم . معناه : { والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } يوم القيامة . أي : في يوم القيامة . ويقال : { بِيَمِينِهِ } يعني : عن يمين العرش . وقال القتبي : { بِيَمِينِهِ } أي : بقدرته نحو قوله :
{ ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 50 ] يعني : ما كانت لهم عليه قدرة . وليس الملك لليمين دون الشمال . ويقال : اليمين هاهنا الحلف ، لأنه حلف بعزته ، وجلاله ، ليطوينّ السموات والأرض .
ثم نزّه نفسه ، فقال تعالى : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزيهاً لله تعالى . يعني : ارتفع ، وتعظم عما يشركون . يعني : عما يصفون له من الشريك ، { وَنُفِخَ فِى الصور } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ : " هُوَ الْقَرْنُ وَإِنَّ عِظَمَ دَائِرَتِهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةً ، فَيُفْزِعُ الخَلْقَ ، ثُمَّ يَنْفُخُ نَفْخَةً أُخْرَى ، فَيَمُوتُ أهْلُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ، فَإذَا كَانَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ ، تَجَمَّعَتِ الأَرْوَاحُ كُلّهَا في الصُّور ، ثُمَّ يَنْفُخُ النَّفْخةَ الثَّالِثَةَ ، فَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ كُلُّها كَالنَّحلِ وَكَالزَّنَابِيرِ ، وَتَأْتِي كُلُّ رُوح إلَى جَسَدِهَا " فذلك قوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض } يعني : يموت من في السموات ، ومن في الأرض ، { إِلاَّ مَن شَاء الله } يعني : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت . ويقال : أرواح الشهداء . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : استثنى الله تعالى الشهداء حول العرش متقلدين بسيوفهم» . وقال بعضهم : النفخة نفختان . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُنْفَخُ فِي الصُّور ثَلاَثُ نَفَخَاتٍ : الأُوْلَى نَفْخَةُ الفَزَعِ؛ والثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعقِ ، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ العَالَمِينِ " وهو قوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي : ينظرون ماذا يأمرهم . ويقال : ينظرون إلى السماء كيف غيرت ، وينظرون إلى الأرض كيف بدلت ، وينظرون إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب ، وينظرون فيما عملوا في الدنيا ، وينظرون إلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم ، واشتغلوا بأنفسهم ، وينظرون إلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم .
{ وَأَشْرَقَتِ الارض } يعني : أضاءت { بِنُورِ رَبّهَا } أي : بعدل ربها . ويقال : وأشرقت وجوه من على الأرض بمعرفة ربها ، وأظلم وجوه من على الأرض بنكرة ربها . وقال بعضهم : هذا من المكتوم الذي لا يفسر . { وَوُضِعَ الكتاب } يعني : ووضع الحساب . ويقال : ووضع الكتاب في أيدي الخلق ، في أيمانهم ، وشمائلهم { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } أي : بين الخلق بالعدل ، بين الظالم والمظلوم ، وبين الرسل ، وقومهم ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً . { وَوُفّيَتْ } أي : وفرت ، { كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي : جزاء ما عملت من خير ، أو شر ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } ، لأنه قد سبق ذكر قوله : { وَأَشْرَقَتِ الارض بِنُورِ } ثم أخبر أنه لم يدع الشهداء ليشهدوا بما يعلموا بل هو أعلم بما يفعلون ، وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
ثم قال : { وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ } أي : يساق الذين كفروا ، { إلى جَهَنَّمَ زُمَراً } يعني : أمة أمة ، فوجاً فوجاً ، وواحدتها زمرة ، { حتى إِذَا } يعني : جهنم ، { جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها } وقال أصحاب اللغة : جهنم في أصل اللغة جهنام . وهي بئر لا قعر لها . فحذفت الألف ، وشددت النون ، فسميت جهنم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : { فُتِحَتْ } بتخفيف التاء . والباقون : بالتشديد . فمن قرأ بالتشديد ، فلتكثير الفعل . ومن قرأ بالتخفيف ، فعلى فعل الواحد . وكذلك الاختلاف في الذي بعده .
{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } أي : خزنة جهنم ، وواحدها خازن . وقال القتبي : الواو قد تزاد في الكلام ، والمراد به حذفه ، كقوله : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يعني : اقترب ، وكقوله : { وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] يعني : قال لهم . وهذا في كلام العرب ظاهر ، كما قال امرؤ القيس . فلما أجزنا ساحة الحي ، وانتحى . يعني : انتحى بغير واو .
ثم قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } يعني : آدمياً مثلكم تفهمون كلامه { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبّكُمْ } يعني : يقرؤون عليكم ما أوحي إليهم ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } يعني : أنهم يخوّفونكم بهذا اليوم ، فكأنه يقول لهم : يا أشقياء ألم يأتكم رسل منكم؟ فأجابوه : { قَالُواْ بلى } فيقرون بذلك في وقت لا ينفعهم الإقرار ، ولو كان قولهم : بلى في الدنيا ، لكان ينفعهم . ولكنهم قالوا : بلى في وقت لا ينفعهم .
{ ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } أي : وجبت كلمة العذاب في علم الله السابق ، أنهم من أهل النار . ويقال : وجبت كلمة العذاب ، وهي قوله الله تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [ الأعراف : 18 وغيرها ] { قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } أي : دائمين فيها ، { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } أي : بئس موضع القرار لمن تكبر عن الإيمان .
ثم بيّن حال المؤمنين المطيعين ، فقال تعالى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ } يعني : اتقوا الشرك ، والفواحش ، { إِلَى الجنة زُمَراً } يعني : فوجاً فوجاً ، بعضم قبل الحساب اليسير ، وبعضهم بعد الحساب الشديد ، على قدر مراتبهم ، { حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها } يعني : وقد فتحت أبوابها ، ويقال : { وَفُتِحَتْ أبوابها } قبل مجيئهم تكريماً ، وتبجيلاً لهم . ويقال : الواو زيادة في الكلام . ويقال : هذه الواو منسوقة على قوله : فتحت . كما يقال في الكلام : دخل زيد ، وعمرو ، { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين } أي : فزتم ، ونجوتم .
ويقال : طابت لكم الجنة . وقال : بعض أهل العربية : في الآية دليل على أن أبواب الجنة ثمانية ، لأنه قد ذكر بالواو . وإنما يذكر بالواو ، إذا بلغ الحساب ثمانية ، كما قال في آية أخرى : { سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 22 ] فذكر الواو عند الثمانية ، وكما قال : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين } [ التوبة : 112 ] فذكرها كلها بغير واو فلما انتهى إلى الثمانية قال : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين } [ التوبة : 112 ] ، وقال في آية أخرى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مِّنكُنَّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] ثم قال : عند الثمانية : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مِّنكُنَّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] وعرف أن أبواب جهنم سبعة بالآية . وهي قوله : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] . وقال أكثر أهل اللغة : ليس في الآية دليل ، لأن الواو قد تكون عند الثمانية ، وقد تكون عند غيرها ، ولكن عرف أن أبوابها ثمانية بالأخبار ، ثم إنهم لما دخلوا الجنة حمدوا الله تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ } يعني : الشكر لله ، { الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } يعني : أنجز لنا وعده على لسان رسله ، { وَأَوْرَثَنَا الارض } يعني : أنزلنا أرض الجنة ، { نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } أي : ننزل في الجنة ، ونستقر فيها ، حَيْثُ نَشَاءُ ونشتهي ، { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } أي : ثواب الموحدين ، المطيعين ، { وَتَرَى الملائكة حَافّينَ } أي : ترى يا محمد الملائكة يوم القيامة محدقين ، { مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي : يسبحونه ، ويحمدونه .
{ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } أي : بين الخلق . وهو تأكيد لما سبق من قوله : { وَأَشْرَقَتِ الارض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِىءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِىَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ الزمر : 69 ] { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } يعني : لما قضي بينهم بالحق . أي : بالعدل ، وميزوا من الكفار حمدوا الله تعالى . وقالوا : الحمد لله رب العالمين الذي قضى بيننا بالحق ، ونجانا من القوم الظالمين . وقال مقاتل : ابتدأ الدنيا بالحمد لله رب العالمين . وهو قوله : { الحمد للَّهِ الذى خَلَق السموات والارض } وختمها بقوله : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله تبارك وتعالى : { حم } روي عن ابن عباس أنه قال الحواميم كلها مكية . وهكذا روي عن محمد بن الحنفية . وقال ابن مسعود : إِنَّ { حم } دِيْبَاجُ القُرْآنِ . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ فَلْيَقْرَأْ الحَوَامِيم » . وقال قتادة : { حم } اسم من أسماء الله الأعظم . ويقال : اسم من أسماء القرآن . ويقال : قسم أقسم الله بحم . ويقال : معناه قضى بما هو كائن . ويقال : حم الأمر أي : قدر ، وقضى ، وتم . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، عن عاصم : { حم } بفتح الحاء . وقرأ أبو عمرو ، ونافع : بين الفتح والكسر ، والباقون بالكسر . وكل ذلك جائز في اللغة .
ثم قال : { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم } يعني : إنّ هذا القرآن الذي يقرأه عليكم محمد ، هو من عند الله ، العَزِيز في سلطانه ، وملكه ، الْعَلِيمِ بخلقه ، وبأعمالهم ، { غَافِرِ الذنب } لمن يقول : لا إله إلا الله ، مخلصاً ، يستر عليه ذنوبه ، { وَقَابِلِ التوب } لمن تاب ، ورجع ، { شَدِيدُ العقاب } لمن مات على الشرك ، ولم يقل لا إله إلا الله ، { ذِى الطول } يعني : ذي الفضل على عباده ، والمن والطول في اللغة : التفضل . يقال : طل علي برحمتك أي : تفضل . وقال مقاتل : ذي الطَّوْلِ يعني : ذي الغنى عمن لم يوحده .
ثم وحّد نفسه فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير } يعني : إليه مصير العباد ، ومرجعهم في الآخرة ، فيجازيهم بأعمالهم .
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
قوله : { مَا يجادل فِى ءايات الله } يعني : ما يخاصم في آيات الله بالتكذيب ، { إِلاَّ الذين كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } يعني : ذهابهم ، ومجيئهم في أسفارهم ، وتجاراتهم ، فإنهم ليسوا على شيء من الدين . وقال مقاتل : { تَقَلُّبِهِمْ } يعني : ما هم فيه من السعة في الرزق .
ثم خوّفهم ليحذروا فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ } يعني : الأمم من بعد قوم نوح ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } يعني : أرادوا أن يقتلوه ، { وجادلوا بالباطل } أي : بالشرك ، { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } يعني : ليبطلوا به دين الحق ، وهو الإسلام ، والذي جاء به الرسل . { فَأَخَذَتْهُمُ } أي : عاقبتهم ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } يعني : كيف رأيت عذابي لهم . أليس قد وجدوه حقاً .
{ وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } يعني : سبقت ، ووجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ ، { عَلَى الذين كَفَرُواْ } بالعذاب ، { أَنَّهُمْ أصحاب النار } يعني : يصيرون إليها . قرأ نافع ، وابن عامر : { كلمات رَبَّكَ } بلفظ الجماعة . والباقون : كلمة ربك بلفظ الواحد . وهي عبارة عن الجنس . والجنس يقع على الواحد ، وعلى الجماعة ، وقرىء في الشاذ : إِنَّهم بالكسر على معنى الابتداء ، وقراءة العامة بالنصب على معنى البناء .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم قال الله تعالى : { الذين يَحْمِلُونَ العرش } وهم الملائكة ، { وَمَنْ حَوْلَهُ } من المقربين ، { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } يعني : يسبحون الله تعالى ، ويحمدونه ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : يصدقون بالله ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني : المؤمنين . وفي الآية : دليل فضل المؤمنين ، وبيانه ، أن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم .
ثم وصف دعاءهم للمؤمنين وهو قولهم : { رَبَّنَا } يعني : يقولون : يا ربنا ، { وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } يعني : يا ربنا رحمتك واسعة ، وعلمك محيط بكل شيء . ويقال : معناه ملأت كل شيء نعمة ، وعلماً ، علم ما فيها من الخلق . روى قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : وجدنا أنصح عباد الله ، لعباد الله ، الملائكة . ووجدنا أغش عباد الله ، لعباد الله ، الشياطين . وروى الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون : الملائكة خير للمسلمين من ابن الكواء ، الملائكة يستغفرون لمن في الأرض ، وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر ، وكان ابن الكواء رجلاً خارجياً .
قوله : { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ } أي : تجاوز عنهم يعني الذين رجعوا عن الشرك ، { واتبعوا سَبِيلَكَ } يعني : دينك الإسلام ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } يعني : ادفع عنهم في الآخرة عذاب النار { رَبَّنَا } يعني : ويقولون : رَبَّنَا { وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ } على لسان رسلك ، { وَمَنْ صَلَحَ } أي : من وحّد الله تعالى { مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم } أي : وأدخلهم معهم الجنة أيضاً ، { إِنَّكَ أَنتَ العزيز } في ملكك ، { الحكيم } في أمرك ، { وَقِهِمُ السيئات } يعني : ادفع عنهم العذاب في الآخرة . { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } يعني : من دفعت العذاب عنه ، فقد رحمته . قال مقاتل : السيئات يعني : الشرك في الدنيا ، { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } في الآخرة ، { وذلك هُوَ الفوز العظيم } يعني : النجاة الوافرة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } قال مقاتل والكلبي : لما عاين الكفار النار ، ودخلوها ، مقتوا أنفسهم أي : لاموا أنفسهم ، وغضبوا عليها . فتقول لهم خزنة جهنم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ } يعني : غضب الله عليكم ، وسخطه ، أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ { أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ } أي : تجحدون ، وتثبتون على الكفر ، { قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين } يعني : كنا نطفاً أمواتاً ، { وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } يعني : فأحييتنا ، ثم أمتنا عند آجالنا ، ثم أحييتنا اليوم . وذكر عن القتبي نحو هذا . وقال بعضهم : إحدى الإماتتين يوم الميثاق ، حين صيروا إلى صلب آدم ، والأخرى في الدنيا عند انقضاء الأجل ، وإحدى الإحيائين في بطن الأمهات ، والأخرى في القبر .
{ فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } يعني : أقررنا بشركنا ، وظهر لنا أن البعث حق ، { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } يعني : فهل سبيل إلى الخروج من النار . ويقال : فهل من حيلة إلى الرجوع { ذلكم } يعني : يقال لهم ذلك الخلود { بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } يعني : إذا قيل لكم لا إله إلا الله جحدتم ، وأقمتم على الكفر ، { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } يعني : إذا دعيتم إلى الشرك ، وعبادة الأوثان ، تصدقوا { فالحكم للَّهِ العلى الكبير } يعني : القضاء فيكم { للَّهِ العلى الكبير } أي : الرفيع فوق خلقه ، القاهر لخلقه ، { الكبير } بالقدرة ، والمنزلة .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
ثم قال الله تعالى : { هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } يعني : عجائبه ، ودلائله ، من خلق السموات والأرض ، والشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، وذلك أنه لما ذكر ما يصيبهم يوم القيامة ، عظم نفسه تعالى .
ثم ذكر لأهل مكة من الدلائل ليؤمنوا به ، فقال : { هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } { وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً } يعني : المطر . ويقال : الملائكة لتدبير الرزق . { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } يعني : ما يتعظ بالقرآن ، إلا من يقبل إليه بالطاعة . ويقال : { وَمَا يَتَذَكَّرُ } في هذا الصنيع ، فيوحد الرب إلا من يرجع إليه ، { فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } يعني : اعبدوه بالإخلاص ، { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } يعني : وإن شق ذلك على المشركين ، الكافرين . { رَفِيعُ الدرجات } يعني : رافع ، وخالق السموات . أي : مطبقاً بعضها فوق بعض . ويقال : هو رافع الدرجات في الدنيا بالمنازل ، وفي الآخرة الجنة ذو الدرجات ، { ذُو العرش } يعني : رافع العرش . ويقال : خالق العرش ، هو رب العرش { يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ } يعني : ينزل جبريل بالوحي { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } يعني : ليخوف بالقرآن . وقرأ الحسن : { لّتُنذِرَ } بالتاء على معنى المخاطبة . يعني : لتنذر يا محمد . وقراءة العامة بالياء يعني : لينذر الله . ويقال : { لّيُنذِرَ } من أنزل عليه الوحي { يَوْمَ التلاق } قرأ ابن كثير : يَوْمَ التَّلاَقِي بالياء . وهي إحدى الروايتين عن نافع ، والباقون بغير ياء . فمن قرأ بالياء فهو الأصل . ومن قرأ بغير ياء ، فلأن الكسر يدل عليه . وقال في رواية الكلبي : { يَوْمَ التلاق } يوم يلتقي أهل السموات ، وأهل الأرض . ويقال : يوم يلتقي الخصم ، والمخصوم ، { يَوْمَ هُم بارزون } أي : ظاهرين ، خارجين من قبورهم ، { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء } يعني : من أعمال أهل السموات ، وأهل الأرض .
{ لّمَنِ الملك اليوم } قال بعضهم : هذا بين النفختين . يقول الرب تبارك وتعالى : { لّمَنِ الملك اليوم } ؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول لنفسه : { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } . قال بعضهم : إن ذلك لأهل الجمع يوم القيامة . يقول : { لّمَنِ الملك اليوم } فأقر الخلائق كلهم ، وقالوا : { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } .
يقول الله تعالى : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يعني : ما عملت في الدنيا من خير أو شر ، { لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } وقد ذكرناه ، { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة } يعني : خوفهم بيوم القيامة . فسمي الأزفة لقربه . ويقال : أزف شخوص فلان يعني : قرب كما قال أَزِفَتِ الآزفة .
ثم قال : { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } من الخوف ، لا تخرج ، ولا تعود إلى مكانها ، { كاظمين } أي : مغمومين يتردد خوفهم في أجوافهم { مَا للظالمين } يعني : المشركين { مِنْ حَمِيمٍ } أي قريب ، { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي : له الشفاعة فيهم .
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين } هذا موصول بقوله : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء } وهو { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين } . وقال أهل اللغة : الخائنة والخيانة واحدة ، كقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } [ المائدة : 13 ] . وقال مجاهد : { خَائِنَةَ الاعين } يعني : نظر العين إلى ما نهى الله عنه . وقال مقاتل : الغمزة فيما لا يحل له ، والنظرة إلى المعصية . ويقال : النظرة بعد النظرة . وقال قتادة : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين } يعني : يعلم غمزه بعينه ، وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى ، { وَمَا تُخْفِى الصدور } .
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{ والله يَقْضِى بالحق } أي : يحكم بالحق . ويقال : يأمر بما يجب به الثواب ، وينهى عما يجب به العقاب . { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني : يعبدون من الآلهة . قرأ نافع ، وابن عامر : { تَدْعُونَ } بالتاء على معنى المخاطبة . والباقون ، بالياء على معنى الخبر عنهم .
{ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء } يعني : ليس لهم قدرة ، ولا يحكمون بشيء ، { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } يعني : { السميع } لمقالة الكفار { البصير } بأعمالهم .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
أَوَلَمْ يِسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا } يعني : فيعتبروا ، { كَيْفَ كَانَ عاقبة } يعني : آخر أمر ، { الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } يعني : منعة . قرأ ابن عامر ، ومن تابعه من أهل الشام { أَشَدَّ مِنكُمْ } بالكاف على معنى المخاطبة . والباقون { أَشَدُّ مِنْهُم } بالهاء على معنى الخبر عنهم .
{ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى } يعني : أكثر أعمالاً . ويقال : أشد لها طلباً ، وأبعد لها ذهاباً . { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } أي : عاقبهم الله { وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } أي : من مانع يمنعهم من عذاب الله . { ذلك } أي : ذلك العذاب { بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } يعني : بالأمر ، والنهي . ويقال : بالدلائل الواضحات ، { فَكَفَرُواْ } بهم ، وبدلائلهم ، { فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب } أي : عاقبهم الله بذنوبهم ، إنه قادر على أخذهم ، شديد العقاب لمن عاقب .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } التسع ، { وسلطان مُّبِينٍ } أي : حجة بيّنة { إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَشرُونَ فَقَالُواْ ساحر كَذَّابٌ } يعني : لم يصدقوا موسى .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا } يعني : بالرسالة ، { قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ } يعني : أعيدوا القتل عليهم ، { واستحيوا نِسَاءهُمْ } فلا تقتلوهن ، { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي : في خطأ بيّن .
قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } لقومه { ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } يعني : خلوا عني ، حتى أقتل موسى . { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } يعني : ليدعوا ربه موسى ، لكي يمنعه عني . وذلك أن قومه كانوا يقولون : أرجئه وأخاه ، ولا تقتله حتى لا يفسدوا عليك الملك . فقال لهم فرعون : { ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } فإِني أعلم أن صلاح ملكي في قتله .
{ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ } يعني : عبادتكم إياي ، { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارض الفساد } يعني : الدعاء إلى غير عبادتي . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو { وَإِن يَظْهَرُوا } على معنى العطف . والباقون : { أَوْ أَن يُظْهِرَ } على معنى الشك ، وكلاهما جائز . وأو لأحد الشيئين : إما لشك المتكلم أو أحدهما . والواو للجمع ، وتقع على الأمرين جميعاً . وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وعاصم { يُظْهِرُ } بضم الياء ، وكسر الهاء ، { الفساد } بالنصب . والباقون : { يُظْهِرُ } بنصب الياء ، والهاء ، { الفساد } بالضم . فمن قرأ : يُظْهر بالضم . فالفعل لموسى ، والفساد نصب لوقوع الفعل عليه . ومن قرأ يَظْهَر ، فالفعل للفساد ، فيصير الفسادُ رفعاً ، لأنه فاعل . فلما سمع موسى ذلك التهديد ، استعاذ بالله من شره ، فذلك قوله : { وَقَالَ موسى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ } يعني : أستعيذ بربي ، وربكم ، { مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ } عن الإيمان يعني : { لاَ يُؤْمِنُ } أي : لا يصدق { بِيَوْمِ الحساب } .
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } وهو حزبيل بن ميخائيل ، هو ابن عم قارون ، وكان أبوه من آل فرعون ، وأمه من بني إسرائيل . ويقال : كان ابن فرعون { يَكْتُمُ إيمانه } ، وكان قد أسلم سراً من فرعون .
قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ } يعني : اليد ، والعصا . وروى الأوزاعي عن يحيى بن كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو : حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أقبل عقبة بن أبي معيط ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ، فلوى ثوبه على عنقه ، وخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر ، فأخذ بمنكبيه ، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال أبو بكر : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ } { وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } يعني : فعليه وبال كذبه ، فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة ، ولا برهان . { وَإِن يَكُ صادقا } في قوله ، وكذبتموه ، { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } من العذاب . يعني : بعض ذلك العذاب يصبكم في الدنيا . ويقال : بعض الذي يعدكم فيه . أي : جميع الذي يعدكم ، كقوله : { وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ الزخرف : 63 ] أي : جميع الذي تختلفون فيه ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى } يعني : لا يرشد ، ولا يوفق إلى دينه ، { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } في قوله : { كَذَّابٌ } يعني : الذي عادته الكذب .
{ كَذَّابٌ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم } أي : ملك مصر ، { ظاهرين فِى الارض } أي : غالبين على أرض مصر ، { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } يعني : من يعصمنا من عذاب الله ، { إِن جَاءنَا } يعني : أرأيتم إن قتلتم موسى ، وهو الصادق ، فمن يمنعنا من عذاب الله . فلما سمع فرعون قول المؤمن ، { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى } يعني : ما أريكم من الهدى ، إلا ما أرى لنفسي . ويقال : ما آمركم إلا ما رأيت لنفسي أنه حق وصواب ، { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } يعني : ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى وقرىء في الشاذ { الرشاد } بتشديد الشين . يعني : سبيل الرشاد الذي يرشد الناس . ويقال : رشاد اسم من أسماء أصنامه .
قوله : { وَقَالَ الذى ءامَنَ } وهو حزبيل { ءامَنَ ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب } يعني : أخاف عليكم من تكذيبكم مثل عذاب الأمم الخالية ، { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ } أي مثل عذاب قوم نوح ، { وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } يعني : لا يعذبهم بغير ذنب ، { لّلْعِبَادِ وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } وهو من نَدَّ يَند ، وهو من تنادى ، يتنادى ، تنادياً .
وروى أبو صالح ، عن ابن عباس أنه قرأ : { يَوْمَ التناد } بتشديد الدال . وقال : تندون كما تند الإبل ، وهذا موافق لما بعده ، { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } وكقوله : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 ، 35 ] .
وقرأ الحسن يَوْمَ التَّنَادِي بالياء ، وهو من النداء . يوم ينادى كل قوم بأعمالهم . وينادي المنادي من مكان بعيد . وينادي أهل النار أهل الجنة . وينادي أهل الجنة أهل النار { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] وقراءة العامة . التناد بالتخفيف بغير ياء ، وأصله الياء ، فحذف الياء ، لأن الكسرة تدل عليه ، وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : هاربين . قال الكلبي : هاربين ، إذا انطلق بهم إلى النار ، فعاينوها ، هربوا . فيقال لهم : { مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي : ليس لكم من عذاب الله من مانع . وقال مقاتل : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : ذاهبين بعد الحساب إلى النار ، كقوله : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي ذاهبين { مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يعني : من مانع من عذابه .
{ وَمَن يُضْلِلِ الله } عن الهدى ، { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعني : من مرشد ، وموفق .
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } هذا قول حزبيل أيضاً لقوم فرعون قال : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ } ويقال : يعني : به أهل مصر ، وهم الذين قبل فرعون ، لأن القرون الذين كانوا في زمن فرعون ، لم يروا يوسف ، وهذا كما قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 91 ] وإنما أراد به آباءهم { بالبينات } أي : بتعبير الرؤيا . وروي عن وهب بن منبه : قال فرعون : موسى هو الذي كان في زمن يوسف ، وعاش إلى وقت موسى . وهذا خلاف قول جميع المفسرين . { فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ } من تصديق الرؤيا ، وبما أخبركم ، { حتى إِذَا هَلَكَ } يعني : مات ، { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } .
يقول الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } يعني : من هو مشرك ، شاك في توحيد الله .
ثم وصفهم فقال : { الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان } أي : بغير حجة { أتاهم كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } أي : عظم بغضاً لهم من الله ، { وَعِندَ الذين ءامَنُواْ } يعني : عند المؤمنين { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } أي : يختم الله بالكفر ، { على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ } يعني : متكبر عن عبادة الله تعالى . قرأ أبو عمرو : { قَلْبِ مُتَكَبّرٍ } بالتنوين . جعل قوله متكبر نعتاً للقلب . ومعناه : أن صاحبه متكبر . والباقون : { قَلْبِ مُتَكَبّرٍ } بغير تنوين على معنى الإضافة ، لأن المتكبر هو الرجل ، وأضاف القلب إليه .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحاً } أي : قصراً مشيداً { لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب } يعني : أصعد طرق السموات ، { فَأَطَّلِعَ } أي : انظر { إلى إله موسى } الذي يزعم أنه أرسله . وقال مقاتل ، والقتبي : { أسباب السموات } أبوابها . قرأ عاصم في رواية حفص : { فَأَطَّلِعَ } بنصب العين . والباقون : بالضم . فمن قرأ : بالنصب . جعله جواباً للفعل . ومن قرأ بالضم رده إلى قوله : أبلغ الأسباب ، فأطلع . { وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا } أي : لأحسب موسى كاذباً في قوله .
قال الله تعالى : { وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ } أي : قبح عمله ، { وَصُدَّ عَنِ السبيل } أي : الدين ، والتوحيد . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : { وَصُدَّ } بضم الصاد . والباقون : بالنصب . فمن قرأ : بالضم . فمعناه : إن فرعون صرف عن طريق الهدى . يعني : إن الشيطان زين له سوء عمله ، وصرفه عن طريق الهدى . ومن قرأ : بالنصب . فمعناه : صرف فرعون الناس عن الدين .
{ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ } أي : ما صنع فرعون إلا في خسارة يوم القيامة ، كقوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ } { صلى الله عليه وسلم } [ المسد : 1 ] يعني : إن فرعون اختار متاعاً قليلاً ، وترك الجنة الباقية ، فكان عمله في الخسارة .
{ وَقَالَ الذى ءامَنَ } وهو حزبيل { عَلَيْهِ قَوْمٌ } { اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } يعني : أطيعوني حتى أرشدكم ، وأبيّن لكم دين الصواب .
قوله تعالى : { سَبِيلَ الرشاد ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا } أي : قليل ، { وَإِنَّ الاخرة هِىَ دَارُ القرار } لا زوال لها . { مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } يعني : من عمل الشرك فلا يجزى إلا النار في الآخرة . { وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يعني : من رجل ، أو امرأة ، { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير مقدار . وقال بعض الحكماء : إن الله تعالى قال : { مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً } ولم يقل من ذكر أو أنثى . وقال : { وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } لأن العمل الصالح يَحْسُن من الرجل ، والمرأة . والسيئة من المرأة ، أقبح من الرجل . فلم يذكر من ذكر أو أنثى . { حِسَابٍ وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة } يعني : أن حزبيل قال لقومه : ما لي أدعوكم إلى التوحيد ، والطاعة ، وذلك سبب النجاة ، والمغفرة ، فلم تطيعوني ، { وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار } يعني : إلى عمل أهل النار .
ثم بيّن عمل أهل النار فقال : { تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله } يعني : لأجحد بوحدانية الله ، { وَأُشْرِكَ بِهِ } أي : أشرك بالله ، { مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } يعني : ما ليس لي به حجة بأن مع الله شريكاً ، { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار } يعني : إلى دين العزيز الغفار { العزيز } في ملكه { الغفار } لمن تاب .
{ لاَ جَرَمَ } أي : حقاً يقال { لاَ جَرَمَ } يعني : لا بد . { أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا } أي : ليس له قدرة . ويقال : ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا . { وَلاَ فِى الاخرة وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله } أي مصيرنا ، ومرجعنا إلى الله يوم القيامة ، { وَأَنَّ المسرفين } يعني : المشركين ، { هُمْ أصحاب النار } يعني : هم في النار أبداً .
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } يعني : ستعرفون إذا نزل بكم العذاب ، وتعلمون أن ما أقول لكم من النصيحة أنه حق . { وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله } يعني : أمر نفسي إلى الله ، وأدع تدبيري إليه ، { إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } يعني : عالم بأعمالهم ، وبثوابهم . فأرادوا قتله ، فهرب منهم ، فبعث فرعون في طلبه ، فلم يقدروا عليه ، فذلك قوله : { فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } يعني : دفع الله عنه شر ما أرادوا ، { وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ } يعني : نزل بهم { سُوء العذاب } يعني : شدة العذاب ، وهو الغرق .
{ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } قال ابن عباس : يعني : تعرض أرواحهم على النار ، { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } هكذا قال قتادة ، ومجاهد ، وقال مقاتل : تعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين . وقال ابن مسعود : « أَرْوَاحُهُم في جوْف طَيْر سُودٍ يَرَوْنَ مَنَازِلهم غُدوة وَعَشِيَّةً » . وقال هذيل بن شرحبيل : « أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش » . وإن أرواح آل فرعون في جوف طير سود تغدو ، وتروح ، على النار فذلك عرضها . والآية تدل على إثبات عذاب القبر ، لأنه ذكر دخولهم النار يوم القيامة . وذكر أنه تعرض عليهم النار قبل ذلك غدواً وعشياً .
ثم قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } يعني : يقال لهم يوم القيامة : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : { أَدْخِلُواْ } بضم الألف ، والخاء . وهكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر . والباقون : بنصب الألف ، وكسر الخاء . فمن قرأ { أَدْخِلُواْ } بالضم . فمعناه : ادخلوا يا آل فرعون { أَشَدَّ العذاب } ، فصار الآل نصباً بالنداء . ومن قرأ { أَدْخِلُواْ } بالنصب . معناه : يقال للخزنة : أدخلوا آل فرعون . يعني : قوم فرعون { أَشَدَّ العذاب } يعني : أسفل العذاب . فصار الآل نصباً لوقوع الفعل عليه .
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } أي : يتخاصمون في النار الضعفاء ، والرؤساء ، فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا } يعني : لرؤسائهم { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } في الدنيا { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } أي : حاملون عنا ، { نَصِيباً مّنَ النار } يعني : بعض الذي علينا من العذاب ، باتباعنا إياكم ، كما كنا ندفع عنكم المؤونة في دار الدنيا .
{ قَالَ الذين استكبروا } يعني : الرؤساء يقولون للضعفاء : { إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } يعني : نعذب نحن ، وأنتم على قدر حصصكم في الذنوب ، فلا يغني واحد واحداً ، { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } أي : قضى بين العباد ، بين التابع والمتبوع . ويقال : { حَكَمَ بَيْنَ العباد } يعني : أنزلنا منازلنا ، وأنزلكم منازلكم .
{ وَقَالَ الذين فِى النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } إذا اشتد عليهم العذاب { ادعوا رَبَّكُمْ } يعني : سلوا ربكم . { يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ العذاب } يعني : يوماً من أيام الدنيا ، حتى نستريح ، فترد الخزنة عليهم فتقول : { قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات } يعني : ألم تخبركم الرسل أن عذاب جهنم إلى الأبد . ويقال : { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات } يعني : ألم تخبركم الرسل بالدلائل ، والحجج ، والبراهين ، فكذبتموهم . { قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا } يعني : تقول لهم الخزنة ، فادعوا ما شئتم ، فإنه لا يستجاب لكم . { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي : في خطأ بيّن .
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } بالغلبة ، والحجة ، { والذين ءامَنُواْ } بهم يعني : الذين صدقوهم { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم } أي : بالحجة ، والغلبة على جميع الخلق . يعني : على جميع أهل الأديان { وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد } قال مقاتل : يعني : الحفظة من الملائكة ، يشهدون عند رب العالمين للرسل بالبلاغ ، وعلى الكافرين بتكذيبهم . وقال الكلبي : يعني : يوم القيامة يقوم الرسل عند رب العالمين ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } يعني : لا ينفع الكافرون اعتذارهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يَوْمٌ لاَّ تَنفَعُ } بالتاء بلفظ التأنيث ، لأن المعذرة مؤنثة . والباقون : بالياء . وانصرف إلى المعنى ، يعني : لا ينفع لهم اعتذارهم { وَلَهُمُ اللعنة } أي : السخطة { وَلَهُمْ سُوء الدار } أي : عذاب جهنم .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى } يعني : التوراة فيها هدى ، ونور من الضلالة ، { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب } يعني : أعطيناهم على لسان الرسل التوراة ، والإنجيل ، والزبور { هُدًى } أي : بياناً من الضلالة . ويقال : فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم { وذكرى لاِوْلِى الالباب } يعني : عظة لذوي العقول .
{ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : اصبر يا محمد على أذى المشركين . فإن وعد الله حق ، وهو ظهور الإسلام على الأديان كلها ، وفتح مكة . { واستغفر لِذَنبِكَ } . وهذا قبل نزول قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] . ويقال : { أَسْتَغْفِرُ لِذَنبِكِ } أي : لذنب أمتك { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } أي : صل بأمر ربك { بالعشى } أي : صلاة العصر ، { والإبكار } يعني : صلاة الغداة . ويقال : سبح الله تعالى ، واحمده بلسانك في أول النهار ، وآخره .
{ إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله } قال الكلبي ومقاتل : يعني : اليهود ، والنصارى ، كانوا يجادلون في الدجال . وذلك أنهم كانوا يقولون : إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان ، وله سلطان ، فيخوض البحر ، وتجري معه الأنهار ، ويرد علينا الملك . فنزل : { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله } يعني : في الدجال . لأن الدجال آية من آيات الله ، { بِغَيْرِ سلطان } أي : بغير حجة { ءاتاهم } من الله . { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه } أي : ما في قلوبهم إلا عظمة { مَّا هُم ببالغيه } يعني : ما هم ببالغي ذلك الكبر الذي في قلوبهم ، بأن الدجال منهم . وقال القتبي : إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلاَّ تكبراً على محمد صلى الله عليه وسلم ، وطمعاً أن يغلبوه ، وما هم ببالغي ذلك . وقال الزجاج : معناه وما هم ببالغي إرادتهم ، وإرادتهم دفع آيات الله . وروى أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : إن اليهود ذكروا الدجال ، وعظموا أمره ، فنزل : { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله } يعني : إن الدجال من آيات الله { فاستعذ بالله } من فتنة الدجال ، فإنه ليس ثم فتنة أعظم من فتنة الدجال . { إِنَّهُ هُوَ السميع } لقول اليهود ، { البصير } يعني : العليم بأمر الدجال . ويقال : { السميع } لدعائك ، { البصير } برد فتنة الدجال عنك .
{ لَخَلْقُ السماوات والارض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } قال الكلبي ومقاتل : { لَخَلْقُ السموات والارض } أعظم من خلق الدجال . ويقال : { لَخَلْقُ السموات والارض } أعظم من خلق الناس بعد موتهم . يعني : أنهم يبعثون يوم القيامة ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن الدجال خلق من خلق الله . ويقال : لا يعلمون أن الله يبعثهم ، ولا يصدقون .
{ وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير } يعني : الكافر ، والمؤمن في الثواب ، { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء } يعني : لا يستوي الصالح ، مع الطالح ، { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون ، ويعتبرون .
قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { تَتَذَكَّرُونَ } بالتاء على وجه المخاطبة . والباقون : بالياء { يَتَذَكَّرُونَ } على معنى الخبر عنهم . وفي كلا القراءتين مَا للصلة ، والزينة .
{ إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } يعني : قيام الساعة آتية لا شك فيها عند المؤمنين ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون الله تعالى .
{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال الكلبي معناه : وحدوني ، أغفر لكم . وقال مقاتل : معناه : وقال ربكم لأهل الإيمان ، ادعوني أستجب لكم ، { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } أي : عن توحيدي ، فلا يؤمنون بي ، ولا يطيعونني . { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } أي : صاغرين . ويقال : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى } يعني : الدعاء بعينه : { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } يعني : أستجب دعاءكم . وقال بعض المتأخرين : معناه ادعوني بلا غفلة ، أستجب لكم بلا مهلة . وقيل أيضاً : ادعوني بلا جفاء ، أستجب لكم بالوفاء . وقيل أيضاً : ادعوني بلا خطأ ، أستجب لكم مع العطاء . وروى النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ ، ثُمَّ قرأ : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } » قرأ ابن كثير ، وعاصم ، في رواية أبي بكر ، وإحدى الروايتين ، عن أبي عمرو : { سَيَدْخُلُونَ } بضم الياء ، ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وتكون جهنم مفعولاً ثانياً . والباقون : يدخلون بنصب الياء ، وضم الخاء ، على الإخبار عنهم بالفعل المستقبل ، على معنى سوف يدخلون .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل } أي : خلق لكم الليل ، { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي : لتستقروا فيه ، وتستريحوا فيه ، { والنهار مُبْصِراً } أي : مضيئاً لابتغاء الرزق ، والمعيشة . ويقال : { مُبْصِراً } معناه : يبصر فيه ، { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } يعني : على أهل مكة بتأخير العذاب عنهم . ويقال { لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } أي : على جميع الناس ، بخلق الليل والنهار ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } لربهم في النعمة فيوحدونه ، ويطيعونه . { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يعني : الذي خلق هذا هو ربكم ، { خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون ، وتحولون . ويقال : { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي : من أين تكذبون ، { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ } أي : هكذا يكذب . ويقال : هكذا يحول ، { الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ } ويقال : هكذا يؤفك الذين كانوا من قبلهم .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض قَرَاراً } أي بسط لكم الأرض ، وجعلها موضع قراركم ، { والسماء بِنَاء } أي : خلق السماء فوقكم مرتفعاً ، { وَصَوَّرَكُمْ } أي : خلقكم { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } ولم يخلقكم على صورة الدَّواب ، { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : أحكم خلقكم ، { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } أي : الحلالات . يقال : اللذيذات ، { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يعني : الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم ، { فتبارك الله رَبُّ العالمين } أي : فتعالى الله رب العالمين . ويقال : هو من البركة يعني : البركة منه . { هُوَ الحى } يعني : هو الحي الذي لا يموت ، ويميت الخلائق ، { لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } يعني : بالتوحيد ، { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } يعني : قولوا الحمد لله رب العالمين الذي صنع لنا هذا .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ } يعني : قل يا محمد لأهل مكة : { إِنّى نُهِيتُ } { أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } يعني : نهاني ربي أن أعبد الذين تعبدون من دون الله من الأصنام ، { لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى } يعني : حين جاءني الواضحات ، وهو القرآن ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } يعني : أستقيم على التوحيد ، { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } وقد ذكرناه من قبل ، { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } يعني : يعيش الإنسان إلى أن يصير شيخاً ، { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } يعني : الشباب ، والشيخ ، يبلغ { أَجَلاً مُّسَمًّى } وقتاً معلوماً . ويقال : في الآية تقديم ، ومعناه : { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } أي : لتبلغوا { أَجَلاً مُّسَمًّى } يعني : وقت انقضاء أجله { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي : من قبل أن يبلغ أشده . ويقال : من قبل أن يصير شيخاً ، { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : لكي تعقلوا أمر ربكم ، ولتستدلوا به ، وتتفكروا في خلقه .
{ هُوَ الذى اَ إله } أي : يحيي للبعث ، ويميت في الدنيا ، على معنى التقديم ، ويقال : معناه هو الذي يحيي في الأرحام ، ويميت عند انقضاء الآجال ، { فَإِذَا قضى أَمْراً } يعني : أراد أن يخلق شيئاً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله } أي : يجادلون في القرآن ، أنه ليس منه ، { أنى يُصْرَفُونَ } يعني : من أين يصرفون عن القرآن ، والإيمان من أين تعدلون عنه إلى غيره؟ ويقال : عن الحق ، والتوحيد .
ثم وصفهم فقال : { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب } أي : بالقرآن ، { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } يعني : بالتوحيد . ويقال : بالأمر ، والنهي ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ماذا ينزل بهم في الآخرة .
ثم وصف ما ينزل بهم ، فقال عز وجل : { إِذِ الاغلال فِى أعناقهم } يعني : ترد أيمانهم إلى أعناقهم { والسلاسل يُسْحَبُونَ } يعني : تجعل السلاسل في أعناقهم ، يُسْحَبُونَ ، ويجرون ، { فِى الحميم } يعني : في ماء حار ، قد انتهى حره . قال مقاتل { يُسْحَبُونَ فِى الحميم } يعني : في حر النار . وقال الكلبي : يعني : في الماء الحار .
{ ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ } أي : يوقدون ، فصاروا وقوداً . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : { والسلاسل } بنصب اللام ، { يُسْحَبُونَ } بنصب الياء ، يعني : أنهم يسحبون السلاسل . وقال : هو أشد عليهم . وقراءة العامة { والسلاسل } بضم اللام { يُسْحَبُونَ } بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله . والمعنى : أن الملائكة يسحبونهم في السلاسل .
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ } أي : تقول لهم الخزنة : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ } أي : تعبدون ، { مِن دُونِ الله } من الأوثان ، { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } يعني : اشتغلوا بأنفسهم عنا ، { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } وذلك أنهم يندمون على إقرارهم ، وينكرون ، ويقولون : { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } في الدنيا . ويقال : معناه بل لم نكن نعبد شيئاً ينفعنا .
يقول الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } عن الحجة ، { ذلكم } أي : ذلكم العذاب ، { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارض } أي : تبطرون ، وتتكبرون في الأرض { بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } أي : تعصون ، وتستهزئون بالمسلمين ، { ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } أي : فبئس مقام المتكبرين عن الإيمان .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : اصبر يا محمد على أذى الكفار ، { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : كائن ، { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب يعني : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا ، وهو القتل ، والهزيمة . { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } من قبل أن نرينك عذابهم في الدنيا ، { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يعني : يرجعون إلينا في الآخرة ، فنجزيهم بأعمالهم .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ } يعني : إلى قومهم ، { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } يعني : سميناهم لك ، فأنت تعرفهم ، { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } يعني : لم نسمهم لك ولم نخبرك بهم يعني : أنهم صبروا على أذاهم ، فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك كما صبروا .
{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ } أي : ما كان لرسول ، من القدرة { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً } أي بدلائل ، وبراهين ، { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } يعني : بأمره . { فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله } يعني : العذاب ، { قُضِىَ بالحق } أي : عذبوا ، ولم يظلموا حين عذبوا ، { وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } . أي : خسر عند ذلك المبطلون . يعني : المشركون . ويقال : يعني : الظالمون . ويقال : الخاسرون .
ثم ذكر صنعه ليعتبروا فقال : { الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الانعام } يعني : خلق لكم البقر ، والغنم ، والإبل ، { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } أي بعضها وهو الإبل ، { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : من الأنعام منافع في ظهورها ، وشعورها ، وشرب ألبانها ، { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } أي ما في قلوبكم ، من بلد إلى بلد { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } يعني : على الأنعام ، وعلى السفن ، { وَيُرِيكُمْ ءاياته } يعني : دلائله ، وعجائبه ، { وَيُرِيكُمْ ءاياته فَأَىَّ ءايات } بأنها ليست من الله ، { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض } يعني : يسافروا في الأرض ، { فَيَنظُرُواْ } أي : فيعتبروا ، { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : آخر أمر من كان قبلهم ، كيف فعلنا بهم حين كذبوا رسلهم ، { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ } يعني : أكثر من قومك في العدد ، { وَأَشَدَّ قُوَّةً } من قومك ، { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى } ، يعني : مصانعهم أعظم آثاراً في الأرض ، وأطول أعماراً ، وأكثر ملكاً في الأرض ، { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يعني : لم ينفعهم ما عملوا في الدنيا ، حين نزل بهم العذاب .
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالأمر ، والنهي ، وبخبر العذاب ، { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } يعني : من قلة علمهم ، رضوا بما عندهم من العلم ، ولم ينظروا إلى دلائل الرسل . ويقال : رضوا بما عندهم . فقالوا : لن نعذب ، ولن نبعث . ويقال : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } أي : علم التجارة ، كقوله { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون } [ الروم : 7 ] .
{ وَحَاقَ بِهِم } أي نزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : يسخرون به ، ويقولون : إنه غير نازل بهم .
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي : عذابنا في الدنيا ، { قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا } أي : تبرأنا ، { بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } يعني : بما كنا به مشركين من الأوثان ، { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم } يعني : تصديقهم ، { لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي : حين رأوا عذابنا . قال القتبي : البأس الشدة . والبأس العذاب كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وكقوله : { فَلَمَّا أَحَسُّواْ } بأسنا ، { سُنَّتُ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } قال مقاتل : يعني : كذلك كانت سنة الله { فِى عِبَادِهِ } . يعني : العذاب في الأمم الخالية إذا عاينوا العذاب ، لم ينفعهم الإيمان . وقال القتبي : هكذا سنة الله أنه من كفر عذبه ، { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } أي : خسر عند ذلك الكافرون بتوحيد الله عز وجل ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
قوله تبارك وتعالى { حم } اسم السورة . ويقال : حم يعني : قضي ما هو كائن ويقال هو قسم أقسم الله تعالى به . { تَنزِيلَ } أي : نزل بهذا القرآن جبريل ، { مّنَ الرحمن الرحيم } تنزيل صار رفعاً بالابتداء ، وخبره ، { كتاب فُصّلَتْ ءاياته } ويقال : صار رفعاً بإضمار فيه . ومعناه : هذا تنزيل من الرحمن الرحيم ، { كِتَابٌ } يعني : القرآن { فُصّلَتْ ءاياته } يعني : بينت ، وفسرت دلائله ، وحججه . ويقال : بيّن حلاله ، وحرامه ، { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } صار نصباً على الحال . أي : بينت آياته في حال جمعه ، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : يصدقون ، ويقرون بالرسل . ويقال : يعلمون ما فيه ، ويفهمونه . { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } أخذ من الجمع ، ولو كان غير عربي لم يعلموه .
قوله تعالى : { بَشِيراً وَنَذِيراً } يعني : { بَشِيراً } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين بالنار . { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } يعني : أعرض أكثر أهل مكة ، { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } يعني : لا يسمعون سمعاً ينفعهم ، لأنهم لا يجيبون ، ولا يطيعون .
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } يعني : في غطاء لا نفقه ما تقول ، { مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } من التوحيد لا يصل إلى قلوبنا ، { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى } يعني : ثقلاً فلا نسمع قولك . يعني : نحن في استماع قولك ، كالصم لا نسمع ما تقول ، { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } أي ستر ، وغطاء ، { فاعمل إِنَّنَا عاملون } يعني : اعمل على أمرك ، نعمل على أمرنا . ويقال : اعمل لإلهك الذي أرسلك ، إننا عاملون لآلهتنا ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبي . ويقال : اعمل في هلاكنا ، إننا عاملون في هلاكك . روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه : أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش : ألا أقُوم إلى هذا الرجل ، وأكلمه ، وأعرض عليه أموراً ، لعله يقبل منا بعضها ، فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ، وذلك حين رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ، ويكثرون . فقالوا : بلى يا أبا الوليد . فقام عتبة : حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من المكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت جماعتهم ، وعبت آلهتهم ، ودينهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فإن كنت ، إنما تريد بما جئت به مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً شرفناك علينا ، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه ، أي : خيالاً ، لا تستطيع أن تردّه عنك نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا لك فيه أموالنا حتى نبريك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل ، حتى يداوى منه .
فلما فرغ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُه } حتى انتهى إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 13 ] » فقام عتبة ، وجاء إلى أصحابه . فقال بعضهم لبعض : تالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك؟ قال : سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني ، وخلوا بيني وبين الرجل ، وبين ما هو فيه . فقالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . فقال : هذا الرأي لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد ، { إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } يعني : آدمياً مثلكم ، { يوحى إِلَىَّ } ما أبلغكم من الرسالة ، { أَنَّمَا إلهكم إله واحد فاستقيموا إِلَيْهِ } يعني : أقروا له بالتوحيد ، { واستغفروه } من الشرك ، { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ } يعني : الشدة من العذاب للمشركين ، { الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } يعني : لا يعطون الزكاة ، ولا يقرون بها ، { وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون } يعني : بالبعث بعد الموت .
ثم وصف المؤمنين فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بالله ، وأدوا الفرائض ، { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني : غير منقوص . ويقال : غير مقطوع . عنهم في حال ضعفهم ، ومرضهم .
فقال عز وجل : { قُل أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ } اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به التهديد والزجر . يعني : أئنكم لتكذبون بالخالق الذي خلق الأرض في يومين ، يوم الأحد ويوم الاثنين . فبدأ خلقها في يوم الأحد ، وبسطها في يوم الاثنين ، { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } يعني : تصفون له شركاء من الآلهة ، { ذَلِكَ رَبُّ العالمين } يعني : الذي خلق الأرض ، فهو رب جميع الخلق ، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل ، وكان قادراً . ولكنه أحب أن يبصر الخلق وجوه الأناة ، والقدرة على خلق السموات والأرض في أيام كثيرة ، وفي لحظة واحدة سواء ، لأن الخلق عاجزون عن مثقال ذرة منها ، وكان ابتداء خلق الأرض في يوم الأحد ، وإتمام خلقها ، وبسطها في يوم الاثنين .
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا } يعني : وخلق في الأرض الرواسي . يعني : الجبال الثوابت من فوقها ، { وبارك فِيهَا } بالماء ، والشجر ، { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } يعني : قسم فيها الأرزاق . وقال عكرمة : { قُدِر فِيهَا أقواتها } يعني : قدر في كل قرية عملاً لا يصلح في الأخرى ، مثل النيسابوري لا يكون إلا بنيسابور ، والهروي لا يكون إلا بهراة . وقال قتادة : { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } قال : جبالها ، ودوابها ، وأنهارها ، وثمارها . وقال الحسن { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } قال : أرزاقها . وقال مقاتل : يعني : أرزاقها ، ومعايشها وروى الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : أول ما خلق الله من شيء ، خلق القلم . فقال له اكتب . فقال : يا رب وما أكتب؟ فقال : اكتب القدر . فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم القيامة . ثم خلق النون ، ثم رفع بخار الماء ، ففتق منه السموات ، ثم بسط الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فتمادت الأرض ، فأوتدت بالجبال .
ثم قال : { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } يعني : من أيام الآخرة . ويقال : من أيام الدنيا ، { سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } يعني : لمن سأل الرزق ومن لم يسأل . وقال مقاتل : { سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } يعني : عدلاً لمن سأل الرزق ، كقوله :