كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد
ثُمَّ إذَا عَارَضَ الْإِجْمَاعَ نَصٌّ أَطْلَقَ ابْنُ الْحَاجِبِ تَقْدِيمَ الْإِجْمَاعِ عَلَى النَّصِّ وَعَلَّلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ بِعَدَمِ قَبُولِهِ النَّسْخَ وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ كَأَنَّهُ أَرَادَ إذَا كَانَا قَطْعِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ النَّصِّ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ سَنَدٌ نَاسِخٌ لِلنَّصِّ مِنْ نَصٍّ آخَرَ قَطْعِيٍّ ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ فَقَالَ ( وَالْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيُّ ) يَتَرَجَّحُ ( عَلَى نَصٍّ كَذَلِكَ ) أَيْ قَطْعِيٍّ كِتَابًا كَانَ أَوْ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالظَّنِّيَّيْنِ وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ ( وَكَوْنُ ) الْإِجْمَاعِ ( الظَّنِّيِّ كَذَلِكَ ) أَيْ يَتَرَجَّحُ عَلَى نَصٍّ ظَنِّيٍّ ( تَرَدَّدْنَا فِيهِ ) وَأَمَّا الْأَبْهَرِيُّ فَقَالَ : أَمَّا إذَا كَانَ ظَنِّيَّ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ أَوْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيَّ السَّنَدِ وَجَبَ تَأْوِيلُ الْقَابِلِ لَهُ انْتَهَى .
قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مِنْ مَا صَدَّقَ هَذَا أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْإِجْمَاعُ الظَّنِّيُّ السَّنَدِ الْقَطْعِيُّ الْمَتْنِ مَعَ النَّصِّ كَذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُ الْقَابِلِ التَّأْوِيلِ مِنْهُمَا ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ لَكِنْ لَا قَابِلَ لِلتَّأْوِيلِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتْنِ جِهَةُ الدَّلَالَةِ كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ وَالْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الْمَقْبُولَ لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ وَتَبَعِيَّةُ الْإِرَادَةِ لِلدَّلَالَةِ فِي الْقَطْعِ ، وَاَلَّذِي فِي مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ إذَا عَارَضَ الْإِجْمَاعَ نَصٌّ أُوِّلَ الْقَابِلُ لَهُ أَيْ لِلتَّأْوِيلِ بِوَجْهٍ مَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ قَالَ وَإِلَّا تَسَاقَطَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ شَرْحًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ تَسَاقَطَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَا
ظَنِّيَّيْنِ فَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا وَالْآخَرُ ظَنِّيًّا فَلَا تَعَارُضَ كَمَا سَتَعْرِفُهُ فِي الْقِيَاسِ انْتَهَى .
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِيهِ وَيَتَحَرَّرُ هُنَا أَقْسَامٌ ثَمَانِيَةٌ .
كَوْنُ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ قَطْعِيَّ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ كَوْنُهُمَا ظَنِّيَّيْ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيَّهُمَا وَالنَّصِّ ظَنِّيَّهُمَا كَوْنُ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّهُمَا وَالنَّصِّ قَطْعِيَّهُمَا كَوْنُ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيَّ السَّنَدِ ظَنِّيَّ الْمَتْنِ وَالنَّصِّ كَذَلِكَ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّ السَّنَدِ قَطْعِيَّ الْمَتْنِ وَالنَّصِّ كَذَلِكَ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيَّ السَّنَدِ ظَنِّيَّ الْمَتْنِ وَالنَّصُّ بِالْعَكْسِ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّ السَّنَدِ قَطْعِيَّ الْمَتْنِ وَالنَّصُّ بِالْعَكْسِ ، ثُمَّ الَّذِي يَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ سَنَدًا وَمَتْنًا عَلَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ كَذَلِكَ ، وَعَلَى النَّصِّ الظَّنِّيِّ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ وَعَلَى النَّصِّ الظَّنِّيِّ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ وَتَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ سَنَدًا وَمَتْنًا عَلَى النَّصِّ الظَّنِّيِّ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا التَّأْوِيلَ وَتَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ مَتْنًا لَا سَنَدًا عَلَى النَّصِّ كَذَلِكَ وَتَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ سَنَدًا لَا مَتْنًا عَلَى النَّصِّ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا التَّأْوِيلَ .
وَتَقْدِيمُ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ سَنَدًا وَمَتْنًا عَلَى الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ وَعَلَى الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ أَحَدُهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ سَنَدًا لَا مَتْنًا عَلَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ مَتْنًا لَا سَنَدًا أَوْ بِالْعَكْسِ وَتَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ مَتْنًا لَا سَنَدًا عَلَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ سَنَدًا لَا مَتْنًا أَوْ بِالْعَكْسِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا التَّأْوِيلَ فَفِي كِلَيْهِمَا تَأَمُّلٌ ، وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ - .
( وَمَا عَمِلَ بِهِ ) الْخُلَفَاءُ ( الرَّاشِدُونَ ) أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُرَجَّحُ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُتَابَعَتِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَمَا يُفِيدُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَحْثِ الْعَزِيمَةِ وَكَوْنِهِمْ أَعْرَفَ بِالتَّنْزِيلِ وَمَوَاقِعِ الْوَحْيِ وَالتَّأْوِيلِ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ بَلْ ذَهَبَ أَبُو حَازِمٍ إلَى أَنَّ مَا اتَّفَقَتْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ .
( أَوْ عُلِّلَ ) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَرَّضَ فِيهِ لِلْعِلَّةِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لَهَا ( لِإِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ ) أَيْ لِأَنَّ ذِكْرَ عِلَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ ( لَا الْأَقْبَلِيَّةِ ) أَيْ لَا ؛ لِأَنَّ الْفَهْمَ أَقْبَلُ لَهُ لِسُهُولَةِ فَهْمِهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْآمِدِيُّ ، ثُمَّ عَضُدُ الدِّينِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ : رُبَّمَا يُرَجَّحُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي قَبُولِهِ أَشَدُّ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ ، ثُمَّ فِي الْمَحْصُولِ يُقَدَّمُ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى عَكْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى ارْتِبَاطِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ وَاعْتَرَضَهُ النَّقْشَوَانِيُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَقَدَّمَ تَطْلُبُ نَفْسُ السَّامِعِ الْعِلَّةَ فَإِذَا سَمِعَتْهَا رَكَنَتْ إلَيْهَا ، وَلَمْ تَطْلُبْ غَيْرَهَا وَالْوَصْفُ إذَا تَقَدَّمَ تَطْلُبُ النَّفْسُ الْحُكْمَ فَإِذَا سَمِعَتْهُ قَدْ تَكْتَفِي فِي عِلَّتِهِ بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا كَانَ شَدِيدَ الْمُنَاسَبَةِ كَمَا فِي { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } الْآيَةَ وَقَدْ لَا تَكْتَفِي بِهِ بَلْ تَطْلُبُ عِلَّةً غَيْرَهُ كَمَا فِي { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } الْآيَةَ فَيُقَالُ تَعْظِيمًا لِلْمَعْبُودِ قُلْت إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُفِيدَةُ لِتَقْدِيمِ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ عَلَى مَا لَمْ تُذْكَرْ إظْهَارًا لِلِاعْتِنَاءِ بِمَا ذُكِرَتْ فِيهِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمُهَا فِيهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى مَا أُخِّرَتْ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرُهَا فِيهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى مَا قُدِّمَتْ فِيهِ ، وَالِارْتِبَاطُ بِالْعِلَّةِ مَوْجُودٌ فِي كِلَيْهِمَا وَالرُّكُونُ إلَيْهَا وَعَدَمُ الرُّكُونِ إلَيْهَا مَعَ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي كِلَيْهِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي التَّرْجِيحِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي كِلَيْهِمَا نَعَمْ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ
مَوْجُودٌ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ تَرْجِيحًا لَهُ عَلَى مَا ذُكِرَتْ فِيهِ بَعْدَ الْمَعْلُولِ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يُخَالُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ مَا لَيْسَ فِي عَكْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( كَمَا ) يَتَرَجَّحُ مَا ( ذُكِرَ مَعَهُ السَّبَبُ ) عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ أَيْ الْعَامُّ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْعَامِّ الْمُطْلَقِ عَنْهُ إذَا تَعَارَضَا فِي صُورَةِ السَّبَبِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ إذْ السَّبَبُ هُوَ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَكَانَتْ دَلَالَتُهُ فِيهَا شَدِيدَةَ الْقُوَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُهَا وَأَمَّا فِيمَا عَدَا صُورَةِ السَّبَبِ فَيَتَرَجَّحُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ عَنْهُ عَلَى الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ لِكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْهُ لِقِيَامِ احْتِمَالِ كَوْنِ ذِي السَّبَبِ خَاصًّا بِمَوْرِدِهِ إذْ الْأَصْلُ مُطَابَقَتُهُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ قَالَ السُّبْكِيُّ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ رَاجِحٌ أَرَادَ فِي صُورَةِ السَّبَبِ وَمَنْ قَالَ إنَّ عَكْسَهُ رَاجِحٌ أَرَادَ فِيمَا عَدَاهَا وَلَا يُتَّجَهُ خِلَافٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
( وَفِي السَّنَدِ ) أَيْ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمَتْنِ بِاعْتِبَارِ حِكَايَةِ طَرِيقِهِ ( كَالْكِتَابِ ) أَيْ كَتَرْجِيحِهِ ( عَلَى السُّنَّةِ ) وَهَذَا عَلَى إطْلَاقِهِ ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ بِقَوْلِهِ وَلَا يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ وَلَا السُّنَّةُ عَلَيْهِ خِلَافًا لِزَاعِمَيْهِمَا أَيْ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَيْهَا مُسْتَنِدًا لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَتَقْدِيمُ السُّنَّةِ عَلَيْهِ مُسْتَنِدًا إلَى قَوْله تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } ، ثُمَّ قَالَ : الْأَصَحُّ تَسَاوِي الْمُتَوَاتِرَيْنِ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَقِيلَ يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْهَا وَقِيلَ تُقَدَّمُ السُّنَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ أُصُولُ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْقَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ مِنْ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ السَّنَدِ تَتَرَجَّحُ عَلَى الظَّنِّيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ ، وَالْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا يَجْرِي لُزُومُ فِيهِمَا مُجْمَلَيْنِ ، وَإِنْ عُلِمَ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ وَالظَّنِّيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا لَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِكَوْنِهِ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً بَلْ بِمَا يُسَوِّغُ تَرْجِيحَهُ بِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا جُمِعَ بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَسَاقَطَا .
وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا نَسَخَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْقَطْعِيِّ السَّنَدِ الظَّنِّيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ السُّنَّةِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ السُّنَّةِ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ ظَنِّيَّ السَّنَدِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ الْكِتَابِ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ لِرُجْحَانِ الْكِتَابِ
حِينَئِذٍ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ فَيَنْبَغِي التَّقْيِيدُ بِهِ وَلَا يُقَالُ : وَهَذَا أَيْضًا لَا يَتِمُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : مَضَى أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَةِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ حَقِيقَتَهَا لِتَعَالِي الشَّارِعِ عَنْهَا بَلْ صُورَتُهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ ( وَمَشْهُورُهَا ) أَيْ يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ مِنْ السُّنَّةِ ( عَلَى الْآحَادِ ) لِرُجْحَانِ الْمَشْهُورِ سَنَدًا عَلَى الْآحَادِ ( { كَالْيَمِينِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ) فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ( عَلَى خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ) أَيْ الْقَضَاءُ بِهِمَا لِلْمُدَّعِي الْمُخَرَّجِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِهِ مُطْلَقًا خِلَافًا لِلَّائِمَةِ الثَّلَاثَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْفُرُوعِ ( وَبِفِقْهِ الرَّاوِي ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِهَادُهُ كَمَا هُوَ عُرْفُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ( وَضَبْطِهِ ) وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرَائِطِ الرَّاوِي ( وَوَرَعِهِ ) أَيْ تَقْوَاهُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالِاجْتِنَابُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ( وَشُهْرَتِهِ بِهَا ) أَيْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ( وَبِالرِّوَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ رُجْحَانُهُ فِيهِ ) أَيْ فِي كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّ شُهْرَتَهُ بِهِ تَكُونُ غَالِبًا لِرُجْحَانِهِ فِيهِ وَالْمَعْنَى كَتَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَوْنِ رَاوِيهِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ رَاوِيهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الظَّنِّ فِيهِ أَقْوَى وَاحْتِمَالَ الْغَلَطِ فِيهِ أَوْهَى وَصَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ اعْتِيَادَ الرِّوَايَةِ لَيْسَ بِمُرَجِّحٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْهَا وَهُوَ حَسَنٌ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ التَّرْجِيحَ بِالْفِقْهِ بِالْخَبَرَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى
وَفِي الْمَحْصُولِ وَالْحَقُّ الْإِطْلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ فَإِذَا سَمِعَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَحَثَ عَنْهُ وَسَأَلَ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ ، وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ ، وَبِقُوَّةِ حِفْظِهِ وَزِيَادَةِ ضَبْطِهِ وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ فَيُرَجَّحُ عَلَى مَا كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قِيلَ وَبِعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ الْعَالِمَ بِهَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ مَوَاقِعِ الزَّلَلِ فَيَكُونُ الْوُثُوقُ بِرِوَايَتِهِ أَكْثَرَ قِيلَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَرْجُوحٌ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِهَا يَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ وَالْجَاهِلَ بِهَا يَكُونُ خَائِفًا فَيُبَالِغُ فِي الْحِفْظِ وَلَا يَعْرَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ النَّظَرِ قِيلَ وَبِسُرْعَةِ حِفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَاءِ نِسْيَانِهِ مَعَ سُرْعَةِ حِفْظِ الْآخَرِ وَسُرْعَةِ نِسْيَانِهِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ( وَفِي ) كَوْنِ ( عُلُوِّ السَّنَدِ ) أَيْ قِلَّةِ الْوَسَائِطِ بَيْنَ الرَّاوِي لِلْمُجْتَهِدِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَجَّحًا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قَلَّتْ الْوَسَائِطُ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ الْخَطَأِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ ( خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ ) كَمَا يُفِيدُهُ وَاقِعَةُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ خَرَّجَهَا الْحَافِظُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيِّ فِي تَخْرِيجِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ سُقْنَاهَا فِي حَلْبَةِ الْمُجَلِّي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ( وَبِكَوْنِهَا ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ بِكَوْنِ إحْدَاهُمَا ( عَنْ حِفْظِهِ ) أَيْ الرَّاوِي ( لَا نُسْخَتِهِ ) فَيُقَدَّمُ
خَبَرُ الْمُعَوِّلِ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى خَبَرِ الْمُعَوِّلِ عَلَى كِتَابِهِ لِاحْتِمَالِهِ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ كِتَابَهُ الْمَصُونَ تَحْتَ يَدِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِيهِ بَعِيدٌ بَلْ لَيْسَ هُوَ دُونَ احْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ عَلَى الْحَافِظِ وَقَدْ عُدَّ ذَلِكَ فِيهِ كَالْعَدَمِ ( وَخَطِّهِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ رِوَايَةِ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى خَطِّهِ ( مَعَ تَذَكُّرِهِ ) لِذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي رِوَايَتِهِ ( عَلَى مُجَرَّدِ خَطِّهِ وَهَذَا ) التَّرْجِيحُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ مُتَفَرِّعٌ ( عَلَى غَيْرِ قَوْلِهِ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا إذْ لَا عِبْرَةَ عِنْدَهُ لِلْخَطِّ بِلَا تَذَكُّرٍ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّعَارُضُ الَّذِي فَرَّعَهُ التَّرْجِيحُ ( وَبِالْعِلْمِ ) أَيْ وَكَالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِالْعِلْمِ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ رَاوِيهِ ( عَمِلَ بِمَا رَوَاهُ عَلَى قَسِيمَيْهِ ) أَيْ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ وَلَا أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَاَلَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْكَذِبِ قُلْت وَهَذَا فِي أَوَّلِهِمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَمَلُهُ بِخِلَافِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ .
أَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ عَمِلَ فِيهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ فَمَا رَوَاهُ حِينَئِذٍ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فَلَا يَقُومُ بَيْنَ الْمَرْوِيَّيْنِ رُكْنِ التَّعَارُضِ الَّذِي فَرَّعَهُ التَّرْجِيحُ ( أَوْ ) كَانَ التَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِالْعِلْمِ بِأَنَّ رَاوِيهِ ( لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ ) عَلَى مَا رَاوِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرْسَلِينَ فَلِذَا قَالَ ( عَلَى ) قَوْلِ ( مُجِيزِ الْمُرْسَلِ ) أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ فَظَاهِرٌ أَنْ لَا تَعَارُضَ لِانْتِفَاءِ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ فَلَا تَرْجِيحَ ، ثُمَّ قَالَ ( وَالْوَجْهُ نَفْيُهُ ) أَيْ نَفْيُ التَّرْجِيحِ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ مُجِيزِ الْمُرْسَلِ أَيْضًا (
لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ ) أَيْ فِي قَبُولِ الْمُرْسَلِ ( مَا يُوجِبُهُ ) أَيْ نَفْيُ التَّرْجِيحِ بِذَلِكَ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ أَمَّا مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَهُ فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحُ بِمَا بِهِ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا مَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُلِّ مُرَادٍ - ( وَمِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ ) أَيْ كَالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ يَكُونُ رَاوِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ ( عَلَى أَصَاغِرِهِمْ ) أَيْ عَلَى الْمَرْوِيِّ الَّذِي رَاوِيهِ مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْبَرَ إلَى الرَّسُولِ أَقْرَبُ غَالِبًا فَيَكُونُ بِحَالِهِ أَعْرَفَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَجِبُ لِأَبِي حَنِيفَةَ تَقْيِيدُهُ ) أَيْ مَا رَوَاهُ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ ( بِمَا إذَا رَجَحَ ) مَا رَوَاهُ ( فِقْهًا ) بِالنَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ لَا بِفِقْهِهِ ( إذْ قَالَ ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ( بِرَأْسِ الْأَصَاغِرِ فِي الْهَدْمِ ) أَيْ هَدْمِ الزَّوْجِ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ وَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْآثَارِ دُونَ الْأَكَابِرِ فِي عَدَمِ الْهَدْمِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَلَا سِيَّمَا عُمَرَ وَعَلِيًّا فُقَهَاءُ .
وَإِنْ كَانَ الْأَوْجَهُ نَظَرًا إلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ مَا عَلَيْهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سِيقَ وَالْحَقُّ عَدَمُ الْهَدْمِ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْقَوْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَلَقَدْ صَدَقَ قَوْلُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَمَسْأَلَةٌ يُخَالِفُ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ يَعُوزُ فِقْهُهَا وَيَصْعُبُ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا بَحَثَهُ لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَالَ : ( فَلَا يَتَرَجَّحُ ) خَبَرُ الْأَكْبَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْبَرُ (
فِي الرِّوَايَةِ ) عَلَى الْأَصْغَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَصْغَرُ إذَا تَعَارَضَا ( بَعْدَ فِقْهِ الْأَصْغَرِ وَضَبْطِهِ إلَّا بِذَاكَ ) أَيْ بِرُجْحَانِهِ بِالنَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ ( أَوْ غَيْرِهِ ) مِنْ الْمُرَجِّحَاتِ قُلْت وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ عِلَّةُ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَلَى الْأَصَاغِرِ هِيَ الْأَقْرَبِيَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأَخْذِ بِمَا عَنْ الْأَكَابِرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى رَأْيِهِمْ فِيهِ عَدَمُ التَّرْجِيحِ لِمَا هُوَ مِنْ مَرْوِيَّاتِهِمْ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِيَّةِ مِنْهُ ، ثُمَّ حَيْثُ تَكُونُ الْعِلَّةُ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصَاغِرِ مَا ذَكَرْنَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ ( وبأقربيته ) أَيْ وَكَالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِأَقْرَبِيَّةِ رِوَايَةٍ عِنْدَ السَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْأَقْرَبِيَّةِ .
( وَبِهِ ) أَيْ وَبِقُرْبِ السَّمَاعِ ( رَجَّحَ الشَّافِعِيَّةُ الْإِفْرَادَ ) بِالْحَجِّ عَلَى غَيْرِهِ ( مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَحْتَ نَاقَتِهِ ) فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { وَإِنِّي كُنْت عِنْدَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ } وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَبَعٌ لِإِمَامِهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخَذْت بِرِوَايَةِ جَابِرٍ لِتَقَدُّمِ صُحْبَتِهِ وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ لِفَضْلِ حِفْظِهَا وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِقُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا نَصُّهُ فِي الْمُزَنِيّ ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ : ( وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِهِ ) أَيْ التَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ ( وَوُجُوبِ تَقْيِيدِهِ ) أَيْ الْقُرْبِ الْمُرَجَّحِ عَلَى الْبُعْدِ ( بِبُعْدِ الْآخَرِ بُعْدًا يَتَطَرَّقُ مَعَهُ الِاشْتِبَاهُ ) أَيْ اشْتِبَاهُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْبَعِيدِ ( لِلْقَطْعِ بِأَنْ لَا أَثَرَ لِبُعْدِ شِبْرٍ لِقَرِيبَيْنِ )
بِإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ فِي تَفَاوُتِ سَمَاعِ كَلَامِهِ ( ثُمَّ لِلْحَنَفِيَّةِ ) التَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ أَيْضًا لِلْقِرَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ ( إذْ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ آخِذًا بِزِمَامِهَا حِينَ أَهَلَّ بِهِمَا ) أَيْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَفِي الْمَبْسُوطِ عَنْهُ { كُنْت آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا ، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي وَهُوَ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ } أَيْ تُجِرُّ مَا تَجْتَرُّهُ مِنْ الْعَلَفِ وَتُخْرِجُهُ إلَى الْفَمِ وَتَمْضُغُهُ ، ثُمَّ تَبْلَعُهُ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ بَدَلَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَائِمَةً وَقَالَ { قَالَ لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا إنِّي عِنْدَ ثَفِنَاتِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ قَائِمَةً قَالَ لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا وَذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ } ( وَتَعَارَضَ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ ) إذْ كَمَا عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا } فَعَنْهُ أَيْضًا فِيهِمَا { بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ } وَلَمْ تَتَعَارَضْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ تَضْطَرِبْ رِوَايَتُهُ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ اضْطَرَبَتْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ تَرْجِيحِ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا عَلَى كَوْنِهِ حَجَّ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ .
( وَبِكَوْنِهِ تَحَمَّلَ بَالِغًا ) أَيْ وَكَالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِكَوْنِ رَاوِيهِ تَحَمَّلَ جَمِيعَ مَا يَرْوِيهِ بَالِغًا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَتَحَمَّلْ رَاوِيهِ جَمِيعَ مَا يَرْوِيهِ بَالِغًا سَوَاءٌ تَحَمَّلَ جَمِيعَهُ صَبِيًّا أَوْ بَعْضَهُ بَالِغًا وَبَعْضَهُ صَبِيًّا أَوْ بِكَوْنِ رَاوِيهِ تَحَمَّلَ بَعْضَ مَا يَرْوِيهِ بَالِغًا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي تَحَمَّلَ رَاوِيهِ جَمِيعَ مَا يَرْوِيهِ صَبِيًّا كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَحْصُولِ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ أَضْبَطُ مِنْ الصَّبِيِّ وَأَقْرَبُ مِنْهُ غَالِبًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَيَنْبَغِي مِثْلُهُ ) أَيْ التَّرْجِيحُ ( فِيمَنْ تَحَمَّلَ مُسْلِمًا ) فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى خَبَرِ مَنْ تَحَمَّلَ غَيْرَ مُسْلِمٍ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ غَيْرَ الْمُسْلِمِ ( لَا يَحْسُنُ ضَبْطُهُ لِعَدَمِ إحْسَانِ إصْغَائِهِ وَبِقِدَمِ الْإِسْلَامِ ) أَيْ وَيُرَجَّحُ الْمَرْوِيُّ الَّذِي رَاوِيهِ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ عَلَى مُعَارِضِهِ الَّذِي رَاوِيهِ حَدِيثُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ خَبَرَ مُتَقَدِّمِهِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِزِيَادَةِ أَصَالَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَحَرُّزِهِ فِيهِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنْ كَمَا قَالَ الْأَبْهَرِيُّ هَذَا إذَا كَانَ رَاوِيهِ مُتَقَدِّمَ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ أَمَّا إذَا كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيّ كَمَا سَتَرَى ( وَقَدْ يُعْكَسُ ) أَيْ يُرَجَّحُ خَبَرُ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ عَلَى خَبَرِ مُتَقَدِّمِهِ كَمَا فِي الْمَحْصُولِيَّاتِ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ شَرَطَ فِي الْمَحْصُولِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ سَمَاعَهُ وَقَعَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ( لِلدَّلَالَةِ عَلَى آخِرِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ) هَذَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ مَاتَ قَبْلَ إسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ أَوْ أَنَّ رِوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمِ أَكْثَرُهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى رَاوِيَاتِ
الْمُتَأَخِّرِ فَهُنَا يُحْكَمُ بِالرُّجْحَانِ ؛ لِأَنَّ النَّادِرَ مُلْحَقٌ بِالْغَالِبِ انْتَهَى .
يَعْنِي فَيُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا فَالْغَالِبُ أَنَّ رِوَايَةَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ نَاسِخٌ ، وَإِنْ عُلِمَ فِي أَحَدِهِمَا وَجُهِلَ فِي الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَرَّخُ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ النَّاسِخُ فَيَنْسَخُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا } بِصَلَاةِ أَصْحَابِهِ قِيَامًا خَلْفَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فِيهِمَا وَاحْتِيجَ إلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَقِيلَ : النَّاقِلُ عَنْ الْعَادَةِ أَوْلَى مِنْ الْمُوَافِقِ لَهَا وَقِيلَ : الْمُحَرِّمُ وَالْمُوجِبُ أَوْلَى مِنْ الْمُبِيحِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ مُحَرِّمًا لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَوْ أَسْلَمَ الرَّاوِيَانِ كَخَالِدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَحَمَّلَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَخَبَرُهُ رَاجِحٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ هَلْ تَحَمَّلَهُ الْآخَرُ فِي إسْلَامِهِ أَمْ فِي كُفْرِهِ قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا .
( كَكَوْنِهِ مَدَنِيًّا ) أَيْ كَمَا يَتَرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَدَنِيُّ عَلَى الْخَبَرِ الْمَكِّيِّ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ ، ثُمَّ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا وَرَدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا وَالْمَدَنِيَّ مَا وَرَدَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمَا لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَدَنِيُّ نَاسِخًا لِلْمَكِّيِّ بِلَا نِزَاعٍ وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّاسِخِ عَلَى الْمَنْسُوخِ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي الْمَدِينَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَارِدِ فِي مَكَّةَ سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَكِّيَّاتِ وُرُودُهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْوَارِدُ مِنْهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْكَثِيرِ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِأَنَّ هَذَا الْوَارِدَ فِي مَكَّةَ إنَّمَا وَرَدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْمَدَنِيِّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا .
( وَشُهْرَةُ النَّسَبِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِشُهْرَةِ نَسَبِ رَاوِيهِ عَلَى الْآخَرِ بِعَدَمِ شُهْرَةِ نَسَبِ رَاوِيهِ قَالَ الْآمِدِيُّ ؛ لِأَنَّ احْتِرَازَ مَشْهُورِ النَّسَبِ عَمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَكُونُ أَكْثَرَ ( وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ) أَيْ مَا فِي التَّرْجِيحِ بِهَذَا وَأَقْرَبُ مِنْهُ مَا فِي الْمَحْصُولِ رِوَايَةُ مَعْرُوفِ النَّسَبِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَجْهُولِهِ .
( وَصَرِيحُ السَّمَاعِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِتَصْرِيحِ رَاوِيهِ بِسَمَاعِهِ كَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا ( عَلَى مُحْتَمِلِهِ ) أَيْ عَلَى الْآخَرِ الرَّاوِي لَهُ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ لِلسَّمَاعِ ( كَقَالَ ) لِلتَّيَقُّنِ فِي الْأَوَّلِ وَالِاحْتِمَالِ فِي الثَّانِي ( وَصَرِيحُ الْوَصْلِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِ سَنَدِهِ مُتَّصِلًا صَرِيحًا بِأَنْ ذَكَرَ كُلٌّ مِنْ رُوَاتِهِ تَحَمُّلَهُ عَنْ مَنْ رَوَاهُ بِ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْت أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( عَلَى الْعَنْعَنَةِ ) أَيْ عَلَى الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ كُلُّ رُوَاتِهِ أَوْ بَعْضُهُمْ بِلَفْظِ عَنْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ صَرِيحِ اتِّصَالٍ بِتَحْدِيثٍ أَوْ غَيْرِهِ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الِاتِّصَالِ فِي هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَجِبُ عَدَمُهُ ) أَيْ عَدَمُ التَّرْجِيحِ بِصَرَاحَةِ الْوَصْلِ عَلَى الْعَنْعَنَةِ ( لِقَابِلِ الْمُرْسَلِ بَعْدَ عَدَالَةِ الْمُعَنْعَنِ وَأَمَانَتِهِ ) وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُدَلِّسٍ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ وَقَدَّمْنَا قُبَيْلَ مَسْأَلَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَنْ الْحَاكِمِ الْأَحَادِيثَ الْمُعَنْعَنَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَدْلِيسٌ مُتَّصِلَةٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ .
( وَمَا لَمْ تُنْكَرْ رِوَايَتُهُ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَرْوِيَّيْنِ الَّذِي لَمْ يُنْكِرْ الثِّقَاتُ رِوَايَتَهُ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ الَّذِي أَنْكَرَ الثِّقَاتُ رِوَايَتَهُ عَلَى رَاوِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ أَقْوَى ( وَبِدَوَامِ عَقْلِهِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِ رَاوِيهِ سَلِيمَ الْعَقْلِ دَائِمًا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي اخْتَلَّ عَقْلُ رَاوِيهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَذَا أَطْلَقَهُ الْحَاصِلُ وَالتَّحْصِيلُ وَالْمِنْهَاجُ ( وَالْوَجْهُ فِيمَا ) أَيْ الْحَدِيثِ الَّذِي ( عُلِمَ أَنَّهُ ) رَوَاهُ رَاوِيهِ الَّذِي اخْتَلَّ عَقْلُهُ فِي وَقْتٍ قَدْ رَوَاهُ ( قَبْلَ زَوَالِهِ ) أَيْ عَقْلِهِ ( نَفْيُهُ ) أَيْ تَرْجِيحُ ذَاكَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْعَارِضِ ( وَذَاكَ ) التَّرْجِيحُ لِذَاكَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْعَارِضِ ( إذَا لَمْ يُمَيَّزْ ) أَيْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ رَوَاهُ فِي سَلَامَةِ عَقْلِهِ أَمْ فِي اخْتِلَاطِهِ كَمَا شَرَطَهُ فِي الْمَحْصُولِ ( وَصَرِيحُ التَّزْكِيَةِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ رَاوِيهِ مُزَكًّى بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِي التَّزْكِيَةِ ( عَلَى ) الْآخَرِ الْمُزَكَّى رَاوِيهِ بِسَبَبِ ( الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ ) أَوْ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالْحُكْمَ قَدْ يُبْنَيَانِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ وَيَسْتَنِدَانِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ مُوَافِقٍ لِلرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ ( وَمَا بِشَهَادَتِهِ ) أَيْ كَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِ تَزْكِيَةِ رَاوِيهِ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ ( عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ الَّذِي زُكِّيَ بِالْعَمَلِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرُ وَمَا زُكِّيَ رَاوِيهِ بِالْخُلْطَةِ وَالِاخْتِبَارِ عَلَى مَا زُكِّيَ رَاوِيهِ بِالْأَخْبَارِ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَايَنَةَ أَقْوَى مِنْ الْخَبَرِ .
( وَالْمَنْسُوبُ إلَى كِتَابٍ عُرِفَ بِالصِّحَّةِ ) أَيْ وَكَتَرْجِيحِ الْمَرْوِيِّ فِي كِتَابٍ عُرِفَ بِالصِّحَّةِ كَالصَّحِيحَيْنِ ( عَلَى ) مَنْسُوبٍ إلَى ( مَا ) أَيْ كِتَابٍ ( لَمْ يَلْتَزِمْهَا ) أَيْ الصِّحَّةَ ( فَلَوْ أَبْدَى ) أَيْ أَظْهَرَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهَا ( سَنَدًا ) لِذَلِكَ الْمَرْوِيِّ ( اعْتَبَرَ الْأَصَحِّيَّةَ ) بَيْنَهُمَا طَرِيقًا فَأَيُّهُمَا فَازَ بِهَا فَقَدْ فَازَ بِالتَّقْدِيمِ ( وَكَوْنُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ) رَاجِحًا ( عَلَى مَا رُوِيَ بِرِجَالِهِمَا فِي غَيْرِهِمَا أَوْ ) رَاجِحًا عَلَى مَا ( تَحَقَّقَ فِيهِ شَرْطُهُمَا بَعْدَ إمَامَةِ الْمُخَرَّجِ ) كَمَا مَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ ( تَحَكُّمٌ ) وَزَادَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ إذْ الْأَصَحِّيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا لِاشْتِمَالِ رِوَايَتِهِمَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَاهَا فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثٍ فِي غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ أَفَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِأَصَحِّيَّةِ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ عَيْنَ التَّحَكُّمِ ، ثُمَّ حُكْمُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ الرَّاوِيَ الْمُعَيَّنَ يَجْتَمِعُ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطِ لَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاقِعِ خِلَافَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ كَثِيرٍ فِي كِتَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجَرْحِ ، وَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ جَمَاعَةٌ تَكَلَّمَ فِيهِمْ فَدَارَ الْأَمْرُ فِي الرُّوَاةِ عَلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ، وَكَذَا فِي الشُّرُوطِ حَتَّى أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ شَرْطًا وَأَلْغَاهُ آخَرُ يَكُونُ مَا رَوَاهُ الْآخَرُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّرْطُ عِنْدَهُ مُكَافِئًا لِمُعَارَضَةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ ، وَكَذَا فِيمَنْ ضَعَّفَ رَاوِيًا وَوَثَّقَهُ آخَرُ نَعَمْ تَسْكُنُ نَفْسُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ أَمْرَ الرَّاوِي بِنَفْسِهِ إلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ وَاَلَّذِي خَبَرَ لِرَاوِي فَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى رَأْيِ نَفْسِهِ انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت لَيْسَتْ أَصَحِّيَّتُهُمَا
لِمُجَرَّدِ اشْتِمَالِ رُوَاتِهِمَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَاهَا بَلْ وَلِتَلَقِّي الْأُمَّةَ بَعْدَهُمَا لِقَبُولِ كِتَابَيْهِمَا وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي غَيْرِهِمَا قُلْت تَلَقِّي الْأُمَّةَ لِجَمِيعِ مَا فِي كِتَابَيْهِمَا مَمْنُوعٌ أَمَّا لِرُوَاتِهِمَا فَلِمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَأَمَّا لِمُتُونِ أَحَادِيثِهِمَا ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَضْمُونِهَا وَلَا عَلَى تَقْدِيمِهَا عَلَى مُعَارِضِهَا ، ثُمَّ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ أَصِحِّيَّتَهُمَا عَلَى مَا سِوَاهُمَا تَنَزُّلًا إنَّمَا يَكُونُ بِلُزْمَانِهَا مَنْ بَعْدَهُمَا لَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ هَذَا مَعَ ظُهُورِهِ قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ أَوْ يُغَالِطُ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( وَيَجِبُ ) التَّرْجِيحُ لِلْمَرْوِيِّ ( بِالذُّكُورَةِ ) لِرَاوِيهِ ( فِيمَا يَكُونُ خَارِجًا ) أَيْ فِي الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ خَارِجَ الْبُيُوتِ ( إذْ الذَّكَرُ فِيهِ أَقْرَبُ ) مِنْ الْأُنْثَى ( وَبِالْأُنُوثَةِ ) لِرَاوِيهِ ( فِي عَمَلِ الْبُيُوتِ ) ؛ لِأَنَّهُنَّ بِهِ أَعْرَفُ ( وَرَجَّحَ فِي كُسُوفِ الْهِدَايَةِ حَدِيثَ سَمُرَةَ ) بْنِ جُنْدَبٍ الْمُفِيدَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ } كَمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ عَزَاهُ إلَى رَاوِيهِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ تُوجَدْ عَنْهُ ( عَلَى ) حَدِيثِ ( عَائِشَةَ ) الْمُفِيدِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ } كَمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ( بِأَنَّ الْحَالَ أَكْشَفُ لَهُمْ ) أَيْ لِلرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا فِي خُصُوصِ هَذَا إذَا لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ الرُّكُوعَيْنِ غَيْرُ عَائِشَةَ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، ثُمَّ هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ وَعَبَّرَ عَنْهُ السُّبْكِيُّ بِتَرْجِيحِ الذَّكَرِ فِي غَيْرِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ أَحْكَامِهِنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَضْبَطُ فِيهَا وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَوْلَى وَأَشْمَلُ ثَانِيهَا يُقَدَّمُ خَبَرُ الذَّكَرِ عَلَى خَبَرِ الْأُنْثَى مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ أَضْبَطُ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ ثَالِثُهَا لَا يُقَدَّمُ خَبَرُهُ مُطْلَقًا مِنْ حَيْثُ الذُّكُورَةُ عَلَى خَبَرِهَا ( وَكَثْرَةُ الْمُزَكِّينَ ) فِي التَّرْجِيحِ بِهَا ( كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ ) وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مَا فِي التَّرْجِيحِ بِكَثْرَتِهَا مِنْ وِفَاقٍ وَخِلَافٍ .
( وَبِفِقْهِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ لِلْمُزَكَّى ) أَيْ وَيَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِفِقْهِ مُزَكِّي رَاوِيهِ وَمُخَالَطَتِهِمْ فِي الْبَاطِنِ لَهُ عَلَى الْآخَرِ الَّذِي مُزَكُّو رَاوِيهِ لَيْسُوا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ظَنَّ صِدْقِهِ أَقْوَى ( وَبِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ ) أَيْ وَيَتَرَجَّحُ بِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ ( فِي رَفْعِهِ ) إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَارِضِهِ الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ إلَيْهِ وَوَقْفِهِ عَلَى رَاوِيهِ لِمَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ مِنْ قُوَّةِ الظَّنِّ بِنِسْبَتِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ لِلْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ إلَيْهِ قُلْت وَلَوْ قِيلَ هَذَا فِيمَا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُخْتَلَفُ فِي رَفْعِهِ مِمَّا لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ فَهُمَا سَوَاءٌ لَكَانَ وَجِيهًا ( وَتَرَكْنَا ) مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى ( لِلضَّعْفِ ) أَيْ لِضَعْفِهَا قَالَ الْمُصَنِّفُ كَقَوْلِهِمْ يُرَجَّحُ الْمُوَافِقُ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَلِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ انْتَهَى قُلْت وَفِي ضَعْفِ التَّرْجِيحِ بِالْمُوَافِقِ لِدَلِيلٍ آخَرَ مُطْلَقًا نَظَرٌ وَكَيْفَ ؟ وَالْأَحَقُّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ : تَرْجِيحُ مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ عَلَى مَا لَا يُوَافِقُهُ وَمِنْهَا كَوْنُ الْإِسْنَادِ حِجَازِيًّا أَوْ كَوْنُ رَاوِيهِ مِنْ بَلَدٍ لَا يَرْضَوْنَ التَّدْلِيسَ أَوْ كَوْنُهُ صَاحِبَ كِتَابٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ أَوْ كَوْنُ لَفْظِهِ أَفْصَحَ وَلَفْظِ الْآخَرَ فَصِيحًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ لُغَتِهِمْ ذَلِكَ أَوْ كَوْنُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ أَنْحَى مِنْ الْآخَرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ( وَالْوُضُوحُ ) أَيْ وَلِوُضُوحِهَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَلِقَوْلِهِمْ بِقِدَمِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ تَعَارُضِ إجْمَاعَيْنِ وَفِي تَعَارُضِ تَأْوِيلَيْنِ يُقَدَّمُ مَا دَلِيلُ تَأْوِيلِهِ أَرْجَحُ وَفِي تَعَارُضِ عَامَّيْنِ مَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ وَغَيْرُهُ يُقَدَّمُ الْوَارِدُ فِي السَّبَبِ وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ لِلْخِلَافِ انْتَهَى .
لَكِنْ هَذَا لَمْ يُتْرَكْ بَلْ
أَشَارَ إلَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَالِفًا وَمِنْهَا كَوْنُهُ غَيْرَ مُشْعِرٍ بِنَوْعِ قَدْحٍ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى مَا أَشْعَرَ وَكَوْنُهُ لَمْ يَضْطَرِبْ لَفْظُهُ عَلَى مَا اضْطَرَبَ وَكَوْنُهُ قَوْلًا عَلَى كَوْنِهِ فِعْلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
( وَتَتَعَارَضُ التَّرَاجِيحُ ) فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمُخَلِّصِ كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ( كَفِقْهِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَضَبْطِهِ ) فِي رِوَايَتِهِ لِوُقُوعِ { نِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } بَلْ وَهُمَا مُحْرِمَانِ ( بِمُبَاشَرَةِ أَبِي رَافِعٍ ) الرِّسَالَةَ بَيْنَهُمَا فِي رَاوِيَتِهِ لِتَزَوُّجِهَا وَهُوَ حَلَالٌ ( حَيْثُ قَالَ كُنْت السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا ) وَاَلَّذِي فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا وَلَا ضَيْرَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ مَعْنَاهُ ( وَكَسَمَاعِ الْقَاسِمِ ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ( مُشَافَهَةً مِنْ عَائِشَةَ ) { أَنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ فَإِنَّهَا عَمَّتُهُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حِجَابٌ ( مَعَ إثْبَاتِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا ) أَيْ عَائِشَةَ { كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا فَلَمَّا أُعْتِقَتْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُمَا ( فَإِنَّهُ ) أَيْ سَمَاعَهُ يَكُونُ ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) فَتَعَارَضَ الْإِثْبَاتُ وَالْمُشَافَهَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى النَّفْيِ ( وَإِذَا قَطَعَ ) الْأَسْوَدُ ( بِأَنَّهَا ) أَيْ الْمُخْبِرَةُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ( هِيَ ) أَيْ عَائِشَةُ ( فَلَا أَثَرَ لِارْتِفَاعِهِ ) أَيْ الْحِجَابِ فَلَا يَصْلُحُ ارْتِفَاعُهُ مُرَجِّحًا فَيَتَرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ عَلَى النَّفْيِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ لَيْسَتْ لِلنَّافِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ( وَلَوْ رُجِّحَ ) حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ ( بِالسِّفَارَةِ لَكَانَ ) التَّرْجِيحُ بِهَا لَيْسَ إلَّا ( لِزِيَادَةِ الضَّبْطِ ) ؛ لِأَنَّ السَّفِيرَ لَهُ زِيَادَةُ ضَبْطٍ ( فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ ) الَّتِي هُوَ سَفِيرٌ فِيهَا ( فَإِذَا كَانَ ) الضَّبْطُ ( صِفَةَ النَّفْسِ ) يَغْلِبُ ظَنُّ الصِّدْقِ وَحِينَئِذٍ ( اعْتَدَلَا ) أَيْ تَسَاوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَافِعٍ (
فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ لِوُجُودِهَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( وَتَرَجَّحَ ) خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ ( بِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ ) أَيْ بِالْإِحْرَامِ ( لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَبَبِ عِلْمٍ هُوَ ) أَيْ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ ( هَيْئَةُ الْمُحْرِمِ ) بِخِلَافِ خَبَرِ أَبِي رَافِعٍ ( نَعَمْ مَا عَنْ صَاحِبَةِ الْوَاقِعَةِ ) مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ( إنْ صَحَّ قَوَّى ) خَبَرَ أَبِي رَافِعٍ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خَبَرَ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ يَتَرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ إذَا عَارَضَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَى وَقَدْ صَحَّ وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ } فَيَتَعَارَضُ تَرْجِيحُ إخْبَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ خَبَرُهُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَبَبِ عِلْمٍ بِهِ وَتَرْجِيحُ خَبَرِ أَبِي رَافِعٍ بِمُوَافَقَةِ صَاحِبَةِ الْوَاقِعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ إخْبَارِهَا وَبَيْنَ إخْبَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَعَيَّنَ مَخْلَصًا ( فَيَجِبُ ) أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا تَزَوَّجَنِي ( مَجَازًا عَنْ الدُّخُولِ ) لِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ الْعَادِيَّةِ بَيْنَهُمَا إذَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ ( جَمْعًا ) بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ( وَمِنْهُ ) أَيْ تَعَارُضِ التَّرَاجِيحِ ( لِلْحَنَفِيَّةِ الْوَصْفُ الذَّاتِيُّ ) وَهُوَ ( مَا ) يَعْرِضُ لِلشَّيْءِ ( بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ أَوْ الْجُزْءِ ) الْغَالِبِ مِنْهَا ( عَلَى الْحَالِّ ) وَهُوَ ( مَا ) يَعْرِضُ لِلشَّيْءِ ( بِخَارِجٍ ) أَيْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِمُفْرَدِهِ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ فَإِذَا تَعَارَضَا فِي مَحَلٍّ رُجِّحَ مَا فِيهِ الذَّاتِيُّ عَلَى الْحَالِّ ؛ لِأَنَّ الذَّاتِيَّ أَسْبَقُ وُجُودًا مِنْ الْحَالِّ زَمَانًا أَوْ رُتْبَةً فَيَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ السَّبْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ كَاجْتِهَادٍ أُمْضِيَ حُكْمُهُ
فَإِنَّهُ لَا يُنْسَخُ بِاجْتِهَادٍ بَعْدَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَالَّ فِي الشَّيْءِ قَائِمٌ بِهِ لَا بِنَفْسِهِ وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ فَلَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ قِيَامِهِ وَبَقَائِهِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحَالُ مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا وَالذَّاتُ مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَالتَّرْجِيحُ بِهَا أَوْلَى ، ثُمَّ بَعْدَمَا صَارَ الدَّلِيلُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ لَا يُجْعَلُ الْآخَرُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا وَإِبْطَالًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ( كَصَوْمٍ ) لِيَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ لِيَوْمٍ مَعْنِيٍّ بِالنَّذْرِ ( لَمْ يُبَيِّتْ ) بِأَنْ لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنَّمَا نَوَى قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ فَإِذَنْ ( بَعْضُهُ مَنْوِيٌّ وَبَعْضُهُ لَا ) بِالضَّرُورَةِ ( وَلَا يَتَجَزَّأُ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ صِحَّةً وَفَسَادًا بَلْ إمَّا أَنْ يَفْسُدَ الْكُلُّ أَوْ يَصِحَّ الْكُلُّ ( فَتَعَارَضَ مُفْسِدُ الْكُلِّ ) وَهُوَ عَدَمُ النِّيَّةِ فِي الْبَعْضِ ( وَمُصَحِّحُهُ ) أَيْ الْكُلِّ وَهُوَ وُجُودُ النِّيَّةِ فِي الْبَعْضِ ( فَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْإِفْسَادُ لِلْكُلِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ( بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ الْمُقْتَضِيهَا ) أَيْ النِّيَّةِ ( فِي الْكُلِّ ) فَإِنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ تُوجِبُ الْفَسَادَ وَقَدْ انْتَفَتْ النِّيَّةُ فِي الْبَعْضِ فَتَفْسُدُ لِعَدَمِهَا فَيَفْسُدُ الْكُلُّ لِتَعَذُّرِ فَسَادِ الْبَعْضِ وَصِحَّةِ الْبَعْضِ وَهَذَا تَرْجِيحٌ بِالْحَالِ ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ عُرُوضَهُ لِلْإِمْسَاكِ لَا لِذَاتِ الْإِمْسَاكِ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ بِاعْتِبَارٍ خَارِجٍ عَنْهُ وَهُوَ النِّيَّةُ ( وَ ) تَرْجِيحُ ( الثَّانِي ) وَهُوَ الصِّحَّةُ لِلْكُلِّ ( بِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَّصِلَةِ ) بِالنِّيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِهَا مَعَ كَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا التَّرْجِيحُ تَرْجِيحٌ ( بِالذَّاتِيِّ ) فَإِنَّ وُجُودَهُ
الْخَارِجِيَّ بِاعْتِبَارِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا أَعْنِي النِّيَّةَ ( وَيُنْقَضُ ) هَذَا ( بِالْكَفَّارَةِ ) أَيْ بِصَوْمِهَا ، وَكَذَا بِصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوهُمَا إلَّا مُبَيَّتَيْنِ مَعَ إمْكَانِ الِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ ( وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْغَرَضَ ) مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ( تَوَقُّفُ الْإِجْزَاءِ ) أَيْ كَوْنُ تِلْكَ الْإِمْسَاكَاتِ مَحْكُومًا بِتَوَقُّفِهَا ( لِمَا فِيهِ ) أَيْ فِي الْوَقْتِ مِنْ الشُّرُوعِ قَبْلَ النِّيَّةِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لُحُوقُ نِيَّتِهِ فِي الْأَكْثَرِ أَوَّلًا لَا بُطْلَانُهَا فَإِنْ لَحِقَتْ انْسَحَبَ عَلَى تِلْكَ الْإِمْسَاكَاتِ حُكْمُهُمَا وَإِلَّا زَالَ التَّوَقُّفُ وَحُكِمَ بِبُطْلَانِهَا ( وَذَلِكَ ) أَيْ التَّوَقُّفُ ( فِي الْوُجُوبِ ) إنَّمَا هُوَ ( فِي ) لَازِمٍ ( مُعَيَّنٍ ) بِالضَّرُورَةِ فَظَهَرَ أَنَّ فِي مُعَيَّنٍ خَبَرُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ( بِخِلَافِ نَحْوِ ) صَوْمِ ( الْكَفَّارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ يَوْمُهَا لِلْوَاجِبِ ) أَيْ لَمْ يُثْبِتْ الشَّرْعُ فِيهِ الْوُجُوبَ قَبْلَ النِّيَّةِ حَتَّى جَازَ فِطْرُهُ ( فَلِمَشْرُوعِ الْوَقْتُ ) أَيْ فَكَانَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ ( وَهُوَ النَّفَلُ ) فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَانَتْ تِلْكَ الْإِمْسَاكَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى النِّيَّةِ مُتَوَقِّفَةً لِصَوْمِ النَّفْلِ فَلَا تَنْسَحِبُ نِيَّةُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا فَلَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بَلْ إمَّا نَفْلًا أَوْ فِطْرًا وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ بِالتَّوَقُّفِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُفِيدُ اعْتِبَارَهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ النَّفَلُ ( الْأَصْلُ ) فِي الِاعْتِبَارِ ( إذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْوِيهِ مِنْ النَّهَارِ ) كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيَصِيرُ بِهِ صَائِمًا كُلَّ الْيَوْمِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوَقُّفِ ( وَهَذَا ) التَّوْجِيهُ بِنَاءً ( عَلَى أَنَّهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( صَائِمٌ كُلَّ الْيَوْمِ ) وَهُوَ كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ
النَّفْسِ وَهُوَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ انْتَهَى .
عَلَى أَنَّهُ إذَا حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ الْبَعْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِالصَّوْمِ بِلَا نِيَّةٍ كَمَا لَوْ نَسِيَ الصَّوْمَ أَوْ غَفَلَ عَنْهُ بَعْدَ نِيَّتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ ( أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ مَا لَمْ يَبْلُغْ ) الْمَرْوِيُّ بِكَثْرَتِهِمْ ( الشُّهْرَةَ ) فَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ الْحَدِيثُ الَّذِي بَلَغَ بِكَثْرَتِهِمْ حَدَّ الشُّهْرَةِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِكَثْرَتِهِمْ حَدَّهَا وَتَعَرَّضَ لِلشُّهْرَةِ دُونَ التَّوَاتُرِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُرَجِّحَةً فَالتَّوَاتُرُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَدَّهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّهَا ( وَالْأَكْثَرُ ) مِنْ الْعُلَمَاءِ قَوْلُهُمْ ( خِلَافَهُ ) أَيْ خِلَافَ قَوْلِهِمَا فَيُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْمَرْوِيُّ بِكَثْرَتِهِمْ حَدَّ الشُّهْرَةِ ( لَهُمَا تَقَوِّي الشَّيْءَ ) أَيْ تَرْجِيحَهُ إنَّمَا يَكُونُ ( بِتَابِعٍ ) لِذَلِكَ الشَّيْءِ ( لَا بِمُسْتَقِلٍّ ) أَيْ لَا بِشَيْءٍ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّأْثِيرِ إذَا تَقَوِّي الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ وَتَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَأَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ قُوَّةٌ بِانْضِمَامِهِ إلَيْهِ وَكُلٌّ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِإِيجَابِ الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ مُرَجِّحًا لِمُوَافِقِهِ ( بَلْ يُعَارِضُ ) الدَّلِيلَ الْمُنْفَرِدَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كُلَّ دَلِيلٍ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ( كَالْأَوَّلِ ) أَيْ كَمَا يُعَارِضُ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ تَرْجِيحُهُ مِنْهُمَا إذَا لَيْسَ مُعَارَضَتُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهَا بِأَوْلَى مِنْ مُعَارَضَتِهِ لِلْآخَرِ ( وَيَسْقُطُ الْكُلُّ ) عِنْدَ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ عِنْدَ عَدَمِهِ ( كَالشَّهَادَةِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِإِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ نِصَابِهَا فِيهَا بِزِيَادَةٍ لِإِحْدَاهُمَا فِي الْعَدَدِ عَلَى الْأُخْرَى وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ كَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا وَقَدْ يُنْظَرُ فِيهِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ فِي قَوْلٍ لَهُمَا يَرَيَانِ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ إجْمَاعُ
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِلَافٌ لِأَحَدٍ مِنْ مُجْتَهِدِيهِ ( وَلِدَلَالَةِ إجْمَاعِ سِوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ عُصُوبَةِ ابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ) بِأَنْ تَزَوَّجَ عَمُّ إنْسَانٍ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ الْأَبُ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَالِابْنُ ابْنُ عَمِّهِ وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ ( عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَيْسَ بِهِ ) أَيْ بِأَخٍ لِأُمٍّ فِي الْإِرْثِ مِنْهُ ( لِيُحَرِّمَ ) ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ( بَلْ يَسْتَحِقُّ ) ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ ( بِكُلٍّ ) مِنْ كَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ وَكَوْنِهِ أَخًا لِأُمٍّ ( مُسْتَقِلًّا ) نَصِيبًا مِنْ الْإِرْثِ فَيَسْتَحِقُّ السُّدُسَ بِكَوْنِهِ أَخًا لِأُمٍّ وَنِصْفَ الْبَاقِي بِكَوْنِهِ عَصَبَةً إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا سِوَاهُمَا أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَذَهَبَ إلَى أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ يَحْجُبُ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ أَخًا لِأُمٍّ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ النَّخَعِيِّ فِي امْرَأَةٍ تَرَكَتْ بَنِي عَمِّهَا أَحَدُهُمْ أَخُوهَا لِأُمِّهَا فَقَضَى فِيهَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ لِأَخِيهَا لِأُمِّهَا السُّدُسَ وَهُوَ شَرِيكُهُمْ بَعْدُ فِي الْمَالِ وَقَضَى فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ الْمَالَ لَهُ دُونَ بَنِي عَمِّهِ ( وَالْكُلُّ ) أَيْ وَلِدَلَالَةِ إجْمَاعِ الْكُلِّ ( فِيهِ ) أَيْ فِي ابْنِ عَمٍّ حَالَ كَوْنِهِ ( زَوْجًا ) أَيْضًا عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِهِ عَلَى ابْنِ عَمٍّ فَقَطْ فِي الْإِرْثِ فَيَكُونُ لِابْنِ الْعَمِّ الزَّوْجِ النِّصْفُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِزَوْجٍ إذْ لَوْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الدَّلِيلِ ثَابِتًا لَكَانَ بِكَثْرَةِ دَلِيلِ الْإِرْثِ ثَابِتًا أَيْضًا ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ وَهَذَا ( بِخِلَافِ كَثْرَةٍ ) يَكُونُ ( بِهَا هَيْئَةً اجْتِمَاعِيَّةً ) لِأَجْزَائِهَا ( وَالْحُكْمُ وَهُوَ الرُّجْحَانُ مَنُوطٌ بِالْمَجْمُوعِ ) مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ
بِهَا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ( لِحُصُولِ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ لِوَاحِدٍ ) فِيهِ قُوَّةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ ( فَلِذَا ) أَيْ لِثُبُوتِ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي لَهَا هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَالْحُكْمُ مَنُوطٌ بِمَجْمُوعِهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ( رُجِّحَ ) أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ( بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ ) أَيْ بِشَهَادَةِ أَصْلَيْنِ أَوْ أُصُولٍ لِوَصْفِهِ الْمَنُوطِ بِهِ الْحُكْمُ عَلَى مُعَارِضِهِ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ ( فِي ) بَابِ تَعَارُضِ ( الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ تُوجِبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَلُزُومٍ لِلْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَحْدُثُ بِهَا فِي نَفْسِ الْوَصْفِ قُوَّةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّرْجِيحِ كَالِاشْتِهَارِ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( بِخِلَافِهِ ) أَيْ مَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مَنُوطًا ( بِكُلٍّ ) لَا بِالْمَجْمُوعِ فَإِنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ ضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَثْرَةَ إنْ أَدَّتْ إلَى حُصُولِ هَيْئَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ هِيَ وَصْفٌ وَاحِدٌ قَوِيُّ الْأَثَرِ صَلَحَتْ لِلتَّرْجِيحِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ هُوَ الْقُوَّةُ لَا الْكَثْرَةُ غَايَتُهُ أَنَّ الْقُوَّةَ حَصَلَتْ بِالْكَثْرَةِ وَإِلَّا فَلَا ( وَأَجَابُوا ) أَيْ الْأَكْثَرُ ( بِالْفَرْقِ ) بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّهَادَةِ مَنُوطٌ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فَالْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَقَلِّيَّةُ فِيهَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ تِلْكَ الْهَيْئَةُ فَقَطْ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا بِكُلِّ وَاحِدٍ فَإِنَّ كُلَّ رَاوٍ بِمُفْرَدِهِ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ ( وَبِأَنَّ الْكَثْرَةَ تُزِيدُ الظَّنَّ بِالْحُكْمِ قُوَّةً ) ؛ لِأَنَّ الظَّنَّيْنِ فَصَاعِدًا أَقْوَى مِنْ ظَنٍّ وَاحِدٍ ، وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَاجِبٌ ( فَيَتَرَجَّحُ ) الْحُكْمُ الَّذِي لِمُفِيدِهِ كَثْرَةٌ عَلَى مُعَارِضِهِ الَّذِي لَا
كَثْرَةَ لِمُفِيدِهِ وَهَذَا دَلِيلُ الْأَكْثَرِ أَدْمَجَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّتِهِمَا ( وَيُدْفَعُ ) هَذَا ( بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ ) أَيْ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ مُرَجِّحًا لِمُعَارِضِهِ فِي أَصْلِ الظَّنِّ وَبِهِ ، وَإِلَّا لَقَدَّمُوا ابْنَ الْعَمِّ الْأَخَ لِأُمٍّ أَوْ الزَّوْجَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ فَقَطْ ، وَبِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ الْمَدْلُولِ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ الْمَدْلُولُ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمِيعِ حَتَّى يَكُونَ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي الْقُوَّةِ وَكَوْنُهُ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي إفَادَةِ قُوَّةٍ فِيهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْآخَرِ ( بِخِلَافِ بُلُوغِهِ ) أَيْ الْخَبَرِ ( الشُّهْرَةَ ) حَيْثُ يَتَرَجَّحُ بِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ مِمَّا هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ فَإِنَّ الرُّجْحَانَ حِينَئِذٍ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ يَمْنَعُ كَذِبَهُمْ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهَا كُلُّ وَاحِدٍ يَجُوزُ كَذِبُهُ ( وَقَدْ يُقَالُ : ) تَرْجِيحًا لِلتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ ( إنْ لَمْ تُفِدْ كَثْرَةُ الرُّوَاةِ قُوَّةَ الدَّلَالَةِ فَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ ) أَيْ خَبَرِ مَا رُوَاتُهُ أَقَلُّ ( بِحَضْرَةِ كَثِيرٍ لَا ) الْخَبَرِ ( الْآخَرِ ) الْمُعَارِضِ لَهُ الَّذِي رُوَاتُهُ أَكْثَرُ ( أَوْ ) بِحَضْرَةِ قَوْمٍ ( مُتَسَاوِينَ ) فِي الْعَدَدِ لِعَدَدِ الْحَاضِرِينَ لِلْخَبَرِ الْآخَرِ الْمُعَارِضِ لَهُ ( وَاتَّفَقَ نَقْلُ كَثِيرٍ ) فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوَاتُهُ أَقَلُّ ( دُونَهُ ) أَيْ الْخَبَرِ الَّذِي رُوَاتُهُ أَكْثَرُ ( بَلْ جَازَ الْأَكْثَرُ ) أَيْ مَا رُوَاتُهُ أَكْثَرُ ( بِحَضْرَةِ الْأَقَلِّ ) عَدَدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَدِ الْحَاضِرِينَ ، لِمَا رُوَاتُهُ أَقَلُّ فَلَا يَلْزَمُ الرُّجْحَانُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ ( لَا يَنْفِي قُوَّةَ الثُّبُوتِ ) لِمَا رُوَاتُهُ أَكْثَرُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّجْوِيزُ الْمَذْكُورُ ( مُعَارَضٌ بِضِدِّهِ ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الَّذِي رُوَاتُهُ أَكْثَرُ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِمَّنْ حَضَرَ مَا
رُوَاتُهُ أَقَلُّ ( فَيَسْقُطَانِ ) أَيْ التَّجْوِيزَانِ الْمَذْكُورَانِ ( وَيَبْقَى مُجَرَّدُ كَثْرَةٍ تُفِيدُ قُوَّةَ الثُّبُوتِ ) الْمُوجِبَةِ لِزِيَادَةِ الظَّنِّ وَهُوَ مَعْنَى الرُّجْحَانِ ( بِخِلَافِ ثُبُوتِ جِهَتَيْ الْعُصُوبَةِ وَمَا مَعَهَا ) مِنْ الْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ أَوْ الزَّوْجِيَّةِ ( عَنْ الشَّارِعِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ ) فِي الثُّبُوتِ قُلْت عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ ابْنِ الْعَمِّ الزَّوْجِ وَإِجْمَاعِ مَنْ سِوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ ابْنِ الْعَمِّ الْأَخِ لِأُمٍّ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ فَقَطْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ إرْثِ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدَتْ فَتَتَوَارَدُ الْأَدِلَّةُ الْمُتَّحِدَةُ الْمُوجَبِ عَلَى مَوْرِدٍ وَاحِدٍ عَارَضَهَا فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ آخَرُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ يَقْتَضِي مُقْتَضَاهَا ثَمَّةَ ، ثُمَّ لَمْ يَتَرَجَّحْ مُقْتَضِي تِلْكَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ عَلَى مُقْتَضِي هَذَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْعُصُوبَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتِحْقَاقُ جَمِيعِ الْمَالِ وَمُوجِبُ الزَّوْجِيَّةِ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ لَا غَيْرُ وَمُوجِبُ الْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتِحْقَاقُ السُّدُسِ لَا غَيْرُ وَقَدْ أُعْطِيَ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ مُقْتَضَاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً فَلْيُتَأَمَّلْ ، وَأَمَّا وَجْهُ انْدِفَاعِ مَا وَجَّهَ بِهِ قَوْلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةِ الْأَبِ وَقَدْ تَرَجَّحَتْ قَرَابَةُ الْأَخِ لِأُمٍّ بِانْضِمَامِ قَرَابَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ وَالْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ كَذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا قَرَابَةً
مِثْلَهَا لَكِنَّهَا لَا تَسْتَبِدُّ بِالتَّعْصِيبِ فَيَكُونُ مِثْلَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ بِخِلَافِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَابَةِ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فَهُوَ مَنَعَ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِأُمٍّ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ بَلْ هِيَ أَقْرَبُ وَلِذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ ابْنِ الْعَمِّ بِالْعُصُوبَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْأَخِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهَا فَلَا يَكُونُ مُرَجِّحًا بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَتَأَكَّدُ بِانْضِمَامِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ تَابِعٍ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَالْإِخْوَةُ لِأُمٍّ لَمْ تَصْلُحْ أُخْوَةُ الْأُمِّ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِيَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ قَرَابَةُ الْأَبِ وَأَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ وَصْفٌ لِقَرَابَةِ الْأَبِ تَابِعٌ لَهَا تَرَجَّحَتْ بِهِ قَرَابَةُ الْأَبِ فِي الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ يَلْحَقُ السَّمْعِيَّيْنِ ) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ( الْبَيَانُ الْإِظْهَارُ لُغَةً ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ، ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أَيْ إظْهَارَ مَعَانِيهِ وَشَرَائِعِهِ ( وَاصْطِلَاحًا إظْهَارُ الْمُرَادِ ) مِنْ لَفْظٍ مَتْلُوٍّ وَمُرَادِفٍ لَهُ ( بِسَمْعِيٍّ ) مَتْلُوٍّ أَوْ مَرْوِيٍّ ( غَيْرِ مَا ) أَيْ اللَّفْظِ الَّذِي ( بِهِ ) كَانَ أَدَاءُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ اللَّفْظُ السَّابِقُ عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَخَرَجَتْ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ الْبَيَانَ عَلَى هَذَا فِعْلُ الْمُبَيِّنِ كَالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ ( وَيُقَالُ ) الْبَيَانُ أَيْضًا ( لِظُهُورِهِ ) أَيْ الْمُرَادُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الدَّلِيلِ وَمُتَعَلِّقِهِ يُقَالُ بِأَنَّ الْأَمْرَ وَالْهِلَالَ إذَا ظَهَرَ وَانْكَشَفَ وَنَسَبَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَاخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الدَّقَّاقِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ إلَّا أَنَّهُ مَخْدُوشٌ بِأَنَّ أَثَرَ الدَّلِيلِ قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا لِكَوْنِ الدَّلِيلِ ظَنِّيًّا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا ( وَ ) يُقَالُ أَيْضًا ( لِلدَّالِ عَلَى الْمُرَادِ بِذَلِكَ ) أَيْ بِمَا لَحِقَهُ الْبَيَانُ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ الْبَيَانَ عَلَى هَذَا اسْمٌ لِلدَّلِيلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إدْرَاكُ الْمُرَادِ بِمَا لَحِقَهُ الْبَيَانُ فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُفِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَسُكُوتِهِ وَاسْتِبْشَارِهِ وَتَنْبِيهِهِ بِالْفَحْوَى عَلَى الْحُكْمِ بَيَانٌ لَا جَمِيعُ ذَلِكَ دَلِيلٌ ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُهَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَبَعْضُهَا غَلَبَةَ الظَّنِّ ظَهَرَ أَنَّ تَعْرِيفَهُ بِالدَّلِيلِ الْمُوَصِّلِ بِصَحِيحِ النَّظَرِ إلَى اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ غَيْرُ جَامِعٍ أَيْضًا كَتَعْرِيفِ الدَّقَّاقِ .
ثُمَّ عَزَا صَاحِبُ الْكَشْفِ وَغَيْرُهُ هَذَا إلَى أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَ ) يَجِبُ ( عَلَى الْحَنَفِيَّةِ زِيَادَةُ أَوْ ) إظْهَارُ ( انْتِهَائِهِ ) أَيْ
الْمُرَادُ مِنْ لَفْظٍ سَابِقٍ مَتْلُوٍّ أَوْ مَرْوِيٍّ ( أَوْ رَفْعُ احْتِمَالٍ ) لِإِرَادَةِ غَيْرِهِ وَتَخْصِيصِهِ ( عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْمُرَادِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ نَحْوَ بِجَنَاحَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ التَّجَوُّزِ بِالطَّائِرِ عَنْ سَرِيعِ الْحَرَكَةِ فِي السَّيْرِ كَالْبَرِيدِ وَالتَّأْكِيدِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ احْتِمَالِ الْمَلَائِكَةِ التَّخْصِيصَ ( لِأَنَّهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةَ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ إلَّا الْقَاضِي أَبَا زَيْدٍ ( قَسَّمُوهُ ) أَيْ الْبَيَانَ ( إلَى خَمْسَةٍ ) مِنْ الْأَقْسَامِ وَهُوَ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ( بَيَانُ تَبْدِيلٍ سَيَأْتِي ) وَهُوَ النَّسْخُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ بَيَانُ انْتِهَاءِ إرَادَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَسْقَطَهُ أَبُو زَيْدٍ وَوَافَقَهُ عَلَى إسْقَاطِهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنَّهُ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ وَسَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْخَامِسُ عِنْدَهُ ( وَ ) بَيَانُ ( تَقْرِيرٍ وَهُوَ التَّأْكِيدُ ) وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمَالِ غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْ الْمُبَيَّنِ ( وَقِسْمُ الشَّيْءِ مِنْ مَا صَدَقَاتِهِ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُنْتَفٍ ) وَإِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا وَلَزِمَ كَوْنُ الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِبَيَانِ التَّقْرِيرِ مِنْ أَقْسَامِهِ ( فَلَزِمَ ذَلِكَ ) أَيْ زِيَادَةٌ أَوْ رَفْعُ احْتِمَالٍ عَنْهُ ، وَهَذَا يَجُوزُ مَفْصُولًا وَمَوْصُولًا اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِلظَّاهِرِ وَمُوَافِقٌ لَهُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّأْكِيدِ بِالِاتِّصَالِ ( وَ ) بَيَانُ ( تَغْيِيرٍ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَتَقَدَّمَا ) فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ ( إلَّا أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّرْطِ مِنْ إيجَابِ الْمُعَلِّقِ فِي الْحَالِ ) أَيْ وُقُوعِهِ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ بِتَأْخِيرِهِ نِسْبَتَهُ ( إلَى ) زَمَانِ ( وُجُودِهِ ) أَيْ الشَّرْطِ ( وَ ) تَغْيِيرُ ( الِاسْتِثْنَاءِ ) مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ( إلَى عَدَمِهِ )
أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِلْمُسْتَثْنَى أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَدْ عُرِفَ مِنْ هَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانٌ وَتَغْيِيرٌ ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيْنَ الْمُرَادِ مِنْ مَدْخُولِهِمَا بَيَانٌ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيَّرَ مَا كَانَ مَفْهُومًا لِلسَّامِعِ مِنْ إطْلَاقِ مَدْخُولِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِمَا تَغْيِيرٌ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ جَمِيعُ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ لِتَأَتِّي هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيهَا ( وَبِهِ ) أَيْ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ( فَرَّقُوا ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ ( بَيْنَ تَعَلُّقِهِ ) أَيْ الشَّرْطِ ( بِمَضْمُونِ الْجُمَلِ لِمُتَعَقِّبِهَا وَعَدَمِهِ ) أَيْ عَدَمِ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَضْمُونِ الْجُمَلِ لِمُتَعَقِّبِهَا ( فِي الِاسْتِثْنَاءِ ) بَلْ بِالْأَخِيرَةِ فَقَطْ ( تَقْلِيلًا لِلْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَفِي صَرْفِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ قَضَاءٌ لِحَقِّهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا سِوَاهَا أَيْضًا إلَّا لِمُوجِبٍ وَوَافَقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ وَجَعَلَ التَّعْلِيقَ بَيَانَ التَّبْدِيلِ كَأَبِي زَيْدٍ ( وَيَمْتَنِعُ تَرَاخِيهِمَا ) أَيْ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ .
( وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ ) بِجَوَازِ تَرَاخِيهِ عَلَى خِلَافٍ فِي مِقْدَارِهِ ، وَوَجَّهَهُ وَدَفَعَهُ ( وَمِنْهُ ) أَيْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ ( تَخْصِيصُ الْعَامِّ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ جَارٍ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ وَلَزِمَ مِنْهُ تَغْيِيرُ كُلٍّ عَمَّا هُوَ الْمُتَبَادَرُ لِسَامِعِهِ مِنْ الشُّمُولِ لِسَائِرِ أَفْرَادِهِ ( وَتَقَدَّمَا ) فِي بَحْثِ الْعُمُومِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُعْطَيَانِ حُكْمَ بَيَانِ التَّغْيِيرِ مِنْ امْتِنَاعِ التَّرَاخِي وَقَدْ سَلَف ثَمَّتْ بَيَانُهُ مُوَجَّهًا ( وَيَجِبُ مِثْلُهُ ) أَيْ امْتِنَاعِ التَّرَاخِي ( فِي صَرْفِ كُلِّ ظَاهِرٍ ) عَنْ ظَاهِرِهِ دَفْعًا لِلُّزُومِ اللَّازِمِ الْبَاطِلِ وَهُوَ طَلَبُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ
وَالْإِيقَاعِ فِي خِلَافِ الْوَاقِعِ بِذَلِكَ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ أَدْنَى حَالِ الصَّارِفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُخَصَّصِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّ ( وَعَلَى الْجَوَازِ ) لِتَأْخِيرِ بَيَانِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ عَنْهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ جَوَازُ تَأْخِيرِ صَرْفِ كُلِّ ظَاهِرٍ عَنْ ظَاهِرِهِ أَنْ يُقَالَ : ( تَأْخِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْلِيغُ الْحُكْمِ ) الشَّرْعِيِّ الْمَأْمُورِ بِتَبْلِيغِهِ الْمُكَلَّفِينَ ( إلَى ) وَقْتِ ( الْحَاجَةِ ) إلَيْهِ وَهُوَ وَقْتُ تَنْجِيزِ التَّكْلِيفِ ( أَجْوَزُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي تَأْخِيرِ تَبْلِيغِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ مُخَصِّصِ الْعَامِّ عَنْهُ إذْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ التَّبْلِيغِ ، وَإِذَا جَازَ التَّأْخِيرُ مَعَ وُجُودِ التَّكْلِيفِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى ( وَعَلَى الْمَنْعِ ) لِتَأْخِيرِ بَيَانِ مُخَصِّصِ الْعَامِّ عَنْهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمَنْعُ لِتَأْخِيرِهِ ( الْمُخْتَارُ لِلْحَنَفِيَّةِ ) أَيْ لِمَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغَ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ أَيْضًا ( إذْ لَا يَلْزَمُ ) فِيهِ ( مَا تَقَدَّمَ ) مِنْ الْمَانِعِ الْمَذْكُورِ فِي مَبَاحِثِ التَّخْصِيصِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ فِي خِلَافِ الْوَاقِعِ وَمَطْلُوبِيَّةُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ بَلْ هُوَ مُنْتَفٍ فِيهِ .
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّبْلِيغِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ ضَرُورَةً فَلَا فَائِدَةَ لِلْأَمْرِ بِهِ إلَّا الْفَوْرُ قُلْنَا : لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ مَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ مِمَّا أُنْزِلَ إلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ إلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ
عَلَى الْفَوْرِ ( وَكَوْنُ أَمْرِ التَّبْلِيغِ ) أَمْرًا إيجَابِيًّا ( فَوْرِيًّا مَمْنُوعٌ ) لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ تَقْوِيَةَ الْعَقْلِ بِالنَّقْلِ ( وَلَعَلَّهُ ) أَيْ التَّبْلِيغُ ( وَجَبَ لِمَصْلَحَةٍ ) لَمْ تَفُتْ بِتَأْخِيرِهِ إذَا لَمْ يَأْتِ وَقْتُهَا وَعُلِمَ ذَلِكَ وَحْيًا أَوْ اجْتِهَادًا ( وَأَيْضًا ) لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ فَنَقُولُ ( ظَاهِرُهُ ) أَيْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ ( لِلْقُرْآنِ ) ؛ لِأَنَّهُ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ الْمُنَزَّلِ وَهَذَا يُفِيدُ الْمَنْعَ فِي الْقُرْآنِ كَمَا إلَيْهِ مَيْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيِّ وَقَدْ يُقَالُ : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ ؟ وَيُجَابُ التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهِ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ : الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ تَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ فَإِذَا وَجَبَ تَبْلِيغُهُ عَلَى الْفَوْرِ وَجَبَ تَبْلِيغُ أَحْكَامِهَا وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ وَجَبَ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ مُطْلَقًا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَإِلَّا شَبَّهَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ تَبْلِيغَ كُلِّ مَا أُنْزِلَ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَقَصَدَ بِإِنْزَالِهِ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَحْرُمُ إفْشَاؤُهُ ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَتْ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْهُ وَمَا سَلَكَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَفْرِيعِهَا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُخَصَّصِ عَنْهُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ جَوَازُ تَأْخِيرِ التَّبْلِيغِ أَجْوَزَ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْمَانِعِ ، وَالْفَرْضُ دَعْوَى الْأَجْوَزِيَّةِ بِخِلَافِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلْيُتَأَمَّلْ ( مَسْأَلَةٌ وَالْأَكْثَرُ ) وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَابْنُ الْحَاجِبِ ( يَجِبُ زِيَادَةُ قُوَّةِ الْمُبَيِّنِ لِلظَّاهِرِ ) عَلَيْهِ ( وَالْحَنَفِيَّةُ تُجَوِّزُ الْمُسَاوَاةَ )
بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ ( وَدُفِعَ بِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ الْمُبَيِّنِ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الرَّاجِحِ ) مَعَ الْمَرْجُوحِ ( لِتَقَدُّمِهِ ) أَيْ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ ( فِي الْمُعَارَضَةِ وَيُدْفَعُ ) هَذَا الدَّفْعُ ( بِأَنَّ مُرَادَهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ الْمُسَاوَاةُ ( فِي الثُّبُوتِ لَا الدَّلَالَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ مُبَيِّنٌ ) وَعَدَمُ الْأَوْلَوِيَّةِ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّلَالَةِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَيَجُوزُ بِالْأَدْنَى أَيْضًا فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إلْغَاءُ الرَّاجِحِ بِالْمَرْجُوحِ ( وَ ) بَيَانُ ( تَفْسِيرٍ وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ ) بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا فِيهِ خَفَاءٌ فَيَعُمُّ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ الْخَفِيَّ وَالْمُشْتَرَكَ وَالْمُشْكِلَ وَالْمُجْمَلَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَغَيْرُهُ ( وَيَجُوزُ ) بَيَانُ التَّفْسِيرِ ( بِأَضْعَفِ ) دَلَالَةٍ ( إذْ لَا تَعَارُضَ ) بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْبَيَانِ ( لِيَتَرَجَّحَ ) الْبَيَانُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ إلْغَاءُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ ( وَ ) يَجُوزُ ( تَرَاخِيهِ ) أَيْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهِ ( إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ وَقْتُ تَعْلِيقِ التَّكْلِيفِ ) بِالْفِعْلِ ( مُضَيَّقًا ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي غَالِبِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
( وَعَنْ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ ) وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ ( مَنْعُهُ ) أَيْ مَنْعُ تَرَاخِيهِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهِ إلَّا أَنَّ الْإسْفَرايِينِيّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى الصَّيْرَفِيِّ فَنَاظَرَهُ فِي هَذَا فَرَجَعَ إلَى الْجَوَازِ ( لَنَا لَا مَانِعَ عَقْلًا ) مِنْ جَوَازِهِ ( وَوَقَعَ شَرْعًا كَآيَتَيْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ) أَيْ { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ( ، ثُمَّ بَيَّنَ )
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْأَفْعَالَ ) لِلصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ( وَالْمَقَادِيرَ ) لِلزَّكَاةِ كَمَا فِي كُتُبَ الصَّدَقَاتِ كَكِتَابِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهَا ( أَمَّا ) تَرَاخِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ ( عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَيَجُوزُ ) عَقْلًا ( عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ) وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ تَرَاخِيهِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ ( غَيْرُ وَاقِعٍ ) شَرْعًا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَلَا يَجُوزُ هَذَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِ .
ثُمَّ قَالَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ لَا مَانِعَ عَقْلًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُجْمَلَ ( قَبْلَ الْبَيَانِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا ) عَلَى الْمُكَلَّفِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ لَا غَيْرُ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْبَيَانُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا أَظْهَرَ الْبَيَانُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ ( فَلَمْ يَحْكُمْ ) الشَّارِعُ عَلَيْهِ ( بِوُجُوبٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) الْمُكَلَّفُ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ ( بِحَيْثُ ) إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ ( يُعَاقَبُ بِعَدَمِ الْفِعْلِ ) فَانْتَفَى وَجْهُ الْمَانِعِينَ لَهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخِطَابِ إيجَابُ الْعَمَلِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَهْمِ وَالْفَهْمُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْبَيَانِ فَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ أَدَّى إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ ( وَبِهِ ) أَيْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا قَبْلَ الْبَيَانِ ( انْدَفَعَ قَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمَانِعِينَ لَهُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ( يُؤَدِّي إلَى الْجَهْلِ الْمُخِلِّ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ ) فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِصِفَةِ الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ صِفَتَهَا إنَّمَا تُعْلَمُ بِالْبَيَانِ وَلَا بَيَانَ وَالْجَهْلُ بِصِفَةِ
الشَّيْءِ يُخِلُّ بِفِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ .
وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ وَقْتَ الْعِبَادَةِ وَقْتُ بَيَانِ صِفَتِهَا فَلَا يَخِلُّ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ لِانْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِهِ قَبْلَ بَيَانِهِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمَانِعِينَ لَهُ أَيْضًا : لَوْ جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لَكَانَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ ( كَالْخِطَابِ بِالْمُهْمَلِ ) فَيَلْزَمُ جَوَازَ الْخِطَابِ بِهِ وَجَوَازُ تَأْخِيرِ بَيَانِهِ بِجَامِعِ عَدَمِ الْإِفَادَةِ فِي الْحَالِ وَالْإِفَادَةِ عِنْدَ الْبَيَانِ وَاللَّازِمُ بَاطِلُ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ( مُهْمَلٌ ) إذْ فِي الْمُجْمَلِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِهِ أَوْ مَعْنًى مَا فَيُطِيعُ أَوْ يَعْصِي بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ إذْ بَيْنَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ التَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الْمُهْمَلِ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ أَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا .
( وَمَا قِيلَ : ) أَيْ وَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ ( جَوَازُ تَأْخِيرِ إسْمَاعِ الْمُخَصَّصِ ) لِلْعَامِّ الْمُكَلَّفِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعُمُومِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ( أَوْلَى ) بِالْجَوَازِ ( مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ) إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ( لِأَنَّ عَدَمَ الْإِسْمَاعِ ) أَيْ إسْمَاعِ الْمُكَلَّفِ الْمُخَصِّصِ لِلْعَامِّ مَعَ وُجُودِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( أَسْهَلُ مِنْ الْعَدَمِ ) أَيْ عَدَمِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لِإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُخَصِّصِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمِ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَيَانِ الْمُجْمَلِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا إلْزَامِيًّا مِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْمُجِيزِينَ لِتَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِهِ دُونَ تَرَاخِي التَّخْصِيصِ فَيُقَالُ : إذَا جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ بِمُوَافَقَتِكُمْ فَيَلْزَمُكُمْ جَوَازُ تَأْخِيرِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِأَوْلَى ، ثُمَّ مَا قِيلَ : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ غَيْرُ مُجْمَلٍ فَلَا يَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِهِ ) قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مُخَصِّصٍ بِهِ ( فَقَدْ يُعْمَلُ بِهِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ
مُرَادٌ ( وَهُوَ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ عُمُومَهُ ( غَيْرُ مُرَادٍ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ ) فَإِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ ( فَلَا يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ مَحْذُورًا ) وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ ( بِخِلَافِهِ ) أَيْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ ( فِي الْمُخَصِّصِ ) فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ كَمَا بَيَّنَّا .
( ثُمَّ تَمْنَعُ الْأَوْلَوِيَّةُ ) أَيْ كَوْنَ تَأْخِيرِ إسْمَاعِ الْمُخَصَّصِ بِالْجَوَازِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ( بَلْ كُلٌّ مِنْ الْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ أُرِيدَ بِهِ مُعَيَّنٌ آخَرُ ذُكِرَ دَالُّهُ فَقُبِلَ ذِكْرُهُ ) أَيْ دَالِّهِ ( هُوَ ) أَيْ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ ( مَعْدُومٌ إلَّا فِي الْإِرَادَةِ ) أَيْ إلَّا فِي جَوَازِ كَوْنِهِ الْمُرَادَ مِنْ اللَّفْظِ ( فَهُمَا ) أَيْ الْمُجْمَلُ وَالْعَامُّ ( فِيهَا ) أَيْ فِي الْإِرَادَةِ ( سَوَاءٌ ) .
( وَإِلَى بَيَانِ ضَرُورَةٍ تَقَدَّمَ ) فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَجْعَلْهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَجَعَلَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَمُوَافِقُوهُمَا مِنْ أَقْسَامِهِ وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ تَعْرِيفُ الْبَيَانِ السَّابِقِ إلَى زِيَادَةٍ تُوجِبُ دُخُولَهُ فِيهِ ، ثُمَّ الْإِضَافَةُ فِيهِ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَبَيَانُ التَّبْدِيلِ أَيْضًا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ .
( مَسْأَلَةٌ أَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ ) أَيْ النَّسْخِ عَقْلًا ( وَوُقُوعِهِ ) سَمْعًا ( وَخَالَفَ غَيْرُ الْعِيسَوِيَّةِ مِنْ الْيَهُودِ فِي جَوَازِهِ فَفِرْقَةٌ ) وَهُمْ الشَّمْعُونِيَّةُ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهِ ( عَقْلًا ) وَسَمْعًا ( وَفِرْقَةٌ ) وَهُمْ الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهِ ( سَمْعًا ) أَيْ نَصًّا لَا عَقْلًا وَاعْتَرَفَ بِجَوَازِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا الْعِيسَوِيَّةُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي عِيسَى الْأَصْفَهَانِيِّ الْمُعْتَرِفُونَ بِبَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي إسْمَاعِيلَ خَاصَّةً وَهُمْ الْعَرَبُ لَا إلَى الْأُمَمِ كَافَّةً ( وَ ) خَالَفَ ( أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيَّ ) الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْحَافِظِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ وَقِيلَ : ابْنُ عُمَرَ وَقِيلَ : هُوَ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ ذُو تَأْلِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا بَيْنَ تَفْسِيرٍ وَغَيْرِهِ ( فِي وُقُوعِهِ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ ) وَفِي الْقُرْآنِ كَذَا فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ إنْكَارَهُ نَسْخَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } فَلَوْ نُسِخَ بَعْضُهُ لَبَطَلَ وَأَجَابَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ لِمَجْمُوعِ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يُنْسَخُ اتِّفَاقًا .
وَأَجَابَ فِي الْمَحْصُولِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ الْكُتُبِ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُبْطِلُهُ وَأَجَابَ آخَرُونَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ إبْطَالٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَبْطَالٌ لَكِنَّا نَمْنَعُ أَنَّ هَذَا الْإِبْطَالَ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } وَسَيُتْلَى عَلَيْك مَا يَقْطَعُ بِحَقِيقَةٍ وَيَقْطَعُ دَابِرَ الْإِنْكَارِ وَحَكَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ إنْكَارَهُ وَوُقُوعَ النَّسْخِ مُطْلَقًا وَقِيلَ : لَمْ يُنْكِرْ وُقُوعَهُ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَخْصِيصًا ؛ لِأَنَّهُ قَصْرٌ لِلْحُكْمِ عَلَى بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَهُوَ
كَالتَّخْصِيصِ فِي الْأَعْيَانِ وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لَفْظِيٌّ إذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمُسْلِمِ إنْكَارُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى حَقِّيَّةِ شَرِيعَتِنَا وَنَسْخُ بَعْضِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِنَا بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مِنْ شَرِيعَتِنَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنَازِعُ فِي الِارْتِفَاعِ وَيَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ مَنْسُوخٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مُغَيًّا إلَى وُرُودِ النَّاسِخِ كَالْمُغَيَّا فِي اللَّفْظِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ } إلَى اللَّيْلِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ صُومُوا مُطْلَقًا وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ سَيُنَزِّلُ وَلَا تَصُومُوا اللَّيْلَ وَمِنْ هُنَا نَشَأَ تَسْمِيَتُهُ تَخْصِيصًا وَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي وُقُوعِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ( لَنَا لَا يَلْزَمُ قَطْعًا مِنْهُ ) مِنْ النَّسْخِ ( مُحَالٌ عَقْلِيٌّ ) أَيْ مُحَالٌ لِذَاتِهِ فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِيهَا حُسْنٌ لِذَاتِهِ وَلَا قُبْحٌ لِذَاتِهِ لِمَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ وَقَبُحَ لِغَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ ( إنْ لَمْ تُعْتَبَرْ الْمَصَالِحُ ) أَيْ رِعَايَةُ جَلْبِ نَفْعِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ ضَرِّهِمْ فِي التَّكَالِيفِ ( فَظَاهِرٌ ) عَدَمُ لُزُومِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّكَالِيفِ حِينَئِذٍ لَيْسَ إلَّا الِابْتِلَاءُ وَاَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَصْلَحَةٍ فِي حُكْمِهِ .
( وَإِنْ ) اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ فِيهَا كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَكَذَلِكَ إذْ كَمَا قَالَ ( فَلِاخْتِلَافِهَا ) أَيْ الْمَصَالِحِ ( بِالْأَوْقَاتِ ) بِاخْتِلَافِهَا كَشُرْبِ الدَّوَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ( فَيَخْتَلِفُ حُسْنُ الشَّيْءِ وَقُبْحُهُ ) بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ حَسَنًا فِي وَقْتٍ قَبِيحًا فِي آخَرَ ( وَالْأَحْوَالُ ) أَيْ وَبِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كَشُرْبِ الدَّوَاءِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ
يَكُونُ نَافِعًا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ فَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ حَسَنًا فِي حَالَةٍ قَبِيحًا فِي أُخْرَى وَالْأَعْيَانُ فَرُبَّمَا قَبُحَ الشَّيْءُ مِنْ إنْسَانٍ وَحَسُنَ مِنْ إنْسَانٍ كَشُرْبِ الدَّوَاءِ أَيْضًا فَإِنَّهُ رُبَّمَا نَفَعَ إنْسَانًا وَضَرَّ لِإِنْسَانٍ وَكَيْفَ لَا وَالشَّرْعُ لِلْأَدْيَانِ كَالطَّبِيبِ لَلْأَبَدَانِ ( فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ ) أَيْ مَانِعِي جَوَازِهِ عَقْلًا ( النَّهْيُ يَقْتَضِي الْقُبْحَ وَالْوُجُوبُ الْحُسْنَ فَلَوْ صَحَّ ) كَوْنُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مَنْهِيًّا عَنْهُ مَأْمُورًا بِهِ ( حَسُنَ وَقَبُحَ ) وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ ظَاهِرٌ فِي فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا اجْتِمَاعَ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا اسْتِحَالَةَ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ نَسْخَ اللَّهِ تَعَالَى الْحُكْمَ ( إنْ ) كَانَ ( لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ ) لَهُ تَعَالَى ( بَعْدَ عَدَمِهِ ) أَيْ عَدَمِ ظُهُورِهَا عِنْدَ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ( فَبَدَاءٌ ) بِالْمَدِّ أَيْ ظُهُورٌ بَعْدَ الْخَفَاءِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ الْعِلْمَ بَعْدَ الْجَهْلِ وَهُوَ نَقْصٌ لَا يَحُومُ حَوْلَ جَنَابِهِ الْمُقَدَّسِ ، وَكَيْفَ وَالْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أَزَلًا وَأَبَدًا { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } ( أَوْ لَا ) لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ تَعَالَى ( وَهُوَ ) أَيْ مَا لَا يَكُونُ لِحِكْمَةٍ ( الْعَبَثُ ) إذْ هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الْجَهْلِ وَمُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
( وَإِنَّمَا يَكُونُ ) كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ لَازِمًا ( لَوْ نُسِخَ مَا حَسُنَ ) لِنَفْسِهِ ( وَقَبُحَ لِنَفْسِهِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ بَلْ فِيمَا حَسُنَ وَقَبُحَ لِغَيْرِهِ ، ثُمَّ هَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْأَشَاعِرَةِ ( أَمَّا الْأَشَاعِرَةُ
فَيَمْنَعُونَ وُجُودَهُ ) أَيْ مَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ وَقَبُحَ لِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِبْطَالُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ عَلَى رَأْيِهِمْ أَظْهَرُ ( وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَفِي التَّوْرَاةِ أُمِرَ آدَم بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ ) كَمَا ذَكَرَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ يَعْنِي وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ بِلَفْظِ الْإِطْلَاقِ ، بَلْ الْعُمُومُ لَكِنْ عَنْ سَبِيلِ التَّوْزِيعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِالْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ وَفِي زَمَانِهِ وَلَا تَقْيِيدٍ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَالِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي لَمْ تَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ يَنْفِيهَا ظَاهِرُ الدَّلِيلِ لِكَوْنِهَا مَنْفِيَّةً عَلَى أَنَّ الطَّبَرِيَّ أَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُولَدُ لِآدَمَ غُلَامٌ إلَّا وُلِدَتْ مَعَهُ جَارِيَةٌ فَكَانَ يُزَوِّجُ تَوْأَمَةَ هَذَا لِلْآخَرِ وَتَوْأَمَةَ الْآخَرِ لِهَذَا فَسَاقَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَقَدْ وَقَعَتْ لَنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَاقَهُ بِسَنَدِهِ إلَيْهِ قَالَ كَانَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ نُهِيَ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَتَهُ تَوْأَمَهَا وَأَنْ يُزَوِّجَ تَوْأَمَةَ هَذَا الْوَلَدِ آخَرَ وَأَنْ يُزَوِّجَهُ تَوْأَمَةَ الْآخَرِ ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا أَقْوَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَسَانِيدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَعَلَّقَ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا وَوَثَّقَهُ الْجُمْهُورُ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ قَلِيلًا وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ اتِّفَاقًا وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ ( وَفِي السِّفْرِ الْأَوَّلِ ) مِنْ التَّوْرَاةِ ( قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ ) عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْفُلْكِ ( إنِّي جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ ) وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ أَيْ أَبَحْتُ ذَلِكَ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ ( ثُمَّ حُرِّمَ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ الدَّوَابِّ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ
( عَلَى لِسَانِ مُوسَى كَثِيرٌ ) مِنْهَا كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ السِّفْرُ الثَّالِثُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهَذَا نَسْخٌ ظَاهِرٌ ( وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال ) عَلَيْهِمْ ( بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ) أَيْ الْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ كَالِاصْطِيَادِ فِيهِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( بَعْدَ إبَاحَتِهِ ) قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَوُجُوبِ الْخِتَانِ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْيَهُودِ ( يَوْمَ الْوِلَادَةِ ) وَقِيلَ : فِي ثَامِنِ يَوْمِهَا ( بَعْدَ إبَاحَتِهِ فِي مِلَّةِ يَعْقُوبَ ) أَوْ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ الْمُكَلَّفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَإِبَاحَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ وَتَحْرِيمِهِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَكُلُّ ذَلِكَ نُسِخَ ( فَيُدْفَعُ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَيْسَ نَسْخًا ) وَإِبَاحَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَتْ بِأَصْلٍ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهَا نَسْخًا ( وَالْحُكْمُ بِالْإِبَاحَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا بِتَحْقِيقِ كَلِمَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَهِيَ ) أَيْ كَلِمَتُهُ النَّفْسِيَّةُ هِيَ ( الْحُكْمُ لَكِنَّ ) الْحُكْمَ ( الشَّرْعِيَّ أَخَصُّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ ( مَا عُلِّقَ بِهِ خِطَابٌ فِي شَرِيعَةٍ ) عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا تَقَرَّرَتْ تِلْكَ الْإِبَاحَاتُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ صَارَتْ بِحُكْمِ تَقْرِيرِ أَنْبِيَائِهَا مِنْ حُكْمِ شَرَائِعِهِمْ فَيَكُونُ رَفْعُهَا رَفْعَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَيَكُونُ نَسْخًا وَأَيْضًا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْتَزَمُوهُ ) أَيْ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ( نَسْخًا ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى ) أَيْ مُهْمَلِينَ غَيْرَ مَأْمُورِينَ وَلَا مَنْهِيِّينَ ( فِي وَقْتٍ ) مِنْ الْأَوْقَاتِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ بَلْ كَلَامُهُمْ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ حَيْثُ قَالُوا : رَفْعُ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ عِنْدَنَا ( فَلَا إبَاحَةَ وَلَا تَحْرِيمَ قَطُّ إلَّا بِشَرْعٍ فَمَا يُذْكَرُ مِنْ
حَالِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الشَّرْعِ فَرْضٌ وَأَمَّا ) النَّسْخُ ( فِي شَرِيعَةٍ ) وَاحِدَةٍ ( فَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ) أَيْ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } بَعْدَ أَنْ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ( وَنَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ ) الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النَّاسِخِ مَا هُوَ وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ( وَكَثِيرٌ ) وَسَتَقِفُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُ فَالْحَقُّ أَنَّهُ ( لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُكَابِرٌ أَوْ جَاهِلٌ بِالْوَقَائِعِ ) قَالَ ( الْمَانِعُونَ سَمْعًا لَوْ نُسِخَتْ شَرِيعَةُ مُوسَى لَبَطَلَ قَوْلُهُ هَذِهِ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ) قَالُوا وَالتَّالِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ فَالْمُقَدَّمُ مِثْلُهُ ( أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْقَوْلَ ( قَالَهُ ) بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا وَكَوْنِهِ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ الْآنَ مِنْ التَّوْرَاةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ كَذِبٍ انْتَحَلُوهُ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ قِيلَ أَوَّلُ مَنْ اخْتَلَقَهُ لِلْيَهُودِ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الِاخْتِلَاقِ إنْ مَاتَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( وَإِلَّا ) لَوْ قَالَهُ ( لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِمُحَاجَّتِهِمْ ) أَيْ الْيَهُودِ ( بِهِ ) أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِرْصِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَدَفْعِ دَعْوَى رِسَالَتِهِ ( وَشُهْرَتِهِ ) أَيْ وَلَقَضَتْ الْعَادَةُ بِشُهْرَةِ الْحِجَاجِ بِهِ لَوْ وَقَعَ الْحِجَاجُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْخَطِيرَةَ لَا يَخْفَى وُقُوعُهَا وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا وَلَمْ يُنْقَلْ مُحَاجَّتُهُمْ بِهِ وَلَا اُشْتُهِرَ وُقُوعُ الْحِجَاجِ بِهِ ، ثُمَّ نَمْنَعُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا عَنْهُ وَلَوْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ التَّوْرَاةِ ( لِأَنَّهُ لَا تَوَاتُرَ فِي نَقْلِ التَّوْرَاةِ الْكَائِنَةِ الْآنَ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى إحْرَاقِ بُخْتِ نَصَّرَ أَسْفَارَهَا وَ ) أَنَّهُ ( لَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُهَا .
وَذَكَرَ أَحْبَارُهُمْ أَنَّ عُزَيْرًا أُلْهِمَهَا فَكَتَبَهَا وَدَفَعَهَا إلَى تِلْمِيذِهِ لِيَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ ) فَأَخَذُوهَا مِنْ التِّلْمِيذِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ التَّوَاتُرُ وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنَّ التِّلْمِيذَ زَادَ فِيهَا وَنَقَصَ فَكَيْفَ يُوثَقُ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ ( وَلِذَا لَمْ تَزُلْ نُسَخُهَا الثَّلَاثُ ) الَّتِي بِأَيْدِي الْعَنَانِيَّةِ وَاَلَّتِي بِأَيْدِي السَّامِرِيَّةِ وَاَلَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى ( مُخْتَلِفَةً فِي أَعْمَارِ الدُّنْيَا ) وَأَهْلِهَا فَفِي نُسْخَةِ السَّامِرِيَّةِ زِيَادَةُ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَسْرٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ الْعَنَانِيَّةِ وَفِي الَّتِي فِي أَيْدِي النَّصَارَى زِيَادَةُ أَلْفٍ وَثَلَثِمِائَةِ سَنَةٍ وَفِيهَا الْوَعْدُ بِخُرُوجِ الْمَسِيحِ وَبِخُرُوجِ الْعَرَبِيِّ صَاحِبِ الْجَمَلِ وَارْتِفَاعِ تَحْرِيمِ السَّبْتِ عِنْدَ خُرُوجِهِمَا كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِنَا .
وَفِي تَتِمَّةِ الْمُخْتَصَرِ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لِلشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْوَرْدِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ نُسَخُ التَّوْرَاةِ ثَلَاثَةٌ : السَّامِرِيَّةُ وَالْعِبْرَانِيَّة وَهِيَ الَّتِي بِأَيْدِي الْيَهُودِ إلَى زَمَانِنَا وَعَلَيْهَا اعْتِمَادُهُمْ وَكِلْتَاهُمَا فَاسِدَةٌ لِإِنْبَاءِ السَّامِرِيَّةِ بِأَنَّ مِنْ هُبُوطِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى الطُّوفَانِ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَثَلَثَمِائَةٍ وَسَبْعُ سِنِينَ وَكَانَ الطُّوفَانُ
لِسِتِّمِائَةٍ خَلَتْ مِنْ عُمْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَاشَ آدَم تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً بِاتِّفَاقٍ فَيَكُونُ نُوحٌ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ أَدْرَكَ جَمِيعَ آبَائِهِ إلَى آدَمَ وَمِنْ عُمْرِ آدَمَ فَوْقَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ وَلِإِنْبَاءِ الْعِبْرَانِيَّةِ بِأَنَّ بَيْنَ هُبُوطِ آدَمَ وَالطُّوفَانِ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَسِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَبَيْنَ الطُّوفَانِ وَوِلَادَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَاثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَعَاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ بِاتِّفَاقٍ فَيَكُونُ نُوحٌ أَدْرَكَ مِنْ عُمْرِ إبْرَاهِيمَ ثَمَانِيًا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ ؛ لِأَنَّ قَوْمَ هُودٍ أُمَّةٌ نَجَتْ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ وَأُمَّةُ صَالِحٍ نَجَتْ بَعْدَ أُمَّةِ هُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَأُمَّتُهُ بَعْدَ أُمَّةِ صَالِحٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : خَبَرًا عَنْ هُودٍ فِيمَا يَعِظُ بِهِ قَوْمَهُ وَهُمْ عَادٌ { وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } وقَوْله تَعَالَى خَبَرًا عَنْ صَالِحٍ فِيمَا يَعِظُ بِهِ قَوْمَهُ وَهُمْ ثَمُودُ { وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ } وَالنُّسْخَةُ الثَّالِثَةُ الْيُونَانِيَّةُ وَذَكَرَ أَنَّهَا اخْتَارَهَا مُحَقِّقُو الْمُؤَرِّخِينَ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ عُمُرِ الزَّمَانِ وَهِيَ تَوْرَاةٌ نَقَلَهَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَبْرًا قَبْلَ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ بِقَرِيبِ ثَلَثِمِائَةِ سَنَةً لِبَطْلَيْمُوسَ الْيُونَانِيِّ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ قُلْت وَهَذِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ تَوَاتُرُهَا وَلَا اشْتِمَالُهَا عَلَى هَذَا وَقَالَ الطُّوفِيُّ وَالْمُخْتَارُ فِي الْجَوَابِ إنَّ فِي التَّوْرَاةِ نُصُوصًا كَثِيرَةً وَرَدَتْ مُؤَبَّدَةً ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّوْقِيتُ بِمُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَقَوْلِهِ إذَا خَرِبَتْ صُوَرٌ لَا تُعَمَّرُ أَبَدًا ، ثُمَّ إنَّهَا عُمِّرَتْ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً وَمِنْهَا إذَا خَدَمَ الْعَبْدُ سَبْعَ سِنِينَ
أُعْتِقَ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْعِتْقَ اُسْتُخْدِمَ أَبَدًا ، ثُمَّ أُمِرَ بِعِتْقِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ غَيْرَهَا وَإِذَا جَازَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ الْمُؤَبَّدَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّوْقِيتُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي نَصِّ مُوسَى عَلَى تَأْبِيدِ شَرِيعَتِهِ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ قُلْت : عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي شَرْحِ تَنْقِيحِ الْمَحْصُولِ ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَبَدِ مَنْقُولٌ فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ قَالَ فِي الْعَبْدِ يُسْتَخْدَمُ سِتَّ سِنِينَ ، ثُمَّ يُعْتَقُ فِي السَّابِعَةِ فَإِنْ أَبَى الْعِتْقَ فَلْيُثْقَبْ أُذُنُهُ وَلْيُسْتَخْدَمْ أَبَدًا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِخْدَامِ أَبَدًا بَلْ الْعُمْرَ أَبَدًا فَأَطْلَقَ الْأَبَدَ عَلَى الْعُمْرِ فَقَطْ انْتَهَى ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ وَزَادَ ، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُسْتَخْدَمُ خَمْسَ سِنِينَ ، ثُمَّ يُعْتَقُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي التَّوْرَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ هَذَا الْفَرْعِ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَبْدِيلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ كَمَا صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِهِ ، هَذَا وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مَانِعِي جَوَازِهِ سَمْعًا فَرِيقَانِ : مَنْ لَا يَمْنَعُهُ عَقْلًا : وَمَنْ يَمْنَعُهُ عَقْلًا أَيْضًا فَقَدْ اجْتَمَعَا فِي الْوَجْهِ السَّمْعِيِّ الْمَذْكُورِ وَانْفَرَدَ مَانِعُوهُ سَمْعًا وَعَقْلًا بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( قَالُوا ) أَيْ مَانِعُوا جَوَازِهِ سَمْعًا وَعَقْلًا وَإِنَّمَا لَمْ يُفْصِحْ بِهِمْ هَكَذَا لِإِرْشَادِ الْمَقُولِ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ وَجْهٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ الْحُكْمُ ( الْأَوَّلُ إمَّا مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ ) أَيْ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ مُعَيَّنٍ ( فَالْمُسْتَقْبَلُ ) أَيْ فَالْحُكْمُ الَّذِي بِخِلَافِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كَمَنْ يَقُولُ : صُمْ إلَى الْغَدِ ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْغَدِ لَا تَصُمْ ( لَيْسَ نَسْخًا ) لِلْأَوَّلِ ( إذْ لَيْسَ رَفْعًا ) لِلْأَوَّلِ قَطْعًا بَلْ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِنَفْسِهِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ ( أَوْ ) مُقَيَّدٌ (
بِتَأْبِيدٍ فَلَا رَفْعَ ) أَيْضًا فِيهِ ( لِلتَّنَاقُضِ ) عَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِتَأْبِيدِ الْحُكْمِ وَبِنَفْيِ تَأْبِيدِهِ ، وَالتَّنَاقُضُ عَلَيْهِ تَعَالَى بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْعَجْزِ عَنْ إيرَادِ مَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِلْكَذِبِ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا فِي كَلَامِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الصَّادِقِ فَلَا نَسْخَ ( وَلِتَأْدِيَتِهِ ) أَيْ جَوَازِ نَسْخِهِ أَيْضًا ( إلَى تَعَذُّرِ الْإِخْبَارِ بِهِ ) أَيْ بِالتَّأْبِيدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إذْ مَا مِنْ عِبَارَةٍ تُذْكَرُ لَهُ إلَّا وَيَقْبَلُ النَّسْخَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ وَكَيْفَ لَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ ( وَ ) إلَى ( نَفْيِ الْوُثُوقِ ) بِتَأْبِيدِ حُكْمٍ مَا أَيْضًا ( فَلَا يُجْزَمُ بِهِ ) أَيْ بِالتَّأْبِيدِ فِي أَحْكَامٍ نَطَقَ دِينُ الْإِسْلَامِ بِتَأْبِيدِهَا أَعْنِي ( فِي نَحْوِ الصَّلَاةِ ) أَيْ فَرْضِيَّتِهَا وَفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ ( وَشَرِيعَتُكُمْ ) أَيْ وَلَا نَجْزِمُ بِتَأْبِيدِهَا أَيْضًا بَلْ تَجُوزُ نَسْخُهَا إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ غَيْرُ النَّصِّ الصَّرِيحِ عِنْدَكُمْ بِتَأْبِيدِهَا وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ التَّأْبِيدُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ النَّسْخِ جَازَ نَسْخُهَا لَكِنْ جَوَازُ نَسْخِهَا بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ ( الْجَوَابُ إنْ عُنِيَ بِالتَّأْبِيدِ إطْلَاقُهُ ) أَيْ الْحُكْمِ عَنْ التَّوْقِيتِ وَالتَّأْبِيدِ ( فَلَا يَمْتَنِعُ ) جَوَازُ نَسْخِهِ ( إذْ لَا دَلَالَةَ لَفْظِيَّةَ عَلَيْهِ ) أَيْ امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِهِ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ وَالتَّأْبِيدَ وَالْبَقَاءَ وَالِاسْتِمْرَارَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمُطْلَقِ وَبَقَاءُ التَّعَلُّقِ وَالْوُجُوبِ وَعَدَمُ بَقَائِهِمَا غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ الصِّيغَةِ ( بَلْ إنَّهُ ) أَيْ النَّسْخَ ( مَشْرُوعٌ ) فِيمَا هَذَا شَأْنُهُ ( أَوْ ) عُنِيَ بِالتَّأْبِيدِ ( صَرِيحَهُ ) أَيْ التَّأْبِيدِ ( فَكَذَلِكَ ) أَيْ لَا امْتِنَاعَ لِنَسْخِهِ ( إنْ جَعَلَ )
التَّأْبِيدَ ( قَيْدًا لِلْفِعْلِ الْوَاجِبِ ) إذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ دَوَامِ الْفِعْلِ وَعَدَمِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَ صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا فَإِنَّ التَّأْبِيدَ قَيْدٌ لِلصَّوْمِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْوَاجِبِ لَا لِإِيجَابِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَعْمَلُ بِمَادَّتِهِ لَا بِهَيْئَتِهِ وَدَلَالَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْهَيْئَةِ لَا بِالْمَادَّةِ فَيَكُونُ الرَّمَضَانَاتُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِلْوُجُوبِ بِالِاسْتِمْرَارِ إلَى الْأَبَدِ فَلَمْ يَكُنْ رَفْعُ الْوُجُوبِ وَهُوَ عَدَمُ اسْتِمْرَارِهِ مُنَاقِضًا لِلْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي صُمْ رَمَضَانَ فَإِنَّ جَمِيعَ الرَّمَضَانَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ الْوُجُوبُ قَطْعًا ، وَلَمْ يَكُنْ نَفْيًا لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِشَيْءٍ مِنْ الرَّمَضَانَاتِ وَتَنَاوُلِ الْخِطَابِ لَهُ ( لَا ) إنْ جُعِلَ قَيْدًا فِي ( وُجُوبِهِ ) أَيْ وُجُوبِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِأَنْ يُخْبِرَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ أَبَدًا ، ثُمَّ يُنْسَخُ حَتَّى يَأْتِيَ زَمَانٌ لَا وُجُوبَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ ( وَإِنْ لَزِمَ ) صَرِيحُ التَّأْبِيدِ ( قَيْدًا لَهُ ) أَيْ الْحُكْمِ ( فَمُخْتَلِفٌ ) فِي جَوَازِ نَسْخِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ ، ثُمَّ كَمَا قَالَ أَيْضًا ( وَلَا يُفِيدُ ) هَذَا التَّرْدِيدُ مَنْعَ جَوَازِ النَّسْخِ مُطْلَقًا ( لِجَوَازِهِ ) أَيْ النَّسْخِ ( بِمَا تَقَدَّمَ ) مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى جَوَازِهِ ، ثُمَّ وُقُوعِهِ فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ سَفْسَطَةٌ .
( وَتَسْلِيمُ كَوْنِ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ ) بِالتَّأْبِيدِ ( صَرِيحًا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لَا يُفِيدُهُمْ ) أَيْ مَانِعِي جَوَازِ النَّسْخِ مُطْلَقًا ( النَّفْيُ الْكُلِّيُّ ) لِجَوَازِ النَّسْخِ ( الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُهُمْ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ بِالتَّأْبِيدِ أَقَلُّ مِنْ الْقَلِيلِ قَالُوا ) أَيْ مَانِعُوا جَوَازِهِ سَمْعًا وَعَقْلًا ؛ وَلِمَا ذَكَرْنَا ( أَيْضًا ) آنِفًا ( لَوْ رُفِعَ ) تَعَلُّقُ الْحُكْمِ ( فَإِمَّا ) أَنْ
يَكُونَ رَفْعُهُ ( قَبْلَ وُجُودِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( فَلَا ارْتِفَاعَ ) لَهُ ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ لَا يَكُونُ ارْتِفَاعًا وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ( أَوْ ) يَكُونُ رَفْعُهُ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( أَوْ ) يَكُونُ رَفْعُهُ ( مَعَهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( فَيَسْتَحِيلُ ) رَفْعُهُ أَيْضًا لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ مَا وُجِدَ وَانْقَضَى ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَلِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الشَّيْءِ حَالَ وُجُودِهِ لِلُزُومِ اجْتِمَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيُوجَدُ حِينَ لَا يُوجَدُ وَأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ ( وَلِأَنَّهُ تَعَالَى : إمَّا عَالِمٌ بِاسْتِمْرَارِهِ ) أَيْ بِدَوَامِ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ( أَبَدًا فَظَاهِرٌ ) أَنَّهُ لَا نَسْخَ وَإِلَّا يَلْزَمُ وُقُوعُ خِلَافِ عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ وَالْبَارِئُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ ( أَوْ لَا ) يَعْلَمُ اسْتِمْرَارَهُ أَبَدًا ( فَهُوَ ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ ( فِي عِلْمِهِ مُؤَقَّتٌ فَيَنْتَهِي ) الْحُكْمُ ( عِنْدَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ( وَالْقَوْلُ الَّذِي يَنْفِيهِ ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ ( لَيْسَ رَفْعًا ) لِحُكْمٍ ثَابِتٍ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا ( وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ ( أَنَّهُ ) لَوْ رُفِعَ فَإِمَّا قَبْلَ وُجُودِهِ إلَخْ ( تَرْدِيدٌ فِي الْفِعْلِ ) وَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ ( لَا ) فِي ( الْحُكْمِ ) وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إذْ النَّسْخُ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ لَا الْفِعْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ ارْتِفَاعِ الْفِعْلِ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ ( وَلَوْ أَجْرَى ) التَّرْدِيدَ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْحُكْمِ ( قُلْنَا الْمُرَادُ ) بِالنَّسْخِ ( انْقِطَاعُ تَعَلُّقِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ وَانْقِطَاعُ اسْتِمْرَارِهِ وَمَعْنَاهُ إنْ وُجِدَ التَّعَلُّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يُوجَدْ التَّعَلُّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَارْتَفَعَ وَانْقَطَعَ الِاسْتِمْرَارُ الَّذِي كَانَ يَتَحَقَّقُ لَوْلَا النَّاسِخُ ( كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّعْرِيفِ ) ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ أَزَلِيًّا لَا يَرْتَفِعُ لَا أَنَّ
الْفِعْلَ ارْتَفَعَ ( وَنَخْتَارُ عِلْمَهُ ) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ( مُؤَقَّتٌ ) أَيْ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ فِيهِ ( وَيَتَضَمَّنُ ) عِلْمُهُ بِهِ مُؤَقَّتًا ( عِلْمُهُ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْسَخُهُ فِيهِ ) وَعِلْمُهُ بِارْتِفَاعِهِ بِنَسْخِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ النَّسْخَ بَلْ يُثْبِتُهُ وَيُحَقِّقُهُ ( فَكَيْفَ يُنَافِيهِ ) .
( مَسْأَلَةٌ .
الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ ) لِلْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ ( بَعْدَ التَّمَكُّنِ ) مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَكَلُّفِهِ بِهِ ( بِمُضِيِّ مَا يَسَعُ ) الْفِعْلَ ( وَمِنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهُ ) أَيْ لِلْفِعْلِ ( شَرْعًا إلَّا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ ) مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ أَوْ لَا ( وَاخْتُلِفَ فِيهِ ) أَيْ فِي النَّسْخِ ( قَبْلَهُ ) أَيْ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ( بِكَوْنِهِ ) أَيْ النَّسْخِ ( قَبْلَ ) دُخُولِ ( الْوَقْتِ ) الْمُعَيَّنِ لِلْفِعْلِ ( أَوْ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهُ ( قَبْلَ ) مُضِيِّ ( مَا يَسَعُ ) الْفِعْلَ مِنْهُ سَوَاءٌ ( شَرَعَ ) فِي الْفِعْلِ ( أَوْ لَا ) أَيْ أَوْ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِنَفْيِ تَعْيِينِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ كَوْنَ الْخِلَافِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَلِذَا قَالَ فِي التَّصْوِيرِ قَبْلَ دُخُولِ عَرَفَةَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْمِثَالُ الْوَاضِحُ ( كَصُمْ غَدًا وَرَفْعُ ) وُجُوبَ صَوْمِهِ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الْغَدِ ( أَوْ ) رَفَعَ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْغَدِ ( وَإِنْ شَرَعَ ) فِي صَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ( قَبْلَ التَّمَامِ ) لِصِيَامِهِ ( فَالْجُمْهُورُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ) مِنْهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَشَاعِرَةُ قَالُوا ( نَعَمْ ) يَجُوزُ نَسْخُهُ ( بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ ) بِالْقَلْبِ لِحَقِّيَّتِهِ ( وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيُّ ) وَالْجَصَّاصُ وَالْمَاتُرِيدِيُّ وَالدَّبُوسِيُّ ( وَالصَّيْرَفِيُّ لَا ) يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا مَضَى مَا لَا يَسَعُ الْفِعْلَ وَحَصَلَ التَّمَكُّنُ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ قَبْلَ نَفْسِ الْفِعْلِ كَمَا فِي ابْنِ الْحَاجِبِ إذْ قَالَ : وَلَنَا أَنَّ كُلَّ نَسْخٍ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ اعْتَرَفْتُمْ
بِثُبُوتِهِ فَلْيَلْزَمُكُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهَذَا مَعَ تَهَافُتِهِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ قَبْلَ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ الْمَحْكِيِّ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَقَالَ : وَعِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْفِعْلِ أَوْ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ تَفْرِيطٌ مِنْ الْعَبْدِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى بَيَانِ مُدَّةِ الْعَمَلِ بِالنَّسْخِ انْتَهَى .
فَكُلُّ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ تَسَاهُلٌ ( لَنَا : لَا مَانِعٌ عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ ) مِنْ ذَلِكَ ( فَجَازَ وَنَسَخَ خَمْسِينَ ) مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِفَرْضِ خَمْسٍ كَذَا ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ بَطَّالٍ وَالشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ وَالشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ وَالْأَظْهَرُ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ نَسَخَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تُفِيدُ نَسْخَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا وَاسْتِمْرَارَ خَمْسٍ ، ثُمَّ قَوْلُهُ ( فِي ) لَيْلَةِ ( الْإِسْرَاءِ ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمِعْرَاجَ إلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْرَاءَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ أَيْضًا وَأَنَّهُمَا كَانَا يَقَظَةً كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِلَّا فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ بَلْ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ ( وَإِنْكَارُ الْمُعْتَزِلَةِ إيَّاهُ ) أَيْ نَسْخَ الْخَمْسِينَ أَوْ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا ، وَكَذَا إنْكَارُ جُمْهُورِهِمْ الْمِعْرَاجَ ( مَرْدُودٌ بِصِحَّةِ النَّقْلِ ) لِذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ عَدَمِ إحَالَةِ الْعَقْلِ لَهُ فَإِنْكَارُهُ بِدْعَةٌ ضَلَالَةٌ وَأَمَّا إنْكَارُ
الْإِسْرَاءِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَكُفْرٌ ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِخَمْسِينَ صَلَاةٍ كَانَ لِلْأُمَّةِ وَلَوْ يُوجَدُ تَمَكُّنُهُمْ مِنْ الِاعْتِقَادِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْعِلْمِ دُفِعَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالْأُمَّةُ تَابِعَةٌ لَهُ وَقَدْ عَلِمَ وَاعْتَقَدَ عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ بِالنَّسْخِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ بِخَمْسِينَ صَلَاةً دُونَ أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ مُتَنَاوِلًا لَهُ وَلَهُمْ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ الْمَرْوِيِّ أَنَّ أُمَّتَهُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا أَيْضًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا أُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ فَإِذَا نَسَخَ الْمَأْمُورَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ عَمَلِهِ لِلْجَمِيعِ وَمِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْأُمَّةِ ظَهَرَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَبُولِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْتَلَى بِأُمَّتِهِ كَمَا يُبْتَلَى لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ فِي الشَّفَقَةِ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَالْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ ، وَالْأَبُ يُبْتَلَى بِوَلَدِهِ كَمَا يُبْتَلَى بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُوجَدْ النَّسْخُ إلَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْقَبُولِ ، ثُمَّ الِابْتِلَاءُ بِهِمَا كَالِابْتِلَاءِ بِالْفِعْلِ بَلْ أَوْلَى حَتَّى كَانَ الْقَبُولُ إيمَانًا ، وَالْفِعْلُ خِدْمَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ رَأْسُ الطَّاعَاتِ وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمَانِعِينَ ( لَا فَائِدَةَ ) حِينَئِذٍ فِي التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَدَنِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَدُلَّانِ عَلَى
وُجُوبِ نَفْسِ الْعَمَلِ لَا عَلَى الْعَزْمِ ، وَالْعَقْدُ ( مُنْتَفٍ بِأَنَّهَا ) أَيْ الْفَائِدَةَ فِي التَّكْلِيفِ حِينَئِذٍ ( الِابْتِلَاءُ لِلْعَزْمِ ) عَلَى الْفِعْلِ إذَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِ وَإِظْهَارُ الطَّاعَةِ مِنْ نَفْسِهِ ( وَوُجُوبُ الِاعْتِقَادِ ) لِحَقِّيَّتِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بَلْ عَقْدُ الْقَلْبِ مَقْصُودٌ أَيْضًا وَكَيْفَ وَالطَّاعَةُ لَا تُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِلَا فِعْلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْخَيْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ فَأَتَى بِهِ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ كَانَ إيمَانًا صَحِيحًا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الْفِعْلُ بِاحْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ الْقَلْبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْإِغْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَالتَّصْدِيقُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا فَإِذَنْ اعْتِبَارُ التَّمَكُّنِ مِنْ عَزِيمَةِ الْقَلْبِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَيَتَحَرَّرُ أَنَّ حُكْمَ النَّسْخِ بَيَانٌ لِمُدَّةِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا تَارَةً وَلِمُدَّةِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ تَارَةً ، وَإِنَّ الشَّرْطَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَهُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ إذْ ابْتِلَاؤُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَكَانَ لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ فَمِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ وَكَوْنُ الْمَقْصُودِ الْعَمَلَ لَا غَيْرَ إنَّمَا هُوَ
مِنْ أَوَامِرِ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّهَا لِجَرِّ النَّفْعِ لَا لِلِابْتِلَاءِ وَذَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِالِاعْتِقَادِ ( وَأَمَّا إلْحَاقُهُ ) أَيْ جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ( بِالرَّفْعِ ) أَيْ رَفْعِ الْحُكْمِ ( لِلْمَوْتِ ) أَيْ لِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ مَا كُلِّفَ بِهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ تَنَاقُضًا فَكَذَا النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بِجَامِعِ اسْتِوَائِهِمَا فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ الْبَدِيعِ ( وَمَا قِيلَ : كُلُّ رَفْعٍ قَبْلَ ) وَقْتِ ( الْفِعْلِ ) كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ فِي الْبَدِيعِ أَيْضًا ( فَلَيْسَا بِشَيْءٍ لِتَقْيِيدِ الْأَوَّلِ ) أَيْ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ ( عَقْلًا ) أَيْ بِالْعَقْلِ إذْ الْعَقْلُ قَاضٍ بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ لِلْمَيِّتِ فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ بِالْمَوْتِ بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّفْعِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ( لَا مَا قِيلَ : مِنْ مَنْعِ تَكْلِيفِ الْمَعْلُومِ مَوْتَهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ ) مِنْ الْفِعْلِ ( لِيُدْفَعَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ ) أَوْ لِزَامٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالتَّكْلِيفِ قَبْلَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ أَوْ لَا يَمُوتُ كَمَا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ ( وَالثَّانِي ) أَيْ كُلُّ رَفْعٍ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ( فِي غَيْرِ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ قَائِلَهُ ( يُرِيدُ ) أَيْ بِالْوَقْتِ ( وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ ) لَا لِلْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا سَالِفًا ( وَالنِّزَاعُ ) لَيْسَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ رَفْعُ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ ( فِي وَقْتِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( الَّذِي حُدَّ لَهُ ) أَيْ لِلْفِعْلِ شَرْعًا قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ مِنْهُ يَسَعُ الْفِعْلَ وَفِيمَا قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لِلْفِعْلِ شَرْعًا ( وَاسْتَدَلَّ ) لِلْمُخْتَارِ ( بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ ) بِذَبْحِ وَلَدِهِ فَأَفَادَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ ( ثُمَّ
تَرَكَ ) إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَبْحَهُ ( فَلَوْ ) كَانَ تَرْكُهُ لَهُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ( بِلَا نَسْخٍ ) لِوُجُوبِهِ ( عَصَى ) بِتَرْكِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْصِ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ لَهُ كَانَ لِنَسْخِ وُجُوبِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ( وَأُجِيبَ بِمَنْعِ وُجُوبِ الذَّبْحِ ) عَنْ أَمْرٍ لَهُ بِهِ ( بَلْ ) رَأَى ( رُؤْيَا فَظَنَّهُ ) أَيْ الْوُجُوبَ ثَابِتًا لَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } فَنَسَبَهُ إلَى الْمَنَامِ ( وَمَا تُؤْمَرُ ) أَيْ وَقَوْلُ وَلَدِهِ لَهُ { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ( يَدْفَعُهُ ) أَيْ مَنْعَ وُجُوبِ الذَّبْحِ لِانْصِرَافِهِ ظَاهِرًا إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إذْ لَا مَذْكُورَ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ تُؤْمَرُ مُضَارِعٌ فَلَا يَعُودُ إلَى مَا مَضَى فِي الْمَنَامِ أُجِيبَ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ إقْدَامِهِ عَلَى الذَّبْحِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ ( مَعَ ) لُزُومِ ( الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَحْرُمُ ) مِنْ قَصْدِ الذَّبْحِ وَتَرْوِيعِ الْوَلَدِ ( لَوْلَاهُ ) أَيْ الْوُجُوبُ بِالْأَمْرِ وَإِلَّا لَكَانَ مُمْتَنِعًا شَرْعًا وَعَادَةً عَلَى أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَحْيٌ مَعْمُولٌ بِهِ ( وَعَلَى أَصْلِهِمْ ) أَيْ وَيَدْفَعُ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ ثَابِتَةٌ عَقْلًا وَالشَّرْعُ كَاشِفٌ عَنْهَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ إنْزَالُ الْكُتُبِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ وَتَمْكِينُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ لِيَنْكَشِفَ لَهُمْ أَنَّ إرَاءَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُوهِمُ أَنَّهُ أَمْرٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ ( تَوْرِيطٌ لَهُ ) أَيْ إيقَاعٌ لِإِبْرَاهِيمَ ( فِي الْجَهْلِ فَيَمْتَنِعُ ) بَلْ لَا يَجُوزُ لِآحَادِ الْمُكَلَّفِينَ فَكَيْفَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ ( جَازَ التَّأْخِيرُ ) لِلذَّبْحِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ عِصْيَانٍ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ وُجُوبَهُ ( مُوَسَّعٌ ) فَيَحْصُلُ التَّمَكُّنُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْوَقْتَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ بَلْ بَعْدَهُ
( فِيهِ ) أَيْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا ( الْمَطْلُوبُ ) وَهُوَ النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ( لِتَعَلُّقِهِ ) أَيْ الْوُجُوبِ حِينَئِذٍ ( بِالْمُسْتَقْبَلِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ قَطْعًا فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا نُسِخَ عَنْهُ فَقَدْ نُسِخَ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ ( وَهُوَ ) أَيْ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ ( الْمَانِعُ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ النَّسْخِ لِاشْتِرَاطِهِمْ فِي تَحْقِيقِ النَّسْخِ كَوْنَ الْمَنْسُوخِ وَاجِبًا فِي وَقْتِهِ وَتَعَلُّقُ الْوُجُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُنَافِيهِ وَسَتَقِفُ قَرِيبًا عَلَى مَا فِي إطْلَاقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ فِي هَذَا ( لَكِنْ نَقَلَ الْمُحَقِّقُونَ ) كَالْحَنَفِيَّةِ ( عَنْهُمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ ( أَنَّهُ ) أَيْ النَّسْخَ ( بَيَانُ مُدَّةِ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ) النَّسْخُ ( إلَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ ) مِنْ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ ( الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ ) مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ ( لَا الْعَزْمُ ) عَلَى الْعَمَلِ ( وَمَعَهُ ) أَيْ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ ( يَجُوزُ ) النَّسْخُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ ( لِأَنَّ الثَّابِتَ ) حِينَئِذٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ ( تَفْرِيطُ الْمُكَلَّفِ ) فِي ذَلِكَ بِالتَّرْكِ لَهُ ( وَلَيْسَ ) تَفْرِيطُهُ ( مَانِعًا ) مِنْ النَّسْخِ ( وَهَذَا ) أَيْ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ ( مُتَحَقِّقٌ فِي الْمُوَسَّعِ ) فَيَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ( وَدَفْعُهُ ) أَيْ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُوَسَّعِ ( بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فِي الْمُوَسَّعِ ) فَلَا يَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ عِنْدَهُمْ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا ( إنَّمَا يَصْدُقُ فِي الْمُضَيَّقِ ) قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا ( وَإِلَّا فَقَدْ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ ) فِي الْمُوَسَّعِ ( وَلِذَا ) أَيْ لِوُجُوبِهِ ( لَوْ فَعَلَهُ ) أَيْ الْوَاجِبَ ( سَقَطَ بِخِلَافِ مَا ) أَيْ الْفِعْلِ الَّذِي ( قَبْلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا ) أَيْ فِي الْمُضَيَّقِ وَالْمُوَسَّعُ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ ( ثُمَّ الْجَوَابُ ) عَنْ قَوْلِهِمْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ
الْعَمَلُ بِالْبَدَنِ ( أَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ كَوْنَهُ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا ( لَا يُوجِبُ الْحَصْرَ ) فِيهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا ( وَمَنْعَهُ ) أَيْ وُجُوبَ الذَّبْحِ مُوَسَّعًا ( بِأَنَّهُ ) أَيْ وُجُوبَ الذَّبْحِ ( لَوْ كَانَ ) مُوَسَّعًا ( لَأَخَّرَ ) الْمُكَلَّفُ بِفِعْلِهِ فِعْلَهُ ( عَادَةً فِي مِثْلِهِ ) أَيْ ذَبْحِ الْوَلَدِ إمَّا رَجَاءَ أَنْ يُنْسَخَ عَنْهُ أَوْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَيَسْقُطَ عَنْهُ لِعِظَمِ الْأَمْرِ ( مُنْتَفٍ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ ) إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ( وَإِنْ كَانَ مَا كَانَ ) وَكَيْفَ لَا وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمَانِعِينَ ( فَعَلَ ) أَيْ ذَبَحَ وَ ( لَكِنْ ) كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ شَيْئًا ( الْتَحَمَ ) أَيْ بَرَأَ وَاتَّصَلَ مَا تَفَرَّقَ عَقِيبَ الْقَطْعِ أَيْ كَانَ مَأْمُورًا وَلَكِنْ بِمَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ إمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَى الْحَلْقِ وَالتَّحَامُلُ عَلَيْهِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَحَصَلَ مُطَاوِعُ الذَّبْحِ لَكِنْ انْعَدَمَ أَثَرُهُ وَطَرَأَ ضِدُّهُ عَقِبَهُ وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } وَمُدِحَ عَلَى ذَلِكَ ( دَعْوًى مُجَرَّدَةٌ ) عَنْ الثُّبُوتِ ( كَذَا ) قَوْلُهُمْ ( مُنِعَ ) الْقَطْعُ ( بِصَفِيحَةٍ ) مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ خُلِقَتْ عَلَى حَلْقِهِ أَيْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ لِوُجُودِ هَذَا الْمَانِعِ فَلَمْ يَحْصُلْ مُطَاوِعُ الذَّبْحِ دَعْوًى مُجَرَّدَةٌ مَعَ أَنْ كُلًّا خِلَافَ الْعَادَةِ وَالظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا مُعْتَبَرًا وَلَوْ صَحَّ لَنُقِلَ وَاشْتُهِرَ وَكَانَ مِنْ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَدْ صَدَّقْت ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّك عَمِلْت فِي الْمُقَدَّمَاتِ عَمَلَ مُصَدِّقٍ لِلرُّؤْيَا بِقَلْبِهِ قُلْت لَكِنْ يُعَكِّرُ هَذَا مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ عَنْ السُّدِّيِّ وَهُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ { لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ ابْنِهِ قَالَ
الْغُلَامُ يَا أَبَتِ اُشْدُدْ عَلَيَّ رِبَاطِي لِئَلَّا أَضْطَرِبَ وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ لِئَلَّا يَنْضَحَ عَلَيْكَ مِنْ دَمِي وَأَسْرِعْ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيَّ قَالَ فَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ وَهُوَ يَبْكِي فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ .
قَالَ فَقَلَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَحَزَّ الْقَفَا فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } فَنُودِيَ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فَإِذَا الْكَبْشُ فَأَخَذَهُ وَذَبَحَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِهِ يُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي } وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ { أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَّ السِّكِّينَ فَانْثَنَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ اطْعَنْ بِهَا طَعْنًا فَطَعَنَ بِهَا فَانْقَلَبَتْ فَنُودِيَ حِينَئِذٍ } ، ثُمَّ عَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ ( مَعَ أَنَّهُ ) أَيْ الذَّبْحَ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي ( حِينَئِذٍ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ ) لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى حَقِيقَةِ الذَّبْحِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الْحَلْقِ عَلَى وَجْهٍ تَبْطُلُ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُجَوِّزُونَهُ ( ثُمَّ هُوَ ) أَيْ هَذَا الْمَنْعُ ( نَسْخٌ ) لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الذَّبْحُ ( أَيْضًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ ) مِنْهُ وَإِلَّا أَثِمَ بِتَرْكِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ أَنْ لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِحَقِيقَةِ الذَّبْحِ مَوْجُودًا حَالَةَ قِيَامِ هَذَا الْمَانِعِ بِحَلْقِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ زَالَ التَّكْلِيفُ بِحَقِيقَةِ الذَّبْحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْمَانِعِ الْمَذْكُورِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَانِعَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ أَنْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ، نَعَمْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْقَائِلَ بِالنَّسْخِ لَا يَقُولُ نُسِخَ بِالْمَانِعِ الْمَذْكُورِ بَلْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَإِنَّمَا
يُذْكَرُ الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ فَيَكُونُ النَّسْخُ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ بِالْمَانِعِ لَا بِنَفْسِ الْمَانِعِ ( وَلِلْحَنَفِيَّةِ ) فِي جَوَابِهِمْ ( مُنِعَ النَّسْخُ وَالتَّرْكُ ) لِلْمَأْمُورِ بِهِ ( لِلْفِدَاءِ ) أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ( وَهُوَ ) أَيْ الْفِدَاءُ ( مَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي تَلَقِّي الْمَكْرُوهِ ) الْمُتَوَجِّهِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ فَدَتْكَ نَفْسِي أَيْ قَبِلَتْ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْك مِنْ الْمَكْرُوهِ .
وَحَاصِلُ مَا لَهُمْ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ ، وَالْوَلَدُ وَنَحْوُهُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ فَهُوَ مَحَلُّ مَحَلِّ الْحُكْمِ وَمَحَلُّ الْحُكْمِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ فَضْلًا عَنْ مَحَلِّ مَحَلِّهِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِرَفْعِهِ لَا بِإِبْدَالِ مَحَلِّهِ بَلْ الْإِبْدَالُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّهُ جُعِلَ مَحَلَّهُ فِدَاءً عِوَضًا عَنْ ذَاكَ فَإِذَنْ كَمَا قَالَ ( فَلَوْ ارْتَفَعَ ) وُجُوبُ ذَبْحِ الْوَلَدِ ( لَمْ يُفِدْ ) أَيْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، وَلَمْ يُسَمَّ فِدَاءً لَهُ ، وَالتَّالِي مُنْتَفٍ وَنَظِيرُهُ بَقَاءُ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِثْمُ ( وَمَا قِيلَ ) مِنْ الْإِيرَادِ عَلَى هَذَا ( الْأَمْرِ بِذَبْحِهِ ) أَيْ الْفِدَاءِ ( بَدَلًا هُوَ النَّسْخُ ) يَعْنِي جَعْلَ وُجُوبِ ذَبْحِ الْفِدَاءِ بَدَلًا عَنْ وُجُوبِ ذَبْحِ الْوَلَدِ وَهَذَا نَسْخٌ ظَاهِرٌ فَجَوَابُهُ هَذَا ( مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِهِ ) أَيْ ثُبُوتِ رَفْعِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ وَإِثْبَاتِ وُجُوبٍ آخَرَ لِذَبْحِ الْكَبْشِ ( وَهُوَ ) أَيْ ثُبُوتُ هَذَا ( مُنْتَفٍ ) وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ إبْدَالِ الْمَحَلِّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إنْ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِبْدَالِ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّا
نَمْنَعُهُ بَلْ الْإِبْدَالُ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعَ إيجَابٍ آخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَإِذَا جَازَ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ مَعَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ لَا يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ وَكُلُّ اعْتِبَارٍ كَذَلِكَ يَتَرَجَّحُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ .
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِي التَّلْوِيحِ فَإِنْ .
قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْخَلَفَ قَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ اسْتَلْزَمَ حُرْمَةَ الْأَصْلِ أَعْنِي ذَبْحَ الْوَلَدِ وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُوبِهِ نَسْخٌ لَا مَحَالَةَ فَجَوَابُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ نَسْخًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حُرْمَةَ ذَبْحِ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ فَزَالَتْ بِالْوُجُوبِ ، ثُمَّ عَادَتْ بِقِيَامِ الشَّاةِ مَقَامَ الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ حُكْمُهَا شَرْعِيًّا حَتَّى يَكُونَ ثُبُوتُهَا نَسْخًا لِلْوُجُوبِ انْتَهَى .
قُلْت وَهَذَا عَلَى مِنْوَالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَيْسَ نَسْخًا إمَّا عَلَى أَنَّهُ نَسْخٌ كَمَا الْتَزَمَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إذْ لَا إبَاحَةَ وَلَا تَحْرِيمَ قَطُّ إلَّا بِشَرْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا يَكُونُ رَفْعُ الْحُرْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخًا ، ثُمَّ إذَا كَانَ رَفْعُهَا نَسْخًا يَكُونُ ثُبُوتُهَا بَعْدَ رَفْعِهَا نَسْخًا أَيْضًا فَيَبْقَى الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ مُحْتَاجًا إلَى الْجَوَابِ فَلْيُتَأَمَّلْ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الذَّبِيحِ قَالَ أَبُو الرَّبِيعُ الطُّوفِيُّ فَالْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ الْقَوْلَانِ انْتَهَى وَيُعَكِّرُهُ مَا فِي الْكَشَّافِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَعَزَى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثُ الْأَوَّلَ إلَى مُجَاهِدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَالثَّانِي إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ
وَقَتَادَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ وَهَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَذَكَرَ كَوْنَهُ إِسْحَاقَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَكَوْنُهُ إسْمَاعِيلَ عَنْهُمْ النَّوَوِيُّ وَصَحَّحَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَزَادَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ تَلَقَّاهُ مِمَّا حَرَّفَهُ النَّقَلَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتَهَى .
وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ أَنَّهُ أَثْبَتُ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ وَهُوَ كَذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ فِي مَسْأَلَةِ يَجُوزُ بِأَثْقَلَ ، وَالْحُجَجُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ( قَالُوا ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ ( إنْ كَانَ ) أَيْ الْمَنْسُوخُ ( وَاجِبًا وَقْتَ الرَّفْعِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ بِالنَّقِيضَيْنِ فِي وَقْتٍ ) وَاحِدٍ وَتَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُحَالٌ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَقْتَ الرَّفْعِ ( فَلَا نَسْخَ ) لِعَدَمِ الرَّفْعِ ( أُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الثَّانِي ) وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَقْتَ الرَّفْعِ لِانْتِهَاءِ التَّكْلِيفِ بِهِ وَانْقِطَاعِهِ بِالنَّاسِخِ وَقْتَ وُرُودِهِ مُتَّصِلًا بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ فَيَكُونُ عَقِبَهَا بِالضَّرُورَةِ كَمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُكَلَّفٌ قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَنْقَطِعُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ بِالْمَوْتِ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ ( وَالْمَعْنَى رَفْعُ إيجَابِهِ ) أَيْ إيجَابِ الْمَنْسُوخِ ( حُكْمَهُ ) الثَّابِتَ لَهُ ( عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِهِ ) الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا ( لَوْلَاهُ ) أَيْ النَّاسِخُ ( وَهُوَ ) أَيْ رَفْعُ النَّاسِخِ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الْمَنْسُوخِ الْمُقَدَّرِ لَهُ ( مَمْنُوعُكُمْ ) أَيُّهَا الْمُعْتَزِلَةُ حَيْثُ قُلْتُمْ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَانِعٌ مِنْ نَسْخِهِ ( فَإِنْ أَجَزْتُمُوهُ ) أَيْ رَفْعَ النَّاسِخِ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ الْوَاجِبِ فِي الِاسْتِقْبَالِ ( وَلَمْ تُسَمُّوهُ نَسْخًا فَلَفْظِيَّةٌ ) أَيْ فَالْمُنَازَعَةُ لَفْظِيَّةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةِ الْوَجْهِ ( وَقَدْ
وَافَقْتُمْ ) عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ( وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ ) كَوْنُ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَانِعًا مِنْ نَسْخِهِ ( انْتَفَى النَّسْخُ ) مُطْلَقًا وَلَوْ بَعْدَ حُضُورِ زَمَنٍ مِنْ وَقْتِهِ يَسَعُ الْفِعْلَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِتَحَقُّقِهِ مَسَاغٌ إلَّا بَعْدَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أَوْ مَعَهُ وَتَقَدَّمَ انْتِفَاءُ تَحَقُّقِهِ فِيهِمَا .
( ثُمَّ اُسْتُبْعِدَ ) هَذَا ( عَنْهُمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ ( لِذَلِكَ الرَّفْعِ مِنْهُمْ ) أَيْ قَوْلِهِمْ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَازَ التَّأْخِيرُ ؛ لِأَنَّهُ مُوَسَّعٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنْ تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ النَّسْخِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا ( وَلِلتَّعَارُضِ ) فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ قَوْلِهِمْ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَقَوْلِهِمْ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ مَانِعٌ مِنْ نَسْخِهِ ( يَجِبُ نِسْبَةُ ذَاكَ ) الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنْهُمْ إلَيْهِمْ لِسَلَامَتِهِ عَنْ التَّعَارُضِ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَلَى عَدَمِ الْمُنَاقَضَةِ مَا أَمْكَنَ وَإِنَّمَا قُلْت فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فِي صُورَةِ مَا إذَا مَضَى زَمَنٌ مِنْ وَقْتِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا يَسَعُ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ ، وَلَمْ يُبَاشِرْهُ فَإِنَّ مُقْتَضَى تَمَكُّنِهِ مِنْ الْفِعْلِ يُجَوِّزُ النَّسْخَ وَمُقْتَضَى كَوْنِهِ لَمْ يَفْعَلْ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ بَاقٍ عَلَيْهِ فِي بَاقِي الْوَقْتِ يَمْنَعُ مِنْ النَّسْخِ وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ كُلُّ نَسْخٍ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ مِنْ وَقْتِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا وَقَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي شَرْحِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ إلَخْ عَلَى مَا كَانَتْ النُّسْخَةُ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( مَسْأَلَةٌ .
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِ فِعْلٍ لَا يَقْبَلُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ السُّقُوطَ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ وَالْعَدَمَ بِحَالٍ لِقِيَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ ( وَالشَّافِعِيَّةُ يَجُوزُ ) وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ ( وَهِيَ ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ( فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ) الْعَقْلِيَّيْنِ فَلَمَّا قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا يُمْنَعُ جَوَازُ نَسْخِهِمَا وَلَمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْأَشَاعِرَةُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا يَجُوزُ نَسْخُهُمَا عَقْلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ فِيهِمَا فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ ( وَلَا ) يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِ ( نَحْوِ : الصَّوْمُ عَلَيْكُمْ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا اتِّفَاقًا ) فَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ ( لِلنُّصُوصِيَّةِ ) عَلَى تَأْيِيدِ الْحُكْمِ بِذِكْرِهِ قَيْدًا لِلْحُكْمِ لَا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ ( وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِذَلِكَ ) التَّنْصِيصِ ( عَلَى رَأْيٍ ) فِي النَّصِّ وَهُوَ اللَّفْظُ الْمَسُوقُ لِلْمُرَادِ الظَّاهِرِ مِنْهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِيهِمْ فَإِنَّ أَبَدًا كَذَلِكَ هُنَا ( وَعَلَى ) رَأْيٍ ( آخَرَ ) فِيهِ وَهُوَ اللَّفْظُ الْمَسُوقُ لِمُرَادٍ ظَاهِرٍ مِنْهُ لَيْسَ بِمَدْلُولٍ وَضْعِيٍّ لَهُ كَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } كَمَا هُوَ قَوْلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَكُونُ عَدَمُ جَوَازِ النَّسْخِ فِي هَذَا ( لِلتَّأْكِيدِ ) فَإِنَّ الْأَبَدَ الِاسْتِمْرَارُ الدَّائِمُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَسُوقًا لَهُ هُنَا فَهُوَ مَدْلُولٌ وَضْعِيٌّ لَهُ وَإِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ تَحْقِيقِ الِاصْطِلَاحِ ) فِي التَّقْسِيمِ الثَّانِي مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الدَّلَالَةِ قُلْت وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَمْنَعُ كُلٌّ مِنْ النُّصُوصِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ جَوَازَ النَّسْخِ وَكَيْفَ يَمْنَعُ ، وَالنَّصُّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ
وَالتَّأْوِيلَ فَضْلًا عَنْ النَّسْخِ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَالتَّأْكِيدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَمْنَعُ احْتِمَالَهُمَا فَلَا يَمْنَعُ احْتِمَالَ النَّسْخِ أَيْضًا .
وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ احْتِمَالَهُ فَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ فَضْلًا عَنْ جَوَازِهِ نَعَمْ قَدْ يُقَالُ فِي وَجْهٍ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ هَذَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ الْحُكْمَ دَائِمًا ، وَالنَّسْخُ يُفِيدُ عَدَمَ دَوَامِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ ، ثُمَّ هُوَ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ مُوَافِقٌ لِلْبَدِيعِ لَكِنْ فِي شَرْحِهِ لِلشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ فِي الْأَحْكَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ جَوَازَ نَسْخِهِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ إذَا قَالَهُ إنْشَاءً يَجُوزُ نَسْخُهُ خِلَافًا لِابْنِ الْحَاجِبِ ( وَاخْتُلِفَ فِي ) حُكْمِ ( ذِي مُجَرَّدَ تَأْبِيدٍ قَيْدًا لِلْحُكْمِ ) كَ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا صَوْمُ رَمَضَانَ فَإِنَّ أَبَدًا نَصٌّ فِي ظَرْفِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ لَا لِلصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ ( لَا الْفِعْلَ كَصُومُوا أَبَدًا ) فَإِنَّ أَبَدًا ظَرْفٌ لِلصَّوْمِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ لَا لِإِيجَابِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَعْمَلُ بِمَادَّتِهِ لَا بِهَيْئَتِهِ وَدَلَالَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْهَيْئَةِ لَا بِالْمَادَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا هَذَا سَالِفًا ، ثُمَّ هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا إمَّا أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِهِ ، وَإِمَّا أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ جَوَازَ نَسْخِهِ عَنْ الْجُمْهُورِ ( أَوْ ) فِي حُكْمِ ذِي مُجَرَّدَ ( تَأْقِيتٍ قَبْلَ مُضِيِّهِ كَحُرْمَتِهِ عَامًّا ) حَالَ كَوْنِ حُرْمَتِهِ ( إنْشَاءً فَالْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ) مِنْهُمْ صَدْرُ الْإِسْلَامِ ( يَجُوزُ ) نَسْخُهُ .
( وَطَائِفَةٌ كَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي مَنْصُورٍ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ
وَالسَّرَخْسِيِّ ) وَأَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ ( يَمْتَنِعُ ) نَسْخُهُ ( لِلُزُومِ الْكَذِبِ ) فِي الْأَوَّلِ لِلتَّنَاقُضِ ( أَوْ الْبَدَاءِ ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ عَلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ ( وَهُوَ ) أَيْ اللُّزُومُ الْمَذْكُورُ هُوَ ( الْمَانِعُ ) مِنْ النَّسْخِ ( فِي الْمُتَّفَقِ ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِهِ مِنْ نَحْوِ مُسْتَمِرٍّ أَبَدًا فَكَذَا يَكُونُ مَانِعًا فِي هَذَا الْمُخْتَلِفِ فِي جَوَازِ نَسْخِهِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمُجَوِّزُونَ لِلنَّسْخِ فِي الْأَوَّلِ أَبَدًا ( ظَاهِرٌ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ ) الْمُسْتَقْبَلَةِ ( فَجَازَ تَخْصِيصُهُ ) بِوَقْتٍ مِنْهَا دُونَ وَقْتٍ كَمَا هُوَ حُكْمُ سَائِرِ الظَّوَاهِرِ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْأَزْمَانِ كَالتَّخْصِيصِ فِي الْأَعْيَانِ ( قُلْنَا نَعَمْ ) يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ( إذَا اقْتَرَنَ ) الْمَخْصُوصُ ( بِدَلِيلِهِ ) أَيْ التَّخْصِيصِ ( فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ اقْتِرَانِهِ بِدَلِيلِ التَّخْصِيصِ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ التَّأْبِيدَ فِي الْمُخْتَلِفِ فِيهِ ( مُبَالَغَةٌ ) فِي إرَادَةِ الزَّمَنِ الطَّوِيلِ مَجَازًا إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ الْمُفِيدُ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا ( أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ ) أَيْ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُهُ ( الثَّابِتُ ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( فَذَلِكَ اللَّازِمُ ) أَيْ فَإِرَادَةُ تَخْصِيصِهِ بِالْبَعْضِ يَلْزَمُهُ لُزُومُ الْكَذِبِ ( وَحَاصِلُهُ حِينَئِذٍ ) أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ ( يَرْجِعُ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ ) لِلْعَامِّ الْمَخْصُوصِ ( وَتَقَدَّمَ ) ذَلِكَ فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ ( وَالْحَقُّ أَنَّ لُزُومَ الْكَذِبِ ) إنَّمَا هُوَ ( فِي الْإِخْبَارِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْبِيدِ كَمَاضٍ ) أَيْ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي التَّقْسِيمِ الْمُشَارِ إلَيْهِ آنِفًا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَأْبِيدِ الْحُكْمِ تَأْبِيدُهُ مَا دَامَتْ دَارُ التَّكْلِيفِ فَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَأْبِيدٌ لَا تَأْقِيتٌ قُلْت غَيْرَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ
يَقُولَ : إذَا كَانَ مَنْعُ النَّسْخَ فِي نَحْوِ هَذَا الْأَجَلِ لُزُومُ الْكَذِبِ عَلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ فَهُوَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ التَّأْبِيدِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَيَّدُ بِالتَّأْبِيدِ وَعَدَمُهُ ( فَلِذَا ) أَيْ لُزُومِ الْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِهِ .
( اتَّفَقَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِهِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْخِلَافُ ) إنَّمَا هُوَ ( فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَرْعِيٍّ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِالتَّأْبِيدِ إذَا كَانَ ( مِمَّا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ كَكُفْرِ زَيْدٍ ) وَإِيمَانِهِ أَيْ كَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ بِالْآخَرِ فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ وِفَاقًا لِأَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَاضِيًا أَوْ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ وَهُوَ الْحَقُّ وَفِي شَرْحِ عَضُدِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّانِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ يَجُوزُ مُطْلَقًا وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ إلَى الْمُعَظَّمِ وَآخَرُونَ مِنْهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ إنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا جَازَ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا ( بِخِلَافِ حُدُوثِ الْعَالَمِ ) أَيْ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا يَتَبَدَّلُ قَطْعًا لِعَدَمِ إمْكَانِ احْتِمَالِهِ لِلتَّبْدِيلِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ كَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ فَإِنَّ اتِّصَافَ الْعَالَمِ بِالْحُدُوثِ لَا يَتَبَدَّلُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْقِدَمُ قَطْعًا هَذَا ( وَلَازِمُ تَرَاخِي الْمُخَصَّصِ مِنْ التَّعْرِيضِ عَلَى الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الْمَشْرُوعِ ) كَمَا سَلَفَ بَيَانُهُ فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ ( غَيْرُ لَازِمٍ هُنَا ) أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْإِخْبَارِ لِمَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ الْمُقَيَّدَ بِالتَّأْبِيدِ ( بَلْ غَايَتُهُ ) أَيْ جَوَازِ نَسْخِ هَذَا
أَنَّهُ يَلْزَمُ ( اعْتِقَادُ أَنَّهُ ) أَيْ حُكْمَ الْإِخْبَارِ ( لَا يُرْفَعُ ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَمَلًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذْ الْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ غَيْبٌ لَا يُوقِفُ عَنْ الْعَمَلِ ( وَهُوَ ) اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُرْفَعُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ( غَيْرُ ضَائِرٍ ) فِي الْعَمَلِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَلَا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ إذَا ظَهَرَ الرَّافِعُ لَهُ لِوُجُودِ الْمُزِيلِ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِقْبَالِ ( فَالْوَجْهُ الْجَوَازُ ) لِنَسْخِ الْحُكْمِ الْإِنْشَائِيِّ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ ( كَصُمْ غَدًا ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَهُ ) أَيْ الْغَدِ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ جَوَازَ نَسْخِهِ ( اتِّفَاقٌ ) ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ الْتِزَامًا فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ ، ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ جَوَازِ نَسْخِ صُمْ غَدًا قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ صُمْ أَبَدًا عُسْرٌ .
( وَمَا قِيلَ ) وَقَائِلُهُ عَضُدُ الدِّينِ ( لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ فِعْلٍ مُقَيَّدٍ بِالْأَبَدِ وَعَدَمِ أَبَدِيَّةِ التَّكْلِيفِ ) بِالْفِعْلِ أَيْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ أَبَدِيًّا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ إيجَابُهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الدَّوَامِ إنَّمَا يُنَاقِضُهُ عَدَمُ إيجَابِ الدَّوَامِ لَا عَدَمُ دَوَامِ الْإِيجَابِ ( بَعْدَ مَا قَرَّرَ ) هَذَا الْقَائِلُ ( فِي النِّزَاعِ مِنْ أَنَّهُ ) أَيْ النِّزَاعَ ( عَلَى جَعْلِهِ ) أَيْ التَّأْبِيدِ ( قَيْدًا لِلْحُكْمِ مَعْنَاهُ بِالنَّسْخِ يَظْهَرُ خِلَافُهُ ) أَيْ أَنَّ التَّأْبِيدَ لَيْسَ قَيْدًا لِلْحُكْمِ ( وَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ يَكُونُ الْمُرَادُ هَذَا ( أَنْ لَا يَجْعَلَ ) مَا التَّأْبِيدُ فِيهِ قَيْدًا لِلْحُكْمِ ( النِّزَاعُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ) الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْمُرَادُ ( بَلْ هُوَ ) أَيْ النِّزَاعُ ( مَا ) أَيْ التَّأْبِيدُ الَّذِي ( هُوَ ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ الْحُكْمِ ) لَا الَّذِي هُوَ نَصٌّ فِيهِ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ
يَكُنْ النِّزَاعُ فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ بَلْ فِيمَا هُوَ نَصٌّ فِيهِ ( فَالْجَوَابُ ) بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ فِعْلٍ إلَخْ ( عَلَى خِلَافِ الْمَفْرُوضِ ) وَهُوَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ ( وَحِينَئِذٍ فَقَدْ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ ) لِنَسْخِهِ بَلْ وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ نَسْخُ مِثْلِ صُومُوا أَبَدًا يَجُوزُ نَسْخُ وَاجِبٍ مُسْتَمِرًّا أَبَدًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا غَيْرَ أَنَّ عَضُدَ الدِّينِ الْقَائِلِ : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ فِعْلٍ إلَخْ لَمْ يَجْعَلْ النِّزَاعَ فِي الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ بَلْ فِي الْفِعْلِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ فَإِنَّهُ قَالَ الْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِالتَّأْبِيدِ إنْ كَانَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا فِي الْفِعْلِ مِثْلُ صُومُوا أَبَدًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِهِ وَإِنْ كَانَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا لِلْوُجُوبِ وَبَيَانًا لِمُدَّةِ بَقَاءِ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَإِنْ كَانَ نَصًّا مِثْلَ الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا لَمْ يُقْبَلْ خِلَافُهُ وَإِلَّا قُبِلَ وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ انْتَهَى .
نَعَمْ أُورِدَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصِحُّ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ إلَى كَوْنِهِ قَيْدًا لِلْفِعْلِ وَقَيْدًا لِلْوُجُوبِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الْإِيجَابُ وَهُوَ غَيْرُ الْوُجُوبِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ التَّفْتَازَانِيُّ حَيْثُ قَالَ : أَيْ الْمُشْتَمِلُ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يُفِيدُ تَأْبِيدَ الْوَاجِبِ أَوْ الْوُجُوبِ هَذَا وَفِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَلَا طَائِلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ إذْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحْكَامِ حُكْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ قَدْ نُسِخَ شَرْعِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ ( الْجُمْهُورُ لَا يَجْرِي ) النَّسْخُ ( فِي الْأَخْبَارِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً ( لِأَنَّهُ ) أَيْ النَّسْخَ فِيهَا هُوَ ( الْكَذِبُ ) وَالشَّارِعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَالْحَقُّ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي فِي وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ بَلْ فِي جَائِزَاتِهَا وَتَحَقُّقِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَالْخُلْفُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالنَّسْخُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ فَلَا يَجُوزُ ( وَقِيلَ نَعَمْ ) يَجْرِي فِيهَا مُطْلَقًا أَيْ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً وَعْدًا وَوَعِيدًا وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ إذَا كَانَ مَدْلُولُهَا مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ وَعَزَاهُ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ إلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إذَا كَانَ مَدْلُولُهُ مُتَكَرِّرًا وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ عَامًّا كَمَا لَوْ قَالَ : عَمَّرْت زَيْدًا أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ تِسْعَمِائَةٍ أَوْ لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا ، ثُمَّ قَالَ أَرَدْت أَلْفَ سَنَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَدْلُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرًا نَحْوَ أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا ، ثُمَّ قَالَ مَا أَهْلَكَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ إعْدَامِهِ وَبَقَائِهِ جَمِيعًا كَانَ تَنَاقُضًا وَمِنْهُمْ كَالْبَيْضَاوِيِّ مَنْ مَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } إنَّ لَك أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ الصِّلَةَ مُضَارِعٌ فَيَتَعَلَّقُ الْمِحْوَرُ بِمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ وَالْإِخْبَارُ يَتْبَعُهُ وَأَيْضًا الْوُجُودُ الْمُحَقَّقُ فِي الْمَاضِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ قِيلَ ؛ وَلِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الْمَفْهُومُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ أَجْلِهِ قَالَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ
وَيُسَمَّى مِنْ لَا يَفِي بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ { إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ } كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْإِخْلَافُ كَذِبًا دَخَلَ تَحْتَ { وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ } وَالْأَوْجَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ وَالْكَرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَعَلِّقَ بِالِاسْتِقْبَالِ كَ سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ يَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ وَالْإِخْلَافُ أَيْضًا كَذِبٌ وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ خَصَّصَهُ بِالذِّكْرِ ، وَتَخْصِيصُهُ بِاسْمٍ آخَرَ لَا يُنَافِيهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى ، ثُمَّ تَقُولُ إذَا لَمْ يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ لَا يَكُونُ خَبَرًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ ، ثُمَّ مِنْهُمْ كَابْنِ السَّمْعَانِيِّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الْوَعْدِ ؛ لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَى اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ وَجَوَّزَهُ فِي الْوَعِيدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ خُلْفًا بَلْ عَفْوًا وَكَرَمًا وَعِبَارَةُ الْخَطَّابِيِّ : النَّسْخُ يَجْرِي فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ إذْ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الشَّرْطِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ ابْنُ عُمَرَ النَّسْخَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فَإِنَّهُ نَسَخَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ حَدِيثِ النَّفْسِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّخْفِيفِ وَالْعَفْوِ عَنْ عِبَادِهِ وَهُوَ كَرْمٌ وَفَضْلٌ وَلَيْسَ بِخُلْفٍ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَوَاءٌ فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا ، ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَهُ بِالْحُرْمَةِ بِنَسْخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا مُؤَبَّدًا لَا يُنْسَخُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ كَإِخْبَارِهِ
أَنَّهُ يُدْخِلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَيُدْخِلُ الْكُفَّارَ النَّارَ فَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ فِي الْوَعِيدِ ؛ لِأَنَّهُ كَرْمٌ لَا فِي الْوَعْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَ ، وَكَذَا إذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِأَنَّهُ يُولَدُ لِفُلَانٍ وَلَدٌ يَوْمَ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ إذْ خِلَافُهُ كَذِبٌ فَلَا يَجُوزُ فِي وَصْفِ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ عَنْهُ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْخَبَرُ الْوَارِدُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِبَادَةُ بِاعْتِقَادِ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا التَّعَبُّدُ فِيهِ بِغَيْرِ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَإِنْ أُمِرْنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ تِلَاوَتِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ فَيُنْسَى كَمَا نُسِخَ تِلَاوَةُ سَائِرِ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ ، ثُمَّ قَدْ عُرِفَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَمَّا إذَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } جَازَ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَلْ الْخِلَافُ يَجْرِي فِيهِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ ، وَجَوَازُ نَسْخِهِ مَعْزُوٌّ إلَى الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِلدَّقَّاقِ وَلَا وَجْهَ ظَاهِرٌ لَهُ قِيلَ : إلَّا أَنْ يُقَالَ لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ سَاقِطٌ هَذَا وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ فَإِنْ قُلْنَا رَفْعٌ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْخَبَرِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاسِخُ الرَّافِعُ لِبَعْضِ مَدْلُولِهِ كَاذِبًا ضَرُورَةً أَنَّهُ صَادِقٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ وَإِنْ قُلْنَا بَيَانُ الْمُرَادِ اُتُّجِهَ أَنْ يُقَالَ : الْخِطَابُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا ظَاهِرًا لَكِنَّهُ غَيْرُ
مُرَادٍ مِنْ اللَّفْظِ فَلَمْ يُفْضِ نَسْخُ الْخَبَرِ حِينَئِذٍ إلَى الْكَذِبِ وَهُوَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ ( وَعَلَى قَوْلِهِمْ ) أَيْ الْمُجَوِّزِينَ لِنَسْخِ الْأَخْبَارِ ( يَجِبُ إسْقَاطٌ شَرْعِيٌّ مِنْ التَّعْرِيفِ ) لِيَشْمَلَ نَسْخَ الْأَخْبَارِ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَغَيْرِهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ جَامِعًا لَكِنْ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُجَوِّزِينَ لِنَسْخِ الْخَبَرِ أَنَّ لَفْظَ شَرْعِيٍّ الَّذِي يَجِبُ إسْقَاطُهُ هُوَ وَصْفُ الْمَنْسُوخِ لَا النَّاسِخِ وَشَرْعِيٌّ الْمَذْكُورُ فِي التَّعْرِيفِ السَّابِقِ وَصْفُ النَّاسِخِ وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ صَدْرِ تَعْرِيفِهِ رَفْعَ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَخْ ، ثُمَّ تَحَرَّرَ عِنْدَهُ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَقَعْ التَّنَبُّهُ لِهَذَا فَتَنَبَّهْ لَهُ .
( وَالْجَوَابُ ) لَمَّا نَفَى نَسْخَهُ عَنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّ مَعْنَى { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ } ( يَنْسَخُ بِمَا يَسْتَصْوِبُهُ ) وَالْوَجْهُ حَذْفُ الْبَاءِ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ يَنْسَخُ بِمَا يَسْتَصْوِبُ نَسْخَهُ وَيُثْبِتُ بَدَلَهُ مَا يَقْتَضِي حِكْمَتُهُ إثْبَاتَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ ( أَوْ ) يَمْحُو ( مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ ) مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكِتْبَةِ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ ( وَغَيْرُهُ ) مِنْ الْأَقْوَالِ كَيَمْحُو سَيِّئَاتِ التَّائِبِ وَيُثْبِتُ الْحَسَنَاتِ مَكَانَهَا وَيَمْحُو قَرْنًا وَيُثْبِتُ آخَرِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى { إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى } مِنْ الْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقِ لَا النَّسْخِ ) كَذَا فِي الْمِيزَانِ ( وَأَمَّا نَسْخُ إيجَابِ الْأَخْبَارِ ) عَنْ شَيْءٍ ( بِالْأَخْبَارِ ) أَيْ بِإِيجَابِ الْأَخْبَارِ ( عَنْ نَقِيضِهِ فَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِاسْتِلْزَامِهِ ) أَيْ النَّسْخِ الشَّيْءَ ( الْقَبِيحَ كَذِبَ أَحَدُهُمَا ) أَيْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ( بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ ) بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ( وَيَجِبُ لِلْحَنَفِيَّةِ مِثْلُهُ ) أَيْ مَنْعَ ذَلِكَ أَيْضًا لِقَوْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الْعَقْلِ بِذَلِكَ
كَمَا تَقَدَّمَ ( إلَّا إنْ تَغَيَّرَ الْأَوَّلُ ) عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ أَوَّلًا ( إلَيْهِ ) أَيْ الْوَصْفِ الَّذِي كُلِّفَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ ثَانِيًا لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ حِينَئِذٍ ( وَكَذَا الْمُعْتَزِلَةُ ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ السُّبْكِيُّ : فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَيَّرُ كَمَا إذَا قَالَ كَلَّفْتُكُمْ بِأَنْ تُخْبِرُوا بِقِيَامِ زَيْدٍ ، ثُمَّ يَقُولُ كُلِّفْتُمْ بِأَنْ تُخْبِرُوا بِأَنَّ زَيْدًا لَيْسَ بِقَائِمٍ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ قَائِمًا وَقْتَ الْإِخْبَارِ بِقِيَامِهِ غَيْرَ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ قِيَامِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ كَكَوْنِ السَّمَاءِ فَوْقَ الْأَرْضِ مَثَلًا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَمَذْهَبُنَا الْجَوَازُ انْتَهَى .
وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ مُطْلَقًا الْمُخْتَارُ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ إنْ اتَّبَعَ الْمَصْلَحَةَ فَيَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا وَإِلَّا فَلَهُ الْحُكْمُ كَيْفَ شَاءَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ، ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ قَدْ كَانَ مُقْتَضَى التَّحْرِيرِ تَلْخِيصُ هَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَحَلُّ النَّسْخِ كَذَا وِفَاقًا وَخِلَافًا وَالْمُتَلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ النَّسْخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيُّ فَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ فِي نَفْسِهِ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، ثُمَّ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِتَأْبِيدٍ ، وَلَا بِتَأْقِيتٍ قَبْلَ مُضِيِّهِ خِلَافًا لِآخَرِينَ وَاخْتِصَارُهُ مَا حَسَّنَهُ أَوْ قَبَّحَهُ مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ غَيْرَ مُؤَدٍّ نَسْخُهُ إلَى جَهْلٍ وَلَا كَذِبٍ وَهَذَا الْقَيْدُ الْأَخِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي لُحُوقِ النَّسْخِ لِبَعْضٍ لِلنِّزَاعِ فِي أَنَّ لُحُوقَهُ مُؤَدٍّ إلَى ذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( مَسْأَلَةٌ قِيلَ ) وَقَائِلُهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ ( لَا يُنْسَخُ ) الْحُكْمُ ( بِلَا بَدَلٍ ) عَنْهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ ( فَإِنْ أُرِيدَ ) بِالْبَدَلِ بَدَلٌ ( وَلَوْ ) كَانَ ( بِإِبَاحَةٍ أَصْلِيَّةٍ ) أَيْ بِثُبُوتِهَا لِذَلِكَ الْفِعْلِ إذَا لَمْ يَسْتَمِرَّ تَعَلُّقُ الْمَنْسُوخِ بِهِ ( فَاتِّفَاقُ ) كَوْنِهِ لَا يَجُوزُ بِلَا بَدَلٍ بِهَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ عِبَادَهُ هَمْلًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّسَالَةِ وَلَيْسَ يُنْسَخُ فَرْضٌ أَبَدًا إلَّا أُثْبِت مَكَانَهُ فَرْضٌ كَمَا نُسِخَتْ قِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأُثْبِت مَكَانَهَا الْكَعْبَةُ انْتَهَى - أَرَادَ بِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهَا أَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ أَوْ مِنْ إبَاحَةٍ إلَى حَظْرٍ أَوْ تَخْيِيرٍ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْفُرُوضِ .
قَالَ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُنَاجَاةُ كَانَ يُنَاجِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ ثُمَّ أَزَالَ ذَلِكَ فَرَدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنْ شَاءُوا تَقَرَّبُوا بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ وَإِنْ شَاءُوا نَاجَوْهُ مِنْ غَيْرِ صَدَقَةٍ .
قَالَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ مَكَانَ فَرْضٍ فَتَفَهَّمْهُ انْتَهَى .
( أَوْ ) أُرِيدَ بِالْبَدَلِ بَدَلٌ ( مُفَادٌ بِدَلِيلِ النَّسْخِ ) فِي الْمَنْسُوخِ ( فَالْحَقُّ نَفْيُهُ ) أَيْ نَفْيُ هَذَا الْمُرَادِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْقَوْلَ بِهِ قَوْلٌ ( بِلَا مُوجِبٍ وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ كَنَسْخِ حُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ ) لِلنِّسَاءِ ( بَعْد الْفِطْرِ ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ أَيْ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ فِي هَذَا حُرْمَةُ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمَذْكُورُ لِلْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَوُجُوبُ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ أَيْ الْإِفْطَارُ ؛ لِأَنَّهُ اسْمُهُ وَالْإِمْسَاكُ بِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قُلْت وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ كَنَسْخِ حُرْمَةِ
الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثَةِ بِالنَّوْمِ بَعْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ أَوْ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ إذْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ { كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ هَلْ عِنْدَك مِنْ طَعَامٍ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ أَطْلُبُ لَك وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَك فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَكَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّوْا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إلَى الْقَابِلَةِ فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَلَمْ يُفْطِرْ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً فَقَالَ سُبْحَانَهُ { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } } نَعَمْ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْبَرَاءِ .
وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَاتِ الْبَرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ وَيَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ سَنَدِهِ وَبِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { إنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الصِّيَامِ مَا نَزَلَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَحِلُّ لَهُمْ شَأْنُ النِّسَاءِ فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْتِ أَهْلَهُ حَتَّى
يُفْطِرَ مِنْ الْقَابِلَةِ وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا نَامَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْكُو إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك الَّذِي أَصَبْت قَالَ وَمَا الَّذِي صَنَعْت قَالَ إنِّي سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَوَقَعْت عَلَى أَهْلِي بَعْدَ مَا نِمْتُ وَأَرَدْت الصِّيَامَ فَنَزَلَتْ { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ فَالْآنَ { بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } } وَبِمَا أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى الصِّيَامُ وَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلُوا وَلَا يَشْرَبُوا وَلَا يَنْكِحُوا بَعْدَ النَّوْمِ وَكُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يَفْعَلُونَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ إذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ حَتَّى الْقَابِلَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا { فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ } ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَإِنْ ثَبَتَتْ عِنْدَ نَسْخِ الْحُرْمَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْهَا نَفْسُ النَّاسِخِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } فَإِنْ قِيلَ بَلْ أَفَادَ هَذَا النَّاسِخُ الْإِبَاحَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ الْحِلُّ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ مِمَّا لَمْ يُفِدْ فِيهِ النَّاسِخُ بَدَلًا .
قُلْنَا الْحِلُّ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ بَعْضُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا بَعْضُ الْإِبَاحَةِ أَوْ بَعْضُ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَلَا يَسْتَقِلُّ حُكْمًا بَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } فَدَلِيلٌ آخَرُ أَفَادَ الْبَدَلَ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْقِسْمِ ( وَلَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ النَّاسِخِ لِحُكْمٍ بِبَدَلٍ مُفَادُهُ
بِغَيْرِ النَّاسِخِ ( نَاسِخُ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ ) فَوْقَ ثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْبَدَلِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَهَذِهِ إبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ هِيَ بَدَلٌ مَقْرُونٌ بِدَلِيلِ النَّسْخِ وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي تَمْثِيلِهِ لِوُقُوعِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ بِهَذَا ( وَجَازَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ الدَّلِيلُ ) النَّاسِخُ ( لِغَيْرِ الرَّفْعِ ) لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ( أَوْ ) أُرِيدَ بِالْبَدَلِ بَدَلٌ هُوَ حُكْمٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ( بِلَا ثُبُوتٍ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ) لِذَلِكَ الْفِعْلِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) ذَلِكَ الْحُكْمُ ( بِهِ ) أَيْ ثَابِتًا بِدَلِيلِ النَّسْخِ ( فَكَذَلِكَ ) أَيْ الْحَقُّ نَفْيُهُ ( لِذَلِكَ ) أَيْ لِأَنَّهُ بِلَا مُوجِبٍ لَهُ ( وَتَكُونُ ) الصِّفَةُ ( الثَّابِتَةُ ) لِلْفِعْلِ ( الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفَ مَا عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ( لَكِنْ لَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ النَّاسِخِ بِلَا ثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ( نَسْخُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ ) عِنْدَ إرَادَةِ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ) وَهُوَ نَدْبِيَّةُ الصَّدَقَةِ ( بِالْعَامِّ النَّادِبِ لِلصَّدَقَةِ ) كِتَابًا وَسُنَّةً ( بِثُبُوتِ إبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ بِبَاشِرُوهُنَّ ) وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِعَضُدِ الدِّينِ فِي تَمْثِيلِهِ لِوُقُوعِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ بِهَذَا ( قَالُوا ) أَيْ مَانِعُو النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( { مَا نَنْسَخْ } الْآيَةَ ) أَيْ { مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، وَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْمَأْتِيِّ بِهِ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ إلَّا إذَا كَانَ بَدَلًا مِنْهُ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ تَعْرِيفُ الْمِثْلَيْنِ وَهُوَ الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ يَسُدُّ
أَحَدُهُمَا مَسَدَ الْآخَرِ ( أُجِيبُ بِالْخَيْرِيَّةِ لَفْظًا عَلَى إرَادَةِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَ الْمُرَادِ الْخَيْرِيَّةُ لَفْظًا هُوَ ( الظَّاهِرُ ) ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلنَّظْمِ الْخَاصِّ وَمَدْلُولُ اللَّفْظِ قَدْ يَكُونُ لَفْظًا وَمَدْلُولُ الْآيَةِ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مُنْقَطِعٌ مَعْنًى مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا بَعْدَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إنْ نَنْسَخْ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ نَأْتِ بِلَفْظٍ آخَرَ خَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ لَفْظًا وَكَذَا الْخَيْرُ ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ إذَا نُسِخَ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلُهُ لَفْظٌ آخَرُ أَوْ لَمْ يَجُزْ بَلْ فِي أَنَّ الْحُكْمَ إذَا نُسِخَ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ أَوْ لَا وَهَذَا لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَيْهِ ( وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ حُكْمًا ( عَلَى التَّنَزُّلِ ) إلَيْهِ ( تَرْكُ الْبَدَلِ ) فَيُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَأْتِ بِحُكْمٍ خَيْرٍ مِنْهَا لَكِنَّهُ عَامٌّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَلَعَلَّهُ خُصِّصَ بِمَا نُسِخَ لَا إلَى بَدَلٍ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِهِ وَبَيْنَ الْآيَةِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ ( فَلَيْسَ ) بِذَاكَ ( إذْ لَيْسَ ) تَرْكُ الْبَدَلِ ( حُكْمًا شَرْعِيًّا وَصَرَّحَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مِنْ الْمُصَرِّحِينَ بِهِ الْأَبْهَرِيُّ ثُمَّ قَرَّرَ التَّنَزُّلَ إلَى هَذَا وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ ( وَتَجْوِيزُ التَّخْصِيصِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ ) أَيْ التَّخْصِيصِ قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي إنْ جَازَ تَخْصِيصُ الْإِتْيَانِ بِالْخَيْرِ بِمَا إذَا أُبْدِلَ لَا مُطْلَقًا لَكِنْ إنَّمَا يُفِيدُ وُقُوعَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِهِ لَا جَوَازِهِ ( وَالتَّنَزُّلُ ) كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ ( إلَى أَنَّهَا ) أَيْ الْآيَةَ ( لَا تُفِيدُ نَفْيَ الْوُقُوعِ ) لِلنَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ شَرْعًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ عَقْلًا (
وَالْخِلَافُ ) إنَّمَا هُوَ ( فِي الْجَوَازِ تَسْلِيمٌ لَهُمْ ) أَيْ لِلنَّافِينَ نَفْيَهُمْ الْجَوَازَ سَمْعًا ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَتُهُمْ ) أَيْ النَّافِينَ ( نَفْيَهُ ) أَيْ الْوُقُوعِ ( سَمْعًا لَا عَقْلًا بِاسْتِدْلَالِهِمْ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِلَا بَدَلٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ فَيَكُونُ مُحَالًا عَقْلِيًّا وَإِذَا لَمْ يُحِيلُوهُ عَقْلًا كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ فِي الْعَقْلِ فَإِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ وَالْفَرْضُ جَوَازُهُ عَقْلًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى قَوْلِهِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَقَعُ النَّسْخُ بِلَا بَدَلٍ لِلسَّمْعِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَالنَّظَرُ إلَى اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ بِنَحْوِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يُفِيدُ مَا قُلْنَا وَنَسَبْنَاهُ إلَيْهِمْ .
( مَسْأَلَةٌ ) يَجُوزُ اتِّفَاقًا نَسْخُ التَّكْلِيفِ بِتَكْلِيفٍ أَخَفَّ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ النَّوْمِ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ وَبِتَكْلِيفٍ مُسَاوٍ كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهَلْ يَجُوزُ بِتَكْلِيفٍ أَثْقَلَ قَالَ ( الْجُمْهُورُ يَجُوزُ بِأَثْقَلَ وَنَفَاهُ ) أَيْ جَوَازَهُ بِأَثْقَلَ ( شُذُوذُ ) بَعْضِهِمْ عَقْلًا وَبَعْضُهُمْ سَمْعًا وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دَاوُد ( لَنَا أَنْ اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ وُجُوبًا أَوْ تَفَضُّلًا ) فِي التَّكْلِيفِ ( فَلَعَلَّهَا ) أَيْ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي النَّسْخِ بِأَثْقَلَ كَمَا يَنْقُلُهُ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى السَّقَمِ وَمِنْ الشَّبَابِ إلَى الْهَرَمِ ( وَإِلَّا ) إنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ ( فَأَظْهَرُ ) أَيْ فَالْجَوَازُ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يَحْكُمَ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلَ مَا يُرِيدُ ( وَيَلْزَمُ ) مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْأَثْقَلِ لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ ( نَفْيُ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ ) فَإِنَّهُ نَقْلٌ مِنْ سَعَةِ الْإِبَاحَةِ إلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا الْتَزَمُوا الْمَشَقَّةَ الزَّائِدَةَ وَإِنْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ اسْتَضَرُّوا بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا قَائِلَ بِعَدَمِ جَوَازِ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ قَالَ الْقَاضِي وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَقَّبَهُ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ الْقَاعِدَةِ لَا يَرُدُّ نَقْضًا .
( وَوَقَعَ ) النَّسْخُ بِأَثْقَلَ ( بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ ) أَيْ صَوْمِ رَمَضَانَ لِلْمُكَلَّفِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسَافِرٍ ( بَعْدَ التَّخْيِيرِ ) لِلْمُكَلَّفِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ( بَيْنَهُ ) أَيْ الصَّوْمِ ( وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ ) عَنْ كُلِّ صَوْمِ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعِ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمُدَّ طَعَامٍ بُرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَدَّ بُرٍّ أَوْ مُدَّيْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فَإِنَّ
وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى التَّعْيِينِ أَشَقُّ مِنْ التَّخْيِيرِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ { لَمَّا نَزَلَتْ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا } ، وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا تَرَكَ الصِّيَامَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ } لَكِنْ يُعَارِضُهُمَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } وَلِبَعْضِ الرُّوَاةِ يُطَوَّقُونَهُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا .
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَالْأَوْلَى الْجَمْعُ وَإِنَّهَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ ثُمَّ خُصَّتْ بِالْعَاجِزِ انْتَهَى قُلْت وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْجَمْعِ بِشَيْءٍ فَإِنَّ مَنْطُوقَ اللَّفْظِ لَا يُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ مَفْهُومَيْ مَنْ يُطِيقُ وَمَنْ لَا يُطِيقُ فَلَا يَشْمَلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، بَلْ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا عَلَى مَا فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ مُفِيدَةً هَذِهِ الرُّخْصَةَ لِلْمُطِيقِينَ مَنْطُوقًا وَلِغَيْرِهِمْ مَفْهُومًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْطُوقِ دُونَ الْمَفْهُومِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَتَقِفُ عَلَى مَا فِيهَا وَإِنَّمَا قُلْت عَلَى مَا فِيهِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ لِلْمُطِيقِينَ شَرْعِيَّتُهَا لِغَيْرِهِمْ لَا بِطَرِيقِ أَوْلَى وَلَا بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ إذْ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ تَخْيِيرِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ تَخْيِيرُ الْعَاجِزِينَ عَنْ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ وَلَا تَعَيُّنُ لُزُومِ الْفِدْيَةِ لَهُمْ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ طَاقَتِهِمْ لَهُ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمْ الْفِدْيَةُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّوْمِ عَلَى الْمُطِيقِينَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ وَحَيْثُ انْتَفَتْ فِي الْعَاجِزِينَ انْتَفَى وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا .
وَمَشَى شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ عَلَى تَقْدِيمِ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ بَلْ مِنْ سَمَاعٍ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ فَجَعْلُهُ مَنْفِيًّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا لِسَمَاعٍ أَلْبَتَّةَ وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ حَرْفُ لَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ { تَاللَّهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أَيْ لَا تَفْتَؤُ ، وَفِيهِ : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } .
أَيْ لَا تَضِلُّوا ، { رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } .
وَقَالَ شَاعِر فَقُلْت يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي أَيْ لَا أَبْرَحُ وَقَالَ تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيت بِهَالِكٍ حَتَّى تَكُونَهْ أَيْ لَا تَنْفَكُّ وَرِوَايَةُ الْأَفْقَهِ أَوْلَى وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } لَيْسَ نَصًّا فِي نَسْخِ إجَازَةِ الِافْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ انْتَهَى ( قُلْت ) وَلِلْبَحْثِ فِي هَذَا مَجَالٌ أَيْضًا فَإِنَّ فِي الْآيَةِ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَخَمْسَ قِرَاءَاتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ الْقِرَاءَتَانِ السَّالِفَتَانِ وَيَتَطَوَّقُونَهُ وَيُطَوِّقُونَهُ وَيُطِيقُونَهُ ، وَلِلْكُلِّ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لَا مَعَ جَهْدٍ وَعُسْرٍ وَعِبَارَةُ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ أَيْ يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّوْمِ بِأَنْ لَا يَكُونُوا مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ .
ثَانِيهِمَا : فِي الْمَجْهُولِ
يُكَلَّفُونَهُ عَلَى جَهْدٍ مِنْهُمْ وَمَشَقَّةٍ ، وَفِي الْمَعْلُومِ يَتَكَلَّفُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَخْذًا مِنْ الْكُلْفَةِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وَبُلُوغِ الْجَهْدِ وَالطَّاقَةِ ، فَالْآيَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَقْدِيرٍ لَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَقْدِيرُهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَعَمْ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ فِي قِرَاءَةِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ وَعَلَى الثَّانِي ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ النَّسْخِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلُّ تَوَارُدِ قَوْلَيْ النَّسْخِ وَنَفْيِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ مَعَ تَقْدِيرِ لَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ قَوْلُ النَّسْخِ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِ نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّسْخِ مُثْبِتٌ وَقَوْلُ نَافِيهِ نَافٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِيهِ وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ لَا لِاحْتِيَاجِ ثُبُوتِ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ إضْمَارِهَا بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمَاعٍ وَخُصُوصًا فِي السِّيَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِابْنِ الْأَكْوَعِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِعِلْمٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَيْهِ قَطْعًا .
وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } كَانَ نَصًّا عِنْدَهُمْ فِي إفَادَةِ النَّسْخِ بِقَرَائِنَ اخْتَفَتْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي " خَيْرٌ " لَيْسَ هَذَا لِلتَّفْضِيلِ بَلْ مَعْنَاهُ وَفِي الصَّوْمِ خَيْرَاتٌ لَكُمْ وَمَنَافِعُ دِينًا وَدُنْيَا مَعَ أَنَّ كَوْنَهُ نَاسِخًا لِلِافْتِدَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ نَصًّا فِي تَعْيِينِ الصَّوْمِ بَلْ الظُّهُورُ فِيهِ كَافٍ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ، وَكَوْنُ قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ فِي مُقَابَلَةِ ابْنِ الْأَكْوَعِ لَا فِي مُقَابَلَةِ ابْنِ عُمَرَ إذْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَلَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْ لَقِيَهُمْ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ السَّابِقُ عَلَى أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَلْقَمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى وَأَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا حَتَّى نَزَلَ { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ هَذَا ( وَالْوَجْهُ ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِلْحَنَفِيَّةِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ( لَيْسَ بِنَسْخٍ ) أَيْ بِمَنْسُوخٍ ( أَصْلًا عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي فِدَاءِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ) فَإِنَّ الْوُجُوبَ هُنَا لَمْ يَرْتَفِعْ كَمَا لَمْ يَرْتَفِعْ ثَمَّةَ .
لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - أَنْ يَقُولَ عَلَى ضِدِّ وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي فِدَاءِ الذَّبِيحِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِبَدَلِ مُتَعَلِّقِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمَا وَثَمَّةَ صَارَ الْوُجُوبُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِبَدَلِ مُتَعَلِّقِهِ قَطْعًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ إلَى مُتَعَلِّقِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ هُوَ لَا يَعْرَى عَنْ تَأَمُّلٍ .
نَعَمْ عَدَمُ نَسْخِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْعَاجِزِ مِنْ شَيْخٍ وَشَيْخَةٍ بِالْفِدْيَةِ ظَاهِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا ثَمَّةَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( وَرَجْمُ الزَّوَانِي ) إنْ كُنَّ مُحْصَنَاتٍ ( وَجَلْدُهُنَّ ) إنْ كُنَّ غَيْرَ مُحْصَنَاتٍ ( بَعْدَ
الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ ) فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { سَبِيلًا } قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ إلَى أَنْ نَزَلَتْ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } قَالَ فَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا بِالسُّنَّةِ فَهُوَ سَبِيلُهُنَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ وَلَا يَضُرُّ مَا فِيهِ لِتَضَافُرِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَالرَّجْمُ أَثْقَلُ مِنْ الْحَبْسِ ( قَالُوا ) أَيْ الشَّاذُّونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } ) وَالْأَثْقَلُ إلَى الْأَثْقَلِ لَيْسَ تَخْفِيفًا فَلَا يُرِيدُهُ تَعَالَى ( أُجِيبُ بِأَنَّ سِيَاقَهَا ) أَيْ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّخْفِيفِ ( فِي الْمَآلِ ) أَيْ الْمَعَادِ ( وَفِيهِ ) أَيْ الْمَآلِ ( يَكُونُ ) التَّخْفِيفُ ( بِالْأَثْقَلِ فِي الْحَالِ ، وَلَوْ سُلِّمَ ) الْعُمُومُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ( كَانَ ) الْعُمُومُ ( مَخْصُوصًا بِالْوُقُوعِ ) كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا كَمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِخُرُوجِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ الثَّقِيلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ وَأَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ مِمَّا هُوَ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقٍ وَلَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى .
( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّاذِّينَ ( بِنَاءٌ عَلَى مَا نَفَيْنَاهُ ) أَيْ عَلَى وِزَانِ مَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا لَيْسَ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا فِي الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَمْ يُحِيلُوهُ عَقْلًا حَيْثُ لَمْ يَذْكُرُوا مَا يُفِيدُهُ كَذَلِكَ بَلْ ذَكَرُوا مَا يُفِيدُهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا هُنَا وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْمُخَالِفُ عَقْلًا إلَى ذِكْرِ مُسْتَنَدٍ لَهُ يُفِيدُ دَعْوَاهُ وَلَوْ ظَاهِرًا وَهُوَ بَعِيدٌ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ .
( قَالُوا ) أَيْ الشَّاذُّونَ ثَانِيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } الْآيَةَ ) فَيَجِبُ الْأَخَفُّ لِأَنَّهُ الْخَيْرُ ، أَوْ الْمُسَاوِي لِأَنَّهُ الْمِثْلُ ، وَالْأَشَقُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ وَلَا مِثْلٍ ( أُجِيبُ بِخَيْرِيَّةِ الْأَثْقَلِ عَاقِبَةً ) أَيْ بِأَنَّ الْأَثْقَلَ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ إذْ لَعَلَّهُ فِيهِ أَكْثَرُ قَالَ تَعَالَى { لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ } الْآيَةَ { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ وَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِنَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِك } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَكَمَا يَقُولُ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ الْجُوعُ خَيْرٌ لَك ( أَوْ مَا تَقَدَّمَ ) مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الْخَيْرِيَّةُ لَفْظًا .
( مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ ) أَيْ الْقُرْآنِ ( كَآيَةِ عِدَّةِ الْحَوْلِ بِآيَةِ الْأَشْهُرِ ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ ( وَالْمُسَالَمَةِ ) كَنَسْخِ آيَاتِ الْمُسَالَمَةِ لِلْكُفَّارِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } ( بِالْقِتَالِ ) أَيْ بِآيَاتِهِ كَقَوْلِهِ { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } ( وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِمِثْلِهِ ) أَيْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ( وَ ) خَبَرُ ( الْآحَادِ بِمِثْلِهِ ) كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا وَعَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ } إلَخْ ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ مُخَرِّجًا وَأَسْلَفْت بَعْضَ سِيَاقِ مُسْلِمٍ وَتَمَامُهُ { وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَوْعِيَةِ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إلَخْ وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ( فَبِالْمُتَوَاتِرِ ) أَيْ فَجَوَازُ نَسْخِ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ ( أَوْلَى ) مِنْ جَوَازِ النَّسْخِ بِالْآحَادِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى ( وَأَمَّا قَلْبُهُ ) وَهُوَ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ( فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ كُلُّ مَانِعِي تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَأَكْثَرُ مُجِيزِيهِ ) أَيْ تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ( فَارِقِينَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ جَمْعٌ لَهُمَا ) أَيْ لِلْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ .
( وَالنَّسْخُ إبْطَالُ أَحَدِهِمَا ) الَّذِي هُوَ الْمُتَوَاتِرُ بِالْآحَادِ ( وَأَجَازَهُ ) أَيْ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ( بَعْضُهُمْ ) أَيْ بَعْضُ الْمُجِيزِينَ لِتَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ( لَنَا ) خَبَرُ الْآحَادِ ( لَا يُقَاوِمُهُ ) أَيْ الْمُتَوَاتِرَ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَخَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ ( فَلَا يُبْطِلُهُ ) خَبَرُ الْآحَادِ الْمُتَوَاتِرَ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُبْطِلُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمُجِيزُونَ ( وَقَعَ ) نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْآحَادِ ( إذْ ثَبَتَ
التَّوَجُّهُ ) لِأَهْلِ مَسْجِدِ قَبَاءَ ( إلَى الْبَيْتِ بَعْدَ الْقَطْعِيِّ ) الْمُفِيدِ لِتَوَجُّهِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَامٍ عَلَى خِلَافٍ فِي مِقْدَارِهِ ( الْآتِي لِأَهْلِ ) مَسْجِدِ ( قَبَاءَ ) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَقَدَّمَ سِيَاقُهُ ، وَقَوْلُ ابْنِ طَاهِرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَمَا لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ مِنْ التَّعَقُّبِ لَهُ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي ( وَلَمْ يُنْكِرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَهُ لَنُقِلَ وَلَمْ يُنْقَلْ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ { تَوِيلَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ قَالَتْ صَلَّيْنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ وَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إيلِيَاءَ فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلْنَا النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامِ فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنَى حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُولَئِكَ رِجَالٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ } ( وَبِأَنَّهُ ) أَيْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ لِلتَّبْلِيغِ ) لِلْأَحْكَامِ مُطْلَقًا أَيْ مُبْتَدَأَةً كَانَتْ أَوْ نَاسِخَةً لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَالْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ مُتَعَبَّدُونَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَحْكَامِ مَا يَنْسَخُ مُتَوَاتِرًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا الْفَرْقَ بَيْنَ مَا نَسَخَ مُتَوَاتِرًا وَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ( { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ } الْآيَةَ ) نُسِخَ مِنْهَا مَا يُفِيدُ حِلَّهُ مِنْ ذِي النَّابِ ( بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ ) مِنْ السِّبَاعِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا { كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } إذْ الْآيَةُ إنَّمَا تُفِيدُ تَحْرِيمَ مَا اُسْتُثْنِيَ فِيهَا وَذُو النَّابِ لَمْ
يُسْتَثْنَ فِيهَا فَكَانَ مُبَاحًا وَحَيْثُ حُرِّمَ فَإِنَّمَا حُرِّمَ بِالْحَدِيثِ وَإِذَا جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَبِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَجْدَرُ ( أُجِيبُ بِجَوَازِ اقْتِرَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ ) وَالْأَوَّلُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَرَائِنِ فِيهِ ظَاهِرٌ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ الْقَطْعِيِّ وَاجِبٌ ( وَجَعْلُهُ ) أَيْ الْمُقْتَرِنِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُفِيدِ لِقَطْعِهِ ( النِّدَاءَ ) أَيْ نِدَاءَ مُخْبِرِهِمْ بِذَلِكَ ( بِحَضْرَتِهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَمَا ذَكَرَ عَضُدُ الدِّينِ ( غَلَطٌ أَوْ تَسَاهُلٌ ) بِأَنْ يُرَادَ بِحَضْرَتِهِ وُجُودُهُ فِي مَكَان قَرِيبٍ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا صَنَعَ الْمُخْبِرُ كَالْوَاقِعِ بِحُضُورِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ التَّسَاهُلُ ( الثَّابِتُ ) لِبُعْدٍ لِمَنْ يُرَادُ نِدَاؤُهُ فِي مَجْلِسِهِ ( وَالثَّانِي ) وَهُوَ بَعْثُهُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ إنَّمَا يَتِمُّ ( إذَا ثَبَتَ إرْسَالُهُمْ ) أَيْ الْآحَادِ ( بِنَسْخِ ) حُكْمٍ ( قَطْعِيٍّ عِنْدَ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ ) ذَلِكَ بِثَابِتٍ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَهُ بِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْآحَادِ بِقَرَائِنِ الْحَالِ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ ( وَلَا أَجِدُ الْآنَ تَحْرِيمًا ) أَيْ وَمَعْنَى الْآيَةِ هَذَا ؛ لِأَنَّ أَجِدُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ لِلْحَالِ فَتَكُونُ إبَاحَةُ غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى مُؤَقَّتَةً بِوَقْتِ الْإِخْبَارِ بِهَا وَهُوَ الْآنَ لَا مُؤَبَّدَةً ( فَالثَّابِتُ ) فِيمَا عَدَاهُ فِيهَا عَدَمُ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِطَابُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( إبَاحَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَرَفْعُهَا ) أَيْ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِالتَّحْرِيمِ ( لَيْسَ نَسْخًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَفْعًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَالنَّسْخُ رَفْعٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا أَنَّ الثَّابِتَ إذْنٌ شَرْعِيٌّ فِي
الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ حَتَّى يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيَكُونَ رَفْعُهُ نَسْخًا قُلْت إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى الْقَائِلِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى جَوَابٍ غَيْرِ هَذَا وَلَعَلَّهُ أَنْ يُقَالَ وَحَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتِ الْإِخْبَارِ بِهَا فَالتَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ) عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَمُحَقَّقِي الشَّافِعِيَّةِ ( وَأَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ ) وَفِي الْقَوَاطِعِ وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ وَلَعَلَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلَوَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ انْتَهَى .
فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِفَرْضِهِ فَهُوَ الْمُزِيلُ الْمُثْبِتُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ وَهَكَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ سَنَّ فِيهِ غَيْرَ مَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا بِمَا يُخَالِفُهَا انْتَهَى .
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَنَسَبَهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ وَالْقَلَانِسِيِّ وَهُمْ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا وَقِيلَ نَفْيُ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ الصُّعْلُوكِيِّ وَأَبِي مَنْصُورٍ وَقِيلَ لَمْ يَمْنَعْ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ قَالَ السُّبْكِيُّ وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
فَمَعَهَا قُرْآنٌ عَاضِدٌ لَهَا يُبَيِّنُ تَوَافُقَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَمَعَهُ سُنَّةٌ عَاضِدَةٌ لَهُ تُبَيِّنُ تَوَافُقَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتَشْهَدَ لِهَذَا بِقَوْلِهِ فَإِنْ قَالَ هَلْ تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ لَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْآخِرَةِ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ ا هـ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( لَنَا لَا مَانِعَ ) عَقْلِيَّ وَلَا شَرْعِيَّ مِنْ ذَلِكَ ( وَوَقَعَ ) أَيْضًا وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ ( فَإِنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْقُدْس ) أَيْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ( لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَنُسِخَ ) التَّوَجُّهُ إلَيْهِ ( بِهِ ) أَيْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ( وَكَذَا حُرْمَةُ الْمُبَاشَرَةِ ) بَلْ الْمُفْطِرَاتُ الثَّلَاثَةُ بِالنَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ( وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ ) أَيْ كُلٍّ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ مَنْسُوخًا ( بِغَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الْقُرْآنِ ( مِنْ سُنَّةٍ أَوْ ) تَجْوِيزِ كَوْنِ ( الْأَصْلِ ) أَيْ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ ثَابِتًا ( بِتِلَاوَةٍ نُسِخَتْ وَذَلِكَ ) أَيْ النَّاسِخُ السُّنِّيُّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَالْمَنْسُوخُ الْقُرْآنِيُّ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي ( عَلَى الْمُوَافَقَةِ ) أَيْ الْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالثَّانِي مُوَافِقٌ لِنَصِّ السُّنَّةِ فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُوَافِقَ لِنَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ( احْتِمَالٌ بِلَا دَلِيلٍ ) فَلَا
يُسْمَعُ ( ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَتَعَيَّنْ نَاسِخٌ عُلِمَ تَأَخُّرُهُ ) لِنَسْخِ مَا تَقَدَّمَهُ ( مَا لَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا نَاسِخٌ ) لِكَذَا أَوْ نَحْوِهِ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ تَعَيُّنِ الْمَعْلُومِ تَأَخُّرُهُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ مَا لَمْ يَقُلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ( خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قَالُوا أَيْ الْمَانِعُونَ ) أَوَّلًا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } يَقْتَضِي أَنَّ شَأْنَهُ الْبَيَانُ لِلْأَحْكَامِ وَالنَّسْخُ رَفْعٌ لَا بَيَانٌ ( أُجِيبُ ) بِتَسْلِيمِ أَنَّ شَأْنَهُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِبَيَانٍ بَلْ ( وَالنَّسْخُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَانِعُونَ ثَانِيًا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ( يُوجِبُ التَّنْفِيرَ ) لِلنَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا لَمْ يَنْسَخْهُ وَحُصُولُ التَّنْفِيرِ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ وَهُوَ التَّأَسِّي بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَرَضِيٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ } ( أُجِيبُ ) بِمَنْعِ حُصُولِ النَّفْرَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ ( إذَا آمَنَّا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ ) عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ ( لَمْ يَلْزَمْ ) مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وُجُودُ النَّفْرَةِ إذْ الْجَمِيعُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى فَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَأَمَّا قَلْبُهُ ) وَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ( فَمَنَعَهُ ) الشَّافِعِيُّ ( قَوْلًا وَاحِدًا ) كَمَا رَأَيْت فَهُوَ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَطَعَ جَوَابَهُ بِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ
بِالسُّنَّةِ وَعَلِمْت تَأْوِيلَ السُّبْكِيّ ( وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ لِمَا تَقَدَّمَ ) مِنْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ مِنْ ذَلِكَ ( وَوُقُوعُهُ ) فَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } ) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالسُّنَنِ { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا لِعُمُومِهِ فِي نَفْيِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ( نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } ( وَالِاعْتِرَاضُ مُنْتَهَضٌ عَلَى الْوُقُوعِ ) أَيْ وُقُوعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَضْرَابِهِ ( بِأَنَّهَا آحَادٌ فَلَوْ صَحَّ ) نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهَا ( نُسِخَ بِهَا ) أَيْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ( الْقُرْآنُ ) وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقًا ( إلَّا أَنْ يُدَّعَى فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ( الشُّهْرَةُ فَيَجُوزُ ) النَّسْخُ بِهَا ( عَلَى ) اصْطِلَاحِ ( الْحَنَفِيَّةِ ) حَتَّى نَقَلَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمِثْلِ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِشُهْرَتِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ وَكَوْنُهَا مَشْهُورَةً فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهَا ( الْحَقُّ ) لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْمُتَوَاتِرِ إذْ الْمُتَوَاتِرُ نَوْعَانِ : مُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ وَمُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَإِنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي النَّاسَ عَنْ رِوَايَتِهِ وَهَذَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْعَمَلَ ظَهَرَ بِهِ مَعَ الْقَبُولِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِلَا تَنَازُعٍ فَيَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ وَقِيلَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَوَاتُرِ هَذَا وَنَحْوِهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ الْحَاكِمِينَ بِالنَّسْخِ لِقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَإِذْ قَالَ ) الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ ( لَمْ يُوجَدْ ) فِي كِتَابِ
اللَّهِ مَا نُسِخَ بِالسُّنَّةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ ( فَالْوَجْهُ ) فِي الِاسْتِدْلَالِ لِلْوُقُوعِ أَنْ يُقَالَ ( الْإِجْمَاعُ ) عَلَى الْحُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ ( دَلَّ عَلَى النَّاسِخِ ) لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ ( وَلَمْ يُوجَدْ ) النَّاسِخُ ( فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ سُنَّةٌ ) هَذَا مَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مِنْ مَشَايِخِنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَأَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَبِهِ يَظْهَرُ عَدَمُ تَمَامِ دَعْوَى الزَّجَّاجِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْوَصِيَّةِ نَسَخَتْهُ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ نَعَمْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْوَصِيَّةَ إلَى الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } .
ثُمَّ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } الْآيَةَ وَقَصْرُ الْإِيصَاءِ عَلَى حُدُودٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِجَهْلِ الْعِبَادِ وَعَجْزِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِهِ وَبِمَنْ هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْوَرَثَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَارَ بَيَانُ الْمَوَارِيثِ هُوَ الْإِيصَاءُ ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِذَلِكَ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَانْتَهَى حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَقْوَى الطَّرِيقَيْنِ كَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
نَعَمْ الْحَدِيثُ مُقَرِّرٌ لِنَسْخِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ
شَرْعِيَّةِ الْمِيرَاثِ حَيْثُ رَتَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ { فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } عَلَى قَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِهِ تُشْعِرُ بِسَبَبِيَّةِ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا كَمَا فِي زَارَنِي فَأَكْرَمْته وَدُفِعَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ هَذَا بِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا تَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَيَانُ أَنَّهُ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفِيَ وَصِيَّةَ الْمُوصِي وَلَا نَهَاهُ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَا يُنْسَخَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا لَا تَنْصِيصَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَسْخِهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ نَهْيٍ فَالْحُكْمُ بِنَسْخِهِ لِضَرُورَةِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَاهُنَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ تُصْرَفَ الْأُولَى إلَى ثُلُثِ الْمَالِ وَالثَّانِيَةُ إلَى الْبَاقِي كَمَا فِي الْأَجَانِبِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بَقِيَتْ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمْ بَعْدَ شَرْعِ الْمَوَارِيثِ فِي حَقِّ الْأَقَارِبِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } جَعَلَ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ فَدَلَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَخْرِيجُ الْآيَتَيْنِ عَلَى التَّوَافُقِ فَلَا يَجِبُ التَّخْرِيجُ عَلَى التَّنَاسُخِ انْتَهَى .
قُلْتُ يَعْنِي فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بَاقِيًا لَكِنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَعْضِ الْأَقْرَبِينَ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو
اللَّيْثِ الشَّيْءُ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِمَا يُضَادُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ تَضَادٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الدَّيْنُ وَالْمِيرَاثُ فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ لَوْلَا هَذَا الْخَبَرُ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ غَيْرَ أَنَّ السُّنَّةَ نَسَخَتْ جَوَازَهَا لِلْوَارِثِ مِنْهُمْ نَعَمْ يَبْقَى عَلَى هَذَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ آيَةَ الْوَصِيَّةِ آيَةُ الْمَوَارِيثِ وَأَجَابَ عَنْهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ بِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّسْخِ وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ انْتَهَى .
قُلْت وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهَا صَرِيحَةً فِي النَّسْخِ أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّ النَّسْخَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَانِعُونَ قَالَ تَعَالَى ( { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } الْآيَةَ ) أَيْ مِنْ الْقُرْآنِ ( وَلَا مِثْلًا ) لِلْقُرْآنِ ( وَنَأْتِ يُفِيدُ أَنَّهُ ) أَيْ الْآتِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلُهُ ( هُوَ تَعَالَى ) وَمَا يَأْتِي بِهِ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ ( أُجِيبُ بِمَا تَقَدَّمَ ) وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَالْمِثْلِيَّةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ( وَعَدَمُ تَفَاضُلِهِ ) أَيْ اللَّفْظِ ( بِالْخَيْرِيَّةِ أَيْ الْبَلَاغَةِ مَمْنُوعٌ ) إذْ فِي الْقُرْآنِ الْفَصِيحُ وَالْأَفْصَحُ وَالْبَلِيغُ وَالْأَبْلَغُ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَالْمِثْلِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ ( فَالْمُرَادُ بِخَيْرٍ مِنْ حُكْمِهَا ) لِلْمُكَلَّفِينَ أَوْ مُسَاوٍ لِحُكْمِهَا الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُكَلَّفِينَ ( وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ جَازَ كَوْنُهُ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ ) مِمَّا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ ( مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَالسُّنَّةُ
مُبَلِّغَةٌ وَوَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ بَاطِنٌ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ } فَلَا يَصِحُّ التَّشَبُّثُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَنْعِ أَيْضًا بَلْ وَفِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَعَكْسِهِ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ سُنَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ بَيَانَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ فِي الْأَصْلِ إلَيْهِ لِيُبَيِّنَّهُ بِعِبَارَتِهِ وَجَعَلَ لِعِبَارَتِهِ مِنْ الدَّرَجَةِ مَا يَثْبُتُ بِهِ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِهِ انْتِسَاخُهُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِثْلَ كَلَامِهِ وَتَوَلَّى بَيَانَ مُدَّتِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا تَوَلَّى بَيَانَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِكَلَامِهِ هَذَا وَظَهَرَ أَنَّ مَا عَنْ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا نُسِخَ بِالسُّنَّةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ لَيْسَ بِبَعِيدٍ ، وَكَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ مِنْ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَا تَنْسَخُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا سُنَّتُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي نَسْخِ صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى رَدِّ نِسَائِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } الْآيَةَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ ) نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَنَسْخُ بَعْضِهِ جَائِزٌ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( يُنْسَخُ الْقُرْآنُ تِلَاوَةً وَحُكْمًا أَوْ أَحَدُهُمَا ) أَيْ تِلَاوَةً لَا حُكْمًا أَوْ حُكْمًا لَا تِلَاوَةً ( وَمَنَعَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرَ الْأَوَّلِ ) أَيْ نَسْخَ أَحَدِهِمَا كَمَا فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَجَائِزٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ النَّسْخِ ( لَنَا جَوَازُ تِلَاوَةٍ وَحُكْمٍ ) وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَتَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ بِالْإِجْمَاعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي ( وَمُفَادُهُ ) مِنْ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِمَا حُكْمٌ ( آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ حُكْمٍ آخَرَ ) لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَ بَيْنَهُمَا هَذَا التَّلَازُمُ ( وَوَقَعَ ) نَسْخُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ( رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ ) كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { إيَّاكُمْ أَنْ تَهْلَكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا } وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ ، نَعَمْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كَمْ تَعُدُّونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ قَالَ قُلْت
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً قَالَ كَانَتْ تُوَازِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ وَكُنَّا نَقْرَأُ فِيهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ ( وَحُكْمُهُ ) أَيْ هَذَا الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ ( ثَابِتٌ ) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ الْمُحْصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ وَهُمَا إذَا زَنَيَا رُجِمَا إجْمَاعًا ( وَلَقَدْ اُسْتُبْعِدَ ) هَذَا ( مِنْ طُلَاوَةِ الْقُرْآنِ ) بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا أَيْ حُسْنِهِ وَأَوْرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَثْبُتَ قُرْآنٌ بِالْآحَادِ وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنِيَّتُهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ قُرْآنٍ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّوَاتُرَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ أَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلَا سَلَّمْنَا لَكِنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ ضِمْنًا بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلُهُ كَالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَنَّ أَحَدَ الْمُتَوَاتِرَيْنِ بَعْدَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّوَاتُرُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَنْقَطِعَ فَيَصِيرَ آحَادًا فَمَا رُوِيَ لَنَا بِالْآحَادِ إنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَمَّا كَانَ مَوْجُودًا بِشَرَائِطِهِ وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لِعَدَمِ التَّوَاتُرِ ثَبَتَ قُرْآنًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعُمَرَ وَأُبَيُّ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اخْتَرَعُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ بِصَرْفِ اللَّهِ الْقُلُوبَ عَنْ حِفْظِهِ إلَّا قُلُوبَ هَؤُلَاءِ وَسَمَاعُهُمْ كَافٍ لِكَوْنِهِ قُرْآنًا إذْ لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ فِي حَقِّهِمْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُهُ قُرْآنًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي بِالظَّنِّ وَهُوَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مَشْرُوطٌ فِيمَا بَقِيَ بَيْنَ الْخَلْقِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا فِيمَا نُسِخَ ( وَمِنْهُ ) أَيْ الْمَنْسُوخِ
التِّلَاوَةُ فَقَطْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ( الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ لِابْنِ مَسْعُودٍ ) فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( مُتَتَابِعَاتٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهَا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ كَمَا حَفِظَ ابْنُ مَسْعُودٍ ثُمَّ انْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَرْفِ الْقُلُوبِ عَنْ حِفْظِهِ إلَّا قَلْبَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بَاقِيًا بِنَقْلِهِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ الْعَمَلُ بِهِ وَقِرَاءَتُهُ لَا تَكُونُ دُونَ رِوَايَتِهِ فَكَانَ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ( وَابْنِ عَبَّاسٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ ) مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَإِنَّهَا قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ أَيْضًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَوَجْهُهَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مِنْ سُورَةِ " ص " وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ رَعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةٌ وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ شَهْرًا عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ قَرَءُوا فِيهَا قُرْآنًا أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ رُفِعَ بَعْدَ ذَلِكَ ( وَقَلْبُهُ ) أَيْ نَسْخُ الْحُكْمِ لَا التِّلَاوَةِ ( آيَةَ الِاعْتِدَادِ حَوْلًا مَتْلُوَّةً وَارْتَفَعَ مُفَادُهَا ) بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ الْمُفَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ ( وَهُمَا ) أَيْ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ ( مَعًا قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ) مَعْلُومَاتٍ ( يُحَرِّمْنَ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( قَالُوا
) أَيْ مَانِعُو نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ أَوَّلًا ( التِّلَاوَةُ مَعَ مُفَادِهَا ) مِنْ الْحُكْمِ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِ ( كَالْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ ) وَكَمَا لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَنْفَكُّ الْحُكْمُ عَنْ التِّلَاوَةِ وَلَا التِّلَاوَةُ عَنْ الْحُكْمِ .
وَلَمَّا أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مِنْ الْأَحْوَالِ يَعْنِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ قَائِمَةٌ بِمَوْجُودٍ وَتَمَامُ هَذَا فَرْعُ ثُبُوتِ الْحَالِ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا نَفْيُ الْحَالِ وَإِنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ بَعْضٌ مِنَّا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَرَأَى الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمِثَالِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَهِيَ اللَّفْظُ مَلْزُومٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ بِلَا لَازِمِهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا ذَلِكَ مَثَلًا فَبُطْلَانُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ إلَى هَذَا وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ فَقَالَ ( وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَتْلُوَّ ( مَلْزُومٌ ) لِمَعْنَاهُ ( فَلَا يَضُرُّهُ ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ( مَنْعُ ثُبُوتِ الْأَحْوَالِ وَالْجَوَابُ إنْ قُلْت ) الْمَتْلُوُّ ( مَلْزُومُ الثُّبُوتِ ) أَيْ ثُبُوتِ مَعْنَاهُ ( ابْتِدَاءً سَلَّمْنَاهُ وَلَا يُفِيدُ ) ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ ( أَوْ ) مَلْزُومُ الثُّبُوتِ ( بَقَاءُ مَعْنَاهُ ) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الثُّبُوتِ ابْتِدَاءُ الثُّبُوتِ بَقَاءً ( وَالْكَلَامُ فِيهِ ) أَيْ فِي ثُبُوتِهِ بَقَاءً ( قَالُوا ) أَيْ الْمَانِعُونَ ثَانِيًا ( بَقَاءُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ يُوهِمُ بَقَاءَهُ ) أَيْ الْحُكْمِ لِكَوْنِ التِّلَاوَةِ دَلِيلَهُ وَبَقَاءُ الدَّلِيلِ مُوهِمٌ بَقَاءَ الْمَدْلُولِ ( فَيُوقَعُ ) بَقَاؤُهَا دُونَ الْمُكَلَّفِ ( فِي الْجَهْلِ ) لِظَنِّهِ بَقَاءَ الْحُكْمِ وَهُوَ لَيْسَ بِبَاقٍ فِي الْحَالِ وَالْإِيقَاعُ فِي الْجَهْلِ قَبِيحٌ فَلَا يَقَعُ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى .
( وَأَيْضًا فَائِدَةُ إنْزَالِهِ ) أَيْ الْقُرْآنِ ( إفَادَتُهُ ) أَيْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّتْ التِّلَاوَةُ عَلَيْهِ ( وَتَنْتَفِي ) إفَادَتُهَا الْحُكْمَ ( بِبَقَائِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ ( دُونَهَا ) أَيْ التِّلَاوَةِ ، وَالْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ ( أُجِيبُ مَبْنَاهُ ) أَيْ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ ( عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ) الْعَقْلِيَّيْنِ وَقَدْ نَفَاهُمَا الْأَشَاعِرَةُ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) الْقَوْلُ بِهِمَا ( فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِيقَاعُ ) فِي الْجَهْلِ عَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِ الْحُكْمِ لَا التِّلَاوَةِ ( لَوْ لَمْ يُنْصَبُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَدَمِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ نُصِبَ عَلَيْهِ فَالْمُجْتَهِدُ يَعْلَمُهُ بِالدَّلِيلِ ، وَالْمُقَلِّدُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ فَيَنْتَفِي التَّجْهِيلُ ( وَيُمْنَعُ حَصْرُ فَائِدَتِهِ ) فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ ( بَلْ ) إنْزَالُهُ لِفَوَائِدَ لِمَا ذَكَرْتُمْ وَأَيْضًا ( لِلْإِعْجَازِ وَلِثَوَابِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا وَقَدْ حَصَلَتَا ) أَيْ هَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ لَا يَنْتَفِي بِنَسْخِ تَعَلُّقِ حُكْمِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ وَالْأَعْجَازُ تَابِعٌ لِوُجُودِهِ لَا لِمُجَرَّدِ قُرْآنِيَّتِهِ وَالثَّوَابُ يَحْصُلُ بِتِلَاوَتِهِ كَمَا قَبْلَ النَّسْخِ ( كَالْفَائِدَةِ الَّتِي عَيَّنْتُمُوهَا ) أَيْ كَمَا حَصَلَتْ إفَادَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَتْبِعُ بَقَاءَهُ لَفْظًا أَيْضًا حُرْمَةُ ذِكْرِهِ عَلَى الْجُنُبِ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ مَسِّ رَسْمِهِ لِلْمُحْدِثِ كَالْمُتَشَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ فَائِدَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ بَقَاؤُهَا ( وَإِلَّا انْتَفَى النَّسْخُ بَعْدَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ تَكَرُّرُهُ ) لِعَدَمِ بَقَاءِ فَائِدَتِهِ الَّتِي هِيَ وُجُوبُ تَكَرُّرِهِ دَائِمًا وَهُوَ بَاطِلٌ .
( مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ ) الْقَطْعِيُّ أَيْ لَا يُدْفَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ ( وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ) غَيْرُهُ ( أَمَّا الْأَوَّلُ ) أَيْ أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ ( فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ) أَيْ وُجِدَ رَفْعُ حُكْمِهِ ( فَبِنَصٍّ قَاطِعٍ أَوْ إجْمَاعٍ ) قَاطِعٍ ( وَالْأَوَّلُ ) أَيْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ ( يَسْتَلْزِمُ خَطَأَ قَاطِعِ الْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِجْمَاعَ حِينَئِذٍ ( خِلَافُ الْقَاطِعِ ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ وَخِلَافُهُ خَطَأٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ قَطْعًا وَعَدَمِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الْقَاطِعِ ( وَالثَّانِي ) أَيْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ يَسْتَلْزِمُ ( بُطْلَانَ أَحَدِهِمَا ) أَيْ الْإِجْمَاعَيْنِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعٍ آخَرَ فَأَحَدُ الْإِجْمَاعَيْنِ سَاقِطٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَمَّا امْتَنَعَ بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ كَانَ الْإِجْمَاعُ الْآخَرُ وَهُوَ مَا فُرِضَ نَسْخُهُ غَيْرَ قَاطِعٍ وَبَاطِلٍ ، وَعَلَى الْخَطَأِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَيْسَ ) هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ ( بِشَيْءٍ ) مَانِعٍ مِنْ نَسْخِهِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ( لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُوجِبُ خَطَأَ الْأَوَّلِ وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ النَّسْخُ يُوجِبُ خَطَأَ الْمَنْسُوخِ ( امْتَنَعَ ) النَّسْخُ ( مُطْلَقًا ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الْقَاطِعِ الْمُتَأَخِّرِ خَطَأُ الْقَاطِعِ الْمُتَقَدِّمِ لَزِمَ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ إلَى ظُهُورِ النَّصِّ الْقَاطِعِ أَوْ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ فَيَرْتَفِعُ بِهِ كَقَطْعِيِّ الْكِتَابِ بَعْدَ مِثْلِهِ ( بَلْ ) إنَّمَا لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ بِنَصٍّ مُتَأَخِّرٍ ( لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِأَنَّ حُجِّيَّتَهُ ) أَيْ الْإِجْمَاعِ مَشْرُوطَةٌ ( بِقَيْدِ بُعْدِيَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُ النَّصِّ عَنْهُ ) أَيْ الْإِجْمَاعِ ( وَثَمَرَتُهُ ) أَيْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِغَيْرِهِ تَظْهَرُ ( فِيمَا إذَا أُجْمِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ الْإِجْمَاعُ ( عَلَى أَحَدِهِمَا ) بِعَيْنِهِ ( فَإِذَا وَقَعَ ) الْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِهِمَا عَيْنًا ( ارْتَفَعَ جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْآخَرِ ) لِتَعَيُّنِ الْأَخْذِ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ وَبُطْلَانِ الْأَخْذِ بِمُخَالِفِهِ ( فَالْمُجِيزُ ) لِجَوَازِ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ يَقُولُ ارْتِفَاعُ جَوَازِ الْأَخْذِ بِالْآخَرِ ( نَسْخٌ ) لِجَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ ( وَالْجُمْهُورُ ) يَقُولُونَ ( لَا ) يَنْسَخُ جَوَازَ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا اجْتِهَادٌ أَوْ تَقْلِيدٌ ( لِمَنْعِ ) جَوَازِ ( الْإِجْمَاعِ عَلَى أَحَدِهِمَا ) عَيْنًا بَعْدَ خِلَافِهِمْ الْمُسْتَقِرِّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَيْنًا حِينَئِذٍ ( مُخْتَلَفٌ ) فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْإِجْمَاعِ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) جَوَازُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْخِلَافِ الْمُسْتَقِرِّ فَلَا نَسْخَ لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ كَمَا قَالَ ( فَمَشْرُوطٌ بِعَدَمِ قَاطِعٍ يَمْنَعُهُ ) أَيْ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَصِيرَ قَطْعِيَّةً بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي فَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي انْتَفَى شَرْطُ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً فَانْتَفَى شَرْطُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَا لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَحَدِهِمَا ) عَيْنًا بَعْدَ ذَلِكَ ( مَانِعٌ ) مِنْ ذَلِكَ ( وَأَمَّا الثَّانِي ) أَيْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ غَيْرُهُ ( فَالْأَكْثَرُ عَلَى مَنْعِهِ ) أَيْ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُنْسَخُ بِهِ غَيْرُهُ ( خِلَافًا لِابْنِ أَبَانَ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ .
لَنَا إنْ ) كَانَ الْإِجْمَاعُ ( عَنْ نَصٍّ ) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ( فَهُوَ ) أَيْ النَّصُّ ( النَّاسِخُ يَعْنِي لِمَا بِحَيْثُ يُنْسَخُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَدِلَّ بَيَّنَ فِيمَا زَعَمَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِغَيْرِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ إذَا اُعْتُبِرَ نَاسِخًا أَنْ يَنْسَخَ مَا
بِحَيْثُ يَجُوزُ نَسْخُهُ ( وَإِلَّا ) إنْ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ عَنْ نَصٍّ ( فَالْأَوَّلُ ) أَيْ الْمَنْسُوخُ ( إنْ ) كَانَ ( قَطْعِيًّا لَزِمَ خَطَأُ الثَّانِي ) الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِجْمَاعَ حِينَئِذٍ ( عَلَى خِلَافِ ) النَّصِّ ( الْقَاطِعِ ) وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ الْقَاطِعِ خَطَأٌ ( وَإِلَّا ) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ظَنِّيًّا ( فَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ ) أَيْ الْأَوَّلِ ( أَظْهَرُ أَنَّهُ ) أَيْ الْأَوَّلَ ( لَيْسَ دَلِيلًا ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِهِ رُجْحَانُهُ وَقَدْ انْتَفَى بِمُعَارَضَةِ قَاطِعٍ لَهُ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ ( فَلَا حُكْمَ ) ثَابِتٌ لَهُ ( فَلَا رَفْعَ ) ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ فَرْعُ الثُّبُوتِ ( وَعَلَيْهِ ) أَيْ وَيَرِدُ عَلَى هَذَا ( مَنْعُ خَطَأِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الثَّانِيَ ( قَطْعِيٌّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ) نَصٍّ ( قَطْعِيٍّ ) مُتَقَدِّمٍ كَمَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ وَالنَّسْخُ لَا يُوجِبُ خَطَأَ الْمَنْسُوخِ وَإِلَّا امْتَنَعَ النَّسْخُ مُطْلَقًا ( وَإِنْ ) كَانَ الْأَوَّلُ ( عَنْ ظَنِّيٍّ ) كَمَا هُوَ التَّقْدِيرُ الثَّانِي ( فَيَرْفَعُهُ ) الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ يَرْفَعُ مَا دُونَهُ ( كَالْكِتَابِ لِلْكِتَابِ ) أَيْ كَنَسْخِ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ لِقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ وَظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ ( وَإِذَنْ فَلِلْخَصْمِ مَنْعُ الْأَخِيرِ ) وَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَظْهَرَ أَنَّ الظَّنِّيَّ لَيْسَ دَلِيلًا ( بَلْ يَنْسَخُ ) الْإِجْمَاعُ الثَّانِي الْقَطْعِيُّ الْأَوَّلَ ( الظَّنِّيَّ لَا أَنَّهُ ) أَيْ الثَّانِيَ ( يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ ) أَيْ الْأَوَّلِ ( فَالْوَجْهُ ) فِي بَيَانِ دَلِيلِ مَنْعِ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ ( مَا لِلْحَنَفِيَّةِ ) فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ ( لَا مَدْخَلَ لِلْآرَاءِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى ) بَلْ إنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ وَلَا وَحْيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَانِعُونَ ( وَقَعَ ) نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ ( بِقَوْلِ عُثْمَانَ ) لَمَّا قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَيْنِ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا إخْوَةً ( حَجَبَهَا قَوْمُك ) يَا غُلَامُ قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَقَدَّمْته بِلَفْظٍ آخَرَ فِي الْبَحْثِ الثَّالِثِ مِنْ مَبَاحِثِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ النَّسْخُ ( وَبِسُقُوطِ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ ) قُلُوبُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَتَاهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ قَالَ { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } يَعْنِي الْيَوْمَ لَيْسَ مُؤَلَّفَةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ ( قُلْنَا الْأَوَّلُ ) أَيْ كَوْنُ قَوْلِ عُثْمَانَ حَجَبَهَا قَوْمُك نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ ( يَتَوَقَّفُ عَلَى إفَادَةِ الْآيَةِ ) أَيْ { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } ( عَدَمَ حَجْبِ مَا لَيْسَ إخْوَةً قَطْعًا ) لَهَا مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُفِدْ عَدَمَ حَجْبِ مَا لَيْسَ إخْوَةً لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ حَجَبَهَا قَوْمُك حَجَبَهَا الْإِجْمَاعُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَجْبُهُمْ إيَّاهَا لِدَلِيلٍ آخَرَ عَلَى حَجْبِهَا بِهِمَا ( وَ ) عَلَى ( أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إخْوَةً قَطْعًا ) ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُمَا إخْوَةٌ لَكَانَ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ حَجَبَهَا قَوْمُك اللُّغَةُ تُجِيزُ لَفْظَ الْإِخْوَةِ لِلْأَخَوَيْنِ كَمَا تُجِيزُهُ لِلثَّلَاثَةِ ( لَكِنَّ الْأَوَّلَ ) أَيْ إفَادَةَ الْآيَةِ عَدَمَ حَجْبِ مَا لَيْسَ إخْوَةً ثَابِتٌ ( بِالْمَفْهُومِ ) الْمُخَالِفِ ( الْمُخْتَلَفِ ) فِي صِحَّةِ كَوْنِهِ حُجَّةً وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إخْوَةٌ لَا يَكُونُ لِأُمِّهِ السُّدُسُ ( وَالثَّانِي ) أَيْ إنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إخْوَةً قَطْعًا ( فَرْعٌ إنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَا تُطْلَقُ عَلَى
الِاثْنَيْنِ لَا ) حَقِيقَةً ( وَلَا مَجَازًا قَطْعًا ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِمَا مَجَازًا لَا يُنْكَرُ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) أَنَّ عُثْمَانَ أَرَادَ حَجَبَهَا الْإِجْمَاعُ ( وَجَبَ تَقْدِيرُ نَصٍّ ) حَدَثَ قَطْعًا يَكُونُ النَّسْخُ بِهِ وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ الْقَاطِعِ الَّذِي هُوَ الْمَفْهُومُ الْمَفْرُوضُ قَطْعِيَّتُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ ( وَسُقُوطُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ الْمُفْرَدَةِ ) الْغَائِبَةِ وَهِيَ الْإِعْزَازُ لِلْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَهُمْ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْزَازِ إذْ يُفْعَلُ الدَّفْعُ لِيَحْصُلَ الْإِعْزَازُ فَإِنَّمَا انْتَهَى تَرَتُّبُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْزَازُ عَلَى الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ وَعَنْ هَذَا قِيلَ عَدَمُ الدَّفْعِ الْآنَ لِلْمُؤَلَّفَةِ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَسْخٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِعْزَازُ وَكَانَ بِالدَّفْعِ وَالْآنَ هُوَ فِي عَدَمِ الدَّفْعِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي النَّسْخَ ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ ارْتَفَعَ وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ فَنُسِخَ الْأَوَّلُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَيْسَ ) انْتِهَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ ( نَسْخًا وَلَوْ ادَّعَوْا ) أَيْ الْقَائِلُونَ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ ( مِثْلُهُ ) أَيْ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مُبَيِّنًا رَفْعَ الْحُكْمِ وَانْتِهَاءَ مُدَّتِهِ ( نَسْخًا فَلَفْظِيٌّ ) أَيْ فَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ نَاسِخًا أَوْ لَا حِينَئِذٍ لَفْظِيٌّ ( مَبْنِيٌّ عَلَى الِاصْطِلَاحِ فِي اسْتِقْلَالِ دَلِيلِهِ ) أَيْ النَّسْخِ فَمَنْ اشْتَرَطَهُ فِيهِ وَهُوَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ نَاسِخًا فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بَلْ اعْتِبَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فَالْإِجْمَاعُ كَاشِفٌ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا لَفْظُهُ وَمَنْ
لَمْ يَشْرِطْهُ فِيهِ جَعَلَهُ نَاسِخًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا عَنْ الْمُخَالِفِينَ إذْ الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلُ وُجُودِ النَّاسِخِ أَيْ يُعْلَمُ بِهِ النَّسْخُ بِدَلِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْنُ دَلِيلِهِ لَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ نَاسِخٌ ، وَعِبَارَةُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ قَالَ إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ انْتَهَى صَرِيحُهُ فِي هَذَا كَمَا تَرَى نَعَمْ كَلَامُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُخَالِفِ تَنْبُو عَنْ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ وَأَمَّا النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِطَرِيقِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُوجِبٌ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالنَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسْخُ بِهِ ، وَالْإِجْمَاعُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَقْوَى مِنْ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَجَوَازُهُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ الْآرَاءِ عَلَى شَيْءٍ وَلَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ نِهَايَةِ وَقْتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الشَّيْءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوَانُ النَّسْخِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَفِي حَالِ حَيَاتِهِ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَكَانَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ فَرْضًا ، وَإِذَا وُجِدَ الْبَيَانُ مِنْهُ فَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ قَطْعًا هُوَ الْبَيَانُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بَعْدَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّسْخَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا يَجُوزُ .
( وَصَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَنْسُوخِيَّتِهِ ) أَيْ الْإِجْمَاعِ ( أَيْضًا ) وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِنَسْخِ الْإِجْمَاعِ وَالنَّسْخِ بِهِ ( قَالَ وَالنَّسْخُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ) أَيْ فِي الْإِجْمَاعِ ( بِمِثْلِهِ ) أَيْ بِإِجْمَاعِ مِثْلِهِ ( جَائِزٌ حَتَّى إذَا ثَبَتَ
حُكْمٌ بِإِجْمَاعٍ فِي عَصْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعَ أُولَئِكَ عَلَى خِلَافِهِ فَيُنْسَخُ بِهِ الْأَوَّلُ وَكَذَا فِي عَصْرَيْنِ ) عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَقْيِيدٍ وَتَعَقُّبٍ نَذْكُرُهُمَا قَرِيبًا ( وَوَجْهُ ) قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي كَشْفِهِ ( بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ ) الْأَوَّلِ ( بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى لِلْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّأْيِ دَخْلٌ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَزَمَانِ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ وَإِنْ انْتَهَى بِوَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْوَحْيِ بَعْدَهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنَّ زَمَانَ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَمْ يَنْتَهِ بِهِ ) أَيْ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لِبَقَاءِ زَمَانِ انْعِقَادِهِ ) أَيْ الْإِجْمَاعِ وَحُدُوثِهِ ( فَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى خِلَافِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ) إذْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ لِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ تَتَبَدَّلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَيَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ نَاسِخٌ لَهُ ( فَيَظْهَرُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ انْتِهَاءُ مُدَّةِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ إلَّا أَنَّ شَرْطَهُ ) أَيْ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ الْإِجْمَاعَ ( الْمُمَاثَلَةُ ) بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ ( فَلَا يَنْسَخُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ إجْمَاعٌ ) مِنْ غَيْرِهِمْ ( بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا ) التَّوْجِيهَ ( لَا يَتَأَتَّى إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ مُسْتَنَدٍ وَلَيْسَ ) هَذَا الْقَوْلُ الْقَوْلَ ( السَّدِيدَ ثُمَّ نَاقَضَ ) فَخْرُ الْإِسْلَامِ هَذَا ( قَوْلَهُ فِي النَّسْخِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّسْخَ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ حُجَّةً فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إجْمَاعَ بِدُونِ رَأْيِهِ وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ فَرْضٌ وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ الْبَيَانُ
فَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ هُوَ الْبَيَانُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ وَإِذَا صَارَ الْإِجْمَاعُ وَاجِبَ الْعَمَلِ بِهِ ) بَعْدَهُ ( لَمْ يَبْقَ النَّسْخُ مَشْرُوعًا ) بَعْدَهُ ( وَجُوِّزَ أَنْ يُرِيدَ ) فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِالصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ ( لَا يُنْسَخُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْسَخَهُمَا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ بِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ تَتَبَدَّلَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَيَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ آخَرُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْمُرَادُ إذَا كَانَ ( لِمُجَرَّدِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ لَا يَقْوَى اخْتِيَارُهُ لِلضَّعِيفِ ) وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ ( ثُمَّ هُوَ ) أَيْ هَذَا الْمُرَادُ ( مُنَافٍ لِقَوْلِهِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَيَاتِهِ إلَخْ ) ظَاهِرُ الْمُنَافَاةِ ( وَمَا قِيلَ ) كَمَا هُوَ مُحَصَّلُ بَحْثٍ فِي التَّلْوِيحِ ( جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَنْ نَصٍّ رَاجِحٍ عَلَى مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَلَا يُعْلَمُ تَأَخُّرُهُ ) أَيْ النَّصِّ الرَّاجِحِ ( عَنْهُ ) أَيْ عَنْ مُسْتَنَدِ الْأَوَّلِ ( كَيْ لَا يُنْسَبَ النَّسْخُ إلَى النَّصِّ فَيَقَعَ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا ) عَنْ الْأَوَّلِ ( فَيَكُونَ نَاسِخًا ) لِلْأَوَّلِ ( لَمْ يَزِدْ عَلَى اشْتِرَاطِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ ) عَنْ الْمَنْسُوخِ ( ثُمَّ لَا يُفِيدُ ) تَوَجُّهُ نَسْخِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ بِسَبَبِ كَوْنِ مُسْتَنَدِهِ أَقْوَى ( لِأَنَّهُ إذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ الْإِجْمَاعِ عَنْ نَصٍّ امْتَنَعَ مُخَالَفَتُهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ ( وَلَوْ ظَهَرَ نَصٌّ أَرْجَحُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ نَصِّ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ ( لِصَيْرُورَةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ) الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ( قَطْعِيًّا بِالْإِجْمَاعِ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ ) .
( مَسْأَلَةٌ إذَا رُجِّحَ قِيَاسٌ مُتَأَخِّرٌ لِتَأَخُّرِ شَرْعِيَّةِ حُكْمِ أَصْلِهِ عَنْ نَصٍّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِهِ ) أَيْ حُكْمِ الْأَصْلِ ( فِي الْفَرْعِ ) فَلِتَأَخُّرِ بَيَانِ وَجْهِ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا .
وَ " عَنْ نَصٍّ " مُتَعَلِّقٌ بِ " تَأَخُّرِ " بَيَانٌ لِلْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ ، وَ " عَلَى نَقِيضٍ " مُتَعَلِّقٌ بِ " نَصٍّ " أَيْ عَنْ نَصٍّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِ ذَلِكَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ سَابِقِ ذَلِكَ النَّصِّ عَلَى حُكْمِ أَصْلِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ مِمَّا بِحَيْثُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ إذَا عَارَضَهُ مِمَّا لَيْسَ بِقِيَاسٍ أَوْ سَاوَاهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنَّ النَّاسِخَ عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ رُجْحَانُهُ بَلْ يَنْسَخُ الْمُسَاوِيَ لِغَيْرِهِ الْمُعَارِضَ لَهُ إذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ وَجَوَابُ إذَا ( وَجَبَ نَسْخُهُ ) أَيْ الْقِيَاسِ ( إيَّاهُ ) أَيْ النَّصِّ السَّابِقِ ( لِمَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَهُ ) أَيْ الْقِيَاسِ ( عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ بِشُرُوطِهِ ) أَيْ النَّسْخِ ( دُونَ غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ( وَكَذَا ) الْمُعَارِضُ ( الْمُسَاوِي ) مِثَالُهُ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عَدَمِ رِبَوِيَّةِ الذُّرَةِ ثُمَّ نَصَّ بَعْدَهُ عَلَى رِبَوِيَّةِ الْقَمْحِ وَهُوَ أَصْلُ قِيَاسِ رِبَوِيَّةِ الذُّرَةِ عَلَى الْقَمْحِ فَقَدْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ الْمُتَأَخِّرُ لِتَأَخُّرِ شَرْعِيَّةِ حُكْمِ أَصْلِهِ فِي الذُّرَةِ الرِّبَوِيَّةَ وَالنَّصُّ عَدَمُهَا فِيهَا مَعَ عِلْمِ تَأَخُّرِ أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَهُوَ النَّسْخُ إنْ كَمُلَتْ شُرُوطُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ( وَمَا قِيلَ فِي نَفْيِهِ ) أَيْ النَّسْخِ ( فِي ) الْقِيَاسَيْنِ ( الظَّنِّيَّيْنِ ) كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ ؛ لِأَنَّهُ ( بَيَّنَ الْقِيَاسَ ) الثَّانِيَ الْمَظْنُونَ ( زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ ) أَيْ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ الْمَظْنُونِ ( وَهُوَ ) أَيْ شَرْطُ عَمَلِهِ ( رُجْحَانُهُ ) أَيْ الْأَوَّلِ الْمَظْنُونِ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ أَوْ مُسَاوٍ وَإِذْ بِمُجَرَّدِ الْمُعَارِضِ الْمُسَاوِي تَبْطُلُ ظَنِّيَّتُهُ فَكَيْفَ بِالرَّاجِحِ وَالْقِيَاسُ الظَّنِّيُّ رَاجِحٌ ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ نَاسِخًا
فَيَبْطُلُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّيِّ الْمُتَقَدِّمِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ فَلَا يَكُونُ الْقِيَاسُ نَاسِخًا لَهُ ( لَيْسَ بِشَيْءٍ بَعْدَ فَرْضِ تَأَخُّرِهِ ) أَيْ الْقِيَاسِ الثَّانِي ( وَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ السَّابِقِ ) بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَخِّرًا ( فَلَا نَسْخَ وَإِنَّمَا ذَاكَ ) أَيْ عَدَمُ النَّسْخِ ( فِي الْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ ) بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا ( وَأَمَّا نَسْخُهُ ) أَيْ الْقِيَاسِ ( قِيَاسًا آخَرَ بِنَسْخِ حُكْمِ أَصْلِهِ ) أَيْ الْآخَرِ ( مَعَ ) وُجُودِ ( عِلَّةِ الرَّفْعِ ) لِلْحُكْمِ ( الثَّابِتَةِ فِي الْفَرْعِ ) أَيْ بِنَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِنَصٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى عِلَّةٍ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْفَرْعِ فَيُنْسَخُ حُكْمُ الْفَرْعِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ فَيَتَحَقَّقُ قِيَاسٌ نَاسِخٌ وَآخَرُ مَنْسُوخٌ مِثَالُهُ أَنْ تَثْبُتَ حُرْمَةُ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ بِقِيَاسٍ عَلَى الْبُرِّ مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ ثُمَّ تُنْسَخُ حُرْمَةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ تَنْصِيصًا عَلَى الْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذُّرَةِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَتُرْفَعُ حُرْمَةُ الرِّبَا فِيهَا فَيَكُونُ نَسْخًا لِلْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ ( عَلَى مَا قِيلَ ) وَقَائِلُهُ التَّفْتَازَانِيُّ ( فَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدَنَا ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ ( إذْ لَا نُجِيزُ الْقِيَاسَ لِعَدَمِ حُكْمٍ كَمَا سَيُعْلَمُ ) فِي الْمَرْصَدِ الثَّانِي فِي شَرْطِ الْعِلَّةِ ( وَلَا يُعَلَّلُ النَّاسِخُ وَمَا فَرَضَهُ الْقَائِلُ ) مِنْ وُجُودِ عِلَّةِ الرَّفْعِ فِي الْفَرْعِ ( لَا يَكُونُ غَيْرَ بَيَانِ وَجْهِ انْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ ) الَّتِي شُرِعَ لَهَا الْحُكْمُ ( وَهُوَ ) أَيْ انْتِهَاءُ الْمَصْلَحَةِ ( مَعْلُومٌ فِي كُلِّ نَسْخٍ فَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ ) أَيْ انْتِهَاؤُهَا نَاسِخًا ( كَانَ ) النَّاسِخُ ( مُعَلَّلًا دَائِمًا ) وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ وَأَمَّا الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الشَّرْحِ وَهُوَ إذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ هَلْ يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ
الْفَرْعِ أَوْ لَا ؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ بَقَائِهِ فَانْتِفَاؤُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْأَصْلِ نَسْخٌ لَهُ بِأَنْ يُقَاسَ عَدَمُهُ عَلَى عَدَمِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ خِلَافٌ ( وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ) نَسْخُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ ( عِنْدَنَا بِشَرْعِيَّةِ بَدَلٍ ) عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْأَصْلِ ( يُضَادُّ ) الْحُكْمَ ( الْأَوَّلَ فَيَسْتَلْزِمُ ) شَرْعُ ذَلِكَ ( رَفْعَ حُكْمِهِ ) الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ ( فَقَدْ يُقَالُ بِمُجَرَّدِ رَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ أُهْدِرَ الْجَامِعُ ) بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ( فَيَرْتَفِعُ حُكْمُ الْفَرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَلَا أَثَرَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ وَأَغْنَى هَذَا عَنْ مَسْأَلَتِهَا ) أَيْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي هِيَ جَوَازُ نَسْخِ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ ( وَتَمَامُهُ ) أَيْ هَذَا الْبَحْثِ ( فِي ) الْمَسْأَلَةِ ( الَّتِي تَلِيهَا ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ مِثَالَ نَسْخِ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْفَرْعِ فِي مَحَلٍّ يَكُونُ قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ أَقْوَى ( وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْسِيمِ الْقِيَاسِ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ ) كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ( وَسَتَعْلَمُ ) فِي ذَيْلِ الْكَلَامِ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ ( أَنْ لَا قَطْعَ عَنْ قِيَاسٍ وَلَوْ قُطِعَ بِعِلَّتِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ( وَوُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ لِجَوَازِ شَرْطِيَّةِ الْأَصْلِ أَوْ مَانِعِيَّةِ الْفَرْعِ ) مِنْهُ ( وَلَوْ تَجَوَّزَ بِهِ ) أَيْ بِالْقَطْعِيِّ ( عَنْ كَوْنِهِ ) أَيْ الْقِيَاسِ ( جَلِيًّا فَفَرْضُ غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ ) الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ( أَنْ عَنَى بِهِ ) أَيْ بِالْجَلِيِّ ( مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يَعْنِ بِهِ ذَلِكَ ( فَمَا فَرَضْنَاهُ ) مِنْ مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ ( عَامٌّ ) لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ ( لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى ذِكْرِ الْجَلِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ ( قَالُوا ) أَيْ مُجِيزُو النَّسْخِ ( تَخْصِيصُ الزَّمَانِ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ ) أَيْ الزَّمَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
الْحُكْمُ مَشْرُوعًا فِيهِ ( فَكَتَخْصِيصِ الْمُرَادِ ) أَيْ فَهُوَ كَإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَامُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَامِّ ، وَالْقِيَاسُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصُ بِهِ الْمُرَادُ فَيَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ وَالْمُلَخَّصُ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ قِيَاسًا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا تَخْصِيصَيْنِ ، وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْآخَرُ فِي الزَّمَانِ لَا يَصْلُحُ فَارِقًا إذْ لَا أَثَرَ لَهُ ( الْجَوَابُ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ إذْ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِي الِانْتِهَاءِ ) لِلْحُكْمِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ( كَمَا تَقَدَّمَ ) فِي الَّتِي قَبْلَهَا ( وَلَوْ عُلِمَ ) الْحُكْمُ ( مَنُوطًا بِمَصْلَحَةٍ عُلِمَ ارْتِفَاعُهَا فَكَسَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ ) أَيْ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ كَسُقُوطِ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ نَسْخًا .
( مَسْأَلَةٌ نَسْخُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَحَوَى مَنْطُوقٍ ) أَيْ هَلْ يُنْسَخُ الْفَحْوَى دُونَ الْمَنْطُوقِ وَبِالْعَكْسِ ( وَهُوَ ) أَيْ فَحْوَاهُ ( الدَّلَالَةُ لِلْحَنَفِيَّةِ ) وَمَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا : نَعَمْ وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ ، ثَانِيهَا لَا وَنُسِبَ إلَى الْأَكْثَرِينَ ، ( ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ لِلْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ جَوَازُ ) نَسْخِ ( الْمَنْطُوقِ ) بِدُونِ الْفَحْوَى ( لَا ) جَوَازُ ( قَلْبِهِ ) أَيْ يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى بِدُونِ الْمَنْطُوقِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَنْطُوقَ كَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ ( مَلْزُومٌ ) لِفَحْوَاهُ كَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ ( فَلَا يَنْفَرِدُ ) الْمَلْزُومُ ( عَنْ لَازِمِهِ ) أَيْ فَلَا يُوجَدُ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ مَعَ عَدَمِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ مَعَ عَدَمِ اللَّازِمِ مُحَالٌ ( بِخِلَافِ نَسْخِ التَّأْفِيفِ فَقَطْ ) أَيْ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ مَعَ بَقَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ نَسْخَ التَّأْفِيفِ لَا غَيْرُ ( رَفْعٌ لِلْمَلْزُومِ ) وَرَفْعُهُ مَعَ بَقَاءِ اللَّازِمِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَالَ ( الْمُجِيزُونَ ) النَّسْخَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ ( مَدْلُولَانِ ) مُتَغَايِرَانِ أَحَدُهُمَا صَرِيحٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ صَرِيحٍ ( فَجَازَ رَفْعُ كُلٍّ دُونَ الْآخَرِ ) ضَرُورَةً ( أُجِيبُ ) بِجَوَازِهِ ( مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَلْزُومًا لِلْآخَرِ فَإِذَا كَانَ ) أَحَدُهُمَا مَلْزُومًا لِلْآخَرِ ( فَمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ فَإِنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْمَنْطُوقِ بِدُونِ الْفَحْوَى لَا الْقَلْبُ .
قَالَ ( الْمَانِعُونَ ) لِنَسْخِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ يَمْتَنِعُ نَسْخُ ( الْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ ) الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ ( لِمَا قُلْتُمْ ) مِنْ لُزُومِ الْمَلْزُومِ مَعَ عَدَمِ اللَّازِمِ ( وَقَلْبُهُ ) أَيْ وَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْأَصْلِ دُونَ الْفَحْوَى ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْفَحْوَى ( تَابِعٌ ) لِلْأَصْلِ ( فَلَا يَثْبُتُ ) الْفَحْوَى ( دُونَ الْمَتْبُوعِ ) أَيْ الْأَصْلِ لِوُجُوبِ ارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِ مَتْبُوعِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهُ (
أُجِيبُ بِأَنَّ التَّابِعِيَّةَ ) أَيْ تَابِعِيَّةَ الْفَحْوَى لِلْأَصْلِ إنَّمَا هِيَ ( فِي الدَّلَالَةِ ) أَيْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَصْلِ ( وَلَا تَرْتَفِعُ ) الدَّلَالَةُ إجْمَاعًا ( لَا ) أَنَّ الْفَحْوَى تَابِعٌ لِلْأَصْلِ فِي ( الْحُكْمِ ) أَيْ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنْ فَهِمْنَا تَحْرِيمَ الضَّرْبِ مِنْ فَهْمِنَا لِتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَا أَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا كَانَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ حَرَامٌ وَلَا أَنَّهُ لَوْلَا حُرْمَةُ التَّأْفِيفِ لَمَا كَانَ الضَّرْبُ حَرَامًا ( وَهُوَ ) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ حُرْمَةُ التَّأْفِيفِ ( الْمُرْتَفِعُ ) فَالْمَتْبُوعُ لَمْ يَرْتَفِعْ وَالْمُرْتَفِعُ لَيْسَ بِمَتْبُوعٍ ( وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَهُ أَنَّ الْفَحْوَى ) إنَّمَا تَثْبُتُ ( بِعِلَّةِ الْأَصْلِ مُتَبَادِرَةٌ ) إلَى الْفَهْمِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ اللُّغَةِ ( حَتَّى تُسَمَّى قِيَاسًا جَلِيًّا فَالتَّفْصِيلُ ) الْمَذْكُورُ ( حَتَّى عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ ) أَيْ أَوْلَوِيَّةِ الْمَسْكُوتِ بِالْحُكْمِ فِي الْفَحْوَى كَمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ ( لِأَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ ) يَكُونُ ( بِرَفْعِ اعْتِبَارِ قَدْرِهِ ) أَيْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْطُوقُهُ مِنْ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ ( وَجَازَ بَقَاءُ الْمَفْهُومِ ) الْمَذْكُورِ ( بِقَدْرِ فَوْقِهَا ) أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْأَصْلُ فَيَبْقَى حُكْمُ الْمَفْهُومِ لِبَقَاءِ عِلَّتِهِ ( بِخِلَافِ الْقَلْبِ ) أَيْ نَسْخِ الْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ( إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إهْدَارُ الْأَشَدِّ فِي التَّحْرِيمِ ) كَالضَّرْبِ .
( وَاعْتِبَارُ مَا دُونَهُ ) أَيْ مَا دُونَ الْأَشَدِّ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ التَّأْفِيفُ ( فِيهِ ) أَيْ فِي التَّحْرِيمِ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَنْسَخَ حُرْمَةَ الضَّرْبِ وَلَا يَنْسَخَ حُرْمَةَ التَّأْفِيفِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ غَايَةٌ فِي إيجَابِ التَّعْظِيمِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْإِيذَاءِ حَتَّى يَسْتَتْبِعَ تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ ، بِخِلَافِ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِي