كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد
الْعِلْمَ إمَّا تَصَوُّرٌ ، وَإِمَّا تَصْدِيقٌ ضَرُورِيٌّ وَمَطْلُوبٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَفْسَ الصِّفَةِ بَلْ أَثَرُهَا فَعَرَضْته عَلَى شَيْخِنَا الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَدَافَعَهُ بَعْضَ الْمُدَافَعَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَهُ ، وَأَلْحَقَهُ بِالْكِتَابِ قَائِلًا .
( وَالْوَجْهُ ) فِي حَدِّ الْعِلْمِ عَلَى وَجْهٍ يَشْمَلُ التَّصَوُّرَ أَنْ يُقَالَ ( إنَّهُ تَمْيِيزٌ ) لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ( وَإِلَّا فَإِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ ) الْمُفِيدَةِ لِلتَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ لَا عَلَيْهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا لَكِنِّي أَقُولُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ ذَاتِ تَعَلُّقٍ بِالْمَعْلُومِ أَمَّا إذَا كَانَ ثَمَّةَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا حَتَّى إنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ بِالذَّاتِ ، وَمِنْ مَقُولَةِ الْمُضَافِ بِالْعَرَضِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ فَالْقُوَّةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا ذَلِكَ هِيَ نَفْسُ الْعِلْمِ عِنْدَهُ فَلَا يَتِمُّ نَفْيُ كَوْنِ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْعِلْمِ عِنْدَهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ صَرَّحَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فِي الْمَوَاقِفِ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ .
ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ قَالَ إنَّهُ نَفْسُ التَّعَلُّقِ يَعْنِي الْمَخْصُوصَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمَعْلُومِ حَدَّهُ بِأَنَّهُ تَمَيُّزُ مَعْنًى عِنْدَ النَّفْسِ تَمَيُّزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ا هـ .
حَتَّى يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَاتِ ، وَمَبْدَؤُهُ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الصَّحَائِفِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِانْفِعَالِ نَعَمْ يَكُونُ تَقْسِيمُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ بِخِلَافِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ شَيْخِنَا أَنَّهُ تَمْيِيزٌ يُخَالِفُ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ التَّمْيِيزَ فِعْلٌ فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِشُمُولِ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلتَّصَوُّرِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَمِنْهُ الْحَدُّ ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّصَوُّرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يُكْتَسَبُ بِبُرْهَانٍ وَلَا يُطْلَبُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ وَلَا يُعَارَضُ سَوَاءٌ كَانَ حَدًّا حَقِيقِيًّا أَوْ اسْمِيًّا أَوْ غَيْرَهُمَا وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْحَدَّ بِاعْتِبَارِ عَارِضٍ لَهُ قَدْ يُطْلَبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَيُعَارَضُ وَيُمْنَعُ أَشَارَ إلَى مَا يُفِيدُ الْمَنَاطُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ثُبُوتًا وَانْتِفَاءً فَقَالَ ( وَلَا دَلِيلَ ) يُطْلَبُ وَيُقَامُ ( إلَّا عَلَى نِسْبَةٍ ) أَيْ حُكْمِ نِسْبَةٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ثُبُوتًا أَوْ نَفْيًا لِمَا سَيُعْرَفُ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ .
( وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ ) لَا تَكُونُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعَارِضًا لِلْآخَرِ إلَّا إذَا كَانَا حُكْمَيْنِ وَتَحَقَّقَ فِيهِمَا بَاقِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي وُجُودِ التَّدَافُعِ بَيْنَهُمَا ( وَذَلِكَ ) أَيْ قِيَامُ الدَّلِيلِ وَالْمُعَارَضَةِ إنَّمَا يَقَعُ فِي صُوَرِ الْمُتَصَوَّرَاتِ ( عِنْدَ ادِّعَائِهَا ) أَيْ صُوَرِ الْمُتَصَوَّرَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الذِّهْنِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَوُّرِهَا ( صُورَةُ كَذَا كَصُوَرِ الْحُدُودِ ) بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحْدُودَاتِ أَيْ كَادِّعَاءِ أَنَّ الصُّورَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ الْمُسَمَّى بِالْحَدِّ هِيَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ الْمُسَمَّى بِالْحُدُودِ .
( وَحِينَئِذٍ ) أَيْ وَحِينَ يُقْصَدُ الْحُكْمُ بِالْحَدِّ عَلَى الْمَحْدُودِ كَمَا ذَكَرْنَا ( تَقْبَلُ ) صُوَر الْحُدُودِ ( الْمَنْعَ ) لِوُجُودِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوضًا لِذَلِكَ حِينَئِذٍ ، وَهُوَ الْحُكْمُ وَكَشْفُ الْقِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْرِيفَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَا يُقْصَدُ بِهِ تَصَوُّرُ مَفْهُومَاتٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ ، وَيُسَمَّى تَعْرِيفًا بِحَسَبِ الِاسْمِ فَإِذَا عُلِمَ مَثَلًا مَفْهُومُ الْجِنْسِ إجْمَالًا ، وَأُرِيدَ تَصَوُّرُهُ
بِوَجْهٍ أَكْمَلَ فَإِنْ فَصَلَ نَفْسَ مَفْهُومِهِ بِأَجْزَاءٍ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَهُ اسْمِيًّا ، وَإِنْ ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِهِ عَوَارِضَهُ كَانَ لَهُ رَسْمًا اسْمِيًّا .
ثَانِيهِمَا مَا يُقْصَدُ بِهِ تَصَوُّرُ حَقَائِقَ مَوْجُودَةٍ وَيُسَمَّى تَعْرِيفًا بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ إمَّا حَدًّا أَوْ رَسْمًا وَكِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ مَنْعٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ تَصْوِيرٌ وَنَقْشٌ لِصُورَةِ الْمَحْدُودِ فِي الذِّهْنِ وَلَا حُكْمَ فِيهِ أَصْلًا .
وَالْحَادُّ إنَّمَا ذَكَرَ الْمَحْدُودَ لِيَتَوَجَّهَ الذِّهْنُ إلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ يَرْسِمُ فِيهِ صُورَةً أَتَمَّ مِنْ الْأُولَى لَا لِيَحْكُمَ بِالْحَدِّ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ هُوَ بِصَدَدِ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ لَهُ .
مَثَلًا إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ حَيَوَانًا نَاطِقًا ، وَإِلَّا لَكَانَ مُصَدِّقًا لَا مُصَوِّرًا بَلْ إنَّمَا أَرَادَ بِذِكْرِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَجَّهَ ذِهْنُك إلَى مَا عَرَفْته بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ شَرَعَ فِي تَصْوِيرِهِ بِوَجْهٍ أَكْمَلَ فَمَا مِثْلُهُ إلَّا كَمِثْلِ النَّقَّاشِ إلَّا أَنَّ الْحَادَّ يَنْقُشُ فِي الذِّهْنِ صُورَةً مَعْقُولَةً ، وَهَذَا يَنْقُشُ فِي اللَّوْحِ صُورَةً مَحْسُوسَةً فَكَمَا أَنَّهُ إذَا أَخَذَ يَرْسِمُ فِيهِ نَقْشًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مَنْعٌ فَلَا يُقَالُ مَثَلًا لَا نُسَلِّمُ كِتَابَتَك كَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَاهُ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْحَدَّ مَعَ الْمَحْدُودِ لَيْسَ قَضِيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صُورَتِهَا .
وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا نُسَلِّمَ أَنَّهُ حَدٌّ لِمَا حَدَّدْتُمُوهُ بِهِ فَهَذَا مَنْعٌ عَلَيْهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَهُ مَفْهُومٌ ، وَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ وَالْمَنْعُ بِتَوَجُّهٍ عَلَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَاطِقًا بَلْ يَمْنَعُ كَوْنَهُ جَدًّا لِلْإِنْسَانِ أَوْ أَنَّ الْحَيَوَانَ جِنْسٌ لَهُ أَوْ النَّاطِقُ فَصْلٌ لَهُ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّعَاوَى صَادِرَةٌ عَنْهُ ضِمْنًا ، وَقَابِلَةٌ لِلْمَنْعِ بِاعْتِبَارِ مَا لَزِمَ عَنْهَا مِنْ الْحُكْمِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَّجِهُ أَيْضًا عَلَى الْحَدِّ النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الْعِلْمُ مَا يَصِحُّ مِنْ الْمَوْصُوفِ بِهِ إحْكَامُ الْفِعْلِ يُقَالُ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَات فَإِنْ سَلَّمَ الْحَادُّ وُجُودَ الْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِمَا فَقَدْ اعْتَرَفَ بِبُطْلَانِ حَدِّهِ ، وَفَسَادِ نَقْشِهِ وَإِلَّا فَلَا ، وَيُقَالُ أَيْضًا هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ الْحَدُّ الثَّانِي بَطَلَ حَدُّهُ ، وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا تَعَانُدَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْهُومٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَفَادَ مَا يَكُونُ لِلْحَادِّ إذَا مَنَعَ حَدَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ لَهُ دَفْعُهُ فَقَالَ ( وَيُدْفَعُ ) الْمَنْعُ ( فِي الِاسْمِيِّ بِالنَّقْلِ ) عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إنْ كَانَ لُغَوِيًّا ، وَعَنْ أَهْلِ الشَّرْعِ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فَإِذَا أَتَى الْحَادُّ بِهِ فَقَدْ تَمَّ مَطْلُوبُهُ ( وَفِي ) مَنْعِ الْحَدِّ ( الْحَقِيقِيِّ الْعَجْزُ لَازِمٌ ) لِلْحَادِّ لَكِنْ ( لَا لِمَا قِيلَ لَا يُكْتَسَبُ الْحَدُّ ) الْحَقِيقِيُّ ( بِبُرْهَانٍ ) أَيْ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ مَعَ مَا تَقَيَّدَ بِهِ وَيُقَالُ فِي تَوْجِيهِهِ ( لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ) أَيْ لِاسْتِغْنَاءِ الْحَدِّ عَنْ الْبُرْهَانِ ( إذْ ثُبُوتُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ لَهُ ) أَيْ لِلشَّيْءِ ( لَا يَتَوَقَّفُ ) ثُبُوتُهَا ( إلَّا عَلَى تَصَوُّرِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ الذَّاتِيَّ لِلشَّيْءِ لَا يُعَلَّلُ ثُبُوتُهُ لِلذَّاتِ بِشَيْءٍ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ لَهُ تَصَوُّرُهُ وَحَقِيقَةُ الْحَدِّ هِيَ حَقِيقَةُ الْمَحْدُودِ ، وَأَجْزَاؤُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ تَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْمُصَنِّفُ التَّعْلِيلَ بِهَذَا ( لِأَنَّ الْفَرْضَ جَهَالَةُ كَوْنِهَا ) أَيْ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ الَّتِي هِيَ الْحَدُّ ( أَجْزَاءَ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ ) الَّتِي هِيَ الْمَحْدُودُ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ مَعْلُومًا كَوْنُهَا إيَّاهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نَظَرٍ وَكَسْبٍ لَكَانَتْ الصُّورَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ مِنْ قَبِيلِ الْبَدِيهَاتِ الْمُسْتَغْنِيَةِ عَنْ الْحُدُودِ لَا النَّظَرِيَّاتِ فَكَيْفَ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِّ مَعْرِفَةُ الْمَحْدُودِ فَإِنْ قِيلَ نِسْبَةُ مَا يُقَالُ أَنَّهُ أَجْزَاءُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ إلَيْهَا بِالْجُزْئِيَّةِ لَهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ كَافِيًا فِي ثُبُوتِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَهَا فَالْجَوَابُ الْمَنْعُ .
( وَنِسْبَتُهَا ) أَيْ وَنِسْبَةُ مَا يُقَالُ أَنَّهُ أَجْزَاءُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ ( إلَيْهَا ) أَيْ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ ( بِالْجُزْئِيَّةِ ) أَيْ
بِأَنَّهَا أَجْزَاؤُهَا ( مُجَرَّدُ دَعْوَى ) يَتَسَلَّطُ عَلَيْهَا الْمَنْعُ وَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَلَا يُوجِبُهُ ) أَيْ ثُبُوتَ أَجْزَاءِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ ( إلَّا دَلِيلٌ ) يُوجِبُهُ ، وَالْمَفْرُوضُ خِلَافَهُ ( أَوْ لِلدَّوْرِ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ أَيْ وَلَا لِمَا قِيلَ لَا يُكْتَسَبُ الْحَدُّ بِبُرْهَانٍ دَفْعًا لِلدَّوْرِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُكْتَسَبًا بِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَقُّلِهِمَا فَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَقُّلِهِمَا ثُمَّ تَعَقُّلُ الْمَحْدُودِ مُسْتَفَادٌ مِنْ ثُبُوتِ الْحَدِّ لَهُ فَلَوْ تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْحَدِّ لَهُ عَلَى الدَّلِيلِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ .
وَإِنَّمَا مَنَعَ الْمُصَنِّفُ التَّعْلِيلَ بِهَذَا أَيْضًا ( لِأَنَّ تَوَقُّفَ الدَّلِيلِ ) عَلَى تَعَقُّلِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَحْدُودُ هُنَا إنَّمَا هُوَ ( عَلَى تَعَقُّلِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ ) مَا ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ تَصَوُّرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا ( وَهُوَ ) أَيْ تَعَقُّلُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الدَّلِيلِ ( بِوَاسِطَةِ تَوَقُّفِهِ ) أَيْ تَوَقُّفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ( عَلَى الْحَدِّ بِحَقِيقَتِهِ ) الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ الدَّلِيلِ فَلَا دَوْرَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ بِوَجْهٍ وَالْمَحْدُودُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهُ بِحَقِيقَتِهِ بِوَاسِطَةِ اسْتِدْعَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ تَصَوُّرًا بِالْحَدِّ بِحَقِيقَتِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِتَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ بِحَقِيقَتِهِ .
فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ الدَّلِيلَ تَوَقَّفَ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ بِوَجْهٍ وَتَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ بِحَقِيقَتِهِ تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ لَكِنْ يَطْرُقُ هَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ فِيهِ تَعَقُّلُ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ فَلَوْ أُقِيمَ الْبُرْهَانُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ
لِلْمَحْدُودِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَقُّلِ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَدٌّ ، وَفِيهِ تَعَقُّلُ الْمَحْدُودِ بِحَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ تَعَقُّلُ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ حَاصِلًا قَبْلَ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهُ فَلَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ لِيُجْعَلَ ذَرِيعَةً إلَى تَصَوُّرِهِ بِالْحَدِّ لَزِمَ الدَّوْرُ ( أَوْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ أَمْرًا فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ لِلدَّوْرِ أَيْ وَلَا لِمَا قِيلَ لَا يُكْتَسَبُ الْحَدُّ بِبُرْهَانٍ ؛ لِأَنَّ الْبُرْهَانَ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ أَمْرٍ ، وَهُوَ الْمَحْكُومُ بِهِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ وَسَطٌ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ( وَبِتَقْدِيرِهِ يَسْتَلْزِمُ عَيْنَهُ ) أَيْ وَلَوْ قُدِّرَ فِي الْحَدِّ وَسَطٌ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَهُ لِلْمَحْدُودِ لَكَانَ الْوَسَطُ مُسْتَلْزِمًا لِحُصُولِ عَيْنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ التَّامَّ لَيْسَ أَمْرًا غَيْرَ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ تَفْصِيلًا ، وَفِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ بَيِّنٌ فَإِذَا تَصَوَّرَ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِهَا الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحُكْمِ فَهُوَ حَاصِلٌ قَبْلَ الْبُرْهَانِ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْمُصَنِّفُ التَّعْلِيلَ بِهَذَا أَيْضًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّعْلِيلُ بِهِ ( غَيْرُ ضَائِرٍ ) لِدَعْوَى إثْبَاتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ دَعْوَى أَنَّ الْحَدَّ عَيْنُ الْمَحْدُودِ ، وَهِيَ مِمَّا تُمْنَعُ فَإِنَّ الْحَدَّ يُغَايِرُ الْمَحْدُودَ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْبُرْهَانِ مُطْلَقًا .
( فَإِنْ قَالَ ) الْمُعَلِّلُ بِهَذَا : وَكَيْفَ يَتَّجِهُ دَعْوَى اكْتِسَابِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ ( وَتَعَقُّلُهَا ) أَيْ عَيْنِ الْمَحْكُومِ
عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَحْدُودُ ( يَحْصُلُ بِالْحَدِّ ) أَيْ بِتَعَقُّلِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ أَجْزَاءُ الْمَحْدُودِ وَحَيْثُ تَوَقَّفَ ثُبُوتُهُ لِلْمَحْدُودِ عَلَى تَصَوُّرِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَإِذَا تَعَقَّلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدٌّ فَقَدْ حَصَلَ الْمَحْدُودُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ ( فَكَالْأَوَّلِ ) أَيْ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا التَّوْجِيهِ لِنَفْيِ اكْتِسَابِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ كَالْجَوَابِ عَنْ التَّوْجِيهِ لِنَفْيِهِ بِاسْتِغْنَاءِ ثُبُوتِ الْحَدِّ لَهُ عَنْ الْبُرْهَانِ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَتْ أَجْزَاءُ الْحَدِّ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ بِالْجُزْئِيَّةِ إلَى الْمَحْدُودِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ قَطْعًا مِنْ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا كَسْبٍ لَكِنَّ الْمَفْرُوضَ جَهَالَةُ انْتِسَابِهَا إلَيْهِ ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمَحْدُودُ بَدِيهِيَّ التَّصَوُّرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَنَظَرٍ ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ وَجَوَابَهُ مُغْنِيَانِ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ وَالْإِشَارَةُ إلَى جَوَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ التَّعْلِيلَ الْمُتَّجَهُ عِنْدَهُ لِهَذِهِ الدَّعْوَى مُضْرِبًا عَنْ هَذِهِ التَّعَالِيلِ كُلِّهَا فَقَالَ : ( بَلْ لِعَدَمِهِ ) أَيْ بَلْ الْعَجْزُ لَازِمٌ لِلْحَادِّ فِي مَنْعِ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ لِعَدَمِ وُجُودِ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ الْمَحْضَةِ ، وَهِيَ لَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْبُرْهَانِ فَالِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيلِهِ عَلَى ذِكْرِ عَدَمِ وُجُودِ الْبُرْهَانِ لَهُ أَوْلَى لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مَعَ قَصْرِ الْمَسَافَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاقَشَاتِ .
( فَإِنْ قِيلَ الْمُتَعَجِّبُ يُفِيدُهُ ) أَيْ إثْبَاتُ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ النَّاطِقَةِ حَدًّا لِلْإِنْسَانِ ( كَنَاطِقٍ ) أَيْ مِثْلِ أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْإِنْسَانَ ( مُتَعَجِّبٌ وَكُلُّ مُتَعَجِّبٍ ) حَيَوَانٌ نَاطِقٌ
فَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ( قُلْنَا ) هَذَا الدَّلِيلُ ( يُفِيدُ مُجَرَّدَ ثُبُوتِهِ ) أَيْ الْحَدُّ الَّذِي هُوَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لِلْمَحْدُودِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ لِلْمُسَاوَاةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْمُتَعَجَّبِ ( وَالْمَطْلُوبُ ) لِلْقَائِلِ بِأَنَّ الْحَدَّ يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ ( أَخَصُّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ مُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ بِالْبُرْهَانِ ، وَهُوَ ( كَوْنُهُ عَلَى وَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ ) أَيْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَدِّ ثَابِتًا لِلْمَحْدُودِ عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مَعْلُومٌ مِنْهُ بِالْبُرْهَانِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لَا يُثْبِتُهُ كَذَلِكَ ( فَالْحَقُّ حُكْمُ الْإِشْرَاقِيِّينَ ) ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ يُؤْثِرُونَ طَرِيقَةَ أَفْلَاطُونَ ، وَمَا لَهُ مِنْ الْكَشْفِ وَالْعِيَانِ عَلَى طَرِيقَةِ أَرِسْطُو ، وَمَا لَهُ مِنْ الْبَحْثِ وَالْبُرْهَانِ .
( لَا يُكْسِبُ الْحَقِيقَةَ إلَّا الْكَشْفُ ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ تُدْرَكُ بِهِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ كَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْمَحْسُوسَةِ بِالْحِسِّ السَّلِيمِ غَيْرِ مَقْدُورٍ لِلْمَخْلُوقِ تَحْصِيلُهُ ( وَهُوَ مَعْنَى الضَّرُورَةِ ) أَيْ مَا ثَبَتَ بِهَا ، وَهُوَ الضَّرُورِيُّ ، وَمِنْ ثَمَّةَ فُسِّرَ بِمَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْمَخْلُوقِ تَحْصِيلُهُ ، وَإِلَّا فَالضَّرُورَةُ هُنَا مُفَسَّرَةٌ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ ظَاهِرًا عَلَى الْكَشْفِ لَا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْحَقَائِقِ الْعَيْنِيَّةِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْحُدُودِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَشَّاءُونَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُؤْثِرُونَ طَرِيقَةَ أَرِسْطُو ؛ لِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ الشَّيْءَ يُذْكَرُ فِي تَعْرِيفِهِ الذَّاتِيِّ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَسَلَّمُوا أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ الْمَعْلُومِ ، وَالذَّاتِيُّ الْخَاصُّ لَيْسَ بِمَعْهُودٍ لِمَنْ يُعْرَفُ بِهِ فِي مَكَان آخَرَ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ خَاصًّا ، وَقَدْ فُرِضَ خَاصًّا هَذَا خَلَفٌ ثُمَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ فِي بَابِ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْمُتَصَوِّرَاتِ بِالْحَقَائِقِ الْعَيْنِيَّةِ مَا
سَلَكَهُ الْإِشْرَاقِيُّونَ فَمَنْ هُوَ بِصَدَدِ الْمُعَارَضَةِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ إمَّا مُوَافِقٌ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يُدْرِكَ حَقِيقَةَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَحِينَئِذٍ فَبَابُ الْمَنْعِ مَسْدُودٌ لِلتَّسْجِيلِ عَلَى الْمَانِعِ حِينَئِذٍ بِالْمُكَابَرَةِ وَالسَّفْسَطَةِ فِي ضَرُورِيٍّ ، وَإِمَّا عَارٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْذُورٌ وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ لَعَلَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ مِنْ امْتِنَاعِ الْكَسْبِ فِي التَّصَوُّرَاتِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِأَسْرِهَا مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ اخْتِيَارٌ لِطَرِيقَةِ الْإِشْرَاقِيِّينَ ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ بِهِ أَلِيقُ .
( وَكَذَا مَنْعُ التَّمَامِ ) أَيْ وَكَذَا الْعَجْزُ لَازِمٌ لِلْحَادِّ إذَا مَنَعَ مَانِعٌ كَوْنَ الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَمْرٍ حَقِيقِيٍّ حَدًّا تَامًّا لَهُ بِأَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِيهِ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ فَإِنَّ الْحَادَّ لَا يَسْتَطِيعُ حِينَئِذٍ دَفْعَهُ بِالْبُرْهَانِ ( فَلَوْ قَالَ ) الْحَادُّ فِي دَفْعِ هَذَا الْمَنْعِ هَذَا الْمَنْعُ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ ( لَوْ كَانَ ) هَذَا الْحَدُّ غَيْرَ تَامٍّ لِإِخْلَالِهِ بِبَعْضِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ ( لَمْ نَعْقِلْهَا ) أَيْ حَقِيقَةَ الْمَحْدُودِ بِالْكُنْهِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ تَعَقُّلِهَا بِالْكُنْهِ عَلَى تَعَقُّلِ جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِهَا لَكِنَّا عَقَلْنَاهَا بِالْكُنْهِ فَالْمَذْكُورُ فِي حَدِّهَا جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا ( مَنَعَ نَفْيَ التَّالِي ) أَيْ كَانَ لِلْمَانِعِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْيَ التَّالِي بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّك عَقَلَتْهَا بِالْكُنْهِ فَتَقَرَّرَ الْعَجْزُ ( فَالِاعْتِرَاضُ ) عَلَى الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدٌّ ( بِبُطْلَانِ الطَّرْدِ ) أَيْ طَرْدِهِ بِأَنْ وُجِدَ وَلَمْ يُوجَدْ الْمَحْدُودُ كَمَا لَوْ قِيلَ مَثَلًا حَدًّا لِكَلِمَةٍ بِدَالٍّ عَلَى مَعْنَى مُفْرَدٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْخَطِّ ، وَعَدَمِ صِدْقِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ .
( وَالْعَكْسُ )
أَيْ وَبِبُطْلَانِ عَكْسِهِ بِأَنْ وُجِدَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ وَلَمْ يَصْدُقْ الْحَدُّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ مَثَلًا حَدُّ الْإِنْسَانِ بِحَيَوَانٍ ضَاحِكٍ بِالْفِعْلِ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِعَدَمِ صِدْقِهِ عَلَى إنْسَانٍ لَمْ يَضْحَكْ قَطُّ ( بِنَاءً عَلَى الِاعْتِبَارِ فِي الْمَفْهُومِ ، وَعَدَمِهِ ) فَيَتَوَجَّهُ الْأَوَّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمُعْتَرِضِ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَادُّ فِي الْحَدِّ ، وَقَدْ وُضِعَ الِاسْمُ لِذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَالْمَتْرُوكِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُسَمَّى فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ لَزِمَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ وَيَتَوَجَّهُ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ ذَكَرَهُ الْحَادُّ فِي الْحَدِّ ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمَحْدُودِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيمَا وُضِعَ الِاسْمُ لَهُ فَلَزِمَ مِنْ ذِكْرِهِ فِيهِ عَدَمُ الِانْعِكَاسِ وَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ الْحَادُّ لِلْمُعْتَرِضِ بِذَلِكَ الْحَدِّ عَلَى رَأْيِهِ لِيُقَابِلَ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَيُعَرِّفَ الْأَمْرَ الَّذِي فِيهِ يَتَفَاوَتَانِ مِنْ زِيَادَةِ أَوْ نُقْصَانٍ وَيُجَرِّدَ النَّظَرَ إلَيْهِ فَيُبْطِلَهُ بِطَرِيقِهِ أَوْ يُثْبِتَهُ بِطَرِيقِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا ( فَإِنَّمَا يُورِدُ ) الِاعْتِرَاضَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْحَدِّ ( مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْمِيٌّ ) ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ ، وَعَدَمُهُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَادِّ قَدْ أَخْرَجْت عَنْ مُسَمَّى اللَّفْظِ كَذَا ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ أَوْ أَدْخَلْته فِيهِ ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدًّا حَقِيقِيًّا حَتَّى يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّظَرُ مَأْخُوذًا فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيلِ قَدَّمَ تَفْسِيرَهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى رُجُوعِ النَّظَرِ إلَيْهِ فَقَالَ ( وَالنَّظَرُ حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنْ الْمَطَالِبِ أَيْ فِي الْكَيْفِ طَالِبَةٌ لِلْمَبَادِئِ بِاسْتِعْرَاضِ الصُّوَرِ أَيْ تَكَيُّفُهَا بِصُورَةٍ صُورَةٍ لِتَجِدَ
الْمُنَاسِبَ ، وَهُوَ الْوَسَطُ فَتَرَتُّبُهُ مَعَ الْمَطْلُوبِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَلْزِمٍ ) .
اعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا بِمَعَانٍ وَاَلَّذِي يَهُمُّنَا شَرْحُهُ هُنَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَيُرَادِفُ الْفِكْرَ فِي الْمَشْهُورِ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ نَفْسُ الِانْتِقَالِ الْمَذْكُورِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْفِكْرَ فِعْلٌ إرَادِيٍّ صَادِرٍ عَنْ النَّفْسِ لِاسْتِحْصَالِ الْمَجْهُولَاتِ بِالْمَعْلُومَاتِ ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُوَاجِهَةٍ الْمُبْصِرِ وَتَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوِهِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ ، وَإِزَالَةِ الْغِشَاوَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْإِبْصَارِ ، كَذَلِكَ الْإِدْرَاكُ بِالْبَصِيرَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ وَتَحْدِيقِ الْعَقْلِ نَحْوِهِ طَلَبًا لِإِدْرَاكِهِ وَتَجْرِيدِ الْعَقْلِ عَنْ الْغَفَلَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْغِشَاوَةِ .
ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّظَرَ اكْتِسَابُ الْمَجْهُولَاتِ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ التَّعَالِيمِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ كُلَّ مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ مِنْ أَيِّ مَعْلُومٍ اُتُّفِقَ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْلُومَاتٍ مُنَاسَبَةٍ لَهُ وَلَا فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ بَلْ لَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا ، وَمِنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَارِضَةٍ لَهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ إذَا أَرَدْنَا تَحْصِيلَ مَجْهُولٍ تَصْدِيقِيٍّ مَشْعُورٍ بِهِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ انْتَقَلَتْ النَّفْسُ مِنْهُ وَتَحَرَّكَتْ فِي الْمَعْقُولَاتِ حَرَكَةً مِنْ بَابِ الْكَيْفِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْكَيْفِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الصُّوَرُ الْمَعْقُولَةُ عَلَى قِيَاسِ الْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ طَالِبَةَ الْمَبَادِئِ لِهَذَا الْمَطْلُوبِ
أَعْنِي تَكَيَّفَتْ النَّفْسُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمَخْزُونَةِ عِنْدَهَا بَعْدَ وَاحِدٍ بِوَاسِطَةِ اسْتِعْرَاضِهَا ، وَمُلَاحَظَتِهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي أَيْ اتَّصَفَتْ بِالْحَالَاتِ الْعَارِضَةِ لَهَا عِنْدَ مُلَاحَظَتِهَا لِلْمَعَانِي الْمَخْزُونَةِ عِنْدَهَا فَإِنَّهَا إذَا لَاحَظَتْ مَعْنًى تَحْصُلُ لَهَا حَالَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهَا مُغَايِرَةٌ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا عِنْدَ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى آخَرَ وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ طَالِبَةً لِمَبَادِئِ هَذَا الْمَطْلُوبِ إلَى أَنْ تَظْفَرَ بِمُبَادِيهِ أَعْنِي الْأَمْرَ الْمُنَاسِبَ لَهُ الْمُفْضِيَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِهِ ، وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْحَدُّ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ فَتَتَحَرَّك فِيهِ مُرَتَّبَةُ لَهُ مَعَ طَرَفَيِّ الْمَطْلُوبِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَلْزَمٍ لَهُ اسْتِلْزَامًا قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا وَتَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَطْلُوبِ مَثَلًا إذَا كَانَ مَطْلُوبُ النَّفْسِ كَوْنَ الْعَالَمِ حَادِثًا انْتَقَلَتْ مِنْهُ وَتَرَدَّدَتْ فِي الْمَعَانِي الْحَاضِرَةِ عِنْدَهَا فَوَجَدَتْ الْمُتَغَيِّرَ مُنَاسِبًا لِكَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَالَمِ ، وَمَوْضُوعًا لِلْحَادِثِ فَرَتَّبْته فَحَصَلَ الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ ثُمَّ رَجَعْت إلَى أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ فَظَهَرَ أَنَّ هُنَا حَرَكَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَأَنَّ مَا مِنْهُ الْحَرَكَةَ الْأُولَى هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَشْعُورُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَا هِيَ فِيهِ هِيَ الصُّوَرُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَخْزُونَةُ عِنْدَ الْعَقْلِ ، وَمَا هِيَ إلَيْهِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ ، وَمَا مِنْهُ الْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ هُوَ الْوَسَطُ أَيْضًا ، وَمَا هِيَ فِيهِ هِيَ الْحُدُودُ ، وَمَا هِيَ إلَيْهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْمَطْلُوبِ ، وَأَنَّ الْحَرَكَةَ الْأُولَى تَحْصُلُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَادَّةِ أَعْنِي مَبَادِئَ الْمَطْلُوبِ الَّتِي يُوجَدُ مَعَهَا الْفِكْرَةُ بِالْقُوَّةِ وَالثَّانِيَةُ تَحْصُلُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ أَعْنِي التَّرْتِيبَ الَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ الْفِكْرُ بِالْفِعْلِ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الْفِكْرُ بِجُزْأَيْهِ مَعًا ،
وَإِلَّا فَالْفِكْرُ عَرَضٌ لَا مَادَّةٌ لَهُ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَوَسِّطَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَجْهُولَاتِ فِي الِاسْتِحْصَالِ هُوَ مَجْمُوعُ الِانْتِقَالَيْنِ إذْ بِهِ يُتَوَصَّلُ مِنْ الْمَعْلُومِ إلَى الْمَجْهُولِ تَوَصُّلًا اخْتِيَارِيًّا ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ بِوَاسِطَةِ الْجُزْءِ الثَّانِي ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَعَلَى إنَّ الْفِكْرَ هُوَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ الْحَاصِلُ مِنْ الِانْتِقَالِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَجْهُولِ مِنْ مُبَادِيهِ يَدُورُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا .
وَأَمَّا الِانْتِقَالَانِ فَخَارِجَانِ عَنْ الْفِكْرِ إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ لَازِمٌ لَهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ قَطْعًا ، وَالْأَوَّلُ لَا بَلْ هُوَ أَكْثَرِيُّ الْوُقُوعِ مَعَهُ ، وَهَلْ هَذَا النِّزَاعُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى أَوْ إنَّمَا هُوَ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْفِكْرِ لَا غَيْرُ ؟ .
جَزَمَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ بِالثَّانِي وَظَهَرَ أَيْضًا خُرُوجُ الْحَدْسِ ، وَمَا يَتَوَارَدُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي بِلَا قَصْدٍ عَنْ حَدِّ النَّظَرِ ثُمَّ بَقِيَ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالصَّحِيحِ ، وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى شَرَائِطِهِ مَادَّةً وَصُورَةً أَوْ شَامِلٌ لَهُ وَلِلْفَاسِدِ ، وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَذَكَرَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ شَامِلٌ لَهُمَا ، وَأَنَّ التَّرْتِيبَ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَلْزِمٍ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّهُ سَيَظْهَرُ أَنَّ فَسَادَ النَّظَرِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَادَّةِ فَلَوْ رَتَّبَ مَادَّةً فَاسِدَةً تَرْتِيبًا مُسْتَلْزِمًا كَأَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْمُؤَثِّرِ ، وَكُلُّ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ قَدِيمٌ حَتَّى أَنْتَجَ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ كَانَ هَذَا نَظَرًا فَاسِدًا ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِوُجُودِ الْأَمْرِ الْمُنَاسِبِ بِحَسَبِ الِاعْتِقَادِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ أَوْ لَا كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الْمَطْلُوبِ نَعَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمَطَالِبِ التَّصْدِيقِيَّةِ يَقِينِيَّةً كَانَتْ أَوْ ظَنِّيَّةً كَمَا يُفِيدُهُ
قَوْلُهُ لِتَجِدَ الْمُنَاسِبَ إلَخْ لَا مَا يَعُمُّهَا وَيَعُمُّ التَّصَوُّرَاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( وَالدَّلِيلُ ) لُغَةً فَعِيلُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ الدَّلَالَةِ ثُمَّ ظَاهِرُ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ وَالْهُدَى وَالرَّشَادُ مُتَرَادِفَاتٌ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ : لَكِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنَّ الْهُدَى أَخَصُّ مِنْ الدَّلَالَةِ ، وَقَوْلِ صَاحِبِ الْمَصَادِرِ أَنَّ الْإِرْشَادَ أَخُصُّ مِنْهَا قَالُوا وَلِلدَّلِيلِ لُغَةً ثَلَاثَةُ مَعَانٍ ( الْمُوصِلُ بِنَفْسِهِ ) إلَى الْمَقْصُودِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ بِالنَّاصِبِ لِلدَّلِيلِ ( وَالذَّاكِرِ لِمَا فِيهِ إرْشَادٌ ) إلَى الْمَطْلُوبِ كَاَلَّذِي يَعْرِفُ الطَّرِيقَ بِذِكْرِ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ ( وَمَا فِيهِ إرْشَادٌ ) كَالْعَلَامَةِ الْمَنْصُوبَةِ مِنْ الْأَحْجَارِ أَوْ غَيْرِهَا لِتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ فَيُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ الدَّلِيلُ عَلَى اللَّهِ هُوَ اللَّهُ كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعَارِفُونَ ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ الْعَالِمُ بِكَسْرِ اللَّامِ الذَّاكِرُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعَالَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ أَيْضًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِعِبَادِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا : إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى اللَّهِ هُوَ اللَّهُ لَكِنْ لَا عَلَى قَصْدِ الْحَصْرِ بِخِلَافِهِ عَلَى الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ .
وَعَلَى الثَّالِثِ الْعَالَمُ بِفَتْحِ اللَّامِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إرْشَادًا إلَيْهِ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ قَالُوا : وَإِطْلَاقُ الدَّلِيلِ عَلَى الدَّالِّ وَالذَّاكِرِ لِلدَّلِيلِ حَقِيقَةٌ ، وَعَلَى مَا فِيهِ إرْشَادٌ مَجَازٌ إذْ الْفِعْلُ قَدْ يُنْسَبُ إلَى الْآلَةِ كَمَا يُقَالُ السِّكِّينُ قَاطِعٌ .
( وَفِي الِاصْطِلَاحِ ) الْخَاصِّ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ لَا الْفُقَهَاءِ لَا غَيْرُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ الْبَدِيعِ ( مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِذَلِكَ النَّظَرِ فِيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ) فَمَا أَيُّ شَيْءٍ جِنْسٍ شَامِلٍ لِلدَّلِيلِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا عَدَاهُ فَصْلٌ أَخْرَجَ مَا سِوَاهُ ثُمَّ قَوْلُهُ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ دُونَ مَا يَتَوَصَّلُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَلِيلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّوَصُّلُ بِالْفِعْلِ بَلْ يَكْفِي
إمْكَانُهُ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا بِعَدَمِ النَّظَرِ فِيهِ أَصْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الصَّلَاحِيَّةُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَعْرُوضُ الدَّلَالَةِ ، وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْ الظَّنَّ إذَا نَظَرَ فِيهِ ، وَهَذَا حَاصِلٌ ، نَظَرَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَنْظُرْ .
وَقَوْلُهُ بِذَلِكَ النَّظَرِ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ يَشْمَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ فَهَذَا التَّعْرِيفُ لِلدَّلِيلِ يَشْمَلُ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ أَيْضًا لَكِنْ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ أَمَّا عَلَى الْأُصُولِيِّينَ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ فَاسِدًا إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ التَّجَوُّزِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ فَسَادٌ ا هـ .
نَعَمْ الْمَذْكُورُ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ تَقْيِيدُ النَّظَرِ بِالصَّحِيحِ قَالُوا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى الْمَطْلُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا لِلْوُصُولِ وَلَا آلَةً لَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَلِكَ إفْضَاءٌ اتِّفَاقِيٌّ ، وَأَوْرَدَ الْإِفْضَاءُ إلَى الْمَطْلُوبِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ التَّوَصُّلِ إلَيْهِ لَا مَحَالَةَ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ مَعْنَى التَّوَصُّلِ يَقْتَضِي وَجْهَ الدَّلَالَةِ بِخِلَافِ الْإِفْضَاءِ يَعْنِي التَّوَصُّلَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالنَّظَرِ فِيمَا هُوَ مَعْرُوضُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَنْتَقِلَ الذِّهْنُ بِهَا إلَى الْمَطْلُوبِ الْمُسَمَّاةِ وَجْهَ الدَّلَالَةِ ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي النَّظَرِ الْفَاسِدِ ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْمَطْلُوبِ بِوَاسِطَةِ اعْتِقَادٍ أَوْ ظَنٍّ كَمَا إذَا نَظَرَ فِي الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ الْبَسَاطَةُ أَوْ فِي النَّارِ مِنْ حَيْثُ التَّسْخِينُ فَإِنَّ الْبَسَاطَةَ وَالتَّسْخِينَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ
يُنْتَقَلَ بِهِمَا إلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَالدُّخَانِ وَلَكِنْ يُؤَدِّي إلَى وُجُودِهِمَا مِمَّنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ بَسِيطٌ وَكُلُّ بَسِيطٍ لَهُ صَانِعٌ ، وَمِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مُسَخَّنٍ لَهُ دُخَانٌ ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْفَاسِدَ قَدْ يُمْكِنُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ : وَالْحُكْمُ بِكَوْنِ الْإِفْضَاءِ فِي الْفَاسِدِ اتِّفَاقِيًّا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَوَاذِبِ ارْتِبَاطٌ عَقْلِيٌّ يَصِيرُ بِهِ بَعْضُهَا وَسِيلَةً إلَى الْبَعْضِ أَوْ يَخُصُّ بِفَسَادِ الصُّورَةِ أَوْ بِوَضْعِ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مَكَانَهُ وَأُرِيدَ بِالنَّظَرِ فِيهِ مَا يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ فِيهِ نَفْسُهُ ، وَفِي صِفَاتِهِ ، وَأَحْوَالِهِ فَيَشْمَلُ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي هِيَ بِحَيْثُ إذَا رُتِّبَتْ أَدَّتْ إلَى الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ وَالْمُفْرَدِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ إذَا نُظِرَ فِي أَحْوَالِهِ أَوْصَلَ إلَيْهِ كَالْعَالَمِ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِالْإِمْكَانِ الْمَعْنَى الْعَامَّ الْمُجَامِعَ لِلْفِعْلِ وَالْوُجُوبَ انْدَرَجَ فِي الْحَدِّ الْمُقَدِّمَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ وَحْدَهَا .
وَأَمَّا إذَا أُخِذَتْ مَعَ التَّرْتِيبِ فَيَسْتَحِيلُ النَّظَرُ فِيهَا إذْ لَا مَعْنَى لِلنَّظَرِ وَحَرَكَةِ النَّفْسِ فِي الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الْمُرَتَّبَةِ ، وَقَوْلُهُ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ احْتِرَازٌ مِمَّا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى مَطْلُوبٍ تَصَوُّرِيٍّ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الشَّارِحُ حَدًّا وَرَسْمًا تَامَّيْنِ وَنَاقِصَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ اصْطِلَاحًا ثُمَّ حَيْثُ أَطْلَقَ التَّوَصُّلَ إلَى الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ شَمَلَ مَا كَانَ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ ، وَمَا كَانَ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَانْطَبَقَ التَّعْرِيفُ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ كَالْعَالَمِ الْمُوصِلِ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِ إلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَالْغَيْمِ الرَّطْبِ الْمُوصِلِ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِي حَالِهِ إلَى ظَنِّ وُقُوعِ الْمَطَرِ ، وَقَدْ يَخُصُّ الدَّلِيلَ بِالْقَطْعِيِّ فَيُقَالُ إلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ
وَيُسَمَّى الظَّنُّ حِينَئِذٍ أَمَارَةُ هَذَا ، وَقَدْ تَعَقَّبَ شَارِحُ الْعَقَائِدِ هَذَا التَّعْرِيفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى نَفْسِ الْمَدْلُولِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ " يُمْكِنُ " مُفْسِدٌ إذْ الْمُرَادُ بِالْإِمْكَانِ إمَّا عَامٌّ فَيَكُونُ مَفْهُومُ التَّعْرِيفِ حِينَئِذٍ الدَّلِيلَ هُوَ الَّذِي بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ سَلْبُ التَّوَصُّلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ أَوْ خَاصٍّ فَيَكُونُ مَفْهُومُهُ سَلْبَ التَّوَصُّلِ عَنْهُ وَإِثْبَاتَهُ لَهُ لَيْسَا بِضَرُورِيِّينَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ شِئْت لِصِدْقِ هَذَا الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لَكِنْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ ثُمَّ قَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَإِلْهَامِهِ : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي حَدِّ الدَّلِيلِ هُنَا هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ التَّصْدِيقُ ا هـ .
وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - يَقُولُ التَّعَقُّبُ لِلتَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ بِصِدْقِهِ عَلَى الْمَدْلُولِ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ عَلَى الْمَدْلُولِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ التَّصْدِيقُ فَمَا هُوَ جَوَابُهُ عَنْ هَذَا فَهُوَ جَوَابُهُمْ ثُمَّ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَالْمَدْلُولَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَالتَّعْرِيفِ لَهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ ، وَإِذَنْ لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ التَّعْرِيفِ لِلدَّلِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَدْلُولِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَدْلُولٌ نَعَمْ الْوَجْهُ ذِكْرُ اللُّزُومِ لَا الْإِمْكَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمْكَانَ الْخَاصَّ أَوْ الْعَامَّ ، وَإِنْ أَمْكَنَ التَّمَحُّلُ لِتَوْجِيهِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَاَلَّتِي عُدُولًا عَمَّا هُوَ كَالْفَصْلِ الْقَرِيبِ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَرَضِ الْعَامِّ ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْإِمْكَانِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ
أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى مَا أَرَادَ النَّاظِرُ فَغَيْرُ لَازِمٍ قَطْعًا بَلْ هُوَ إسْرَافٌ ظَاهِرٌ وَغُلُوٌّ مَرْدُودٌ فَتَأَمَّلْهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( فَهُوَ ) أَيْ الدَّلِيلُ اصْطِلَاحًا شَرْعِيًّا ( مُفْرَدٌ ) بِالْمَعْنَى الَّذِي يُقَابِلُ الْجُمْلَةَ ( قَدْ يَكُونُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوبِ كَالْعَالَمِ ) فِي الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُنَا الْعَالَمُ حَادِثٌ حَتَّى أَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِ إلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ بِقَوْلِنَا الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ ( أَوْ الْوَسَطُ وَلَوْ مَعْنَى فِي السَّمْعِيَّاتِ ) أَيْ ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ فِي إثْبَاتِ الْمَطَالِبِ الْخَبَرِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ فِيهِ دَلِيلًا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَطْ .
( وَمِنْهُ ) أَيْ الدَّلِيلُ الْمُفْرَدُ ( نَحْوَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالنَّظَرِ فِيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ هُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ بِأَنْ يُقَالَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَمْرٌ بِإِقَامَتِهَا وَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا يُفِيدُ وُجُوبَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُفِيدُ وُجُوبَهَا ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آتَوْا الزَّكَاةَ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ نَحْوَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ كَوْنُ الدَّلِيلِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوبِ وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مُفْرَدًا حَدًّا وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا مُفْرَدًا لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ لَفْظًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ لَيْسَ بِمُفْرَدٍ مَعْنًى فَهُوَ مُفْرَدٌ لَفْظًا ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً فِي الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ إذَا أُرِيدَ بِهَا اللَّفْظُ كَانَتْ مُفْرَدًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَتِهَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنَى أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهَا لَيْسَ بِجُمْلَةٍ ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْأَبْهَرِيِّ الدَّلِيلُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ مَا يُجْعَلُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي صُغْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْأَصْغَرُ ( ذِكْرُ كُلٍّ ) مِنْ هَذَيْنِ أَنَّهُ
دَلِيلٌ فِي الِاصْطِلَاحِ ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا عَنْ الْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ أَنَّ الدَّلِيلَ اصْطِلَاحًا يَشْمَلُ الْمُفْرَدَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ إذَا نُظِرَ فِي أَحْوَالِهِ أَوْصَلَ إلَى الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ وَالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي بِحَيْثُ إذَا رُتِّبَتْ أَدَّتْ إلَى الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ وَالْمُقَدِّمَاتِ الْمُرَتَّبَةِ وَحْدَهَا ( إلَّا أَنَّ مَنْ أَفْرَدَ ) أَيْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ مُفْرَدٌ ( وَأَدْخَلَ الِاسْتِدْلَالَ فِي مُسَمَّى الدَّلِيلِ ) كَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُمَا ذَكَرَا مِنْ أَقْسَامِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الِاسْتِدْلَالَ زِيَادَةً عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَهُوَ ( ذَاهِلٌ ) ؛ لِأَنَّ التَّرْكِيبَ لَازِمٌ فِي التَّلَازُمِ ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ حَاصِلَهُ عَلَى مَا سَتَعْلَمُ تَرْكِيبٌ اقْتِرَانِيٌّ أَوْ اسْتِثْنَائِيٌّ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ فَبَعْضُ الدَّلِيلِ حِينَئِذٍ مُرَكَّبٌ ، وَقَدْ كَانَ كُلُّهُ مُفْرَدًا .
( وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ ) الدَّلِيلُ ( مَجْمُوعُ الْمَادَّةِ وَالنَّظَرِ فَهُوَ الْأَقْوَالُ الْمُسْتَلْزِمَةُ ) قَوْلًا آخَرَ وَحَذَفَهُ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى شُهْرَتِهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَقْوَالِ مَا فَوْقَ قَوْلٍ وَاحِدٍ وَبِالْقَوْلِ الْمُرَكَّبِ التَّامُّ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَعْقُولُ إنْ كَانَ الدَّلِيلُ مَعْقُولًا وَالْمَلْفُوظُ إنْ كَانَ الدَّلِيلُ مَلْفُوظًا ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عِنْدَهُمْ كَالْقَوْلِ ، وَالْقَضِيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ اشْتِرَاكًا أَوْ حَقِيقَةً وَمَجَازًا ، وَبِالِاسْتِلْزَامِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنًا أَوْ غَيْرَ بَيْنٍ ذَاتِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ الْمَعْقُولُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ أَعْنِي التَّلَفُّظَ بِالنَّتِيجَةِ غَيْرُ لَازِمٍ لَا لِلْمَعْقُولِ وَلَا لِلْمَسْمُوعِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُغَايِرُ كُلًّا مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ كُلُّ قَضِيَّتَيْنِ وَلَوْ مُتَبَايِنَتَيْنِ دَلِيلًا لِاسْتِلْزَامِ مَجْمُوعِهِمَا كُلًّا مِنْهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَتَخْرُجُ الْقَضِيَّةُ الْوَاحِدَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِذَاتِهَا عَكْسَهَا الْمُسْتَوِي ، وَعَكْسَ نَقِيضِهَا وَالْقَوْلَانِ فَصَاعِدًا مِنْ الْمُرَكَّبَاتِ التَّقْيِيدِيَّةِ أَوْ مِنْهَا وَمِنْ التَّامَّةِ ، وَقَوْلَانِ مِنْ التَّامَّةِ إذَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي حَدٍّ أَوْسَطَ وَيَدْخُلُ الْقِيَاسُ الْكَامِلُ وَغَيْرُهُ وَالْبَسِيطُ وَالْمُرَكَّبُ وَالْقَطْعِيُّ وَالظَّنِّيُّ الَّذِي هُوَ الْإِمَارَةُ ( وَلَا تَخْرُجُ الْأَمَارَةُ وَلَوْ يُزَادُ لِنَفْسِهَا ) بَعْدَ الْمُسْتَلْزِمَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي أَنَّ الْأَمَارَةَ وَإِنْ لَمْ تَسْتَلْزِمْ ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ لَا تَخْرُجُ بِقَيْدِ الِاسْتِلْزَامِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَدِّمَتَانِ .
فَوُجُودُ الْقَاضِي فِي الْمَنْزِلِ مَثَلًا ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قِيَامِ بَغْلَتِهِ مَشْدُودَةً عَلَى بَابِهِ لَكِنْ يَلْزَمُ ظَنُّهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا قُلْت إنْ كَانَتْ بَغْلَةُ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ فَهُوَ فِي الْمَنْزِلِ لَكِنَّهَا عَلَى بَابِهِ يَلْزَمُ قَطْعًا فَهُوَ فِي
الْمَنْزِلِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي هِيَ الدَّلِيلُ ظَنٌّ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الظَّنُّ قَطْعًا بِالظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ .
ثُمَّ مَنْ زَادَ لِنَفْسِهَا لَمْ يَزِدْهُ لِإِخْرَاجِهَا ( بَلْ لِيُخْرِجَ قِيَاسَ الْمُسَاوَاةِ ) ، وَهُوَ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ مُتَعَلَّقٌ مَحْمُولٌ أَوَّلَاهُمَا مَوْضُوعُ الْأُخْرَى كَ ( ا ) مُسَاوٍ لِ ( ج ) وَ ( ج ) مُسَاوٍ لِ ( ب ) فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ ( ا ) مُسَاوٍ لِ ( بِ ) لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ كَمَا قَالَ ( لِأَنَّهُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِلْزَامَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ أَجَنِيبَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مُسَاوٍ لَلْمُسَاوِي لِلشَّيْءِ مُسَاوٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الِاسْتِلْزَامُ حَيْثُ تَصْدُقُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ حَيْثُ لَا تَصْدُقُ كَمَا فِي ( ا ) مُبَايِنٌ لِ ( ب ) وَ ( ب ) مُبَايِنٌ لِ ( ج ) فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ ( ا ) مُبَايِنٌ لِ ( ج ) ؛ لِأَنَّ مُبَايِنَ الْمُبَايِنِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا ( وَلَا حَاجَةَ ) إلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِإِخْرَاجِ هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ الدَّلِيلِ ( لِأَعَمِّيَّتِهِ ) أَيْ الْمُسْتَلْزِمِ مَا كَانَ بِنَفْسِهِ ، وَمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ( فَيَدْخُلُ ) قِيَاسُ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّلِيلِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَكُونُ الْمُقَدِّمَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ جُزْءَ الدَّلِيلِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جُزْءَ قِيَاسٍ وَيُجْعَلُ الدَّلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْقِيَاسِ وَكَشَفَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي مَلْزُومِيَّةِ الْعِلْمِ الثَّالِثِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثِ الْمُقَدِّمَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا صُورَةُ الشَّكْلِ وَالْأَجْنَبِيَّةُ فَحِينَئِذٍ الدَّلِيلُ تَارَةً يَقُومُ بِمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بِثَلَاثٍ وَتَارَةً بِأَكْثَرَ كَمَا فِي الْأَقْيِسَةِ الْمُرَكَّبَةِ .
ثُمَّ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مَتَى سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا قَوْلٌ آخَرُ فَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلَا ) حَاجَةَ ( لِقَيْدِ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ قَيْدَ
التَّسْلِيمِ ( لِدَفْعِ الْمَنْعِ ) عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ الْقِيَاسُ ( لَا ) ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ ( لِلِاسْتِلْزَامِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ اسْتِلْزَامَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ لَازِمٌ ( لِلصُّورَةِ ) أَلْبَتَّةَ ثُمَّ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا ( فَتَسْتَلْزِمُ ) الصُّورَةُ الْقَوْلَ الْآخَرَ ( دَائِمًا عَلَى نَحْوِهَا ) مِنْ قَطْعٍ أَوْ ظَنٍّ فَإِنْ كَانَتْ الْأَقْوَالُ قَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ اسْتَلْزَمَتْ قَطْعِيًّا ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً اسْتَلْزَمَتْ ظَنِّيًّا ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً أَنْتَجَتْ صَادِقًا ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً أُنْتِجَتْ كَاذِبًا ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ الْمُتَقَدِّمُونَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الِاسْتِلْزَامِ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَحَقُّقَ اللُّزُومِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ وَلَا اللَّازِمِ ، أَوْ لَا يَرَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الْعَالَمُ قَدِيمٌ وَكُلُّ قَدِيمٍ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْمُؤَثِّرِ يَسْتَلْزِمُ الْعَالَمَ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْمُؤَثِّرِ إذْ لَوْ تَحَقَّقَ الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَحَقَّقَ الثَّانِي قَطْعًا ، وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِلْزَامِ وَلَا تَحَقُّقَ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا ، وَأَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِيَاسٌ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَاتُهُ صَادِقَةً مُسَلَّمَةً فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ خُرُوجُ الْقِيَاسِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ كَاذِبَةٌ وَلَا أَنَّ تِلْكَ الْقَضَايَا مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْوَاقِعِ ، وَأَنَّ اللَّازِمَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ أَيْضًا ( وَلَزِمَ ) مِنْ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ النَّظَرِ ( سَبْقُ الشُّعُورِ بِالْمَطْلُوبِ ) التَّصْدِيقِيِّ النَّظَرِيِّ لِلنَّاظِرِ قَبْلَ النَّظَرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِحُصُولِهِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ طَلَبِ الْمَجْهُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَذَلِكَ ( كَطَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ وَكَيْفِيَّتَيْ الْحُكْمِ ) أَيْ كَتَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومُ بِهِ وَالنِّسْبَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا الصَّالِحَةُ مَوْرِدًا لِلْحُكْمِ وَصِفَتِهِ
مِنْ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ تَصَوُّرًا سَاذَجًا .
( وَالتَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا ) أَيْ وَتَرَدُّدُ النَّاظِرِ إنَّمَا هُوَ كَائِنٌ فِي ثُبُوتِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ ( عَلَى أَيِّ كَيْفِيَّتَيْهِ ) مِنْ الْإِيقَاعِ وَالِانْتِزَاعِ بِعَيْنِهَا فَهُوَ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّصْدِيقِيَّ مَعْلُومٌ بِاعْتِبَارِ التَّصَوُّرِ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ عَمَّا عَدَاهُ مَجْهُولٌ بِاعْتِبَارِ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ بِحَسَبِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ طَلَبُ مَا لَا شُعُورَ بِهِ أَصْلًا وَلَا طَلَبُ مَا هُوَ حَاصِلُ وَلَا عَدَمُ مَعْرِفَةِ أَنَّهُ الْمَطْلُوبُ إذَا حَصَلَ وَلَمَّا أَوْرَدَ عَلَى التَّصَوُّرِ مِثْلَ هَذَا كَمَا هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيّ امْتِنَاعُ اكْتِسَابِ التَّطَوُّرَاتِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّصَوُّرَيَّ يَمْتَنِعُ طَلَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَشْعُورٌ بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ حَاصِلٌ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ أَوْ لَيْسَ بِمَشْعُورٍ بِهِ مُطْلَقًا فَطَلَبُهُ مُحَالٌ أَيْضًا لِاسْتِحَالَةِ طَلَبِ مَا هُوَ كَذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ قُطْبِ الدِّينِ شَارِحِ الْمَطَالِعِ أَنَّ هَذَا لَا يُرَادُ إنَّمَا وَقَعَ أَوَّلًا عَلَى الْمَطَالِبِ التَّصَوُّرِيَّةِ ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَوْرَدَهُ مَاتِنُ مُخَاطِبًا بِهِ سُقْرَاطَ ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّقْسِيمَ غَيْرُ حَاصِرٍ بَلْ هُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ وَجْهٍ مَجْهُولٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَطْلُبُ مِنْ الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ الْوَجْهَ الْمَجْهُولَ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ اسْتِطْرَادًا فَقَالَ ( وَالْمَحْدُودُ مَعْلُومٌ ) لِلطَّالِبِ ( مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسَمًّى ) لِلَفْظٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ مَجْهُولٍ لَهُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحَقِيقَةُ ( فَيَطْلُبُ ) مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَعْلُومٌ حَقِيقَتَهُ الْمَجْهُولَةِ ، وَهِيَ ( أَنَّهُ أَيْ مَادَّةٌ مُرَكَّبَةٌ ) مِنْ الْمَوَادِّ الْمُرَكَّبَةِ لِيَتَصَوَّرَ أَجْزَاءَهُ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا وَيُرَتِّبُهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي
فَيَتَّضِحُ الْمَحْدُودُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُمَيِّزُ أَجْزَاءَ الْمَحْدُودِ أَوْ الْمَحْدُودُ مَعْلُومٌ لِلطَّالِبِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ الْعَرَضِيَّةِ مَجْهُولٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحَقِيقَةُ فَيَطْلُبُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لَهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ لِيَصِيرَ الْمَجْهُولُ لَهُ مَعْلُومًا أَيْضًا فَالْوَجْهُ الْمَجْهُولُ ، وَهُوَ الذَّاتُ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْوَجْهُ الْمَعْلُومُ ، وَهُوَ بَعْضُ الصِّفَاتِ أَوْ الِاعْتِبَارَاتِ ، وَلَوْ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُسَمَّى لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ فَلَمْ يَلْزَمْ طَلَبُ الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا وَلَا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ .
وَإِنَّمَا قَالَ أَيُّ مَادَّةٍ مُرَكَّبَةٍ ؛ لِأَنَّ الْبَسِيطَ لَا يُكْتَسَبُ بِالْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ كَمَا عَرَفْت يُمَيِّزُ أَجْزَاءَ الْمَحْدُودِ ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مَعْنَاهُ لَا تَعَدُّدَ فِيهَا وَالْبَسِيطُ لَا أَجْزَاءَ لَهُ فَيَنْتَفِي تَمَيُّزُهَا .
فَإِنْ قِيلَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكْتَسِبَ حَقِيقَةَ الْبَسِيطِ الْمَجْهُولَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ بِالنَّظَرِ بِأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَى الْمَبْدَأِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى بَسِيطٌ يَسْتَلْزِمُ الِانْتِقَالَ إلَى الْمَطْلُوبِ فَقَدْ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَنْعِ قَائِلًا ( وَتَجْوِيزُ الِانْتِقَالِ إلَى بَسِيطٍ يَلْزَمُهُ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ بِهِ ) أَيْ بِالنَّظَرِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْعُلُومِ ( وَلَوْ كَانَ ) الِانْتِقَالُ الْمَذْكُورُ ( بِالْقَصْدِ إذْ لَيْسَ النَّظَرُ ) بِالْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْعُلُومِ ( الْحَرَكَةَ الْأُولَى ) يَعْنِي الْحَرَكَةَ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَيْضًا بَلْ النَّظَرُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُلُومِ حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ ، وَالرُّجُوعُ عَنْهَا إلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ غَايَتُهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ تَعْرِيفٌ لِلنَّظَرِ الْخَاصِّ بِالتَّصْدِيقِ ، وَهَذَا يَعُمُّ النَّظَرَ فِيهِ ، وَفِي التَّصَوُّرِ فَهُوَ مَجْمُوعُ الْحَرَكَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَ تَعْلِيلِ نَفْيِ كَوْنِ
النَّظَرِ الْحَرَكَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ ( إذْ لَا تَسْتَلْزِمُ ) الْحَرَكَةُ الْأُولَى الْحَرَكَةَ ( الثَّانِيَةَ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ ) يَعْنِي فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْأُولَى ( وَلِذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الثَّانِيَةِ تَسْتَلْزِمُ الْأُولَى فَيُسْتَغْنَى بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا عَنْ ذِكْرِ الْأُولَى مَعَهَا ( وَقَعَ التَّعْرِيفُ بِهَا ) أَيْ بِالثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأُولَى مَعَهَا بِنَاءً عَلَى اسْتِلْزَامِهَا إيَّاهَا ( كَتَرْتِيبِ أُمُورٍ إلَخْ ) أَيْ مَعْلُومَةٍ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى اسْتِعْلَامِ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الطَّوَالِعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْحَرَكَتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ : وَكَثِيرًا مَا يُقْتَصَرُ فِي تَفْسِيرِ النَّظَرِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ أَوْ لَوَازِمِهِ اكْتِفَاءً بِمَا يُفِيدُ امْتِيَازُهُ أَوْ اصْطِلَاحًا عَلَى ذَلِكَ فَيُقَالُ هُوَ حَرَكَةُ الذِّهْنِ إلَى مَبَادِئِ الْمَطْلُوبِ أَوْ حَرَكَتُهُ عَنْ الْمَبَادِئِ إلَى الْمَطَالِبِ أَوْ تَرْتِيبِ الْمَعْلُومَاتِ لِلتَّأَدِّي إلَى مَجْهُولٍ ا هـ .
ثُمَّ اسْتِلْزَامُ كُلٍّ مِنْ الْحَرَكَتَيْنِ لِلْأُخْرَى لَيْسَ دَائِمًا بَلْ أَكْثَرِيٌّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي اسْتِلْزَامِ الثَّانِيَةِ لِلْأُولَى وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَيْضًا كَذَلِكَ فِي اسْتِلْزَامِ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ ثُمَّ التَّرْتِيبُ لَيْسَ هُوَ الْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمُهَا كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْفِكْرَ الْمُرَادِفَ لِلنَّظَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ التَّرْتِيبُ الْحَاصِلُ مِنْ الْحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ ، وَأَمَّا الِانْتِقَالَانِ فَخَارِجَانِ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ لَازِمٌ لَهُ قَطْعًا ، وَالْأَوَّلَ لَازِمٌ أَكْثَرِيٌّ فَلِمَ لَا يَكُونُ هَذَا التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ النَّظَرَ مَجْمُوعُ الْحَرَكَتَيْنِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِتَعْلِيلِ نَفْيِ كَوْنِ النَّظَرِ هُوَ الْحَرَكَةَ الْأُولَى فَقَطْ بِكَوْنِهَا
غَيْرَ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلثَّانِيَةِ سِوَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي تَعْرِيفِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَسْنَا الْآنَ بِهَذَا الصَّدَدِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَجْهَ حَذْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الْبَيْنِ .
( وَقَدْ ظَهَرَ ) مِنْ تَعْرِيفِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ ( أَنَّ فَسَادَ النَّظَرِ ) بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا ( بِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ ) أَيْ بِعَدَمِ دَلَالَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ النَّظَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ لِلْمَطْلُوبِ ( فَسَادُ الْمَادَّةِ ) كَمَا إذَا جَعَلْت مَادَّةَ الْقِيَاسِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ إنْتَاجُ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ الْعَالَمُ بَسِيطٌ ، وَكُلُّ بَسِيطٍ قَدِيمٌ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَاذِبَتَانِ مَعَ أَنَّ الْبَسَاطَةَ لَا يُنْتَقَلُ مِنْهَا إلَى الْقَدَمِ ثَانِيهمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَعَدَمُ ذَلِكَ الْوَجْهِ ) أَيْ وَبِعَدَمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمَطْلُوبِ ، وَهُوَ فَسَادُ الصُّورَةِ كَأَنْ لَا يَقَعُ الْقِيَاسُ جَامِعًا لِشَرَائِطِ الْإِنْتَاجِ فَظَهَرَ قُصُورُ مَا فِي الْبَدِيعِ مِنْ قَوْلِهِ ، وَمَا عَرَفْت جِهَةَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَصَحِيحٌ ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَعْرِفُ جِهَةَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا لِفَقْدِ صُورَتِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ ذَلِكَ الْوَجْهُ الْمُسْتَلْزِمُ ( جَعْلَ الْمَادَّةِ عَلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ فِي انْتِسَابِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ، وَذَلِكَ ) الْحَدُّ الْمُعَيَّنُ ( طُرُقٌ ) أَرْبَعَةٌ ( الْأَوَّلُ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ مَفْهُومَيْنِ ثُمَّ نَفْيُ اللَّازِمِ لِيَنْتَفِيَ الْمَلْزُومُ أَوْ إثْبَاتُ الْمَلْزُومِ لِيَثْبُتَ اللَّازِمُ ) أَيْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ الِاسْتِثْنَائِيُّ الْمُتَّصِلُ ، وَهُوَ مُقَدِّمَتَانِ أَوَّلَاهُمَا شَرْطِيَّةٌ مُتَّصِلَةٌ مُوجَبَةٌ لُزُومِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَوْ جُزْئِيَّةٌ إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلِّيًّا أَوْ شَخْصِيَّةٌ حَالُهَا وَحَالُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّحِدٌ تُفِيدُ تَلَازُمًا بَيْنَ مَفْهُومَيْ جُزْأَيْهَا اللَّذَيْنِ يُسَمَّى أَحَدُهُمَا الْمَلْزُومُ وَالشَّرْطُ وَالْمُقَدَّمُ ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ اللَّازِمُ وَالْجَزَاءُ وَالتَّالِي ، وَهُوَ الثَّانِي وَأُخْرَاهُمَا اسْتِثْنَائِيَّةٌ تُفِيدُ نَفْيَ اللَّازِمِ لِيَنْتَفِيَ الْمَلْزُومَ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَلْزُومِ أَوْ إثْبَاتَ الْمَلْزُومِ لِيَثْبُتَ اللَّازِمُ
؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ اللَّازِمِ وَالْمُرَادُ بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ الْإِيجَابِيَّةُ الِاتِّصَالِيَّةُ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَوْضَاعِ الْمُمْكِنَةِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ الْمُقَدَّمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الدَّوَامِ مَعَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالتَّصْرِيحِ بِاللَّازِمِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ وَلَا إلَى كُلِّيَّةِ الْمُقَدَّمِ أَوْ التَّالِي بَلْ تَتَحَقَّقُ مَعَ شَخْصِيَّتِهِمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَالُوا : وَسُوَرُ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ كُلَّمَا وَمَهْمَا ، وَمَتَى وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَثْنَى فِيهِ عَيْنُ الْمُقَدَّمِ مَا يَكُونُ بِأَنَّ ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَثْنَى فِيهِ نَقِيضُ الْمُقَدَّمِ مَا يَكُونُ بِلَوْ قَالُوا وَلَا يُنْتِجُ اسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ نَقِيضَ التَّالِي وَلَا اسْتِثْنَاءُ عَيْنِ التَّالِي عَيْنَ الْمُقَدَّمِ .
وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا اللَّازِمُ فِيهِ مُسَاوٍ لِلْمَلْزُومِ وَغَيْرِهِ كَمَا هُمْ مُصَرِّحُونَ بِهِ لَكِنْ تَعْلِيلُهُمْ الْمَنْعَ بِقَوْلِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّالِي أَعَمَّ مِنْ الْمُقَدَّمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمَلْزُومِ عَدَمُ اللَّازِمِ وَلَا مِنْ وُجُودِ اللَّازِمِ وُجُودُ الْمَلْزُومِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِنْتَاجِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ مُسَاوَاةٌ لِعَدَمِ جَرَيَانِ التَّجْوِيزِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ ( أَوْ نَفْيُ الْمَلْزُومِ لِنَفْيِ اللَّازِمِ فِي الْمُسَاوَاةِ أَوْ ثُبُوتِ اللَّازِمِ لِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ فِيهِ ) أَيْ التَّسَاوِي ( أَيْضًا ) ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ لُزُومَ هَذَا الْخُصُوصِ الْمَادَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ لَا لِنَفْسِ صُورَةِ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ بِمُلَاحَظَةِ لُزُومِ الْمُقَدَّمِ لِلتَّالِي ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ آخَرُ لَيْسَ بِضَائِرٍ فِي الْمَطْلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي دُخُولِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقِيَاسِ ثُمَّ لَا بَأْسَ بِإِيضَاحِهِ بِالْأَمْثِلَةِ .
( كَانَ
) كَانَ هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبًا ( أَوْ كُلَّمَا ) كَانَ هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبًا ( أَوْ لَوْ كَانَ ) هَذَا الْفِعْلُ ( وَاجِبًا فَتَارِكُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ ) عَلَى تَرْكِهِ فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُتَّصِلَةٌ مُوجَبَةٌ لُزُومِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَصْدِيرِهَا بِكُلَّمَا وَشَخْصِيَّةً حَالُهَا وَحَالُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّحِدٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَصْدِيرِهَا بِأَنَّ وَلَوْ بِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي حَالِ كَذَا فِي كُلٍّ مِنْهَا ، وَمِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّة نَفْيَ اللَّازِمِ أَعْنِي ( لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ ) تَارِكُ هَذَا الْفِعْلِ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ أَنْتَجَ نَفْيَ الْمَلْزُومِ أَعْنِي ( فَلَيْسَ ) هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَتْ إثْبَاتُ الْمَلْزُومِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ وَاجِبٌ ) أَيْ لَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَاجِبٌ أَنْتَجَ إثْبَاتَ اللَّازِمِ أَعْنِي ( فَيَسْتَحِقُّ ) تَارِكُهُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْيَ الْمَلْزُومِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ لَيْسَ ) أَيْ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْفِعْلُ ( وَاجِبًا ) أَنْتَجَ نَفْيَ اللَّازِمِ أَعْنِي ( فَلَا يَسْتَحِقُّ ) تَارِكُهُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ إثْبَاتَ اللَّازِمِ أَعْنِي لَكِنْ يَسْتَحِقُّ ( تَارِكُهُ ) الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ أَنْتَجَ إثْبَاتَ الْمَلْزُومِ أَعْنِي فَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ ، وَهَذَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْنَ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ تَلَازُمًا عَلَى سَبِيلِ الْمُسَاوَاةِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْمِثَالَ الْأَخِيرَ لِإِرْشَادِ مَا قَبْلَهُ إلَيْهِ .
( الطَّرِيقُ الثَّانِي ) الْقِيَاسُ الِاسْتِثْنَائِيُّ الْمُنْفَصِلُ ، وَهُوَ مُقَدِّمَتَانِ أَوَّلَاهُمَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ أَوْ جُزْئِيَّةٌ أَوْ شَخْصِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِتَحَقُّقِ الِانْفِصَالِ بَيْنَ جُزْأَيْهَا فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ أَوْ مُسَاوِي نَقِيضِهِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ صِدْقًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ كَذِبًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( عِنَادَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ مَفْهُومِينَ ( فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ) وَأُخْرَاهُمَا اسْتِثْنَائِيَّةٌ لَعَيْنِ أَحَدِهِمَا فَيُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ أَوْ لِنَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَيُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَفِي وُجُودِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ الْآخَرِ ، وَفِي عَدَمِهِ وُجُودُهُ ) فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَهُ أَرْبَعُ نَتَائِجَ اثْنَتَانِ بِاعْتِبَارِ اسْتِثْنَاءِ الْعَيْنِ وَاثْنَتَانِ بِاعْتِبَارِ اسْتِثْنَاءِ النَّقِيضِ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِنَا دَائِمًا الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ لَكِنَّهُ زَوْجٌ فَهُوَ لَيْسَ بِفَرْدٍ لَكِنَّهُ فَرْدٌ فَهُوَ لَيْسَ بِزَوْجٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ فَهُوَ فَرْدٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ فَهُوَ زَوْجٌ ( أَوْ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ ) أَيْ أَوْ مُقَدِّمَتَانِ أَوَّلَاهُمَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ أَوْ جُزْئِيَّةٌ أَوْ شَخْصِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ مَانِعَةٌ الْجَمْعَ ؛ لِأَنَّهَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ جُزْأَيْهَا فِي الصِّدْقِ لِعِنَادٍ بَيْنَهُمَا فِيهِ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ الشَّيْءِ وَالْأَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهِ وَأُخْرَاهُمَا اسْتِثْنَائِيَّةٌ لَعَيْنِ أَحَدِهِمَا فَيُنْتِجُ نَقِيضُ الْآخَرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَمَعَ وُجُودِ كُلِّ ) مِنْ الْجُزْأَيْنِ ( عَدَمُ الْآخَرِ ) ضَرُورَةَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي الصِّدْقِ ( وَعَدَمُهُ عَقِيمٌ ) أَيْ وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ مُنْتِجٍ لِوُجُودِ الْآخَرِ لِجَوَازِ ارْتِفَاعِ عَيْنَيْهِمَا مِثَالُ الْأَوَّلِ ( الْوِتْرُ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِلْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ ) عَنْ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنْ الْوُجُوبِ ( بِهِ ) أَيْ بِالْوِتْرِ ( فَلَيْسَ مَنْدُوبًا )
وَلَوْ قِيلَ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ أَنْتَجَ فَلَيْسَ وَاجِبًا .
وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمِثَالِ الْأَوَّلِ مَعَ قَوْلِهِ لِلْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ بِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَضْعُ الْمَنْدُوبِ الْمُقْتَضِي لِرَفْعِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ أَمَّا لَوْ قِيلَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُنْتِجْ فَهُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ لَمْ يُنْتِجْ فَهُوَ وَاجِبٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَعَمُّ مِنْ الْمَنْدُوبِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ ( أَوْ فِي الْعَدَمِ ) فَقَطْ أَيْ أَوْ مُقَدِّمَتَانِ أَوَّلَاهُمَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ أَوْ جُزْئِيَّةٌ أَوْ شَخْصِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ ؛ لِأَنَّهَا يُمْتَنَعُ الْخُلُوُّ مِنْ كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهَا فِي النَّفْيِ لِمُعَانَدَةٍ بَيْنَهُمَا فِيهِ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ الشَّيْءِ وَالْأَعَمِّ مِنْ نَقِيضِهِ وَأُخْرَاهُمَا اسْتِثْنَائِيَّةٌ لِنَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَتُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَقَلْبُ الْمِثَالِ وَحُكْمُهُ ) فَقَلْبُ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ الْوِتْرُ إمَّا لَا وَاجِبٌ أَوْ لَا مَنْدُوبٌ ، وَقَلْبُ حُكْمِهِ أَنَّ عَدَمَ كُلٍّ يُنْتِجُ وُجُودُ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْتَفِعَانِ وَوُجُودُهُ لَا يُنْتِجُ عَدَمَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا قُلْت لَكِنَّهُ لَا وَاجِبٌ أَوْ لَا مَنْدُوبٌ لَمْ يُفِدْ بَلْ إذَا قُلْت لَكِنَّهُ وَاجِبٌ أَنْتَجَ لَا مَنْدُوبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَنْتَجَ لَا وَاجِبٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ حَسَنٌ .
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُكْمِهِ رَاجِعٌ إلَى مَا قَبْلَهُ لَا إلَى الْمِثَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْلِبْ حُكْمَهُ أَيْضًا فَالْمُرَادُ فَقَلْبُ مِثَالِ مَا قَبْلَهُ ، وَقَلْبُ حُكْمِ مَا قَبْلَهُ فَتَنَبَّهْ لَهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ الْعِنَادِيَّةُ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي عَلَى التَّقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَوْضَاعِ الْمُمْكِنَةِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ الْمُقَدَّمِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ
فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَالُوا وَسُوَرُ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ لَفَظَّةٌ دَائِمًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( الطَّرِيقُ الثَّالِثُ ) الْقِيَاسُ الِاقْتِرَانِيُّ ، وَهُوَ ( انْتِسَابُ الْمُنَاسِبِ ، وَهُوَ ) أَيْ الْمُنَاسِبُ ( الْوَسَطُ لِكُلٍّ مِنْ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ بِالْوَضْعِ وَالْحَمْلِ ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْوَسَطُ مَوْضُوعًا لِكُلٍّ مِنْ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ أَوْ مَحْمُولًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ مَوْضُوعًا لِأَحَدِهِمَا مَحْمُولًا لِلْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ مِنْ الْوُجُوهِ الْآتِي بَيَانُهَا ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ لَمَّا كَانَتْ مَجْهُولَةً لِكَوْنِهَا مُكْتَسَبَةً بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ ثَالِثٍ مُنَاسِبٍ لَهُمَا يُتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ لَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِسْبَةٌ لِيُعْلَمَ بِسَبَبِهِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ الْقِيَاسُ الْمَطْلُوبَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَيَلْزَمُ ) فِي تَحَقُّقِ هَذَا الطَّرِيقِ ( جُمْلَتَانِ خَبَرِيَّتَانِ ) أَيْ قَوْلَانِ مُحْتَمِلَانِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُمَا ( وَهُمَا الْمُقَدِّمَتَانِ ) اللَّتَانِ هُمَا جُزْءَا الْقِيَاسِ ، وَهُمَا يَكُونَانِ فِي الْحَقِيقَةِ مُرَكَّبَتَيْنِ ( مِنْ ) حُدُودٍ ( ثَلَاثَةٍ ) طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ وَالْحَدِّ الْوَسَطِ يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْحَدِّ الْوَسَطِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرُ الْحَدُّ الْوَسَطُ اثْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ كَذَلِكَ ( لِتَكْرَارِ الْوَسَطِ ) فَلَمْ يَكُنْ اثْنَيْنِ فِي الْمَعْنَى ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى ( وَيُسَمَّى الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوبِ أَصْغَرُ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ أَخَصُّ وَالْأَخَصُّ أَقَلُّ أَفْرَادًا فَيَكُونُ أَصْغَرَ ( وَبِهِ فِيهِ ) أَيْ وَيُسَمَّى الْمَحْكُومُ بِهِ فِي الْمَطْلُوبِ حَدًّا ( أَكْبَرَ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ أَعَمُّ ، وَالْأَعَمُّ أَكْثَرُ أَفْرَادًا وَالْمُشْتَرَكُ الْمُكَرَّرُ بَيْنَ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ حَدًّا أَوْسَطَ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ طَرَفَيْ الْمَطْلُوبِ ( وَبِاعْتِبَارِهِمَا ) أَيْ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ تُسَمَّى ( الْمُقَدِّمَتَانِ ) صُغْرَى ، وَهِيَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَصْغَرِ وَكُبْرَى ، وَهِيَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى
الْأَكْبَرِ ( وَيَتَصَوَّرُ ) عَلَى صِيغَة الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ الِانْتِسَابُ الْمَذْكُورُ ( بِأَرْبَعِ صُوَرٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَرِّرَ مَحْمُولٌ فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعٌ فِي الْكُبْرَى أَوْ عَكْسُهُ ) أَيْ مَوْضُوعٌ فِي الصُّغْرَى مَحْمُولٌ فِي الْكُبْرَى ( أَوْ مَوْضُوعٌ فِيهِمَا ) أَيْ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ( أَوْ مَحْمُولٌ ) فِيهِمَا فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ .
( وَكُلُّ صُورَةٍ تُسَمَّى شَكْلًا ) فَإِذَنْ الْأَشْكَالُ أَرْبَعَةٌ إلَّا أَنَّ الصُّورَةَ الْأُولَى تُسَمَّى الشَّكْلُ الْأَوَّلُ ، وَالثَّانِيَةُ الشَّكْلُ الرَّابِعُ ، وَالثَّالِثَةُ الشَّكْلُ الثَّالِثُ ، وَالرَّابِعَةُ الشَّكْلُ الثَّانِي ( وَقَطْعِيَّةُ اللَّازِمِ ) عَنْ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالنَّتِيجَةُ أَيْضًا ( بِقَطْعِيَّتِهِمَا ) أَيْ قَطْعِيَّةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ؛ لِأَنَّ لَازِمَ الْقَطْعِيِّ قَطْعِيٌّ ( وَهُوَ ) أَيْ الْقِيَاسُ الْكَائِنُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ الْقَطْعِيَّةِ هُوَ ( الْبُرْهَانُ ) ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ بِهِ لِوُضُوحِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَخْذًا مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ ، وَهُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يَلِي وَجْهَ الشَّمْسِ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { إنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ لَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ } ( وَظَنِّيَّتُهُ ) أَيْ اللَّازِمُ ( بِظَنِّيَّةِ إحْدَاهُمَا ) أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمُشَارُ إلَيْهِمَا فَضْلًا عَنْ ظَنِّيَّتِهِمَا ؛ لِأَنَّ لَازِمَ الظَّنِّيِّ ظَنِّيٌّ ( وَهُوَ ) أَيْ الْقِيَاسُ الْكَائِنُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ الظَّنِّيَّةِ هُوَ ( الْإِمَارَةُ ) نَعَمْ اللُّزُومُ ، وَهُوَ الْإِنْتَاجُ قَطْعِيٌّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ اللَّازِمُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا ثُمَّ تَسْمِيَةُ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَازِمًا ظَاهِرٌ ، وَمَطْلُوبًا ؛ لِأَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُرَتَّبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ ، وَنَتِيجَةً ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْعِلْمَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ ( الشَّكْلُ الْأَوَّلُ
بِحَمْلِهِ فِي الصُّغْرَى وَوَضْعِهِ فِي الْكُبْرَى ) أَيْ مَا يَكُونُ الْوَسَطُ فِيهِ مَحْمُولًا فِي صُغْرَاهُ مَوْضُوعًا فِي كُبْرَاهُ .
( شَرْطُ اسْتِلْزَامِهِ ) أَيْ هَذَا الشَّكْلِ لِلْمَطْلُوبِ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ مُقَدِّمَاتِهِ وَكَمِيَّتِهَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ ، وَهُوَ ( إيجَابُ صُغْرَاهُ ) لِيَنْدَرِجَ الْأَصْغَرُ تَحْتَ الْأَوْسَطِ فَيَحْصُلَ الْإِنْتَاجُ وَلَمْ يَزِدْ الْجُمْهُورُ عَلَى هَذَا وَزَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ كَوْنُهَا فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ أَيْ مَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابًا بِأَنْ تَكُونَ مُوجَبَةً مُحَصِّلَةً الْمَحْمُولَ أَوْ مَعْدُولَتَهُ أَوْ سَالِبَتَهُ ، وَأَنْ تَكُونَ الْكُبْرَى عَلَى وَفْقِهَا فِي جَانِبِ الْمَوْضُوعِ لِيَتَحَقَّقَ التَّلَاقِي ، وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ جَوَازَ وُقُوعِ الصُّغْرَى سَالِبَةً مَحْضَةً بِشَرْطِ مُسَاوَاةِ طَرَفَيْ الْكُبْرَى وَكَوْنُهَا حِينَئِذٍ مُوجَبَةً كُلِّيَّةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( إلَّا فِي مُسَاوَاةِ طَرَفَيْ الْكُبْرَى ) ؛ لِأَنَّ الشَّكْلَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَحْصُلُ فِيهِ أَيْضًا اتِّحَادُ الْوَسَطِ الْمُقْتَضِي لِلْإِنْتَاجِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ ثَانِيهِمَا بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَكُلِّيَّةُ الْكُبْرَى ) لِيَعْلَمَ انْدِرَاجَ الْأَصْغَرِ تَحْتَ الْأَوْسَطِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً إذْ يَجُوزُ كَوْنُ الْأَوْسَطِ حِينَئِذٍ أَعَمَّ مِنْ الْأَصْغَرِ وَكَوْنُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي الْكُبْرَى بَعْضًا مِنْ الْأَوْسَطِ غَيْرَ الْأَصْغَرِ فَلَا يَنْدَرِجُ فَلَا يُنْتِجُ كَمَا فِي نَحْوِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ ، وَبَعْضُ الْحَيَوَانِ فَرَسٌ ( فَيَحْصُلُ ) بِاشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِاسْتِلْزَامِ هَذَا الشَّكْلِ لِلْمَطْلُوبِ مِنْ الضُّرُوبِ الْمُمْكِنَةِ الِانْعِقَادِ فِيهِ ( ضُرُوبٌ ) أَرْبَعَةٌ مُنْتِجَةٌ وَبِمَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ زِيَادَةُ خَامِسٍ عَلَيْهَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ( كُلِّيَّتَانِ مُوجَبَتَانِ ) فَيُنْتِجُ كُلِّيَّةً مُوجَبَةً .
مِثَالُهُ ( كُلُّ جِصٍّ مَكِيلٌ وَكُلُّ مَكِيلٍ رِبَوِيٌّ فَكُلُّ جِصٍّ رِبَوِيٌّ ) .
الضَّرْبُ الثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ
بِقَوْلِهِ ( وَبِكَيْفِيَّتَيْهِ ) أَيْ مَا يَكُونُ بِصِفَتَيْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، وَهُمَا الْإِيجَابُ فِي الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ( وَالصُّغْرَى جُزْئِيَّةٌ ) وَالْكُبْرَى بَاقِيَةٌ عَلَى كَمِّيَّتِهَا مِنْ الْكُلِّيَّةِ فَيُنْتِجُ جُزْئِيَّةً مُوجَبَةً .
مِثَالُهُ ( بَعْضُ الْوُضُوءِ مَنْوِيٌّ وَكُلّ مَنْوِيٍّ عِبَادَةٌ فَبَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ ) الضَّرْبُ الثَّالِثُ مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ ( وَكُلِّيَّتَانِ الْأُولَى مُوجَبَةٌ ) وَالثَّانِيَةُ سَالِبَةٌ فَيُنْتِجُ كُلِّيَّةً سَالِبَةً مِثَالُهُ ( كُلُّ وُضُوءٍ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَلَا مَقْصُودَ لِغَيْرِهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةٌ فَلَا وُضُوءَ يُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةٌ ) الضَّرْبُ الرَّابِعُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَقَلْبُهُ فِي التَّسَاوِي فَقَطْ ) أَيْ قَلْبُ الثَّالِثِ ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ صُغْرَى سَالِبَةٍ وَكُبْرَى مُوجَبَةٍ مُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ فَيُنْتِجُ كُلِّيَّةً سَالِبَةً مِثَالُهُ ( لَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِصَهَّالٍ وَكُلُّ صَهَّالٍ فَرَسٌ ) فَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ ( وَلَوْ قُلْت ) بَدَلَ صَهَّالٍ ( حَيَوَانٌ لَمْ يَصِحَّ ) لِكَوْنِ الْمَحْمُولِ أَعَمَّ مِنْ الْمَوْضُوعِ فِي الْكُبْرَى فَلَا يَحْصُلُ الِانْدِرَاجُ تَحْتَ الْأَوْسَطِ .
الضَّرْبُ الْخَامِسُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَبِكَيْفِيَّتَيْ مَا قَبْلَهُ وَالْأُولَى جُزْئِيَّةٌ ) أَيْ مَا يَكُونُ بِصِفَتَيْ مَا قَبْلَ الرَّابِعِ ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ إيجَابِ الصُّغْرَى وَسَلْبِ الْكُبْرَى إلَّا أَنَّ الصُّغْرَى فِي هَذَا جُزْئِيَّةٌ بِخِلَافِهَا فِي الثَّالِثِ فَإِنَّهَا فِيهِ كُلِّيَّةٌ .
وَحَاصِلُهُ مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ كُبْرَى فَيُنْتِجُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً .
مِثَالُهُ : بَعْضُ الْمَكِيلِ رِبَوِيٌّ وَلَا شَيْءَ مِنْ الرِّبَوِيِّ بِجَائِزِ التَّفَاضُلِ فَلَيْسَ بَعْضُ الْمَكِيلِ بِجَائِزِ التَّفَاضُلِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ .
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَلْزَمُ مِنْ قَوَدِ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ زِيَادَةِ ضَرْبٍ خَامِسٍ مُرَكَّبٍ مِنْ
كُلِّيَّتَيْنِ صُغْرَى سَالِبَةٍ وَكُبْرَى مُوجَبَةٍ مُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ زِيَادَةُ ضَرْبٍ سَادِسٍ مُرَكَّبٍ مِنْ جُزْئِيَّةٍ سَالِبَةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ كُبْرَى مُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ فَيُنْتِجُ جُزْئِيَّةً سَالِبَةً كَقَوْلِنَا لَيْسَ بَعْضُ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ وَكُلُّ فَرَسٍ صَهَّالٌ فَلَيْسَ بَعْضُ الْإِنْسَانِ بِصَهَّالٍ لِاتِّحَادِ الْوَسَطِ الْمُقْتَضِي لِلْإِنْتَاجِ أَيْضًا كَمَا فِي الْخَامِسِ الْمَذْكُورِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ هَذِهِ الضُّرُوبِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى تَرْتِيبِهَا الذِّكْرِيِّ هَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الضَّرْبَ الثَّانِيَ مَا كَانَ مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَسَالِبَةٍ كُبْرَى فَيُنْتِجُ كُلِّيَّةً سَالِبَةً ، وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مَا كَانَ مِنْ مُوجَبَتَيْنِ جُزْئِيَّةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ كُبْرَى فَيُنْتِجُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً .
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ مَا كَانَ مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُوجَبَةٍ وَكُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ فَيُنْتِجُ جُزْئِيَّةً سَالِبَةً ، وَادَّعَوْا أَنَّهَا إنَّمَا رُتِّبَتْ هَذَا التَّرْتِيبَ ؛ لِأَنَّ هُنَا كَيْفِيَّتَيْنِ إيجَابًا وَسَلْبًا وَالْإِيجَابُ أَشْرَفُ ؛ لِأَنَّهُ وُجُودٌ وَالسَّلْبُ عَدَمٌ ، وَالْوُجُودُ أَشْرَفُ وَكَمِّيَّتَيْنِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةُ أَشْرَفُ ؛ لِأَنَّهَا أَضْبَطُ ، وَأَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ ، وَأَخَصُّ مِنْ الْجُزْئِيَّةِ وَالْأَخَصُّ أَشْرَفُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ فَإِذَنْ الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ أَشْرَفُ الْمَحْصُورَاتِ وَالسَّالِبَةُ الْجُزْئِيَّةُ أَخَسُّهَا وَالسَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ أَشْرَفُ مِنْ الْمُوجَبَةِ الْجُزْئِيَّةِ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَشَرَفَ الْإِيجَابِ الْجُزْئِيِّ بِحَسَبِ الْإِيجَابِ ، وَشَرَفُهُ مِنْ جِهَةٍ وَشَرَفُ الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَاتٍ ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَقْيِسَةِ نَتَائِجَهَا رُتِّبَتْ الضُّرُوبُ بِاعْتِبَارِ تَرْتِيبِ نَتَائِجِهَا شَرَفًا الْأَشْرَفَ فَالْأَشْرَفَ .
وَهَذَا التَّعْلِيلُ ، وَإِنْ
كَانَ لَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ لِمَنْ تَحَقَّقَ فَقَدْ صَارَ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ عِنْدَهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُنَصِّفِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَوَّلِيَّةٍ ، وَلَا بِمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَرَاتِبِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثُمَّ لَيْسَ لِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ ثَمَرَةٌ تَظْهَرُ فِي الْحُكْمِ فَتَأَمَّلْ .
( وَإِنْتَاجُ ) ضُرُوبِ ( هَذَا ) الشَّكْلِ الْمُنْتِجَةِ ( ضَرُورِيٌّ ) بُيِّنَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ انْتِهَاءِ الْمَوَادِّ إلَى ضَرُورِيٍّ يَحْصُلُ التَّصْدِيقُ بِهِ بِلَا كَسْبٍ ، كَذَا لَا بُدَّ مِنْ انْتِهَاءِ الصُّوَرِ إلَى ضَرُورِيٍّ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ ، وَهُوَ هَذَا الشَّكْلُ ( وَبَاقِيهَا ) أَيْ ، وَإِنْتَاجُ بَاقِي هَذِهِ الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ ( نَظَرِيٌّ ) غَيْرُ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ عَلَيْهِ ( فَيُرَدُّ إلَى الضَّرُورِيِّ ) عِنْدَ قَصْدِ الْوُقُوفِ عَلَى نَتَائِجِهِ سَرِيعًا بِالْعَكْسِ أَوْ الْخَلَفِ كَمَا سَيَأْتِي تَفَاصِيلُهُ بَلْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ : إنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُنْتِجُ مِنْهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِذَا كَانَ غَيْرُهُ مَوْقُوفًا فِي إنْتَاجِهِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَعَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بِرُجُوعِهِ إلَيْهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَقِيقَةُ الْبُرْهَانِ وَجِهَةُ الدَّلَالَةِ مُنْحَصِرَتَانِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إنْتَاجَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا لَهُ وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ بِالْإِنْتَاجِ إلَّا بِمُلَاحَظَتِهِ سَوَاءٌ صَرَّحَ بِهِ أَوْ لَا فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ مِعْيَارَ الْعُلُومِ .
وَمِنْ خَوَاصِّهِ أَيْضًا أَنَّهُ يُنْتِجُ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ كَمَا رَأَيْت دُونَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُنْتِجُ إيجَابًا كُلِّيًّا كَمَا سَتَرَى ثُمَّ لَعَلَّ وَضْعَ الظَّاهِرِ أَعْنِي الضَّرُورِيَّ فِي قَوْلِهِ إلَى الضَّرُورِيِّ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِالْإِعْلَامِ بِثُبُوتِ هَذَا الْوَصْفِ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ .
( الشَّكْلُ
الثَّانِي بِحَمْلِهِ فِيهِمَا ) أَيْ مَا يَكُونُ الْوَسَطُ فِيهِ مَحْمُولًا فِي الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ( شَرْطُهُ ) أَيْ اسْتَلْزَمَ هَذَا الشَّكْلُ لِلْمَطْلُوبِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الْكَيْفِ ، وَهُوَ ( اخْتِلَافُهُمَا ) أَيْ مُقَدِّمَتَيْهِ ( كَيْفًا ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ بِأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَالْأُخْرَى سَالِبَةً وَثَانِيهِمَا بِحَسَبِ الْكَمِّ ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَكُلِّيَّةُ كُبْرَاهُ ) سَالِبَةٌ إنْ كَانَتْ صُغْرَاهُ مُوجَبَةً ، وَمُوجَبَةٌ إنْ كَانَتْ صُغْرَاهُ سَالِبَةً ( فَلَا يُنْتِجُ ) هَذَا الشَّكْلُ حِينَئِذٍ ( إلَّا سَلْبًا ) كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا كَمَا سَتَرَى وَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالنَّتِيجَةُ تَتَضَمَّنُ أَبَدًا مَا فِيهِمَا ) أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ( مِنْ خِسَّةِ سَلْبٍ وَجُزْئِيَّةٍ ) ، وَهَذَا أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهَا تَتْبَعُ أَخَسَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ لَمِيَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَبْذُولَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَنْطِقِيَّةِ فَحِينَئِذٍ ( ضُرُوبُهُ ) الْمُنْتِجَةُ مِنْ الضُّرُوبِ الْمُمْكِنَةِ الِانْعِقَادِ فِيهِ أَرْبَعَةٌ لَا غَيْرُ .
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ( كُلِّيَّتَانِ الْأُولَى مُوجَبَةٌ ) وَالثَّانِيَةُ سَالِبَةٌ فَيُنْتِجُ سَالِبَةً كُلِّيَّةً مِثَالُهُ ( السَّلَمُ رُخْصَةٌ لِلْمَفَالِيسِ وَلَا حَالَ بِرُخْصَةِ ) لِلْمَفَالِيسِ أَمَّا أَنَّ الْأُولَى كُلِّيَّةٌ فَلِأَنَّ أَدَاةَ التَّعْرِيفِ فِيهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَأَمَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ كُلِّيَّةٌ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ لَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ كَمَا فِيمَا هُنَا ( فَلَا سَلَمَ حَالَ رَدِّهِ ) أَيْ هَذَا الضَّرْبِ إلَى الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِعَكْسِ الثَّانِيَةِ ) عَكْسًا مُسْتَوِيًا ، وَهُوَ وَلَا رُخْصَةَ لِلْمَفَالِيسِ بِحَالٍ ثُمَّ تُضَمُّ إلَى الْأُولَى فَيُنْتِجُ الْمَطْلُوبَ الْمَذْكُورَ ، وَإِنَّمَا انْعَكَسَتْ عَكْسًا مُسْتَوِيًا هَكَذَا لَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالسَّالِبَةُ تَنْعَكِسُ كَكَمِّيَّتِهَا بِالِاسْتِقَامَةِ ) إذَا كَانَتْ مِمَّا تَنْعَكِسُ
كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْكُتُبِ الْمَنْطِقِيَّةِ ، وَهَذِهِ السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تَنْعَكِسَ ثُمَّ قَالَ اسْتِطْرَادًا ( وَالْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ ) تَنْعَكِسُ عَكْسًا مُسْتَوِيًا مُوجَبَةً ( جُزْئِيَّةً إلَّا فِي مُسَاوَاةِ طَرَفَيْهَا ) فَإِنَّهَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً فَكُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ يَنْعَكِسُ إلَى : بَعْضُ الْحَيَوَانِ إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ يَنْعَكِسُ إلَى : كُلُّ نَاطِقٍ إنْسَانٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ زَوَائِدِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَنْعَكِسُ مُطْلَقًا جُزْئِيَّةً وَلَعَمْرِي إنَّهَا لَزِيَادَةٌ حَسَنَةٌ ، وَإِنَّ الِاعْتِذَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبْحَثُونَ عَنْ عُكُوسِ الْقَضَايَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمَوَادِّ الْجُزْئِيَّةِ فَلِذَا حَكَمُوا بِأَنَّ عَكْسَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ جُزْئِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا بِخِلَافِ الْكُلِّيَّةِ لِتَخَلُّفِهَا عَنْهَا فِي بَعْضِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ ذَوِي الْأَنْصَافِ مِنْ أَرْبَابِ الْعُقُولِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقَلْبُهُ ) أَيْ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ كُلِّيَّتَانِ سَالِبَةٌ صُغْرَى ، وَمُوجَبَةٌ كُبْرَى فَيُنْتِجُ سَالِبَةً كُلِّيَّةً أَيْضًا مِثَالُهُ لَا شَيْءَ مِنْ الْحَالِ بِرُخْصَةٍ وَكُلُّ سَلَمٍ رُخْصَةٌ فَلَا شَيْءَ مِنْ الْحَالِ بِسَلَمٍ ( وَرَدَّهُ ) إلَى الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا ( بِعَكْسِ الصُّغْرَى ) عَكْسًا مُسْتَوِيًا ، وَهُوَ لَا شَيْءَ مِنْ الرُّخْصَةِ بِحَالٍ ( وَجَعَلَهَا كُبْرَى ) وَالْكُبْرَى صُغْرَى فَيَصِيرُ كُلُّ سَلَمٍ رُخْصَةً وَلَا شَيْءَ مِنْ الرُّخْصَةِ بِحَالٍ فَيُنْتِجُ لَا شَيْءَ مِنْ السَّلَمِ بِحَالٍ ( ثُمَّ عَكْسُ النَّتِيجَةَ ) عَكْسًا مُسْتَوِيًا ، وَهُوَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ الْمَذْكُورِ .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَكَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ الْأُولَى جُزْئِيَّةٌ ) هُنَا وَكُلِّيَّةٌ هُنَاكَ فَهُوَ حِينَئِذٍ مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ صُغْرَى وَسَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ كُبْرَى فَيُنْتِجُ
سَالِبَةً جُزْئِيَّةً .
مِثَالُهُ وَالصُّغْرَى وَالْكُبْرَى مَعْدُولَتَا الْمَحْمُولِ ( بَعْضُ الْوُضُوءِ غَيْرُ مَنْوِيٍّ وَلَا عِبَادَةَ غَيْرَ مَنْوِيٍّ فَبَعْضُ الْوُضُوءِ لَيْسَ عِبَادَةً ، رَدَّهُ ) إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( كَالْأَوَّلِ ) أَيْ كَرَدِّ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ بِعَكْسِ الْكُبْرَى عَكْسًا مُسْتَوِيًا ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَنْعَكِسُ ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ فَتَنْعَكِسُ حِينَئِذٍ سَالِبَةً كُلِّيَّةً مَعْدُولَةَ الْمَوْضُوعِ هَكَذَا وَلَا غَيْرَ مَنْوِيٍّ بِعِبَادَةٍ ، وَتُضَمُّ إلَى الصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ فَتُنْتِجُ النَّتِيجَةَ الْمَذْكُورَةَ .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَكَالثَّانِي إلَّا أَنَّ أُولَاهُ ) أَيْ أُولَى هَذَا ( جُزْئِيَّةٌ ) ، وَأُولَى الثَّانِي كُلِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ حِينَئِذٍ جُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ كُبْرَى فَتُنْتِجُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً أَيْضًا مِثَالُهُ ( بَعْضُ الْغَائِبِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَكُلُّ مَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعْلُومٌ فَبَعْضُ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ رَدَّهُ ) إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِعَكْسِ الثَّانِيَةِ بِعَكْسِ النَّقِيضِ ) ، وَهُوَ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ جَعْلُ نَقِيضِ الْجُزْءِ الثَّانِي أَوَّلًا ، وَنَقِيضِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ثَانِيًا مَعَ بَقَاءِ الْكَيْفِ وَالصِّدْقِ بِحَالِهِمَا ، وَعِنْدَ مُتَأَخِّرِيهِمْ جَعْلُ نَقِيضِ الْجُزْءِ الثَّانِي أَوَّلًا ، وَعَيْنِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ثَانِيًا مَعَ الْمُخَالِفِ فِي الْكَيْفِ فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ صُورَةُ عَكْسِهَا ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ صُورَةُ عَكْسِهَا وَلَا شَيْءَ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَأَيًّا مَا كَانَ إذَا ضُمَّ إلَى الصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ أَنْتَجَ النَّتِيجَةَ الْمَذْكُورَةَ ( وَبِالْخَلْفِ ) بِسُكُونِ اللَّامِ أَيْ وَرَدَّ هَذَا الشَّكْلَ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِقِيَاسِ
الْخَلْفِ ( فِي كُلِّ ضُرُوبِهِ ) ثُمَّ فَسَّرَ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا بِإِبْدَالِهِ مِنْهُ قَوْلُهُ ( جَعَلَ نَقِيضَ الْمَطْلُوبِ ، وَهُوَ ) أَيْ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ ( الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ هُنَا ) أَيْ فِي هَذَا الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ ( صُغْرَى ) الشَّكْلِ ( الْأَوَّلِ وَتَضُمُّ الْكُبْرَى ) مِنْ ضُرُوبِ هَذَا الشَّكْلِ الثَّانِي ( إلَيْهَا ) أَيْ هَذِهِ الصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ ( تَسْتَلْزِمُ ) هَذَا الصَّنِيعَ ( بِالْأَخِيرَةِ كَذَبَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ فَالْمَطْلُوبُ حَقٌّ ) ، وَإِنَّمَا كَانَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا الضَّرْبِ مُوجَبَةً كُلِّيَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ ، وَهُوَ بَعْضُ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَنَقِيضُهَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ ، وَهِيَ كُلُّ غَائِبٍ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَإِذَا جُعِلَتْ صُغْرَى لِلضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَضُمَّ إلَيْهَا الْكُبْرَى مِنْ هَذَا الضَّرْبِ يَصِيرُ كُلُّ غَائِبٍ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَكُلُّ مَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعْلُومٌ وَيُنْتِجُ كُلُّ غَائِبٍ مَعْلُومٌ ، فَتُنَاقِضُ صُغْرَى الضَّرْبِ الْمَذْكُورِ إذْ هِيَ بَعْضُ الْغَائِبِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَإِذَنْ الصَّادِقُ هِيَ أَوْ هَذَا اللَّازِمُ لَكِنْ هِيَ صَادِقَةٌ بِالْفَرْضِ فَيَكُونُ الْكَاذِبُ هَذَا اللَّازِمَ ، وَكَذِبُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ كَذِبَ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ صَدَقَتَا كَانَ اللَّازِمُ صَادِقًا وَالْفَرْضُ أَنَّ الْكُبْرَى صَادِقَةٌ ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعْلُومٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْكَاذِبِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ كُلُّ غَائِبٍ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَيَصْدُقُ نَقِيضُهَا ، وَهُوَ بَعْضُ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْجَزْمُ بِصِدْقِ الْمَطْلُوبِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَمَامِ هَذَا التَّقْرِيرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ : يَسْتَلْزِمُ بِالْأَخِيرَةِ كَذِبَ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ .
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الضُّرُوبُ الثَّلَاثَةُ الْمَاضِيَةُ إلَّا أَنَّ نَقِيضَ الْمَطْلُوبِ فِي الضَّرْبِ الثَّالِثِ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ ، وَضَمُّ
الْكُبْرَى إلَيْهِ يَجْعَلُهُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَإِنَّ نَقِيضَ الْمَطْلُوبِ فِيهِمَا مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِمَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَضَمُّ الْكُبْرَى إلَيْهِ فِي الثَّانِي يَجْعَلُهُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْأَوَّلِ يَجْعَلُهُ مِنْ الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْهُ ثُمَّ إنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الطَّرِيقُ خَلَفًا ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ الْبَاطِلَ عَلَى تَقْدِيرِ حَقِّيَّةِ الْمَطْلُوبِ لَا ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخَلَفَ هُنَا الْبَاطِلُ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ ، وَقِيلَ : لِأَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ لَمَّا كَانَ مُثْبِتًا لِمَطْلُوبِهِ بِإِبْطَالِ نَقِيضِهِ فَكَأَنَّهُ يَأْتِي مَطْلُوبُهُ لَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ بَلْ مِنْ خَلْفِهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَلْفَ هُنَا ضِدُّ الْقُدَّامِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ثُمَّ إنَّمَا رُتِّبَتْ ضُرُوبُ هَذَا الشَّكْلِ هَذَا التَّرْتِيبَ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَيْنِ الْأَوَّلِينَ يُنْتِجَانِ الْكُلِّيَّ ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى الرَّابِعِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى صُغْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالرَّابِعِ .
( الشَّكْلُ الثَّالِثُ بِوَضْعِهِ فِيهِمَا ) أَيْ مَا يَكُونُ الْوَسَطُ مَوْضُوعًا فِي صُغْرَاهُ وَكُبْرَاهُ ( شَرْطُهُ ) أَيْ اسْتَلْزَمَ هَذَا الشَّكْلُ لِلْمَطْلُوبِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ ، وَهُوَ ( إيجَابُ صُغْرَاهُ ) حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَثَانِيهِمَا بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ ( وَكُلِّيَّةُ إحْدَاهُمَا ) أَيْ مُقَدِّمَتَيْهِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَلِمِيَةِ اشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُقَرَّرَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَنْطِقِيَّةِ فَحِينَئِذٍ ( ضُرُوبُهُ ) الْمُنْتِجَةُ مِنْ الضُّرُوبِ الْمُمْكِنَةِ الِانْعِقَادِ فِيهِ سِتَّةٌ لَا غَيْرُ .
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ( كُلِّيَّتَانِ مُوجَبَتَانِ ) فَيُنْتِجُ جُزْئِيَّةً مُوجَبَةً ، مِثَالُهُ ( كُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيُّ فَبَعْضُ الْمَكِيلِ رِبَوِيٌّ ) فَإِنْ قُلْت : لِمَ يُنْتِجُ جُزْئِيًّا مَعَ أَنَّهُ مِنْ مُوجَبَتَيْنِ كُلِّيَّتَيْنِ ؟ .
فَالْجَوَابُ ( لِأَنَّ رَدَّهُ بِعَكْسِ الْأُولَى ) أَيْ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُرَدَّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَغَيْرِهِ ، وَرَدُّهُ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِعَكْسِ الْأُولَى عَكْسًا مُسْتَوِيًا ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُخَالَفَةُ لِلْأَوَّلِ ، وَإِذَا عُكِسَتْ صَارَتْ جُزْئِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ رَدُّ هَذَا الضَّرْبِ إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْهُ وَكَانَتْ نَتِيجَتُهُ جُزْئِيَّةً ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّكْلِ أَنَّهُ لَا يُنْتِجُ إلَّا جُزْئِيًّا ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَخَصُّ ضُرُوبِهِ ، وَهُوَ لَا يُنْتِجُ كُلِّيًّا ، وَمَتَى لَمْ يُنْتِجْ الْأَخَصُّ شَيْئًا لَمْ يُنْتِجْهُ الْأَعَمُّ نَعَمْ لَمْ يَرَ الْمُصَنِّفُ لُزُومَ هَذَا فِيهِ فِي سَائِرِ الْمَوَادِّ بَلْ قَالَ ( فَلَوْ كَانَتْ ) الْأُولَى مِنْ هَذَا الضَّرْبِ ( مُتَسَاوِيَةَ الْجُزْأَيْنِ أَنْتَجَ ) هَذَا الضَّرْبُ لَازِمًا ( كُلِّيًّا ) بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِيَارِهِ كَوْنَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُتَسَاوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا ، وَقَدْ عَرَفْت اتِّجَاهَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ رَدُّهُ إلَى الضَّرْبِ
الْأَوَّلِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، مِثَالُهُ كُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ ، وَكُلُّ إنْسَانٍ ضَاحِكٌ يُنْتِجُ كُلُّ نَاطِقٍ ضَاحِكٌ .
الضَّرْبُ الثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَمِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِي الْكَيْفِ وَكُلِّيَّةِ الثَّانِيَةِ ( إلَّا أَنَّ الْأُولَى جُزْئِيَّةٌ ) .
الضَّرْبُ الثَّانِي فَهُوَ حِينَئِذٍ مُوجَبَتَانِ جُزْئِيَّةٌ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٌ كُبْرَى ( يُنْتِجُ مِثْلَهُ ) أَيْ الْأَوَّلُ مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ ، مِثَالُهُ بَعْضُ الْمَكِيلِ بُرٌّ وَكُلُّ مَكِيلٍ رِبَوِيٌّ فَبَعْضُ الْبُرِّ رِبَوِيٌّ ( وَيُرَدُّ ) إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِعَكْسِ الصُّغْرَى ، وَهُوَ ظَاهِرُ الضَّرْبِ الثَّالِثِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَعَكْسُ ) الضَّرْبِ ( الثَّانِي ) فَهُوَ حِينَئِذٍ مُوجَبَتَانِ كُلِّيَّةٌ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٌ كُبْرَى ( يُنْتِجُ ) مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً ( كَالْأَوَّلِ ) أَيْ كَمَا يُنْتِجُهَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي أَيْضًا مِثَالُهُ كُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ وَبَعْضُ الْبُرِّ رِبَوِيٌّ فَبَعْضُ الْمَكِيلِ رِبَوِيٌّ ( وَرَدُّهُ ) إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِجَعْلِ عَكْسِ الْكُبْرَى ) ، وَهُوَ بَعْضُ الرِّبَوِيُّ بُرٌّ ( صُغْرَى ) لِلضَّرْبِ الْمَذْكُورِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا أَنْ تَكُونَ كُبْرَاهُ لِجُزْئِيَّتِهَا ، وَعَيْنُ الصُّغْرَى كُبْرَاهُ لِيَصِيرَ بَعْضُ الرِّبَوِيُّ بُرًّا وَكُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ فَيُنْتِجُ بَعْضُ الرِّبَوِيِّ مَكِيلٌ ( وَعَكْسُ النَّتِيجَةِ ) اللَّازِمَةِ لَهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَكْسَهَا حِينَئِذٍ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ ثُمَّ مِمَّا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَخِرَةِ هُنَا ، وَقَرَأْنَاهُ عَلَيْهِ مَا نَصُّهُ ( فَلَوْ الصُّغْرَى مُتَسَاوِيَةٌ عُكِسَتْ ) وَكَتَبَ عَلَيْهِ مَا صُورَتُهُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عَكْسِ الصُّغْرَى هُنَا لَيْسَ إلَّا ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ مِنْ جُزْئِيَّتَيْنِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَالْمُصَنِّفُ يَرَى مَعَ تُسَاوِي طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ تَنْعَكِسُ الْكُلِّيَّةُ كُلِّيَّةً فَلِذَا قَالَ فَلَوْ الصُّغْرَى إلَخْ وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى عَكْسِ النَّتِيجَةِ ا هـ .
وَلَمْ
يَظْهَرْ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - اسْتِقَامَةُ هَذَا فَإِنَّ مِثَالَ هَذَا وَالصُّغْرَى مُتَسَاوِيَةُ الطَّرَفَيْنِ كُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ ، وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ وَاللَّازِمُ عَنْهُ بَعْضُ النَّاطِقِ كَاتِبٌ فَإِذَا عُكِسَتْ الصُّغْرَى فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْكُبْرَى فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ كُبْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تَبْقَى عَيْنُ الْكُبْرَى صُغْرَى فَيَصِيرُ بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبًا وَكُلُّ نَاطِقٍ إنْسَانٌ ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ الشَّكْلِ الرَّابِعِ الْمُنْتِجَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي ، وَمِنْ ضُرُوبِهِ الْعَقِيمَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَنْطِقِيِّينَ .
وَأَمَّا عَكْسُهَا فَيَصِيرُ بَعْضُ الْكَاتِبِ إنْسَانًا وَكُلُّ نَاطِقٍ إنْسَانٌ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى مِنْ ضُرُوبِ الشَّكْلِ الثَّانِي الْعَقِيمَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ عَنْ ذُهُولٍ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فَسُبْحَانَ مِنْ لَا يَذْهَلُ وَلَا يَغْفُلُ .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ مَا أَفْصَحَ بِهِ قَوْلُهُ ( وَكُلِّيَّتَانِ الثَّانِيَةُ سَالِبَةٌ ) وَالْأُولَى مُوجَبَةٌ مِثَالُهُ ( كُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ وَكُلُّ بُرٍّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَبَعْضُ الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا يُنْتِجُ ) هَذَا الضَّرْبُ ( كَالْأَوَّلِ فِي الْمُسَاوَاةِ وَالْأَعَمِّيَّةِ ) يَعْنِي كَمَا يَنْتِجُ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فِيهِمَا فَإِذَا كَانَ هُنَا جُزْءَ الْأُولَى مُتَسَاوِيَيْنِ أَنْتَجَ كُلِّيًّا كَمَا هُنَاكَ مِثَالُهُ كُلُّ فَرَسٍ صَهَّالٌ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْفَرَسِ بِإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يُنْتِجُ لَا شَيْءَ مِنْ الصُّهَالِ بِإِنْسَانٍ ، وَإِذَا كَانَ هُنَا مَحْمُولُ الْأُولَى أَعُمَّ مِنْ مَوْضُوعِهَا أَنْتَجَ جُزْئِيًّا .
وَمِثَالُهُ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فَإِنَّ الْمَكِيلَ أَعَمُّ مِنْ الْبُرِّ ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ يُرَدُّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِعَكْسِ الصُّغْرَى ) كَمَا هُنَاكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا
الْمُخَالَفَةُ لِلْأُولَى مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ يُرَدُّ فِي الْمُسَاوَاةِ إلَى الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْأَعَمِّيَّةِ إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْهُ ، وَذَاكَ يُرَدُّ فِي الْمُسَاوَاةِ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْأَعَمِّيَّةِ إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي .
الضَّرْبُ الْخَامِسُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَكَالرَّابِعِ إلَّا أَنَّ أُولَاهُ جُزْئِيَّةٌ ) بِخِلَافِهَا فِي الضَّرْبِ الرَّابِعِ فَهُوَ حِينَئِذٍ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ كُبْرَى ( يُنْتِجُ سَلْبًا جُزْئِيًّا ) مِثَالُهُ بَعْضُ الْمَوْزُونِ رِبَوِيٌّ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْمَوْزُونِ يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَبَعْضُ الرِّبَوِيُّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا ( وَيُرَدُّ ) إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِعَكْسِ الصُّغْرَى ؛ لِأَنَّهَا الْمُخَالَفَةُ لِلْأَوْلَى فِيهِ ( مِثْلُهُ ) أَيْ مِثْلُ مَا رُدَّ الرَّابِعُ الْمَذْكُورُ إلَيْهِ فِي الْأَعَمِّيَّةِ فَنَقُولُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بَعْضُ الرِّبَوِيِّ مَوْزُونٌ وَالْبَاقِي بِعَيْنِهِ مِنْ الْكُبْرَى وَالنَّتِيجَةِ .
الضَّرْبُ السَّادِسُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقَلْبُهُ ) أَيْ الضَّرْبُ الْخَامِسُ ( كَمِّيَّةً ) لَا كَيْفِيَّةً فَهُوَ كُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ كُبْرَى ( يُنْتِجُ ) سَلْبًا جُزْئِيًّا ( مِثْلَهُ ) أَيْ الْخَامِسِ أَيْضًا مِثَالُهُ ( كُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ وَبَعْضُ الْبُرِّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَبَعْضُ الْمَكِيلِ لَا يُبَاعُ إلَخْ ) أَيْ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَلَمَّا كَانَ رَدُّ هَذَا الضَّرْبِ إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِعَكْسِ الْكُبْرَى ، وَجَعْلُهَا صُغْرَى وَضَمُّ الصُّغْرَى إلَيْهَا كُبْرَى فَيُنْتِجُ مَا تَنْعَكِسُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَكَانَ مِمَّا يُخَالُ أَنَّهَا لَا تَنْعَكِسُ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَنْعَكِسَ إنَّمَا تَنْعَكِسُ سَالِبَةً ، وَالسَّالِبَةُ لَا تَصْلُحُ صُغْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ رَدَّهُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَكْسَ الْكُبْرَى
الْمَذْكُورِ صُغْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مَعَ إشَارَةٍ إلَى دَفْعِ هَذَا الْمُخَيَّلِ فَقَالَ : ( وَرَدُّهُ بِاعْتِبَارِ الْكُبْرَى مُوجَبَةً سَالِبَةَ الْمَحْمُولِ ) أَيْ سُلِبَ مَحْمُولُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا بِجَعْلِ السَّلْبِ جُزْءًا لِلْمَحْمُولِ ثُمَّ أُثْبِتَ ذَلِكَ السَّلْبُ لِلْمَوْضُوعِ وَلِمُلَاحَظَةِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فِيهَا سُمِّيَتْ مُوجَبَةً سَالِبَةَ الْمَحْمُولِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْمُوجَبَةُ السَّالِبَةُ الْمَحْمُولِ ( لَازِمَةٌ لِلسَّالِبَةِ ) كَمَا أَنَّ السَّالِبَةَ لَازِمَةٌ لَهَا أَيْضًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ ، وَإِثْبَاتِ سَلْبِهِ لَهُ ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْمُوجَبَةُ إلَى وُجُودِ الْمَوْضُوعِ كَالسَّالِبَةِ بِخِلَافِ الْمَعْدُولَةِ وَلِهَذَا لَمْ نَجْعَلْهَا فِي حُكْمِ الْمَعْدُولَةِ وَكَمَا تَنْعَكِسُ الْمُوجَبَةُ الْمُحَصِّلَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً تَنْعَكِسُ هَذِهِ السَّالِبَةُ ( وَبِجَعْلِ عَكْسِهَا ) مُسْتَوِيًا ( صُغْرَى ) لِلضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ مِنْ مَاصَدَق كَوْنِ الصُّغْرَى فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَعَكْسُ الْكُبْرَى فِي هَذَا الْمِثَالِ بَعْضُ مَا لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا بُرٌّ فَيُجْعَلُ صُغْرَى ( لِكُلِّ بُرٍّ مَكِيلٍ فَيُنْتِجُ مَا يَنْعَكِسُ ) مُسْتَوِيًا ( إلَى الْمَطْلُوبِ ) فَإِنَّهُ يُنْتِجُ بَعْضَ مَا لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا مَكِيلٌ ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ مُسْتَوِيًا إلَى : بَعْضُ الْمَكِيلِ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( وَيُبَيِّنُ هَذَا ) الضَّرْبَ ( وَمَا قَبْلَهُ ) مِنْ الضُّرُوبِ الْخَمْسَةِ وَالْأَخْصَرِ ، وَيُبَيِّنُ ضُرُوبَهُ ( بِالْخَلَفِ ) أَيْضًا أَيْ بِقِيَاسِهِ ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ نَقِيضَ الْمَطْلُوبِ كَمَا أَخَذْته فِي الشَّكْلِ .
الثَّانِي ( إلَّا أَنَّك تَجْعَلُ نَقِيضَ الْمَطْلُوبِ كُبْرَى ) لِصُغْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الصُّغْرَى دَائِمًا مُوجَبَةٌ ، وَنَقِيضَ النَّتِيجَةِ دَائِمًا كُلِّيَّةٌ ، وَفِي الشَّكْلِ الثَّانِي تَجْعَلُ صُغْرَى لِكُبْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَتَقُولُ فِي هَذَا الضَّرْبِ لَوْ لَمْ يَصْدُقْ بَعْضُ الْمَكِيلِ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِصِدْقِ نَقِيضِهِ ، وَهُوَ كُلُّ مَكِيلٍ يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَيُجْعَلُ كُبْرَى لِلصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ كُلُّ بُرٍّ مَكِيلٌ فَيُنْتِجُ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُلُّ بُرٍّ يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا ، وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا كَانَ كُبْرَى فِي هَذَا الشَّكْلِ ، وَهُوَ بَعْضُ الْبُرِّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَلَا يَجْتَمِعَانِ صِدْقًا لَكِنَّ الْكُبْرَى صَادِقَةٌ بِالْفَرْضِ فَتَعَيَّنَ كَذِبُ هَذَا وَكَذِبُهُ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ مَجْمُوعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ صَدَقَتَا لَصَدَقَ هُوَ أَيْضًا .
وَالْفَرْضُ أَنَّ الصُّغْرَى مِنْهُ صَادِقَةٌ فَلَزِمَ كَوْنُ الْكَاذِبَةِ هِيَ الْكُبْرَى الْآنَ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ ، وَإِذَا كَذِبَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ كَانَ الْمَطْلُوبُ صِدْقًا ، وَهُوَ الْمُدَّعَى ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ تَخْرِيجُهُ لِمَنْ تَصَوَّرَهُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
( ثُمَّ اعْلَمْ ) أَنَّ تَرْتِيبَ ضُرُوبِ هَذَا الشَّكْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَنِيعُ الْإِمَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ ، وَمَشَى عَلَيْهِ الشَّارِحُونَ لِمُخْتَصَرِهِ وَغَيْرِهِمْ ، وَفِي الشَّمْسِيَّةِ جَعَلَ مَا هُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي هُنَا الضَّرْبَ الثَّالِثَ ، وَمَا هُوَ الضَّرْبُ الثَّالِثُ هُنَا الضَّرْبَ الْخَامِسَ ، وَمَا هُوَ الضَّرْبُ الرَّابِعُ هُنَا الضَّرْبَ الثَّانِيَ ، وَمَا هُوَ الضَّرْبُ الْخَامِسُ هُنَا الرَّابِعَ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ وَالسَّادِسُ فَكَمَا هُنَا ، وَمَشَى عَلَى هَذَا شَارِحُوهَا مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ الضُّرُوبِ الْمُنْتِجَةِ لِلْإِيجَابِ وَالثَّانِيَ أَخَصُّ الضُّرُوبِ الْمُنْتِجَةِ لِلسَّلْبِ ، وَالْأَخَصُّ أَشْرَفُ ، وَقَدَّمَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ عَلَى الْأَخِيرَيْنِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى كُبْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا وَلَا خَلَلَ فِي الْمَقْصُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهُ لَعَلَّ الْأُولَى مَا فِي الشَّمْسِيَّةِ ( الشَّكْلُ الرَّابِعُ خَالَفَ )
الشَّكْلَ ( الْأَوَّلِ فِيهِمَا ) أَيْ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ الْوَسَطُ مَوْضُوعًا فِي الصُّغْرَى مَحْمُولًا فِي الْكُبْرَى ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ ( فَرَدُّهُ ) إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِعَكْسِهِمَا ) أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَكْسًا مُسْتَوِيًا فَيَجْعَلُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَوْضُوعَ مَحْمُولًا وَالْمَحْمُولَ مَوْضُوعًا وَيَبْقَيَانِ عَلَى حَالِهِمَا مِنْ التَّرْتِيبِ ( أَوْ قَلْبِهِمَا ) أَيْ أَوْ بِتَقْدِيمِ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ الْمَوْضُوعِ مَحْمُولًا ، وَالْمَحْمُولِ مَوْضُوعًا ( فَإِذَا كَانَتْ صُغْرَاهُ ) أَيْ هَذَا الشَّكْلِ ( مُوجَبَةً كُلِّيَّةً أَنْتَجَ مَعَ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ ) الَّتِي هِيَ كُبْرَاهُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً ( بِرَدِّهِ ) إلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِعَكْسِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ ) أَيْ لَا مَعَ الْقَلْبِ أَيْضًا ( لِعَدَمِ السَّلْبِ فِي صُغْرَى ) الشَّكْلِ ( الْأَوَّلِ ) ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلْقَلْبِ ( وَ ) أَنْتَجَ ( مَعَ الْمُوجَبَتَيْنِ ) الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ كُبْرَيَيْنِ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً بِرَدِّهِ إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( بِقَلْبِهِمَا ) أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ( ثُمَّ عَكْسُ النَّتِيجَةِ لَا بِعَكْسِهَا لِبُطْلَانِ الْجُزْئِيَّتَيْنِ ) فَإِنَّهُ لَا قِيَاسَ عَنْهُمَا ، وَهُوَ لَازِمٌ مِنْ عَكْسِهِمَا ( فَسَقَطَتْ السَّالِبَةُ الْجُزْئِيَّةُ ) فِي هَذَا الشَّكْلِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا أَنْ تَكُونَ فِيهِ صُغْرَى أَوْ كُبْرَى ( لِانْتِفَاءِ الطَّرِيقِينَ ) اللَّذَيْنِ إنَّمَا يَرْتَدُّ هَذَا الشَّكْلُ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِأَحَدِهِمَا ، وَهُمَا الْعَكْسُ وَالْقَلْبُ ( مَعَهَا ) أَيْ السَّالِبَةِ الْجُزْئِيَّةِ أَمَّا انْتِفَاءُ الْعَكْسِ فَلِأَنَّ هَذِهِ السَّالِبَةَ الْجُزْئِيَّةَ لَا تَنْعَكِسُ ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْقَلْبِ فَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ إنْ كَانَتْ كُبْرَى صَارَتْ صُغْرَى الْأَوَّلِ سَالِبَةً ، وَإِنْ كَانَتْ صُغْرَى صَارَتْ كُبْرَى الْأَوَّلِ جُزْئِيَّةً وَكِلَاهُمَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِنْتَاجِ فِيهِ كَمَا عُرِفَ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُوجَبَةَ
الْكُلِّيَّةَ إذَا تَسَاوَى طَرَفَاهَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا فَرَّعَ عَلَيْهِ ( وَلَوْ تَسَاوَيَا ) أَيْ الطَّرَفَانِ ( فِي الْكُبْرَى الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ صَحَّ ) رَدُّ هَذَا الضَّرْبِ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِعَكْسِهِمَا لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَكَانَتْ النَّتِيجَةُ حِينَئِذٍ مُوجَبَةً كُلِّيَّةً ( وَإِذَا كَانَتْ الصُّغْرَى ) فِي هَذَا الشَّكْلِ ( مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً فَيَجِبُ كَوْنُ الْأُخْرَى السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ ) ، وَإِلَّا لَكَانَتْ إمَّا مُوجَبَةٌ لِسُقُوطِ السَّالِبَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً لَزِمَ مِنْهُ جَعْلُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُوجَبَةِ كُبْرَى لِلشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ سَلَكْت أَمَّا طَرِيقُ الْعَكْسِ فَلِأَنَّ عَكْسَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْقَلْبِ فَلِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الصُّغْرَى مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فَتَحُلَّ مَحَلَّ الْكُبْرَى وَالْجُزْئِيَّةُ الْمُوجَبَةُ لَا تَصْلُحُ كُبْرَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً فَالْجُزْئِيَّتَانِ لَا تَنْتُجَانِ بِنَفْسِهِمَا وَلَا بِعَكْسِهِمَا بِوَجْهٍ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ غَيْرَ مُتَسَاوٍ طَرَفَاهَا .
فَأَمَّا إذَا تَسَاوَيَا فَنَقُولُ ( وَعَلَى التَّسَاوِي تَجُوزُ الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ ) أَنْ تَكُونَ كُبْرَى لَلْمُوجَبَةِ الْجُزْئِيَّةِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لُزُومُ صَيْرُورَةِ كُبْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ جُزْئِيَّةً ، وَهَذَا الْمَانِعُ قَدْ انْعَدَمَ حِينَئِذٍ لِانْعِكَاسِهَا كُلِّيَّةً إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ بِطَرِيقِ الْعَكْسِ ( أَوْ ) كَانَتْ الصُّغْرَى فِي هَذَا الشَّكْلِ ( السَّالِبَةَ الْكُلِّيَّةَ فَيَجِبُ ) حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ ( الْكُبْرَى كُلِّيَّةً مُوجَبَةً لِامْتِنَاعِ خِلَافِ ذَلِكَ ) أَمَّا الْمُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ فَلِأَنَّهُ لَوْ قُلِبَتْ حِينَئِذٍ الْمُقَدِّمَتَانِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ عَكْسِ النَّتِيجَةِ ، وَهِيَ جُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ لَا تَنْعَكِسُ وَلَوْ عَكَسْتهمَا صَارَتْ
الْكُبْرَى جُزْئِيَّةً فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقِيَاسُ مِنْ سَالِبَتَيْنِ ، وَهُمَا لَا يُنْتِجَانِ أَصْلًا ، وَقَدْ عَرَفْت مَعَ هَذَا أَيْضًا سُقُوطَ السَّالِبَةِ الْجُزْئِيَّةِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ شَرْطَ إنْتَاجِ هَذَا الشَّكْلِ أَنْ لَا تَكُونَ صُغْرَاهُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْصُورَاتِ الْأَرْبَعِ وَلَا سَالِبَةً كُلِّيَّةً مَعَ مِثْلِهَا ، وَلَا مَعَ مُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ وَلَا مُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ مَعَ مِثْلِهَا وَلَا مَعَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا أَنْ تَكُونَ كُبْرَاهُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً مَعَ إحْدَى الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ فَحِينَئِذٍ ( ضُرُوبُهُ ) الْمُنْتِجَةِ مِنْ الضُّرُوبِ الْمُمْكِنَةِ الِانْعِقَادِ فِيهِ خَمْسَةٌ لَا غَيْرُ .
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ( كُلِّيَّتَانِ مُوجَبَتَانِ ) يُنْتِجُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً ، مِثَالُهُ ( كُلُّ مَا يَلْزَمُ عِبَادَةً مُفْتَقِرٌ إلَى النِّيَّةِ وَكُلُّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُ عِبَادَةً ، لَازِمُهُ كُلُّ تَيَمُّمٍ مُفْتَقِرٌ إلَى النِّيَّةِ بِقَلْبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ) فَيُقَالُ كُلُّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُ عِبَادَةً وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ عِبَادَةً مُفْتَقِرٌ إلَى النِّيَّةِ فَيُنْتِجُ اللَّازِمَ الْمَذْكُورَ ( ثُمَّ يَعْكِسُ ) عَكْسًا مُسْتَوِيًا ( إلَى الْمَطْلُوبِ جُزْئِيًّا بَعْضُ الْمُفْتَقِرِ تَيَمُّمٌ فَإِنْ قُلْت مَا السَّبَبُ ) فِي كَوْنِ الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا جُزْئِيًّا ( وَكُلٌّ مَنْ لُزُومِ الْكُلِّيَّةِ ) الْكَائِنَةِ فِي اللَّازِمِ الْمَذْكُورِ لِلْمَلْزُومِ الْمَذْكُورِ ( وَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ قِيلَ ) إنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذَا جُزْئِيًّا ( لِفَرْضِ كَوْنِ الصُّغْرَى مُطْلَقًا ) أَيْ فِي أَيْ شَكْلٍ مِنْ الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ قَدْرَ ( مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَوْضُوعِ الْمَطْلُوبِ وَالْكُبْرَى مَحْمُولَةٌ ) أَيْ وَكَوْنُ الْكُبْرَى مُطْلَقًا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَحْمُولِ الْمَطْلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ ( فَإِذَا زَعَمْت أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ ) عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ افْتِقَارُ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ ( بِالرَّابِعِ ) أَيْ بِالشَّكْلِ الرَّابِعِ ( كَانَ الْمُفْتَقِرُ مَوْضُوعَهُ ) أَيْ
الْمَطْلُوبُ ( وَالتَّيَمُّمُ مَحْمُولُهُ ) أَيْ الْمَطْلُوبُ ( وَالْحَاصِلُ عِنْدَ الرَّدِّ ) إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ( عَكْسُهُ ) ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ مَوْضُوعَ الْمَطْلُوبِ ، وَالْمُفْتَقِرُ مَحْمُولَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى عَكْسِهِ ( فَيَنْعَكِسُ جُزْئِيًّا ) لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَنْعَكِسُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةَ فَهَذَا سَبَبُ كَوْنِ اللَّازِمِ فِي هَذَا الضَّرْبِ جُزْئِيًّا ثُمَّ نَقُولُ عَلَى وَتِيرَةِ مَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ تَسَاوَيَا ) أَيْ الطَّرَفَانِ فِي الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ لَازِمُ هَذَا الضَّرْبِ ( كَانَ ) عَكْسُهُ ( كُلِّيًّا ) وَلَا يَتَأَتَّى السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ .
الضَّرْبُ الثَّانِي مِثْلُهُ أَيْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ( إلَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ جُزْئِيَّةً ) فَهُوَ مُوجَبَتَانِ كُلِّيَّةٌ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٌ كُبْرَى يُنْتِجُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً مِثَالُهُ ( كُلُّ عِبَادَةٍ بِنِيَّةٍ وَبَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ ) يُنْتِجُ بَعْضُ مَا هُوَ بِنِيَّةٍ الْوُضُوءُ ( وَالرَّدُّ وَاللَّازِمُ كَالْأَوَّلِ ) أَيْ وَرَدُّ هَذَا الضَّرْبِ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَاللَّازِمُ لَهُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ إلَّا أَنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْهُ يُرَدُّ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ يُرَدُّ إلَى الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْهُ فَتُقْلَبُ الْمُقَدِّمَتَانِ إلَى بَعْضِ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ وَكُلُّ عِبَادَةٍ بِنِيَّةٍ فَيُنْتِجُ بَعْضُ الْوُضُوءِ بِنِيَّةٍ ثُمَّ يُعْكَسُ هَذَا اللَّازِمُ إلَى بَعْضِ مَا هُوَ بِنِيَّةٍ الْوُضُوءُ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الضَّرْبُ ( الثَّالِثُ كُلِّيَّتَانِ الْأُولَى سَالِبَةٌ ) وَالثَّانِيَةُ مُوجَبَةٌ مِثَالُهُ ( كُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ وَكُلُّ مَنْدُوبٍ عِبَادَةٌ يُنْتِجُ سَالِبَةً كُلِّيَّةً لَا مُسْتَغْنٍ ) عَنْ النِّيَّةِ ( بِمَنْدُوبٍ بِالْقَلْبِ وَالْعَكْسِ ) أَيْ بِقَلْبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِيَرْتَدَّ إلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ عَكَسَ النَّتِيجَةَ إلَى الْمَطْلُوبِ فَيُقَالُ كُلُّ مَنْدُوبٍ عِبَادَةٌ ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ
النِّيَّةِ فَيُنْتِجُ كُلُّ مَنْدُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ وَيُعْكَسُ إلَى لَا مُسْتَغْنٍ عَنْ النِّيَّةِ بِمَنْدُوبٍ الضَّرْبُ ( الرَّابِعُ كُلِّيَّتَانِ الثَّانِيَةُ سَالِبَةٌ ) وَالْأُولَى مُوجَبَةٌ ( يُنْتِجُ جُزْئِيَّةً سَالِبَةً ) مِثَالُهُ ( كُلُّ مُبَاحٍ مُسْتَغْنٍ ) عَنْ النِّيَّةِ ( وَكُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَبَعْضُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ لَيْسَ بِوُضُوءٍ بِعَكْسِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ) فَتُعْكَسُ الْأُولَى إلَى مُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ ، وَهِيَ بَعْضُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ مُبَاحٌ .
وَالثَّانِيَةُ إلَى وَكُلُّ مُبَاحٍ لَيْسَ بِوُضُوءٍ ثُمَّ تَضُمُّهَا إلَى الْأُولَى فَيَكُونُ الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَيُنْتِجُ النَّتِيجَةَ الْمَذْكُورَةَ بِعَيْنِهَا ، وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ مَاشٍ عَلَى قَوْلِهِمْ ، وَأَمَّا عَلَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ إذَا تَسَاوَى طَرَفَاهَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا فَنَقُولُ ( وَلَوْ كَانَ فِي الْمُوجَبَةِ تَسَاوٍ ) بَيْنَ طَرَفَيْهَا ( كَانَتْ ) النَّتِيجَةُ سَالِبَةً ( كُلِّيَّةً ) لِكُلِّيَّةِ كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَيْنًا ، وَعَكْسًا الضَّرْبُ ( الْخَامِسُ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ وَسَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ كَالرَّابِعِ ) أَيْ هُوَ كَالضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ ( لَازِمًا وَرَدًّا ) إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَيُنْتِجُ جُزْئِيَّةً سَالِبَةً مِنْ الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِعَكْسِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مِثَالُهُ بَعْضُ الْمُبَاحِ مُسْتَغْنٍ عَنْ النِّيَّةِ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْوُضُوءِ بِمُبَاحٍ فَبَعْضُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ لَيْسَ بِوُضُوءٍ فَتُعْكَسُ الْأُولَى إلَى بَعْضِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ مُبَاحٌ وَالثَّانِيَةُ إلَى وَلَا شَيْءَ مِنْ الْمُبَاحِ بِوُضُوءٍ فَيُنْتِجُ اللَّازِمَ الْمَذْكُورَ بِعَيْنِهِ .
( وَيُبَيِّنُ الْكُلَّ ) أَيْ الضُّرُوبَ الْخَمْسَةَ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ ( بِالْخَلْفِ ) ، وَهُوَ أَنْ تَضُمَّ نَقِيضَ النَّتِيجَةِ إلَى إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِيُنْتِجَ مَا تَنْعَكِسُ إلَى نَقِيضِ الْأُخْرَى غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَضْمُومُ
إلَيْهَا نَقِيضُ النَّتِيجَةِ فِي الضَّرْبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الْمُنْتَجَيْنِ لِلْإِيجَابِ هِيَ الصُّغْرَى وَيَكُونُ النَّقِيضُ هُوَ الْكُبْرَى كَمَا فِي الْخَلْفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الشَّكْلِ الثَّالِثِ ، وَفِي الضُّرُوبِ الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ الْمُنْتَجَةِ لِلسَّلْبِ هِيَ الْكُبْرَى وَيَكُونُ نَقِيضُ النَّتِيجَةِ هُوَ الصُّغْرَى كَمَا فِي الْخَلْفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الشَّكْلِ الثَّانِي فَنَقُولُ فِي مِثَالِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ لَوْ لَمْ يَصْدُقْ بَعْضُ الْمُفْتَقِرِ إلَى النِّيَّةِ تَيَمُّمٌ لَصَدَقَ نَقِيضُهُ ، وَهُوَ لَا شَيْءَ مِنْ الْمُفْتَقِرِ إلَى النِّيَّةِ بِتَيَمُّمٍ وَتَضُمُّ كُبْرَى إلَى صُغْرَاهُ ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَلْزَمُ عِبَادَةُ مُفْتَقِر إلَى النِّيَّةِ فَيُنْتِجُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ مِمَّا يَلْزَمُ عِبَادَةً بِتَيَمُّمٍ وَتُعْكَسُ إلَى لَا شَيْءَ مِنْ التَّيَمُّمِ يَلْزَمُ عِبَادَةً ، وَهَذَا يُنَاقِضُ كُبْرَى هَذَا الضَّرْبِ الْمَرْدُودِ فَإِنَّهَا كُلُّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُ عِبَادَةً فَالصَّادِقُ إحْدَاهُمَا لَكِنْ كُبْرَى هَذَا الضَّرْبِ صَادِقَةٌ بِالْفَرْضِ فَيَكُونُ الْكَاذِبُ هَذَا اللَّازِمُ وَكَذِبُهُ بِكَذِبِ مُقَدِّمَتَيْهِ اللَّتَيْنِ هُمَا الْمَلْزُومُ أَوْ بِكَذِبِ إحْدَاهُمَا وَالْفَرْضُ أَنَّ هَذِهِ الصُّغْرَى صَادِقَةٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْكَاذِبَةِ هِيَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ فَالْمَطْلُوبُ حَقٌّ .
وَنَقُولُ فِي مِثَالِ الضَّرْبِ الثَّالِثِ لَوْ لَمْ يَصْدُقْ لَا مُسْتَغْنٍ عَنْ النِّيَّةِ بِمَنْدُوبٍ لَصَدَقَ نَقِيضُهُ ، وَهُوَ بَعْضُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ مَنْدُوبٌ فَيَضُمُّ صُغْرَى إلَى كُبْرَاهُ فَيُنْتِجُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بَعْضُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ عِبَادَةٌ وَيَنْعَكِسُ إلَى بَعْضِ الْعِبَادَةِ مُسْتَغْنٍ عَنْ النِّيَّةِ ، وَهَذَا يُنَاقِضُ صُغْرَى هَذَا الضَّرْبِ ، وَهِيَ كُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ فَالصَّادِقُ إحْدَاهُمَا لَكِنَّ الصُّغْرَى صَادِقَةٌ بِالْفَرْضِ فَيَكُونُ الْكَاذِبُ هَذَا اللَّازِمَ وَكَذِبُهُ بِكَذِبِ كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا وَالْفَرْضُ
أَنَّ كُبْرَاهُ صَادِقَةٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْكَاذِبَةِ هِيَ هَذِهِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ فَالْمَطْلُوبُ حَقٌّ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِيضَاحَيْنِ أَخَذَ بِالْبَاقِي ثُمَّ تَرْتِيبُ هَذِهِ الضُّرُوبِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ إنْتَاجِهَا لِبُعْدِهَا عَنْ الطَّبْعِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنْفُسِهَا فَقَدَّمَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجَبَتَيْنِ كُلِّيَّتَيْنِ وَالْإِيجَابُ الْكُلِّيُّ أَشْرَفُ الْأَرْبَعِ ثُمَّ الثَّانِي لِمُشَارَكَتِهِ الْأَوَّلَ فِي إيجَابِ مُقَدِّمَتَيْهِ ثُمَّ الثَّالِثُ لِارْتِدَادِهِ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِالْقَلْبِ ثُمَّ الرَّابِعُ لِكَوْنِهِ أَخَصُّ مِنْ الْخَامِسِ ثُمَّ حَصَرَ الضُّرُوبَ الْمُنْتَجَةَ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ فِي هَذِهِ رَأَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَزَادَ بَعْضُهُمْ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى بَلْ وَزَادَ نَجْمُ الدِّينِ النَّخْجَوانِيُّ فِي كُلٍّ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَرْبَعَةً أُخْرَى ، وَفِي الثَّالِثِ سِتَّةً أُخْرَى ، وَفِي الرَّابِعِ سَبْعَةً أُخْرَى وَالتَّحْقِيقُ خِلَافُهُ كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ ( تَذْنِيبٌ ) .
قَالُوا ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ الْأَشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى النَّظْمِ الطَّبِيعِيِّ ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضُوعِ الْمَطْلُوبِ إلَى الْحَدِّ الْوَسَطِ ثُمَّ مِنْهُ إلَى مَحْمُولِهِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضُوعِهِ إلَى مَحْمُولِهِ ، وَهَذَا لَا يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِيهِ غَيْرُهُ فَوُضِعَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى ثُمَّ ثُنِيَّ بِالثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَشْكَالِ إلَيْهِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صُغْرَاهُ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَوْضُوعِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَحْمُولِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْمُولَ إنَّمَا يُطْلَبُ إيجَابًا وَسَلْبًا لَهُ ثُمَّ أَرْدَفَ بِالثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ لَهُ بِهِ قُرْبًا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي أَخَسِّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ خَتَمَ بِالرَّابِعِ إذْ لَا قُرْبَ لَهُ بِهِ أَصْلًا لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَبُعْدِهِ عَنْ الطَّبْعِ جِدًّا .
( الطَّرِيقُ الرَّابِعُ الِاسْتِقْرَاءُ تَتَبُّعِ الْجُزْئِيَّاتِ ) أَيْ اسْتِقْصَاءِ جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِ كُلِّيٍّ أَوْ أَكْثَرِهَا لِتَعَرُّفِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامٍ هِيَ بِحَيْثُ تَتَّصِفُ بِهِ هَلْ الْوَاقِعُ أَنَّهَا مُتَّصِفَةٌ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ أَمْ لَا ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ ( فَيُسْتَدَلُّ عَلَى ) ثُبُوتِ ( الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ ) الشَّامِلِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ( بِثُبُوتِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ ( فِيهَا ) أَيْ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَذْكُورَةِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ اسْتِدْلَالٌ بِحَالِ الْجُزْئِيِّ عَلَى حَالِ الْكُلِّيِّ ، وَقَدْ يُقَالُ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ هَذَا التَّتَبُّعِ ، وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهُ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَكُلِّيٍّ لِثُبُوتِهِ فِي جُزْئِيَّاتِهِ ( وَهُوَ ) قِسْمَانِ ( تَامٌّ إنْ اُسْتُغْرِقَتْ ) الْجُزْئِيَّاتُ بِالتَّتَبُّعِ ( يُفِيدُ الْقَطْعَ ) كَالْعَدَدِ إمَّا زَوْجٌ ، وَإِمَّا فَرْدٌ وَكُلُّ زَوْجٍ يَعُدُّهُ الْوَاحِدُ وَكُلُّ فَرْدٍ يَعُدُّهُ الْوَاحِدُ فَكُلُّ عَدَدٍ يَعُدُّهُ الْوَاحِدُ وَيُسَمَّى أَيْضًا قِيَاسًا مُقَسَّمًا ( وَنَاقِصٌ خِلَافُهُ ) أَيْ إنْ لَمْ تُسْتَغْرَقْ جُزْئِيَّاتُهُ بِالتَّتَبُّعِ ، وَإِنَّمَا تَتَبُّعِ أَكْثَرُهَا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ أَمِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ عَلَى خِلَافِ مَا اُسْتُقْرِئَ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ كُلُّ حَيَوَانٍ يُحَرِّكُ عِنْدَ الْمَضْغِ فَكَّهُ الْأَسْفَلَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَالْفَرَسَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا نُشَاهِدُهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ التِّمْسَاحَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَضْغِ يُحَرِّكُ فَكَّهُ الْأَعْلَى ، وَأَفَادَنِي الْمُصَنِّفُ إمْلَاءً فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ إنَّمَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّيِّ هَذَا الْجَوَازُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ الْمُقَدَّرَةِ الْوُجُودِ لَوْ وُجِدَتْ كَانَ حُكْمُهَا غَيْرَ هَذَا فَالْجَوَابُ أَنَّ حَاجَتَنَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ إنَّمَا هِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ
وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرْعِ تَامٌّ فَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ قَطْعًا بِخِلَافِ اسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ ا هـ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَقْبُولِ مُنْحَصِرَةٌ فِي خَمْسَةٍ الْأَرْبَعَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْخَامِسِ مَا يُسَمَّى بِالتَّمْثِيلِ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعِلْمِ لَمْ يَقُلْ الطَّرِيقُ الْخَامِسُ التَّمْثِيلُ بَلْ قَالَ ( فَأَمَّا التَّمْثِيلُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفِقْهِيُّ الْآتِي فَمِنْ مَقَاصِدِ الْفَنِّ ) الْأُصُولِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ هُنَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْعِلْمِ لِمُنَافَاتِهِ حِينَئِذٍ لِجُزْئِيَّتِهِ ، وَإِنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مَا عَدَا الْمَنْطِقَ إذْ لَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ .
الْأَمْرُ ( الرَّابِعُ ) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ ( اسْتِمْدَادُهُ ) أَيْ مَا مِنْهُ مَدَدُ هَذَا الْعِلْمِ ، وَهُوَ أَمْرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا ( أَحْكَامٌ ) كُلِّيَّةٌ لُغَوِيَّةٌ ( اسْتَنْبَطُوهَا ) أَيْ اسْتَخْرَجَهَا أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ مِنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِاسْتِقْرَائِهِمْ إيَّاهَا إفْرَادًا وَتَرْكِيبًا .
( لِأَقْسَامٍ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ جَعَلُوهَا ) أَيْ عُلَمَاءُ هَذَا الْعِلْمِ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَنْبَطَةَ الْمَذْكُورَةَ ( مَادَّةً لَهُ ) أَيْ جُزْءًا لِهَذَا الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( لَيْسَتْ مُدَوَّنَةً قَبْلَهُ ) أَيْ تَدْوِينِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ فِي غُضُونِ اسْتِدْلَالَاتِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالتَّبَايُنِ وَالتَّرَادُفِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالظُّهُورِ وَالنُّصُوصِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ ( فَكَانَتْ ) هَذِهِ الْأَحْكَامُ حِينَئِذٍ بَعْضًا ( مِنْهُ ) ، وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى دَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَبْعَاضُ عُلُومٍ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ أَيْضًا ثَانِيًا وَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ ثَالِثًا ثُمَّ اسْتِمْدَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ كُلٍّ مِنْ تَصَوُّرِهَا وَتَصْدِيقِهَا ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهَا مُعَنْوَنًا ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْعِلْم بِمَسْأَلَةٍ فَإِنْ قِيلَ بَعْضُ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَلَا تَكُونُ جُزْءًا مِنْهُ ضَرُورَةَ كَوْنِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ خَارِجًا عَنْ الْمُتَوَقِّفِ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ فَالْجَوَابُ كَمَا قَالَ ( وَتَوَقُّفُ إثْبَاتِ بَعْضِ مَطَالِبِهِ ) أَيْ مَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ ( عَلَيْهَا ) أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَصَوُّرًا وَتَصْدِيقًا كَالتَّصْدِيقِ مَثَلًا بِأَنَّ الْعُمُومَ يَلْحَقُهُ الْخُصُوصُ ( لَا يُنَافِي الْأَصَالَةَ ) أَيْ أَنْ يَكُونَ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَطْلَبُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ هَذَا الْعِلْمِ ( لِجَوَازِ ) كَوْنِ ( مَسْأَلَةٍ ) مِنْ
الْعِلْمِ ( مَبْدَأً لِمَسْأَلَةٍ ) أُخْرَى مِنْهُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ فِي الْمَبْدَئِيَّةِ كَمَا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَارِجًا عَنْهُ فَإِنَّ الْمُرَكَّبَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كُلٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا شَيْءَ مِنْ أَجْزَائِهِ بِخَارِجٍ عَنْهُ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ خَارِجًا عَنْ الْمُتَوَقِّفِ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعِلْمِ ( وَهَذَا ) أَيْ : وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْعِلْمُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ( لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ ) الْكُلِّيَّةَ السَّمْعِيَّةَ ( مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ) الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ ( مِنْهَا ) أَيْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ صِيغَةً وَمَعْنًى .
( وَحُمِلَ حُكْمُ الْعَامِّ مَثَلًا وَالْمُطْلَقِ ) أَيْ : وَحُمِلَ حُكْمُهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَامًّا ، وَمُطْلَقًا ( لَيْسَ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ) أَيْ كَوْنِ الْعَامِّ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ ( عَامُّ الْأَدِلَّةِ ) الْمَذْكُورَةِ وَلَا بِقَيْدِ كَوْنِ الْمُطْلَقِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ مُطْلَقَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ لَيْسَ الْحَمْلُ بِاعْتِبَارِ هَذَا التَّقْيِيدِ الْخَاصِّ ( بَلْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا ) أَيْ بَلْ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى عَامِّ الْكَلَامِ السَّمْعِيِّ ، وَمُطْلَقِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ مِنْ مَا صَدَقَاتِ ذَيْنِك حِينَئِذٍ فَانْدَفَعَ أَنْ يُقَالَ الْأَحْكَامُ الْكَائِنَةُ لِأَقْسَامٍ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا أَحْكَامُ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ مُسْتَمَدًّا مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ .
وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا خَشْيَةَ
تَوَهُّمِ كَوْنِهَا أَجْمَعَ مُجْمَعًا عَلَيْهَا فَقَالَ ( وَقَدْ يَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ ) بَيْنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ ثَانِي الْأَمْرَيْنِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَأَجْزَاءٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَصَوُّرَاتِ الْأَحْكَامِ ) الشَّرْعِيَّةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْوَصْفِ بِالِاسْتِقْلَالِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ تَوَهُّمِ كَوْنِ هَذَا الْعِلْمِ أَبْعَاضَ عُلُومٍ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا سَالِفًا أَنَّهُ سَيُشِيرُ إلَيْهِ ثَانِيًا ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْأَجْزَاءَ بِتَصَوُّرَاتِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِإِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا مِنْ حَيْثُ اسْتِفَادَتُهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ لَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ ( كَالْفِقْهِ ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْفِقْهَ يُسْتَمَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِلَّةِ أَيْضًا ( يَجْمَعُهُمَا ) أَيْ هَذَا الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِ تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُمْتَدَّةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( الِاحْتِيَاجُ ) الْكَائِنُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( إلَى تَصَوُّرَاتِ مَحْمُولَاتِ الْمَسَائِلِ ) أَيْ مَسَائِلِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأُصُولِيِّ مِنْ الْأُصُولِ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ وَنَفْيُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَدْلُولَةٌ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، وَمُسْتَفَادَةٌ مِنْهَا ، وَالْفَقِيهُ مِنْ الْفِقْهِ إثْبَاتُهَا وَنَفْيُهَا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهَا بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ ، وَهِيَ تَقَعُ جُزْءًا مِنْ مَحْمُولَاتِ مَسَائِلِهِمَا كَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالْوِتْرِ وَاجِبٌ فَإِنَّ مَعْنَى الْأُولَى أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْوُجُوبِ وَمُفِيدٌ لَهُ ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ أَنَّهُ مُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ ، وَمَوْصُوفٌ بِهِ فَوَقَعَ الْوُجُوبُ جُزْءًا مِنْ الْمَحْمُولِ فِيهِمَا لَا نَفْسَ الْمَحْمُولِ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ نَفْيًا ، وَإِثْبَاتًا فَرْعُ تَصَوُّرِهِ بِسَائِرِ أَجْزَائِهِ ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِقْهِ اسْتِطْرَادٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْدَادُ الْفِقْهِ إيَّاهَا ) أَيْ تَصَوُّرَاتِ الْأَحْكَامِ
الْمَذْكُورَةِ ( مِنْهُ ) أَيْ عِلْمِ الْأُصُولِ ( لِسَبْقِهِ ) أَيْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي الِاعْتِبَارِ لِكَوْنِهِ فَرْعًا عَلَيْهِ ( وَإِنْ لَمْ يُدَوَّنْ ) عِلْمُ الْأُصُولِ مُسْتَقِلًّا قَبْلَ تَدْوِينِ الْفِقْهِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَرَتَّبَ كُتُبَهُ ، وَأَبْوَابَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا نَقَلَهُ الْفَيْرُوزْآبادِي الشَّافِعِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِ ، .
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْإِيضَاحِ ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَقَعُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَدَعَاهُ فَقَالَ يَا هَذَا أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ الرُّبْعَ فَقَالَ وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ الْفِقْهُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ ، وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِوَضْعِ السُّؤَالِ فَسَلِمَ لَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْكُلِّ وَخُصُوصِهِ لَا يَقُولُونَ : إنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْكُلِّ فَإِذَا جَعَلْت مَا وَافَقُوهُ فِيهِ مُقَابَلًا بِمَا خَالَفُوهُ فِيهِ سَلِمَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ لَهُ وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ رُبْعُ الْعِلْمِ فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ وَقِيعَتِهِ فِي أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَيُقَالُ إنَّ أَوَّلَ مِنْ دَوَّنَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ صَنَّفَ فِيهِ كِتَابَ الرِّسَالَةِ بِالْتِمَاسِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ ( وَيَزِيدُ ) هَذَا الْعِلْمُ عَلَى الْفِقْهِ ( بِهَا ) أَيْ بِتَصَوُّرَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ ( مَوْضُوعَاتٍ ) لِمَسَائِلِهِ ( فِي مِثْلِ الْمَنْدُوبِ مَأْمُورٌ بِهِ أَوَّلًا وَالْوَاجِبُ إمَّا مُقَيَّدٌ بِالْوَقْتِ أَوْ لَا ) فَإِنَّ الْمَوْضُوعَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ مِثْلُهُ بِوَاقِعٍ فِي الْفِقْهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ احْتِيَاجُ هَذَا الْعِلْمِ إلَى تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
أَكْثَرُ مِنْ احْتِيَاجِ الْفِقْهِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَهُ مِنْهَا أَوْفَرُ مِنْ اسْتِمْدَادِ الْفِقْهِ ثُمَّ لَوْ قَالَ : مِثْلُ الْإِبَاحَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ جِنْسًا لِلْوُجُوبِ لَكَانَ أَوْلَى ( وَعَنْهُ ) أَيْ كَوْنِ هَذَا الْعِلْمِ يَزِيدُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ مَوْضُوعَاتٍ لِمَسَائِلِهِ ( عُدَّتْ ) هَذِهِ الْأَحْكَامُ ( مِنْ الْمَوْضُوعِ ) أَيْ مَوْضُوعِ هَذَا الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ نَفْسِ الْأَحْكَامِ مَوْضُوعًا لِهَذَا الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ تَكُونُ بِحَيْثُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَوْضُوعُ الْعِلْمِ ، وَقَدْ أَسَلَفْنَا بَيَانَ هَذَا ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ ، وَمَا عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الْبَحْثَ عَنْهَا ، وَعَنْ الْمُكَلَّفِ الْكُلِّيِّ ، وَأَحْوَالِهِ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ وَاللَّوَاحِقِ فَرَاجِعْهُ ثُمَّ بَقِيَ هُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْآمِدِيَّ وَابْنَ الْحَاجِبِ ، وَمَنْ تَابَعَهُمَا ذَكَرُوا أَنَّ اسْتِمْدَادَ هَذَا الْعِلْمِ مِنْ ثَلَاثَةٍ هَذَيْنِ وَالثَّالِثِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِمَا مِنْهُ الِاسْتِمْدَادُ مَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ حُجِّيَّتِهَا لِلْأَحْكَامِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ إثْبَاتَ الْأَحْكَامِ أَوْ نَفْيَهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَوُّرِهَا أَوْ التَّصْدِيقِ بِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى تَعْلِيلِهِمْ لِهَذِهِ الدَّعْوَى ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَدِلَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ .
وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا مِنْهُ الِاسْتِمْدَادُ مَا بِحَيْثُ يَكُونُ مَادَّةً وَجُزْءًا لِهَذَا الْعِلْمِ وَلَيْسَ عِلْمُ الْكَلَامِ كَذَلِكَ ، وَمِنْ ثَمَّةَ نَبَّهَ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَسْأَلَةَ الْحَاكِمِ ، وَمَا شَابَهَهَا أَوْ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ ثُمَّ إنَّهُ - وَإِنْ كَانَ لَا مُنَاقَشَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ - صَنِيعُ الْمُصَنِّفِ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْلَى ؛
لِأَنَّ الْمَدَدَ لِلشَّيْءِ لُغَةً مَا يَزِيدُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَكْثُرُ ، وَمِنْهُ الْمَدَدُ لِلْجَيْشِ ، وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْكَلَامِ .
( وَمَا قِيلَ كُلُّهُ أَجْزَاءُ عُلُومٍ بَاطِلٌ ) أَيْ ، وَقَوْلُ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيّ إنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ لَيْسَ عِلْمًا بِرَأْسِهِ بَلْ هُوَ أَبْعَاضُ عُلُومٍ جُمِعَتْ مِنْ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْجَدَلِ لَيْسَ بِحَقٍّ ( وَمَا يُخَالُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ ) أَيْ ، وَمَا يُظَنُّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالٍ رَاجِعَةٍ إلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ أَوْ طَرِيقِهِ كَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لِعَمَلِ الصَّحَابِيِّ لَا لِرِوَايَتِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَعَدَالَةُ الرَّاوِي وَجَرْحُهُ ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ كَمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ فَيُظَنُّ أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَكُونَ الْأُصُولِيُّ فِيهِ عِيَالًا عَلَى الْمُحَدِّثِ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لَيْسَ اسْتِمْدَادًا ) أَيْ لَيْسَ الْبَحْثُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي هَذَا الْعِلْمِ اسْتِمْدَادًا لَهُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ ( بَلْ ) السَّبَبُ فِي تَوَارُدِ بَحْثِهِمَا عَنْهَا ( تَدَاخُلُ مَوْضُوعَيْ عِلْمَيْنِ يُوجِبُ مِثْلَهُ ) فَقَدْ عَرَفْت جَوَازَ تَدَاخُلِهِمَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ مَوْضُوعِ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَخُصُوصِ مَوْضُوعِ الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوجِبُ الْتِقَاءَهُمَا بَحْثًا فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عِيَالًا عَلَى الْآخَرِ فِي ذَلِكَ ، وَمَوْضُوعَا هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالسَّمْعِيُّ ) أَيْ الدَّلِيلُ الْكُلِّيُّ السَّمْعِيُّ مُطْلَقًا ( مِنْ حَيْثُ يُوَصِّلُ ) الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ إلَى قُدْرَةِ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ( يَنْدَرِجُ فِيهِ السَّمْعِيُّ النَّبَوِيُّ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ ) ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكَوْنِ هَذَا جُزْئِيًّا مِنْ
جُزْئِيَّاتِ ذَاكَ .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ ذَاكَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهَذَا مَوْضُوعُ عِلْمِ الْحَدِيثِ فَإِذَنْ عِلْمُ الْحَدِيثِ بَابٌ مِنْ الْأُصُولِ ، وَكَوْنُ الْأُصُولِيِّ يَبْحَثُ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ حَيْثُ الْإِيصَالُ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْبَحْثِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ ، وَكَيْفَ يَقْتَضِيهِ وَالْبَحْثُ مِنْ حَيْثُ الْإِيصَالُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الثُّبُوتِ مِنْ صِحَّةٍ وَحُسْنٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَخْتَلِفُ صِفَاتُ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ لِلْمُكَلَّفَيْنِ بِاخْتِلَافِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْأَدِلَّةِ قُوَّةً وَضَعْفًا فَلَا تَتَنَافَى بَيْنَ قَيْدَيْ الْمَوْضُوعَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّ ذِكْرَ تَفَاصِيلِ مَبَاحِثِ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِ لَا يُوجِبُ اسْتِمْدَادَهُ إيَّاهَا مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مِنْ مَبَاحِثِهِ بِالْأَصَالَةِ أَيْضًا ( وَمَبَاحِثُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّسْخِ ظَاهِرٌ ) أَيْ ، وَمَبَاحِثُ هَذِهِ ، وَمَا يَتْبَعُهَا ظَاهِرٌ كَوْنُهَا مَبَاحِثَهُ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَلَا يُعْلَمُ عِلْمٌ مِنْ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ كَفِيلٌ بِهَا سِوَاهُ ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ مِنْهُ إلَّا مَسْأَلَةُ الْحَاكِمِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَأَنَّهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ مِنْ الْمَبَادِئِ بِالِاصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّ ، وَأَمَّا الْفِقْهُ فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ إيضَاحٌ لِقَوَاعِدِهِ فِي صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ أَوْ اسْتِطْرَادٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْجَدَلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَعْنِي كَيْفِيَّةَ الْإِيرَادِ عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْفِقْهِيَّةِ ذَوَاتِ الْعِلَلِ الْجَعْلِيَّةِ مِنْهُ حَادِثٌ بِحُدُوثِهِ فَإِنْ أَفْرَدَ هَذَا الْجَدَلَ فَكَالْفَرَائِضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِقْهِ وَالْجَدَلِ الْقَدِيمِ جُمَلٌ قَلِيلَةٌ فِي بَيَانِ مَا عَلَى الْمَانِعِ وَالْمُعَلِّلِ مِنْ حِفْظِ وَضْعَيْهِمَا .
وَكَذَا مَبَاحِثُ أَقْسَامِ اللَّفْظِ الْآتِي تَفْصِيلُهَا مِنْهُ لِظُهُورِ تَوَقُّفِ الْإِيصَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا ،
وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ جُزْءًا مِنْ الْأُصُولِ وَاللَّازِمُ حَقٌّ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُسْتَقِلٌّ بِرَأْسِهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ مِنْ عِلْمِ مُدَوَّنٍ قَبْلَهُ شَيْئًا يَكُونُ مِنْهُ جُزْءًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَهَذَا أَخِرُ الْكَلَامِ فِي الْمُقَدِّمَةِ .
( الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ ) الْمَبَادِئُ جَمْعُ مَبْدَإٍ ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَكَانُ الْبُدَاءَةِ فِي الشَّيْءِ أَوْ زَمَانِهِ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ مَا يَحِلُّ فِيهِ تَوَسُّعًا مَشْهُورًا كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ مَا سِوَاهُ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ الْمَنْطِقِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَبَاحِثَ الْمَقْصُودَةَ ذَاتًا لِلْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرَاهُ يُنَبِّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ هَذَا وَجْهُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى الْمَقَالَتَيْنِ الْآتِيَتَيْنِ كَمَا عُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا لُغَوِيَّةً ثُمَّ حَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ بَيَانُ مَعْنَى اللُّغَةِ وَالْإِشَارَةُ إلَى سَبَبِ وَضْعِهَا ، وَبَيَانُ الْوَاضِعِ ، وَهَلْ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ لَازِمَةٌ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ ذِهْنِيٌّ أَوْ خَارِجِيٌّ أَوْ أَعَمُّ مِنْهُمَا وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ ، وَهَلْ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ ، وَانْقِسَامُ اللَّفْظِ إلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَاتٍ مُتَبَايِنَاتٍ ، وَمُتَدَاخِلَاتٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهَا بِحَذَافِيرِهَا مُفَصَّلَاتٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفِيضُ الْجُودِ وَالْخَيْرَاتِ .
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَعْنَى اللُّغَةِ ( اللُّغَاتُ الْأَلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ ) لِلْمَعَانِي ، وَحَذَفَهَا لِشُهْرَةِ أَنَّ وَضْعَهَا إنَّمَا هُوَ لِمَعَانِيهَا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ وَاللَّفْظُ صَوْتٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى مَخْرَجِ حَرْفٍ فَصَاعِدًا ، وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ تَعْيِينُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى فَيَعُمُّ مَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِقَرِينَةٍ فَيَتَنَاوَلُ الْحَقَائِقَ وَالْمَجَازَاتِ وَالْمَعْنَى مَا يُقْصَدُ بِاللَّفْظِ ثُمَّ الْأَلْفَاظُ شَامِلَةٌ لِلْمُسْتَعْمَلَاتِ وَالْمُهْمَلَاتِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ ، وَالْمَوْضُوعَةُ مُخْرِجَةٌ لِلْمُهْمَلَاتِ ، وَإِنَّمَا
عَبَّرَ بِالْجَمْعِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَفْسِيرًا لِلْجَمْعِ ( ثُمَّ تُضَافُ كُلُّ لُغَةٍ إلَى أَهْلِهَا ) أَوْ يَجْرِي عَلَيْهَا صِفَةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِمْ فَيُقَالُ لُغَةُ الْعَرَبِ ، وَلُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ تَمْيِيزًا لَهَا عَمَّا سِوَاهَا .
الْمَقَامُ الثَّانِي فِي بَيَانِ سَبَبِ وَضْعِ لُغَاتِ الْأَنَاسِيِّ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِمَصَالِحِهِ فِي مَعَاشِهِ مِنْ مَأْكُولٍ ، وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ ، وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْحَاجِيَّةِ ، وَفِي مَعَادِهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ التَّشْرِيفِيَّةِ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ الْمُوجَبَةِ لِخَيْرَيْ الدَّارَيْنِ مُفْتَقِرًا إلَى مُعَاضَدَةِ غَيْرِهِ مِنْ بَنِي نَوْعِهِ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمُعَاضَدَةُ لَا تَتَأَتَّى لَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ مَا فِي الضَّمِيرِ ، وَالْوَاقِعُ إمَّا بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَحَرَكَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ أَوْ بِالْمِثَالِ ، وَهُوَ الْجِرْمُ الْمَوْضُوعُ عَلَى شَكْلِ الشَّيْءِ لِيَكُونَ عَلَامَةً عَلَيْهِ وَكَانَ فِي الْمِثَالِ عُسْرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ عَدَمِ عُمُومِهِ إذْ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَأَتَّى لَهُ مِثَالٌ ، وَقَدْ يَبْقَى الْمِثَالُ أَيْضًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَاجَةِ فَيَقِفُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُرِيدُ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَيْضًا وَكَيْفَ ، وَهِيَ لَا تَقَعُ إلَّا فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَاهَا وَالْكِتَابَةُ فِيهَا مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ، وَكَانَتْ الْأَلْفَاظُ أَيْسَرَ عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّهَا كَيْفِيَّاتٌ تَحْدُثُ مِنْ إخْرَاجِ النَّفْسِ الضَّرُورِيِّ الْحُصُولِ لِلْإِنْسَانِ الْمُمْتَدِّ لِلطَّبِيعَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا تَكَلُّفٍ مَعَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ تُوجَدُ مَعَ وُجُودِهَا وَتَنْقَضِي مَعَ انْقِضَائِهَا ، وَأَعَمَّ فَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلتَّعْبِيرِ بِهَا عَنْ كُلِّ مُرَادٍ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ مَعْدُومٍ أَوْ مَوْجُودٍ مَعْقُولٍ أَوْ مَحْسُوسٍ قَدِيمٍ أَوْ حَادِثٍ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمِنْ لُطْفِهِ الظَّاهِرِ تَعَالَى ، وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ ) أَيْ ، وَمِنْ إفَاضَةِ الْإِحْسَانِ بِرِفْقٍ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَ أُولِي الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ ، وَآثَارُ صِفَتِهِ
الْأَزَلِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْمَقْدُورَاتِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا الْغَالِبَةِ لِعُقُولِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ لِشُمُولِهَا كُلَّ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ مِنْ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ ( الْإِقْدَارُ عَلَيْهَا ) أَيْ إعْطَاؤُهُ تَعَالَى إيَّاهُمْ الْقُدْرَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السَّهْلَةِ الْحُصُولِ عَلَيْهِمْ مَتَى شَأَوْا ( وَالْهِدَايَةُ لِلدَّلَالَةِ بِهَا ) أَيْ ، وَهِدَايَتُهُمْ ؛ لَأَنْ يُعْلِمُوا غَيْرَهُمْ بِهَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ مَتَى أَرَادُوا ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الْإِقْدَارُ تَرْجِعُ إلَى الْقُدْرَةِ ، وَالْهِدَايَةُ إلَى اللُّطْفِ فَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ ( فَخَفَّتْ الْمُؤْنَةُ ) بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ التَّعْرِيفِ لِيُسْرِهِ وَسُهُولَتِهِ ( وَعَمَّتْ الْفَائِدَةُ ) لِشُمُولِهِ ، وَإِحَاطَتِهِ وَوَضْعُ الضَّمِيرِ مَوْضِعِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ ، وَمِنْ لُطْفِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَزِيَادَةِ وُضُوحِهِ أَوْ لِأَنَّهُ بَلَغَ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ إلَى أَنْ صَارَ مُتَعَقِّلَ الْأَذْهَانِ .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ الْوَاضِعِ ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ .
أَحَدُهَا : وَهُوَ مُخْتَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَنَسَبَهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ وَقَفَ الْعِبَادَ عَلَيْهَا بِوَحْيِهِ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِخَلْقِهِ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ فِي جِسْمٍ ثُمَّ إسْمَاعِهِ إيَّاهَا لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ إسْمَاعَ قَاصِدٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي أَوْ بِخَلْقِهِ تَعَالَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ لَهُمْ بِهَا ، وَمِنْ ثَمَّةَ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَذْهَبِ التَّوْقِيفِيِّ وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ بَعْضُ تَفْصِيلٍ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالْوَاضِعُ لِلْأَجْنَاسِ ) أَسْمَاءً ، وَأَعْلَامًا لِلْأَعْيَانِ وَالْمَعَانِي مُقْتَرِنَةً بِزَمَانٍ وَغَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهِ ( أَوَّلًا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ) هَذَا ( قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ ) ، وَقَالَ لِلْأَجْنَاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ وَاضِعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ السَّمْعِ وَالْأَعْلَامِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضِ الْأَعْلَامِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ سَيُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَى بَعْضِهَا وَضْعَانِ لِلَّهِ أَوَّلًا وَلِلْعِبَادِ ثَانِيًا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا ( وَلَا شَكَّ فِي أَوْضَاعٍ أُخَرَ لِلْخَلْقِ عِلْمِيَّةٍ شَخْصِيَّةٍ ) حَادِثَةٍ بِإِحْدَاثِهِمْ إيَّاهَا ، وَمُوَاضَعَتِهِمْ عَلَيْهَا لَمَّا يَأْلَفُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَكَيْفَ لَا ، وَالْوِجْدَانُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ بَلْ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ : إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا تَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَلَا بِمُوَاضَعَاتِ أَهْلِهَا وَاصْطِلَاحِهِمْ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ فَيُسَمِّي نَفْسَهُ ، وَفَرَسَهُ وَغُلَامَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا غَيْرَ مَحْظُورٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَيَّدَ بِالشَّخْصِيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْقَطْعِ بِهَذَا الْحُكْمِ لِلْعِلْمِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ ( وَغَيْرِهَا ) أَيْ وَغَيْرِ هَذِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ، وَأَعْلَامِهَا (
جَائِزٌ ) أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَضْعَانِ سَابِقٌ لِلْحَقِّ وَلَا حَقٌّ لِلْخَلْقِ بِأَنْ يَضَعَ الْبَارِي تَعَالَى اسْمًا مِنْهَا لِمَعْنًى ثُمَّ يَضَعَهُ الْخَلْقُ لِآخَرِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ قَبِيلِ الْأَضْدَادِ إنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ أَوْ يَضَعُوا لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ اسْمًا آخَرَ أَيْضًا ( فَيَقَعُ التَّرَادُفُ ) بَيْنَ ذَيْنِك الِاسْمَيْنِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا التَّجْوِيزِ فَيَتَحَرَّرُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ ، وَأَعْلَامُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ .
وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا ( لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ) فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِهَا ظَاهِرٌ فِي إلْقَائِهَا عَلَيْهِ مُبِينًا لَهُ مَعَانِيهَا إمَّا بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ بِهَا فِيهِ أَوْ إلْقَاءٍ فِي رَوْعِهِ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى سَابِقَةِ اصْطِلَاحٍ لِيَتَسَلْسَلَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى سَابِقَةِ وَضْعٍ ، وَالْأَصْلُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَضْعُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ ، وَمِمَّنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الزَّمَانِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ثَانِيهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَأَصْحَابُ أَبِي هَاشِمٍ ) الْمُعْتَزِلِيِّ الْمَشْهُورِ يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْبَهْشَمِيَّةِ يَقُولُونَ الْوَاضِعُ ( الْبَشَرُ آدَم وَغَيْرُهُ ) بِأَنْ انْبَعَثَتْ دَاعِيَتُهُمْ إلَى وَضْعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا ثُمَّ عَرَفَ الْبَاقُونَ بِتَعْرِيفِ الْوَاضِعِ أَوْ بِتَكْرَارِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَعَ قَرِينَةِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا أَوْ غَيْرِهَا كَمَا فِي تَعْلِيمِ الْأَطْفَالِ وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمَذْهَبِ الِاصْطِلَاحِيِّ ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ ( لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ) أَيْ بِلُغَةِ قَوْمِهِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ وَبُعِثَ فِيهِمْ ، وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ عَلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ شَائِعٌ مِنْ
تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ الْعَادِي ، وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ ( أَفَادَ ) هَذَا النَّصُّ ( نِسْبَتَهَا ) أَيْ اللُّغَةِ ( إلَيْهِمْ ) سَابِقَةً عَلَى الْإِرْسَالِ إلَيْهِمْ ( وَهِيَ ) أَيْ وَنِسْبَتُهَا إلَيْهِمْ كَذَلِكَ ( بِالْوَضْعِ ) أَيْ يَتَعَيَّنُ ظَاهِرًا أَنْ تَكُونَ بِوَضْعِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا النِّسْبَةُ الْكَامِلَةُ ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَمْلُ عَلَى الْكَامِلِ ( وَهُوَ ) أَيْ ، وَهَذَا الْوَجْهُ ( تَامٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ ) أَيْ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ الْوَاضِعَ الْبَشَرُ ( وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ ) أَيْ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا النَّصِّ ( دَوْرًا ) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الدُّورُ الْمَمْنُوعُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاضِعُ اللَّهَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ، وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ ( كَذَا دَلَّ ) هَذَا النَّصُّ ( عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ الْإِرْسَالَ ) إلَى النَّاسِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إفَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا لِلْقَوْمِ لِسَانٌ أَيْ لُغَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ لَهُمْ فَيُبْعَثُ الرَّسُولُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ إلَيْهِمْ ( وَلَوْ كَانَ ) أَيْ حُصُولُ اللُّغَاتِ لَهُمْ ( بِالتَّوْقِيفِ ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ( وَلَا يُتَصَوَّرُ ) التَّوْقِيفُ ( إلَّا بِالْإِرْسَالِ ) لِلرُّسُلِ إلَيْهِمْ ( سَبَقَ الْإِرْسَالُ لِلُّغَاتِ فَيَدُورُ ) لِتَقَدُّمِ كُلٍّ مِنْ الْإِرْسَالِ وَاللُّغَاتِ عَلَى الْآخَرِ وَحَيْثُ كَانَ الدَّوْرُ بَاطِلًا كَانَ مَلْزُومُهُ ، وَهُوَ كَوْنُ الْوَاضِعِ هُوَ اللَّهَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَلْزُومَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ ( فَغَلَطٌ لِظُهُورِ أَنَّ كَوْنَ التَّوْقِيفِ لَيْسَ إلَّا بِالْإِرْسَالِ إنَّمَا يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى التَّوْقِيفِ لَا ) أَنَّهُ يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ ( اللُّغَاتِ بَلْ ) هَذَا النَّصُّ ( يُفِيدُ سَبْقَهَا ) أَيْ اللُّغَاتِ عَلَى الْإِرْسَالِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِهَا عَلَيْهِ سَبْقُ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِجَوَازِ وُجُودِهَا بِدُونِهِ فَلَا دَوْرَ .
وَحِينَئِذٍ ( فَالْجَوَابُ ) مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لِلِاصْطِلَاحِيَّةِ ( بِأَنَّ
آدَمَ عُلِّمَهَا ) بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَبُنِيَ لَهُ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ ، وَهُوَ اللَّهُ أَيْ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ( وَعَلَّمَهَا ) آدَم غَيْرَهُ ( فَلَا دَوْرَ ) إذَا تَعْلِيمُهُ بِالْوَحْيِ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوَحْيِ عَلَى اللُّغَاتِ لَا تَقَدُّمَ الْإِرْسَالِ إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ وَحْيٌ بِاللُّغَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا إرْسَالَ لَهُ إلَى قَوْمٍ لِعَدَمِهِمْ وَبَعْدَ أَنْ وُجِدُوا وَتَعْلَمُوا اللُّغَاتِ مِنْهُ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ( وَبِمَنْعِ حَصْرِ ) طَرِيقِ ( التَّوْقِيفِ عَلَى الْإِرْسَالِ ) أَيْ وَالْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا أَيْضًا ( لِجَوَازِهِ ) أَيْ التَّوْقِيفِ مِنْ اللَّهِ ( بِالْإِلْهَامِ ) بِأَنْ أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي رَوْعِ الْعَاقِلِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُ أَنَّ وَاضِعًا مَا وَضَعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِإِزَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِي ( ثُمَّ دَفْعَهُ ) أَيْ هَذَا الْجَوَابُ ( بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ ) أَيْ بِأَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَادُ فِي التَّعْلِيمِ التَّفْهِيمُ بِالْخِطَابِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ بِعَدَمِهِ فَلَا أَقِلَّ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ مُخَالَفَةً قَوِيَّةً فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِمُجَرَّدِهِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ ( ضَائِعٌ ) خَبَرُ قَوْلِهِ فَالْجَوَابُ ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَوَجْهُ ضَيَاعِهِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَا بُنِيَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الدَّوْرِ لَمْ يَتِمَّ ( بَلْ الْجَوَابُ ) مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ لِلِاصْطِلَاحِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ التَّامِّ بِمَطْلُوبِهِمْ ( أَنَّهَا ) أَيْ الْإِضَافَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ( لِلِاخْتِصَاصِ ) أَيْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ اللُّغَاتِ ( وَلَا يَسْتَلْزِمُ ) اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا ( وَضَعَهُمْ ) أَيْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْوَاضِعِينَ لَهَا ( بَلْ يَثْبُتُ مَعَ تَعْلِيمِ آدَمَ بَنِيهِ إيَّاهَا وَتَوَارُثِ
الْأَقْوَامِ فَاخْتَصَّ كُلٌّ بِلُغَةٍ ) أَيْ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَصِّينَ بِهَا بِعَدَمِ وَضْعِهِ تَعَالَى إيَّاهَا وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَضَعَهَا ، وَعَلَّمَهَا لِآدَمَ ثُمَّ آدَم عَلَّمَهَا لِبَنِيهِ ثُمَّ مَا زَالَ الْخَلَفُ مِنْهُمْ يَتَوَارَثُهَا مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنْ تَمَيَّزَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِإِرْثِ لُغَةٍ وَاخْتَصَّ بِهَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ الْإِضَافَةَ وَلَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ طَافِحٌ بِإِضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَمَا الظَّنُّ بِمِثْلِ هَذَا ، وَهَذَا الْجَائِزُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الْجَائِزِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ هَذَا بِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ } ، وَمُخَالَفَةِ ذَاكَ لِهَذَا الظَّاهِرِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضِينَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَيَتَعَيَّنُ ( ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ كَوْنِ عَلَّمَ ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَادِ بِعَلَّم آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ( أَلْهَمَهُ الْوَضْعَ ) بِأَنْ بَعَثَ دَاعِيَتَهُ لَهُ ، وَأَلْقَى فِي رَوْعِهِ كَيْفِيَّتَهُ حَتَّى فَعَلَ وَسَمَّى ذَلِكَ تَعْلِيمًا مَجَازًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } ، وَأَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ ، وَأَرَادَ وَضَعْهَا لِكَوْنِهَا مُتَعَلَّقَةً كَمَا هَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِدَفْعِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْقِيفِيَّةِ ( أَوْ مَا سَبَقَ وَضْعُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ) أَيْ أَوْ أَلْهَمَهُ الْأَسْمَاءَ السَّابِقَ وَضْعُهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ آدَمَ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ جَانًّا قَبْلَ آدَمَ ، وَأَسْكَنَهُمْ الْأَرْضَ ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ لُغَةً كَمَا هَذَا تَأْوِيلٌ آخَرُ مِنْ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِدَفْعِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْقِيفِيَّةِ ( فَخَالَفَ الظَّاهِرُ ) مِنْ الْآيَةِ مُخَالَفَةً قَوِيَّةً وَنَحْنُ نَدَّعِي الظُّهُورَ ، وَالِاحْتِمَالَاتُ الْبَعِيدَةُ لَا تَدْفَعُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ تَعْرِيفُ اللَّهِ إيَّاهُ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا وَتَفْهِيمُهُ بِالْخِطَابِ لَا بِالْإِلْهَامِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وَضْعٍ سَابِقٍ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ الْمُشَارَ إلَيْهِمْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُودُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ كَانَتْ لَهُمْ وَلَا يُصَارُ إلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَالْإِجْمَاعِ فِي ، وَعَلَّمْنَاهُ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا ثُمَّ لَمَّا لَزِمَ مِنْ هَذَا ظَنُّ كَوْنِ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةً وَاشْتُهِرَ أَنْ لَا ظَنَّ فِي الْأُصُولِ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِهِ .
فَقَالَ ( وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ ، وَالْمَبَادِئُ فِيهَا تَغْلِيبٌ ) أَيْ ، وَإِطْلَاقُ الْمَبَادِئِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ تَغْلِيبٌ لِمَا هُوَ مِنْهَا لِكَثْرَتِهِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْهَا لِقِلَّتِهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ التَّغْلِيبِ ، وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ الطُّوفِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ الْفَنِّ لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ ا هـ .
عَلَى أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَلْفَاظِ قَدْ يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ بَلْ قَدْ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ فِي الْأُصُولِ كَمَا فِي كَيْفِيَّةِ إعَادَةِ الْمَعْدُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْقَطْعُ فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فِي دَرْسِهِ مِنْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِلْمِيَّةٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِ ظَاهِرِيَّةِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إذْ الظُّنُونُ لَا تُفِيدُ إلَّا فِي الْعَمَلِيَّاتِ .
وَقَوْلُهُ ( كَاَلَّتِي تَلِيهَا ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْأُمُورَ السَّابِقَةِ عَلَى هَذِهِ مِنْ تَعْرِيفِ اللُّغَةِ وَبَيَانِ سَبَبِ وَضْعِهَا مِنْ
الْمُقَدِّمَاتِ لِهَذَا الْعِلْمِ ، وَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا فَفَاعِلُ تَلِيهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَفْعُولُهُ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْصُوفِ الْمُقَدَّرِ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ كَالْأُمُورِ الَّتِي تَلِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ كَمَا أَنَّ الْأُمُورَ الْآتِيَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ بَيَانِ هَلْ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُعْتَبَرَةٌ ؟ .
وَبَيَانُ الْمَوْضُوعِ لَهُ ، وَطُرُقُ مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ لِهَذَا الْعِلْمِ ، وَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا فَفَاعِلُ تَلِيهَا ضَمِيرُهُ مُسْتَتِرٌ يَرْجِعُ إلَى الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمُقَدَّرُ ، وَمَفْعُولُهُ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْ كَالْأُمُورِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السَّوَابِقَ ، وَهَذِهِ اللَّوَاحِقُ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ نَوْعَ بَصِيرَةٍ فِيهِ .
فَإِذَنْ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْجِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ صَدْرَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ الْمَبَادِئَ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ ( وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِعَرَضِهِمْ ) أَيْ ، وَمَا قِيلَ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ دَفْعًا لِاحْتِجَاجِ التَّوْقِيفِيَّةِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصَّهَا بِأَنْ عَلَّمَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخَيْلِ كَذَا ، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَقَر كَذَا ، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْحَرْثِ ، وَهَلُمَّ جَرًّا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ لِلسُّؤَالِ عَنْ أَسْمَاءِ الْمَعْرُوضَاتِ فَلَا
يَكُونُ الْمَعْرُوضُ نَفْسَ الْأَلْفَاظِ عَلَى أَنَّ عَرْضَهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَبِتَلَفُّظٍ بِهَا يَأْبَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ ؛ وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي هُوَ هُمْ لِلْأَسْمَاءِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ ، وَهِيَ إنَّمَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْحَقَائِقُ لِإِمْكَانِهِ حِينَئِذٍ تَغْلِيبًا لِذَوِي الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ ( مُنْدَفِعٌ بِالتَّعْجِيزِ بِ { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ } ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْإِنْبَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَالْإِظْهَارِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ ، وَأَضَافَ فِيهِ الْأَسْمَاءَ إلَى هَؤُلَاءِ ، وَهِيَ الْمُسَمَّيَاتُ .
وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُسَمَّيَاتِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا فَكَذَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ التَّعْلِيمِ ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ الْإِلْزَامُ بِطَلَبِهِ الْأَنْبَاءَ بِالْأَسْمَاءِ ثُمَّ إنْبَائِهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِهَا ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ لَوْ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ عَمَّا عَلَّمَ آدَمَ لَا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ ، وَالضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا إذْ التَّقْدِيرُ : أَمَّا أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسَمًّى ، وَعَوَّضَ عَنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ لِلْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْبَاقِينَ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا إشْكَالَ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ وَبَيْنَ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي هِيَ مَا أُضِيفَتْ الْأَسْمَاءُ إلَيْهِ أَوْ كَانَتْ مُتَعَلَّقَةً بِهَا هَذَا وَلَا يَبْعُدُ عِنْدَ الْعَبْدِ
الضَّعِيفِ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِخْدَامٌ أَعْنِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ فِي { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ } الْأَلْفَاظَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ رَاجِعًا إلَى الْأَسْمَاءِ مُرَادًا بِهَا الْمُسَمَّيَاتِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ ( وَبُعْدِ عَلَّمَ الْمُسَمَّيَاتِ ) أَيْ ، وَمُنْدَفِعٌ أَيْضًا بِبُعْدِ أَنْ يُقَالَ ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْمُسَمَّيَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأَشْخَاصِ وَالذَّوَاتِ إلَّا بِنَوْعٍ مَقْبُولٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ الْقَرِيبُ السَّالِمُ مِنْ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ لِاحْتِمَالٍ خَفِيٍّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ .
ثَالِثُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَنَقَلَهُ فِي الْحَاصِلِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ ، وَفِي الْمَحْصُولِ وَالتَّحْصِيلِ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ ، وَأَتْبَاعُهُ التَّوَقُّفُ وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا عَدَمَ الْقَوْلِ بِمُعَيَّنٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُمْكِنَةِ فِيهَا ، وَقَالُوا فِي وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهَا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ ، وَشَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَوَجَبَ الْوَقْفُ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي ) عَنْ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ ( لِعَدَمِ ) دَلِيلٍ ( الْقَطْعِ ) بِذَلِكَ ( لَا يَنْفِي الظَّنَّ ) بِأَحَدِهَا ، وَهُوَ مَا الدَّلِيلُ يُفِيدُ ظَنَّهُ بَلْ يُجَامِعُ الظَّنَّ بِأَحَدِهَا عَدَمُ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ فَقَطْ ( وَالْمُبَادِرُ ) إلَى الذِّهْنِ وَالْأَحْسَنُ وَلَكِنَّ الْمُبَادِرَ ( مِنْ قَوْلِهِ ) أَيْ الْقَاضِي ( كُلٌّ ) مِنْ
الْمَذَاهِبِ فِيهَا ( مُمْكِنٌ عَدَمُهُ ) أَيْ الظَّنِّ بِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِاحْتِمَالٍ عَلَى آخَرَ ( وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ الظَّنِّ بِأَحَدِهَا ( مَمْنُوعٌ ) لِوُجُودِ مَا يُفِيدُ ظَنَّ أَحَدِهَا رَاجِحًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَعَلَّهُ دَلِيلُ الْأَشْعَرِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ عِبَارَةَ الْبَدِيعِ وَالْقَاضِي كُلٌّ مِنْ هَذِهِ مُمْكِنٌ وَالْوُقُوعُ ظَنِّيٌّ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا لَفْظُهُ ، وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ بِظَنِّ أَحَدِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ يَعْنِي لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ ثُمَّ النَّظَرُ إلَى الْوَاقِعِ يُفِيدُ ظَنَّ وُقُوعِ أَحَدِهَا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْوَقْفِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ فَهُوَ قَائِلٌ بِهِ كَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَنْ الْقَطْعِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِفًا عَنْ الْقَطْعِ بَلْ يَكُونُ قَاطِعًا بِعَدَمِ الْقَطْعِ بِأَحَدِهَا وَلَا يُنَافِيهِ ظَنُّ أَحَدِهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنَّ لَوْ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الْقَطْعَ بِذَلِكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَا فِي الْوَاقِعِ مُوجِبًا لَهُ فِي نَظَرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ لِمَانِعٍ قَامَ عِنْدَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَانِعٍ فِي الْوَاقِعِ فَأَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي فِي هَذِهِ شَيْئًا فَأَطْلَقَ الْوَقْفَ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوْلِهِ عَنْ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ تَبَادُرِ ذَلِكَ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ .
رَابِعُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوَاضِعُ فِي تَعْرِيفِ النَّاسِ اصْطِلَاحَهُ لِيُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ تَوْقِيفِيٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا عَدَاهُ مُمْكِنٌ ثُبُوتُهُ بِكُلٍّ مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ أَوْ هُوَ
ثَابِتٌ بِالِاصْطِلَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ النَّقْلِ عَنْهُ فِي هَذَا كَمَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَيُعْرَفُ هَذَا بِالْمَذْهَبِ التَّوْزِيعِيِّ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ فِي ضِمْنِ رَدِّهِ بِقَوْلِهِ ( وَلَفْظُ كُلَّهَا ) فِي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ( يَنْفِي اقْتِصَارَ الْحُكْمِ عَلَى كَوْنِ مَا وَضَعَهُ سُبْحَانَهُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ ) وَالْأَحْسَنُ يَنْفِي اقْتِصَارَ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ ( إذْ يُوجِبُ ) لَفْظُ كُلَّهَا ( الْعُمُومَ ) لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا مَعَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ تُفِيدُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَنَصُّ فِيهِ ثُمَّ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ خَصَّصَ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ ( فَانْتَفَى ) بِهَذَا ( تَوَقُّفُ الْأُسْتَاذِ فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ بِعَيْنِهِ فِيهِ مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ ( كَمَا نُقِلَ عَنْهُ ) أَيْ الْأُسْتَاذِ لِعَدَمِ مُوجِبِ التَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ النَّاقِلِينَ عَنْهُ هَذَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ اصْطِلَاحِيٌّ ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ بَدَلُ هَذَا فَانْتَفَى قَوْلُهُ بِالِاصْطِلَاحِ فِي غَيْرِهِ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ دَعْوَى لُزُومِ الدَّوْرِ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ التَّوْقِيفِ فِي الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنْ يُقَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ بِالتَّوْقِيفِ لَتَوَقَّفَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالِاصْطِلَاحِ فَيَلْزَمُ تَوَقُّفُهُ عَلَى سَبْقِ
الِاصْطِلَاحِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَهُوَ الدَّوْرُ هَذَا تَقْرِيرُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ ، وَأَمَّا الْعَلَّامَةُ ، وَمَنْ تَبِعَهُ فَبَنَوْا لُزُومَ الدَّوْرِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ تَنَاهِي الِاصْطِلَاحَاتِ أَوْ دَعْوَى التَّسَلْسُلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ بِالتَّوْقِيفِ لَتَوَقَّفَ مَعْرِفَةُ الِاصْطِلَاحِ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِاصْطِلَاحٍ آخَرَ سَابِقٍ ، وَهُوَ عَلَى آخَرَ ، وَهَلُمَّ جَرَّا وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ فَمَلْزُومُهُمَا بَاطِلٌ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا مُصَرِّحًا بِانْتِفَائِهِمَا فَقَالَ ( وَإِلْزَامُ الدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيفُ الْبَعْضِ مُنْتَفٍ ) ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ تَوَقُّفَ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ قَوْلُكُمْ الْمَفْرُوضُ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالِاصْطِلَاحِ مَمْنُوعٌ بَلْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُعْرَفَ بِالِاصْطِلَاحِ بَلْ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ كَالْأَطْفَالِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُ تَوَقُّفِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ ( بَلْ التَّرْدِيدُ مَعَ الْقَرِينَةِ كَافٍ فِي الْكُلِّ ) .
ثُمَّ لَمَّا لَزِمَ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ الْجُنُوحُ إلَى الْمَذْهَبِ التَّوْقِيفِيِّ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا إنَّمَا تُثْبِتُ بَعْضَ الْمُدَّعَى لِاخْتِصَاصِ الْأَسْمَاءِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلِمَةِ الثَّلَاثَةِ أَشَارَ إلَى دَفْعِهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فَقَالَ ( وَتَدْخُلُ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ ) فِي الْأَسْمَاءِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ } ( لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لُغَةً مَا يَكُونُ عَلَامَةً لِلشَّيْءِ وَدَلِيلًا يَرْفَعُهُ إلَى الذِّهْنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، وَمُلَخَّصُهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ ، وَهَذَا شَامِلٌ لِأَنْوَاعِهَا الثَّلَاثَةِ ، وَأَمَّا
تَخْصِيصُهُ بِالنَّوْعِ الْمُقَابِلِ لِلْفِعْلِ وَالْحَرْفِ فَاصْطِلَاحٌ حَدَثَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَ وَضْعِ اللُّغَاتِ فَلَا يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الِاسْمَ لُغَةً يَخْتَصُّ بِالنَّوْعِ الْمَذْكُورِ فَالتَّكَلُّمُ بِالْأَسْمَاءِ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ إذْ هِيَ الْغَرَضُ مِنْ الْوَضْعِ وَالتَّعْلِيمِ يَتَعَذَّرُ بِدُونِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَدَمَ التَّعَذُّرِ فَحَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ الْوَاضِعَ لِلْأَسْمَاءِ هُوَ اللَّهُ فَكَذَا الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ إذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ دُونَ مَا عَدَاهَا ، وَالْقَائِلُ بِالتَّوْزِيعِ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يُقَالَ بِهِ ( تَذْنِيبٌ ) ثُمَّ قِيلَ لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ فَقَالَ الْمَازِرِيُّ هِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّوْقِيفِ جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُقَارِنًا لِكَمَالِ الْعَقْلِ ، وَمَنْ قَالَ بِالِاصْطِلَاحِ أَخَّرَ التَّكْلِيفَ عَنْ الْعَقْلِ مُدَّةَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُحْكَمُ بِاعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ ؟ .
فَقَالَ الْمُصَنِّفُ آتِيًا بِمَا هُوَ مِنْ فَصْلِ الْخَطَّابِ عَلَاقَةٌ وَكِيدَةٌ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ الْكَلَامِ إلَى آخِرَ الْأَمْرِ ( هَذَا ) أَوْ مَضَى هَذَا أَوْ هَذَا كَمَا ذَكَرَ ( أَمَّا اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَةِ ) بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَضْعُ لَفْظٍ لِمَعْنًى إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ ( فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ ) أَيْ بِاعْتِبَارِهَا بَيْنَهُمَا ( فِي وَضْعِهِ تَعَالَى ) أَيْ فِيمَا عُلِمَ أَنَّ وَاضِعَ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ مَعَانِيهَا فَلِقُصُورٍ مِنَّا أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ حِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ( لِلْقَطْعِ بِحِكْمَتِهِ ) وَكَيْفَ لَا ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ بَعْضِ آثَارِ مُقْتَضَيَاتِهَا فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا ( ظَاهِرٌ فِي غَيْرِهِ ) أَيْ مَظْنُونٌ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ مَا عُلِمَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَضَعَ الْبَارِي تَعَالَى إيَّاهَا لِمَعَانِيهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حِكْمَةُ الْوَاضِعِ وَرِعَايَةُ التَّنَاسُبِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا ، فَالظَّاهِرُ وُجُودُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَاحِدُ قَدْ يُنَاسِبُ بِالذَّاتِ الضِّدَّيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ دَخْلٍ مُقَدَّرٍ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ كَالْجَوْنِ لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ ، وَبِمُنَاسَبَتِهِ لِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْآخَرِ .
وَإِيضَاحُ الْجَوَابِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يُنَاسِبَ بِالذَّاتِ مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ كُلًّا مِنْ وَجْهٍ فَيَصْدُقُ أَنَّ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وُضِعَ اللَّفْظُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ مُنَاسَبَةً ذَاتِيَّةً ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَذَا أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ اتِّحَادُ الشَّيْئَيْنِ فِي الْمُضَافِ كَاتِّحَادِ زَيْدٍ
وَعَمْرٍو فِي بُنُوَّةِ بِكْرٍ ، وَاتِّحَادِ مُتَضَادَّيْنِ فِي الْمُضَافِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُسْتَبْعَدٍ ( فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهَا ) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظِ ، وَمَعْنَاهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يَذْكُرُهُ ( بِوَضْعِ ) اللَّفْظِ ( الْوَاحِدِ لَهُمَا ) أَيْ لِلضِّدَّيْنِ كَمَا تَوَارَدُوهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِيهَا ثُمَّ لَمَّا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ تَسَاوِي نِسْبَةِ الْأَلْفَاظِ إلَى مَعَانِيهَا ، وَأَنَّ الْمُخَصِّصَ لِبَعْضِهَا بِبَعْضِ الْمَعَانِي دُونَ بَعْضٍ هُوَ إرَادَةُ الْوَاضِعِ الْمُخْتَارِ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ غَيْرَهُ ، وَقَدْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الثِّقَاتِ أَنَّ أَهْلَ التَّكَسُّرِ وَبَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيُّ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَاسَبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مُوجِبَةٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْوَضْعِ ، يُدْرِكُ ذَلِكَ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي الْقَافَةِ وَيَعْرِفُهُ غَيْرُهُ مِنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُسَمَّيَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَقِيلَ لَهُ مَا مُسَمَّى أَذْغَاغِ ، وَهُوَ مِنْ لُغَةِ الْبَرْبَرِ فَقَالَ أَجِدُ فِيهِ يُبْسًا شَدِيدًا ، وَأَرَاهُ اسْمَ الْحَجَرِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَرَدَّ الْجُمْهُورُ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الذَّاتِيِّ إلَى مَعْنًى آخَرَ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الذَّاتِيُّ أَصْلًا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ثُمَّ ذَكَر السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَهْلَ التَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ عَلَى أَنَّ لِلْحُرُوفِ فِي أَنْفُسِهَا خَوَاصَّ بِهَا تَخْتَلِفُ كَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَغَيْرِهِمَا مُسْتَدْعِيَةً فِي حَقِّ عَالِمِهَا إذَا أَخَذَ فِي تَعْيِينِ شَيْءٍ يُرَكِّبُ مِنْهُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُهْمِلُ التَّنَاسُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْحِكْمَةِ .
وَمِنْ ثَمَّةَ تَرَى الْفَصْمَ بِالْفَاءِ
الَّذِي هُوَ حَرْفٌ رَخْوٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِينَ وَبِالْقَافِ الَّذِي هُوَ حَرْفٌ شَدِيدٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبِينَ ، وَأَنَّ لِهَيْئَاتِ تَرْكِيبَاتِ الْحُرُوفِ أَيْضًا خَوَاصَّ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي الْحُرُوفِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ الْفَعَلَانُ وَالْفَعَلَى بِالتَّحْرِيكِ لِمَا فِي مُسَمَّاهُ كَثْرَةُ حَرَكَةٍ كَالنَّزَوَانِ وَالْحَيَدَى .
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ مِنْ عِدَادِ الْعُلَمَاءِ لَا جَرَمَ أَنْ أَوَّلَ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَ عَبَّادٍ بِهَذَا مُجَوِّزًا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَهُ بِنَوْعٍ مِنْ الرَّمْزِ إلَيْهِ وَوَافَقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَيْهِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ ضَابِطٍ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ لِيَشْمَلَ مَا ذَكَرَ وَغَيْرَهُ لِمَا عَلَى الْحَصْرِ فِيهِ مِنْ التَّعَقُّبِ لِمَا نَذْكُرُ قَرِيبًا .
فَقَالَ : ( وَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا بَيْنَ اللَّفْظِ ، وَمَعْنَاهُ كَمَا فَصَّلْنَاهُ ( مُرَادُ الْقَائِلِ بِلُزُومِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الدَّلَالَةِ ) أَيْ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ إرَادَتَهُ بَلْ وُجِدَ مَا يُعَيِّنُهَا ، وَهُوَ حَمْلُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ( وَإِلَّا فَهُوَ ضَرُورِيُّ الْبُطْلَانِ ) أَيْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُرَادَ عَبَّادٍ مِنْ قَوْلِهِ فَقَوْلُهُ ضَرُورِيُّ الْبُطْلَانِ عِنْدَ أُولِي الْعِلْمِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُجَجِ وَالْبُرْهَانِ ثُمَّ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ هُنَا لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ صَرْفَ قَوْلِ عَبَّادٍ ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَمَا عَلَيْهِ التَّصْرِيفِيُّونَ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ عَبَّادٌ ، وَمَنْ وَافَقَهُ قَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْوَضْعِ كَمَا ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ أَمَّا إذَا كَانُوا مُصَرِّحِينَ بِأَنَّهُ يُفِيدُ
الْمَعْنَى بِذَاتِهِ لِمُنَاسَبَةٍ ذَاتِيَّةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى وَضْعٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ عَنْ عَبَّادٍ ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ عَنْهُ فَلَا يَتِمُّ وَهُوَ ظَاهِرُ ثَانِيهِمَا أَنَّهُ يَطْرُقُ مَا عَلَيْهِ التَّصْرِيفِيُّونَ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بِحَسَبِ خَوَاصِّ الْحُرُوفِ وَالتَّرْكِيبَاتِ يَتَأَتَّى فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ كَلِمَاتِ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَمَا الظَّنُّ بِاعْتِبَارِهِ فِي جَمِيعِ كَلِمَاتِ اللُّغَاتِ .
الْمَقَامُ الْخَامِسُ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لَهُ اللَّفْظُ هَلْ هُوَ الذِّهْنِيُّ أَوْ الْخَارِجِيُّ أَوْ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ ( وَالْمَوْضُوعُ لَهُ ) اللَّفْظُ ( قِيلَ الذِّهْنِيُّ دَائِمًا ) كَأَنَّهُ يَعْنِي سَوَاءً كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الذِّهْنِ بِالْإِدْرَاكِ ، وَفِي الْخَارِجِ بِالتَّحَقُّقِ كَالْإِنْسَانِ أَوْ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَبَحْرِ زِئْبَقٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَوَجْهُ أَمَّا فِي الْمُفْرَدِ فَلِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ لِاخْتِلَافِ الذِّهْنِيِّ دُونَ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا جِسْمًا مِنْ بَعِيدٍ وَظَنَنَّاهُ حَجَرًا سَمَّيْنَاهُ بِهِ فَإِذَا دَنَوْنَا مِنْهُ ، وَعَرَفْنَا أَنَّهُ حَيَوَانٌ لَكِنْ ظَنَنَّاهُ طَائِرًا سَمَّيْنَاهُ بِهِ فَإِذَا ازْدَادَ الْقُرْبُ ، وَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنْسَانٌ سَمَّيْنَاهُ بِهِ ، وَهَذَا آيَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ لَلذِّهْنِيِّ ، وَأَمَّا فِي الْمُرَكَّبِ فَلِأَنَّ قَامَ زَيْدٌ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى حُكْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ، وَهُوَ أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ إنْ طَابَقَ كَانَ صِدْقًا ، وَإِلَّا كَانَ كَذِبًا لَا عَلَى قِيَامِ زَيْدٍ فِي الْخَارِجِ ، وَإِلَّا كَانَ صِدْقًا وَامْتَنَعَ كَذِبُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الِاسْمِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى فِي الذِّهْنِ لِظَنِّ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِهِ فِي الذِّهْنِ فَالْمَوْضُوعُ لَهُ مَا فِي الْخَارِجِ ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ تَابِعٌ لِإِدْرَاكِ الذِّهْنِ لَهُ حَسْبَمَا هُوَ كَذَا ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا لَلْخَارِجِيِّ لَامْتَنَعَ الْكَذِبُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَتْ إفَادَتُهُ لَلْخَارِجِيِّ قَطْعِيَّةً ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ لِلْمَطَرِ فَيَخْتَلِفُ الْمَدْلُولُ مَعَ وُجُودِ اللَّفْظِ فَيَكُونُ كَذِبًا ثُمَّ يَلْزَمُ هَذَا الْقَوْلُ أَنْ لَا تَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ
مُطَابَقَةً وَلَا تَضَمُّنًا ، وَأَنْ لَا يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا حَقِيقَةً .
( وَقِيلَ ) الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ اللَّفْظُ هُوَ ( الْخَارِجِيُّ ) ، وَمِمَّنْ عَزَى إلَيْهِ هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِيمَا لِمَعْنَاهُ وُجُودٌ ذِهْنِيٌّ وَخَارِجِيٌّ لَا ذِهْنِيٌّ فَقَطْ ثُمَّ قَدْ تَضَمَّنَ رَدُّ وَجْهِ مَا قَبْلَهُ وَجْهَهُ ( وَقِيلَ ) الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ اللَّفْظُ هُوَ ( الْأَعَمُّ ) مِنْ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ ، وَنَصَّ الْأَصْفَهَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ فِي الْمُفْرَدِ فَالْإِنْسَانُ مَثَلًا مَوْضُوعٌ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الذِّهْنِ أَوْ فِي الْخَارِجِ وَالْوُجُودُ عَيْنًا أَوْ ذِهْنًا خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِهِ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا أَوْ كَثِيرًا زَائِدٌ عَلَيْهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ إطْلَاقِ الْحَجَرِ وَالطَّائِرِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى الْجِسْمِ الْوَاحِدِ الْمَرْئِيِّ مِنْ بَعِيدٍ ثُمَّ قَرِيبٍ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ أَوْ فِي الْخَارِجِ قَالَ ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ الْخَبَرِيُّ فَإِنَّمَا يُفِيدُ حُكْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إيجَابِيَّةٌ أَوْ سَلْبِيَّةٌ وَاقِعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارُ يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ ، وَأَمَّا الْإِنْشَائِيَّةُ فَمَوْضُوعُهُ لِإِنْشَاءِ مَدْلُولِهَا ، وَإِثْبَاتِهِ وَلَيْسَ لَهَا خَارِجٌ حَتَّى يُفِيدُ إظْهَارَهُ ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمُرَكَّبَاتِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرَدَاتِ ( وَنَحْنُ ) نَقُولُ اللَّفْظُ مَوْضُوعٌ ( فِي الْأَشْخَاصِ لَلْخَارِجِيِّ ) أَيْ فِي الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الْمُتَشَخِّصُ فِي الْخَارِجِ كَمَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْهَبَ أَحَدٌ إلَى خِلَافِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوُجُوبُ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِلْوَضْعِ لَا يَنْفِيهِ ) جَوَابٌ عَنْ دَخْلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ الْوَضْعَ لِلشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ
اسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ إرَادَةِ الْوَضْعِ فَحِينَئِذٍ مَا وَضَعَ اللَّفْظَ لَهُ هُوَ الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ لَا الْعَيْنِيَّةُ .
وَتَوْضِيحُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِحْضَارَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بَلْ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْخَارِجِيُّ وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْوَضْعِ لَهُ وَكَيْفَ يُنَافِيهِ ، وَهُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ ( وَنَفَيْنَاهُ ) أَيْ وَنَفْينَا نَحْنُ فِي أَوَائِلِ بَحْثِ الْمُطْلَقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْوَضْعَ ( لِلْمَاهِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ سِوَى عِلْمِ الْجِنْسِ عَلَى رَأْيٍ ) ، وَهُوَ رَأْيُ الْفَارِقِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ فِي الْمَعْنَى بِأَنَّ عِلْمَ الْجِنْسِ كَأُسَامَةَ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ ، وَاسْمَ الْجِنْسِ كَأَسَدٍ مَوْضُوعٌ لِلْفَرْدِ الشَّائِعِ فِي أَفْرَادِهِ وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ ثَمَّةَ إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هَكَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُوهِمٌ بِأَنَّ ثَمَّ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ عِلْمَ الْجِنْسِ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ عِلْمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ كَمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ فِي الْمُطْلَقِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي حَذْفُ عَلَى رَأْيٍ أَوْ زِيَادَةُ اسْمِ الْجِنْسِ قَبْلَهُ ( بَلْ ) نَقُولُ : اللَّفْظُ فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْجِنْسِيَّةِ مَوْضُوعٌ ( لِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِيمَا أَفْرَادُهُ خَارِجِيَّةٌ أَوْ ذِهْنِيَّةٌ ) هَذَا وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ وَاضِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمُسَمَّاهُ مُدْرَكٌ فِي الذِّهْنِ مُحَقَّقٌ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِمُسَمَّاهُ الْخَارِجِيِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } الْآيَةَ .
فَإِنَّ الْعَرْضَ فِي هَذَا إنَّمَا يَكُونُ لِمَا لَهُ وُجُودٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي وَضَعَهَا
اللَّهُ تَعَالَى لَهَا ، وَعَلَّمَهَا آدَمَ هِيَ الْمَعْرُوضَاتِ ، وَمَا الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهُ لِمَعْنًى مُدْرَكٍ فِي الذِّهْنِ غَيْرِ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فِي الذِّهْنِ ، وَمَا كَانَ وَاضِعُهُ غَيْرَهُ تَعَالَى فَمِنْهُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلشَّخْصِ الْخَارِجِيِّ كَالْعَلَمِ الشَّخْصِيِّ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْعَلَمِ الْجِنْسِيِّ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَيْ شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ ، وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
الْمَقَامُ السَّادِسُ فِي بَيَانِ طُرُقِ مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ أَعْنِي مَعْرِفَةَ كَوْنِ اللَّفْظِ الْفُلَانِيِّ مَوْضُوعًا لِلْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا ) تَنْحَصِرُ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا ( التَّوَاتُرُ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ ) لِمَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ ( وَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ) لِمَعَانِيهَا ( مِنْهُ ) أَيْ مِمَّا ثَبَتَ لَهَا بِالتَّوَاتُرِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَا أَكْثَرُ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَالتَّشْكِيكُ فِيهِ ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ دَوَرَانًا عَلَى الْأَلْسُنِ لَفْظُ اللَّهِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ أَسُرْيَانِيٌّ هُوَ أَمْ عَرَبِيٌّ ، وَعَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَمَوْضُوعٌ هُوَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقٍ أَوْ مُشْتَقٌّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ أَلِلذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوْ لِبَعْضِ الْمَعَانِي أَوْ لِلْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ أَوْ الْجُزْئِيِّ ، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ هُوَ مِنْ أَلَهَ أَوْ مِنْ وَلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ، وَبِأَنَّ الرُّوَاةَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ تَتَبُّعِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ ، وَالْغَلَطُ عَلَيْهِمْ جَائِزٌ وَبِأَنَّهُمْ مَعْدُودُونَ كَالْخَلِيلِ وَالْأَصْمَعِيِّ لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ فَلَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِقَوْلِهِمْ ( سَفْسَطَةٌ فِي مَقْطُوعٍ ) بِهِ أَيْ مُكَابَرَةٌ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا بِأَخْبَارِ مَنْ يَمْنَعُ الْعَقْلُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ قَائِلُهُ الْجَوَابَ ؛ لِأَنَّهُ كَإِنْكَارِ الْبَدِيهِيَّاتِ .
( وَالْآحَادُ ) أَيْ وَثَانِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ ( كَالْقُرِّ ) أَيْ كَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ الْقُرَّ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ اسْمٌ لِلْبَرْدِ وَالتَّكَأْكُؤُ اسْمٌ لِلِاجْتِمَاعِ وَالِافْرِنْقَاعُ اسْمٌ لِلِافْتِرَاقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ كَثِيرَ الدَّوْرَانِ فِي الْكَلَامِ ، وَهَذَا لَا يَضُرُّهُ أَيْضًا التَّشْكِيكُ بِشَيْءٍ
مِمَّا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ ( وَاسْتِنْبَاطُ الْعَقْلِ مِنْ النَّقْلِ ) أَيْ وَثَالِثُهَا أَنْ يَسْتَنْبِطَ الْعَقْلُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ نَقْلِيَّتَيْنِ حُكْمًا لُغَوِيًّا ( كَنَقْلِ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى ) بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ لِلْجِنْسِ ( يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ ) الْمُتَّصِلُ لِأَيِّ فَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ تُرَادُ ( وَأَنَّهُ ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ الْمَذْكُورَ ( إخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ ) فَيُعْلَمُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَنْقُولَتَيْنِ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ أَيُّ فَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ تُرَادُ ( فَيَحْكُمُ ) الْعَقْلُ ( بِعُمُومِهِ ) أَيْ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ بِضَمِيمَةِ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا مَتْنًا وَلَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ ذَلِكَ .
وَالْمُلَخَّصُ أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ مِنْ الثَّانِيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ عَامٌّ فَتُضَمُّ هَذِهِ النَّقْلِيَّةُ إلَى الْأُولَى فَيُنْتِجُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ عَامٌّ ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْفَاضِلُ الْعِبْرِيُّ : لَوْ بَدَّلْت الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ وَجَعَلْت الثَّانِيَةَ دَلِيلًا عَلَيْهَا لَكَانَ أَظْهَرَ فِي الْمَطْلُوبِ .
ثُمَّ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ لَمْ يُفْرِدَا هَذَا بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ ، وَأَوْضَحَهُ الْمُحَشَّوْنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْأَوَّلِينَ إذْ لَا يُرَادُ بِالنَّقْلِ مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْوَضْعِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ لِلْعَقْلِ فِيهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ إذْ صِدْقُ الْمُخْبِرِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ ، وَإِنَّهُ عَقْلِيٌّ لَا يُعْرَفُ بِالنَّقْلِ لِاسْتِلْزَامِهِ الدَّوْرَ أَوْ التَّسَلْسُلَ ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْعَقْلِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ بِمُقَدِّمَةٍ مِنْ الْقِيَاسِ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّقْلِ فِيهِ مَدْخَلٌ ، وَهَذَا كَذَلِكَ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا أَفْرَدَهُ كَالْبَيْضَاوِيِّ لِامْتِيَازِهِ عَنْهُمَا
بِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِمَنْطُوقِ الْعِبَارَةِ بَلْ يَثْبُتُ لَازِمًا لَهَا بِخِلَافِهِمَا ثُمَّ حَيْثُ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْدَرِجًا فِيهِمَا فَقَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا ، وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ .
( أَمَّا ) الْعَقْلُ ( الصِّرْفُ ) بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ الْخَالِصُ ( فَبِمَعْزِلٍ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِمَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ وَالْعَقْلُ إذَا لَاحَظَ الْمُمْكِنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهِ تَرَدَّدَ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا بِالْقِيَاسِ إلَى ذَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ لِيَجْزِمَ بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ إلَّا النَّقْلُ عَلَى أُسْلُوبِ مَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ ذَلِكَ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ بِنَقْلِهَا بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ الْمُرَادُ ) مِنْ نَقْلِهَا ( نَقْلَ قَوْلِ الْوَاضِعِ كَذَا لِكَذَا ) أَيْ اللَّفْظُ الْفُلَانِيُّ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ ( بَلْ ) الْمُرَادُ مِنْ نَقْلِهَا ( تَوَارُثُ فَهْمِ كَذَا ) أَيْ الْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ ( مِنْ كَذَا ) أَيْ اللَّفْظِ الْفُلَانِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا وَضْعُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِبُعْدِ تَوَارُثِ ذَلِكَ مَعَ انْتِفَاءِ الْوَضْعِ ( فَإِنْ زَادَ ) الطَّرِيقُ النَّقْلِيُّ الْمُعَرِّفَ لَهَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ بِنَحْوِ اللَّفْظِ الْفُلَانِيِّ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ ( فَذَاكَ ) أَيْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْوُضُوحِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ضَيْرَ .
الْمَقَامُ السَّابِعُ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ هَلْ يَجْرِي فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ طَرِيقًا مُثَبِّتًا لَهَا ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ مُفَسِّرًا لِمَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ ، وَمُبَيِّنًا لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فَقَالَ ( وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيَاسِ أَيْ إذَا سَمَّى مُسَمًّى بِاسْمٍ فِيهِ ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى ( مَعْنَى يُخَالُ اعْتِبَارُهُ فِي التَّسْمِيَةِ ) أَيْ يُظَنُّ كَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا لِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ ( لَلدَّوْرَانِ ) أَيْ لِأَجْلِ دَوْرَانِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ الِاسْمِ مَعَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا فَيَرَى أَنَّهُ مَلْزُومُ التَّسْمِيَةِ ، وَأَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُ فَأَيْنَمَا وُجِدَ تُوجَدُ ( وَيُوجَدُ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ( فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى أَيْضًا ( فَهَلْ يَتَعَدَّى الِاسْمُ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ ( فَيُطْلَقُ ) ذَلِكَ الِاسْمُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ ( حَقِيقَةً كَالْمُسَمَّى نَقْلًا ) أَيْ كَمَا أُطْلِقَ الِاسْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسَمَّى الَّذِي ثَبَتَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ نَقْلًا لَا تَعْدِيَةً أَوْ لَا يَتَعَدَّى الِاسْمُ إلَيْهِ بَلْ يَخُصُّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ إذَا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا ( كَالْخَمْرِ ) فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذْ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهَلْ يُطْلَقُ حَقِيقَةً ( عَلَى النَّبِيذِ ) مِنْ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمَذْكُورِ إلْحَاقًا لَهُ بِهِ فِي الِاسْمِ الْمَذْكُورِ ( لِلْمُخَامَرَةِ ) أَيْ لِلْمَعْنَى الَّذِي هُوَ التَّخْمِيرُ لِلْعَقْلِ ، وَهُوَ تَغْطِيَتُهُ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا الَّذِي دَارَتْ التَّسْمِيَةُ لِلْمُسَمَّى مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِنَّ التَّخْمِيرَ لِلْعَقْلِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا بَلْ يُسَمَّى عَصِيرًا وَخَلًّا ، وَإِذَا وُجِدَ فِيهِ سُمِّيَ بِهَا .
( أَوْ يَخُصُّ ) هَذَا الِاسْمَ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ ( بِمُخَامِرٍ هُوَ مَاءُ الْعِنَبِ )
الْمَذْكُورِ فَلَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى النَّبِيذِ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الذَّاتِ ( وَالسَّارِقِ ) أَيْ ، وَمِثْلُ السَّارِقِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْآخِذِ مَالِ الْحَيِّ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فَهَلْ يُطْلَقُ حَقِيقَةً ( عَلَى النَّبَّاشِ ) ، وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ كَفَنَ الْمَيِّتِ خُفْيَةً مِنْ الْقَبْرِ بَعْدَ دَفْنِهِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخِذِ الْمَذْكُورِ إلْحَاقًا لَهُ بِهِ فِي الِاسْمِ الْمَذْكُورِ ( لِلْأَخْذِ خُفْيَةً ) أَيْ لِهَذَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا الَّذِي دَارَتْ التَّسْمِيَةُ لِلْمُسَمَّى مَعَهُ وُجُودًا ، وَعَدَمًا فَإِنَّ الْآخِذَ لِمَالِ الْحَيِّ مُجَاهَرَةً لَا يُسَمَّى سَارِقًا بَلْ يُسَمَّى مُكَابِرًا أَوْ غَاصِبًا ، وَإِذَا وُجِدَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ يُسَمَّى سَارِقًا أَوْ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَنْ النَّبَّاشِ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الذَّاتِ ( وَالزَّانِي ) أَيْ ، وَمِثْلُ الزَّانِي فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْمُولِجِ آلَتَهُ فِي قُبُلِ آدَمِيَّةٍ حَيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَةٍ فَهَلْ يُطْلَقُ ( عَلَى اللَّائِطِ ) إلْحَاقًا لَهُ بِهِ فِي الِاسْمِ الْمَذْكُورِ لِلْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا الَّذِي دَارَتْ التَّسْمِيَةُ لِلْمُسَمَّى مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا أَوْ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى اللَّائِطِ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الذَّاتِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَنَقَلَ ابْنُ جِنِّي أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ .
ثَانِيهِمَا الْمَنْعُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ ، وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَالْمُخْتَارُ نَفْيُهُ ) أَيْ كَوْنُ الْقِيَاسِ طَرِيقًا مُثَبِّتًا لِلُّغَةِ .
( قَالُوا ) أَيْ الْمُثَبِّتُونَ : الْحُجَّةُ ( الدَّوَرَانُ ) أَيْ دَارَ الِاسْمُ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا كَمَا بَيَّنَّا فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ؛ لِأَنَّ
الدَّوَرَانَ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ .
( قُلْنَا ) فِي جَوَابِهِمْ ( إفَادَتُهُ ) أَيْ الدَّوَرَانُ ذَلِكَ ( مَمْنُوعَةٌ ) فَإِنَّ فِي كَوْنِهِ طَرِيقًا صَحِيحًا لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ خِلَافًا يَأْتِي فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَنْعِهِ فَهَذَا الْمَنْعُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ ، وَمَنْ اقْتَفَاهَا ( وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ ) لِصِحَّتِهِ طَرِيقًا مُثَبِّتًا لِلْمَطْلُوبِ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ غَيْرِهِمْ وَتَنَزُّلًا مِنْهُمْ ( إنْ أَرَدْتُمْ ) بِقَوْلِكُمْ دَارَ الِاسْمُ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا أَوْ عَدَمًا أَنَّهُ دَارَ مَعَهُ ( مُطْلَقًا ) أَيْ فِي كُلِّ مَحَلٍّ بِأَنْ ثَبَتَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّ الِاسْمَ لِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَائِنًا مَا كَانَ ( فَغَيْرُ الْمَفْرُوضِ ) مَحَلًّا لِلنِّزَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ مَحَلًّا لَهُ أَنَّ الِاسْمَ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِمُسَمًّى ثُمَّ رَأَيْنَا فِيهِ مَعْنًى يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَوَجَدْنَا ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مُسَمًّى غَيْرِهِ فَهَلْ يُعَدَّى ذَلِكَ الِاسْمُ إلَى الْغَيْرِ أَيْضًا حُكْمًا عَلَى اللُّغَةِ أَمْ لَا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ ( لِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ) ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ يَكُونُ ثَابِتًا عَنْهُمْ كَوْنُ الِاسْمِ مَوْضُوعًا لِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَكُونُ ( مِنْ أَفْرَادِ الْمُسَمَّى ) بِذَلِكَ الِاسْمِ أَفَادَ الِاسْتِقْرَاءُ لِكَلَامِهِمْ أَوْ النَّقْلُ عَنْهُمْ أَنَّ الِاسْمَ لِمُشْتَرَكٍ مَعْنَوِيٍّ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ مَا فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا فِي تَسْمِيَةِ زَيْدٍ فِي ضَرَبَ زَيْدٌ فَاعِلًا لِكَوْنِ تَتَبُّعِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَفَادَ أَنَّ كُلَّ مَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ أَوْ شَبَهُهُ إلَيْهِ ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ قِيَامِهِ بِهِ يُسَمَّى فَاعِلًا وَتَسْمِيَتُهُ ضَارِبًا لِنَقْلِهِمْ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ اسْمٌ لِذَاتٍ قَامَ بِهَا الْفِعْلُ .
وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ إطْلَاقُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْدِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَضْعٌ وَتَوْقِيفٌ
مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ مَسْكُوتٌ عَنْ تَسْمِيَتِهِ فَيُقَاسُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ دَعْوَى قِيَاسِ بَعْضِ أَفْرَادِ مُسَمًّى فِي حُكْمِ تَنَاوُلِهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ لَا يَسُوغُ سَمَاعُ دَعْوَى قِيَاسِ تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَفْرَادِ مُسَمًّى بِاسْمٍ مَوْضُوعٍ لِلْمَعْنَى الشَّائِعِ فِيهَا عَلَى بَعْضٍ فِي التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ الِاسْمِ بِجَامِعِ أَنْ لَيْسَ أَحَدُهَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ شَرْطِ الْقِيَاسِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقِيسُ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ ثَابِتٌ بِعَيْنِ اللَّفْظِ ( أَوْ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ ) أَيْ أَوْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ دَارَ الِاسْمُ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ كَالْخَمْرِ فِي النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَحَالِّ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْأَمْرِ فِيهِ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ثُمَّ ( مَنَعْنَا كَوْنَهُ ) أَيْ الدَّوَرَانِ فِي الْأَصْلِ ( طَرِيقًا ) مُثَبِّتًا لِتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمٍ لِمُسَمًّى فِيهِ مَعْنًى يُنَاسِبُ تَسْمِيَتَهُ بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ( هُنَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لِلْمَجْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتِلْكَ الذَّاتِ فَيَكُونُ الْخَمْرُ مَوْضُوعًا لِمَجْمُوعِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمُخَامِرِ لِلْعَقْلِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ جُزْءَ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْهُ ، وَمِنْ عَيْنِ الْمَحَلِّ لَا عِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُ الْمَعْنَى فَقَطْ وُجُودَ الِاسْمِ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُثَبِّتِينَ الْقِيَاسَ ثَبَتَ شَرْعًا فَيَثْبُتُ لُغَةً ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلثُّبُوتِ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي مَعْنًى يُظَنُّ اعْتِبَارُهُ بِالدَّوَرَانِ أَشَارَ إلَيْهِ وَإِلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ ( وَكَوْنُهُ ) أَيْ الْقِيَاسِ ( كَذَلِكَ )
أَيْ طَرِيقًا صَحِيحًا ( فِي الشَّرْعِيَّاتِ ) الْعَمَلِيَّاتِ ( لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ) أَيْ لِتَعْدِيَتِهِ فِيهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ ( لَا يَسْتَلْزِمُهُ ) أَيْ كَوْنُهُ طَرِيقًا صَحِيحًا ( فِي الِاسْمِ ) أَيْ فِي تَعْدِيَةِ الِاسْمِ لِمُسَمًّى لُغَةً إلَى آخَرَ لَمْ تُعْلَمْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ لُغَةً أَيْضًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ قِيَاسَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْعَمَلِيَّاتِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْهَا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي الْمَعْنَى الْمُصَحِّحِ لِتَعْدِيَتِهِ إلَيْهِ كَمَا يُعْرَفُ فِي مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمْرٌ ( سَمْعِيٌّ تُعُبِّدَ بِهِ ) أَيْ تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِهِ فِي ذَلِكَ بِشُرُوطٍ ( لَا ) أَنَّهُ أَمْرٌ ( عَقْلِيٌّ ) يَسْتَوِي فِيهِ الْمُمْكِنَاتُ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَاللُّغَوِيَّاتِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا إلَّا فِي الشَّرْعِيَّاتِ الْعَمَلِيَّاتِ خَاصَّةً ، وَأَيْضًا إنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ إذْ خِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ غَيْرُ قَادِحٍ وَلَا إجْمَاعَ هُنَا ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاحِدًا .
( ثُمَّ ) إنْ قِيلَ مُجَرَّدُ تَجْوِيزِ كَوْنِ الِاسْمِ مَوْضُوعًا لِلْمَجْمُوعِ مِنْ الْوَصْفِ وَالذَّاتِ لَا يَقْتَضِي تَرَجُّحَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ حَتَّى يَمْنَعَ صِحَّةَ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بِمُفْرَدِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ إطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى مَا فِيهِ ذَلِكَ فَيُقَالُ ( تَجْوِيزُ كَوْنِ خُصُوصِيَّةِ الْمُسَمَّى مُعْتَبَرَةً ) فِي تَسْمِيَةِ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ ( ثَابِتٌ بَلْ ظَاهِرٌ ) أَيْ مَظْنُونٌ ( بِثُبُوتِ مَنْعِهِمْ طَرْدَ الْأَدْهَمِ وَالْأَبْلَقِ وَالْقَارُورَةِ وَالْأَجْدَلِ وَالْأَخْيَلِ ، وَمَا لَا يُحْصَى ) مِنْ أَسْمَاءِ مُسَمَّيَاتٍ فِيهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ تَسْمِيَتِهَا بِهَا فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى إنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ الْأَدْهَمَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْفَرَسِ الْأَسْوَدِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَسْوَدُ ، وَلَا الْأَبْلَقَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْفَرَسِ
الْمُخَطَّطِ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُخَطَّطٌ بِهِمَا ، وَلَا الْقَارُورَةَ الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِمَقَرِّ الْمَائِعَاتِ مِنْ الزُّجَاجِ عَلَى مَا هُوَ مَقَرٌّ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا الْأَجْدَلَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلصَّقْرِ لِقُوَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَهُ هَذَا الْوَصْفُ ، وَلَا الْأَخْيَلَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِطَائِرٍ بِهِ خَيَلَانِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا بِهِ ذَلِكَ ، وَلَا السِّمَاكَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِكُلٍّ مِنْ كَوْكَبَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ مُرْتَفِعَيْنِ عَلَى مَا لَهُ السُّمُوكُ مِنْ غَيْرِهِمَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْبَشَرِ إحْصَاؤُهُ فَإِنَّ هَذَا الْمَنْعَ مِمَّا يُفِيدُ ظَاهِرًا أَنَّ ذَوَاتَ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي بِهَا هَذِهِ الْمَعَانِي جُزْءٌ مِنْ عِلَّةِ تَسْمِيَتِهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِمْ وَجْهٌ فِي الظَّاهِرِ ( فَظَهَرَ ) مِنْ هَذَا ( أَنَّ الْمَنَاطَ ) لِتَسْمِيَةِ الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ الْمُخَيَّلِ كَوْنُهُ لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى ( فِي مِثْلِهِ ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ هُوَ ( الْمَجْمُوعُ ) مِنْ الذَّاتِ وَالْوَصْفِ الْمَخْصُوصَيْنِ ( فَإِثْبَاتُهُ ) أَيْ اللُّغَةِ حِينَئِذٍ ( بِهِ ) أَيْ بِالْقِيَاسِ إثْبَاتٌ ( بِالِاحْتِمَالِ ) الْمَرْجُوحِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِمُحْتَمَلٍ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ الْمِيمِيِّ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ إثْبَاتَ اللُّغَةِ بِالِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ غَيْرُ جَائِزِ اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّهُ حَكَمٌ بِالْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ يَقَعُ الْقِيَاسُ ضَائِعًا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ مَنَعْنَا كَوْنَهُ طَرِيقًا هُنَا ؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ إيرَادٍ مُقَدَّرٍ عَلَى سَنَدٍ مُقَدَّرٍ لِهَذَا الْمَنْعِ كَمَا رَأَيْت فَتَأَمَّلْهُ .
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي نَفْسِ الْأَلْفَاظِ وَإِطْلَاقِهَا عَلَى مُسَمَّيَاتٍ أُخَرَ لَا فِي أَحْكَامِهَا فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ بِلَا خِلَافٍ ، وَقِيلَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ فِي الْأَلْفَاظِ وَأَحْكَامِهَا وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، ثُمَّ
ثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْحُدُودِ فِي الْجِنَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَالْقَائِلُ بِالْقِيَاسِ يُجَوِّزُ التَّسْمِيَةَ وَيُثْبِتُ حَدَّ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا فِي شَارِبِ النَّبِيذِ وَالنَّبَّاشِ وَاللَّائِطِ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهَا وَتَنَاوُلِهَا لِمَا يُلْحَقُ بِهَا ، وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ لَا يُجَوِّزُ التَّسْمِيَةَ وَلَا يُثْبِتُ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا لِعَدَمِ تَنَاوُلِ النُّصُوصِ إيَّاهَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ .
وَعِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي نَظَرٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ النَّافِينَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا مُصَرِّحُونَ بِثُبُوتِ الْحُدُودِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَوَجَّهُوهُ بِمَا لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَقَامُ الثَّامِنُ فِي أَقْسَامِ اللَّفْظِ ، وَهِيَ ضَرْبَانِ مَا تُخْرِجُهُ الْقِسْمَةُ الْأُولَى لَهُ ، وَمَا تُخْرِجُهُ غَيْرُهَا ، وَلَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ أَوْلَى أَشَارَ إلَيْهِ مُبَيِّنًا لِلْحَيْثِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فَقَالَ ( وَاللَّفْظُ إنْ وُضِعَ لِغَيْرِهِ ) أَيْ لِغَيْرِ نَفْسِهِ بِأَنْ وُضِعَ لِمَعْنًى ( فَمُسْتَعْمَلٌ ، وَإِنْ ) فُرِضَ أَنَّهُ ( لَمْ يُسْتَعْمَلْ ) قَطُّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ فِي مَعْنَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا ( وَإِلَّا ) أَيْ ، وَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِ بَلْ وُضِعَ لِنَفْسِهِ ( فَمُهْمَلٌ ، وَإِنْ ) فُرِضَ أَنَّهُ ( اُسْتُعْمِلَ ) اسْتِعْمَالًا مَا ( كَدَيْزٌ ثَلَاثَةٌ ) بِرَفْعِ كِلَيْهِمَا عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ فَإِنَّ دَيْزًا لَفْظٌ مُهْمَلٌ لِعَدَمِ وَضْعِهِ لِمَعْنًى ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ ( وَبِالْمُهْمَلِ ) أَيْ وَبِاسْتِعْمَالِ الْمُهْمَلِ فِي نَفْسِهِ ( ظَهَرَ وَضْعُ كُلِّ لَفْظٍ لِنَفْسِهِ ) وَضْعًا عِلْمِيًّا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ( كَوَضْعِهَا لِغَيْرِهِ ) أَيْ كَمَا ظَهَرَ وَضْعُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لِغَيْرِ نَفْسِهِ مَعَ ذَلِكَ بِالِاسْتِعْمَالِ الْفَاشِي لَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِهِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ إلَى بَعْضِهَا الْمَفْهُومِ مِمَّا تَقَدَّمَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى اكْتِسَابِهِ التَّأْنِيثَ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ مَجَازًا ، وَفِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِنَفْسِهِ كَمَا وُضِعَ بَعْضُهَا لِغَيْرِهِ ( لِأَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ وَضْعًا لِلْمُغَايِرِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَجَازُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وَضْعًا لِلشَّيْءِ الْمُغَايِرِ لَهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوَضْعِ لِغَيْرِ الْمُتَجَوَّزِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْوَضْعُ لِلْمُغَايِرِ ( مُنْتَفٍ فِي
الْمُهْمَلِ ) إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِ نَفْسِهِ ( وَلِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ ) بَيْنَ مَا اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً ، وَمَا اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِهِ مَجَازًا فِي الْمُسْتَعْمَلِ ، وَأَمَّا فِي الْمُهْمَلِ فَبِطَرِيقِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِ أَصْلًا فَالْأَوَّلُ خَاصٌّ بِالْمُهْمَلِ وَالثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا تَحَقُّقَ لِلْمَجَازِ بِدُونِ تَحَقُّقِ عَلَاقَةٍ صَحِيحَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصَارَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ مَجَازًا ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْضُوعًا لِغَيْرِهِ أَوْ لَا لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً ا هـ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - : وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ مَجَازًا لِوُجُودِ سَابِقَةِ الْوَضْعِ الْمُغَايِرِ ، وَالْعَلَاقَةُ الْمُصَحِّحَةُ لِذَلِكَ ، وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ الصُّورِيُّ بَيْنَهُمَا أَوْ الْمُجَاوَرَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنَاهُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ مُرْتَسِمًا مَعَهُ فِي الْخَيَالِ حَصَلَ بَيْنَهُمَا مُجَاوَرَةٌ صَالِحَةٌ لَأَنْ تُجْعَلَ عَلَاقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْفَهَانِيُّ فَلْيُتَأَمَّلْ .
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِغَيْرِهِ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا لِوَضْعِهِ لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيمَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَثَلًا إذَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ تَبَادَرَ الْمُغَايِرُ عِنْدَ ذِكْرِهِ حَتَّى يُحْكَمَ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَيَجِبُ كَوْنُ الدَّلَالَةِ عَلَى مُغَايِرٍ قَبْلَ الْمُسْنَدِ ) الْمُفِيدِ ذِكْرُهُ لِأَحَدِهِمَا يَنْفِي ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَوَّلًا بِمَنْعِ صَيْرُورَةِ
اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا اصْطِلَاحًا بِمُجَرَّدِ هَذَا .
وَثَانِيًا سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التَّبَادُرِ لَا يَنْفِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ مِنْ عَدَمِ وَضْعِهِ لِنَفْسِهِ بَلْ مِمَّا قَالَ ( لِعَدَمِ الشُّهْرَةِ وَشُهْرَةِ مُقَابِلِهِ ) أَيْ عَدَمِ شُهْرَةِ الْوَضْعِ فِي الْوَضْعِ لِنَفْسِهِ وَشُهْرَةِ الْوَضْعِ فِي مُقَابِلِ الْوَضْعِ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ الْوَضْعُ لِغَيْرِهِ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْوَضْعَ لِنَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَجَازَ أَنْ يَشْتَهِرَ اللَّفْظُ الَّذِي لَهُ وَضْعَانِ فِي أَحَدِ مَفْهُومِيهِ فَيَتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ( وَلَمَّا كَانَ ) وَضْعُ اللَّفْظِ لِنَفْسِهِ ( غَيْرَ قَصْدِيٍّ ) أَيْ غَيْرَ مَقْصُودِ بِالذَّاتِ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ) أَيْ وَضْعَ اللَّفْظِ لِنَفْسِهِ ( لَيْسَ إلَّا تَجْوِيزُ اسْتِعْمَالِهِ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ) بِمَا يُسَوِّغُ الْحُكْمَ بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّ هَذَا الْوَضْعَ فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ الْوَاضِعِ جَوَّزْت أَنْ تَذْكُرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِيُحْكَمَ عَلَى ذَوَاتِهَا بِمَا يَصِحُّ عَلَيْهَا مُهْمَلَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَعْمَلَةً فَوَضْعُهَا لِنَفْسِهَا هُوَ هَذَا التَّجْوِيزُ فَقَطْ بِخِلَافِ وَضْعِهَا لِغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إفَادَةُ الْأَحْكَامِ الْكَائِنَةِ لَهَا فِي مَوَاقِعِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا .
( لَمْ يُوضَعْ ) لِلَّفْظِ كَائِنًا مَا كَانَ ( الْأَلْقَابُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ ) أَيْ الْمَنْسُوبَةُ إلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ ( بِاعْتِبَارِهِ ) أَيْ هَذَا الْوَضْعِ لِانْتِفَاءِ مُقْتَضَيَاتِهَا الِاصْطِلَاحِيَّةِ حِينَئِذٍ ( فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مَوْضُوعٍ لِلْمُغَايِرِ مُشْتَرَكًا ) مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَضْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ( وَلَمْ يُسَمَّ بِاعْتِبَارِهِ ) أَيْ هَذَا الْوَضْعِ ( عَلَمًا وَلَا اسْمَ جِنْسٍ وَلَا دَالًّا بِالْمُطَابَقَةِ ) وَلَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالِالْتِزَامِ لَكِنْ يَطْرُقُ عُمُومَ هَذَا الْمَنْعِ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ إذَا اُسْتُعْمِلَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِمَجَازِيَّتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ
الْأَصْفَهَانِيُّ وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ الْعَلَمَ كَمَا سَتَسْمَعُهُ عَلَى الْأَثَرِ مِنْ هَذَا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّى الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ لِتَحْقِيقِ مَعَانِي الْأَفْعَالِ عَلَى وَجْهٍ أَفَادَ التَّصْرِيحَ بِانْقِسَامِ الْوَضْعِ إلَى لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ أَيْضًا بِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ عَلَى أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ مُسْتَنِدَةً إلَى وَضْعٍ أَصْلًا لِوُجُودِهَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ بِلَا تَفَاوُتٍ وَجَعْلُهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهَا أَسْمَاءً ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةُ الْأَقْدَامِ فِي جَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنْ لَفْظِهَا بَلْ هُوَ جَارٍ فِي الْمُهْمَلَاتِ كَقَوْلِك جَسَقٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفٍ ثَلَاثَةٍ وَدَعْوِي كَوْنِهَا مَوْضُوعَةَ بِإِزَاءِ نَفْسِهَا وَضْعًا قَصْدِيًّا أَوْ غَيْرَ قَصْدِيٍّ مُكَابَرَةٌ فِي قَوَاعِدِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ وَضْعٍ غَيْرَ قَصْدِيٍّ لَا يُسَاعِدُهُ نَقْلٌ وَلَا عَقْلٌ ، وَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّ ضَرَبَ وَمِنْ أَخَوَاتِهِمَا أَسْمَاءٌ لِأَلْفَاظِهَا الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا ، وَأَعْلَامٌ لَهَا فَكَلَامٌ تَقْرِيبِيٌّ قَالُوا ذَلِكَ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ إجْرَاءُ حُكْمٍ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهِ نَفْسُهُ لَمْ يَحْتَجْ هُنَاكَ إلَى وَضْعٍ وَلَا إلَى دَالٍّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِتَلَفُّظِهِ وَحُضُورِهِ بِذَلِكَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَحْضُرهُ فِيهِ فَالْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَشَارِكَةٌ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهَا أَنْفُسِهَا ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَفْظًا أَوْ كَانَ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَيَنْصِبُ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِيَتَوَجَّهَ الْحُكْمُ إلَيْهِ ا هـ .
وَكَانَ كَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ الْمُرَادِ بِوَضْعِهِ لِنَفْسِهِ
كَمَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَأَوْضَحْنَاهُ رَافِعًا لِلْخِلَافِ فِي الْمَعْنَى أَشَارَ أَوَّلًا إلَى التَّعَقُّبِ الْمَذْكُورِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَوْجِيهِهِ ثُمَّ ثَانِيًا إلَى الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ فَقَالَ : ( وَالِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ ) أَيْ وَضْعَ اللَّفْظِ لِنَفْسِهِ ( مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ بَلْ وَلَا وَضْعَ ) لِلَّفْظِ لِنَفْسِهِ ( لِاسْتِدْعَائِهِ ) أَيْ الْوَضْعِ ( التَّعَدُّدَ ) ضَرُورَةَ اسْتِلْزَامِهِ مَوْضُوعًا ، وَمَوْضُوعًا لَهُ وَلَا تَعَدُّدَ عَلَى تَقْدِيرِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِنَفْسِهِ بَلْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مَدْلُولَهُ وَالدَّالَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَدْلُولِ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَضْعَ ( لِلْحَاجَةِ ) إلَى إفَادَةِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِالنَّفْسِ وَغَيْرِهَا ( وَهِيَ ) أَيْ الْحَاجَةُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ ( فِي الْمُغَايِرِ ) أَيْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ ( مَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ ) أَيْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْوَضْعِ اصْطِلَاحًا كَمَا يُعْطِيهِ قُوَّةَ كَلَامٍ الْمُعْتَرِضِ ( وَمَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَضْعِهِ لِنَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ الْإِذْنُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ ذَاتِهِ ( مُخْلَصٌ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ إذْ هَذَا الْمُرَادُ لَا يَنْفِيهِ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا الْمُعْتَرِضُ أَيْضًا كَمَا رَأَيْت .
وَأُجِيبَ عَنْ اسْتِدْعَائِهِ التَّعَدُّدَ بِأَنَّ تَغَايُرَ الِاعْتِبَارِ كَافٍ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ دَالًّا وَمَدْلُولًا ، وَيُجَابُ عَنْ انْحِصَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمُغَايَرَةِ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قُصَارَى الْمُعْتَرِضِ أَنَّهُ يَمْنَعَ تَسْمِيَةَ هَذَا الْمُرَادِ بِالْوَضْعِ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ، وَمِثْلُهُ مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ يَدْفَعُهَا أَنَّهُ لَا مُنَاقَشَةَ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمَةِ الْأُولَى لِلَّفْظِ .
وَلْنَشْرَعْ مِنْ هُنَا فِي بَيَانِ الْأَقْسَامِ اللَّاحِقَةِ لِلَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَقُولُ ( وَالْمُسْتَعْمَلُ ) مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ وَالتَّرْكِيبُ ( مُفْرَدٌ ، وَمُرَكَّبٌ ) لِمَا يُعْلَمُ مِنْ تَعْرِيفِهِمَا ثُمَّ تَعْرِيفِهِمَا لُغَةً هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ ، وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْته رَأَيْت عَلَى اعْتِبَارِهِ تَقْدِيمَ الْمُفْرَدِ أَوْلَى فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ ( فَالْمُفْرَدُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ ) عَلَى مَعْنًى ( لِاسْتِقْلَالِهِ بِوَضْعٍ ) أَيْ لِاسْتِبْدَادِ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنًى ، وَهُوَ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى ( وَلَا جُزْءَ مِنْهُ ) أَيْ مِمَّا لَهُ هَذِهِ الدَّلَالَةُ كَائِنٌ ( لَهُ ) أَيْ لِلْجُزْءِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةً ( مِثْلَهَا ) أَيْ الدَّلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنْ يَدُلَّ بِالِاسْتِقْلَالِ عَلَى مَعْنًى لِوَضْعِ ذَلِكَ الْجُزْءِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى ( وَالْمُرَكَّبُ مَاله ذَلِكَ وَلِجُزْئِهِ ) أَيْ مَا لَهُ دَلَالَةٌ بِالِاسْتِقْلَالِ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ لَهُ وَلِجُزْئِهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ بِالِاسْتِقْلَالِ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ لَهُ ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَةِ الْجُزْءِ عَلَى الْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهَا لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ( وَلَمْ نَشْرُطْ كَوْنَهُ عَلَى جُزْءِ الْمُسَمَّى ) أَيْ وَلَمْ نَشْرُطْ فِي الْمُفْرَدِ بَدَلًا وَلَا جُزْءًا مِنْهُ لَهُ مِثْلُهَا قَوْلُنَا وَلَا جُزْءًا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ الْمُسَمَّى وَلَا فِي الْمُرَكَّبِ بَدَلٌ وَلِجُزْئِهِ مِثْلُهَا قَوْلُنَا وَلِجُزْئِهِ دَلَالَةٌ وَضْعِيَّةٌ عَلَى جُزْءِ الْمُسَمَّى كَمَا شَرْطَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ لِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَيْنِ ( فَدَخَلَ نَحْوُ عَبْدِ اللَّهِ ) حَالَ كَوْنِهِ ( عَلَمًا فِي الْمُرَكَّبِ ) لِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى مَعْنَاهُ الْعِلْمِيِّ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ وَدَلَالَةُ كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهِ اللَّذَيْنِ هُمَا عَبْدُ وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ عَلَى مَعْنًى بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُرَادَةً لَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَكَمَا دَخَلَ فِي الْمُرَكَّبِ الْمُرَكَّبُ
الْإِضَافِيُّ عَلَمًا دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الْمَزْجِيِّ وَالتَّوْصِيفِيِّ وَالْعَدَدِيِّ وَالْإِسْنَادِيِّ أَعْلَامًا وَلَعَلَّهُ إنَّمَا قَالَ نَحْوُ عَبْدِ اللَّهِ إشَارَةً إلَى هَذِهِ ، وَقَالَ عَلَمًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَمًا كَانَ مُرَكَّبًا اتِّفَاقًا .
( وَخَرَجَ ) أَيْ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُرَكَّبِ ( يَضْرِبُ ، وَأَخَوَاتُهُ ) بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْمُفْرَدِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَوْلُهُ وَأَخَوَاتُهُ يَشْمَلُ الْمَبْدُوءَ بِالْهَمْزَةِ وَالنُّونِ وَالْيَاءِ ، وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ الْمَذْكُورُ هُنَا ، وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مُفْرَدٌ ، وَمُقَابِلُهُ كَوْنُ الْكُلِّ مُرَكَّبًا وَنُسِبَ إلَى الْحُكَمَاءِ .
وَالتَّفْصِيلُ قَوْل ابْنِ سِينَا إنَّ الْمَبْدُوءَ بِالْيَاءِ مُفْرَدٌ وَغَيْرُهُ مُرَكَّبٌ وَجْهُ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ يَدُلُّ جُزْؤُهُ ، وَهُوَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ عَلَى مَوْضُوعٍ مُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ ذِي الْيَاءِ وَغَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي ذِي الْيَاءِ ، وَجَوَابُهُ مَا سَنَذْكُرُ مِنْ مَنْعِ دَلَالَةِ الْجُزْءِ أَعْنِي حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ بِانْفِرَادِهِ عَلَى شَيْءٍ بَلْ الْمَجْمُوعُ دَالٌّ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَلَيْسَ لِحَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضْعٌ عَلَى حِدَتِهِ وَلَا وَجْهَ لِلتَّفْصِيلِ ا هـ .
يَعْنِي مُوجِبًا لَهُ ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُضَارِعُ مُطْلَقًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُضَارِعُ مَوْضُوعٌ ( لِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ ) أَوْ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِيهِ ( لِمَوْضُوعٍ خَاصٍّ ) يَعْنِي لِفِعْلِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ إنْ كَانَ بِالْهَمْزَةِ وَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ إنْ كَانَ بِالنُّونِ وَلِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ إنْ كَانَ بِالتَّاءِ وَلِفِعْلِ الْغَائِبِ إنْ كَانَ بِالْيَاءِ وَضْعًا تَضَمُّنِيًّا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا كَلِمَتَيْنِ بِوَضْعَيْنِ فَهِيَ مُفْرَدَاتٌ ( بِخِلَافِ ضَرَبْت ) بِتَثْلِيثِ التَّاءِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى إسْنَادِ الْفِعْلِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ أَوْ الْمُخَاطَبِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ وَدَلَالَةِ جُزْئِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ عَلَى
حَدَثٍ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِ الْإِخْبَارِ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ وَدَلَالَةِ جُزْئِهِ الَّذِي هُوَ التَّاءُ عَلَى مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ مُخَاطَبَةٍ مُسْنَدٍ إلَيْهِ بِوَضْعٍ عَلَى حِدَةٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( لِاسْتِقْلَالِ تَائِهِ بِالْإِسْنَادِ ) ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً فِي اللَّفْظِ ( بِخِلَافِ تَاءِ تَضْرِبُ ) سَوَاءٌ كَانَتْ لِلْمُخَاطَبَةِ أَوْ لِلْغَائِبَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَالَّةٍ عَلَى مُسْنَدٍ إلَيْهِ بِوَضْعٍ عَلَى حِدَةٍ بَلْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَيَكُونُ مُفْرَدًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِجُزْئِهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنًى بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَى جَعْلِهِ مُرَكَّبًا .
( وَقَيَّدَ الْمَنْطِقِيُّونَ ) فِي كِلَا تَعْرِيفَيْ الْمُفْرَدِ وَالْمُرَكَّبِ ( دَلَالَةَ الْجُزْءِ بِجُزْءِ الْمَعْنَى ، وَقَصْدِهَا ) فَالْمُفْرَدُ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ لِلَفْظِهِ جُزْءٌ دَالٌّ عَلَى جُزْءٍ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودُ وَالْمَشْهُورُ صِدْقُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مَا لَا جُزْءَ لِلَفْظِهِ كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَا لِلَفْظِهِ جُزْءٌ لَكِنْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى مَعْنًى أَصْلًا كَزَيْدٍ ، وَمَا لِلَفْظِهِ جُزْءٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى لَكِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءًا الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ اللَّفْظِ حَالَ الْإِطْلَاقِ الْخَاصِّ لَهُ كَعَبْدِ اللَّهِ عَلَمًا فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عَبْدِ ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ ، وَمِنْ الِاسْمِ الشَّرِيفِ ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ لَيْسَ جُزْءَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَهُوَ الذَّاتُ الْمُشَخِّصَةُ ، وَمَا لِلَفْظِهِ جُزْءٌ دَالٌّ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ عَلَمًا عَلَى شَخْصٍ إنْسَانِيٍّ فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ الْمَاهِيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَعَ التَّشَخُّصِ ، وَالْمَاهِيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَجْمُوعٌ مَفْهُومَيْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ فَالْحَيَوَانُ مَثَلًا دَالٌّ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَفْهُومِهِ ،
وَمَفْهُومُهُ جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَهِيَ جُزْءُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الشَّخْصُ الْإِنْسَانِيُّ فَيَكُونُ مَفْهُومُهُ أَيْضًا الشَّخْصُ الْإِنْسَانِيُّ ؛ لِأَنَّ جُزْءَ الْجُزْءِ جُزْءٌ لَكِنَّ دَلَالَةَ الْحَيَوَانِ عَلَى مَفْهُومِهِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً حَالَ الْعَلَمِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّفْظِ عَلَمًا الْمَعْنَى الْعِلْمِيُّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِالذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ ( فَعَبْدُ اللَّهِ مُفْرَدٌ ، وَالْحَيَوَانُ النَّاطِقُ لِإِنْسَانِ ) أَيْ اسْمًا لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مُفْرَدٌ أَيْضًا حَالَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَمًا كَمَا ذَكَرْنَا وَصَرَّحَ بِهِ سَالِفًا فِي عَبْدِ اللَّهِ فَيُعْلَمُ بِهِ تَقْيِيدُهُمَا بِهِ أَيْضًا هُنَا ، وَإِلَّا كَانَا مُرَكَّبَيْنِ عِنْدَ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ مِمَّا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ كَوْنُهُمَا مُرَكَّبَيْنِ ، وَفِيهِمَا أَيْضًا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِينَ .
وَالْمُرَكَّبُ عِنْدَهُمْ مَا دَلَّ جُزْؤُهُ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودِ وَصِدْقُهُ عَلَى مَا عَدَا مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمُفْرَدُ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَإِلْزَامُهُمْ ) أَيْ الْمَنْطِقِيِّينَ ( بِتَرْكِيبِ نَحْوِ مُخْرِجٍ ) وَضَارِبٍ وَسَكْرَانَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبُ ( غَيْرُ لَازِمٍ ) لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا الْإِلْزَامِ إمَّا ظَنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَكُلًّا مِنْ جَوْهَرِهَا ، وَمِنْ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ عَلَى بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ كُلًّا مِنْ الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْهَا ، وَمِنْ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِهَذَا هُوَ الْأَوَّلَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَعَلَى اعْتِبَارِ الْجُزْءِ الْهَيْئَةَ ) أَيْ فَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ هَذَا الْإِلْزَامِ لَهُمْ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارَ الْمُلْزِمِ الْجُزْءَ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى ( لِتَصْرِيحِهِمْ بِالْمَسْمُوعِ بِالِاسْتِقْلَالِ ) أَيْ
لِذِكْرِهِمْ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْأَجْزَاءِ الْأَلْفَاظُ الْمُرَتَّبَةُ فِي السَّمْعِ الْمُسْتَقِلَّةُ بِذَلِكَ أَيْ الَّتِي بِحَيْثُ يُسْمَعُ بَعْضُهَا قَبْلُ وَبَعْضُهَا بَعْدُ ، وَإِنْ نُوقِشُوا فِي هَذِهِ الْإِدَارَةِ مِنْ الْحَدِّ ( وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَرْكِيبِ اللَّفْظِ ) أَيْ فِي تَرْكِيبِ لَفْظٍ مَعَ لَفْظٍ ( ظَاهِرٌ ) ؛ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ مَعَ الْمَادَّةِ لَيْسَتْ بِأَلْفَاظٍ مُرَتَّبَةٍ فِي السَّمْعِ مُسْتَقِلَّةٍ بِذَلِكَ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَادَّةِ بَلْ هُمَا مَسْمُوعَانِ مَعًا ، وَهِيَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ لِلَّفْظِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي لَهُ الثَّانِيَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَعَلَى اعْتِبَارِهِ ) أَيْ ، وَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ هَذَا الْإِلْزَامِ لَهُمْ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمُلْزِمِ الْجُزْءَ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى ( الْمِيمُ ) فِي مُخْرِجٍ ( وَنَحْوِهِ ) أَيْ وَنَحْوِ الْمِيمِ كَالْأَلِفِ فِي ضَارِبٍ ( فَلِمَنْعِ دَلَالَتِهِ ) أَيْ الْجُزْءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ ( بَلْ ) الدَّالُّ عَلَى مَجْمُوعِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ هُوَ ( الْمَجْمُوعُ ) مِنْ الْحُرُوفِ الْأُصُولِ وَالزَّوَائِدِ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ الْجُزْءِ بِإِزَاءِ الْجُزْءِ إلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِتَرْكِيبٍ مُخْرِجٍ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ الْمُوجِبُ لِقَوْلِهِمْ بِتَرْكِيبِ أَضْرِبُ وَنَحْوِهِ مَا فِيهِ مِنْ الزَّوَائِدِ مَعَ بَاقِي الْحُرُوفِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَهُمْ فِي تَرْكِيبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ ؛ لِأَنَّ الْمِيمَ فِي مُخْرِجٍ وَالْأَلِفَ فِي ضَارِبٍ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الزَّائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَيْسَا بِأَقَلَّ مِنْ كُلٍّ مِنْ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ ، وَقَدْ قَالُوا بِتَرْكِيبِ أَمْثِلَةِ الْمُضَارِعِ فَكَذَا هَذِهِ إذْ لَا فَارِقَ مُؤَثِّرَ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ .
كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْلَبُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِإِفْرَادِ
أَمْثِلَةِ الْمُضَارِعِ حَيْثُ قَالُوا إنَّ مُخْرِجًا وَضَارِبًا وَنَحْوَهُمَا مُفْرَدَاتٌ ؛ لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي هَذِهِ مَجْمُوعُهَا وَلَا جُزْءٌ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَكَذَا فِي أَمْثِلَةِ الْمُضَارِعِ الْمَذْكُورَةِ .
( وَجَعَلَ تَضْرِبُ ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ لِلْمُخَاطَبِ أَوْ الْغَائِبَةِ ( مُرَكَّبًا إنْ كَانَ لِلْإِسْنَادِ ) أَيْ إنْ كَانَ هَذَا الْجَعْلُ لِعِلَّةِ إسْنَادِ مَعْنَاهُ ( إلَى تَائِهِ فَخِلَافُ أَهْلِ اللُّغَةِ ) لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا إسْنَادَ إلَى حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ ، وَكَيْفَ لَا وَكَوْنُ الشَّيْءِ مُسْنَدًا إلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسْمَاءِ ، وَحُرُوفُ الْمُضَارَعَةِ حُرُوفِ مَبَانٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ حُرُوفَ مَعَانٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءً ( أَوْ لِلْمُسْتَكِنِ ) أَيْ ، وَإِنْ كَانَ الْجَعْلُ الْمَذْكُورُ لِعِلَّةِ تَرَكُّبِهِ مَعَ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ مِنْ أَنْتَ لِلْمُخَاطَبِ ، وَهِيَ لِلْغَائِبَةِ ( فَمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ فَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْمُضَارَعَ إنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِفِعْلِ الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ لِمَوْضُوعٍ خَاصٍّ مِنْ مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ غَائِبٍ لَا لَهُ مَعَ إسْنَادِهِ إلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِيهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إسْنَادِهِ إلَى شَيْءٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( وَلِذَا لَمْ يُرَكَّبْ أَضْرِبُ وَيَضْرِبُ فِي زَيْدٍ يَضْرِبُ ) وَنَضْرِبُ ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهَا ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌ هُوَ أَنَا ، وَهُوَ وَنَحْنُ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ يَضْرِبُ بِكَوْنِهِ فِي زَيْدٍ يَضْرِبُ لِانْتِفَاءِ كَوْنِ يَضْرِبُ فِي يَضْرِبُ زَيْدٌ مُرَكَّبًا بِطَرِيقِ أَوْلَى لِخُلُوِّهِ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ لِإِسْنَادِهِ إلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ ( وَجَوَابُ مُرَكَّبِهِ ) أَيْ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِلْغَائِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( مِنْهُمْ ) أَيْ الْمَنْطِقِيِّينَ ( مَا ذَكَرْنَا ) فَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى زِيَادَتِهِ .
ثُمَّ إنَّمَا قَالَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ ابْنَ سِينَا مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ بِتَرْكِيبِهِ بَلْ نَصَّ
الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ إلَى أَنْ يَضْرِبَ لِلْغَائِبِ مُرَكَّبٌ ، وَإِنْ اعْتَرَضَ بِهِ بَعْضُهُمْ إلْزَامًا لَكِنْ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الْمُضَارَعِ لِلْغَائِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ سِينَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ وَجَزَمَ بِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لَا بِالْعَكْسِ لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ كَوْنِ يَضْرِبُ ، وَأَخَوَاتُهُ مُرَكَّبَةً عِنْدَهُمْ لِانْتِفَاءِ التَّعْلِيلَيْنِ الْمَذْكُورِينَ أَنْ لَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا مُسَاوِيًا لِلْمُدَّعِي وَلَا عِلَّةَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ عِنْدَهُمْ مُرَكَّبًا لِكَوْنِ حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ فِيهِ أَجْزَاءً مَسْمُوعَةً مُرَتَّبَةً دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَكَوْنُهَا عِنْدَكُمْ مَعْشَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَيْسَتْ أَجْزَاءً ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعًا مُسْتَقِلًّا لِهَذِهِ الْمَعَانِي بَلْ الصِّيَغُ الَّتِي هِيَ فِي أَوَائِلِهَا كُلٌّ مِنْهَا بِمَجْمُوعِهَا وُضِعَ بِإِزَاءِ مَجْمُوعِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ وَضْعٍ لِلْجُزْءِ بِإِزَاءِ الْجُزْءِ عِنْدَكُمْ .
وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْيَاءَ لِلْغَائِبِ ، وَالتَّاءَ لِلْمُخَاطَبِ ، وَالْهَمْزَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَالنُّونَ لَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّسَامُحِ وَالتَّسَاهُلِ عِنْدَكُمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ لَا يَضُرُّنَا فِي إثْبَاتِ أَنَّهَا أَجْزَاءٌ لَهَا دَالَّةٌ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا عَلَى اصْطِلَاحِنَا فَإِنَّا لَا نَشْتَرِطُ فِي تَحَقُّقِ الْجُزْءِ سِوَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا مُرَتَّبًا دَالًّا عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ لِلْوَضْعِ فِيهِ مَدْخَلٌ ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ ، وَدَارَ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا عَلَى أَنَّ الإستراباذي الشَّهِيرَ بِالرَّضِيِّ
ذَهَبَ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ إلَى أَنَّ الْمُضَارَعَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ حُرُوفُ الْمُضَارَعَةِ ، وَمَا بَعْدَهَا صَارَتَا فِي شِدَّةِ الِامْتِزَاجِ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَكَنَ أَوَّلُ أَجْزَائِهِ فَأُعْرِبَ إعْرَابَهَا قُلْت وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا دَفْعُ مَا قِيلَ الزَّوَائِدُ فِي الْمُضَارِعِ ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي التَّرْكِيبَ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى الْبَاقِي مِنْ الْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُجِيبَ بِمَنْعِهِ فَإِنَّ الْمُرَكَّبَ يَكْفِي فِيهِ دَلَالَةُ جُزْءٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْبَاقِي مِنْ اللَّفْظِ عَلَى الْبَاقِي مِنْ الْمَعْنَى فَمِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ حَدُّ الْمُرَكَّبِ .
قُلْت : وَبِهَذَا أَيْضًا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ تَعْرِيفُ الْمُفْرَدِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إنْ قَامَ زَيْدٌ مُفْرَدًا ؛ لِأَنَّ جُزْأَهُ ، وَهُوَ الْقَافُ مِنْ قَامَ وَكَذَا الزَّايُ مِنْ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْجُزْءِ الْقَرِيبِ فَتَنَبَّهْ لَهُ ، ثُمَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ بِاصْطِلَاحِ غَيْرِ أَهْلِهِ نَعَمْ يَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلُ بِتَرْكِيبِ مُخْرِجٍ وَضَارِبٍ وَنَحْوِهِمَا مَا لَمْ يَبْدُوَا مَانِعٌ مِنْهُ وَالشَّأْنُ فِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ بَعْدَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( وَيَنْقَسِمُ كُلٌّ مِنْ الْمُفْرَدِ وَالْمُرَكَّبِ ) إلَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَبْدَأَ بِبَيَانِ أَقْسَامِ الْمُرَكَّبِ لِقِلَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَقْسَامِ الْمُفْرَدِ ( فَالْمُرَكَّبُ إنْ أَفَادَ نِسْبَةً تَامَّةً ) ، وَهِيَ تَعَلُّقٌ لِأَحَدِ جُزْأَيْهِ بِالْآخَرِ يُفِيدُ الْمُخَاطَبُ مَعْنًى يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ( بِمُجَرَّدِ ذَاتِهِ ) أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ لَاحِقٍ بِهِ مُحَصِّلٍ لِهَذِهِ الْإِفَادَةِ أَوْ مَانِعٍ مِنْهَا ( فَجُمْلَةُ ) أَيْ فَهُوَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ إنْ بُدِئَ بِاسْمٍ كَزَيْدٍ قَائِمٌ ، وَإِنَّ زَيْدًا عَالِمٌ ، وَفِعْلِيَّةُ إنْ بُدِئَ بِفِعْلٍ نَحْوَ قَامَ مُحَمَّدٌ وَيَا عَبْدَ اللَّهِ ، وَإِنْ أَكْرَمَتْنِي أَكْرَمْتُك وَيُقَالُ لِهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ ، وَأَمَامُك أَوْ فِي الدَّارِ مِنْ زَيْدٍ أَمَامُك أَوْ فِي الدَّارِ وِفَاقًا لِلْبَصْرِيِّينَ ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي تَقْدِيرِهِمْ مِثْلُهُ بِنَحْوِ حَصَلَ أَوْ اسْتَقَرَّ وَيُقَالُ لِهَذِهِ ظَرِيفَةٌ وَخِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ فِي تَقْدِيرِهِمْ إيَّاهُ بِنَحْوِ حَاصِلٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ فَجَعَلُوهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ ، وَأَغْرَبَ ابْنُ السَّرَّاجِ بِجَعْلِهِ قِسْمًا بِرَأْسِهِ لَا مِنْ الْمُفْرَدِ وَلَا مِنْ الْجُمْلَةِ ( أَوْ نَاقِصَةً ) أَيْ ، وَإِنْ أَفَادَ نِسْبَةً نَاقِصَةً ، وَهِيَ تَعَلُّقٌ لِأَحَدِ جُزْأَيْهِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَاتِهِ .
( فَالتَّقْيِيدِيُّ ) أَيْ فَهُوَ الْمُرَكَّبُ التَّقْيِيدِيُّ لِتَقْيِيدِ كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهِ بِالْآخَرِ ، وَالنَّاقِصُ لِنُقْصَانِ نِسْبَتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الْأَوَّلِ فَيَشْمَلُ سَائِرَ الْمُرَكَّبَاتِ حَاشَا الْإِسْنَادِيِّ ( وَمُفْرَدٌ أَيْضًا ) أَيْ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أَيْضًا فِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ عِنْدَهُمْ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى هَذَا كَمَا هُوَ مُرَادُهُمْ بِهِ فِي تَقْسِيمِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إلَى مُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ ، وَعَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ اسْتِطْرَادًا بِقَوْلِهِ ( وَكَذَا فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَقْسِيمِ الِاسْمِ إلَيْهِ وَإِلَيْهِمَا ،
وَفِي مُقَابَلَةِ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ جَمْعُ سَلَامَةَ لِغَيْرِ الْمُؤَنَّثِ كَمَا هُوَ مُرَادُهُمْ بِهِ فِي بَابِ الْإِعْرَابِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ ( وَالْمُضَافِ ) أَيْ ، وَعَلَى مَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُضَافِ إلَى غَيْرِهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ كَمَا هُوَ مُرَادُهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ الْمُنَادِي الْمُفْرَدُ الْمَعْرِفَةُ يُبْنَى عَلَى مَا يُرْفَعُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ يُشْكِلُ هَذَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ كَقَائِمٍ فَإِنَّهُ يُفِيدُ نِسْبَةً نَاقِصَةً مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ تَقْيِيدِيٍّ فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَنَحْوَ قَائِمٍ ) مِنْ الصِّفَاتِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ ( لَا يَرِدُ ) عَلَى الْمُرَكَّبِ ( ؛ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ ) لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْمُفْرَدِ عَلَيْهِ ( وَأَيْضًا ) لَيْسَ بِمُفِيدٍ نِسْبَةً نَاقِصَةً وَضْعًا بَلْ هُوَ وَضْعًا ( إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مُتَّصِفَةٍ ) بِالْمَعْنَى الَّذِي اُشْتُقَّ هُوَ مِنْهُ ( فَتَلْزَمُ النِّسْبَةُ ) أَيْ نِسْبَتُهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ( عَقْلًا ) ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَصْفَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِمَوْصُوفٍ ( لَا مَدْلُولِ اللَّفْظِ ) أَيْ لَا أَنَّ النِّسْبَةُ الْمُشَارِ إلَيْهَا مَقْصُودَةُ الْإِفَادَةِ مِنْ لَفْظِهِ مَدْلُولًا لَهُ فَلَا نِسْبَةَ وَضْعِيَّةً فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا تَامَّةً وَلَا نَاقِصَةً ثُمَّ لَوْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمَخْبَرُ بِهِ عَنْ الْمُبْتَدَأِ الْمُسْنَدِ إلَى ضَمِيرٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَ الضَّمِيرِ جُمْلَةً كَالْفِعْلِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ فِي جَوَابِهِ ( وَحَالَ وُقُوعِهِ ) أَيْ اسْمُ الْفَاعِلِ ( خَبَرًا فِي نَحْوِ زَيْدٌ قَائِمٌ نِسْبَتُهُ إلَى الضَّمِيرِ ) الْمُسْتَتِرِ فِيهِ ، وَهُوَ هُوَ الرَّاجِعُ إلَى زَيْدٍ ( لَيْسَتْ تَامَّةً بِمُجَرَّدِ ذَاتِهِ ) أَيْ قَائِمٌ ( بَلْ التَّامَّةُ ) نِسْبَتُهُ ( إلَى زَيْدٍ ) فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ ضَمِيرِهِ جُمْلَةٌ ( وَلِذَا ) أَيْ وَلَكَوْن نِسْبَةِ قَائِمٍ إلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ ( عُدَّ ) قَائِمٌ ( مَعَهُ ) أَيْ مَعَ ضَمِيرِهِ ( مُفْرَدًا ) لَا جُمْلَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا فِي
شَرْحِ التَّسْهِيلِ لِمُصَنِّفِهِ ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَةِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجُمْلَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْسُوبِ وَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مَعَ ضَمِيرِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ لَفْظُهُ بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ ، وَهُوَ حُكْمُ الْمُفْرَدَاتِ ، وَعَبَّرَ ابْنُ مَالِكٍ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ لِتَسَلُّطِ الْعَوَامِلِ عَلَى أَوَّلِ جُزْأَيْهِ الثَّانِي أَنَّ وَضْعَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ عَلَى أَنْ يُفِيدَ فِي ذَاتِ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا فَيَسْتَقِلُّ مَعَ الْمُعْتَمِدِ عَلَيْهِ بِالْإِفَادَةِ فَاسْتِعْمَالُهُ مُبْتَدَأً مُسْتَقِلًّا بِفَاعِلِهِ خُرُوجٌ عَنْ وَضْعِهِ ا هـ .
عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْفِعْلَ مَعَ مَرْفُوعِهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ حَالَ كَوْنِهِ خَبَرًا أَيْضًا قَالَ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي نَحْوِ زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ خَبَرَانِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مَعَ مَرْفُوعِهِ حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا جُمْلَةً تَامَّةً اسْتَصْحَبُوا إطْلَاقَ الْجُمْلَةِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَالْمُشْتَقُّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَعَ مَرْفُوعِهِ جُمْلَةً تَامَّةً ضَرُورَةَ احْتِيَاجِهِ إلَى ضَمِيمَةٍ أُخْرَى لَمْ يَجْعَلُوهُ جُمْلَةً ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْفِعْلِ مَعَ مَرْفُوعِهِ جُمْلَةً دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ مَرْفُوعِهِ .
هَذَا كُلُّهُ عَلَى اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ ( وَعَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ ) أَيْ وَأَمَّا عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ( فِي اعْتِبَارِهِ ) أَيْ اعْتِبَارِهِمْ الضَّمِيرَ ( الرَّابِطَةَ ) الْغَيْرَ الزَّمَانِيَّةِ فِي الْقَضَايَا الْحَمْلِيَّةِ لِيَرْتَبِطَ بِهَا الْمَحْمُولُ بِالْمَوْضُوعِ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ وُقُوعِ النِّسْبَةِ أَوْ لَا ، وُقُوعُهَا سُمِّيَ بِهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى النِّسْبَةِ الرَّابِطَةِ بَيْنَهَا تَسْمِيَةً لِلدَّالِّ بِاسْمِ
الْمَدْلُولِ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ زَيْدٌ قَائِمٌ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ ( أَظْهَرُ ) لِانْتِفَاءِ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ أَصْلًا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَإِسْنَادُهُ ) أَيْ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ( لَيْسَ إلَّا إلَى زَيْدٍ ) لَا إلَى هُوَ الرَّابِطَةِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ ؛ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ يَرْتَبِطَانِ بِهَا مَعْقُولَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا آلَةٌ لِتَعْرِفَ حَالَهُمَا فَلَا يَكُونُ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ أَوْ بِهِ فَفَائِدَتُهَا كَمَا قَالَ ( وَهُوَ ) أَيْ الضَّمِيرُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ هُوَ الَّذِي ( يُفِيدُ أَنَّ مَعْنَاهُ ) أَيْ اسْمِ الْفَاعِلِ مَحْمُولٌ ( لَهُ ) أَيْ لِزَيْدٍ ( وَإِلَّا اسْتَقَلَّ كُلٌّ بِمَفْهُومِهِ ) أَيْ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ غَيْرَ مُفِيدٍ هَذَا اسْتَبَدَّ كُلٌّ مِنْ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ بِمَفْهُومِهِ عَنْ الْآخَرِ ( فَلَمْ يَرْتَبِطْ ) كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ فَيَنْبَغِي كَوْنُهُمَا قَضِيَّةً بَلْ يَكُونَانِ مِنْ قَبِيلِ تَعْدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ يَنْعَقَ بِهَا وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ ( وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ ) مِنْ هَذَا ( طَرْدُهُ ) أَيْ اعْتِبَارُ الضَّمِيرِ ( فِي الْجَامِدِ ) مِنْ الْأَخْبَارِ كَمَا فِي الْمُشْتَقِّ مِنْهَا لِعَيْنِ هَذَا الْمَعْنَى ( وَقَدْ يَلْتَزِمُ ) طَرْدُ اعْتِبَارِ الضَّمِيرِ فِي الْجَامِدِ أَيْضًا ( كَالْكُوفِيِّينَ ) فَإِنَّهُمْ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ مُشْتَقًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ فِيهِ ضَمِيرٌ ، وَيَتَأَوَّلُونَ غَيْرَ الْمُشْتَقِّ بِالْمُشْتَقِّ ؛ لِيَحْتَمِلَ الضَّمِيرَ فَيَتَأَوَّلُونَ زَيْدٌ أَسَدٌ بِشُجَاعٍ ، وَأَخُوك بِمُوَاخِيك وَغَيْرَهُمَا بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ بَلْ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّ الْجَامِدَ يَتَحَمَّلُ الضَّمِيرَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَوَّلْ بِمُشْتَقٍّ ، وَقَدْ يُعْزَى إلَى الْكُوفِيِّينَ وَالرُّمَّانِيِّ أَيْضًا ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ .
ثُمَّ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ لِمُصَنِّفِهِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ
مَشْهُورًا انْتِسَابُهُ إلَى الْكِسَائِيّ دُونَ تَقْيِيدٍ فَعِنْدِي اسْتِبْعَادُ إطْلَاقِهِ إذْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الدَّلِيلِ ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ حَكَمَ بِذَلِكَ فِي جَامِدٍ عُرِفَ لِمُسَمَّاهُ مَعْنًى مُلَازِمٌ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ كَالْإِقْدَامِ وَالْقُوَّةِ لِلْأَسَدِ وَالْحَرَارَةِ وَالْحُمْرَةِ لِلنَّارِ ا هـ .
فَيَتَحَصَّلُ أَنَّ لِتَحَمُّلِ الْجَامِدِ الضَّمِيرِ نَظَرَيْنِ التَّأْوِيلُ بِالْمُشْتَقِّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَقَاءُ عَلَى مَدْلُولِهِ وَلَمْحُ الْمَعْنَى الْمُلَازِمِ لِلْمُسَمَّى ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ، .
وَقَالَ الإستراباذي : وَأَمَّا الْجَامِدُ فَإِنْ كَانَ مُؤَوَّلًا بِالْمُشْتَقِّ نَحْوَ : هَذَا الْقَاعُ عَرْفَجٌ كُلُّهُ أَيْ غَلِيظٌ تَحَمَّلَ الضَّمِيرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَوَّلًا بِهِ لَمْ يَتَحَمَّلْهُ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ مَعْنَى زَيْدٌ أَخُوكَ مُتَّصِفٌ بِالْأُخُوَّةِ ، وَهَذَا زَيْدٌ مُتَّصِفٌ بِالزَّيْدِيَّةِ أَوْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِكَذَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَرَضَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْنَادِ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَابِطٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فَالْجَامِدُ كُلُّهُ عَلَى هَذَا مُتَحَمِّلٌ لِلضَّمِيرِ عِنْدَ الْكِسَائِيّ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَابِهْ الْفِعْلَ لَمْ يَرْفَعْ الظَّاهِرَ كَالْمُشْتَقِّ وَلِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرُ تَابِعٌ لِخَفَائِهِ فَإِذًا لَا ضَيْرَ فِي الْتِزَامِ مُلْتَزِمٍ لِهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ بَلْ لِمَا عَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ ( وَإِنْ كَانَ ) الْتِزَامُ طَرْدِهِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ ( عَلَى غَيْرِ مَهِيعِهِمْ ) أَيْ عَلَى خِلَافِ طَرِيقِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا يَلْتَزِمُونَ تَحَمُّلَ الْمُشْتَقِّ لَهُ فَضْلًا عَنْ الْجَامِدِ بَلْ إنْ كَانَ مَلْفُوظًا فِيهَا وَيُسَمُّونَ الْقَضِيَّةَ حِينَئِذٍ ثُلَاثِيَّةً ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَلْفُوظٍ لِشُعُورِ الذِّهْنِ بِهِ قَالُوا هُوَ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ وَسَمَّوْا الْقَضِيَّةَ حِينَئِذٍ ثُنَائِيَّةً
نَعَمْ الشَّأْنُ فِي صَلَاحِيَّةِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ دَلِيلًا عَلَى الرَّبْطِ إذْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ الرَّبْطُ أَمْرٌ خَفِيٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهُ ظَاهِرًا وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِلَى هَذَا مَعَ أَفَادَّةِ مَا عَدَلَ إلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ( وَلِخَفَائِهِ وَالدَّالُّ ظَاهِرٌ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الدَّالَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِدَلَالَةٍ عَلَى الْمَدْلُولِ ( قِيلَ الرَّابِطُ ) لِلْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ ( حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّهَا ضَمَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي آخِرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُعْرَبِ ، وَيُلْحَقُ بِهَا فِي هَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ وَاوٍ وَأَلِفٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَاضِعَ كَمَا وَضَعَ الْأَلْفَاظَ لِإِفَادَةِ الْمَقَاصِدِ الْبَاطِنَةِ وَغَيْرِهَا وَضَعَ الْإِعْرَابَ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي الطَّارِئَةِ عَلَى بَعْضِهَا بِالتَّرْكِيبِ تَوْفِيَةً لِكَمَالِ الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ لَكِنْ كَمَا قَالَ ( وَلَا يُفِيدُ ) كَوْنُ الدَّلِيلِ عَلَى الرَّبْطِ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ فِي سَائِرِ الْقَضَايَا ( إذْ تَخْفَى ) هَذِهِ الْحَرَكَةُ ( فِي الْمَبْنِيِّ وَالْمُعْتَلِّ ) مَقْصُورًا كَانَ أَوْ مَنْقُوصًا بَلْ وَفِي الْمُعْرَبِ بِهَا إذَا وُقِفَ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ .
( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ ) أَيْ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا ( فِعْلُ النَّفْسِ ) ، وَهُوَ الْحُكْمُ النَّفْسِيُّ بِالْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ ثُبُوتًا أَوْ نَفْيًا ( وَدَلِيلُهُ ) أَيْ فِعْلُ النَّفْسِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ الرَّابِطِ ( الضَّمُّ الْخَاصُّ ) أَيْ التَّرْكِيبُ الْخَاصُّ الْمَوْضُوعُ نَوْعُهُ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ الرَّبْطِ لِعُمُومِهِ ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ ( فَعِنْدَ ظُهُورِهَا ) لِفَقْدِ مَانِعٍ مِنْهُ ( يَتَأَكَّدُ الدَّالُّ ) لِتَعَدُّدِهِ حِينَئِذٍ ( وَإِلَّا ) أَيْ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِمَانِعٍ ( انْفَرَدَ ) الضَّمُّ الْخَاصُّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرَّبْطِ ، وَبِهِ كِفَايَةٌ .
( وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَضْعِ الْمُفْرَدَاتِ
لَيْسَ إلَّا إفَادَةُ الْمَعَانِي التَّرْكِيبِيَّةِ ) ؛ لِأَنَّهَا الْكَافِلَةُ بِبَيَانِ الْمُرَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لَا الْمُعَانِي الْإِفْرَادِيَّةِ لَهَا لِلُزُومِ الدَّوْرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِتَوَقُّفِ فَهْمِهَا حِينَئِذٍ عَلَى إفَادَةِ الْأَلْفَاظِ لَهَا ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِوَضْعِ الْأَلْفَاظِ لَهَا ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ فَإِنْ قِيلَ فَمِثْلُ هَذَا يَجِيءُ فِي إفَادَتِهَا النَّسَبَ وَالْمَعَانِيَ التَّرْكِيبِيَّةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فَهْمَهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِوَضْعِ الْأَلْفَاظِ لَهَا ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِهَا أُجِيبَ بِمَنْعِ تَوَقُّفِ إفَادَتِهَا الْمَعَانِيَ التَّرْكِيبِيَّةَ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْأَلْفَاظِ مَوْضُوعَةً لِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ بَلْ الْعِلْمُ بِالنِّسَبِ وَالتَّرْكِيبَاتِ الْجُزْئِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ وَالتَّرْكِيبَاتِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ .
هَذَا وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْأَصْفَهَانِيُّ إلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ وَضْعَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ لِمَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَهَا مِنْهَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا وَوَضَعَ الْأَلْفَاظَ الْمُفْرَدَةَ لِمَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَهَا مِنْهَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا ، وَوَضَعَ الْأَلْفَاظَ الْمُرَكَّبَةَ لِمَعَانِيهَا الْمُرَكَّبَةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَهَا مِنْهَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَلْفَاظَ الْمُفْرَدَةَ لِمَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى إفَادَةِ النَّسَبِ وَالتَّرْكِيبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَكَفِّلَةُ بِجَدْوَى الْمُخَاطَبَاتِ ، وَهُوَ حَسَنٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ( وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ إنْ دَلَّ عَلَى مُطَابَقَةِ خَارِجٍ ) أَيْ وَالْمُرَكَّبُ الَّذِي هُوَ جُمْلَةٌ خَبَرٌ إنْ فُهِمَ مِنْهُ نِسْبَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْهِ مُطَابِقَةٌ
لِلنِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِأَنْ تَكُونَا ثُبُوتِيَّتَيْنِ أَوْ سَلْبِيَّتَيْنِ ( وَأَمَّا عَدَمُهَا ) أَيْ مُطَابَقَةِ النَّفْسِيَّةِ لِلْخَارِجِيَّةِ بِأَنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ثُبُوتِيَّةً وَالْأُخْرَى سَلْبِيَّةً ( فَلَيْسَ مَدْلُولًا وَلَا مُحْتَمَلَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَجُوزُ الْعَقْلُ أَنَّ مَدْلُولَهُ ) أَيْ اللَّفْظُ ( غَيْرُ وَاقِعٍ ) بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ كَاذِبًا ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الصِّدْقِ ، وَأَمَّا الْكَذِبُ فَلَيْسَ بِمَدْلُولِهِ بَلْ هُوَ نَقِيضُهُ ، وَقَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُهُ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ الْكَذِبَ مَدْلُولُ لَفْظِ الْخَبَرِ كَالصِّدْقِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ لَا يَكُونَ مَدْلُولُهُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ لَا أَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الثُّبُوتِ مَدْلُولٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا وَضْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ تَقْتَضِي اسْتِلْزَامَ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ اسْتِلْزَامًا عَقْلِيًّا لِيَسْتَحِيلَ التَّخَلُّفُ كَمَا فِي دَلَالَة الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ .
( وَإِلَّا ) أَيْ ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْمُرَكَّبُ الَّذِي هُوَ الْجُمْلَةُ عَلَى مُطَابَقَةِ خَارِجٍ بِأَنْ كَانَ لَا خَارِجَ لِنِسْبَتِهِ ( فَإِنْشَاءٌ وَلَا حُكْمَ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرِ ، وَفَسَّرَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ ( أَيْ إدْرَاكُ أَنَّهَا ) أَيْ نِسْبَتُهُ ( وَاقِعَةٌ أَوَّلًا ) دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا النِّسْبَةُ فَإِنَّهُ مِمَّا يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَيْهِمَا ، وَعَلَيْهِ فَيُفَرَّعُ أَنْ يُقَالَ ( فَلَيْسَ كُلُّ جُمْلَةٍ قَضِيَّةٌ ) لِصِدْقِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ لِإِفَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِسْبَةً تَامَّةً بِمُجَرَّدِ ذَاتِهِ ، وَعَدَمُ صِدْقِ الْقَضِيَّةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ لِعَدَمِ الْخَارِجِ لِنِسْبَتِهِ ، وَكُلُّ قَضِيَّةٍ جُمْلَةٌ ( وَالْكَلَامُ يُرَادِفُهَا ) أَيْ الْجُمْلَةَ ( عِنْدَ قَوْمٍ ) مِنْ