كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد
يَتَّحِدَا بِالذَّاتِ وَيَلْزَمُ الْمُسَامَحَةُ فِي عِبَارَتِهِمْ حَيْثُ أَطْلَقُوا أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ( أَوْ ) كَانَ ( تَرْجِيحًا ) لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ ( فَالنَّدْبُ أَوْ ) حَتْمًا ( لِكَفٍّ ) وَلَا حَاجَةَ إلَى ( حَتْمًا ) لِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الطَّلَبُ الْحَتْمُ لِكَفٍّ فَالْكَفُّ لَا يَكُونُ إلَّا حَتْمًا ( فَالتَّحْرِيمُ وَالْحُرْمَةُ بِالِاعْتِبَارِ ) أَيْ فَهُمَا مُتَّحِدَانِ ذَاتًا لِأَنَّهُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ النَّفْسِيَّ لَا تَفْعَلُ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى بِفِعْلٍ هُوَ كَفٌّ ، مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ فَبِاعْتِبَارِ الْقِيَامِ تَحْرِيمٌ وَبِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ حُرْمَةٌ وَهِيَ هُنَا مُرَادٌ مِنْ إطْلَاقِهَا ( غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ) مُرَادًا مِنْ إطْلَاقِهَا فَإِنَّهَا ثَمَّةَ تُقَالُ لِصِفَةِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ كَفٌّ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْخِطَابِ وَهُنَا تُقَالُ لِنَفْسِ التَّحْرِيمِ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ ( وَظَهَرَ ) مِنْ هَذَا ( مَا قَدَّمْنَا مِنْ فَسَادِ تَعْرِيفِهِمْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ النَّفْسِيِّينَ بِتَرْكِهِمْ حَتْمًا ) فِي تَعْرِيفَيْهِمَا ( وَكَذَا ) ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَعْرِيفَيْهِمَا الْفَسَادَ ( بِتَرْكِ الِاسْتِعْلَاءِ فِي التَّقْسِيمِ لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّقْسِيمَ ( يُخْرِجُ التَّعْرِيفَ ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ لِكُلٍّ مِنْ أَقْسَامِهِ وَالِاسْتِعْلَاءُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ( هَذَا ) الْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ( بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِمَا أَمَّا ) الْكَلَامُ فِي مَعْرِفَتِهِمَا ( بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ ) أَيْ طَرِيقِ وُصُولِهِمَا إلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهِمَا بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِمَا الْمَنْقُولَةِ إلَيْهِمْ ( فَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ ) أَيْ يُقَالُ الْإِيجَابُ الطَّلَبُ الْحَتْمُ لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ وَالتَّحْرِيمُ الطَّلَبُ لِفِعْلٍ كَفٍّ وَلَا يُلَاحَظُ حَالُ الدَّالِ ( وَأَمَّا هُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ فَلَاحَظُوا ذَلِكَ فَقَالُوا : ( فَإِنْ ثَبَتَ الطَّلَبُ الْجَازِمُ بِقَطْعِيٍّ ) دَلَالَةً مِنْ كِتَابٍ أَوْ وَثُبُوتًا أَيْضًا مِنْ
سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ ( فَالِافْتِرَاضُ ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِعْلًا غَيْرَ كَفٍّ ( وَالتَّحْرِيمُ ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِعْلًا هُوَ كَفٌّ ( أَوْ ) ثَبَتَ الطَّلَبُ الْجَازِمُ ( بِظَنِّيٍّ ) دَلَالَةً مِنْ كِتَابٍ أَوْ دَلَالَةً أَوْ ثُبُوتًا مِنْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ ( فَالْإِيجَابُ ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِعْلًا غَيْرَ كَفٍّ ( وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِعْلًا هُوَ كَفٌّ ( وَيُشَارِكَانِهِمَا ) أَيْ الْإِيجَابُ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ الِافْتِرَاضَ وَالتَّحْرِيمَ ( فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ ) لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلٍّ ( وَعَنْهُ ) أَيْ التَّشَارُكِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ كُلٍّ ( قَالَ مُحَمَّدٌ : كُلُّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ نَوْعًا مِنْ التَّجَوُّزِ ) فِي لَفْظِ حَرَامٍ ( وَقَالَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ) الْمَكْرُوهُ ( إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ ) مِنْهُ إلَى الْحِلِّ وَإِنَّمَا قُلْنَا : مُرَادُ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ ( لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُكَفِّرُ جَاحِدَ الْمَكْرُوهِ وَالْوُجُوبِ ) كَمَا يُكَفِّرُ جَاحِدَ الْفَرْضِ وَالْحَرَامِ ( فَلَا اخْتِلَافَ ) بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى ( كَمَا يُظَنُّ ) وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ ؟ قَالَ : التَّحْرِيمُ وَيَأْتِي فِي هَذَا أَيْضًا مَا فِي لَفْظِ مُحَمَّدٍ لِلْقَطْعِ أَيْضًا بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُكَفِّرُ جَاحِدًا لِمَكْرُوهِ هَذَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَقْسَامِ الِاقْتِضَاءِ الْكَرَاهَةُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَالتَّحْرِيمُ وَالْحُرْمَةُ بِالِاعْتِبَارِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مَا نَصَّهُ أَوْ تَرْجِيحًا فَالْكَرَاهَةُ وَمُتَعَلِّقُهَا الْمَكْرُوهُ ثُمَّ يَشْتَرِك الْأَرْبَعَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالِامْتِثَالِ وَيَنْفَرِدُ الْوَاجِبُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ وَالْحَرَامُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالْفِعْلِ وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَهِيَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا اسْتِحْقَاقَ ثَوَابٍ
وَلَا عِقَابٍ فِيهَا وَكَانَ أَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَكْمِيلِ أَقْسَامِ الِاقْتِضَاءِ بِاعْتِبَارِ الْوُصُولِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ بِظَنِّيٍّ فَإِيجَابٌ إنْ كَانَ لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ وَفِي تَرْكِهِ اسْتِحْقَاقُ عِقَابٍ وَنَدْبٌ إنْ كَانَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ اسْتِحْقَاقُ عِقَابٍ وَكَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ إنْ كَانَ لِفِعْلٍ كَفٍّ وَفِي فِعْلِهِ اسْتِحْقَاقُ عِقَابٍ وَكَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ إنْ كَانَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ اسْتِحْقَاقُ عِقَابٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا تَكْلِيفَ ) أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا ( إلَّا بِفِعْلٍ ) كَسَبْيٍ لَلْمُكَلَّفِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْفِعْلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ ( فِي النَّهْيِ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنْ الْمَنْهِيِّ ) أَيْ انْتِهَاؤُهُ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ( وَيَسْتَلْزِمُ ) النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ ( سَبْقُ الدَّاعِيَةِ ) أَيْ دَاعِيَةِ الْمَنْهِيِّ إلَى فِعْلِهِ ( فَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَهَا ) أَيْ الدَّاعِيَةِ ( تَنْجِيزًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ وَلَوْ نَهْيًا لَا يَكُونُ إلَّا بِفِعْلٍ حَتَّى أَنَّهُ فِي النَّهْي كَفُّ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ النَّهْيُ قَبْلَ وُجُودِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِذَا قَالَ : لَا تَزْنِ وَالْفَرْضُ أَنَّ مَعْنَاهُ كُفَّ نَفْسَك عَنْ الزِّنَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ قَبْلَ طَلَبِ النَّفْسِ لِلزِّنَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْطُرْ طَلَبُهَا لِلزِّنَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَفُّهَا عَنْهُ فَلَوْ طَلَبَ مِنْهُ كَفَّهَا فِي حَالِ عَدَمِ طَلَبِهَا طَلَبَ مَا هُوَ مُحَالٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْوُ { لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ أَيْ إذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُك فَكُفَّهَا وَإِلَّا لَكَانَ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تَطْلُبْهُ فَكُفَّهَا أَوْ إذَا طَلَبَتْهُ أَوْ لَمْ تَطْلُبْهُ فَكُفَّهَا وَهُوَ مُحَالٌ فِي شِقِّ عَدَمِ طَلَبِهَا فَلَزِمَ كَوْنُ الْمَعْنَى الشِّقَّ الْآخَرَ وَهُوَ إذَا طَلَبَتْهُ فَكُفَّهَا وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَطْلُبْ نَفْسُهُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ فَحَازَ فَضِيلَةَ الِامْتِثَالِ فِي الْحَالَيْنِ كَلَامٌ غَيْرُ مُتَأَمَّلٍ بَلْ مُقْتَضَى التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ وَلَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَهْيٌ مُنْجَزٌ وَلَيْسَ هَذَا نَقْصًا بَلْ كَرَامَةً إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الْعِصْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَوْ طَلَبَتْهُ فَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ فَكَفّهَا لَا يَكُفُّهَا إلَّا لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ بِالشُّرْبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ آثِمًا بَلْ مُصِرًّا وَمَا قِيلَ أَنَّ النَّهْيَ قَدْ
يَسْقُطُ بِلَا نِيَّةٍ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْفِعْلِ قَبْلَ دَاعِيَتِهِ فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ وَلَا آثِمٍ وَلَا مُثَابٍ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ التَّكْلِيفِ وَإِنْ أُرِيدَ التَّرْكُ بَعْدَهَا فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ عَلَى تَقْدِيرَيْ تَرْكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرِهِ أَوْ لِمُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا فِي طَلَبِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَرْكٌ فَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ تَرْكٍ فَطَلَبُهُ هُوَ الْأَمْرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يُتَصَوَّرُ فِعْلُهُ إلَّا بَعْدَ دَاعِيَةِ تَرْكِهِ فَكَذَلِكَ ، أَوْ بَعْدَ فِعْلٍ آخَرَ فَهُوَ عَلَى وِزَانِهِ نَحْوُ : اُرْدُدْ كَلَامَ زَيْدٍ فَنَقُولُ : لَا تَكْلِيفَ تَنْجِيزٍ إلَّا إذَا تَكَلَّمَ زَيْدٌ لِأَنَّ قَبْلَ كَلَامِهِ لَا يُتَصَوَّرُ رَدُّهُ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا لِلْأَمْرِ بِكَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّفُ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ طَلَبُ إيجَادِهِ مُطْلَقًا نَحْوُ : اُكْتُبْ وَصَلِّ وَزَكِّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهَا أَيْ مَطْلُوبٌ مِنْهُ فِعْلُهَا وَإِدْخَالُهَا فِي الْوُجُودِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى طَلَبِ النَّفْسِ تَرْكَهَا أَوْ عَدَمِ خُطُورِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ ) مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٌ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ ( عَدَمُهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( لَنَا لَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَقْدُورٍ ) كَمَا سَيَأْتِي ( وَالْعَدَمُ غَيْرُهُ ) أَيْ الْمَقْدُورِ ( إذْ لَيْسَ ) الْعَدَمُ ( أَثَرَهَا ) أَيْ الْقُدْرَةَ ( وَلَا ) الْعَدَمُ أَيْضًا ( اسْتِمْرَارَهُ ) أَيْ أَثَرِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ وَلَمَّا نَظَرَ فِي هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ لَا يَصْلُحُ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ إذْ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَيَسْتَمِرَّ وَأَنْ يَفْعَلَ فَلَا يَسْتَمِرَّ وَأَيْضًا فَيَكْفِي فِي طَرَفِ النَّفْي أَثَرًا أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ : وَحَاصِلُهُ أَنَّا لَا نُفَسِّرُ الْقَادِرَ بِاَلَّذِي إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَ بَلْ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَيَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ عَدَمُ الْفِعْلِ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْمَشِيئَةِ وَكَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يَصِحُّ تَرَتُّبُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَيَخْرُجُ الْعَدَمِيَّاتُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَكَانَ هَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ غَيْرَ مُثْبِتٍ لِلْمَطْلُوبِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ مَعَ رِدَّةٍ فَقَالَ : ( وَتَفْسِيرُ الْقَادِرِ بِمِنْ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ ( لَمْ يَفْعَلْ لَا ) بِمَنْ إنْ شَاءَ فَعَلَ ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَكَوْنُهُ لَمْ يَشَأْ فَلَمْ يَفْعَلْ لَا يُوجِبُ اسْتِمْرَارَ ) الْعَدَمِ ( الْأَصْلِيِّ أَثَرُ الْقُدْرَةِ بِهِ ) أَيْ الْمُكَلَّفِ ( فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلنَّهْيِ ) فَقَوْلُهُ وَتَفْسِيرُ الْقَادِرِ مُبْتَدَأٌ وَكَوْنُهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُ ثُمَّ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يُوجِبُ هَذَا الْمَطْلُوبَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ( بَلْ عَدَمُ مَشِيئَةِ الْفِعْلِ أَصْلًا صُورَةُ عَدَمِ الشُّعُورِ بِالتَّكْلِيفِ وَأَمَّا مَعَهُ ) أَيْ الشُّعُورِ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ ( فَلَيْسَ الثَّابِتَ ) مِنْ حَيْثُ قَصْدُ الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ حِينَئِذٍ ( إلَّا مَشِيئَةُ عَدَمِ الْفِعْلِ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ ) أَيْ مَشِيئَةِ عَدَمِ الْفِعْلِ ( بِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ تَسَامُحًا وَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَبْهَرِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي فِي طَرَفِ الْعَدَمِ أَثَرًا أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ فَلَمْ يَفْعَلْ أَيْ لَمْ يَشَأْ الْفِعْلَ وَشَاءَ عَدَمَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَا أَنَّهُ فَعَلَ عَدَمَهُ إذْ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِ الْعَدَمِ أَثَرًا مُجَرَّدُ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ فَلَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَيْسَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ بِالِاتِّفَاقِ ( فَيَتَحَقَّقُ التَّرْكُ وَهُوَ ) أَيْ التَّرْكُ ( فِعْلٌ إذَا طَلَبَتْهُ ) النَّفْسُ ( وَيُثَابُ ) الْمُكَلَّفُ ( عَلَى هَذَا الْعَزْمِ ) أَيْ عَزْمِ الْكَفِّ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يُفِيدُهُ غَيْرُ مَا سَمْعِيٌّ ( لَا عَلَى امْتِثَالِ النَّهْي إذْ لَمْ يُوجَدْ )
الِامْتِثَالُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عَلَى الْكَفِّ بَلْ إنَّمَا يُوجَدُ بِالْكَفِّ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَلِيلَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلُ أَحَدِهِمَا قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } إذْ الِاتِّخَاذُ افْتِعَالٌ وَالْمَهْجُورُ الْمَتْرُوكُ وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ السُّوَائِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ ؟ فَسَكَتُوا قَالَ : حِفْظُ اللِّسَانِ } ا هـ وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ بِلَفْظِ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ ثُمَّ قَالَ رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ حَالُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ الْقُدْرَةُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِقُبْحِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَقْلًا وَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْقَبِيحِ إلَيْهِ تَعَالَى وَبِالشَّرْعِ لِلْأَشَاعِرَةِ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ } الْآيَةَ ) أَيْ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَكَوْنُهَا شَرْطًا عِنْدَهُمْ بِالشَّرْعِ ( فِي الْمُمْكِنِ ) لِذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ عَادَةً ( كَحَمْلِ جَبَلٍ وَلَوْ كُلِّفَ بِهِ حَسَنٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّحْسِينِ وَضِدِّهِ ) أَيْ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ ( وَاخْتَلَفُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( فِي الْمُحَالِ لِذَاتِهِ ) كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ( فَقِيلَ عَدَمُ جَوَازِهِ ) أَيْ التَّكْلِيفِ بِهِ ( شَرْعِيٌّ لِلْآيَةِ ) الْمَتْلُوَّةِ آنِفًا كَمَا مَشَى عَلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ ( فَلَوْ كَلَّفَ ) الشَّارِعُ ( الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ) كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ ( جَازَ ) عَقْلًا ( وَنُسِبَ لِلْأَشْعَرِيِّ ) مِنْ قَوْلِهِ : الْقُدْرَةُ مَعَ الْفِعْلِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ فِي كِتَابِ الْإِيجَازِ بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَتَكْلِيفَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ صَحِيحٌ وَجَائِزٌ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ وُجِدَ تَكْلِيفُ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَا هُوَ مُحَالٌ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَضِيَّةِ أَبِي لَهَبٍ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ ا هـ ( وَقِيلَ ) عَدَمُ جَوَازِهِ ( عَقْلِيٌّ ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ لِاسْتِدْلَالِهِمَا عَلَى نَفْيِهِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ ( لِمَلْزُومِيَّةِ الطَّلَبِ ) الَّذِي هُوَ التَّكْلِيفُ ( تَصَوُّرَ الْمَطْلُوبِ عَلَى وَجْهِ الْمَطْلُوبِيَّةِ ) لِأَنَّ الطَّلَبَ اسْتِدْعَاءُ الْمَطْلُوبِ الْمُتَصَوَّرِ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِ الطَّالِبِ ( فَيُتَصَوَّرُ ) الْمُحَالُ كَالْجَمْعِ
بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ( مُثْبَتًا ) أَيْ وَاقِعًا فِي الْخَارِجِ ( وَهُوَ ) أَيْ تَصَوُّرُ الْمُحَالِ مُثْبَتًا ( تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ ) الَّذِي هُوَ الْمُحَالُ ( مَلْزُومًا لِنَقِيضِ اللَّازِمِ ) وَهُوَ أَيْ نَقِيضُ اللَّازِمِ ثُبُوتُ الْمُحَالِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَصَوُّرُ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَاهِيَّتِه فَإِنَّ مَاهِيَّتَه تُنَافِي ثُبُوتَهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ فَمَا يَكُونُ ثَابِتًا فَهُوَ غَيْرُ مَاهِيَّتِه ( وَتَصَوُّرُ أَرْبَعَةٍ لَيْسَتْ زَوْجًا تَصَوُّرُ أَرْبَعَةٍ لَيْسَتْ أَرْبَعَةً ) لِأَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِزَوْجٍ لَيْسَ بِأَرْبَعَةٍ فَالْمُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ أَرْبَعَةٌ وَلَيْسَ بِأَرْبَعَةٍ هَذَا خَلْفٌ ( وَنُوقِضَ بِلُزُومِ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِامْتِنَاعِهِ خَارِجًا ) أَيْ أُورِدَ عَلَى هَذَا نَقَضٌ إجْمَالِيُّ وَهُوَ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَزِمَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِسَبَبِ امْتِنَاعِ الْمُحَالِ فِي الْخَارِجِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحُكْمَ بِامْتِنَاعِهِ خَارِجًا ( فَرْعُ تَصَوُّرِهِ خَارِجًا ) لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ بِدُونِ تَصَوُّرِهِ مُحَالٌ لَكِنَّ اللَّازِمَ بَاطِلٌ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ مِنْ الْعُقَلَاءِ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ ( أُجِيبَ بِأَنَّ اللَّازِمَ ) لِلْحُكْمِ بِامْتِنَاعِهِ خَارِجًا ( تَصَوُّرُهُ ) نَفْسُهُ فَقَطْ ( لَا ) تَصَوُّرُهُ ( بِقَيْدِ إثْبَاتِهِ ) خَارِجًا ( وَهُوَ ) أَيْ تَصَوُّرُهُ كَذَلِكَ هُوَ ( الْمُمْتَنِعُ فَيَتَصَوَّرُ ) الْحَاكِمُ ( الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ ) الْغَيْرِ الْمُتَضَادَّةِ كَالْحَلَاوَةِ وَالْبَيَاضِ ( وَيَنْفِيهِ ) أَيْ الْحَاكِمُ الْجَمْعَ ( عَنْهُمَا ) أَيْ الضِّدَّيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَصَوَّرُ اجْتِمَاعَهُمَا مَنْفِيًّا ( وَهُوَ ) أَيْ تَصَوُّرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ مَنْفِيًّا عَنْ الضِّدَّيْنِ ( كَافٍ ) فِي الْحُكْمِ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فِي الْخَارِجِ ( بِخِلَافِ مَا يَسْتَدْعِيهِ ) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ ( طَلَبُ إثْبَاتِهِ فِي الْخَارِجِ ) فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِهِ مُثْبَتًا فِي الْخَارِجِ ( وَالْحَقُّ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ إمْكَانَ
كَلَّفْتُكَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ) أَيْ الضِّدَّيْنِ ( وَهُوَ ) أَيْ إمْكَانُ هَذَا ( إمَّا فَرْعُ قَوْلِهِ النَّفْسِيِّ ذَلِكَ ) أَيْ كَلَّفْتُك الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ( أَوْ ) فَرْعُ ( الْعِلْمِ ) بِمَعْنَى هَذَا ( فَإِنْ اسْتَدْعَى ) هَذَا ( قَدْرًا مِنْ التَّعَقُّلِ فَقَدْ تَحَقَّقَ ) ذَلِكَ الْقَدْرُ ضَرُورَةَ إمْكَانِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ كَافٍ فِي إمْكَانِ التَّكْلِيفِ ( وَلَا حَاجَةَ لَنَا إلَى تَحْقِيقِهِ وَأَيْضًا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الثُّبُوتِ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ فَيُكَلَّفُ بِهِ ) أَيْ الثُّبُوتِ ( بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي يَمْنَعُ تَوَقُّفُ التَّكْلِيفِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ عَلَى تَصَوُّرِهِ وَاقِعًا بَلْ يَكْفِي فِيهِ تَصَوُّرُ الِاجْتِمَاعِ الْمُمْكِنِ ثُمَّ طَلَبُهُ لِلضِّدَّيْنِ فَيَسْتَدْعِي فِي الطَّلَبِ مِثْلَ مَا يَسْتَدْعِيهِ فِي الْحُكْمِ ( وَحَدِيثُ تَصَوُّرِ الْمُسْتَحِيلِ ) أَيْ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي تَصَوُّرِهِ ( بِمَا فِيهِ ) مِنْ الْبَحْثِ ( لَا وُقُوعَ لَهُ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ إمْكَانَ كَلَّفْتُك الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ( وَلَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ نَفْسِهِ ( كَمَا ) أَيْ الَّذِي ( عَلِمَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ كَوْنِهِ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّصِفْ بِالِاسْتِحَالَةِ لِذَلِكَ ) أَيْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِعَدَمِ كَوْنِهِ ( لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِ ) أَيْ الْمُحَالِ ( مَعَ الْإِمْكَانِ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ ) غَيْرَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُحَالِيَةِ الَّتِي لَا تُجَامِعُ الْإِمْكَانَ هُوَ الْوَصْفُ بِالْمُحَالِيَةِ الذَّاتِيَّةِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْمُرَادَةُ فِي قَوْلِهِمْ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ غَايَتُهُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُحَالِ عَلَى الْمُمْكِنِ الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ مَانِعٌ مَجَازًا وَجَعَلُوا التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِمْ لِغَيْرِهِ قَرِينَةُ ذَلِكَ ( فَاسْتِدْلَالُ الْمُجِيزِ ) لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ ( بِهِ ) أَيْ بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ وَاقِعٌ (
فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَيَقْتَضِي وُقُوعُ تَكْلِيفِ الْمُسْتَحِيلِ لِنَفْسِهِ اتِّفَاقًا ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَيْفَ لَا ( وَالِاتِّفَاقُ ) بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ ( عَلَى نَفْيِهِ ) أَيْ وُقُوعِ تَكْلِيفِ الْمُسْتَحِيلِ لِنَفْسِهِ كَغَيْرِهِمْ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَكُنْ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْيِهِ ( نَاقَضُوا الْآيَةَ ) أَيْ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } لِدَلَالَتِهَا عَلَى نَفْي الْوُقُوعِ ( وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ ) عَقْلًا لَا غَيْرُ ( وَكَذَا اسْتِدْلَالُهُمْ ) عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ ( بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ وَهُوَ ) أَيْ الْفِعْلُ ( مَخْلُوقٌ لَهُ تَعَالَى ) يَقْتَضِي اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ وَقَعَ بِهِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَاقِعٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَكُلُّ مَا كُلِّفَ بِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا تَسْبِقُ فِعْلَهُ ( وَمِنْهُ ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ( أُلْزَمْ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَ بِهِ ) أَيْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ ( وَيَلْزَمُ ) مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ( كَوْنُ كُلِّ مَا كُلِّفَ بِهِ مُحَالًا لِذَاتِهِ ) أَيْ فَهُوَ مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ مُحَالًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لِوُجُوبِ وُجُودِ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِهِ لِوُجُوبِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِأَحَدِهِمَا وَأَيًّا مَا كَانَ تَعَيَّنَ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ بِالْمُجِيزِينَ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ ( وَقَعَ ) التَّكْلِيفُ بِهِ فَقَدْ ( كُلِّفَ أَبُو لَهَبٍ ) أَيْ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( بِالتَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ ) بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجْمَاعًا ( وَأَخْبَرَ ) اللَّهُ تَعَالَى ( أَنَّهُ ) أَيْ أَبَا لَهَبٍ ( لَا يُصَدِّقُهُ ) الْتِزَامًا لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } قُلْت : وَمَا قِيلَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَلِيَهَا لِلْفِسْقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَالَةَ الرَّاهِنَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مُفِيدَةً
لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ كُفْرًا ثُمَّ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ فَذَاكَ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ ابْتِدَاءً مُنْتَفٍ انْتِهَاءً فَلَا يَقْدَحُ فِي الظُّهُورِ إنْ قَدَحَ فِي الْقَطْعِ وَبِالظُّهُورِ كِفَايَةٌ ( وَهُوَ ) أَيْ تَكْلِيفُهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ حِينَئِذٍ ( تَكْلِيفٌ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ وَهُوَ ) أَيْ وَتَكْلِيفُهُ بِهَذَا ( مُحَالٌ لِنَفْسِهِ لِاسْتِلْزَامِ تَصْدِيقِهِ عَدَمَ تَصْدِيقِهِ غَلَطٌ بَلْ هُوَ ) أَيْ إيمَانُ أَبِي لَهَبٍ ( مِمَّا عُلِمَ عَدَمُ وُقُوعِهِ فَهُوَ ) مُحَالٌ ( لِغَيْرِهِ ) سَوَاءٌ ( كُلِّفَ ) أَبُو لَهَبٍ ( بِتَصْدِيقِهِ ) أَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَبْلَ عِلْمِهِ ) أَيْ أَبِي لَهَبٍ بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ ( أَوْ ) كُلِّفَ ( بَعْدَهُ ) أَيْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ ( فَهُوَ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ لَهُمْ ( تَشْكِيكٌ بَعْدَ الْقَاطِعِ ) فِي أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ( { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ } الْآيَةُ فَهُوَ ) أَيْ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ ( مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ ) عَقْلًا غَيْرُ وَاقِعٍ شَرْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ ) بِالْفِعْلِ أَيْ تَعَلُّقُهُ بِهِ ( حَالَ ) مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ ( الْفِعْلِ ) الْمُكَلَّفِ بِهِ ( وَاسْتُبْعِدَ ) هَذَا ( بِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَشْعَرِيَّ ( إنْ أَرَادَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ ) أَيْ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ ( لِنَفْسِهِ ) أَيْ التَّكْلِيفِ ( فَحَقٌّ ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ تَسْتَلْزِمُ مَطْلُوبًا عَقْلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ ( لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ ) أَيْ هَذَا الْمُرَادِ ( انْقِطَاعُهُ ) أَيْ التَّكْلِيفِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( اتِّفَاقًا ) لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَزُولُ بِالْغَيْرِ بَلْ يَبْقَى مَا دَامَتْ الذَّاتُ فَيَبْقَى التَّكْلِيفُ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ لِتَحَقُّقِ نَفْسِ التَّكْلِيفِ بَعْدَهُ أَيْضًا وَهُوَ بَاطِلٌ لِانْقِطَاعِهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ إجْمَاعًا ( أَوْ ) أَرَادَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ حَالَ حُدُوثِهِ ( تَنْجِيزُ التَّكْلِيفِ ) بِمَعْنَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بَاقٍ عَلَيْهِ مُنَجَّزًا ( فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّكْلِيفَ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ يَكُونُ الْمُرَادُ هَذَا تَكْلِيفٌ ( بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ ) وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ ) هَذَا كَذَلِكَ ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ التَّكْلِيفَ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ إنَّمَا يَكُونُ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( وَكَلَامُنَا حَالَ هَذَا الْإِيجَادِ وَمَا يُقَالُ إحَالَةٌ لِلصُّورَةِ ) أَيْ صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( الْفِعْلُ إنْ كَانَ آنِيًّا ) أَيْ دَفْعِي الْوُجُودِ ( لَمْ يُتَصَوَّرْ لَهُ بَقَاءٌ يَكُونُ مَعَهُ التَّكْلِيفُ وَإِنْ ) كَانَ ( طَوِيلًا أَوْ ذَا أَفْعَالٍ فَحَالَ فِعْلِهِ انْقَضَى شَيْئًا فَشَيْئًا فَالْمُنْقَضِي سَقَطَ تَكْلِيفُهُ وَمَا لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ ) تَكْلِيفُهُ ( لَا يُفِيدُ ذَلِكَ ) أَيْ إحَالَةَ الصُّورَةِ ( لِأَنَّ الْمُمْكِنَ آنِيًّا ) كَانَ ( أَوْ زَمَانِيًّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَالِ عَدَمٍ وَحَالِ بُرُوزٍ ) مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ ( وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ) مِقْدَارَ زَمَانِ بُرُوزِهِ ( لِسُرْعَتِهِ وَحَالُ تَقَرُّرِ وُجُودِهِ وَالْبَقَاءِ إنَّمَا هُوَ مَحْكُومٌ بِهِ لِلتَّكْلِيفِ لَا لِلْفِعْلِ أَيْ التَّكْلِيفِ السَّابِقِ عَلَى
الْفِعْلِ يَبْقَى مَعَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ ) أَيْ حَالَةِ الْبُرُوزِ ( وَإِنْ سَبَقَتْ ) الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ( اللَّحْظَةَ ) فِي السُّرْعَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( صَحِيحٌ وَيَكُونُ نَصًّا مِنْ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ التَّكْلِيفَ سَبَقَهُ ) أَيْ الْفِعْلَ ( لَا مَعَ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا نُسِبَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ مَعَ الْمُبَاشَرَةِ ( انْتَفَتْ الْمَعْصِيَةُ ) لِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَهُوَ بَاطِلٌ إجْمَاعًا ( وَتَسَبَّبَ هَذَا الْخَبْطُ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَقْدُورٍ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ) فِي الْبُرْهَانِ : وَالذَّهَابُ إلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ الْفِعْلِ ( مَذْهَبٌ لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ ) أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْقَاعِدَ فِي حَالِ قُعُودِهِ مُكَلَّفٌ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ طَلَبٌ وَالطَّلَبُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا وَعَدَمَ حُصُولِهِ وَقْتَ الطَّلَبِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَبَ كَائِنٌ وَيَقْتَضِي حَاصِلٌ ( وَيَنْفِي ) هَذَا أَيْضًا ( تَكْلِيفُ الْكَافِرِ بِإِيمَانٍ قَبْلَهُ ) أَيْ الْإِيمَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ( وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ لَهَا صَلَاحِيَّةُ التَّأْثِيرِ ) فِي الْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَةِ بِالْإِيجَادِ ( وَ ) الْقُدْرَةُ ( الَّتِي يُقَامُ ) الْفِعْلُ ( بِهَا جُزْئِيٌّ حَقِيقِيٌّ مِنْهَا ) أَيْ الْقُدْرَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ ( وَالْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ ) عَلَى هَذَا الْجُزْئِيِّ مِنْهَا ( الْأَمْثَالُ فَالشَّرْطُ ) لِلتَّكْلِيفِ ( مَثَلٌ سَابِقٌ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الصَّلَاحِيَّةَ ) لِلتَّأْثِيرِ ( لَازِمُ مَاهِيَّتِهَا ) أَيْ الْقُدْرَةِ ( فَيَلْزَمُ ) الصَّلَاحِيَّةَ ( كُلُّ فَرْدٍ ) مِنْ أَفْرَادِهَا ( وَذَاكَ ) أَيْ الْمَثَلُ السَّابِقُ ( مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ فَلِذَا فَسَّرَهَا ) أَيْ الْقُدْرَةَ ( الْحَنَفِيَّةُ
بِهِ ) أَيْ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ ( وَأَمَّا دَفْعُهُ ) أَيْ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ ( بِأَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ ) لِلْفِعْلِ ( مَعَ الدَّاعِيَةِ ) إلَيْهِ ( وَالْقُدْرَةِ ) عَلَيْهِ ( يَجِبُ ) الْفِعْلُ ( فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ ) لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَقْدُورٍ ( فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ ) أَيْ وُجُوبَ الْفِعْلِ حِينَئِذٍ ( وُجُوبٌ عَنْ اخْتِيَارٍ سَابِقٍ فِي الْفِعْلِ وَعَدَمٌ ) لِلْفِعْلِ سَابِقٌ ( مَعَ إمْكَانٍ ) لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ( مُصَحَّحٌ لِلتَّكْلِيفِ حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ الْفِعْلِ ( وَلَيْسَ ) هَذَا الدَّفْعُ بِدَافِعٍ لِذَاكَ الدَّفْعِ ( لِأَنَّ الْوُجُوبَ ) لِلْفِعْلِ ( لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْفِعْلِ ) عَلَى التَّمَامِ ( فِي التَّحْقِيقِ وَالْقُدْرَةِ ) لِلْعَبْدِ ( لَا يُقَامُ بِهَا الْفِعْلُ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ ( بَلْ تُصَاحِبُهُ ) أَيْ الْفِعْلَ ( إذْ لَا يُقَامُ ) الْفِعْلُ عِنْدَهُمْ ( إلَّا بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ أَصْلًا لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( أَصْلًا فَلَيْسَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ ( وَلَا يَسْتَدْعِي ) هَذَا الْمَعْنَى ( الْمَعِيَّةَ ) أَيْ كَوْنَ التَّكْلِيفِ مَعَ الْفِعْلِ ( فَإِنَّ عِنْدَهُ ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا ( يَخْلُقُ ) أَيْ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ ( عَادَةً عِنْدَ الْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ ) عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ فَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : تَوْجِيهُ كَوْنِ الشَّرْطِ سَلَامَةَ آلَاتِ الْفِعْلِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ إلَّا أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا اصْطِلَاحًا فَإِنَّ حَقِيقَةَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا يُقَامُ بِهَا الْفِعْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاشْتِرَاطُ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ أَجْنَبِيٌّ فَالْوَجْهُ كَوْنُ الشَّرْطِ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ مِنْهُ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ ( وَأَيْضًا سَبَقَ
الِاخْتِيَارُ التَّكَلُّفَ بِسَبْقِ مَا قَارَنَهُ ) أَيْ التَّكْلِيفَ وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ كَمَا يُفِيدُهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ ( لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفِعْلِ امْتِثَالًا لِأَنَّهُ ) أَيْ الِامْتِثَالَ ( بِاخْتِيَارِهِ ) أَيْ الْمُكَلَّفِ الْفِعْلَ ( بَعْدَ عِلْمِهِ بِالتَّكْلِيفِ ) وَهُوَ مُنْتَفٍ حَيْثُ كَانَ الْفِعْلُ مُقَارِنًا لِلتَّكْلِيفِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدْرَةَ ) الَّتِي هِيَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ ( إلَى مُمْكِنَةٍ ) عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَأْمُورُ مِنْ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَدَنِيًّا كَانَ أَوْ مَالِيًّا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِهَذَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فِي الْحَجِّ مِنْ قَبِيلِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ ا هـ يَعْنِي وَقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ نَادِرًا وَبِدُونِ الرَّاحِلَةِ كَثِيرًا لَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهِمَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْكَثِيرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِكَثِيرٍ نَادِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ نَادِرًا بَلْ قَدْ يَكُونُ كَثِيرًا وَاعْتُبِرَ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْجُذَامِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ غَالِبٌ وَالثَّانِيَ كَثِيرٌ وَالثَّالِثَ نَادِرٌ ( وَهِيَ السَّابِقَةُ ) أَيْ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةُ أَسْبَابِهِ ( وَمُيَسِّرَةٌ ) عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا .
( وَالْأُولَى ) أَيْ الْمُمْكِنَةُ ( إنْ كَانَ الْفِعْلُ مَعَهَا بِالْعَزْمِ غَالِبًا ) عَلَى الظَّنِّ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّضْيِيقِ ( فَالْوَاجِبُ الْأَدَاءُ عَيْنًا فَإِنْ لَمْ ) يُؤَدِّ ( بِلَا تَقْصِيرٍ ) مِنْهُ فِي تَرْكِ الْأَدَاءِ ( حَتَّى انْقَضَى وَقْتُهُ ) أَيْ الْأَدَاءِ ( لَمْ يَأْثَمْ وَانْتَقَلَ الْوُجُوبُ إلَى قَضَائِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ( إنْ كَانَ ثَمَّةَ خَلْفٌ وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَلَفٌ ( فَلَا قَضَاءَ وَلَا إثْمَ أَوْ ) إنْ لَمْ يُؤَدِّ ( بِتَقْصِيرٍ أَثِمَ عَلَى الْحَالَيْنِ ) أَيْ فِيمَا لَهُ خَلُفَ وَمَا لَا خَلْفَ لَهُ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) الْفِعْلُ مَعَهَا ( غَالِبًا ) عَلَى الظَّنِّ ( وَجَبَ الْأَدَاءُ لِخَلَفِهِ لَا لَعَيْنِهِ ) أَيْ لِيَظْهَرَ الْوُجُوبُ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ فَرْعُ وُجُودِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ( كَالْأَهْلِيَّةِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ ) هَذَا مِثَالُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْأَدَاءُ وَلَا إثْمَ
بِعَدَمِهِ بَلْ لِيَظْهَرَ فِي الْقَضَاءِ يَعْنِي لَوْ كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْوُجُوبِ لِلْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ إلَى أَنْ بَقِيَ مِنْهُ مَا لَا يَتَجَزَّأُ لِلْأَدَاءِ فَيَثْبُتُ أَهْلِيَّتُهُ بِزَوَالِ الصِّغَرِ بِالْبُلُوغِ وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ وَالْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ ( خِلَافًا لِزُفَرَ لِاعْتِبَارِهِ إيَّاهَا ) أَيْ الْأَهْلِيَّةَ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ ( عِنْدَ مَا يَسَعُهُ ) أَيْ الْأَدَاءَ وَالشَّافِعِيُّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِلَا تَقَدُّمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَعَلَّلَ الْمَذْهَبَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ لَا قَطْعَ بِالْأَخِيرِ لِإِمْكَانِ الِامْتِدَادِ ) يَعْنِي لَا قَاطِعَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ آخِرُ الْأَجْزَاءِ بَلْ كُلُّ جُزْءٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ لَيْسَ آخِرًا فَأَيُّ جُزْءٍ كَانَ مَعَهُ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ يَجِبُ عِنْدَهُ التَّكْلِيفُ ( وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا ) أَيْ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ ( لِلْقَضَاءِ ) كَمَا لِلْأَدَاءِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ( لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا ) لِلْأَدَاءِ ( لِاتِّجَاهِ التَّكْلِيفِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ بَقَاءُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ لِاتِّحَادِ سَبَبِهِمَا ) أَيْ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ ( عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ ( فَلَمْ يَتَكَرَّرْ ) الْوُجُوبُ ( لِتَتَكَرَّرَ ) الْقُدْرَةُ ( فَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْكَثِيرَةِ ) قَضَاءً ( فِي آخَرِ نَفَسٍ ) مِنْ الْحَيَاةِ ( عَيْنُ وُجُوبِهَا ) أَدَاءً ( الْمُسْتَكْمِلُ لِشَرْطِهِ ) مِنْ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ الْقَاضِيَ ( قَصَرَ ) حَتَّى ضَاقَ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ وَقْتِ الْحَيَاةِ عَنْ فِعْلِهَا ( وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَجِبْ ) قَضَاءُ الصَّلَاةِ ( إلَّا بِقُدْرَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكٍ ) لِلْقَضَاءِ ( بِلَا عُذْرٍ وَذَلِكَ ) أَيْ عَدَمُ الْإِثْمِ بِالتَّرْكِ ( يُبْطِلُ نَفْيَ وُجُوبِهَا ) قَضَاءً ( فَيَخُصُّ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ } الْآيَةُ الْأَدَاءَ ) فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا انْتِفَاءُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ عَدَمِ الْوُسْعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقَضَاءِ تَكْلِيفًا
قَائِمًا وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّكْلِيفُ السَّابِقُ ابْتِدَاؤُهُ مَعَ عَدَمِ الْوُسْعِ ( كَمَا أَوْجَبَتْهُ ) أَيْ التَّخْصِيصَ ( نُصُوصُ قَضَاءِ الصَّوْمِ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ( وَالصَّلَاةِ ) كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلِيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ( الْمُوجِبَةُ ) هِيَ أَيْ نُصُوصُ الْقَضَاءِ ( الْإِثْمَ بِتَرْكِهِ ) أَيْ الْقَضَاءَ بِلَا عُذْرٍ ( الْمُسْتَلْزِمَ لِتَعَلُّقِهِ ) أَيْ الْقَضَاءِ ( فِي آخَرِ نَفَسٍ وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَأْثَمْ بِالتَّرْكِ بِلَا عُذْرٍ ( انْتَفَى إيجَابُهَا ) أَيْ نُصُوصِ الْقَضَاءِ ( لِلْقَضَاءِ ) لِأَنَّ مُوجِبَ الْفِعْلِ مَعْنَاهُ الْمُثْبِتُ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ مَا يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ ( وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّأْثِيمِ ) بِالتَّرْكِ بِلَا عُذْرٍ ( إجْمَاعٌ عَلَيْهِ ) أَيْ تَخْصِيصِ الْآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ( وَمِنْ الْمُمْكِنَةِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ) أَيْ مِلْكُهُمَا ذَاتًا أَوْ مَنْفَعَةً بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ فِي الرَّاحِلَةِ بِحَيْثُ يَتَوَصَّلُ بِهِمَا إلَى الْحَجِّ ( لِلْحَجِّ ) لِأَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَتِهِ إلَّا بِهِ فِي الْعَادَةِ فِي جِنْسِ الْمُكَلَّفِينَ وَكَوْنُ بَعْضِهِمْ يُقَدَّرُ بِالْمَشْيِ لَا يُعْتَبَرُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ تَوَقَّفَ التَّكْلِيفُ عَلَى مَرَاكِبَ وَخَدَمٍ وَأَعْوَانٍ وَأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَشْرِطْ فِي وُجُوبِهِ ذَلِكَ بَلْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَكْتَرِيَ رَأْسَ زَامِلَةٍ أَوْ شِقٍّ مُحْمَلٍ لَهُ مَعَ زَادِهِ فَإِنَّ بِدُونِ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ قُدْرَةُ السَّفَرِ فِي الْعَادَةِ ( وَالْمَالِ ) أَيْ وَمِلْكُ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ( لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَلَا تَسْقُطُ ) صَدَقَةُ الْفِطْرِ ( بِهَلَاكِهَا ) أَيْ هَذِهِ الْقُدْرَةِ بِوَاسِطَةِ هَلَاكِ الْمَالِ .
( الثَّانِيَةُ الْمُيَسِّرَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْأُولَى بِالْيُسْرِ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى ) عَلَى الْعِبَادِ لِحُصُولِ السُّهُولَةِ فِي الْأَدَاءِ
بِاشْتِرَاطِهَا وَلِهَذَا شُرِطَتْ فِي أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ لَا الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّ أَدَاءَهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْبَدَنِيَّةِ إذْ الْمَالُ مَحْبُوبُ النَّفْسِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ وَمُفَارِقَةُ الْمَحْبُوبِ بِالِاخْتِيَارِ أَمْرٌ شَاقٌّ ( كَالزَّكَاةِ زَادَتْ ) الْقُدْرَةُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا وُجُوبُهَا ( عَلَى أَصْلِ الْإِمْكَانِ ) لِلْفِعْلِ ( كَوْنُ الْمُخْرَجِ قَلِيلًا جِدًّا مِنْ كَثِيرٍ وَكَوْنُهُ ) أَيْ الْمُخْرَجِ وَاقِعًا ( مَرَّةً بَعْدَ الْحَوْلِ الْمُمْكِنِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ فَتَقَيَّدَ الْوُجُوبُ بِهِ ) أَيْ بِالْيُسْرِ ( فَسَقَطَ ) الْوُجُوبُ ( بِالْهَلَاكِ ) لِلْمَالِ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ الَّتِي هِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ إذْ بَقَاؤُهَا شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بِهَا لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ مَتَى وَجَبَ بِوَصْفٍ لَا يَبْقَى إلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَيْنُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً كَالْمِلْكِ إذَا ثَبَتَ مَبِيعًا أَوْ هِبَةً أَوْ إرْثًا يَبْقَى كَذَلِكَ وَهَذَا الْوَاجِبُ وَجَبَ بَعْضُ نَمَاءِ الْمَالِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَانْقَلَبَ غَرَامَةً فَلَا يَكُونُ الْبَاقِي مَا كَانَ وَاجِبًا ابْتِدَاءً ( وَانْتَفَى ) الْوُجُوبُ ( بِالدَّيْنِ ) الَّذِي لَهُ مَطَالِبُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِمُنَافَاتِهِ الْيُسْرَ وَالْغِنَى لِكَوْنِ الْمَالِ مَشْغُولًا بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْيُسْرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا فَضُلَ عَنْهَا وَمِنْ ثَمَّةَ لَا يَجِبُ فِي دُورِ السُّكْنَى وَأَثَاثِ الْمَنْزِلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فَسَقَطَ بِالْهَلَاكِ وَالدَّيْنِ لِأَنَّ السُّقُوطَ فَرْعُ الثُّبُوتِ وَبِالدَّيْنِ لَمْ تَجِبْ مِنْ الِابْتِدَاءِ لَا أَنَّهَا وَجَبَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِمَا لَهُ مُطَالَبٌ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَلَمْ يَنْتِفْ بِالدَّيْنِ الْمَذْكُورِ ( انْقَلَبَ ) الْيُسْرُ ( عُسْرًا ) أَيْ
يَصِيرُ الْوَاجِبُ الْمُقَيَّدُ بِالْيُسْرِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِهِ ( بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ ) لِلنِّصَابِ بَعْدَ تَوَفُّرِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ فِيهِ إنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ ( لِتَعَدِّيهِ ) أَيْ الْمَالِكِ ( عَلَى حَقِّ الْفُقَرَاءِ ) بِالْإِهْلَاكِ حَيْثُ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ أَوْ أَنْفَقَهُ فِي حَاجَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَاشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ إنَّمَا كَانَ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي عَنْ اسْتِحْقَاقِهِ النَّظَرَ فَلَمْ يَسْقُطْ الْوُجُوبُ أَوْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةِ جُعِلَتْ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّعَدِّي وَرَدًّا لِقَصْدِهِ إسْقَاطَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَنَظَرًا لِلْفَقِيرِ ( وَهُوَ ) أَيْ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ ( بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ الْوَاجِبَ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ ( جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ ) أَيْ نَفْسِ الْمَخْرَجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ النِّصَابِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إذْ مَعْلُومٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَالُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : نَفْسَ الْإِيتَاءِ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُوبِ وَمُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ( وَلِذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الزَّكَاةِ جُزْءًا مِنْ الْعَيْنِ ( سَقَطَتْ بِدَفْعِ النِّصَابِ ) أَيْ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ ( بِلَا نِيَّةٍ ) أَصْلًا أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِوُصُولِ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ قُرْبَةً إلَّا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَالْفَرْضُ وُقُوعُهُ قُرْبَةً وَانْتِفَاءُ الْمُزَاحِمَةِ لِأَدَاءِ الْكُلِّ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَكَذَا الْكَفَّارَةُ ) لِلْيَمِينِ وُجُوبُهَا بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ ( بِدَلِيلِ تَخْيِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْأَعْلَى بَيْنَهُ ) أَيْ الْأَعْلَى ( وَبَيْنَ الْأَدْنَى ) أَيْ بَيْنَ التَّحْرِيرِ وَالْكُسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي الْمَالِيَّةِ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا عَادَةً فَإِنَّ هَذَا إذْنٌ لِلْمُخَيَّرِ فِي التَّرَفُّقِ
بِمَا هُوَ الْأَيْسَرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتٍ فِي الصُّورَةِ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ مِقْدَارَ مَالِيَّةِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَانَ مُسَاوِيًا عِنْدَهُمْ لَقِيمَةِ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ فَلَا يُفِيدُ التَّخْيِيرُ فِيهَا التَّيْسِيرَ قَصْدًا بَلْ التَّأْكِيدَ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ وُجُوبُهَا بِقُدْرَةٍ مُمْكِنَةٍ ( وَلَمْ يَشْرُطْ فِي إجْزَاءِ الصَّوْمِ ) فِي الْكَفَّارَةِ ( الْعَجْزَ الْمُسْتَدَامَ ) إلَى الْمَوْتِ ( كَمَا ) شَرَطَ ( فِي الْفِدْيَةِ ) فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ الْمُسِنِّ الْعَاجِزِ عَنْهُ ( وَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ ) الْحَيِّ الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ الْعَاجِزِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ( فَلَوْ أَيْسَرَ ) الْمُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الصِّيَامِ ( لَا يَبْطُلُ ) التَّكْفِيرُ بِهِ بِخِلَافِ الْمُسِنِّ الْعَاجِزِ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ بَعْدَ الْفِدْيَةِ بَطَلَتْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْمَحْجُوجُ عَنْهُ الْمَذْكُورُ فَإِنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ وَكَيْفَ لَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَدَمَهُ فِي الْعُمُرِ لَبَطَلَ تَرَتُّبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهَا حِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ وَبَعْدِهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَحْصُلَ الْقُدْرَةَ فِي الِاسْتِقْبَالِ ( وَلَوْ فَرَّطَ ) الْمُوسِرُ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ( حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ انْتَقَلَ ) وُجُوبُ التَّكْفِيرِ بِهِ ( إلَى الصَّوْمِ ) أَيْ التَّكْفِيرِ بِهِ ( بِخِلَافِ الْحَجِّ ) فَإِنَّهُ لَوْ فَرَّطَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ حَتَّى عَجَزَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ
كَمَا سَلَفَ ( وَإِنَّمَا سَاوَى الِاسْتِهْلَاكُ ) لِلْمَالِ ( الْهَلَاكَ ) فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ وَلَمْ يُسَاوِهِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ ( لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَالِ ) فِي الْكَفَّارَةِ لِلتَّكْفِيرِ بِهِ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا ( بِخِلَافِهِ ) أَيْ الْمَالِ ( فِي الزَّكَاةِ ) فَإِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْوَاجِبَ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمَالِيَّ فِي الْكَفَّارَةِ يَعُودُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ بِإِصَابَةِ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ وَلَا يَعُودُ فِي الزَّكَاةِ فَتَكُونُ دُونَ الزَّكَاةِ وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ لَا بِمَالٍ آخَرَ فَبَعْدَ فَوَاتِ مَا وَجَبَ مِنْهُ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُصُولِ مَالٍ آخَرَ فَلَا يَعُودُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ فِيهَا بِمُطْلَقِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يَصْلُحُ لِلتَّقَرُّبِ الْمُوجِبِ لِلثَّوَابِ السَّاتِرِ لِإِثْمِ الْحِنْثِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ النَّمَاءَ فَكَانَ الْمَالُ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً فِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِهِ ( وَنَقَضَ ) الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِنَاءً عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِهَا مَعَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ الْعِبَادِ ( بِوُجُوبِهَا ) أَيْ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ ( مَعَ الدَّيْنِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ) بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُنَافِيًا لِلْيُسْرِ فِي الزَّكَاةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهَا لَكَانَ مُنَافِيًا لَهُ فِي الْكَفَّارَةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهَا لِكَوْنِ الْمَالِ فِيهِمَا مَشْغُولًا بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ قَضَاءُ الدَّيْنِ لَكِنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ مَعَ الدَّيْنِ فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرْتُمْ بِهِ ( أُجِيبَ بِمَنْعِهِ ) أَيْ وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ مَعَ الدَّيْنِ ( كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ ) أَيْ الْمَشَايِخِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ إجْمَاعًا فَلَا نَقْضَ ( وَبِالْفَرْقِ ) بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْأَخِيرَيْنِ ( بِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِلْأَغْنِيَاءِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى وَهُوَ ) أَيْ الْغِنَى ( مُنْتَفٍ بِالدَّيْنِ ) إنْ اسْتَغْرَقَ ( أَوْ يُقَصِّرُ ) الْغِنَى ( بِقَدْرِهِ ) أَيْ الدَّيْنِ إنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ ( وَالْكَفَّارَةُ ) إنَّمَا شُرِعَتْ ( لِلزَّجْرِ ) لِلْحَالِفِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَالسِّتْرِ ) لِجَنَابَتِهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ( وَالْإِغْنَاءِ غَيْرِ مَقْصُودٍ بِهَا ) بِالذَّاتِ ( وَلِذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِهَا لِلزَّجْرِ وَالسِّتْرِ وَالْإِغْنَاءِ غَيْرِ مَقْصُودٍ بِهَا ( تَأَدَّتْ بِالْعِتْقِ وَالصَّوْمِ ) لِوُجُودِ الزَّجْرِ وَالسَّتْرِ وَانْتِفَاءِ الْغِنَى فِيهِمَا
( مَسْأَلَةٌ قِيلَ ) وَالْقَائِلُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْآمِدِي وَابْنِ الْحَاجِبِ ( حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ ) لِشَيْءٍ ( لَيْسَ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ ) أَيْ لِصِحَّتِهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ ( خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَفَرْضِ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ ) أَيْ الْبَعْضُ ( تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ ) كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلَا يَحْسُنُ بِعَاقِلٍ ) مُخَالَفَةُ هَذَا الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ عَلَى صِرَافَتِهِ مُطْلَقًا كَمَا سَيَظْهَرُ فَلَا يَحْسُنُ نِسْبَتُهَا إلَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْجُلَّةِ الْمُدَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ كُتُبَهُمْ الشَّهِيرَةَ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَعُزِيَ أَيْضًا إلَى أَبِي حَامِدِ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ خُوَيْزَ مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي هَاشِمٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ وَقَيَّدَ الشَّرْطَ بِالشَّرْعِيِّ لِأَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ لِلْفِعْلِ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ بِهِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ لِلْمُكَلَّفِ حَتَّى يَنْتَفِيَ التَّكْلِيفُ بِانْتِفَائِهِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُهُ وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَاسْتِعْمَالُهُ غَالِبًا فِي السَّبَبِ ( بَلْ هِيَ ) أَيْ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ ( تَمَامُ مَحَلِّهِ ) أَيْ النِّزَاعِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْبَيْضَاوِيِّ ( وَالْخِلَافُ ) بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ( فِيهَا غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ) أَيْ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ ( الْمُسْتَلْزِمِ عَدَمَ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ حَالَ الْحَدَثِ بَلْ ) الْخِلَافُ فِيهَا ( ابْتِدَاءٌ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا شَرَطَ فِي صِحَّتِهِ الْإِيمَانَ حَالَ عَدَمِهِ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( فَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ ) مِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِمَا الْإِيمَانُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ ( لِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( لَا لِجِهَةِ
عُمُومِهِ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( وَهُوَ ) أَيْ عُمُومُهُ ( كَوْنُهُ شَرْطًا وَهِيَ ) أَيْ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ ( أَنَّهُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ ) وَكَيْفَ لَا وَهُوَ رَأْسُ الطَّاعَاتِ وَأَسَاسُ الْقُرُبَاتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ ( فَلَا يُجْعَلُ شَرْطًا تَابِعًا فِي التَّكْلِيفِ ) لِمَا هُوَ دُونَهُ لِأَنَّ فِيهِ قَلْبَ الْأُصُولِ وَنَقْضَ الْمَعْقُولِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ثُبُوتَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْأَوَامِرِ الْمُسْتَقِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْفُرُوعِ فَيَكُونُ ثُبُوتُ وُجُوبِهِ بِالْعِبَارَةِ لَا بِالِاقْتِضَاءِ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالْعِبَارَةِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَهُ بِالِاقْتِضَاءِ أَيْضًا وَأَنَّ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِهِمَا وَلَا فَسَادَ نَعَمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِبَارَةُ لَزِمَ الْمَحْذُورُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ( وَمَنْ سِوَاهُمْ ) أَيْ مَشَايِخَ سَمَرْقَنْدَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ( مُتَّفِقُونَ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ ) أَيْ الْكُفَّارِ ( بِهَا ) أَيْ الْفُرُوعِ ( وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ ) أَيْ التَّكْلِيفَ ( فِي حَقِّ الْأَدَاءِ كَالِاعْتِقَادِ أَوْ ) فِي حَقِّ ( الِاعْتِقَادِ ) فَقَطْ ( فَالْعِرَاقِيُّونَ ) الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ ( بِالْأَوَّلِ ) أَيْ الْأَدَاءِ وَالِاعْتِقَادِ ( كَالشَّافِعِيَّةِ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِمَا وَالْبُخَارِيُّونَ ) مُخَاطَبُونَ ( بِالثَّانِي ) أَيْ بِالِاعْتِقَادِ ( فَعَلَيْهِ ) أَيْ تَرْكِهِ ( فَقَطْ يُعَاقَبُونَ وَلَيْسَ ) جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( مَحْفُوظًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ) نَصًّا ( بَلْ أَخَذَهَا ) أَيْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْعِبَادَاتِ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ ( هَؤُلَاءِ ) أَيْ الْبُخَارِيُّونَ ( مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ) فِي الْمَبْسُوطِ ( فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَارْتَدَّ ) ثُمَّ أَسْلَمَ ( لَمْ يَلْزَمْهُ ) مِنْ الْمَنْذُورِ شَيْءٌ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ كُلَّ عِبَادَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا التَّعْلِيلَ الْعِبَادَةَ الْمُؤَدَّاةَ وَهُوَ مَا أَدَّى الْمَنْذُورَ بَعْدُ ( فَعُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ يُبْطِلُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ
بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِسُقُوطِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ ) عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لَهُ ( لِجَوَازِ سُقُوطِهِ ) أَيْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ( بِالْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ بَعْدَ ) الْكُفْرِ ( الْأَصْلِيِّ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَالسُّقُوطُ بِإِسْقَاطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ لَا يَكُونُ دَلِيلُ انْتِفَاءِ أَصْلِ الْوُجُوبِ ( وَلَوْ قِيلَ الرِّدَّةُ تُبْطِلُ الْقُرَبَ ) لِأَنَّهَا حَسَنَاتٌ وَالرِّدَّةُ تُحْبِطُهَا ( وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ فِي الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ فَيَبْطُلُ ) النَّذْرُ ( لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ ) أَيْ أَخْذَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ ظَفِرْت بِمَسَائِلَ عَنْ أَصْحَابِنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُمْ ذَلِكَ وَهِيَ : كَافِرٌ دَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحْرِمًا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَلَوْ حَلَفَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَنِثَ فِيهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَنْقَطِعُ رَجْعَتَهَا بِانْقِطَاعِ دَمِ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَلُزُومِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ رَجْعَتَهَا حَتَّى يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ لُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ : الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ وَاعْتِقَادَهُ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ دُونَ خِطَابِ الشَّرْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَدَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ وَالْخِطَابِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِتَنَاوُلِهِمْ النَّوَاهِيَ لِصِحَّةِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْأَوَامِرِ لِعَدَمِ صِحَّةِ إقْدَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُورَاتِ ( وَظَاهِرُ
) قَوْله تَعَالَى { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وقَوْله تَعَالَى { إلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ( لِلْعِرَاقِيِّينَ ) أَمَّا ظَاهِرُ الْأُولَى فَوَاضِحٌ وَأَمَّا ظَاهِرُ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ لِإِفَادَتِهَا أَنَّ مِمَّا سَلَكَهُمْ فِي سَقَرَ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالْإِطْعَامِ الْوَاجِبَيْنِ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحَالَةِ التَّعْذِيبِ شَرْعًا عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ ( وَخِلَافُهُ ) أَيْ ظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى لَا يَفْعَلُونَ مَا يُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُرَادُ مِنْ الثَّانِيَةِ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُرَادُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } أَوْ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُصَلِّينَ غَيْرَ الْمُكَذِّبِينَ الْمَذْكُورِينَ لِاشْتِمَالِ النَّارِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَتَنَاوُلُ الْمُجْرِمِينَ الْكُلَّ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ قَوْلَ الْمَجْمُوعِ عَلَى التَّوْزِيعِ لَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ الْمُجْرِمِينَ ( تَأْوِيلٌ ) لَمْ يُعَيِّنْهُ دَلِيلٌ ( وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ فِي حَدِيثِ { مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ
تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ ( لَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ التَّكْلِيفِ ) بِوُجُوبِ أَدَاءِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ افْتِرَاضَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَا قَائِلَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ غَايَةً مَا فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّخْفِيفِ فِي التَّبْلِيغِ ( وَأَمَّا ) إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ ( بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فَاتِّفَاقٌ ) وَقَالُوا فِي وَجْهِ الْعُقُوبَاتِ لِأَنَّهَا تُقَامُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ لِتَكُونَ زَاجِرَةً عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا وَبِاعْتِقَادِ حُرْمَتِهَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَالْكُفَّارُ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي وَجْهِ الْمُعَامَلَاتِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَا مَعْنًى دُنْيَوِيٌّ وَذَلِكَ بِهِمْ أَلْيَقُ لِأَنَّهُمْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَلِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( الْفَصْلُ الثَّانِي ) فِي الْحَاكِمِ ( الْحَاكِمُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ الْأَشْعَرِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ ) بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ ( قَبْلَ بَعْثَةٍ ) لِرَسُولٍ إلَيْهِ ( وَبُلُوغِ دَعْوَةٍ ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ ( فَلَا يَحْرُمُ كُفْرٌ وَلَا يَجِبُ إيمَانٌ ) قَبْلَ ذَلِكَ ( وَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَعَلَّقُ ) لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ ( مِمَّا أَدْرَكَ الْعَقْلُ فِيهِ ) مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ( صِفَةَ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ لِذَاتِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ تَقْتَضِيهِمَا كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الْكَذِبِ الْمُضِرِّ ( عِنْدَ قُدَمَائِهِمْ وَ ) عِنْدَ ( طَائِفَةٍ ) مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ ( لِصِفَةٍ ) تُوجِبُهُ فِيهِمَا بِمَعْنَى أَنَّ لَهَا مَدْخَلًا فِي ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِدُونِ الذَّاتِ ( وَالْجُبَّائِيَّةُ ) أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَتْبَاعُهُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ ( لِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ ) مُخْتَلِفَةٍ تُوجِبُهُ فِيهِمَا كَلَطْمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّأْدِيبِ حَسَنٌ وَبِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ التَّعْذِيبِ قَبِيحٌ ( وَقِيلَ ) وَقَائِلُهُ : أَبُو الْحُسَيْنِ : مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ ( لِصِفَةٍ فِي الْقُبْحِ ) فَقَطْ ( وَعَدَمُهَا ) أَيْ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقُبْحِ ( كَافٍ فِي ) ثُبُوتِ ( الْحُسْنِ ) وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى صِفَةٍ مُحَسِّنَةٍ ( وَمَا لَمْ يُدْرِكْ فِيهِ ) الْعَقْلُ صِفَةَ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ كَصَوْمِ آخَرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَفِطْرِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ ( بِالشَّرْعِ وَالْمُدْرَكِ ) مِنْ الصِّفَاتِ ( إمَّا حُسْنُ فِعْلٍ بِحَيْثُ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ ) أَيْ فَذَلِكَ الْفِعْلُ وَاجِبٌ ( وَإِلَّا ) فَإِنْ كَانَ حُسْنُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبُحُ تَرْكُهُ ( فَمَنْدُوبٌ أَوْ ) الْمُدْرَكُ حَسَنٌ ( تُرِكَ عَلَى وِزَانِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( فَحَرَامٌ ) ذَلِكَ الْفِعْلُ إنْ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ الْقُبْحُ ( وَمَكْرُوهٌ ) إنْ لَمْ يَثْبُتْ بِفِعْلِهِ الْقُبْحُ ( وَالْحَنَفِيَّةُ ) قَالُوا ( لِلْفِعْلِ ) صِفَةُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ( كَمَا تَقَدَّمَ ) فِي ذَيْلِ
النَّهْيِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا ( فَلِنَفْسِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( وَغَيْرِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( وَبِهِ ) أَيْ وَبِسَبَبِ مَا بِالْفِعْلِ مِنْ الصِّفَةِ ( يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُكْمَهُ تَعَالَى فِيهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( فَلَا حُكْمَ لَهُ ) أَيْ الْعَقْلِ إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ غَيْرَ أَنَّ الْعَقْلَ ( إنَّمَا اسْتَقَلَّ بَدْرِك بَعْضِ أَحْكَامِهِ تَعَالَى ) فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَهَذَا هُوَ عَيْنُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا كَمَا يُحَرِّفُهُ بَعْضُهُمْ ( ثُمَّ مِنْهُمْ كَأَبِي مَنْصُورٍ مَنْ أَثْبَتَ وُجُوبَ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةَ مَا هُوَ شَنِيعُ إلَيْهِ تَعَالَى كَالْكَذِبِ وَالسَّفَهِ وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعُ ( وُجُوبُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَزَادَ أَبُو مَنْصُورٍ ) وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ ( إيجَابَهُ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ) الَّذِي يُنَاظِرُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ( وَنَقَلُوا عَنْهُ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ الْأَوْلَى التَّصْرِيحَ بِهِ ( لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ لِلنَّاسِ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ وَالْبُخَارِيُّونَ لَا تَعَلُّقَ ) لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بَعْثِهِ رَسُولًا إلَيْهِ وَتَبْلِيغِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ ( كَالْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَحَاصِلُ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ ) وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ ( النَّفْيُ ) لِوُجُوبِ أَدَاءِ الْإِيمَانِ ( عَنْ الصَّبِيِّ لِرِوَايَةِ عَدَمِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ ) أَيْ نِكَاحِ الْمُرَاهِقَةِ وَهِيَ الْمُقَارِبَةُ لِلْبُلُوغِ إذَا كَانَتْ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ تَحْتَ زَوْجٍ مُسْلِمٍ ( بِعَدَمِ وَصْفِ الْمُرَاهِقَةِ الْإِسْلَامَ ) إذَا عَقَلَتْ وَاسْتَوْصَفَتْهُ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى وَصْفِهِ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذْ لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا كَمَا لَوْ بَلَغَتْ غَيْرَ وَاصِفَةٍ وَلَا قَادِرَةٍ عَلَى وَصْفِهِ وَأَمَّا نَفْسُ الْوُجُوبِ فَثَابِتٌ كَمَا يَأْتِي فِي
الْفَصْلِ الرَّابِعِ ( وَفِي الْبَالِغِ ) النَّاشِئِ عَلَى شَاهِقٍ وَنَحْوِهِ إذَا ( لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ لَا يُكَلَّفُ بِهِ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ التَّأَمُّلِ وَقَدْرُهَا ) أَيْ الْمُدَّةِ مُفَوَّضٌ ( إلَيْهِ تَعَالَى ) إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَعْلَمُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمِنْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا قِيلَ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ مُدَّةَ التَّجْرِبَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ لِأَنَّ الْعُقُولَ مُتَفَاوِتَةٌ فَرُبَّ عَاقِلٍ يَهْتَدِي فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ غَيْرُهُ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ ( فَلَوْ مَاتَ قَبْلَهَا ) أَيْ الْمُدَّةِ ( غَيْرَ مُعْتَقِدٍ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا لَا عِقَابَ ) عَلَيْهِ ( أَوْ ) مَاتَ ( مُعْتَقِدًا الْكُفْرَ ) وَاصِفًا لَهُ أَوْ غَيْرَ وَاصِفٍ ( خُلِّدَ ) فِي النَّارِ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ دَلِيلُ خُطُورِ الصَّانِعِ بِبَالِهِ وَوُقُوعُ نَوْعٍ اسْتِدْلَالٌ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ ( وَكَذَا ) يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ( إذَا مَاتَ بَعْدَهَا ) أَيْ الْمُدَّةِ ( غَيْرَ مُعْتَقِدٍ ) إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ الْإِمْهَالَ وَإِدْرَاكَ مُدَّةِ التَّأْمِيلِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي حَقِّ تَنْبِيهِ الْقَلْبِ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ فَلَا يُعْذَرُ ( وَبِهَذَا ) التَّحْرِيرِ ( يَبْطُلُ الْجَمْعُ ) الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ ( بِأَنَّ قَوْلَ الْوُجُوبِ مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ الْعَقْلِ الْفِعْلَ وَالْحُرْمَةُ تَرْجِيحُهُ ) أَيْ الْعَقْلِ ( التَّرْكَ ) هَذَا ( بَعْدَ كَوْنِهِ ) أَيْ هَذَا الْجَمْعِ ( خِلَافَ الظَّاهِرِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبُخَارِيِّينَ ) نَقَلَهُ فِي الْمِيزَانِ عَنْهُمْ بِلَفْظِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِ بُخَارَى وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : ( نَقَلَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ عَيْنِ الدَّوْلَةِ عَنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : أَئِمَّةُ بُخَارَى
الَّذِينَ شَاهَدْنَاهُمْ كَانُوا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي قَوْلَ الْأَشَاعِرَةِ وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رِوَايَةِ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْمُنْتَقَى ثُمَّ فِي الْمِيزَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي غَيْرِهِ كَجَامِعِ الْأَسْرَارِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( فَيَجِبُ ) عَلَى هَذَا ( حَمْلُ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِهِ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ السَّالِفِ ( لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي ) قُلْت : لَكِنَّ بَقِيَّتَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ وَأَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَمَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَجِيءِ الشَّرْعِ لَا يُلَائِمُ حُكْمَهُمْ الْمَذْكُورَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّرَائِعِ حِينَئِذٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ قَدْ خَالَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ ( وَكُلُّهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ ( عَلَى امْتِنَاعِ تَعْذِيبِ الطَّائِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ) لِذَاتِهِ ( فَتَمَّتْ ) مَحَالُّ النِّزَاعِ ( ثَلَاثَةٌ اتِّصَافُ الْفِعْلِ ) بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ ( وَمَنْعُ اسْتِلْزَامِهِ ) أَيْ الِاتِّصَافِ ( حُكْمًا فِي الْعَبْدِ وَإِثْبَاتِهِ ) أَيْ إثْبَاتِ اسْتِلْزَامِ الِاتِّصَافِ حُكْمًا فِي الْعَبْدِ وَهَذَا هُوَ الثَّانِي ( وَاسْتِلْزَامِهِ ) أَيْ الِاتِّصَافِ ( مَنْعَهُمَا ) أَيْ تَعْذِيبَ الطَّائِعِ وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ( مِنْهُ ) تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ ( وَلَا نِزَاعَ فِي دَرْكِهِ ) أَيْ الْعَقْلِ صِفَةً ( لِلْفِعْلِ بِمَعْنَى صِفَةِ الْكَمَالِ ) كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْحُسْنِ ( وَ ) صِفَةِ ( النَّقْصِ ) كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْقَبِيحِ ( كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ ) فَيُقَالُ الْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ ( وَلَا فِيهِمَا بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ ) أَيْ وَلَا نِزَاعَ أَيْضًا فِي إدْرَاكِ الْعَقْلِ الْحُسْنَ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحُسْنُ مِمَّا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْمَدْحِ ( فِي
مَجَارِي الْعَادَاتِ ) وَالْقُبْحُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَبِيحُ مِمَّا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الذَّمِّ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ ( بَلْ ) النِّزَاعُ فِي إدْرَاكِ الْعَقْلِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( فِيهِمَا ) أَيْ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ أَيْ فِيمَا يُطْلَقَانِ عَلَيْهِ ( بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ مَدْحِهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ ) لِلْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنِ ( وَمُقَابِلُهُمَا ) أَيْ وَبِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ ذَمِّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ لِلْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْقَبِيحِ ( لَنَا فِي الْأَوَّلِ ) أَيْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( أَنَّ قُبْحَ الظُّلْمِ وَمُقَابَلَةَ الْإِحْسَانِ بِالْإِسَاءَةِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ حَتَّى مَنْ لَا يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ ) وَلَا يَقُولُ بِشَرْعٍ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَذَلِكَ ( مَعَ اخْتِلَافِ عَادَاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ فَلَوْلَا أَنَّهُ ) أَيْ اتِّصَافَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ ( يُدْرَكُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْفِعْلِ لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ) الِاتِّفَاقُ ( وَمَنْعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَوْنِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُتَعَلِّقَهَا ) أَيْ الْأَحْكَامِ ( مِنْهُ تَعَالَى ) كَمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ( لَا يَمَسُّنَا ) لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ : مُجَرَّدُ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ يَسْتَلْزِمُ حُكْمًا مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوْ لَهُ بَلْ ذَهَبْنَا إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِهِ بِالسَّمْعِ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ فِي دَفْعِ هَذَا الِاتِّصَافِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قَدْ يَكُونُ ( مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ الْأَغْرَاضُ وَالْعَادَاتُ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ فِي نَظَرِ الْعُقُولِ لِتَعَلُّقِ مَصَالِحِ الْكُلِّ بِهِ ) أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ اتِّصَافُهُ بِأَحَدِهِمَا ذَاتِيًّا ( لَا يُفِيدُ ) دَفْعَهُ ( بَلْ هُوَ ) أَيْ الِاتِّصَافُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ ( الْمُرَادُ بِالذَّاتِيِّ ) أَيْ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مَوْصُوفًا بِالْحُسْنِ أَوْ الْقُبْحِ لِذَاتِهِ ( لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ الْيَدِ قَتْلًا ظُلْمًا لَا
تَزِيدُ حَقِيقَتُهَا ) أَيْ حَرَكَتُهَا بِذَلِكَ ( عَلَى حَقِيقَتِهَا ) أَيْ حَرَكَتِهَا قَتْلًا ( عَدْلًا فَلَوْ كَانَ الذَّاتِيُّ ) هُوَ مَا يَكُونُ ( مُقْتَضَى الذَّاتِ اتَّحَدَ لَازِمُهُمَا ) أَيْ الْحَرَكَتَيْنِ ( حُسْنًا وَقُبْحًا ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ( فَإِنَّمَا يُرَادُ ) بِالذَّاتِيِّ ( مَا يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ لِفِعْلٍ مِنْ الصِّفَةِ ) الَّتِي هِيَ الْحُسْنُ أَوْ الْقُبْحُ ( بِمُجَرَّدِ تَعَقُّلِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ حَالَ كَوْنِ هَذَا الْمَجْزُومِ بِهِ ( كَأَيِّنَا عَنْ صِفَةِ نَفْسِ مَنْ قَامَ بِهِ ) ذَلِكَ الْفِعْلُ ( فَبِاعْتِبَارِهَا ) أَيْ تِلْكَ الصِّفَةِ الْجَازِمِ بِهَا الْعَقْلُ لِلْفِعْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( يُوصَفُ ) ذَلِكَ الْفِعْلُ ( بِأَنَّهُ عَدْلٌ حَسَنٌ أَوْ ضِدُّهُ ) أَيْ أَوْ ظُلْمٌ قَبِيحٌ ( هَذَا بِاضْطِرَارِ الدَّلِيلِ ) أَيْ اتِّحَادِ حَرَكَةِ الْيَدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فِي الْقَتْلِ ( وَيُوجِبُ كَوْنُهُ ) أَيْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ ( لِخَارِجٍ ) عَنْ الْفِعْلِ ( وَمِثْلُهُ ) أَيْ الِاتِّفَاقِ عَلَى اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي إفَادَةِ الْمَطْلُوبِ ( تَرْجِيحُ الصِّدْقِ ) أَيْ تَرْجِيحُ الْعَقْلِ إيَّاهُ عَلَى الْكَذِبِ ( مِمَّنْ اسْتَوَى فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ ) مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ ( هُوَ ) أَيْ الصِّدْقُ ( وَالْكَذِبُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِشَرِيعَةٍ ) تُفِيدُ حُسْنَ الصِّدْقِ وَقُبْحَ الْكَذِبِ إذْ لَوْلَا أَنَّ حُسْنَ الصِّدْقِ ثَابِتٌ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْأَشَاعِرَةِ ( بِأَنَّ الْإِيثَارَ ) مِنْ الْعَقْلِ لِلصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ فِي هَذَا ( لَيْسَ لِحُسْنِهِ ) أَيْ الصِّدْقِ ( عِنْدَهُ تَعَالَى ) بَلْ إنَّمَا هُوَ لِحُسْنِهِ فِي حَقِّنَا ( لَيْسَ يَضُرُّنَا ) لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوْ لَهُ بَلْ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ الْمُعْتَزِلَةَ الْقَائِلِينَ بِتَعَلُّقِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَمْعٍ (
نَعَمْ ) يَرُدُّ ( عَلَيْهِ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ ( مَنْعُ التَّرْجِيحِ ) لِلصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ ( عَلَى التَّقْدِيرِ ) أَيْ تَقْدِيرِ عَدَمِ مُسَاوَاةِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ فِي حُصُولِ الْغَرَضِ فَإِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَدْ يُرَجِّحُ الْعَقْلُ الْكَذِبَ عَلَى الصِّدْقِ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِ ( قَالُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ : أَوَّلًا ( لَوْ اتَّصَفَ ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( كَذَلِكَ ) أَيْ اتِّصَافًا ذَاتِيًّا ( لَمْ يَتَخَلَّفْ ) كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَّا اتَّصَفَ بِهِ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ ( وَتَخَلَّفَ ) قُبْحُ الْكَذِبِ ( فِي تَعَيُّنِهِ ) أَيْ الْكَذِبِ طَرِيقًا ( لِعِصْمَةِ نَبِيٍّ ) مِنْ ظَالِمٍ فَإِنَّهُ حَسَنٌ وَاجِبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِبُ تَارَةً وَتَحْرُمُ أُخْرَى ( وَالْجَوَابُ هُوَ ) أَيْ تَعَيُّنُ الْكَذِبِ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ ( عَلَى قُبْحِهِ ) أَيْ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّهُ رَفَعَ الْإِثْمَ عَنْهُ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ رُخْصَةً سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَارَ حَسَنًا لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا لَازَمَهُ مِنْ الْإِنْقَاذِ لِلنَّبِيِّ ( وَحُسْنِ الْإِنْقَاذِ ) أَيْ التَّخْلِيصِ لِلنَّبِيِّ ( يَرْبُو ) أَيْ يَزِيدُ ( قُبْحَ تَرْكِهِ ) أَيْ التَّخْلِيصِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْكَذِبِ الَّذِي بِهِ الْإِنْقَاذُ ( وَغَايَةُ مَا يَسْتَلْزِمُ ) هَذَا ( أَنَّهُمَا ) أَيْ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِيهِ ( لِخَارِجٍ لَكِنَّهُمَا ) أَيْ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ ( مِنْ جِهَتَيْنِ ) فَالْقُبْحُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَالْحَسَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةٌ ( تَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا ) وَهِيَ جِهَةُ الْحُسْنِ عَلَى جِهَةِ الْقُبْحِ ( وَقِيلَ هُوَ ) أَيْ تَعَيُّنُ الْكَذِبِ ( فَرْضُ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ إذْ لَا كَذِبَ إلَّا وَعَنْهُ مَنْدُوحَةُ التَّعْرِيضِ ) أَيْ سِعَتُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُحَصِّلَ النَّجَاةَ بِأَنْ يَذْكُرَ صُورَةَ الْخَبَرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَقَصْدَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ حَسَنًا بَلْ يَبْقَى قَبِيحًا فَإِنْ قِيلَ التَّعْرِيضُ يُوجِبُ عَدَمَ
الْجَزْمِ بِفَهْمِ الْحَقِيقَةِ مِنْ لَفْظٍ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَيَرْتَفِعُ الْوُثُوقُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ أُجِيبَ بِمَنْعِ ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرْعِ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ قَرِينَةٍ يُعْلَمُ بِهَا كَوْنُهُ تَعْرِيضًا لِئَلَّا يَكُونَ إضْلَالًا وَإِيقَاعًا لِلْعِبَادِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فَمَتَى تَجَرَّدَ كَلَامٌ عَنْ قَرِينَةِ إرَادَةِ التَّعْرِيضِ يَجْزِمُ بِالْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ كَالْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ
( قَالُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ثَانِيًا ( لَوْ اتَّصَفَ ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِذَاتِهِ ( اجْتَمَعَ الْمُتَنَافِيَانِ فِي لَأَكْذِبَنَّ غَدًا لِأَنَّ صِدْقَهُ ) أَيْ لَأَكْذِبَنَّ غَدًا ( الَّذِي حَسَّنَهُ بِكَذِبِ غَدٍ ) أَيْ فِيهِ ( فَيَقْبُحُ ) لِكَوْنِهِ كَذِبًا إذْ الْفَرْضُ قُبْحُ الْكَذِبِ لِذَاتِهِ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِيهِ ( وَقَلْبُهُ ) أَيْ وَلِأَنَّ كَذِبَهُ بِعَدَمِ كَذِبِهِ فِي الْغَدِ إمَّا بِصِدْقِهِ فِيهِ أَوْ سُكُوتِهِ فَيَقْبُحُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي الْيَوْمِ فِي لَأَكْذِبَنَّ غَدًا وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَذِبُ فِي الْيَوْمِ قَبِيحٌ فَصِدْقُهُ أَوْ سُكُوتُهُ غَدًا قَبِيحٌ وَالصِّدْقُ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ ( وَمَبْنَاهُ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ ( عَلَى أَنَّ الْمَلْزُومَ لِخَارِجٍ حَسَنٍ حَسَنٌ ) وَالْمَلْزُومَ لِخَارِجٍ قَبِيحٍ قَبِيحٌ كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ ( وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ مِنْ عَدَمِ التَّنَافِي ) بَيْنَ كَوْنِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا ( لِلْجِهَتَيْنِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْمُرَادِ بِالذَّاتِيِّ ) فَيَحْسُنُ مِنْهُ الصِّدْقُ غَدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صِدْقًا وَيَقْبُحُ بِاعْتِبَارِ اسْتِلْزَامِهِ الْكَذِبَ الْيَوْمَ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا بِاعْتِبَارَيْنِ ( فَلَا يَنْتَهِضُ ) هَذَا ( عَلَى أَحَدٍ قَالُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( ثَالِثًا لَوْ اتَّصَفَ ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِذَاتِهِ ( وَهُمَا ) أَيْ الْحَسَنُ وَالْقُبْحُ ( عَرَضَانِ قَامَ الْعَرَضُ ) الَّذِي هُوَ أَحَدُهُمَا ( بِالْعَرَضِ ) الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ ( لِأَنَّ الْحُسْنَ زَائِدٌ ) عَلَى مَفْهُومِ الْفِعْلِ ( وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ غَيْرَ زَائِدٍ بَلْ كَانَ عَيْنَ الْفِعْلِ أَوْ جُزْأَهُ ( كَانَتْ عَقْلِيَّةُ الْفِعْلِ عَقْلِيَّتَهُ ) أَيْ الْحُسْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ يُعْقَلُ الْفِعْلُ وَلَا يُعْقَلُ حُسْنُهُ وَلَا قُبْحُهُ ( وَ ) أَيْضًا الْحُسْنُ وَصْفٌ ( وُجُودِيٌّ لِأَنَّ نَقِيضَهُ ) أَيْ حَسَنٍ ( لَا أَحْسَنَ ) وَهُوَ ( سَلْبٌ وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ غَيْرَ سَلْبٍ ( اسْتَلْزَمَ مَحَلًّا مَوْجُودًا ) لِامْتِنَاعِ
قِيَامِ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ بِالْمَحَلِّ الْمَعْدُومِ ( فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمَعْدُومِ ) لَا أَحْسَنَ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ صِدْقَ اللَّا أَحْسَنَ عَلَى مَعْدُومَاتٍ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ أَحَدُ النَّقِيضَيْنِ سَلْبًا كَانَ الْآخَرُ وُجُودِيًّا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَالْكَلَامُ فِي الْقُبْحِ كَالْكَلَامِ فِي الْحُسْنِ وَكَوْنُ الشَّيْءِ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْمَوْصُوفِ وُجُودِيًّا مَعْنَى الْعَرَضِ ثُمَّ الْفَرْضُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ فَيَكُونُ قَائِمًا بِهِ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَحَلِّ الْفِعْلِ لَا لِلْفِعْلِ ( وَدُفِعَ ) هَذَا الدَّلِيلُ ( بِأَنَّ عَدَمِيَّةَ صُورَةِ السَّلْبِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ مَدْخُولِ الْبَاقِي وُجُودِيًّا وَإِثْبَاتُ وُجُودِيَّتِهِ ) أَيْ مَدْخُولِ الْبَاقِي ( بِعَدَمِيَّتِهَا ) أَيْ صُورَةِ السَّلْبِ ( دَوْرٌ وَعَلَيْهِ ) أَيْ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يُقَالَ ( إنَّمَا أَثْبَتَهُ ) أَيْ وُجُودَ مَدْخُولِ الْبَاقِي ( بِاسْتِلْزَامِ مَحَلٍّ مَوْجُودٍ ، ثُمَّ يَنْتَقِضُ ) الدَّلِيلُ ( بِإِمْكَانِ الْفِعْلِ وَنَحْوِهِ ) كَامْتِنَاعِهِ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ قَدْ يَكُونُ ذَاتِيًّا لِلْفِعْلِ مَعَ إجْرَاءِ الدَّلِيلِ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ الْإِمْكَانُ ذَاتِيًّا لَزِمَ قِيَامُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى لِأَنَّ إمْكَانَ الْفِعْلِ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِهِ وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ تَعَقُّلِ الْفِعْلِ تَعَقُّلُهُ ثُمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا لِأَنَّ نَقِيضَهُ لَا إمْكَانَ وَهُوَ سَلْبٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَلْبًا لَاسْتَلْزَمَ مَحَلًّا مَوْجُودًا فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ضَرُورَةً ( وَلَا يُنْتَقَضُ ) هَذَا الدَّلِيلُ ( بِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ فِعْلٌ بِحُسْنٍ شَرْعِيٍّ ) لِلُزُومِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَإِنَّمَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ ( لَيْسَ عَرَضًا لِأَنَّهُ ) أَيْ حُسْنَهُ ( طَلَبُهُ تَعَالَى الْفِعْلَ )
وَطَلَبُهُ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ وَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ لَا صِفَةٌ لَهُ ( وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صُورَةَ السَّلْبِ قَدْ تَكُونُ وُجُودًا كَالَّلَامَعْدُومِ ) إذْ مَعْنَاهُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَعْدُومٍ ( وَ ) قَدْ تَكُونُ صُورَةُ السَّلْبِ ( مُنْقَسِمًا ) إلَى مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ( كَالَّلَا مُمْتَنِعٍ ) فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) أَنَّهُ لَوْ اتَّصَفَ بِأَحَدِهِمَا لِذَاتِهِ كَانَ الْعَرَضُ قَائِمًا بِالْعَرَضِ ( فَقِيَامُ الْعَرَضِ ) بِالْعَرَضِ ( بِمَعْنَى النَّعْتِ ) لِلْعَرَضِ ( بِهِ ) أَيْ بِالْعَرَضِ ( غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ) بَلْ وَاقِعٌ كَاتِّصَافِ الْحَرَكَةِ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ( إذْ حَقِيقَتُهُ ) أَيْ كَوْنِ الْعَرَضِ قَائِمًا بِالْعَرَضِ بِمَعْنَى النَّعْتِ بِهِ ( عَدَمُ الْقِيَامِ ) لِلْعَرَضِ بِالْعَرَضِ ( خُصُوصًا وَحُسْنُ الْفِعْلِ مَعْنَوِيٌّ إذْ لَيْسَ الْمَحْسُوسُ سِوَى الْفِعْلِ قَالُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( رَابِعًا فِعْلُ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ وَاتِّفَاقِيٌّ لِأَنَّهُ ) أَيْ فِعْلَهُ إنْ كَانَ ( بِلَا مُرَجِّحٍ ) لِوُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ بَلْ كَانَ مِمَّا يَصْدُرُ عَنْهُ تَارَةً وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ أُخْرَى بِلَا تَجَدُّدِ أَمْرٍ فَهُوَ ( الثَّانِي ) أَيْ اتِّفَاقِيٌّ ( وَبِهِ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ بِمُرَجِّحٍ لَهُ بِأَنْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَيْهِ ( فَإِمَّا مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ ( بَاطِلٌ لِلتَّسَلْسُلِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ فِعْلٌ فَيَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ مِنْهُ وَهَلُمَّ جَرًّا ( أَوْ ) بِمُرَجِّحٍ ( لَا مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْعَبْدِ ( فَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْفِعْلُ مَعَهُ ) أَيْ الْمُرَجِّحِ وَذَلِكَ ( بِأَنْ صَحَّ تَرْكُهُ ) أَيْ الْفِعْلِ كَمَا صَحَّ فِعْلُهُ ( عَادَ التَّرْدِيدُ ) وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ بِهِ وَمَا كَانَ بِهِ فَإِمَّا مِنْ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَأَيًّا مَا كَانَ يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ ( وَإِنْ وَجَبَ ) الْفِعْلُ مَعَهُ ( فَاضْطِرَارِيٌّ وَلَا يَتَّصِفَانِ ) أَيْ
الِاضْطِرَارِيُّ وَالِاتِّفَاقِيُّ ( بِهِمَا ) أَيْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ ( مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ ) أَيْ الْفِعْلَ ( بِمُرَجِّحٍ مِنْهُ ) أَيْ الْعَبْدِ ( وَلَيْسَ الِاخْتِيَارُ بِآخَرَ ) أَيْ بِاخْتِيَارٍ آخَرَ لِيَتَسَلْسَلَ ( وَصُدُورُ الْفِعْلِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْمُرَجِّحِ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ لَا الْوُجُوبِ إلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ وَلَوْ سُلِّمَ ) أَنَّ الْمُرَجِّحَ مُوجِبٌ وُجُوبَ الْفِعْلِ ( فَالْوُجُوبُ بِالِاخْتِيَارِ لَا يُوجِبُ الِاضْطِرَارَ الْمُنَافِيَ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ) وَصِحَّةِ التَّكْلِيفِ ( وَدُفِعَ ) هَذَا الدَّفْعُ بِأَنَّهُ ( ثَبَتَ لُزُومُ الِانْتِهَاءِ إلَى مُرَجِّحٍ لَيْسَ مِنْ الْعَبْدِ يَجِبُ مَعَهُ الْفِعْلُ وَيَبْطُلُ اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِهِ ) أَيْ بِالْفِعْلِ ( وَمِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا ( عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ وَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ وَهُوَ ) أَيْ دَفْعُ هَذَا الدَّفْعِ ( رَدُّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ ) لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ أَبَدًا بَلْ بِصِحَّتِهِ مَعَ الْمُرَجِّحِ وَلَا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ بِهِ بَلْ يَسْتَقِلُّ بِهِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ ( وَلَا يَلْزَمُنَا ) مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا ( لِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِيَارِ ) فِي الْفِعْلِ ( عِنْدَنَا كَافٍ فِي الِاتِّصَافِ ) أَيْ فِي اتِّصَافِهِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ وَهَذَا الدَّفْعُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ أَهْلِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ ) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَيْنِ الدَّوْلَةِ عَمَّنْ شَاهَدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ بُخَارَى ( وَجَمْعٍ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَلَا يَنْتَهِضُ مِنْهُمْ ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ ( إذْ مَرْجِعُ نَظَرِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الْجَبْرُ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لَهُ ) أَيْ لِلْعَبْدِ ( فِيهِ ) أَيْ الِاخْتِيَارِ ( أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْكَسْبُ صَرْفُ الْقُدْرَةِ الْمَخْلُوقَةِ ) لِلْعَبْدِ ( إلَى الْقَصْدِ الْمُصَمِّمِ إلَى الْفِعْلِ ) وَظَاهِرُ تَعَلُّقِ الْجَارِّ الْأَوَّلِ بِصَرْفِ الْقُدْرَةِ وَالْجَارِّ الثَّانِي
بِالْقَصْدِ ( فَأَثَرُهَا ) أَيْ قُدْرَةِ اللَّهِ ( فِي الْقَصْدِ وَيَخْلُقُ سُبْحَانَهُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ ) أَيْ الْقَصْدِ ( بِالْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ حَالًّا ) أَيْ وَصْفًا ( غَيْرَ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ ) فِي نَفْسِهِ قَائِمًا بِمَوْجُودٍ ( فَلَيْسَ ) الْكَسْبُ ( بِخَلْقٍ ، وَعَلَيْهِ ) أَيْ ثُبُوتِ الْحَالِ ( جَمْعٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ ) مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوَّلًا ( وَعَلَى نَفْيِهِ ) أَيْ الْحَالِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ( فَكَذَلِكَ ) أَيْ لَيْسَ الْكَسْبُ بِخَلْقٍ أَيْضًا ( عَلَى مَا قِيلَ ) أَيْ قَوْلِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ ( الْخَلْقُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ ) أَيْ لَا فِيمَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ ( وَيَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيجَادِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْكَسْبُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَقَعُ بِهِ ) الْمَقْدُورُ ( فِي مَحَلِّهَا ) أَيْ الْقُدْرَةِ ( وَلَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُ ) أَيْ الْقَادِرِ ( بِإِيجَادِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَأَثَرُ الْخَالِقِ إيجَادُ الْفِعْلِ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ وَأَثَرُ الْكَاسِبِ صُنْعُهُ فِي فِعْلٍ قَائِمٍ بِهِ فَحَرَكَةُ زَيْدٍ مَثَلًا وَقَعَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ وَهُوَ زَيْدٌ وَوَقَعَتْ بِكَسْبِ زَيْدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ قُدْرَةُ زَيْدٍ وَهُوَ نَفْسُ زَيْدٍ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْخَلْقِ بِالْإِنْشَاءِ وَالِاخْتِرَاعِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَعَنْ الْكَسْبِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى ظُهُورِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى الْجَوَارِحِ وَمِنْ هُنَا رَسَمَ بِظُهُورِ أَثَرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ ( وَلَوْ بَطَلَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ ) بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ ( عَلَى تَعَذُّرِهِ ) أَيْ بُطْلَانِهَا ( وَجَبَ تَخْصِيصُ الْقَصْدِ الْمُصَمَّمِ مِنْ عُمُومِ الْخَلْقِ بِالْعَقْلِ ) وَإِنَّمَا وَجَبَ تَخْصِيصُهُ مِنْ عُمُومِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَ الْقَصْدِ الْمُصَمَّمِ مَخْلُوقًا لِلْعَبْدِ ( أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَائِدَةُ خَلْقِ الْقُدْرَةِ )
الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِلْعَبْدِ وَيَنْتَفِي بِهِ الْجَبْرُ ( وَيُتَّجَهُ بِهِ حُسْنُ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَعْقِبِ الْعِقَابَ بِالتَّرْكِ وَالثَّوَابِ بِالْفِعْلِ قَالُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( خَامِسًا لَوْ حَسُنَ ) الْفِعْلُ ( لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ أَوْ اعْتِبَارٍ لَمْ يَكُنْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْتَارًا فِي الْحُكْمِ ) وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ ( يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الصِّفَةِ ) لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ الْمَعْقُولُ قَبِيحٌ لَا يَصِحُّ مِنْ الْبَارِي وَفِي التَّعَيُّنِ نَفْيُ الِاخْتِيَارِ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ ( وَجْهٌ عَامٌّ ) لِرَدِّ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُمْ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ ( وَلَا يَلْزَمُنَا ) مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحُكْمَ ( إذَا كَانَ قَدِيمًا عِنْدَنَا ) كَمَا عِنْدَكُمْ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ النَّفْسِيُّ ( كَيْفَ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ إلْزَامِيٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَدْفُوعٌ عَنْهُمْ بِأَنَّ غَايَتَهُ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ ( أَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي مُوَافَقَةِ تَعَلُّقِ حُكْمِهِ لِلْحِكْمَةِ وَذَلِكَ ) الِاخْتِيَارُ فِي هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ ( لَا يُوجِبُ اضْطِرَارَهُ ) تَعَالَى لِلْحُكْمِ ( وَلَنَا فِي الثَّانِي ) أَيْ عَدَمِ اسْتِلْزَامِ اتِّصَافِ الْفِعْلِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ ( لَوْ تَعَلَّقَ ) الْحُكْمُ بِالْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِالْحُسْنِ ( قَبْلَ الْبِعْثَةِ لَزِمَ التَّعْذِيبُ بِتَرْكِهِ ) أَيْ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْحُكْمُ ( فِي الْجُمْلَةِ ) كَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهِ الْعَفْوُ ( وَهُوَ ) أَيْ التَّعْذِيبُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ( مُنْتَفٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ) قِيلَ أَيْ وَلَا مُثِيبِينَ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الثَّوَابِ بِذَكَرِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَى التَّكْلِيفِ ( وَتَخْصِيصُهُ ) أَيْ الْعَذَابِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا جَرَى
لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ أَوْ بِمَا عَدَا الْإِيمَانِ مِنْ الشَّرَائِعِ تَخْصِيصٌ ( بِلَا دَلِيلٍ ) يُعَيِّنُهُ وَمِنْ الظَّاهِرِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْعَقْلَ ( وَنَفْيُ التَّعْذِيبِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيَ التَّكْلِيفِ ) قَطْعًا ( عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ ) وَمُوَافِقِيهِ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِتَرْكِ مَا كُلِّفَ بِهِ ( خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ) فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ قَطْعًا لِعَدَمِ تَجْوِيزِهِمْ الْعَفْوَ عَنْهُ بِتَرْكِ مَا كُلِّفَ بِهِ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ نَفْيَ التَّعْذِيبِ وَالْأَحْسَنِ فَهُوَ ( يَسْتَلْزِمُهُ ) أَيْ نَفْيَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ ( فِي الْجُمْلَةِ ) يَعْنِي وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ بَعْضِهَا ( وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ ) التَّعْذِيبُ ( فِي مُعَيَّنٍ ) مِنْ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ ( فَنَفْيُهُ ) أَيْ التَّعْذِيبِ ( مُطْلَقًا ) إنَّمَا هُوَ ( لِنَفْيِهِ ) أَيْ التَّكْلِيفِ ( وَأَيْضًا { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } الْآيَةُ ) أَيْ { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْت إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ( لَمْ يَرُدَّ عُذْرَهُمْ وَأَرْسَلَ ) إلَيْهِمْ ( كَيْ لَا يَعْتَذِرُوا بِهِ ) أَيْ بِعَدَمِ إرْسَالِهِ ( وَأَيْضًا { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ) فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحُجَّةِ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَيُفِيدُ أَمْنَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ وَهُوَ مُوجِبٌ عَدَمَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَصْلًا لِكَوْنِ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مُطْلَقًا ( قَالُوا ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ ( لَوْ لَمْ يَثْبُتْ ) حُكْمٌ مَا إلَّا بِالشَّرْعِ ( لَزِمَ إفْحَامُ الْأَنْبِيَاءِ ) أَيْ عَجْزُهُمْ عَنْ إثْبَاتِ الْبَعْثَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَأَتَى بِالْمُعْجِزِ فَحِينَئِذٍ ( إذَا قَالَ ) النَّبِيُّ لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِ ( اُنْظُرْ
) فِي مُعْجِزِي ( لِتَعْلَمَ ) صِدْقِي ( قَالَ لَا أَنْظُرُ ) فِيهِ ( مَا لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ ) أَيْ وُجُوبُ النَّظَرِ ( عَلَيَّ ) إذْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ( وَلَا يَثْبُتُ ) الْوُجُوبُ عَلَى ( مَا لَمْ أَنْظُرْ ) فِي مُعْجِزِكَ إذْ لَا وُجُوبَ بِالْفَرْضِ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ النَّظَرِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الشَّرْعِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ كُلٌّ مِنْ النَّظَرِ وَوُجُوبِهِ عَلَى الْآخَرِ ( أَوْ ) قَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ وَهِيَ لَا يَجِبُ النَّظَرُ عَلَى ( مَا لَمْ يَثْبُتْ الشَّرْعُ إلَى آخِرِهِ ) أَيْ وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ حَتَّى أَنْظُرَ وَأَنَا لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا سَبِيلَ لِلنَّبِيِّ إلَى دَفْعِهِ وَإِفْحَامُهُ بَاطِلٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ عَقْلِيًّا إذْ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا ( وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَثْبُتُ إلَى آخِرِهِ ) أَيْ الْوُجُوبِ عَلَى مَا لَمْ أَنْظُرْ وَمَا لَمْ أَنْظُرْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيَّ ( بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( بِالشَّرْعِ ) نَظَرَ أَوْ لَا ثَبَتَ الشَّرْعُ أَوْ لَا لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ ضَرُورَةَ مُطَابِقَتِهِ إيَّاهُ وَأَيْضًا مَتَى ظَهَرَتْ الْمُعْجِزَةُ فِي نَفْسِهَا وَكَانَ صِدْقُ النَّبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا وَالْمَدْعُوّ مُتَمَكِّنًا مِنْ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وَثَبَتَ وَالْمَدْعُوّ مُفْرِطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَمَّا أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِالْوُجُوبِ لِلْغَافِلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلضَّرُورَةِ أَشَارَ إلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ ( وَلَيْسَ ) وُجُوبُ النَّظَرِ قَبْلَ النَّظَرِ وَثُبُوتُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ ( تَكْلِيفُ غَافِلٍ
بَعْدَ فَهْمِ مَا خُوطِبَ بِهِ ) وَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ الْمَرْدُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ كَالصِّبْيَانِ أَوْ يَفْهَمُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ كَاَلَّذِي لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دَعْوَةُ نَبِيٍّ ( وَمَا قِيلَ ) أَيْ وَمَا اخْتَصَّ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ ( تَصْدِيقُ مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ ) بِدَعْوَاهُ إيَّاهَا وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهَا ( فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ ) عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ التَّكَالِيفِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ ( وَاجِبٌ وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ ( انْتَفَتْ فَائِدَةُ الْبَعْثَةِ ) وَانْتِفَاءُ فَائِدَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُنْتَفٍ وَحِينَئِذٍ ( فَإِمَّا ) وُجُوبُ التَّصْدِيقِ ( بِالشَّرْعِ فَبِنَصٍّ ) أَيْ فَمُعَرِّفٍ وُجُوبَ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا وَحِينَئِذٍ ( فَوُجُوبُ تَصْدِيقِ ) هَذَا الْإِخْبَارِ ( الثَّانِي ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الْمُتَوَقِّفُ وُجُوبُ تَصْدِيقِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ ( لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ ) لِئَلَّا يَلْزَمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ وَتَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَصْدِيقُهُ بِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ ( فَأَمَّا بِالْأَوَّلِ ) أَيْ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ ( فَيَدُورُ أَوْ بِثَالِثٍ ) أَيْ أَوْ بِنَصٍّ ثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا ( فَيَتَسَلْسَلُ ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ ( فَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ ( بِالْعَقْلِ ) وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا عَقْلًا ( وَكَذَا وُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ) أَيْ الشَّارِعِ ( لَوْ ) كَانَ ( بِالشَّرْعِ تَوَقَّفَ ) وُجُوبُهُ ( عَلَى الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ ) الَّذِي هُوَ نَصٌّ ثَانٍ عَلَى ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ ( فَوُجُوبُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الثَّانِي ( إنْ كَانَ
بِالْأَوَّلِ دَارَ وَإِلَّا ) إنْ كَانَ بِثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا ( تَسَلْسَلَ ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ فَوُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحُسْنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا فَمَا قِيلَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( فَجَوَابُهُ ) كَمَا هُوَ مُخْتَصَرُ مَا فِي التَّلْوِيحِ ( أَنَّ اللَّازِمَ ) مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ ( جَزْمُ الْعَقْلِ بِصِدْقِهِ ) أَيْ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ وَبِوُجُوبِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ( اسْتِنْبَاطًا مِنْ دَلِيلِهَا ) أَيْ تَصْدِيقَاتِ إخْبَارَاتِهِ وَوُجُوبَاتِ امْتِثَالَاتِ أَوَامِرِهِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدَيْهِ ( فَأَيْنَ الْوُجُوبُ عَقْلًا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ بَلْ يَتَوَقَّفُ ) الْوُجُوبُ عَقْلًا بِهَذَا الْمَعْنَى ( عَلَى نَصٍّ ) وَعِبَارَةُ التَّلْوِيحِ وَأَمَّا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآجِلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَحْرُمُ كَذِبُهُ أَوْ يَحْكُمُ اللَّهُ الْقَدِيرُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ظُهُورَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكَلُّمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ انْتَهَتْ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ابْتِدَاءُ وُجُوبِ التَّصْدِيقِ وَحُرْمَةُ الْكَذِبِ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا شَرْعًا بِنَصِّ الشَّارِعِ سَوَاءٌ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا مَرَّ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِدَلِيلِهِ الْمَنْصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَا نَصَّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ سِوَى إظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لِصِدْقِ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ
لَيْسَ بِنَصٍّ بِمَعْنَى خِطَابِ الشَّارِعِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا وَلَا خَفَاءَ أَنَّ إثْبَاتَ الْمُعْجِزَةِ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُعْجِزَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَأَيْضًا نَحْنُ نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ ثُمَّ كَذَبَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ قَصْدًا بِلَا تَعْرِيضٍ مُدَّعِيًا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَازِعَ فِي مِثْلِهِ مُكَابِرٌ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَلَى طَرَفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( قَالُوا ) : أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ ( ثَانِيًا ) وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمُوَافِقِيهِ أَيْضًا نَحْنُ ( نَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَارِفِ بِذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ وَصِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَرَدِّ شَرْعٍ أَوْ لَا فَيَحْرُمُ عَقْلًا ) أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ ( أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَطْعَ ) الْمَذْكُورَ ( لِمَا رَكَزَ فِي النُّفُوسِ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ تَنْقَطِعْ مُنْذُ بَعْثَةِ آدَمَ فَتَوَهَّمَ ) بِهَذَا السَّبَبِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْقَطْعَ الْمَذْكُورَ ( بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ ) ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِخَارِجٍ وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ قَالَ ( وَعَلَى أَصْلِنَا ثُبُوتُ الْقُبْحِ ) لِلْفِعْلِ ( فِي الْعَقْلِ ) أَيْ عِنْدَ الْعَقْلِ ( وَعِنْدَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَلْزِمُ عَقْلًا تَكْلِيفُهُ ) بِمَنْعِهِ مِنْ الْفِعْلِ ( بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ تَعَالَى تَرْكُهُ ) أَيْ تَرْكُ تَكْلِيفِهِ ( وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الثَّالِثِ ) أَيْ امْتِنَاعِ تَعْذِيبِ الطَّائِعِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَنَّهُ ( ثَبَتَ بِالْقَاطِعِ اتِّصَافُ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ ) أَيْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( بِهِ ) أَيْ
بِالْقُبْحِ ( تَعَالَى ) اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ( وَأَيْضًا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِدَرْكِهِمَا ) أَيْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( بِمَعْنَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ عَلَى مَا مَرَّ فَبِالضَّرُورَةِ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى ( مَا أَدْرَكَ فِيهِ نَقْصٌ وَحِينَئِذٍ ) أَيْ وَحِينَ كَانَ مُسْتَحِيلًا عَلَيْهِ مَا أَدْرَكَ فِيهِ نَقْصٌ ( ظَهَرَ الْقَطْعُ بِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهِ ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى ( بِالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا ) لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ اتِّصَافُ فِعْلِهِ بِالْقُبْحِ ( يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَنْ صِدْقِ وَعْدِهِ وَ ) صِدْقِ ( خَبَرِ غَيْرِهِ ) أَيْ الْوَعْدِ مِنْهُ تَعَالَى ( وَ ) صِدْقِ ( النُّبُوَّةِ ) أَيْ لَمْ يَجْزِمْ بِصِدْقِهِ أَصْلًا لَا عَقْلًا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا شَرْعًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ لِأَنَّ حُجِّيَّةَ السَّمْعِ بَلْ ثُبُوتُهُ فَرْعُ صِدْقِهِ تَعَالَى إذْ لَوْ جَازَ كَذِبُهُ لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُ لِلنَّبِيِّ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ هَذَا صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ وَإِذَا كَانَ السَّمْعُ مُتَوَقِّفًا عَلَى صِدْقِهِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهُ بِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَجْزِمَ أَيْضًا بِصِدْقِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ أَصْلًا لِجَوَازِ إظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ فَيَنْسَدُّ بَابُ النُّبُوَّةِ وَأَنْ يَرْفَعَ الثِّقَةَ عَنْ كَلَامِهِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُفْرِدْ الْوَعِيدَ بِالذِّكْرِ كَمَا أَفْرَدَ الْوَعْدَ إمَّا اكْتِفَاءً بِدُخُولِهِ فِي خَبَرِ غَيْرِهِ وَإِمَّا مُوَافَقَةً لِلْأَشَاعِرَةِ فِي جَوَازِ الْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ نَقْصًا بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي حَلْبَةِ الْمُجِلِّي وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَخَبَرُ غَيْرِهِ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَاهُ ( وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ كَسَائِرِ الْخَلْقِ الْقَطْعُ بِعَدَمِ اتِّصَافِهِ )
تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ الْقَبَائِحِ ( دُونَ الِاسْتِحَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا بِأَنَّ الْوَاقِعَ أَحَدُ النَّقِيضَيْنِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحَالَةِ الْآخَرِ لَوْ قُدِّرَ ) أَنَّهُ الْوَاقِعُ ( كَالْقَطْعِ بِمَكَّةَ وَبَغْدَادَ ) أَيْ بِوُجُودِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يُحِيلُ عَدَمُهُمَا عَقْلًا ( وَحِينَئِذٍ ) أَيْ وَحِينَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا ( لَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْأَمَانِ ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ عَقْلًا عَدَمُ الْجَزْمِ بِعَدَمِهِ ( وَالْخِلَافُ ) الْجَارِي فِي الِاسْتِحَالَةِ وَالْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ لِهَذَا ( جَارٍ فِي كُلِّ نَقِيصَةٍ أَقُدْرَتُهُ ) تَعَالَى ( عَلَيْهَا مَسْلُوبَةٌ أَمْ هِيَ ) أَيْ النَّقِيصَةُ ( بِهَا ) أَيْ بِقُدْرَتِهِ ( مَشْمُولَةٌ وَالْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ) أَيْ وَالْحَالُ الْقَطْعُ بِعَدَمِ فِعْلِ تِلْكَ النَّقِيصَةِ ( وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى الْأَوَّلِ ) أَيْ أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَيْهَا مَسْلُوبَةٌ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْمُحَالَّاتِ ( وَعَلَيْهِ فَرَّعُوا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَ ) وَامْتِنَاعَ ( تَعْذِيبِ الطَّائِعِ ) وَلَفْظُهُ فِي الْمُسَايَرَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمَّا اسْتَحَالُوا عَلَيْهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَهُمْ لِتَعْذِيبِ الْمُحْسِنِ الَّذِي اسْتَغْرَقَ عُمْرَهُ فِي الطَّاعَةِ مُخَالِفًا لِهَوَى نَفْسِهِ فِي رِضَا مَوْلَاهُ أَمْنَعُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْزِيهَاتِ إذْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحِكْمَةِ فِي فِطَرِ سَائِرِ الْعُقُولِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُبْحِهِ حَيْثُ قَالَ { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } فَجَعَلَهُ سَيِّئًا هَذَا فِي التَّجْوِيزِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ أَمَّا الْوُقُوعُ فَمَقْطُوعٌ بِعَدَمِهِ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لِلْوَعْدِ بِخِلَافِهِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لِذَلِكَ وَلِقُبْحِ خِلَافِهِ (
وَذَكَرْنَا فِي الْمُسَايَرَةِ ) بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ ( أَنَّ الثَّانِي ) أَيْ أَنَّهُ يُقَدَّرُ وَلَا يُفْعَلُ قَطْعًا ( أَدْخَلَ فِي التَّنْزِيهِ ) فَإِنَّ الَّذِي فِي الْمُسَايَرَةِ ثُمَّ قَالَ يَعْنِي صَاحِبَ الْعُمْدَةِ مِنْ مَشَايِخِنَا وَلَا يُوصَفُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ وَالْكَذِبِ لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقْدِرُ وَلَا يَفْعَلُ ا هـ وَلَا شَكَّ أَنَّ سَلْبَ الْقُدْرَةِ عَمَّا ذَكَرَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا ثُبُوتُهَا ثُمَّ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُتَعَلِّقِهَا فَبِمَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ أَلْيَقُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْهَا مِنْ بَابِ التَّنْزِيهَاتِ فَيَسْبُرُ الْعَقْلُ فِي أَنَّ أَيْ الْفَصْلَيْنِ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ عَنْ الْفَحْشَاءِ أَهْوَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مَعَ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُخْتَارًا أَوْ الِامْتِنَاعُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِأَدْخَلِ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّنْزِيهِ ا هـ ( هَذَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قَائِلٌ هُوَ ) أَيْ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ ( لَفْظِيٌّ فَقَوْلُ الْأَشَاعِرَةِ هُوَ إنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ الْعَقْلُ كَوْنَ مَنْ اتَّصَفَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْمِلْكِ لِكُلِّ شَيْءٍ مُتَّصِفًا بِالْجَوْرِ وَمَا لَا يَنْبَغِي إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ مَالِكٌ جَائِرٌ وَلَا يُحِيلُ الْعَقْلَ وُجُودُ مَالِكٍ كَذَلِكَ ) أَيْ جَائِرٌ ( وَلَا يَسَعُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إنْكَارَهُ وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ( يَسْتَحِيلُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قُطِعَ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ اتِّصَافِ هَذَا الْعَزِيزُ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ الْإِلَهُ بِأَقْصَى كَمَالَاتِ الصِّفَاتِ ) وَظَاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِأَقْصَى مُتَعَلِّقٌ بِاتِّصَافٍ ( مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْحِكْمَةِ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فَلِحَظِّهِمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ ( إثْبَاتُ الضَّرُورَةِ ) فِي عَدَمِ تَجْوِيزِهِمْ ذَلِكَ ( بِشَرْطِ الْمَحْمُولِ فِي الْمُتَّصِفِ الْخَارِجِيِّ ) أَيْ الْإِلَهِ الْمُتَّصِفِ بِأَقْصَى كَمَالَاتِ الصِّفَاتِ
( وَالْأَشْعَرِيَّةُ بِالنَّظَرِ إلَى مُجَرَّدِ مَفْهُومِ إلَهٍ وَمَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ ) ثُمَّ لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْأَشَاعِرَةِ بِذِكْرِ مَسْأَلَتَيْنِ هُنَا حَاصِلُهُمَا إثْبَاتُ تَعَلُّقِ حُكْمِهِ تَعَالَى بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَكَانَ اللَّائِقُ ظَاهِرًا أَنْ يُورِدَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعَ الْأَشَاعِرَةِ فِي إبْطَالِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَمْ يُورِدْهُمَا كَذَلِكَ بَلْ أَوْرَدَهُمَا عَلَى وَفْقِ كَلَامِهِمْ لِيُبَيِّنَ مَا فِيهِ مَهْدُ الْعُذْرِ أَوَّلًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ ( وَاسْتَمَرَّ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ تَنَزَّلُوا إلَى اتِّصَافِ الْفِعْلِ ) بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( وَيُبْطِلُوا مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى التَّنَزُّلِ وَنَحْنُ وَإِنْ سَاعَدْنَاهُمْ عَلَى نَفْي التَّعَلُّقِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَكُنَّا نُورِدُ كَلَامَهُمْ لِمَا فِيهِ ) الْمَسْأَلَةِ ( الْأُولَى شُكْرُ الْمُنْعِمِ ) أَيْ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا خَلَقَ لِأَجْلِهِ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُشَاهَدَةِ مَصْنُوعَاتِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى صَانِعِهَا وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي أَوَامِرِهِ وَإِنْذَارَاتِهِ وَاللِّسَانِ إلَى التَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَى مُوَلِّيهَا وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قِيلَ وَهَذَا مَعْنَى الشُّكْرِ حَيْثُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلِهَذَا وَصَفَ الشَّاكِرِينَ بِالْقِلَّةِ فَقَالَ { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } ( لَيْسَ وَاجِبًا عَقْلًا لِأَنَّهُ ) أَيْ الشُّكْرَ ( لَوْ وَجَبَ ) بِالْعَقْلِ ( فَلِفَائِدَةٍ لِبُطْلَانِ الْعَبَثِ ) لِقُبْحِهِ وَإِذْ كَانَ لِفَائِدَةٍ ( فَإِمَّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ وَهِيَ ) أَيْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ ( بَاطِلَةٌ لِتَعَالِيهِ ) أَيْ اللَّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَالْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا ) لِأَنَّ مِنْ شُكْرِهِ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ مَشَقَّةٌ وَتَعَبٌ نَاجِزٌ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ فَبَطَلَ
أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا ( وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ ) لِأَنَّهَا مِنْ الْغَيْبِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ ( وَانْفَصَلَ الْمُعْتَزِلَةُ ) عَنْ هَذَا الِالْتِزَامِ بِأَنَّهُ لِفَائِدَةٍ ( ثُمَّ أَبَانَهَا ) لِلْعَبْدِ ( فِي الدُّنْيَا وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ لِلُزُومِ خُطُورِ مُطَالَبَةِ الْمَلِكِ الْمُنْعِمِ بِالشُّكْرِ ) عَلَى نِعَمِهِ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ الْعِقَابِ إلَّا بِالشُّكْرِ وَالْأَمْنُ مِنْ الْعِقَابِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ وَأَوْفَرِ الْحُظُوظِ إذْ الْفَائِدَةُ كَمَا تَكُونُ جَلْبَ نَفْعٍ تَكُونُ دَفْعَ ضَرَرٍ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَبٌ نَاجِزٌ ( وَمَنَعَ الْأَشْعَرِيَّةُ لُزُومَ الْخُطُورِ ) عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ الشُّكْرِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لِتَسَلُّطِ الْمَنْعِ عَلَى لُزُومِ الْخُطُورِ الْمَذْكُورِ بِبَالِ كُلِّ عَاقِلٍ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِهِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بِشَهَادَةِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِتَسْلِيمِ الْخُطُورِ لِلْبَعْضِ لِإِيجَابِهِمْ الشُّكْرَ عَلَى الْكُلِّ ( وَعَلَى التَّسْلِيمِ ) لِلُزُومِ الْخُطُورِ الْمَذْكُورِ لِلْكُلِّ ( فَمُعَارَضٌ بِأَنَّهُ ) أَيْ شُكْرَ الْعَبْدِ ( تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ) بِالْأَتْعَابِ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ الشَّاقَّةِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ فَإِنَّ مَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَبِأَنَّهُ ) أَيْ شُكْرَ الْعَبْدِ النِّعْمَةَ ( يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ ) فَإِنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ قَدْ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلنِّعْمَةِ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَمْلَكَةِ الْمُنْعِمِ وَعَظَمَتِهِ ثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمُنْعِمِ وَنِعَمِ اللَّهِ الْفَائِضَةِ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْوُجُودِ وَالْقُوَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَالشُّكْرُ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لِأَجْلِهَا لَا يَلِيقُ بِكِبْرِيَائِهِ وَمَا
مَثَلُهُ إلَّا كَمَثَلِ فَقِيرٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مَلِكٌ مَلَكَ الْبِلَادَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَعَمّ الْعِبَادَ وَهْبًا وَنَهْبًا بِلُقْمَةِ خُبْزٍ فَطَفِقَ يَذْكُرُهَا فِي الْمَجَامِعِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ الْفَقِيرِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمَلِكِ وَيُعَدُّ اسْتِهْزَاءً مِنْهُ فَكَذَا شُكْرُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَلَالِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ بَلْ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلِكِ وَمَا يَمْلِكُهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَمَا يَمْلِكُهُ الْمَلِكُ مُتَنَاهٍ وَشُكْرُ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ أَقَلُّ قَدْرًا فِي جَنْبِ اللَّهِ مِنْ شُكْرِ الْفَقِيرِ بِتَحْرِيكِ أُصْبُعِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقَعُ لَائِقًا بِجَنَابِ الْجَبَرُوتِ فَيَكُونُ تَرْكُ الشُّكْرِ وَاجِبًا قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَلَقَدْ طَالَ رَوَاجُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى تَهَافُتِهَا ) أَيْ مَعَ سُقُوطِهَا بَيْنَهُمْ ( فَإِنَّ الْحُكْمَ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ ) بِالْفِعْلِ عَقْلًا ( تَابِعٌ لِعَقْلِيَّةِ مَا فِي الْفِعْلِ ) مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( فَإِذَا عَقَلَ فِيهِ حُسْنَ ) صِفَتِهِ أَنَّهُ ( يَلْزَمُ بِتَرْكِ مَا ) أَيْ الْفِعْلِ الَّذِي ( هُوَ ) أَيْ الْحَسَنُ ( فِيهِ الْقُبْحُ كَحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُسْتَلْزِمِ تَرْكُهُ ) أَيْ شُكْرُهُ ( قُبْحَ الْكُفْرَانِ بِالضَّرُورَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ ) الْعَقْلُ ( حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الشُّكْرِ قَطْعًا وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ ) عَقْلًا ( بِلَا مَرَدٍّ لَمْ يَبْقَ لَنَا حَاجَةٌ فِي تَعْيِينِ فَائِدَةٍ بَلْ نَقْطَعُ بِثُبُوتِهَا ) أَيْ الْفَائِدَةِ ( فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُلِمَ عَيْنُهَا أَوْ لَا ) عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا قَبِيحٌ بَلْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ مَنْ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ أَمَّا مَنْ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْقُبْحِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ مِنَّا الِاسْتِظْلَالُ بِحَائِطِ الْغَيْرِ
وَالِاسْتِصْبَاحُ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَالنَّظَرُ فِي مِرْآتِهِ لِحُصُولِ النَّفْعِ الْخَالِي عَنْ الضَّرَرِ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ حَاصِلٌ دَلَالَةً لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَبِيدُهُ مُضْطَرِّينَ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الطَّعَامِ وَبِحَارُ الشَّرَابِ لَا يَنْقُصُ مِنْ خَزَائِنِهِ شَيْءٌ فَالْعَادَةُ تَحْكُمُ بِالْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ مِنْهَا كَيْ لَا يَهْلَكُوا بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ وَنِعَمُ اللَّهِ فِي ذَاتِهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَإِيجَادِ الْإِنْسَانِ بِقُوَاهُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ لَوْ اجْتَمَعَ الْخَلَائِقُ عَلَى تَحْصِيلِ وَاحِدٍ مِنْهَا لَعَجَزُوا فَالشُّكْرُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً وَكَوْنُهَا قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْدَحُ فِي عِظَمِهَا فِي ذَاتِهَا وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَلَيْسَ هَذَا كَشُكْرِ الْمَلِكِ عَلَى لُقْمَةِ خُبْزٍ لِأَنَّ اللُّقْمَةَ حَقِيرَةٌ فِي الْعُرْفِ يَقْدِرُ عَلَى إعْطَاءِ أَمْثَالِهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَكَانَ شُكْرُهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَلَيْسَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ كَذَلِكَ ا هـ وَأَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو هَاشِمٍ : النِّعْمَةُ إذَا كَانَ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَاجَاتِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِ النِّعَمِ لَا يُعَدُّ شُكْرُهَا اسْتِهْزَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى مِلْكٌ يَمْلِكُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ فَقِيرًا مِائَةَ دِينَارٍ وَتَنْقَضِي حَاجَاتُهُ فِي سَنَةٍ بِهَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَهُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خَزَائِنِ الْمَلِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَلَوْ مَنَعُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( اتِّصَافَ الشُّكْرِ ) بِالْحُسْنِ ( وَالْكُفْرَانِ ) بِالْقُبْحِ ( لَمْ تَصِرْ مَسْأَلَةٌ عَلَى التَّنَزُّلِ ) لِانْتِفَائِهِ بِمَنْعِ الِاتِّصَافِ ( وَكَذَا انْفِصَالُ الْمُعْتَزِلَةِ ) الْمَذْكُورُ يَمْنَعُ صَيْرُورَتَهَا مَسْأَلَةً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( فَإِنَّ دَفْعَ ضَرَرِ خَوْفِ
الْعِقَابِ ) عَلَى التَّرْكِ ( إنَّمَا يَصِحُّ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ ) الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْخَوْفُ ( بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ ) لِلشُّكْرِ ( بِطَرِيقِهِ ) أَيْ الْعِلْمِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ بِطَرِيقِهِ هُوَ ( الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ وَتَسْلِيمُ لُزُومِ الْخُطُورِ وَمُعَارَضَتِهِمْ ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ ( بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلْزَامِيٌّ ) مِنْ الْأَشَاعِرَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ ( إذْ اعْتَرَفُوا ) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ( فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ حُرْمَتَهُ ) أَيْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ( لَيْسَتْ عَقْلِيَّةً وَأَمَّا ) مُعَارَضَتُهُمْ ( بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ فَيُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ ) لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَيْفَ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ شَاكِرٌ حَقِيقَةً وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَعْظِيمِ الْبَاطِنِ وَخَفْضِ الْجُنَاحِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الشُّكْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِتَطَابُقِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ ثُمَّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ حَنَفِيَّةِ بُخَارَى قَالُوا بِقَوْلِ الْأَشَاعِرَةِ فِي عَدَمِ نِسْبَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لِلْعَقْلِ وَقَدْ تَهَافَتَ دَلِيلُهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَذْكُرَ لِأَصْحَابِنَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ( وَالْوَجْهُ فِيهِ ) أَيْ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِلْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَنَّهُ ( لَا طَرِيقَ لِلْعَقْلِ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ مَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالسَّمْعِ ) فِي الْمَسْمُوعَاتِ ( أَوْ الْبَصَرِ ) فِي الْمُبْصَرَاتِ ( وَالْفَرْضُ انْتِفَاؤُهُمَا ) أَيْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ( فِي تَعَلُّقِ حُكْمِهِ ) تَعَالَى بِالْفِعْلِ ( وَدَرْكِ مَا فِي الْفِعْلِ ) مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ ( غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ ) تَكْلِيفَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ( إلَّا لَوْ كَانَ تَرْكُ تَكْلِيفِهِ تَعَالَى يُوجِبُ نَقْصَهُ تَعَالَى وَهُوَ مَمْنُوعٌ ) قَطْعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
الْمَسْأَلَةُ ( الثَّانِيَةُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ ) إذْ هِيَ مَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا كَأَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَيُقَابِلُهَا الِاضْطِرَارِيَّةُ وَهِيَ مَا لَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا كَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَكَانَتْ وَاقِعَةً ( قَبْلَ الْبَعْثَةِ إنْ أَدْرَكَ فِيهَا جِهَةً مُحَسِّنَةً أَوْ مُقَبِّحَةً فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْسِيمِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ ) مِنْ أَنَّ الْمُدْرِكَ إمَّا حُسْنُ فِعْلٍ بِحَيْثُ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ وَإِلَّا فَمَنْدُوبٌ أَوْ تَرْكٌ عَلَى وِزَانِهِ فَحَرَامٌ وَمَكْرُوهٌ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يُدْرِك فِيهَا جِهَةً مُحَسِّنَةً وَلَا مُقَبِّحَةً ( فَلَهُمْ ) أَيْ لِلْمُعْتَزِلَةِ ( فِيهَا ) أَيْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ( الْإِبَاحَةُ ) أَيْ عَدَمُ الْحَرَجِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيِّينَ قَالُوا : وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ هَدَّدَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ بِقَوْلِهِ : خِفْت أَنْ يَكُونَ آثِمًا لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لَمْ يَحْرُمَا إلَّا بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا فَجَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَالْحُرْمَةُ تُعَارِضُ النَّهْيَ ( وَالْحَظْرُ ) أَيْ الْحُرْمَةُ وَثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ( وَالْوَقْفُ ) وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ تَفْسِيرِهِ ( وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ ) أَيْ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ أَنْ يُقَالَ ( إنَّ الْحُكْمَ بِتَعَلُّقِ ) حُكْمٍ ( مُعَيَّنٍ ) لِفِعْلٍ عَقْلًا ( فَرْعُ مَعْرِفَةِ حَالِ الْفِعْلِ ) لَهُ فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَكَيْفَ يُعْرَفُ حُكْمُهُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ( فَإِذَا قَالَ الْمُبِيحُ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْحَصْرِ )
لَعَلَّهُ يُرِيدُ فِي الْمَحْظُورِ وَالْمُبَاحِ ( خَلَقَ ) اللَّهُ ( الْعَبْدَ وَمَا يَنْفَعُهُ ) مِنْ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِهَا ( فَمَنَعَهُ ) أَيْ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْهَا ( وَلَا ضَرَرَ ) عَلَيْهِ ( إخْلَالٌ بِفَائِدَتِهِ ) أَيْ خَلْقِهِمَا ( وَهُوَ ) أَيْ مَنْعُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ( الْعَبَثُ ) وَجَوَابُ إذَا ( فَمُرَادُهُ ) أَيْ الْمُبِيحِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْعَبَثُ ( نَقِيصَةٌ تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ تَعَالَى ) فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ ( وَالْحَاظِرُ ) أَيْ وَإِذَا قَالَ الْحَاظِرُ : الْإِبَاحَةَ ( تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ) بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَحْرُمُ ( فَمُرَادُهُ ) أَيْ الْحَاظِرِ ( يُحْتَمَلُ الْمَنْعُ فَالِاحْتِيَاطُ الْعَقْلِيُّ مَنْعُهُ ) أَيْ الْعَبْدِ مِنْهُ ( فَانْدَفَعَ ) بِهَذَا ( مَا قِيلَ عَلَى الْحَظْرِ بِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بَحْرًا لَا يَنْفَدُ وَاتَّصَفَ بِغَايَةِ الْجُودِ كَيْفَ يُدْرِكُ الْعَقْلُ عُقُوبَتَهُ عَبْدَهُ بِأَخْذِ قَدْرِ سِمْسِمَةٍ ) وَإِنَّمَا انْدَفَعَ بِهَذَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَاظِرَ ( لَمْ يَبْنِ الْحَظْرَ عَلَى دَرْكِ ) الْعَقْلِ ( ذَلِكَ بَلْ ) بَنَاهُ ( عَلَى احْتِمَالِهِ ) أَيْ مَنْعِهِ بِاعْتِبَارِهِ ( أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمَلِكِ بِلَا إذْنِهِ فَيَحْتَاطُ بِمَنْعِهِ وَ ) انْدَفَعَ أَيْضًا ( مَنْعُ أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ عَقْلِيٌّ بَلْ ) هُوَ ( سَمْعِيٌّ وَلَوْ سَلَّمَ ) أَنَّهُ عَقْلِيٌّ ( فِي حَقِّ مَنْ يَتَضَرَّرُ ) بِذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ( وَلَوْ سَلَّمَ ) أَنَّهُ فِي حَقِّ كُلِّ مَالِكٍ ( فَمُعَارَضٌ بِمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّرَرِ النَّاجِزِ وَدَفْعُهُ ) أَيْ الضَّرَرِ النَّاجِزِ ( عَنْ النَّفْسِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَلَيْسَ تَرْكُهُ ) الْفِعْلِ ( لِدَفْعِ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ ) الْحَاصِلِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ( أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ ) الْمُسْتَلْزِمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ النَّاجِزِ بَلْ اعْتِبَارُ الْعَاجِلِ أَوْلَى ( مَعَ مَا فِي هَذَا ) الْجَوَابِ ( مِنْ كَوْنِهِ ) أَيْ الْمَذْكُورِ ( غَيْرَ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ ) أَيْ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ ( فِي نَحْوِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ
مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ ( وَمَا عَلَى الْإِبَاحَةِ ) أَيْ وَانْدَفَعَ أَيْضًا مَا أُورِدَ عَلَيْهَا ( مِنْ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ ) بِهَا مَا ( لَا حَرَجَ عَقْلًا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمُسَلَّمٌ ) وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَلْ النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمُبَاحِ بِإِزَائِهِ وَلِذَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ ( أَوْ خِطَابِ الشَّارِعِ بِهِ فَلَا شَرْعَ ) حِينَئِذٍ ( أَوْ حُكْمِ الْعَقْلِ بِهِ ) أَيْ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا ( فَالْفَرْضُ أَنَّهُ ) أَيْ الْعَقْلَ ( لَا حُكْمَ لَهُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ إذْ يَخْتَارُونَ ) أَيْ الْمُبِيحُونَ ( هَذَا ) وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى ( لِمُلْجِئِ لُزُومِ الْعَبَثِ ) عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِبَاحَةِ وَالْعَبَثُ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَأَمَّا دَفْعُهُ ) أَيْ دَلِيلُ الْمُبِيحِ الْمَذْكُورِ ( بِمَنْعِ قُبْحِ فِعْلٍ لَا فَائِدَةَ لَهُ ) أَيْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ ( بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعَالَى فَيُخْرِجُهُ ) أَيْ هَذَا الْكَلَامُ ( عَنْ التَّنَزُّلِ لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّنَزُّلَ ( دَفَعَهُ ) الْخَصْمُ ( عَلَى تَسْلِيمِ قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ نَعَمْ يَدْفَعُ ) دَلِيلُ الْمُبِيحِ ( بِمَنْعِ الْإِخْلَالِ ) بِفَائِدَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَنْعِ مِنْهُ ( إذْ إرَادَةُ قُدْرَتِهِ ) تَعَالَى ( عَلَى إيجَادِهِ ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ ( مُحَقَّقَةٌ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ ) مِنْ الْفَوَائِدِ ( مِمَّا يَقْصُرُ عَنْ دَرْكِهِ ) الْعَقْلُ فَلَا يَقَعُ إخْلَالٌ بِفَائِدَتِهِ ( وَالْحَاظِرُ ) أَيْ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ ( لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الْحُكْمِ الْأُخْرَوِيِّ ) مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ ( بِثُبُوتِهِ ) أَيْ بِسَبَبِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْحُكْمِ الْأُخْرَوِيِّ ( فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَبْلَ إظْهَارِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ ( لِلْمُكَلَّفِينَ فَكَيْفَ بِاحْتِمَالِهِ ) أَيْ احْتِمَالِ ثُبُوتِهِ ( وَلَا خَوْفَ لِيُحْتَاطَ ) بِمَنْعِهِ ( وَأَمَّا الْوَقْفُ فَفُسِّرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ ) أَصْلًا وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ
الْوَاقِفِيَّةِ ( وَلَيْسَ ) هَذَا ( بِهِ ) أَيْ بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ قَطْعٌ بِعَدَمِ الْحُكْمِ لَا وَقْفٌ عَنْهُ ( وَبِعَدَمِ الْعِلْمِ بِخُصُوصِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ ( فَقِيلَ إنْ كَانَ ) عَدَمُ الْعِلْمِ بِخُصُوصِهِ ( لِلتَّعَارُضِ ) بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ( فَفَاسِدٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا بُطْلَانَهَا ) أَيْ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ( أَوْ لِعَدَمِ الشَّرْعِ ) حِينَئِذٍ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ( فَمُسَلَّمٌ ) وَهُوَ مَذْهَبُنَا ( وَالْحَصْرُ ) فِي التَّوَقُّفِ فِي الْحُكْمِ ( الْأَوَّلِ ) أَيْ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ ( مَمْنُوعٌ بَلْ ) قَدْ يَكُونُ ( لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى خُصُوصِ حُكْمٍ فَإِنْ قُلْت هَذِهِ الْمَذَاهِبُ تُوجِبُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَوْنَ الْحُكْمِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ إذْ لَا تَحَقُّقَ لَهُ ) أَيْ لِلْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ ( إلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَلَا نَفْسِيَّ عِنْدَهُمْ ) فَكَيْفَ تَصَوَّرْت هَذِهِ الْمَذَاهِبَ عَلَى أُصُولِهِمْ ( فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِهِ ) أَيْ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ ( عَلَيْهَا ) أَيْ الْبَعْثَةِ ( لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ ) أَيْ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ ( عَلَيْهَا ) أَيْ الْبَعْثَةِ ( كَخِطَابَاتِهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ ) أَيْ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَالصَّوَابُ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفْسِيرُ ( الثَّانِي ) أَيْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِخُصُوصِ الْحُكْمِ ( لِعَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ ) أَيْ الْأَشْعَرِيِّ ( أَيْ فِيهَا ) أَيْ الْأَفْعَالِ ( حُكْمٌ لَا يَدْرِي مَا هُوَ إلَّا فِي الْبَعْثَةِ ) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْرِي بِالشَّرْعِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحُكْمَ ( يَتَعَلَّقُ ) بِالْأَفْعَالِ ( فَيَعْلَمُهُ ) الْمُكَلِّفُ ( فَمَحَلُّ وَقْفِ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُهُ ) أَيْ وَقْفِ الْمُعْتَزِلَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَقْفَ ( عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ عَنْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ ) بِالْأَفْعَالِ ( وَلَا يُتَصَوَّرُ ) وُجُودُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ ( عِنْدَهُ ) أَيْ الْأَشْعَرِيِّ (
قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَحَاصِلُهُ ) أَيْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ ( إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا سَيَظْهَرُ تَعَلُّقُهُ ) أَيْ التَّنْجِيزِيِّ بِالْفِعْلِ ( وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّ نَافٍ لِلتَّعَلُّقِ ) التَّنْجِيزِيِّ ( قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ ( بِهِ ) أَيْ بِالْأَشْعَرِيِّ ( كَمَا لَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِهِمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ ( تَعَلُّقَهُ ) أَيْ الْحُكْمِ بِالْأَفْعَالِ ( مَعَ فَرْضِ عَدَمِ عِلْمِهِ ) أَيْ الْمُكَلَّفِ بِهِ ( مَعَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُونَ ( لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ بَلْ الثُّبُوتُ ) فِي حَقِّهِمْ ( مَعَ التَّعَلُّقِ ) بِأَفْعَالِهِمْ التَّعَلُّقَ التَّنْجِيزَيَّ ( وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّعَلُّقِ ) لِأَنَّهَا إمَّا الْأَدَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ قَبْلَ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِعَيْنِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ وَبِكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْعِ وَإِمَّا تَرَتُّبُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ( وَلَوْ قَالُوهُ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ الْوَقْفَ ( كَالْأَشْعَرِيِّ كَانَ ) ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ قَوْلًا ( بِلَا دَلِيلٍ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ لَفْظٍ فِيهِ ) أَيْ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ( أَصْلًا ) وَلَا نَفْسِيَّ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ بِهِ ( بِخِلَافِ الْأَشْعَرِيِّ ) فَإِنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّهُ ( وَجَبَ ثُبُوتُ النَّفْسِيِّ أَوَّلًا ) وَبِهِ كِفَايَةٌ إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ فَسَّرَ الْوَقْفَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُتِمَّ لَهُ هَذَا وَإِنَّمَا يُتِمُّ لِلْمُصَنِّفِ وَلِأُولَئِكَ الْبُخَارِيِّينَ وَمَنْ عَسَاهُ وَافَقَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ التَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ لَهُ أَيْضًا (
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَفْعَالِ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْحَظْرُ فَقِيلَ ) إنَّمَا هُوَ ( بَعْدَ الشَّرْعِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ أَيْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْخِلَافِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ السَّمْعِيَّ لَوْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بَطَلَ قَوْلُهُمْ ) أَيْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ ( لَا عِلْمَ قَبْلَهَا ) أَيْ الْبِعْثَةِ ( فَإِنْ أَمْكَنَ فِي الْإِبَاحَةِ تَأْوِيلُهُ ) أَيْ قَوْلِهِمْ لَا عِلْمَ قَبْلَهَا ( بِأَنْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمَعْلُومٌ مِنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ ) فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ ( ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِ الْحَظْرِ ) لِلْمُؤَاخَذَةِ فِيهِ عَلَى التَّرْكِ ( وَلَوْ أَرَادُوا ) أَنَّ بِمَحَلِّ الْخِلَافِ ( حُكْمًا بِلَا تَعَلُّقٍ بِمَعْنَى قِدَمِ الْكَلَامِ لَمْ يُتَّجَهْ إذْ بِالتَّعَلُّقِ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ الْأَفْعَالِ مُبَاحَةً وَلَا مَحْظُورَةً فِي كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّ اللَّفْظِيَّ دَلِيلُهُ ) أَيْ النَّفْسِيِّ وَهُوَ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِمَا النَّوْعَيْنِ فَبَطَلَ كُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ ( وَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا عَلَى التَّنَزُّلِ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ جَيِّدٌ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْخِلَافَ ( أَقْوَالٌ مُقَرَّرَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَقَدْ اسْتَبْعَدَهُ ) أَيْ قَوْلَهُمْ هَذَا ، مُرَادًا بِالْإِبَاحَةِ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ( فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ : لَا نَقُولُ بِهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى ) أَيْ مُهْمَلِينَ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ ( فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } ( وَإِنَّمَا هَذَا ) أَيْ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ( بِنَاءً عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ ) الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَوُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فَلَمْ يَبْقَ الِاعْتِقَادُ وَالْوُثُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِقَابِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُحَرِّمٌ وَلَا مُبِيحٌ وَحَاصِلُهُ ) أَيْ هَذَا الْكَلَامُ ( تَقْيِيدُهُ ) أَيْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ ( ذَلِكَ ) أَيْ كَوْنَ الْأَصْلِ الْإِبَاحَةُ ( بِزَمَانِ عَدَمِ الْوُثُوقِ ) الْمَذْكُورِ فَإِنْ قِيلَ كَمْ أُمَّةٍ فِي الْفَتْرَةِ وَلَمْ يَخْلُ فِيهَا نَذِيرٌ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ آثَارُ النِّذَارَةِ بَاقِيَةً لَمْ يَخْلُ مِنْ نَذِيرٍ إلَى أَنْ تَنْدَرِسَ وَحِينَ انْدَرَسَتْ آثَارُ نُبُوَّةِ عِيسَى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ هَذَا وَلَمْ يَقِفْ الْعَبْدُ عَلَى نَقْلِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَكَذَا بَلْ الْمَذْكُورُ فِي مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا الْمَقْبُولَةِ الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَفِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْإِسْنَوِيُّ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا قَبْلَ وُرُودِهِ فَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ كَمَا تَقَدَّمَ ا هـ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ إلَخْ وَلَكِنْ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ .
ثُمَّ الَّذِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ الْأَمْوَالَ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ مَا لَمْ تَظْهَرْ عِلَّةُ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ أَبَاحَ الْأَمْوَالَ بِقَوْلِهِ { الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَالْأَنْفُسُ أَنْفُسُ الْآدَمِيِّينَ مَعَ الْأَطْرَافِ عَلَى الْحُرْمَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُمْ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْإِتْلَافِ وَالْعِصْمَةُ عَنْ الْإِتْلَافِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِحُرْمَةِ الْإِتْلَافِ نَفْسًا وَأَطْرَافًا وَلِهَذَا
الْمَعْنَى قَالَ أَصْحَابُنَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ جَائِزٌ وَفِي الْأَنْفُسِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْأَبْضَاعِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَفِي الْأَطْرَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ أَلْحَقَ الْأَطْرَافَ بِالْأَمْوَالِ وَهُمَا أَتْبَعَا الْأَطْرَافَ أُصُولَهَا وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَبْضَاعَ بِالْأَنْفُسِ وَهُمَا أَلْحَقَاهَا بِالْأَمْوَالِ ا هـ .
ثُمَّ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى مِنْ الْوَضْعِ فِي الْمَنَافِعِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ اسْتِثْنَاءِ أَمْوَالِنَا وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَثْنَاهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ الْوَضْعِ فِي الْمَنَافِعِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالتَّأَمُّلِ فَلْيُتَأَمَّلْ ثُمَّ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ لَا تَمْنَعُ اخْتِصَاصَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ بِبَعْضِ الْأَنَاسِيَّ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لِلْكُلِّ لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمَّ هَذَا
( تَنْبِيهٌ بَعْدَ إثْبَاتِ الْحَنَفِيَّةِ اتِّصَافَ الْأَفْعَالِ ) بِكُلٍّ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ( لِذَاتِهَا ) أَيْ لِمَعْنًى ثَبَتَ فِي ذَاتِ الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ كَانَ لَعَيْنِهَا أَوْ لِجُزْئِهَا ( وَغَيْرِهَا ) أَيْ وَلِمَعْنًى ثَبَتَ فِي غَيْرِ ذَاتِهَا ( ضَبَطُوا مُتَعَلِّقَاتِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ مِنْهَا ) أَيْ الْأَفْعَالِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ( بِالِاسْتِقْرَاءِ فِيمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ حَسَنًا لَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ كَالْإِيمَانِ ) أَيْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ( فَلَمْ يَسْقُطْ ) وُجُوبُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ حَتَّى ( وَلَا بِالْإِكْرَاهِ ) عَلَى تَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ( أَوْ يَقْبَلُهُ ) وَالْأَحْسَنُ وَيَقْبَلُهُ أَيْ وَفِيمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ حُسْنًا يَقْبَلُ السُّقُوطَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ( كَالصَّلَاةِ ) فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ أَوَّلَهَا الطَّهَارَةُ سِرًّا وَجَهْرًا ثُمَّ جَمْعُ الْهِمَّةِ وَإِخْلَاءُ السِّرِّ وَالِانْصِرَافُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَصْدِ إلَيْهِ وَهُوَ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى تَحْقِيقِ الِانْصِرَافِ بِنَبْذِ مَا سِوَاهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ أَوْ إلَى نَفْيِ الْكِبْرِيَاءِ عَمَّا سِوَاهُ ثُمَّ أَوَّلُ أَذْكَارِهَا التَّكْبِيرُ وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّعْظِيمِ الْقَوْلِيِّ وَأَوَّلُ ثَنَائِهَا ثَنَاءٌ لَا يَشُوبُهُ ذِكْرُ مَا سِوَاهُ ثُمَّ الْقِيَامُ مَعَ وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ صَارِفًا نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ تَعْظِيمٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ إعْقَابُهُ بِالرُّكُوعِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْظِيمِ ثُمَّ إلْحَاقُ السُّجُودِ بِهِ بِوَضْعِ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ عَلَى التُّرَابِ نِهَايَةٌ فِي التَّعْظِيمِ الْفِعْلِيِّ ثُمَّ مَا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ تَعْظِيمٌ فِي تَعْظِيمٍ وَتَعْظِيمُ اللَّهِ حَسَنٌ فِي
ذَاتِهِ إلَّا أَنَّهَا ( مُنِعَتْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ) أَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ لِمَا عُرِفَ ثَمَّةَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مِنْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَسَقَطَتْ أَصْلًا بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إجْمَاعًا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَالْوَجْهُ إنْ كَانَ ) حُسْنُ الْأَفْعَالِ ( لِذَاتِهَا لَا يَتَخَلَّفُ ) عَنْهَا أَصْلًا لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يُفَارِقُهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً ( فَحُرْمَتُهَا ) أَيْ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ لِذَاتِهَا حَيْثُ تَكُونُ إنَّمَا تَكُونُ ( لِعُرُوضِ قُبْحٍ بِخَارِجٍ ) عَنْ ذَاتِهَا مُتَلَبِّسٍ بِهَا فَعَلَى هَذَا حُسْنُ الصَّلَاةِ إذْ كَانَ ذَاتِيًّا لَا يَسْقُطُ أَصْلًا حَتَّى وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنَّمَا مُنِعَتْ فِي الثَّلَاثَةِ مِنْهَا لِعُرُوضِ شَبَهِ فَاعِلِهَا بِالْكُفَّارِ فِي السُّجُودِ لِلشَّمْسِ كَمَا نَبَّهَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَفِي غَيْرِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَوْنِ ذَلِكَ الْقُبْحُ الْعَارِضُ يَرْبُو عِنْدَ الشَّارِعِ دَفْعُ حُصُولِهِ عَلَى حُصُولِ الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ لَهَا وَقْتَئِذٍ وَلَا بِدَعْ فِي ذَلِكَ ( وَمَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهِ ) أَيْ بِالْحُسْنِ لِنَفْسِهِ ( مَا لِغَيْرِهِ ) وَالْوَجْهُ مِمَّا لِغَيْرِهِ أَيْ حَسَنٌ لِغَيْرِ ذَاتِهِ حَالَ كَوْنِ الْغَيْرِ ( بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ) فَإِنَّ حُسْنَهَا ( لِسَدِّ الْخَلَّةِ ) أَيْ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْوَجْهُ لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ فَإِنَّهَا الْكَائِنَةُ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَلَيْهَا بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ دَفْعِهَا فَإِنَّهُ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ دَخْلٌ ( وَقَهْرُ عَدُوِّهِ تَعَالَى ) وَهُوَ النَّفْسُ الْأَمَارَةُ بِالسُّوءِ بِكَفِّهَا عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَقَدْ وَقَعَ
هَذَا لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَالْوَجْهُ وَلِلشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا الثَّابِتَةُ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَلَيْهَا بِلَا اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَهْرِهَا فَإِنَّهُ مِمَّا لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ دَخْلٌ ( وَشَرَفُ الْمَكَانِ ) أَيْ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ بِزِيَارَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّ شَرَفَهُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ إذْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ وَإِلَّا فَتَنْقِيصُ الْمَالِ وَكَفُّ مَمْلُوكِ اللَّهِ عَنْ نِعَمِهِ الْمُبَاحَةِ لَهُ وَقَطْعُ مَسَافَةٍ مَدِيدَةٍ وَزِيَارَةِ أَمْكِنَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَسَائِطُ عَلَى مَا حَرَّرْنَاهُ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حُكْمًا فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ حَسَنَةً خَالِصَةً مِنْ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِلْعَبْدِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالصَّلَاةِ وَمِنْ ثَمَّةَ شُرِطَتْ فِيهَا الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ كَالصَّلَاةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ثُمَّ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَذَهَبَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَنَّ الْغَيْرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ لَكِنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ .
وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَارْتَفَعَ الْوَسَائِطُ فَصَارَتْ تَعَبُّدًا مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي الْخَارِجِ هِيَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ لَا شَيْءٌ آخَرُ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ وَسَائِطَ لِانْتِفَاءِ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ وَتَعَقَّبَهُ فِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ نَفْسَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَفِيهِ نَظَرٌ وَتَعَقَّبَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا إذْ الْوَاسِطَةُ مَا يَكُونُ حُسْنُ الْفِعْلِ لِأَجْلِ حُسْنِهَا وَظَاهِرٌ أَنَّ
نَفْسَ الْحَاجَةِ وَالشَّهْوَةِ لَيْسَتْ ذَلِكَ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ حَسَنًا لِأَجْلِ وَاسِطَةٍ أَنْ تَكُونَ الْوَاسِطَةُ حَسَنَةً وَنَظِيرُهُ الْكَلَامُ مُتَّصِفٌ بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّصِفًا بِهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَ ( مَا ) حَسُنَ ( لِغَيْرِهِ ) حَالَ كَوْنِهِ ( غَيْرَ مُلْحَقٍ ) بِمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ ( كَالْجِهَادِ وَالْحَدِّ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ) فَإِنَّ حُسْنَهَا ( بِوَاسِطَةِ الْكُفْرِ ) أَيْ كُفْرِ الْكَافِرِ كَمَا فِي الْجِهَادِ لِأَنَّ فِيهِ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ وَكَبْتَ أَعْدَائِهِ ( وَالزَّجْرَ ) لِلْجَانِي عَنْ الْمَعَاصِي كَمَا فِي الْحَدِّ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِهَذَا الْمَعْنَى ( وَالْمَيِّتُ الْمُسْلِمُ غَيْرُ الْبَاغِي ) وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ أَيْضًا أَيْ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِقَضَاءِ حَقِّهِ وَلِهَذَا لَوْ انْتَفَى الْكُفْرُ انْتَفَى الْجِهَادُ أَوْ الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ انْتَفَى الْحَدُّ أَوْ إسْلَامُ الْمَيِّتِ أَوْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ انْتَفَتْ شَرْعِيَّتُهَا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَخْرِيبِ بِلَادِ اللَّهِ وَقَتْلِ عِبَادِ اللَّهِ وَإِيلَامِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَالصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ بِدُونِ الْمَيِّتِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِحَسَنٍ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا ( اُعْتُبِرَتْ الْوَسَائِطُ ) فِي هَذَا الْقِسْمِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ الْوَسَائِطَ ( بِاخْتِيَارِهِ ) أَيْ الْعَبْدِ الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَمْ تُضَفْ إلَيْهِ تَعَالَى هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَأَشَارَ فِي التَّلْوِيحِ إلَى تَعَقُّبِهِ بِمِثْلِ التَّعَقُّبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَبْلَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ وَذَهَبَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الْجِهَادِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا يَتَأَدَّى بِعَيْنِهِمَا كَانَا شَبِيهَيْنِ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ
لِأَنَّ مَفْهُومَ الْجِهَادِ الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ وَأَمْثَالُهُمَا وَهَذَا لَيْسَ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فِي الْخَارِجِ صَارَ إعْلَاؤُهَا كَالسَّقْيِ فِي الْمَفْهُومِ هُوَ غَيْرُ الْإِرْوَاءِ وَلَكِنْ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُهُ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي الْبَاقِي قِيلَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هُنَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُوَ الْجِهَادُ وَنَحْوُهُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي يَتَأَدَّى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ أَمَّا كَوْنُ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَقْصُودًا مِنْ الْجِهَادِ فَلِأَنَّ الْجِهَادَ فِي نَفْسِهِ تَخْرِيبُ بُنْيَانِ الرَّبِّ وَبِلَادِهِ فَلَا جِهَةَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ وَكَذَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِلَا مَيِّتٍ عَبَثٌ وَالْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُغَايِرَةً لَهَا مَفْهُومًا هِيَ عَيْنُهَا خَارِجًا لِأَنَّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَالصَّلَاةِ فِي الْخَارِجِ يَحْصُلُ الْإِعْلَاءُ وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَأَمَّا كَوْنُ كُفْرِ الْكَافِرِ وَإِسْلَامِ الْمَيِّتِ سَبَبًا لِلْمَقْصُودِ فَلِشَرْعِيَّةِ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ لِلْإِعْلَاءِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا جَعَلُوا كُفْرَ الْكَافِرِ وَنَحْوَهُ وَاسِطَةً لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قُلْت وَيَتَلَخَّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ السَّبَبُ الْمُفْضِي لِوُجُوبِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالْغَرَضُ الْمُرَتَّبُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ وَيَبْقَى الشَّأْنُ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ فِي الِاعْتِبَارِ وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَلَعَلَّ الثَّانِي أَرْجَحُ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْغَيْرَ السَّبَبَ إلَّا مَعَ مُلَاحَظَةِ تَرَتُّبِ الْغَرَضِ عَلَى مُسَبِّبِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَتَقَدَّمَ أَقْسَامُ مُتَعَلِّقَاتِ النَّهْيِ ) مَا بَيْنَ حِسِّيٍّ وَشَرْعِيٍّ
وَبَيَانِ الْمُتَّصِفِ مِنْهَا بِالْقُبْحِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي تَنْبِيهٍ فِي ذَيْلِ النَّهْيِ ( وَكُلُّهَا ) أَيْ مُتَعَلِّقَاتِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ ( يَلْزَمُهُ حُسْنُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ ) لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ قَبِيحٌ فَلَا يُجْعَلُ مِنْ أَقْسَامِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ خَاصَّةً كَمَا فَعَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مَعَ بَيَانِ انْقِسَامِهَا إلَى مُمْكِنَةٍ وَمُيَسَّرَةٍ عِنْدَ مَشَايِخِنَا فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ ثُمَّ بَقِيَ هُنَا أُمُورٌ يَحْسُنُ التَّنَبُّهُ لَهَا الْأَوَّلُ إنَّ جَعْلَ الْمُصَنِّفِ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالْحُسْنِ لِنَفْسِهِ وَحُسْنِهِ لِغَيْرِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ إنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِ لَكِنَّهُ مُشَابِهٌ بِمَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَمِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْبَدِيعِ إنَّهُ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَمِمَّا يُوَافِقُ صَنِيعَ الْمُصَنِّفِ تَصْرِيحُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْحَسَنَ لِنَفْسِهِ وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِالْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَفِيمَا لِغَيْرِهِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ مُلْحَقًا بِمَا لِنَفْسِهِ .
الثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَغْفَلَ قِسْمًا يَكُونُ خَامِسًا لِهَذِهِ وَهُوَ مَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ غَيْرِ مُلْحَقٍ بِالْحَسَنِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَتَأَدَّى الْغَيْرُ بِهِ كَالْوُضُوءِ وَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ فَإِنَّ ذَاتَيْهِمَا اللَّتَيْنِ هُمَا الْغُسْلُ وَالْمَسْحُ لِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ وَنَفْلُ الْأَقْدَامِ لَيْسَتَا بِحَسَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا حُسْنُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِمَا إلَى الصَّلَاةِ وَيُتَمَكَّنُ مِنْهَا بِهِمَا وَهِيَ فِعْلُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِمَا وَلَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْجِهَادِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مُلْحَقٍ بِالْحَسَنِ لِنَفْسِهِ فَالْغَيْرُ الَّذِي هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ مُتَأَدِّيًا بِالْجِهَادِ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ ذَكَرَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَوَافَقَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ
عَلَيْهَا وَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَالْمَعْنَى فِي وَضْعِهِ كَالصَّلَاةِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِوَضْعِهِ بِوَاسِطَةٍ كَالزَّكَاةِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيَحْصُلُ الْمَعْنَى بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ نَحْوُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا مَعَهَا وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيَحْصُلُ بَعْدَهُ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ كَالْوُضُوءِ وَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَوَافَقَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ لَكِنَّ هَكَذَا حَسَنٌ لَعَيْنِهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَحَسَنٌ لَعَيْنِهِ قَدْ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالصَّلَاةِ وَحَسَنٌ لِغَيْرِهِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ حَسَنًا كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْوُضُوءِ وَحَسَنٌ لِغَيْرِهِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ حَسَنًا كَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا مَعَهَا فَالْأَكْمَلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَقْسَامِ مَا عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَمَا حَقَّقْنَاهُ .
الثَّالِثُ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ثُمَّ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَسَنِ لَعَيْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا لَعَيْنِهِ حَسَنًا لَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ وَفِي الْبَدِيعِ وَقِيلَ بَلْ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ لِثُبُوتِ الْحَسَنِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ اقْتِضَاءً وَهُوَ ضَرُورِيٌّ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَدْنَى الرَّابِعُ أَنَّ مَا حَسُنَ لَعَيْنِهِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ إسْقَاطٍ مِنْ الشَّارِعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ وَمَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ يَسْقُطُ بِحُصُولِ مَا قَصَدَ بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوْ لَا وَبِسُقُوطِ مَا قَصَدَ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( وَقَسَّمُوا ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ ( مُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ ) الشَّرْعِيَّةِ ( مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ عِبَادَاتٍ أَوْ عُقُوبَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ( إلَى حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ) قَالُوا : وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ نُسِبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعَظَمِ خَطَرِهِ وَشُمُولِ نَفْعِهِ وَلِئَلَّا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ وَمَثَابَةً لِاعْتِذَارِ إجْرَامِهِمْ وَحُرْمَةِ الزِّنَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ وَصِيَانَةِ الْأَوْلَادِ مِنْ الضَّيَاعِ وَارْتِفَاعِ السَّيْفِ بَيْنَ الْعَشَائِرِ بِسَبَبِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزُّنَاةِ وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوْ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الْكُلِّ قَالَ الْقَاآنِيُّ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ يَعْنِي بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ هُوَ اللَّهُ حَتَّى لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ( وَالْعَبْدُ كَذَلِكَ ) أَيْ وَإِلَى حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُصُوصِ لِتَعَلُّقِ صِيَانَةِ مَالِهِ بِهَا وَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ مَالِكِهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا وَأَوْرَدَ حُرْمَةَ مَالِ الْغَيْرِ أَيْضًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ وَهُوَ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ أَجْمَعُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَنَحْنُ نَمْلِكُ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ وَأَمْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ تُبَاحُ لَنَا عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمْ ( وَمَا اجْتَمَعَا ) أَيْ
الْحَقَّانِ فِيهِ ( وَحَقُّهُ ) تَعَالَى ( غَالِبٌ وَقَلَبَهُ ) أَيْ وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ ( وَلَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَاءُ مُتَسَاوِيَيْنِ ) أَيْ مَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَالْحَقَّانِ فِيهِ سَوَاءٌ ثُمَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الْحَقِّ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَيْضًا ( فَالْأَوَّلُ ) أَيْ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ ( أَقْسَامٌ ) ثَمَانِيَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ ( عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْإِيمَانِ وَالْأَرْكَانِ ) الْأَرْبَعَةِ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ ثُمَّ الزَّكَاةُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الْحَجُّ ( ثُمَّ الْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ وَالِاعْتِكَافُ وَتَرْتِيبُهَا ) أَيْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ ( فِي الْأَشْرَفِيَّةِ هَكَذَا ) أَيْ الْإِيمَانِ إذْ هُوَ أَفْضَلُهَا قَطْعًا وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَصْلُهَا وَلَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِهِ ثُمَّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا تَالِيَةُ الْإِيمَانِ وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إيمَانًا حَيْثُ قَالَ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهَا إظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ ثُمَّ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا تَالِيَةُ الصَّلَاةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهَا إظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ ثُمَّ الصَّوْمُ قَالُوا : لِأَنَّهُ شُرِعَ رِيَاضَةً وَقَهْرًا لِلنَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ فَإِنَّ النَّفْسَ بِقَهْرِهَا وَرِيَاضَتِهَا تَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ فَكَانَ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الصَّلَاةِ الْكَعْبَةُ الْمُعَظَّمَةُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ الْعُذْرِ لَا غَيْرَ وَفِي الزَّكَاةِ الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَكَانَ
دُونَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضَعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { كُلُّ عَمَلِ بْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي } وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ يَطْرُقُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا ثُمَّ الْحَجُّ قَالُوا : لِأَنَّهُ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ يَقُومُ بِهَا بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَكَأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ بِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ الْوَطَنِ وَمُفَارَقَةِ الْخِلَّانِ وَالسَّكَنِ تَنْقَطِعُ عَنْهُ مُرَادُ الشَّهَوَاتِ وَتَضْعُفُ نَفْسُهُ فَيَتَيَسَّرَ لَهُ قَهْرُهَا بِالصَّوْمِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ بَلْ ذَهَبَ الْقَاضِي حُسَيْنُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَأَيْضًا دُعِينَا إلَيْهِ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ كَالْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ فَكَذَا الْحَجُّ الَّذِي هُوَ قَرِينُهُ وَفِيهِ مَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُحَقِّقِ عَلَى أَنَّ فِي الْكَشَّافِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمَّا حَجَّ فَضَّلَ الْحَجَّ عَلَى الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِمَا شَاهَدَ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ ( قَالُوا : وَقُدِّمَتْ الْعُمْرَةُ وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْجِهَادِ ) وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ فَرْضُ عَيْنٍ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ صَارَ فَرْضَ كِفَايَةٍ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ أَذَاهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ ( لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ ) وَأَفْعَالِهَا
مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهِ ( وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ) أَيْ هَذَا التَّوْجِيهِ لِتَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ لِذَلِكَ وَلَعَلَّ لِهَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْحَجِّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْلًا ثُمَّ الْجِهَادُ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ دُونَ مَا سَبَقَ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ دُونَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ } وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ قَالَ : فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ قَالَ : وَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، قَالَ : فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْهِجْرَةُ قَالَ : وَمَا الْهِجْرَةُ ؟ قَالَ : أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ : فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ قَالَ : وَمَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ : أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتَهُمْ قَالَ : فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ } وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا تَارَةً بِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَأَخَّرَ إلَى السَّنَةِ التَّاسِعَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ الْجِهَادُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَرْضَ عَيْنٍ فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَلَا إشْكَالَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ عَيْنًا عَلَى الْحَجِّ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ وَتَارَةً بِأَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَشْرَفُ مِنْ جِنْسِ
الْحَجِّ فَإِنْ عَرَضَ لِلْحَجِّ وَصْفٌ يَمْتَازُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ صَارَ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ وَإِلَّا فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ وَيَشْهَدُ لِصَدْرِ هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحُبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَمِنْ هُنَا وَمِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ } كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ : وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ ا هـ أَيْ : عَلَى الْأَعْيَانِ وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ مَا فِي قَوَاعِدِ الْقَرَافِيُّ قَالَ مَالِكٌ : الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ ا هـ وَيُشْكِلُ عَجْزَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ وَغَزْوَةٌ لِمَنْ قَدْ حَجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشَرِ حِجَجٍ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ مَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَفْضَلِيَّةِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجَائِعِ وَالْمَاءُ أَفْضَلُ لِلْعَطْشَانِ فَإِنْ اجْتَمَعَا نُظِرَ إلَى الْأَغْلَبِ فَتَصَدُّقُ الْغَنِيِّ الشَّدِيدِ الْبُخْلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالصَّوْمُ لِمَنْ
اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْأَكْلِ أَفْضَلُ وَلَا مَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ فَإِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَقْتَصِرَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ ا هـ ثُمَّ بَعْد هَذَا كُلِّهِ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَفْضَلُ مِنْ نَفْلِهِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ قَدْ يَفْضُلُ الْوَاجِبَ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَأَخْرَجَهَا وَتَطَوَّعَ بِشَاتَيْنِ فَإِنَّ الشَّاتَيْنِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ بِالشَّاتَيْنِ أَوْسَعُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَكَيْفَ لَا وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْت عَلَيْهِ } وَمَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَفْضُلُ الْمَنْدُوبَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ } مَعَ أَنَّ التَّوْسِعَةَ بِالْأَلْفِ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي فَرْضِ كُلِّ جِنْسٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرَائِضِ مِنْ بَاقِي الْأَجْنَاسِ وَلِلْبَاحِثِ الْمُحَقِّقِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ فَوْقَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ .
ثُمَّ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَشُرِعَ لِتَكْثِيرِ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِهَا فِي مَكَانِهَا وَهُوَ الْمَسَاجِدُ عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمُنْتَظِرَ لَهَا فِيهَا حُكْمًا وَلِذَا اخْتَصَّ بِالْمَسَاجِدِ وَشَوَاهِدُهُ مِنْ السُّنَّةِ مَسْطُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا فَكَانَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَرْتَبَةِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ
الصَّلَاةِ يُشْكِلُ بِتَعْلِيلِهِمْ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ بِكَوْنِهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا مِنْ تَوَابِعِهِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَلْبَتَّةَ كَوْنُهُ أَفْضَلُ مِمَّا الْمَتْبُوعُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ( وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ ) وَهِيَ فَعُولَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمَأْنَهُمْ إذَا احْتَمَلْت ثِقَلَهُمْ أَوْ مِنْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْت لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ تَسْتَعِدْ لَهُ وَقِيلَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْخُرْجِ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ ( صَدَقَةُ الْفِطْرِ ) وَكَوْنُهَا عِبَادَةً ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهَا شَرْعًا صَدَقَةً وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمِنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْغِنَى فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْأَدَاءِ وَوُجُوبِ صَرْفِهَا فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَوْنِهَا فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ ( إذْ وَجَبَتْ ) عَلَى الْمُكَلَّفِ ( بِسَبَبِ غَيْرِهِ ) وَهُوَ مَنْ يَلِيهِ وَيُمَوِّنُهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ } ( فَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ ) كَمَا شَرَطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا ( فَوَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ) الْغَنِيَّيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقِهِمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَهَا الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ) وَهُوَ الْقِيَاسُ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ
عَنْهُمَا يُرَجِّحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ الْوُجُوبَ إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ بِنَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِمَا إذَا كَانَا غَنِيَّيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ لَكِنْ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ ثُمَّ تِلْمِيذُهُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ ثُمَّ ظَهَرَ وَجْهُ كَوْنِهَا عِبَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْعَكْسِ وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي ( وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَالْعُشْرِ إذْ الْمُؤْنَةُ مَا بِهِ بَقَاءُ الشَّيْءِ وَبَقَاءُ الْأَرْضِ فِي أَيْدِينَا بِهِ ) أَيْ بِالْعُشْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ بِبَقَاءِ الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْقُوتِ وَغَيْرِهِ لِمَنْ عَلَيْهَا فَوَجَبَتْ عِمَارَتُهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُلَّاكِ نَفَقَةُ عَبِيدِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَبَقَاؤُهَا وَبَقَاءُ إنْزَالِهَا إنَّمَا هُوَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْحَافِظُونَ لَهَا إمَّا مِنْ حَيْثُ الدُّعَاءُ وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ الْمُحْتَاجُونَ فَإِنَّ بِهِمْ يُسْتَنْزَلُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيُسْتَمْطَرُ فِي السَّنَةِ الشَّهْبَاءِ وَإِمَّا مِنْ حَيْثُ الذَّبُّ بِالشَّوْكَةِ عَنْ الدَّارِ وَغَوَائِلِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ فَوَجَبَ فِي بَعْضِهَا الْعُشْرُ نَفَقَةً لِلْأَوَّلِينَ وَفِي بَعْضِهَا الْخَرَاجُ نَفَقَةً لِلْآخَرِينَ وَجُعِلَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا نَفَقَةً عَلَيْهَا تَقْدِيرًا ثُمَّ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ كَمَا سَيَذْكُرُ وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالْعِبَادَةِ ) فِيهِ ( لِتَعَلُّقِهِ ) أَيْ الْعُشْرِ ( بِالنَّمَاءِ ) الْحَقِيقِيِّ لَهَا وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْهَا كَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ أَوْ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ وَهَذَا أَشْبَهُ ( وَإِذْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْأَصْلَ ) وَالنَّمَاءُ وَصْفًا تَابِعًا لَهَا ( كَانَتْ الْمُؤْنَةُ غَالِبَةً وَلِلْعِبَادَةِ ) فِيهِ ( لَا
يُبْتَدَأُ الْكَافِرُ بِهِ ) لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ ضَرْبُ كَرَامَةٍ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْخَرَاجِ ( وَلَا يَبْقَى ) الْعُشْرُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْكَافِرِ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْبَقَاءِ ) لِلْعُشْرِ عَلَيْهِ ( إلْحَاقًا ) لِلْعُشْرِ ( بِالْخَرَاجِ ) فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ ( بِجَامِعِ الْمُؤْنَةِ ) فِيهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لِلْمُؤْنَةِ
( وَالْعِبَادَةُ ) فِي الْعُشْرِ ( تَابِعَةٌ ) فَيَسْقُطُ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لَهَا ( فَلَا يُثَابُ ) الْكَافِرُ ( بِهِ ) أَيْ بِالْعُشْرِ ( وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ) أَيْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ( وَإِنْ تَبِعَ ) الْمُؤْنَةَ ( فَهُوَ ثَابِتٌ ) فِي الْعُشْرِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالنَّمَاءِ وَصَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الْفُقَرَاءِ مُسْتَمِرٌّ ( فَيَمْنَعُ ) ثُبُوتَهُ فِيهِ مِنْ إلْغَائِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ضَرُورَةُ عَدَمِ إمْكَانِ إلْغَائِهِ قُلْت : إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مُحَمَّدٍ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَشْبَهُ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ إذَا كَانَ قَائِلًا بِأَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ فِيهِ كَالْمَالِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ فَلَا يَتِمَّ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا فَيُجَابُ كَمَا فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ بِأَنَّ الْعُشْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى الْكَافِرِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّضْعِيفِ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ بِدُونِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ ( فَتَصِيرُ ) الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ ( خَرَاجِيَّةً بِشِرَائِهِ ) أَيْ الْكَافِرِ إيَّاهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً فَفِي السِّيَرِ كَمَا اشْتَرَى وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ إذَا بَقِيَتْ مُدَّةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرَعَ أَوْ لَا ( وَلِأَبِي يُوسُفَ ) أَيْ وَخِلَافًا لَهُ فِي أَنَّهُ ( يُضَعَّفُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيهِ وَالتَّضْعِيفُ تَغْيِيرٌ لِلْوَصْفِ فَقَطْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ مِنْ إبْطَالِ الْعُشْرِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا وَالتَّضْعِيفُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ ( كَبَنِي تَغْلِبَ ) وَلَا يُقَالُ
فِيهِ تَضْعِيفٌ لِلْقُرْبَةِ وَالْكُفْرِ يُنَافِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ بَعْدَ التَّضْعِيفِ صَارَ فِي حُكْمِ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْكُفَّارِ وَخَلَا عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ ( وَيُجَابُ بِأَنَّهَا ) أَيْ الصَّدَقَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ هِيَ فِي الْمَعْنَى ( جِزْيَةٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ) أَيْ بِكَوْنِهَا صَدَقَةً مُضَاعَفَةً ( بِالتَّرَاضِي لِخُصُوصٍ عَارِضٍ ) فَإِنَّ بَنِي تَغْلِبَ بِكَسْرِ اللَّامِ عَرَبٌ نَصَارَى قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ هَمَّ يَعْنِي عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَنَفَرُوا فِي الْبِلَادِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ أَوْ زُرْعَةُ بْنُ النُّعْمَانِ لَعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَوْمٌ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ وَلَيْسَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ إنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ حُرُوثٍ وَمَوَاشٍ وَلَهُمْ نِكَايَةٌ فِي الْعَدُوِّ فَلَا تُعِنْ عَدُوَّك عَلَيْك بِهِمْ قَالَ : فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمَّوْهَا مَا شِئْتُمْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ جِزْيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ حَتَّى لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ نُقُودٌ أَوْ مَاشِيَةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ : وَهِيَ أَقْيَسُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ كَانَ الْجِزْيَةُ فَإِذَا صُولِحُوا عَلَى مَالٍ جُعِلَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمُسْتَحَقِّ وَقِيلَ لَا بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِشَرَائِطِ الزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ ثَمَّةَ لَا يُرَاعَى فِيهَا وَصْفُ الصِّغَارِ وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْجِزْيَةَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ أَهْلِ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ
أَرْضِهِمَا لِأَنَّ الْعُشْرَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ لِيَخُصَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ فَيُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهِمَا وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ التَّضْعِيفَ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لِلضَّرُورَةِ السَّالِفَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَافِرِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ( وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ) وَهِيَ ( الْخَرَاجُ أَمَّا الْمُؤْنَةُ فَلِتَعَلُّقِ بَقَائِهَا ) أَيْ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ( بِالْمُقَاتَلَةِ الْمَصَارِفُ ) لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ( وَالْعُقُوبَةُ لِلِانْقِطَاعِ بِالزِّرَاعَةِ عَنْ الْجِهَادِ ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ بِصِفَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عِمَارَةُ الدُّنْيَا وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ شَرْعًا ( فَكَانَ ) الْخَرَاجُ ( فِي الْأَصْلِ صَغَارًا ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا أَدْخَلَهُ الذُّلَّ } ( وَبَقِيَ ) الْخَرَاجُ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَظِيفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ ( لَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ ) أَوْ وَرِثَهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ أَسْلَمَ مَالِكُهَا ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ الصَّغَارَ ( فِي ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ ) لَا فِي بَقَائِهِ نَظَرًا إلَى مَا فِيهِ مِنْ رُجْحَانِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ الَّتِي الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِهَا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ ( وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَيْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَبَبٍ مُبَاشِرٍ ) أَيْ شَيْءٍ ثَابِتٌ بِذَاتِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَمِ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ وُضِعَ لَهُ يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ أَدَاؤُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَلْ ثَبَتَ بِحُكْمِ أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَهُوَ ( خُمُسُ الْغَنَائِمِ ) أَيْ
الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكُفَّارِ قَهْرًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ حَقُّ اللَّهِ إعْزَازًا لِدِينِهِ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَتِهِ فَالْمُصَابُ كُلُّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْغَانِمِينَ امْتِنَانًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْجِبُوهَا بِالْجِهَادِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِعَمَلِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاسْتَبْقَى الْخُمُسَ حَقًّا لَهُ وَأَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ نَائِبُ الشَّرْعِ فِي إقَامَةِ حُقُوقِهِ لَا أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ ( وَمِنْهُ ) أَيْ الْحَقِّ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ ( الْمَعْدِنِ ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلْقِهَا ( وَالْكَنْزُ ) وَهُوَ الْمُثْبَتُ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ وَالرِّكَازُ يَعُمُّهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ الرِّكَزِ مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوْ الْمَخْلُوقَ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْمُرَادُّ بِالْمَعْدِنِ هُنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْجَامِدُ الَّذِي يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَبِالْكَنْزِ مَا لَا عَلَامَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَتَّى كَانَ جَاهِلِيًّا لِأَنَّ هَذَيْنِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِمَا وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْوَاجِدِ وَبَقِيَ الْخُمُسُ لَهُ تَعَالَى مَصْرُوفًا إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ خُمُسُهُمَا وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ ( فَلَمْ يَلْزَمْ أَدَاؤُهُ ) أَيْ الْخُمُسِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ ( طَاعَةً ) فَيُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ لِيَقَعَ دَفْعُهُ قُرْبَةً بِهَا ( إذْ لَمْ يَقْصِدْ الْفِعْلَ ) أَيْ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ دَفْعُهُ غَيْرُ
مَقْصُودٍ ( بَلْ مُتَعَلِّقُهُ ) أَيْ الْفِعْلِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ فَالنَّفْيُ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ ( بَلْ هُوَ ) أَيْ الْخُمُسُ ( حَقٌّ لَهُ تَعَالَى ) كَمَا بَيَّنَّا ( فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ إذَا لَمْ يَتَّسِخْ إذْ لَمْ تَقُمْ بِهِ قُرْبَةٍ وَاجِبَةٌ ) قُلْت : وَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى قُرْبَةِ بِنَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِمْ كَالْمَفْرُوضَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ثُمَّ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْخُمُسُ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ } .
ثُمَّ إنَّمَا قَيَّدْنَا الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ بِالْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِدُونِهِمَا لَيْسَ حُكْمَهُمَا ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي الْفُرُوعِ وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يُقَيِّدُوهُمَا بِهِمَا فِي الْأُصُولِ اعْتِمَادًا عَلَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِمَا فِي الْفُرُوعِ ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ الْمَعَادِنَ مَعَ أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْغَنِيمَةِ خَفِيٌّ فِي حَقِّهَا كَخَفَاءِ اسْمِ السَّارِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبَّاشِ وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الشَّافِعِيُّ فِيهَا الْخُمُسَ حَيْثُ يُشْبِهُ الصَّيْدَ وَلَا نَحْنُ فِيمَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِهِ وَفِي أَرْضِهِ فِي رِوَايَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ( وَعُقُوبَاتٌ كَامِلَةٌ ) أَيْ مَحْضَةٌ لَا يَشُوبُهَا مَعْنًى آخَرَ تَامَّةٌ فِي كَوْنِهَا عُقُوبَةً وَهِيَ ( الْحُدُودُ ) أَيْ حَدُّ الزِّنَا وَحْدُ السَّرِقَةِ وَحْدُ الشُّرْبِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُقُولِ وَمُوجِبُهَا جِنَايَاتٌ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَاقْتَضَى كُلٌّ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُقُوبَةٌ
كَامِلَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ ارْتِكَابِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مِلْكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ } ثُمَّ عَنْ الْمُبَرِّدِ سُمِّيَتْ الْعُقُوبَةُ عُقُوبَةً لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ عَقِبَهُ يَعْقُبُهُ إذَا تَبِعَهُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ السَّادِسُ ( وَ ) عُقُوبَةٌ ( قَاصِرَةٌ ) وَهِيَ ( حِرْمَانُ الْقَاتِلِ ) إرْثَ الْمَقْتُولِ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ ( كَوْنُهُ ) أَيْ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ ( حَقًّا لَهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى ( بِالتَّعَدِّي عَلَيْهِ ) أَيْ الْغَيْرِ يَكُونُ ( فِيهِ نَفْعٌ لَهُ ) أَيْ لِلْغَيْرِ وَالْغَيْرُ هُنَا الْمَقْتُولُ ( وَلَيْسَ فِي الْحِرْمَانِ نَفْعٌ لِلْمَقْتُولِ ) فَثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى زَاجِرٌ عَنْ ارْتِكَابِ مَا جَنَاهُ كَالْحَدِّ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ يَجِبُ لِلَّهِ ضَرُورَةً ( وَمُجَرَّدُ الْمَنْعِ ) مِنْ الْإِرْثِ ( قَاصِرٌ ) فِي مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ بَلْ مَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتَ مِلْكِهِ فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ .
( تَنْبِيهٌ ) وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا مَوْصُوفَ قَاصِرَةٍ عُقُوبَةً كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِهَذَا الْقِسْمِ مِثَالًا غَيْرَ هَذَا وَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ لَهُ مِثَالٌ غَيْرُهُ حَتَّى كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةٌ الْوَاحِدُ لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ وَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِمَا قَاصِرٌ بِهَذَا الْقِسْمِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ السَّابِعُ ( وَحُقُوقُهُمَا ) أَيْ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ مُجْتَمِعَانِ ( فِيهَا كَالْكَفَّارَاتِ ) لِلْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْفِطْرِ
الْعَمْدِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ أَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَيُؤْمَرُ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ جَبْرًا وَالشَّرْعُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى الْمُكَلَّفِ إقَامَةَ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ هِيَ مُفَوَّضَةٌ إلَى الْأَئِمَّةِ وَتُسْتَوْفَى جَبْرًا وَأَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ إلَّا أَجْزِيَةً عَلَى أَفْعَالٍ مِنْ الْعِبَادِ لَا مُبْتَدَأَةً كَالْعِبَادَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذُّنُوبِ ( وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ غَالِبَةٌ فِيهَا ) بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِثْلُ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَالْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِمَخْمَصَةٍ وَلَوْ كَانَتْ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةً لَامْتَنَعَ وُجُوبُهَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِأَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ إنْ لَمْ تَمْنَعْ الْوُجُوبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ فَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ تَمْنَعُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ( إلَّا الْفِطْرُ ) أَيْ كَفَّارَتُهُ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ ( وَأَلْحَقَهَا ) أَيْ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ ( الشَّافِعِيُّ بِهَا ) أَيْ بِبَقِيَّةِ الْكَفَّارَاتِ فِي تَغْلِيبِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا عَلَى الْعُقُوبَةِ حَيْثُ لَمْ يُسْقِطْهَا بِالشُّبْهَةِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَالْحَنَفِيَّةُ ) إنَّمَا قَالُوا بِتَغْلِيبِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا عَلَى الْعِبَادَةِ ( لِتَقَيُّدِهَا ) أَيْ وُجُوبِهَا ( بِالْعَمْدِ ) أَيْ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ ( لِيَصِيرَ ) الْفِطْرُ الْعَمْدُ ( حَرَامًا وَهُوَ ) أَيْ الْحَرَامُ ( الْمُثِيرُ لِلْعُقُوبَةِ وَالْقُصُورِ ) لِلْعُقُوبَةِ فِيهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً ( لِكَوْنِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِرْ حَقًّا تَامًّا مُسَلَّمًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ )
وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ تَمَامَهُ بِإِكْمَالِهِ يَوْمًا فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَقَصُرَتْ عُقُوبَتُهَا جَزَاءً وِفَاقًا ( فَلِذَا ) أَيْ لِقُصُورِ الْعُقُوبَةِ فِي هَذَا الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ ( تَأَدَّى ) هَذَا الْحَقُّ ( بِالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَشُرِطَتْ النِّيَّةُ ) فِيهِ ( فَتَفَرَّعَ ) عَلَى غَلَبَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ( دَرْؤُهَا بِالشُّبْهَةِ ) أَيْ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَمَا يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تَجِبْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ جَامَعَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ وَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ وَأَيْضًا ( فَوَجَبَتْ مَرَّةً بِمِرَارٍ ) أَيْ بِفِطْرٍ مُتَعَدِّدٍ فِي أَيَّامٍ ( قَبْلَ التَّكْفِيرِ مِنْ رَمَضَانَ ) وَاحِدٍ عِنْدَنَا كَمَا يُحَدُّ مَرَّةً وَاحِدَةً بِزِنَاهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحَدَّ بِكُلِّ مَرَّةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ بِكُلِّ فِطْرِ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ ( وَمِنْ اثْنَيْنِ ) أَيْ وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِفِطْرٍ مُتَعَدِّدٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ ( عِنْدَ الْأَكْثَرِ ) أَيْ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا فِي التَّلْوِيحِ وَفِي الْكَافِي فِي الصَّحِيحِ ( خِلَافًا لِمَا يُرْوَى عَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ فِطْرِ الْأَيَّامِ مِنْهُمَا قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَسْطُورَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً زَادَ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ حَكَى فِي الْحَقَائِقِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَعَدُّدِهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ حَيْثُ قُلْنَا بِهِ ( لِأَنَّ التَّدَاخُلَ دَرْءٌ ) ثُمَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَمَا عُلِمَ وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِوَاحِدَةٍ ( وَلَوْ كَفَّرَ ) عَنْ فِطْرِ يَوْمٍ ( ثُمَّ أَفْطَرَ ) فِي آخَرَ ( فَأُخْرَى لِتَيَقُّنِ عَدَمِ انْزِجَارِهِ بِالْأُولَى فَتُفِيدُ ) الْكَفَّارَةُ ( الثَّانِيَةُ )
الِانْزِجَارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ هُوَ الظَّاهِرُ .
( تَتْمِيمٌ ) وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الْعُقُوبَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبَدِيعِ وَمَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَتَكُونُ جِهَةُ الْجِنَايَةِ غَالِبَةً فَيَكُونُ فِي جَزَائِهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةً وَدُفِعَ بِأَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ الظِّهَارُ بَلْ الْعَوْدُ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ أَوْ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَمِيعًا كَمَا عَلَيْهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اسْتَرْوَحَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } الْآيَةُ لِأَنَّ لَفْظَهَا يَحْتَمِلُهُمَا إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُهَا عَلَيْهِمَا كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْأَخِيرِ وَقَدْ تَرَجَّحَ كَوْنُهُ الْأَخِيرَ لِأَنَّهُ بَسِيطٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَكَّبِ وَيُرَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ لَا شَرْطِهِ وَالْكَفَّارَةُ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ لَا الْعَزْمِ وَعَلَى الْآخَرَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ أَوْ إيفَاءُ الْوَاجِبِ مِنْ الْوَطْءِ كَمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَلَعَلَّهُ الْأَشْبَهُ فَإِنَّ إيفَاءَ حَقِّهَا مِنْ الْوَطْءِ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا ذَكَرَ الْإِمَامُ السُّرُوجِيُّ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عِنْدَنَا لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ عِنْدَنَا قَالَ : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَنَا لَا بِالظِّهَارِ وَلَا
بِالْعَوْدِ إذْ لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بَلْ مُوجِبُ الظِّهَارِ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ فَإِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ وَلَمْ تُطَالِبْ الْمَرْأَةُ بِالْوَطْءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا ا هـ عَلَى أَنَّهُ كَمَا فِي الطَّرِيقَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الَّتِي حُكْمُهَا تَكْفِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَإِذْهَابُ السَّيِّئَةِ خُصُوصًا إذْ صَارَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ تُجْعَلَ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَعَ حُكْمِهَا الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ تَصِيرُ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ الْمَعْصِيَةُ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ ا هـ ثُمَّ يُشْكِلُ كَوْنُ الْغَلَبَةِ فِيهَا لِجِهَةِ الْعُقُوبَةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ وَمَا الْعُقُوبَةُ غَالِبَةٌ فِيهِ التَّدَاخُلُ وَلَا تَدَاخُلَ هُنَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالثَّانِي فَصَاعِدًا التَّكْرَارَ وَالتَّأْكِيدَ ثُمَّ فِي التَّلْوِيحِ وَذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ دَاعِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ قَوِيَّةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ أَمْرٌ مُعَوَّدٌ لِلنَّفْسِ اُحْتِيجَ فِيهَا إلَى زَاجِرٍ فَوْقَ مَا فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ فَصَارَ الزَّجْرُ فِيهَا أَصْلًا وَالْعِبَادَةُ تَبَعًا فَإِنَّ مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ فَتَأَمَّلَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ انْزَجَرَ لَا مَحَالَةَ وَبَاقِي الْكَفَّارَاتِ بِالْعَكْسِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلزَّجْرِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ شُرِعَتْ فِيمَا يَنْدُبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ وَهُوَ الْعَوْدُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ شُرِعَتْ فِيمَا يَجِب تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ أَبَاهُ وَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيمَا يُنْدَبُ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَالثَّانِي حُقُوقُ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَمِلْكِ الْمَبِيعِ وَالزَّوْجَةِ وَكَثِيرٍ وَمَا اجْتَمَعَا ) أَيْ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ ( فِيهِ وَحَقُّهُ تَعَالَى غَالِبٌ ) وَهُوَ ( حَدُّ الْقَذْفِ ) لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقَعُ نَفْعُهُ عَامًّا بِإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا إنْسَانٌ دُونَ إنْسَانٍ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْعِرْضِ وَدَفْعَ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ حَقُّ الْعَبْدِ إذْ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ثُمَّ فِي هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا لِأَنَّ فِي النَّفْسِ حَقَّيْنِ : حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ لِلَّهِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْغَالِبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى ( فَلَيْسَ لِلْمَقْذُوفِ إسْقَاطُهُ ) أَيْ الْحَدِّ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَحِّضٍ لَهُ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْعِدَّةِ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ إيَّاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( وَلِذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى ( لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمَقْذُوفِ لِيُقِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ( لِأَنَّ حُقُوقَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِمَامُ ) لِاسْتِنَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ فِي اسْتِيفَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ حَدَّ الْقَذْفِ ( لِتُهْمَتِهِ ) أَيْ الْقَاذِفِ الْمَقْذُوفَ ( بِالزِّنَا وَأَثَرُ الشَّيْءِ مِنْ بَابِهِ ) أَيْ بَابِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَحَدُّ الزِّنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا ( فَدَارَ ) حَدُّ الْقَذْفِ ( بَيْنَ كَوْنِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ) كَحَدِّ الزِّنَا ( أَوْ ) بَيْنَ كَوْنِهِ ( لَهُ ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى ( وَلِلْعَبْدِ ) كَمَا ذَكَرْنَا فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ ( فَتَغَلَّبَ ) حَقُّ اللَّهِ ( بِهِ ) أَيْ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّى
اسْتِيفَاءَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًا بِتَغْلِيبِ حَقِّ مَوْلَاهُ لَا مُهْدَرًا وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَذَهَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ ثُمَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا بَيْنَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلِفٍ فِيهِ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَمِنْهَا مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ وَمَحَلُّ الْخَوْضِ فِيهَا الْكُتُبُ الْفِقْهِيَّةُ ( وَمَا اجْتَمَعَا ) أَيْ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ ( وَالْغَالِبُ حَقُّ الْعَبْدِ ) وَهُوَ ( الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ ) فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ وَلِلْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ فَفِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إيفَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ مَعْنَى الْجَبْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحِلِّ فَكَانَ حَقُّ الْعَبْدِ رَاجِحًا وَلِهَذَا فُرِضَ اسْتِيفَاؤُهُ لِلْوَارِثِ وَجَرَى فِيهِ الِاعْتِيَاضُ بِالْمَالِ وَالْعَفْوِ
( وَيَنْقَسِمُ ) مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مُطْلَقًا ( أَيْضًا بِاعْتِبَارِ آخِرِ أَصْلٍ وَخَلَفٍ ) أَيْ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافُهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْخَلْفِيَّةِ إلَى أَصْلٍ وَخَلَفٍ ثُمَّ ( لَا يَثْبُتُ ) كَوْنُهُ خَلَفًا ( إلَّا بِالسَّمْعِ ) نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ اقْتِضَاءً ( صَرِيحًا أَوْ غَيْرَهُ ) أَيْ غَيْرَ صَرِيحٍ كَالْأَصْلِ لَا بِالرَّأْيِ فَحَذَفَ الْمُنْقَسِمَ إلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِهِ ( فَالْأَصْلُ كَالتَّصْدِيقِ فِي الْإِيمَانِ ) فَإِنَّهُ أَصْلٌ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعُذْرٍ مَا وَلَا يَبْقَى مَعَ التَّبْدِيلِ بِحَالٍ ( وَالْخَلَفُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ التَّصْدِيقِ ( الْإِقْرَارُ ) بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الْجَنَانِ ( وَإِذْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَصْلَ يَقِينًا ) لِأَنَّهُ غَيْبٌ ( أُدِيرَ ) الْحُكْمُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْخَلَفِ ( فَلَوْ أُكْرِهَ ) الْكَافِرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ( فَأَقَرَّ ) بِهِ ( حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ) لِوُجُودِهِ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَحِينَئِذٍ ( فَرُجُوعُهُ ) عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ بِاللِّسَانِ ( رِدَّةٌ لَكِنْ لَا تُوجِبُ الْقَتْلَ ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ لِإِسْقَاطِهِ ( بَلْ ) تُوجِبُ ( الْحَبْسَ وَالضَّرْبَ حَتَّى يَعُودَ ) إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَوْدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ( وَدُفِنَ ) مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِلَافُهُ إلَى أَنْ مَاتَ ( فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ بِالْإِسْلَامِ مُكْرَهًا ( وَ ) يَثْبُتُ أَيْضًا ( بَاقِي أَحْكَامُ الْخَلْفِيَّةِ فِي الدُّنْيَا ) مِنْ إسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَعَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا الْآخِرَةُ فَالْمَذْهَبُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ نَصُّ أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْإِقْرَارَ ( أَصْلٌ ) فِي أَحْكَامِهَا أَيْضًا ( فَلَوْ صَدَّقَ ) بِقَلْبِهِ ( وَلَمْ يُقِرَّ ) بِلِسَانِهِ ( بِلَا مَانِعٍ ) لَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَاسْتَمَرَّ ( حَتَّى مَاتَ كَانَ فِي النَّارِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ )
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ ( التَّصْدِيقُ وَحْدَهُ ) فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ هُوَ ( وَالْإِقْرَارُ ) شَرْطٌ ( لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا ) أَيْ لِإِجْرَائِهَا عَلَيْهِ ( كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ ثُمَّ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ الْإِقْرَارُ لِهَذَا الْغَرَضِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِإِتْمَامِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ قَادِرًا وَتَرَكَ التَّكَلُّمَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاءِ إذْ الْعَاجِزُ كَالْأَخْرَسِ مُؤْمِنٌ اتِّفَاقًا وَالْمُصِرُّ عَلَى عَدَمِ الْإِقْرَارِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَافِرٌ وِفَاقًا لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ ( ثُمَّ صَارَ أَدَاءُ الْأَبَوَيْنِ فِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ خَلَفًا عَنْ أَدَائِهِمَا ) أَيْ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِعَجْزِهِمَا عَنْ ذَلِكَ ( فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِمَا تَبَعًا لِأَحَدِهِمَا ) أَيْ الْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ الْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ حِينَ الْإِسْلَامِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ الْمَتْبُوعُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالتَّابِعُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْعَكْسِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْيَنَابِيعِ وَغَيْرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا دَخَلَ عَسْكَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ وَأَسَرُوا الصَّغِيرَ مَعَ أُمِّهِ الْكَافِرَةِ مَثَلًا أَوَّلًا ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا فَإِنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَسْتَتْبِعُهُ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ ( ثُمَّ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ ) صَارَتْ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ إسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَعَدَمُ خُرُوجِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ أَوَّلًا كَمَا أَشَارَ إلَى هَذَا
بِقَوْلِهِ ( فَلَوْ سُبِيَ فَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَكَذَا تَبَعِيَّةُ الْغَانِمِينَ ) أَيْ تَبَعِيَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ الْغَانِمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَبَوَاهُ وَلَا أَحَدُهُمَا وَاخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِشِرَائِهِ مِنْ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ ثَمَّةَ صَارَتْ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَلَوْ قَسَّمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ أَحَدِهِمْ ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ ( حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ خَلَفٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ ) عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَمَا ذَكَرْنَا ( لَا أَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضَهَا بَعْضًا ) لِأَنَّ الْخَلَفَ لَا خَلَفَ لَهُ كَذَا قَالُوا وَقَدْ قِيلَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ خَلَفًا مِنْ وَجْهٍ وَأَصْلًا مِنْ وَجْهٍ ثُمَّ كَوْنُ هَذِهِ التَّبَعِيَّاتِ مُرَتَّبَةً هَكَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ : تَبَعِيَّةُ صَاحِبِ الْيَدِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ قُلْت : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّهُمَا وُجِدَ أَوَّلًا تَعَيَّنَ نِسْبَةَ التَّبَعِيَّةِ إلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَعْطُوفًا بِأَوْ أَوْ الْوَاوِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ وَمَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بَقِيَ أَنَّ الْخَلْفِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِيمَا كَانَ بَيْنَ مُسْلِمٍ أَصْلِيٍّ وَذِمِّيَّةٍ الْإِجْمَاعُ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ } فَجَعَلَ اتِّفَاقَهُمَا عِلَّةً نَاقِلَةً لِلْوَلَدِ عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَيَثْبُتُ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ مُسْلِمٍ عَارِضٍ إسْلَامُهُ وَذِمِّيَّةٍ وَبَيْنَ مُسْلِمَةٍ عَارِضٍ إسْلَامَهُمَا وَذِمِّيٍّ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ ثُبُوتَ أَحَدِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ فَإِذَا زَالَ الْوَصْفُ عَنْ أَحَدِهِمَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ فَيَنْتَفِي الْمَعْلُولُ فَيَتَرَجَّحُ ثُبُوتُ الْوَصْفِ الْمَفْطُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ بِعَيْنِ هَذَا صَيْرُورَةُ الصَّغِيرِ مُسْلِمًا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّةِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَسْلَمَ ثَعْلَبَةُ وَأُسَيْدُ ابْنًا شُعْبَةَ فَعَصَمَ إسْلَامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا وَأَوْلَادَهُمَا الصِّغَارَ } وَلَا يَعْرَى عَنْ تَأَمُّلٍ وَأَمَّا جَعْلُهُ تَبَعًا لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلْغَانِمِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّمْعِيِّ الْمُفِيدِ لَهُ فَإِنْ قُلْت : يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ السَّالِفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَبَوَيْهِ نَاقِلَيْهِ عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِمَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَنْ اخْتَصَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشِرَاءٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ قِسْمَةٍ وَبِمَا إذَا أُخْرِجَ وَحْدَهُ مَسْبِيًّا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ الْمَفْطُورِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّاقِلِ لَهُ عَنْهُ قُلْت : نَعَمْ لَوْ تَمَّ لَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ إذَا وَقَعَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمَسْطُورَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِيهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( هَذَا ) كُلُّهُ ( إذَا لَمْ
يَكُنْ ) الصَّغِيرُ ( عَاقِلًا وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ عَاقِلًا ( اسْتَقَلَّ بِإِسْلَامِهِ ) فَإِذَا أَسْلَمَ صَحَّ وَحِينَئِذٍ ( فَلَا يَرْتَدُّ بِرِدَّةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا ) أَيْ أَبَوَيْهِ ( عَلَى مَا سَيُعْلَمُ ) فِي فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَوِي فِيمَا قُلْنَا أَنْ يَعْقِلَ أَوْ لَا يَعْقِلَ إلَى هَذَا أَشَارَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِهِ : لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ عَاقِلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا ( وَمِنْهُ ) أَيْ الْخَلَفِ عَنْ الْأَصْلِ فِي مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ ( الصَّعِيدُ ) فَإِنَّهُ ( خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فَيَثْبُتُ بِهِ ) أَيْ بِالصَّعِيدِ ( مَا يَثْبُتُ بِهِ ) أَيْ بِالْمَاءِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ إلَى وُجُودِ النَّاقِضِ فَالْأَصَالَةُ وَالْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْآلَتَيْنِ فَيَجُوزُ إمَامَةُ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ لِوُجُودِ شَرْطِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ كُلٍّ فَيَجُوزُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَالْغَاسِلِ عَلَى الْمَاسِحِ مَعَ أَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ مِنْ الرَّجُلِ فِي قَبُولِ الْحَدَثِ وَرَفْعِهِ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( وَلِمُحَمَّدٍ ) وَزُفَرَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ أَنَّ الْأَصَالَةَ وَالْخَلَفِيَّةَ ( بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ ) أَيْ التَّيَمُّمِ وَكُلٍّ مِنْ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ ( فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ) أَيْ أَنْ يَثْبُتَ بِالصَّعِيدِ مَا يَثْبُتُ بِالْمَاءِ ( وَلَا يُصَلِّي الْمُتَوَضِّئُ خَلْفَ الْمُتَيَمِّمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ ) الْمُحْدِثَ ( بِالْفِعْلِ ) فَقَالَ { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ( ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْفِعْلِ ) عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ { : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ
عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ( وَلَهُمَا ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّهُ ) أَيْ اللَّهَ تَعَالَى ( نَقَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ) إلَى الصَّعِيدِ حَيْثُ قَالَ ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَكَانَ ) الْمَاءُ هُوَ ( الْأَصْلُ ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا بَعْدَ اتِّفَاقهمْ عَلَى كَوْنِ الْخَلَفِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ إلَى غَايَةِ وُجُودِهِ أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وُضُوءًا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَغُسْلًا فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ إلَّا مَا قِيلَ فِيمَا إذَا تَيَمَّمَ فِي الْمِصْرِ لِخَوْفِ فَوْتِ صَلَاةِ جِنَازَةٍ فَصَلَّى وَحَضَرَتْ أُخْرَى وَلَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا وَقْتًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهِ أَنَّ الْخِلَافَةَ ضَرُورِيَّةٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَذْكُرُهُ لِلشَّافِعِيِّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمَا أَحْسَنُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ خَلَفٌ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَثْبُتُ خَلْفِيَّتُهُ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الذِّمَّةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ وَأَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ خِلَافًا لَهُ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ جَعْلَ الصَّعِيدِ أَوْ التَّيَمُّمِ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ أَوْ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مَعَ كَوْنِهِ لَهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ يَنْفِي كَوْنَهُ خَلْفًا عَنْ الْأَصْلِ بَلْ يُفِيدُ كَوْنُهُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ
وَالِاتِّفَاقُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ فِيمَا لَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ وَتَكْثِيرًا لِلْخَيْرَاتِ فَمَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْلُ بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ هَذَا ( وَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيق الْخَلَفِيَّةِ مِنْ عَدَمِ الْأَصْلِ ) فِي الْحَالِ الْعَارِضِ إذْ لَا مَعْنَى إلَى الْمَصِيرِ إلَى الْخَلَفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ( وَ ) مِنْ ( إمْكَانِهِ ) أَيْ الْأَصْلِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا لِلْأَصْلِ ثُمَّ بِالْعَجْزِ عَنْهُ يَتَحَوَّلُ الْحُكْمُ عَنْهُ إلَى الْخَلَفِ ( وَإِلَّا ) فَحَيْثُ لَا إمْكَانَ لِوُجُودِ أَمْرٍ مَا ( فَلَا أَصْلَ ) أَيْ فَلَا يُوصَفُ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْأَصَالَةِ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ فَرْعُ وُجُودِهِ فِي ذَاتِهِ ( فَلَا خَلَفَ ) أَيْ فَلَا يُوصَفُ ذَلِكَ الْغَيْرُ بَالْخَلَفِيَّةِ عَنْهُ أَيْضًا وَمِنْ هُنَا لَزِمَ التَّكْفِيرُ مَنْ حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِإِمْكَانِ مَسِّ السَّمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ إلَيْهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَدَ إلَيْهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَّا أَنَّهُ مَعْدُومٌ عُرْفًا وَعَادَةً فَانْتَقَلَ الْحُكْمُ مِنْهُ إلَى الْخَلَفِ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يَلْزَمْ مَنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ مَا كَانَ أَوْ ثُبُوتِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَاضِي لِعَدَمِ إمْكَانِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْبَرُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( الْفَصْلُ الثَّالِثُ ) فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ ( الْمَحْكُومُ فِيهِ ) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ ( وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ الْمَحْكُومِ بِهِ ) اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ ( فِعْلُ الْمُكَلَّفِ ) يُرِيد أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِالْمَحْكُومِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ كَمَا ذَكَرَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : إذْ لَمْ يَحْكُمْ الشَّارِعُ بِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَلْ حَكَمَ فِي الْفِعْلِ بِالْوُجُوبِ بِالْمَنْعِ بِالْإِطْلَاقِ وَالظَّاهِرُ أَنْ لَيْسَ فِي مَنْعِهِ حُكْمٌ بِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَلَا فِي إطْلَاقِهِ وَالْإِذْنِ فِيهِ وَإِنَّمَا يُخَالُ ذَلِكَ فِي إيجَابِهِ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ إيجَابُهُ أَيْ إيجَابُ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ حُكْمًا بِنَفْسِ الْفِعْلِ وَلَوْ سُلَّمَ كَانَ بِاعْتِبَارِ قِسْمٍ يُخَالِفُهُ أَقْسَامٌ ثُمَّ إنَّمَا يَكُونُ الْمَحْكُومُ فِيهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ حَالَ كَوْنِ فِعْلِهِ ( مُتَعَلِّقَ الْإِيجَابِ وَهُوَ ) أَيْ فِعْلُهُ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ ( الْوَاجِبُ لَمْ يَشْتَقُّوا لَهُ ) أَيْ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورِ ( بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ ) أَيْ لِلْإِيجَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ اسْمًا ( إلَّا اسْمَ الْفَاعِلِ ) وَأَمَّا الْبَاقِي ( فَمُتَعَلِّقُ النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ مَفْعُولٌ ) أَيْ اشْتَقُّوا لِمُتَعَلِّقِهَا بِاعْتِبَارِ أَثَرِهَا اسْمَ الْمَفْعُولِ ( مَنْدُوبٌ مُبَاحٌ ) مَكْرُوهٌ ( وَ ) اشْتَقُّوا ( كُلًّا ) مِنْ اسْمَيْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ( لِمُتَعَلِّقِ التَّحْرِيمِ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ تَخْصِيصًا بِالِاصْطِلَاحِ فِي الْأَوَّلِ ) أَيْ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ ( وَالْأَخِيرُ ) أَيْ مُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ ( وَرَسْمِ الْوَاجِبِ بِمَا ) أَيْ فِعْلٍ ( يُعَاقَبُ تَارِكُهُ ) عَلَى تَرْكِهِ ( مَرْدُودٌ بِجَوَازِ الْعَفْوِ ) عَنْهُ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالْأَوْلَى بِمَا عُفِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْوُقُوعِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْعَكِسٍ لِخُرُوجِ الْوَاجِبِ الْمَعْفُوِّ عَنْ
تَرْكِهِ .
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَلِلْمُعَرِّفِ بِهِ أَنْ يَقُولَ : الْمُرَادُ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ عَادَةً لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ ( وَ ) رَسْمَهُ ( بِمَا ) أَيْ فِعْلٍ ( أَوْعَدَ ) بِالْعِقَابِ ( عَلَى تَرْكِهِ إنْ أُرِيدَ ) بِالتَّرْكِ التَّرْكُ ( الْأَعَمُّ مِنْ تَرْكِ وَاحِدٍ أَوْ الْكُلِّ لِيُدْخِلَ الْكِفَايَةَ ) أَيْ الْوَاجِبُ كِفَايَةً فِي هَذَا التَّعْرِيفِ ( لَزِمَ التَّوَعُّدُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ فِي الْكِفَايَةِ ) مَعَ فِعْلِ غَيْرِهِ ( أَوْ ) أُرِيدَ بِهِ ( تَرْكُ الْكُلِّ خَرَجَ مَتْرُوكُ الْوَاحِدِ أَوْ ) أُرِيدَ بِهِ تَرْكُ ( الْوَاحِدِ خَرَجَ الْكِفَايَةُ ) وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمُلَازِمَاتِ وَبُطْلَانِ اللَّازِمِ فِيهَا ظَاهِرٌ فَالتَّعْرِيفُ كَذَلِكَ ( وَأَمَّا رَدُّهُ ) أَيْ هَذَا التَّعْرِيفِ ( بِصِدْقِ إيعَادِهِ كَوَعْدِهِ فَيَسْتَلْزِمُ الْعِقَابَ ) عَلَى التَّرْكِ فَلَا يَنْعَكِسُ لِخُرُوجِ الْوَاجِبِ الْمَعْفُوِّ عَنْ تَرْكِهِ ( فَيُنَاقِضُ تَجْوِيزَهُمْ الْعَفْوَ ) لِأَنَّ صِدْقَ الْإِيعَادِ يُوجِبُ عَدَمَ وُقُوعِ الْعَفْوِ وَوُقُوعَ الْعَفْوِ يُوجِبُ عَدَمَ صِدْقِ الْإِيعَادِ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الرَّدُّ ( بِالْمُعْتَزِلَةِ أَلْيَقُ ) لِاسْتِحَالَةِ الْخَلَفِ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُ ( إلَّا أَنْ يُرَادَ ) بِإِيعَادِهِ ( إيعَادُ تَرْكِ وَاجِبِ الْإِيمَانِ ) فَإِنَّ الْخَلَفَ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَأَمَّا الْإِيعَادُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ غَيْرِهِ فَجَائِزٌ الَخَلَفُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ( فَلَا يَبْطُلُ التَّعْرِيفُ ) الْمَذْكُورُ ( إلَّا بِفَسَادِ عَكْسِهِ بِخُرُوجِ مَا سِوَاهُ ) أَيْ مَا سِوَى وَاجِبِ الْإِيمَانِ الْمَعْفُوِّ عَنْ تَرْكِهِ لِصِدْقِ الْمَحْدُودِ بِدُونِ الْحَدِّ ، هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي حَلْبَةِ الْمُجَلِّي أَنَّ ظَاهِرَ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ أَنَّ الْأَشَاعِرَةَ عَلَى جَوَازِ الْخَلَفِ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جُودًا وَكَرْمًا لَا نَقْصًا وَأَنَّ فِي
غَيْرِهِمَا الْمَنْعَ مِنْهُ مَعْزُوٌّ إلَى الْمُحَقِّقِينَ وَإِنَّ الشَّيْخَ حَافِظَ الدِّينِ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ وَأَنَّ الْأَشْبَهَ بَحْثًا تَرَجُّحُ الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً بِمَعْنَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ لِلْمَعْنَى الْوَعِيدِيِّ مِنْ الْعُمُومِ لَا جَوَازُ عَدَمِ وُقُوعِ عَذَابِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ الْإِخْبَارَ بِعَذَابِهِ فَإِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقُلْنَا ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كَمَا يُعْرَفُ ثَمَّةَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنَّ الْأَوْجَهَ تَرْكُ إطْلَاقِ جَوَازِ الْخَلْفِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَعْدًا وَوَعِيدًا دَفْعًا لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُحَالَ الْمَذْكُورَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُخَالِفُ الْوَعْدُ الْوَعِيدَ فِي هَذَا التَّجْوِيزِ وَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ : لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) رَدُّ هَذَا التَّعْرِيفِ ( بِأَنَّ مِنْهُ ) أَيْ الْوَاجِبِ ( مَا لَمْ يَتَوَعَّدْ عَلَيْهِ ) فَإِنْ أُرِيدَ بِخُصُوصِهِ فَقَدْ يَسْلَمُ وَلَا ضَيْرَ فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ أُرِيدَ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ( فَمُنْدَفِعٌ بِثُبُوتِهِ ) أَيْ الْإِيعَادِ ( لِكُلِّهَا ) أَيْ الْوَاجِبَاتِ ( بِالْعُمُومَاتِ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا } ( وَرَسْمَ ) الْوَاجِبَ أَيْضًا ( بِمَا ) أَيْ فِعْلٍ ( يُخَافُ الْعِقَابُ بِتَرْكِهِ وَأَفْسَدَ طَرْدَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَشَكَّ فِي وُجُوبِهِ ) فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الشَّاكَّ يَخَافُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَصْدُقُ الْحَدُّ بِدُونِ الْمَحْدُودِ ( وَيَدْفَعُ ) هَذَا الْإِفْسَادُ ( بِأَنَّ مَفْهُومَهُ ) أَيْ مَا يَخَافُ الْعِقَابَ بِتَرْكِهِ ( مَا بِحَيْثُ ) يَخَافُ ( فَلَا يَخْتَصُّ ) تَرْكُ الْوَاجِبِ ( بِخَوْفٍ وَاحِدٍ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا خَوْفَ ) عِقَابٍ عَادَةً ( لِلْمُجْتَهِدِ فِي تَرْكِ مَا شَكَّ فِيهِ )
أَيْ فِي وُجُوبِهِ لِعَدَمِ سَبَبِ الْخَوْفِ فَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ بِدُونِ الْمَحْدُودِ ( وَ ) أَفْسَدَ ( عَكْسُهُ بِوَاجِبِ شَكٍّ ) ابْتِدَاءً ( فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ أَوْ ظَنَّ ) ابْتِدَاءً عَدَمِ وُجُوبِهِ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ الشَّأْنَ ( لَا يَخَافُ ) الْعِقَابَ بِتَرْكِهِ فَيَصْدُقُ الْمَحْدُودُ بِدُونِ الْحَدِّ ( وَهُوَ ) أَيْ إفْسَادُ عَكْسِهِ بِهَذَا ( حَقٌّ وَمَنْبَعُ دَفْعِ الْأَوَّلِ ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّكَّ ابْتِدَاءً فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ يُفِيدُ الشَّكَّ ابْتِدَاءً فِي وُجُوبِهِ وَمَا شُكَّ ابْتِدَاءً فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ وَوُجُوبِهِ لَيْسَ بِحَيْثُ مِمَّا يَخَافُ الْمُجْتَهِدُ الْعِقَابَ بِتَرْكِهِ عَادَةً ( وَلِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ) رَسْمٌ آخَرُ وَهُوَ ( مَا ) أَيْ فِعْلٌ ( يُذَمُّ شَرْعًا تَارِكُهُ بِوَجْهٍ مَا ) فَشَمِلَ مَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْحَرَامُ وَخَرَجَ بِالْبَاقِي مَا عَدَا الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْحَرَامَ يُذَمُّ فَاعِلُهُ لَا تَارِكُهُ وَالثَّانِي لَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَقَيَّدَهُ ص بِشَرْعًا أَيْ بِأَنْ يَرِدَ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِحَالَةٍ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسْتَنْقِصًا مَلُومًا إلَى حَدٍّ يَصْلُحُ لِتَرَتُّبِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهِ وَبِوَجْهِ مَا لِيَدْخُلَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَالْمُخَيَّرُ وَالْكِفَايَةُ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ ( يُرِيدُ ) بِتَرْكِهِ تَرْكَهُ ( فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ بِلَا عُذْرِ نِسْيَانٍ وَنَوْمٍ وَسَفَرٍ وَمَعَ عَدَمِ فِعْلِ غَيْرِهِ ) أَيْ تَرْكِ الْجَمِيعِ لَهُ ( إنْ ) كَانَ الْوَاجِبُ ( كِفَايَةً وَ ) تَرْكِ ( الْكُلِّ ) مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا ( فِي ) الْوَاجِبِ ( الْمُخَيَّرِ ) فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تَرَكَهَا النَّائِمُ وَالنَّاسِي وَصَوْمَ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ صِدْقِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فَلَا يَطَّرِدُ ( وَلَوْ أَرَادَ ) الْقَاضِي ( عَدَمَ الْوُجُوبِ مَعَهَا ) أَيْ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الْقَاضِي صَرَّحَ فِي التَّقْرِيبِ بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَنَحْوِهِمَا حَتَّى
السَّكْرَانِ وَأَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدِ الشَّهْرَيْنِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ( فَلَا يُذَمُّ ) الْمُكَلَّفُ ( مَعَهَا ) أَيْ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ ( بِالتَّرْكِ إلَى آخَرِ الْوَقْتِ وَبَعْدَ زَوَالِهَا ) أَيْ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ ( تَوَجَّهَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عِنْدَهُ ) أَيْ الْقَاضِي ( فَيُذَمُّ ) الْمُكَلَّفُ ( بِتَرْكِهِ ) أَيْ الْقَضَاءِ ( بِوَجْهٍ مَا وَهُوَ ) أَيْ تَرْكُهُ الْقَضَاءَ بِوَجْهٍ مَا ( مَا ) أَيْ التَّرْكُ الَّذِي يَكُونُ ( فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ( وَلِبَعْضِهِمْ ) وَلَعَلَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ( اعْتِرَاضٌ جَدِيرٌ بِالْإِعْرَاضِ ) فَلَا يُطَوَّلُ بِإِيرَادِهِ وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ فَلْيُرَاجِعْ شُرُوحَ أُصُولِهِ وَحَوَاشِيَهَا ثُمَّ كَوْنُ الذَّمِّ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ بَلْ يَكْفِي فِي وُجُوبِهِ تَحَقُّقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَلَا وُجُودَ لِنَفْسِ وُجُوبٍ لَا غَيْرَ لِيَدَّعِيَ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالْمُسَافِرِ فَلَا يَتِمُّ نَفْيُ اطِّرَادِ الْحَدِّ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ ( أَمَّا عَلَى ) اصْطِلَاحِ ( الْحَنَفِيَّةِ فَالْوُجُوبُ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ هُوَ ( السَّاقِطُ ) لَا الْوُجُوبُ فَلَا يُتَّجَهُ الْقَوْلُ بِصِدْقِ الْحَدِّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ الْمَذْكُورَيْنِ دُونَ الْمَحْدُودِ لِيَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ نَفْيُ اطِّرَادِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ثَمَّ هَذَا
( تَقْسِيمٌ ) لِلْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقَيُّدِهِ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ وَتَقَيُّدِهِ بِهِ فَنَقُولُ : ( الْوَاجِبُ ) قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ ( مُطْلَقٌ ) وَهُوَ الَّذِي ( لَمْ يُقَيَّدْ طَلَبُ إيقَاعِهِ بِوَقْتٍ ) مَحْدُودٍ ( مِنْ الْعُمُرِ ) بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ قَبْلُهُ وَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي وَقْتٍ لَا مَحَالَةَ ( كَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَالْكَفَّارَاتِ ) وَقَضَاءِ رَمَضَانَ كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ لَا أَنَّهَا مِنْ الْمُؤَقَّتِ كَمَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّهَارِ لِأَنَّ كَوْنَهُ بِالنَّهَارِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِهِ لَا قَيْدٌ لَهُ ( وَالزَّكَاةُ ) كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ الرَّازِيّ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ وَذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى دَلِيلِ الِافْتِرَاضِ أَيْ دَلِيلِ الِافْتِرَاضِ لَا يُوجِبُ الْفَوْرِيَّةَ وَهُوَ لَا يَنْفِي وُجُودَ دَلِيلِ الْإِيجَابِ وَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ مَعَهُ قَرِينَةُ الْفَوْرِ وَهِيَ أَنَّهُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ وَهِيَ مُعَجَّلَةٌ فَمَتَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ فَلَزِمَ بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ الْإِثْمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَالْكَرْخِيُّ وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَهِيَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِهَا إذَا تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا لِأَنَّهُمَا فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَنْهُمَا مَا يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَبِهِ
قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ( وَالْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ وَأَدْرَجَ الْحَنَفِيَّةُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ) فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا ( نَظَرًا إلَى أَنَّ وُجُوبَهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ ) عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا تَتَقَيَّدْ بِوَقْتٍ ( وَالظَّاهِرُ تَقَيُّدُهَا بِيَوْمِهِ ) أَيْ يَوْمِ الْفِطْرِ ( مِنْ ) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اغْنُوهُمْ إلَى آخِرِهِ ) أَيْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ كَمَا هُوَ لَفْظُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا أَوْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَمَا فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ ( فَبَعْدَهُ ) أَيْ فَإِخْرَاجِهَا فِيمَا بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ ( قَضَاءٌ وَوُجُوبُهُ ) أَيْ الْمُطْلَقِ ( عَلَى التَّرَاخِي أَيْ جَوَازِ التَّأْخِيرِ ) عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يَلِي وَقْتَ وُرُودِ الْأَمْرِ لَا وُجُوبَ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ ( مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ فَوَاتُهُ ) إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِتْيَانِهِ بِهِ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَلِّيَهَا مِنْهُ ( عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفِرَقِ ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ ( خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ) وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَالُوا : وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ ( وَمَبْنَاهُ ) أَيْ هَذَا الْخِلَافِ ( أَنَّ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ أَوْ لَا ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفَى ثَمَّةَ .
ثَانِيهُمَا وَاجِبٌ مُقَيَّدٌ كَمَا قَالَ ( وَمُقَيَّدٌ بِهِ ) أَيْ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ ( يَفُوتُ ) الْوَاجِبُ ( بِهِ ) أَيْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْوَقْتُ الْمُقَيَّدُ بِهِ الْوَاجِبُ ( بِالِاسْتِقْرَاءِ ) أَقْسَامٌ ( أَرْبَعَةٌ ) : الْقِسْمُ ( الْأَوَّلُ أَنْ يَفْضُلَ الْوَقْتُ عَنْ الْأَدَاءِ وَيُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ظَرْفًا اصْطِلَاحًا ) مُوَافِقًا لِلُّغَةِ لِأَنَّهُ لُغَةُ مَا يَحِلُّ بِهِ الشَّيْءُ وَالْأَدَاءُ يَحِلُّ فِيهِ نَعَمْ تَخْصِيصُهُ بِهِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ ( وَمُوَسَّعًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ ) أَيْ بِالْمُوَسَّعِ ( سَمَّاهُ فِي
الْكَشْفِ الصَّغِيرِ ) أَيْ كَشْفِ الْأَسْرَارِ شَرْحُ الْمَنَارِ لِمُؤَلَّفِهِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بَلْ وَقَفْت عَلَيْهِ فِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِيمَا يَظْهَرُ وَسَأَذْكُرُ سِيَاقَهُ فِيمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( كَوَقْتِ الصَّلَاةِ ) الْمَكْتُوبَةِ لَهَا فَإِنَّهُ ( سَبَبٌ مَحْضٌ عَلَامَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ ) أَيْ وُجُوبِهَا فِيهِ ( وَالنِّعَمُ ) الْمُتَتَابِعَةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيهِ هِيَ ( الْعِلَّةُ ) الْمُثِيرَةُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ ( بِالْحَقِيقَةِ ) لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِوُجُوبِ الشُّكْرِ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ نَفْسِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَإِنَّمَا جَعَلَ سَبَبًا مَجَازًا لِأَنَّهُ مَحِلّ حُدُوثِ النِّعَمِ فَأُقِيمَ مَقَامُهَا تَيْسِيرًا ( وَشَرْطُ صِحَّةِ مُتَعَلِّقِهِ ) أَيْ الْوُجُوبِ ( مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ ) أَيْ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ الْمُؤَدَّى ( وَمَا قِيلَ ) أَيْ وَمَا قَالَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ ( ظَرْفِيَّتُهُ لِلْمُؤَدَّى وَهُوَ ) أَيْ الْمُؤَدَّى ( الْفِعْلُ وَشَرْطِيَّتُهُ لِلْأَدَاءِ وَهُوَ ) أَيْ الْأَدَاءُ ( غَيْرُهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( غَلَطٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْوَقْتِ ) كَالْهَيْئَةِ الْحَاصِلَة مِنْ الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّاةِ بِالصَّلَاةِ ( هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَدَاءِ لَا أَدَاءِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْفِعْلِ ) وَهُوَ إخْرَاجُ الْفِعْلِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ فِعْلَ الْفِعْلِ أَمْرٌ ( اعْتِبَارِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ وَفِيهِ ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ ( مَسْأَلَةُ السَّبَبِ ) لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ( الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ عَيْنًا لِلسَّبَقِ وَالصَّلَاحِيَّةِ بِلَا مَانِعٍ وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ ) السَّبَبُ ( هُوَ ) أَيْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ ( فَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ انْتَقَلَتْ ) السَّبَبِيَّةُ مِنْهُ ( كَذَلِكَ ) أَيْ كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْ الْأَوَّلِ ( إلَى مَا ) أَيْ الْجُزْءِ الَّذِي بَعْدَهُ بِشَرْطِ
أَنَّهُ ( يَتَّصِلُ بِهِ ) الْأَدَاءُ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَا يَلِيهِ كَذَلِكَ حَتَّى الْجُزْءَ ( الْأَخِيرَ وَعِنْدَ زُفَرَ ) يَنْتَقِلُ مِنْ جُزْءٍ إلَى جُزْءٍ حَتَّى إلَى ( مَا يَسَعُ مِنْهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْأَدَاءُ ) هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ ( وَبَعْدَ خُرُوجِهِ ) السَّبَبِ ( جُمْلَتُهُ اتِّفَاقًا ) قُلْت وَيَطْرُقُهُ مَا فِي التَّحْقِيقِ وَذَهَبَ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مُتَعَيِّنٌ لِلسَّبَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ الْوُجُوبُ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ بَعْدَ مُضِيِّهِ بِحَالٍ ( فَتُؤَدَّى عَصْرُ يَوْمِهِ فِي ) الْوَقْتِ ( النَّاقِصِ ) وَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ وَجَبَ نَاقِصًا لِأَنَّ نُقْصَانَ السَّبَبِ مُؤَثِّرٌ فِي نُقْصَانِ الْمُسَبَّبِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْمِلْكِ فَيَتَأَدَّى بِصِفَةِ النُّقْصَانِ ( لَا أَمْسَهُ ) أَيْ وَلَمْ يَتَأَدَّ عَصْرُ أَمْسِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ النَّاقِصِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ سَبَبَ عَصْرِ أَمْسِهِ ( نَاقِصٌ مِنْ وَجْهٍ ) لِاشْتِمَالِ جُمْلَةِ الْوَقْتِ عَلَى الْوَقْتِ النَّاقِصِ فَالْوَاجِبُ بِهِ كَذَلِكَ ( فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ ) أَيْ فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ ( مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) لِأَنَّهُ دُونَهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَلِفَاتِ الْقَاضِي الْغَيَّ ( وَاعْتَرَضَ بِلُزُومِ صِحَّتِهِ ) أَيْ عَصْرِ أَمْسِهِ ( إذَا وَقَعَ بَعْضُهُ فِيهِ ) أَيْ الْوَقْتِ النَّاقِصِ وَبَعْضُهُ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْوَقْتَ حِينَئِذٍ كَامِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ نَاقِصٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْوَاجِبِ لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ ( فَعَدَلَ ) عَنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ الْوَقْتَ الْكَامِلَ لَمَّا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النَّاقِصِ تَعَيَّنَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ كَامِلًا مَيْلًا ( إلَى تَغْلِيبِ الصَّحِيحِ ) الْأَكْثَرِ عَلَى الْفَاسِدِ الْأَقَلِّ ( لِلْغَلَبَةِ ) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى ( فَوَرَدَ مَنْ أَسْلَمَ وَنَحْوُهُ ) كَمَنْ بَلَغَ وَمَنْ طَهُرَ مِنْ حَائِضٍ ( فِي ) الْوَقْتِ ( النَّاقِصِ )
فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى مَضَى ( لَا يَصِحُّ مِنْهُ ) قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ ( فِي نَاقِصٍ غَيْرِهِ ) مِنْ الْأَوْقَاتِ النَّاقِصَةِ ( مَعَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ ) لِلسَّبَبِ ( فِي حَقِّهِ إلَى الْكُلِّ ) أَيْ كُلِّ الْوَقْتِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْوُجُوبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَ بِهَا الْأَدَاءُ لِتَقَرُّرِ تَعَيُّنِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ هَذَا حَالُهُ ( فَأُجِيبَ بِأَنَّ لَا رِوَايَةَ ) فِي هَذَا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ( فَيَلْتَزِمُ الصِّحَّةَ ) فِيهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَعَزَاهُ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ إلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَدَمِهَا كَمَا هُوَ قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَوْجُهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي الْوَقْتِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَدَاءِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ النُّقْصَانَ لَازِمُ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ ) الْأَخِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ( لَا الْجُزْءِ ) لِلْوَقْتِ مُطْلَقًا مِمَّا عَدَا هَذَا الْجُزْءِ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ ( فَتُحْمَلُ ) النُّقْصَانُ فِي الْأَدَاءِ فِيهِ ( لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهِ ) بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ ( فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ ) فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالُ كَمَا قَالَ ( وَلَا نَقَصَ ) فِي الْوَقْتِ أَصْلًا ( وَجَبَ الْكَامِلُ ) فَلَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا مَعَ عَدَمِ الْجَابِرِ لَهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ : ( كَوْنُهُ ) أَيْ السَّبَبِ الْجُزْءَ ( الْأَوَّلَ يُوجِبُ كَوْنَ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ ) أَيْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ ( قَضَاءً ) كَمَا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ الْأَدَاءُ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ ( وَ ) كَوْنُهُ ( الْكُلُّ ) أَيْ كُلُّ الْوَقْتِ ( يُوجِبُهُ ) أَيْ الْأَدَاءُ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الْوَقْتِ ضَرُورَةَ لُزُومِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ (
وَهُمَا ) أَيْ كَوْنُ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ فِي الْوَقْتِ قَضَاءً وَإِيجَابُ الْفِعْلِ بَعْدَ الْوَقْتِ أَدَاءً ( مُنْتَفِيَانِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالتَّفْوِيتِ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالْإِجْمَاعِ ( قُلْنَا ) : نَخْتَارُ الْأَوَّلَ ثُمَّ ( الْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ) كَوْنُ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ قَضَاءً ( لَوْ لَمْ يَكُنْ ) الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ( سَبَبًا لِلْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَهُ ( عَلَامَةً عَلَى تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْفِعْلِ مُخَيَّرًا فِي أَجْزَاءِ زَمَانٍ مُقَدَّرٍ يَقَعُ أَدَاءً فِي كُلٍّ مِنْهَا ) أَيْ الْأَجْزَاءِ ( كَالتَّخْيِيرِ فِي الْمَفْعُولِ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَجَمِيعُهُ ) أَيْ الْوَقْتِ ( وَقْتُ الْأَدَاءِ وَالسَّبَبُ الْجُزْءُ السَّابِقُ ) وَهَذَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الثَّلْجِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَنَصَّ السَّرَخْسِيُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَتَعْلَمُ فَلَا جَرَمَ أَنْ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا تَنْعَكِسُ الْفُرُوعُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : يَعْنِي أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا السَّبَبُ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عَيْنًا لَا تَنْعَكِسُ الْفُرُوعُ الْمَذْهَبِيَّةُ بَلْ يَسْتَمِرُّ قَوْلُنَا إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ إلَخْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلْزَمُ الْأَدَاءَ فِيهِ نُقْصَانُ الْمُؤَدَّى لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عَصْرِهِ فِي مِثْلِهِ مِنْ يَوْمٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَا يَجِبُ دَائِمًا كَامِلٌ إذْ لَا نَقْصَ فِي الْوَقْتِ كَمَا حُقِّقَ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا عَصْرُ يَوْمِهِ كَمَا قُلْنَا ( وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ ( قَضَاءً بَعْدُهُ ) أَيْ بَعْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ وَفِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ ( وَ ) عَنْ ( بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ) أَيْ السَّبَبَ الْجُزْءُ ( الْأَخِيرُ فَفِيمَا قَبْلَهُ ) أَيْ فَالْفِعْلُ قَبْلَ الْأَخِيرِ ( نَفْلٌ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ لَيْسَ )
كُلٌّ مِنْهُمَا ( مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ ) أَيْ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَقَطَعَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْمَعْزُوَّ إلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ صَحِيحًا عَنْهُمْ قُلْت : وَيُعَكِّرُهُ مَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ الرَّازِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا عَنْ الثَّلْجِيِّ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ الْوُجُوبَ فِي مِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إنَّ مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْفَرْضِ فِي آخِرِهِ وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا : مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُرَاعَى فَإِنْ لَحِقَ آخِرَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ مَا أَدَّاهُ فَرْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ الْمَفْعُولُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلًا ا هـ مُخْتَصَرًا وَنَصَّ فِي الْكَشْفَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ قَوْلَانِ لِمَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا عَنْ الْكَرْخِيِّ مُوَافَقَةً لِابْنِ الْحَاجِبِ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ فَقَالَ ( وَإِنَّمَا عَنْ الْكَرْخِيِّ إذَا لَمْ يَبْقَ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ ( بِأَنْ يَمُوتَ أَوْ يُجَنَّ كَانَ ) ذَلِكَ الْمَفْعُولُ ( نَفْلًا ) وَفِي الْمِيزَانِ عَنْ الْكَرْخِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا هَذَا وَالثَّانِيَةُ مَا قَبْلَهُ قَالَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَهْجُورَةٌ وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَصَّاصِ عَنْهُ أَنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ وَقْتُ الْفَرْضِ وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ مُطْلَقٍ مِنْ جَمِيعِ الْوَقْتِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِالْأَدَاءِ أَوْ بِتَضْيِيقِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَدَّى فِي أَوَّلِهِ يَكُونُ وَاجِبًا وَإِنْ أَخَّرَ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ قَبْلَ التَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يُؤَدَّى فِيهِ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ
الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهَا ( وَالْكُلُّ ) مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ ( بِلَا مُوجِبٍ ) وَتَشَبَّثَ كُلٌّ مِمَّنْ يُعَلِّقُهُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ لَا غَيْرَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَقَّتَ لَا يَنْتَظِرُ لِوُجُوبِهِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ سِوَى دُخُولِ الْوَقْتِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَعَ أَسْبَابِهَا وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَهُ لِامْتِنَاعِ التَّوَسُّعِ فِي الْوُجُوبِ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْوَاجِبَ مَا لَا يَسَعَ تَرْكُهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالتَّوَسُّعُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَمِمَّنْ يُعَلِّقُهُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّأْخِيرُ إلَى التَّضَيُّقِ وَامْتَنَعَ التَّوَسُّعُ كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِآخِرِهِ وَإِنَّ مَا قَبْلَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْإِيجَابِ وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ فِي آخَرِ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَلَّتْهَا وَأَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي آخَرِ الْوَقْتِ يَقْصُرُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَلَّاهَا وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّهَا لَوْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَتْهَا وَأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا أَقَامَ فِي آخِرِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ يُتِمُّهَا ثُمَّ الْمُؤَدَّى إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا كَمَا قَالَ الْبَعْضُ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرْكِ فِي أَوَّلِهِ لَا إلَى بَدَلٍ وَأَثِمَ وَهَذَا حَدُّ النَّفْلِ إلَّا أَنَّ بِأَدَائِهِ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ إظْهَارُ فَضْلِ الْوَقْتِ فَيُمْنَعُ لُزُومُهُ الْفَرْضَ كَمُحْدِثٍ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ يَقَعُ نَفْلًا وَمَعَ هَذَا يُمْنَعُ لُزُومُ فَرْضِ الْوَقْتِ بَعْدَ دُخُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا كَمَا قَالَ الْبَعْضُ كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لِلْمُصَدِّقِ كَشَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً فَإِنَّهُ إنْ تَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ الْمُصَدِّقِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً تَشَبُّثٌ سَاقِطٌ فَإِنَّ النُّصُوصَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } { وَقَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْإِمَامَةِ يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِك وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا أَيْ لِوَقْتِهَا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ الْعَصْرُ } الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَطْبِيقَ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَا فِعْلِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ صَالِحٌ لِلْأَدَاءِ وَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِيهِ فَثَبَتَ التَّوَسُّعُ شَرْعًا ضَرُورَةً لِامْتِنَاعِ قِسْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ الْوُجُوبِ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا فَإِنَّ قَوْلَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ : خِطْ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْيَوْمِ إمَّا فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ صَحِيحٌ عَقْلًا وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ مَا أَوْجَبَ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبَ مَضِيقًا وَهُمَا مُحَالَانِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَوْجَبَ مُوَسَّعًا .
ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ طَهُرَتْ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ الْبَاقِي مِنْهُ مَا يَسَعُهَا وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ مُعَلَّقًا بِأَوَّلِهِ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ فَوَاتِ أَوَّلِهِ كَمَا لَوْ فَاتَ جَمِيعُ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْفَرْضِ لَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَا بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ نَفْلًا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ مَوْقُوفًا كَمَا زَعَمَ آخَرُونَ لَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَاسْتَوَتْ فِيهِ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَفِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ وَقَوْلُهُمْ وُجِدَ فِي الْمُؤَدَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ حَدُّ
النَّفْلِ لِأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَرْكٌ بَلْ هُوَ تَأْخِيرٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْأَقْسَامَ فِي الْفِعْلِ ثَلَاثَةٌ : فِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَاجِبُ وَفِعْلٌ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ النَّدْبُ وَفِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَجْمُوعِ الْوَقْتِ لَكِنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْإِضَافَةِ إلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ مُفْتَقِرٌ إلَى عِبَارَةٍ ثَالِثَةٍ وَحَقِيقَتُهُ لَا تَعْدُو النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ فَأَوْلَى الْأَلْقَابِ بِهِ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَقَدْ وَجَدْنَا الشَّرْعَ يُسَمِّي هَذَا الْقِسْمَ وَاجِبًا بِدَلِيلِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَعَلَى أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ثَوَابَ الْفَرْضِ لَا ثَوَابَ النَّدْبِ فَإِذَنْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَا يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ ، وَالنِّزَاعُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَاللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ا هـ وَهَذَا السِّيَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهِ ( وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ) كَوْنُهُ قَضَاءً بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي الْوَقْتِ ( لَوْ كَانَ ) الْجُزْءُ ( الْأَوَّلُ سَبَبَ ) الْوُجُوبِ ( الْمَضِيقِ ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ ( تَتَقَرَّرُ السَّبَبِيَّةُ عَلَى مَا ) أَيْ الْجُزْءِ الَّذِي ( يَلِيهِ الشُّرُوعُ ) فِي الْوَاجِبِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي قَوْلِهِمْ ( مَا سَنَذْكُرُ ) فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي الْمَسْأَلَةَ الَّتِي تَلِي هَذِهِ وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( مَسْأَلَةُ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ الْفِعْلُ عَيْنًا مُخَيَّرًا ) فِي أَجْزَاءِ زَمَانِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ ( كَمَا قُلْنَا ) آنِفًا فِي السَّابِقَةِ ( وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ جُزْءٍ ) مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَتَضَيَّقْ ( أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( وَمِنْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ ) أَيْ الْفِعْلِ ( فِيمَا بَعْدَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْخَالِي هُوَ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا مَا يَسَعُ الْفِعْلَ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ ( فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَعْزِمْ ) عَلَى الْفِعْلِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ( عَصَى وَعِنْدَ زُفَرَ عَصَى بِالتَّأْخِيرِ عَنْ قَدْرِ مَا يَسَعُ ) الْأَدَاءَ مِنْ آخَرِ الْوَقْتِ ( وَدَفْعُ ) قَوْلِ الْقَاضِي ( بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الْجُزْءِ ) الَّذِي لَيْسَ بِالْأَخِيرِ مِنْ آخَرِ الْوَقْتِ ( مُمْتَثِلٌ لِكَوْنِهِ مُصَلِّيًا لَا ) لِكَوْنِهِ ( آتِيًا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ) الْفِعْلِ أَوْ الْعَزْمِ مُبْهَمًا وَلَوْ كَانَ هُنَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْعَزْمِ لَكَانَ الِامْتِثَالُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمَفْهُومِ الْمُطْلَقِ كَمَا يُعْلَمُ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ ( وَلَهُ ) أَيْ لِلْقَاضِي ( دَفْعُهُ ) أَيْ هَذَا الدَّفْعِ ( بِأَنْ لَا مُنَافَاةَ ) بَيْنَ كَوْنِهِ مُصَلِّيًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ آتِيًا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُبْهَمًا لِكَوْنِهِ أَحَدَ جُزْأَيْهِ ( فَلْيَكُنْ ) مُمْتَثِلًا ( لِكَوْنِ الصَّلَاةِ أَحَدَهُمَا ) أَيْ الْأَمْرَيْنِ مُبْهَمًا ( وَدَعْوَى التَّعَيُّنِ ) أَيْ بِأَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُمَا ( مَحَلُّ النِّزَاعِ إنَّمَا ذَلِكَ ) أَيْ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ( عِنْدَ التَّضَيُّقِ ) فِي الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا مَا يَسَعُهَا وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ( وَفِي الْبَدِيعِ ) فِي جَوَابِ قَوْلِ الْقَاضِي وَبِأَنَّهُ ( لَوْ كَانَ الْعَزْمُ بَدَلًا ) عَنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ أَتَى بِهِ ( سَقَطَ بِهِ الْمُبْدَلُ ) وَهُوَ الصَّلَاةُ ( كَسَائِرِ الْإِبْدَالِ ) كَالْجُمُعَةِ لِلظُّهْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( وَالْجَوَابُ ) عَنْ هَذَا ( مَنْعُ
الْمُلَازَمَةِ ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ سُقُوطَهَا بِهِ لِأَنَّا لَا نَعْنِي أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهَا مُطْلَقًا ( بَلْ ) نَعْنِي أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ إيقَاعِهَا فِيمَا عَدَا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ ( اللَّازِمُ سُقُوطُ وُجُوبِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْبَدَلِيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي هَذَا الْقَدْرِ ) أَيْ فِي سُقُوطِ وُجُوبِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي ثَانِي الْحَالِ قِيلَ وَأَيْضًا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ الْعَزْمَ وَحْدَهُ بَدَلًا بَلْ الْعَزْمُ مَعَ الْفِعْلِ فِي آخِرِهِ فَتَحَقَّقَ الْعَزْمُ فِيمَا عَدَا الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مَعَ تَرْكِ الْفِعْلِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَدَلِ بِكَمَالِهِ ( بَلْ الْجَوَابُ ) عَنْ قَوْلِ الْقَاضِي ( أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْوَاجِبِ بِالْوَقْتِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ الْعَزْمِ بِهِ ) أَيْ بِالْوَقْتِ ( بَلْ وُجُوبُ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ كُلِّ وَاجِبٍ ) مُوَسَّعًا كَانَ أَوْ مُضَيَّقًا إجْمَالًا عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا عِنْدَ تَذَكُّرِهِ بِخُصُوصِهِ كَالصَّلَاةِ حُكْمٌ ( مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ ) يَثْبُتُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ دَخَلَ وَقْتُ الْوَاجِبِ أَوْ لَا فَهُوَ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَمَعَهُ بِحَسَبِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ لِيَتَحَقَّقَ التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِذْعَانُ وَالْقَبُولُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّلَاةِ وَمُقَيِّدًا كَوْنَ الْعَزْمِ بَدَلًا عَنْ الْفِعْلِ ( هَذَا وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ مَذْهَبَ الْقَاضِي أَنَّ الْوَاجِبَ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ الصَّلَاةُ أَوْ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهَا ) أَيْ الصَّلَاةِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ أَوَّلِ الْوَقْتِ ( فِيهِ ) أَيْ الْوَقْتِ ( كَمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ) إذْ فِي بُرْهَانِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ تَجْدِيدَ الْعَزْمِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي بَلْ يَحْكُمُونَ بِأَنَّ الْعَزْمَ الْأَوَّلَ يَنْسَحِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَانْسِحَابِ النِّيَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ الطَّوِيلَةِ مَعَ عُزُوبِهَا ( لَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَلْزَمُ فِيهِ الْفِعْلُ أَوْ الْعَزْمُ الْمُسْتَلْزِمُ
لِاسْتِصْحَابِ الْعَزْمِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ ) لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الْعَزْمَ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَافٍ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مَا أَسَلَفنَا مِنْ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ أَمَّا فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ فَيَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ قَطْعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( مَسْأَلَةٌ تَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ ) فِي الْوَاجِبِ الْبَدَنِيِّ ( بِأَوَّلِ الْوَقْتِ مُوسِعًا كَمَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَالِيِّ فَيَثْبُتُ بِالنِّصَابِ ) الْمَمْلُوكِ لَهُ ( وَالرَّأْسِ ) الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ ( أَوْ الْفِطْرِ ) أَيْ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ( وَالدَّيْنِ ) الْمُؤَجَّلِ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ( أَصْلُ الْوُجُوبِ ) لِلزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ مِنْ الدَّيْنِ ( وَتَأَخُّرُ وُجُوبِ الدَّيْنِ ) إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَطُلُوعِ فَجْرِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَحُلُولِ الْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ ( بِدَلِيلِ السُّقُوطِ ) لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ الْمُكَلَّفِ ( بِالتَّعْجِيلِ ) لَهَا ( وَهُوَ ) أَيْ سُقُوطُهَا ( فَرْعٌ سَبَقَ الْوُجُوبُ ) لَهَا ( وَ ) فَرْعٌ ( تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ) أَيْ جُمْهُورِهِمْ ( كَذَلِكَ ) أَيْ قَائِلُونَ بِانْفِصَالِ الْوُجُوبِ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ ( فِي الْبَدَنِيِّ أَيْضًا ) كَمَا فِي الْمَالِيِّ ( فَثَبَتَ بِالْأَوَّلِ ) مِنْ إجْزَاءِ الْوَقْتِ ( أَصْلُ الْوُجُوبِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُكَلَّفِ فِي ) الْجُزْءِ ( الْأَخِيرِ ) مِنْ الْوَقْتِ ( مِنْ الْحَيْضِ وَالْبُلُوغِ وَالسَّفَرِ وَأَضْدَادِهَا ) أَيْ الطَّهَارَةِ وَالصِّبَا وَالْإِقَامَةِ ( فَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً أَوَّلَ الْوَقْتِ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى حَاضَتْ آخِرَهُ لَا قَضَاءَ ) عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ أَوْ تَحْرِيمَتَهَا فَقَطْ وَقَالَ زُفَرُ إنْ بَقِيَ مَا يَسَعُهَا لَا قَضَاءَ وَإِلَّا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَدْرَكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ إحْدَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ قَبْلَ عُرُوضِهَا قَدْرَ الْفَرْضِ أَخَفُّ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِلَّا ، فَلَا ( وَفِي قَلْبِهِ ) أَيْ إذَا كَانَتْ حَائِضًا أَوَّلَ الْوَقْتِ ثُمَّ طَهُرَتْ آخِرَهُ ( قَلْبُهُ ) أَيْ الْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ إذَا كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ وَالْبَاقِي قَدْرُ الْغُسْلِ مَعَ مُقَدِّمَاتِهِ كَالِاسْتِقَاءِ وَخَلْعِ الثَّوْبِ وَالتَّسَتُّرِ عَنْ الْأَعْيُنِ وَالتَّحْرِيمَةِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَإِلَّا فَلَا وَفِي شَرْحٍ لِلْبَزْدَوِيِّ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغُسْلُ الْمَسْنُونُ أَوْ الْفَرْضُ وَالظَّاهِرُ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الطَّهَارَةِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَا لَمْ يُدْرِكْ مَا يَسَعُ جَمِيعَ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا زَالَ الْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ يَجِبُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ وَلَا يَجِبُ عِنْدَ زُفَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ إذَا زَالَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْعِشَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ إدْرَاكُ زَمَنِ الطَّهَارَةِ ، وَيُشْتَرَطُ امْتِدَادُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَوَانِعِ زَمَنَ إمْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ( وَلَا يُنْكِرُونَ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ ( إمْكَانَ ادِّعَاءِ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ ادَّعَوْهُ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ إمْكَانَهُ ( غَيْرَ وَاقِعٍ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى نَائِمٍ كُلَّ الْوَقْتِ وَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ( فَرْعُ وُجُودِ الْوُجُوبِ ) عَلَيْهِ حَالَةَ النَّوْمِ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، كَمَا لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ حَدَثَتْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ بِإِسْلَامٍ أَوْ بُلُوغٍ وَأَوْرَدَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً عِبَادَةً تَلْزَمُهُ بَعْدَ حُدُوثِ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ بِخِطَابٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ وَهُوَ مَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَأُجِيبُ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْقَضَاءِ فِيهِ كَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ
ابْتِدَاءَ فَرْضٍ لَمَا رُوعِيَتْ وَدُفِعَ بِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي حَقِّ النِّيَّةِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصَّوْمِ بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ مَا عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ وَلَوْلَا الْعُذْرُ لَوَجَبَ فِي الْوَقْتِ وَبِهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا وَجَبَا عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي حَالَةِ سُقُوطِ أَدَائِهِمَا عَنْهُ وَسَتَقِفُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ دَفْعُهُ وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا اعْتِبَارَ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ ) أَيْ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ ( أَدَاءً مِنْهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ فَخْرَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ قَالَ وَهُوَ أَيْ انْفِكَاكُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَتَرَاخِيهِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِمَا وَقْتُ جَمِيعِ الصَّلَاةِ وَجَنْبُ الْأَصْلِ وَتَرَاخِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَالْخِطَابِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ فِي شَرْحِهِ عِبَارَةُ الشَّيْخِ هُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْيَقِظَةِ وَالِانْتِبَاهِ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ ، وَقَالَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْقَوَاعِدِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْأَدَاءَ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِالْأَمْرِ هُوَ مَا يَأْتِيَانِ بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَالْمِثْلُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ مُخَاطَبًا بِالْأَصْلِيِّ وَقَدْ فَاتَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهَا لِفَهْمِ الْخِطَابِ ا هـ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا عَنْ أَبِي الْمُعِينِ فَيَنْدَفِعُ بِمَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَالْأَشْبَهُ كَمَا فِي شَرْحِ الشَّيْخِ قِوَامِ الدِّينِ الْأَتْقَانِيِّ اسْتِعَارَةُ مَعْنَى الْأَدَاءِ لِلْقَضَاءِ لِوُجُودِ مَعْنَى التَّسْلِيمِ فِيهِمَا لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ إذْ هِيَ تَسْلِيمُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ أَوْ أَنَّهُ
أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يُخَالِفُ فِي الْمَعْنَى كَوْنُهُ قَضَاءً كَمَا أَطْلَقَهُ الْقَوْمُ ( وَالِاتِّفَاقُ عَلَى انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ ) أَيْ النَّائِمِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ فِيهِ أَيْضًا الْأَدَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَكُونُ نَفْسُ الْفِعْلِ فِيهِ مَطْلُوبًا حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اسْتِطَاعَةِ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَنَوْعٌ لَا يَكُونُ نَفْسُ الْفِعْلِ فِيهِ مَطْلُوبًا بَلْ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ثُبُوتُ خَلْفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ وَيَكْفِي فِيهِ تَصَوُّرُ ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ فَفِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِفَوَاتِ اسْتِطَاعَةِ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مَوْجُودٌ لِتَصَوُّرِ حُدُوثِهَا بِالِانْتِبَاهِ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ بِنَاءً عَلَى هَذَا وَعَدَمُ الْإِثْمِ بِنَاءً عَلَى انْتِقَاءِ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ مَا يُوَافِقُ هَذَا وَلَكِنْ عَلَى هَذَا كَمَا قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ انْفِصَالَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَقِيلَ الْقَضَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ الْوُجُوبَ إذْ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ أَوْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَإِنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْأَدَاءِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ثَابِتًا أَوَّلًا ثُمَّ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِفَوَاتِهِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَصْلُحَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِإِفْضَائِهِ إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لِمَانِعٍ ظَهَرَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَلْفِيَّةِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ وَهُوَ الْوَقْتُ يَصْلُحُ لِلْإِفْضَاءِ إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْتَيْقِظِ وَالْمُفِيقِ فَيَصْلُحُ أَنْ
يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْقَضَاءِ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ قَالَ الْكَاكِيُّ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُرَدُّ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ وَلَكِنْ يُرَدُّ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ ا هـ هَذَا وَقَدْ عَلَّلُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ الْوَقْتَ كُلَّهُ بِعَدَمِ الْخِطَابِ ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَفْهَمُ لَغْوٌ وَفِي التَّلْوِيحِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ عَدَمَ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ اللَّغْوُ أَنْ لَوْ كَانَ مُخَاطَبًا بِأَنْ يَفْعَلَ فِي حَالَةِ النَّوْمِ مَثَلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِأَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَالْمَرِيضُ مُخَاطَبٌ بِأَنْ يَفْعَلَ فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خِطَابَ الْمَعْدُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ صُدُورُ الْفِعْلِ حَالَةَ الْوُجُودِ حَتَّى قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بَلْ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَصَحَّ أَمْرُهُ فِي حَقِّ مَنْ وُجِدَ بَعْدَهُ وَيَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْأَدَاءِ وَقَدْ يُصَرَّحُ بِذَلِكَ ، كَالْمَرِيضِ يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا بَرَأَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أَيْ إذَا أَمِنْتُمْ مِنْ الْخَوْفِ فَصَلُّوا بِلَا إيمَاءٍ ا هـ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّائِمُ مُخَاطَبًا بِأَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ ، وَالْمَرِيضُ مُخَاطَبًا بِأَنْ يَفْعَلَ فِي الْوَقْتِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَإِلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ أَيْضًا مُكَلَّفًا ، وَمُخَاطَبًا بِأَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّازِمُ