كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد

بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْوَارَ مَنْبَعِ الْأَنْوَارِ ، وَهَدْيَ الْمُرْسَلِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعِدُّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ لَدَرْكِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الْقُدْسِيَّةِ لِانْهِزَامِ عَسَاكِرِ الْأَوْهَامِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَضَلَالَاتِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ ، وَكَانُوا يَكْتَفُونَ مِنْ النَّظَرِ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِهِ لَهُ مِنْ الِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ إلَى الْإِيمَانِ وَآثَارِ الْقَطْعِ بِهِ وَالْإِيقَانِ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْ سَبَبِهِ لَأَتَى بِهِ أَكْمَلَ مِمَّا أَجَابَ بِهِ الْأَعْرَابِيُّ لَلْأَصْمَعِيِّ عَنْ سُؤَالِهِ لَهُ بِمَ عَرَفْتَ رَبَّك حَيْثُ قَالَ الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَآثَارُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ أَلَا تَدُلُّ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ .
غَايَتُهُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ ذَلِكَ بِالْعِبَارَاتِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُتَعَارَفِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ ( وَلَيْسَ الْمُرَادُ ) مِنْ النَّظَرِ الْوَاجِبِ ( تَحْرِيرَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ ) بَلْ مَا يُوَصِّلُ إلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ( وَمَنْ أَصْغَى إلَى عَوَامِّ الْأَسْوَاقِ امْتَلَأَ سَمْعُهُ مِنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَوَادِثِ ) عَلَى مُحْدِثِهَا .
( وَالْمُقَلَّدُ الْمَفْرُوضُ ) فِي الْإِيمَانِ ( لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَإِنَّهُ قَلَّ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ ذِهْنُهُ قَطُّ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى مُوجِدِهَا ، وَ ) الْحَالُ أَنَّهُ ( لَمْ يَخْطِرْ لَهُ الْمُوجِدُ أَوْ خَطَرَ فَشَكَّ فِيهِ مَنْ يَقُولُ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ رَبٌّ أَوْجَدَهَا مُتَّصِفٌ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْقُدْرَةِ إلَخْ ) أَيْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إلَى آخِرِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ ( فَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ ) لِلسَّامِعِ مِنْ الْمَصْنُوعِ إلَى الصَّانِعِ ( يُفِيدُ اللُّزُومَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ ) بِفَتْحِ الدَّالِ ( وَالْمُوجِدِ ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَلَيْسَ مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ إلَّا هَذَا فَمَنْ لَمْ

يَنْتَقِلْ فَاعِلُ يَسْمَعُ وَمَنْ يَقُولُ مَفْعُولُهُ لَكِنَّ إلْكِيَا بَعْدَ أَنْ حَكَى إجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ قَالَ : وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَقَصُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْ أَدَائِهَا أَوْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَفِي مِنْ الْأَعْرَابِ بِالتَّصْدِيقِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُصُورِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَفِي مُسْلِمٍ { عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْأَمَةِ السَّوْدَاءَ الَّتِي أَرَادَ عِتْقهَا وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ائْتِنِي بِهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ا هـ .
فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَاشٍ عَلَى الْأَوَّلِ ( قَالُوا ) أَيْ مُجَوَّزُو التَّقْلِيدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَنَافُو وُجُوبِ النَّظَرِ فِيهَا ثَانِيًا : ( وُجُوبُ النَّظَرِ دَوْرٌ لِتَوَقُّفِهِ ) أَيْ وُجُوبِهِ ( عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ ) الْمُوجِبِ لَهُ ، وَتَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى النَّظَرِ ( أُجِيبُ بِأَنَّهُ ) أَيْ إيجَابَ النَّظَرِ مُتَوَقِّفٌ ( عَلَى مَعْرِفَتِهِ ) أَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ( بِوَجْهٍ ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى النَّظَرِ مَا ) أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى ( بِأَتَمِّ ) أَيْ بِوَجْهٍ أَتَمَّ ( أَيْ الِاتِّصَافُ بِمَا يَجِبُ لَهُ ) مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ( كَالصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةِ ) الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالتَّكْوِينُ ( وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ) مِنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ وَقَالَ ( الْمَانِعُونَ ) مِنْ النَّظَرِ : النَّظَرُ ( مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ ) لِاخْتِلَافِ

الْأَذْهَانِ وَالْأَنْظَارِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُ طَرِيقٌ آمِنٌ فَوَجَبَ احْتِيَاطًا وَلِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ مَظِنَّةِ الضَّلَالِ إجْمَاعًا ( قُلْنَا ) إنَّمَا يَكُونُ مَمْنُوعًا ( إذَا فَعَلَ ) النَّظَرَ ( غَيْرَ الصَّحِيحِ الْمُكَلَّفِ بِهِ ) وَنَحْنُ نَقُولُ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ الْمُكَلَّفُ بِهِ ( وَأَيْضًا فَيَحْرُمُ ) عَلَى هَذَا النَّظَرُ ( عَلَى الْمُقَلَّدِ ) بِفَتْحِ اللَّامِ ( النَّاظِرِ ) أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِيهِمَا أَيْضًا .
ثُمَّ تَقْلِيدُ الْمُقَلِّدِ إيَّاهُ حِينَئِذٍ أَوْلَى بِالْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ مَعَ زِيَادَةِ احْتِمَالِ كَذِبِهِ ، وَإِضْلَالِهِ ( إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِانْتِهَاءِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمُقَلَّدِ النَّاظِرِ .
( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَنْتَهِ إلَيْهِ ( لَتَسَلْسَلَ ) إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَلَّدٍ ، وَالتَّسَلُّلُ الْمَذْكُورُ بَاطِلٌ فَإِنْ قِيلَ يَنْتَهِي إلَى الْمُؤَيَّدِ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَالِانْتِهَاءُ إلَى الْمُؤَيَّدِ بِالْوَحْيِ ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ لَيْسَ تَقْلِيدًا بَلْ ) الْمَأْخُوذُ عَنْهُ ( عِلْمٌ نَظَرِيٌّ ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ لَهُ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَاجِبٌ ، وَأَنَّ النَّظَرَ حَرَامٌ .

( مَسْأَلَةٌ : غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( التَّقْلِيدُ ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَوْ بَعْضِ الْعُلُومِ كَالْفَرَائِضِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّجَزِّي ) لِلِاجْتِهَادِ ( وَهُوَ الْحَقُّ ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرِينَ .
وَوَجْهُهُ ( فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ) وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّقْلِيدِ ( وَمُطْلَقًا ) أَيْ وَيَلْزَمُهُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَفِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ( عَلَى نَفْيِهِ ) أَيْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالتَّجَزِّي ( وَقِيلَ ) أَيْ وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّمَا يَلْزَمُ التَّقْلِيدُ ( فِي الْعَالِمِ بِشَرْطِ تَبْيِينِ صِحَّةِ مُسْتَنَدِهِ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ لَهُ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لَهُ ( لَمْ يَجُزْ ) لَهُ تَقْلِيدُهُ ( لَنَا عُمُومُ ) قَوْله تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( فِيمَنْ لَا يَعْلَمُ ) عَامِّيًّا صِرْفًا كَانَ أَوْ عَالِمًا بِبَعْضِ الْعُلُومِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحُكْمِ مَسْأَلَةٍ لَزِمَهُ مَعْرِفَتُهُ ( وَفِيمَا لَا يَعْلَمُ لِتَعَلُّقِهِ ) أَيْ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ ( بِعِلَّةِ عَدَمِ الْعِلْمِ ) فَكُلَّمَا تَحَقَّقَ عَدَمُ الْعِلْمِ تَحَقَّقَ وُجُوبُ السُّؤَالِ فَيَلْزَمُهُ الْعُمُومُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ ، وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا السُّؤَالُ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْعَلِيَّةِ أَنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ فِي السَّبَبِيَّةِ أَغْلَبُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُسَبِّبِ سِوَاهُ ( وَأَيْضًا لَمْ يَزَلْ الْمُسْتَفْتُونَ يَتَّبِعُونَ ) الْمُفْتِينَ ( بِلَا إبْدَاءِ مُسْتَنَدٍ ) لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَشَاعَ وَذَاعَ ( وَلَا نَكِيرَ ) عَلَيْهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ مُطْلَقًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا ) الْوَجْهُ ( يَتَوَقَّفُ ) عُمُومُهُ لِلْعَالِمِ ( عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَهِّلِينَ ) لِلِاجْتِهَادِ ( كَذَلِكَ ) أَيْ اتِّبَاعُ الْمُفْتِينَ بِلَا إبْدَاءِ مُسْتَنَدٍ لَهُمْ ( قَالُوا ) أَيْ شَارِطُو تَبْيِينِ صِحَّةِ

الْمُسْتَنَدِ : الْقَوْلُ بِلُزُومِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ صِحَّةِ الْمُسْتَنَدِ ( يُؤَدِّي إلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْخَطَأِ ) لِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ ( قُلْنَا وَكَذَا لَوْ أَبْدَى ) الْمُفْتِي صِحَّةَ الْمُسْتَنَدِ لِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ بَلْ الظَّنَّ ( وَكَذَا الْمُفْتِي نَفْسُهُ ) يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ اجْتِهَادٍ مَعَ جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ ( فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ ) عَنْ هَذَيْنِ فَهُوَ ( جَوَابُنَا ) إذَا لَمْ يُبْدِ صِحَّةَ الْمُسْتَنَدِ ( وَالْحِلُّ الْوُجُوبُ لِاتِّبَاعِ الظَّنِّ أَوْ الْحُكْمِ ) الْمَظْنُونِ إنَّمَا هُوَ ( مِنْ حَيْثُ هُوَ مَظْنُونٌ ) وَمِنْ حَيْثُ هُوَ اتِّبَاعُ الظَّنِّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَطَأٌ يَحْرُمُ ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ ( لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ خَطَأٌ ) وَهَذَا هُوَ الْمُمْتَنِعُ ( نَعَمْ لَوْ سَأَلَهُ ) أَيْ الْمُسْتَفْتِي ( عَنْ دَلِيلِهِ ) اسْتِرْشَادًا لِتُذْعِنَ نَفْسُهُ لِلْقَبُولِ لَا تَعَنُّتًا ( وَجَبَ إبْدَاؤُهُ فِي ) الْقَوْلِ ( الْمُخْتَارِ إلَّا إنْ ) كَانَ دَلِيلُهُ ( غَامِضًا ) عَلَى الْمُسْتَفْتِي ( مَعَ قُصُورِهِ ) عَنْهُ فَإِنَّ إبْدَاءَهُ لَهُ حِينَئِذٍ تَعَبٌ فِيمَا لَا يُفِيدُ فَيَعْتَذِرُ بِخَفَائِهِ عَلَيْهِ .
وَفِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ مَا مُلَخَّصُهُ : الْعِلْمُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ وَيُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالْمُتَوَاتِرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ لِأَحَدٍ كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشُقُّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ أَعْمَالِهِ ، وَمِنْهُ أَهْلِيَّةُ الْمُفْتِي وَنَوْعٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ ، وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا وَلَا يَنْفَعُهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ لَا يُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ وَعَنْ الْأُسْتَاذِ وَالْجُبَّائِيِّ يَجُوزُ

فِي الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ إلْحَاقًا لِقَطْعِيَّاتِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ .
الثَّانِي الْعَالِمُ الَّذِي حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ صَلَاحِيَّةَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَمَا أَطْلَقُوهُ مِنْ إلْحَاقِهِ هُنَا بِالْعَامِّيِّ فِيهِ نَظَرٌ لَا سِيَّمَا فِي أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَبَحِّرِينَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنَصِّبُوا أَنْفُسَهُمْ نَصْبَةَ الْمُقَلِّدِينَ وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا لَا إشْكَالَ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا سِوَى حَالَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَائِرَ الْأَسَالِيبِ نَعَمْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدُ إمَامٍ فِي قَاعِدَةٍ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ فِي وَاقِعَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ إمَامَهُ لَكِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدٌ لِكَمَالِ نَظَرِ مَنْ قَبْلَهُ .
الثَّالِثُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا مُسْتَوْفًى .
( تَتْمِيمَ ) ثُمَّ فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَر بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَعْنِي الْحَنَابِلَةَ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ هَلْ يَلْزَمُهُ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ وَالْأَخْذُ

بِرُخْصِهِ وَعَزَائِمِهِ ؟ .
فِيهِ وَجْهَانِ : أَشْهُرُهُمَا لَا كَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَيَتَخَيَّرُ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ قَالَ : وَفِي لُزُومِ الْأَخْذِ بِرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ طَاعَةُ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَتُوُقِّفَ فِي جَوَازِهِ ، وَقَالَ أَيْضًا : إنْ خَالَفَهُ فِي زِيَادَةِ عِلْمٍ أَوْ تَقْوًى فَقَدْ أَحْسَنَ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَإِنَّهُ نَصُّ أَحْمَدَ ، وَكَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ مَا ظَنَّهُ أَقْوَى عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِيهِ ا هـ .
وَقَدْ سَمِعْت مُوَافَقَةَ ابْنِ الْمُنِيرِ لِهَذَا آنِفًا غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ وَسَتَقِفُ فِي هَذَا عَلَى مَزِيدٍ فِيهِ مُقْنِعٌ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .

( مَسْأَلَةٌ : الِاتِّفَاقُ عَلَى حِلِّ اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا ) لِلْإِفْتَاءِ ( وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ ) لَهُ ( وَعَلَى امْتِنَاعِهِ ) أَيْ الِاسْتِفْتَاءِ ( إنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا ) أَيْ الِاجْتِهَادِ أَوْ الْعَدَالَةِ فَضْلًا عَنْ ظَنِّ عَدَمِهِمَا جَمِيعًا ( فَإِنْ جَهِلَ اجْتِهَادَهُ دُونَ عَدَالَتِهِ فَالْمُخْتَارُ مَنْعُ اسْتِفْتَائِهِ ) بَلْ نَقَلَ فِي الْمَحْصُولِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَا ( لَنَا الِاجْتِهَادُ شَرْطٌ ) لِقَبُولِ فَتْوَاهُ ( فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( عِنْدَ السَّائِلِ وَلَوْ ) كَانَ ثُبُوتُهُ ( ظَنَّا لَمْ يَثْبُتْ ) كَمَا هُوَ الْفَرْضُ ( وَأَيْضًا ثَبَتَ عَدَمُهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ بِالْجَهْلِ ( إلْحَاقًا ) لِهَذَا ( بِالْأَصْلِ ) أَيْ عَدَمِ الِاجْتِهَادِ ( كَالرَّاوِي ) الْمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعَدَالَةِ ( أَوْ بِالْغَالِبِ إذْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ الْعُلُومِ الَّتِي لَهَا دَخْلٌ فِي الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُجْتَهِدِينَ ) فَضْلًا عَمَّنْ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْأَعَمِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ ، وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ إذَا تَضَافَرَا يَكَادُ تَضَافُرُهُمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ .
( قَالُوا ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ : ( لَوْ امْتَنَعَ ) فِيمَنْ جُهِلَ اجْتِهَادُهُ دُونَ عَدَالَتِهِ ( امْتَنَعَ فِيمَنْ عُلِمَ اجْتِهَادُهُ دُونَ عَدَالَتِهِ ) بِدَلِيلِكُمْ بِعَيْنِهِ بِأَنْ يُقَالَ : الْعَدَالَةُ شَرْطٌ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا وَالْأَكْثَرُ الْفِسْقُ فَالظَّاهِرُ فِسْقُهُ ( أُجِيبُ بِالْتِزَامِهِ ) أَيْ الْتِزَامِ الِامْتِنَاعِ فِي هَذَا أَيْضًا ( لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ ، وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ ( الْحَقُّ ، فَالْفَرْقُ ) بَيْنَهُمَا ( أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ الْعَدَالَةُ فَالْإِلْحَاقُ بِهِ ) أَيْ بِالْغَالِبِ ( أَرْجَحُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ إلْحَاقِهِ ( بِالْأَصْلِ ) الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْعَدَالَةِ ( بِخِلَافِ

الِاجْتِهَادِ لَيْسَ غَالِبًا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ ) وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ إذْ لَمْ يَقُلْ بِخُلُوِّهَا عَنْهُ بَلْ قِيلَ هُوَ أَعَزُّ مِنْ الْإِكْسِيرِ الْأَعْظَمِ وَالْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ثُمَّ إذَا بُحِثَ عَنْ حَالِهِ فَاشْتَرَطَ الْإسْفَرايِينِيّ تَوَاتُرَ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا وَرَدَّهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَنَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَقَالَ الْقَاضِي : يَكْفِيهِ أَنْ يُخْبِرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مُفْتٍ ، وَجَزَمَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَنْ فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْإِخْبَارِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ يُمَيِّزُ بِهَا الْمُلْتَبِسَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إخْبَارُ آحَادِ الْعَامَّةِ لِكَثْرَةِ مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ التَّلَبُّسِ فِي ذَلِكَ ، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَاكْتَفَى فِي الْمَنْخُولِ بِقَوْلِهِ إنِّي مُفْتٍ وَالْمُخْتَارُ فِي الْغِيَاثِيِّ اعْتِمَادُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ وَرَعُهُ ، وَفِي وَجِيزِ ابْنِ بَرْهَانٍ قِيلَ يَقُولُ لَهُ لِتَجْتَهِدَ أَنْتَ فَأُقَلِّدُك فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ ا هـ .
وَقِيلَ لَا يُعْتَمَدُ وَشَرَطَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْقَاضِي امْتِحَانَهُ بِأَنْ يُلَفِّقَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَيُرَاجِعُهُ فِيهَا فَإِنْ أَصَابَ فِيهَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا وَقَلَّدَهُ ، وَإِلَّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَشْرُطْهُ آخَرُونَ قُلْت وَهُوَ أَشْبَهَ بَعْدَ فَرْضِ اعْتِبَارِ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَيْنَ لِلْعَامِّيِّ مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ مُصِيبًا فِي جَوَابِهَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوَابُهُ فِيهَا خَطَأً عِنْدَ مُجْتَهِدٍ لَا يَلْزَمُ فِيهِ نَفْيُ كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا إذْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَتَوَارَدَ الْمُجْتَهِدَانِ عَلَى جَوَابٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عَلَى

أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ، وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا عُلِمَتْ عَدَالَتُهُ ، وَلَمْ يَنْفِ مُعَاصِرُوهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا مَانِعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ تُعْرَفْ الْعَدَالَةُ فَيَكْتَفِي فِي الْإِخْبَارِ بِهَا قِيلَ بِعَدْلٍ وَقِيلَ بِعَدْلَيْنِ وَبِهَذَا جَزَمَ فِي الْمَنْخُولِ وَهُوَ أَوْجَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ ) فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَصَاحِبِ الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ ( وَأَحْمَدُ ) فِي رِوَايَةٍ ( وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ) كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَالْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ ( عَلَى الْمَنْعِ ) وَقِيلَ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَاضِلًا أَوْ مُسَاوِيًا ثُمَّ الْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُطْرِ الْوَاحِدِ لَا إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَفْضَلِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ إقْلِيمِهِ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي بَحْرِهِ ( لِلْأَوَّلِ ) أَيْ مُجِيزِي تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ ( الْقَطْعُ ) فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ( بِاسْتِفْتَاءِ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَفْضُولٍ ) مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ ( بِلَا نَكِيرٍ عَلَى الْمُسْتَفْتِي ) فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْآمِدِيُّ : لَوْلَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ لَكَانَ الْأَوْلَى مَذْهَبَ الْخَصْمِ ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْكُلَّ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهُوَ ) أَيْ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ الْمَطْلُوبِ ( مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِهِ ) أَيْ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ ( كَانَ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكُلِّ فَإِنَّهُ ) أَيْ هَذَا ( مِنْ صُوَرِهَا ) أَيْ مَسْأَلَةُ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ ، وَثُبُوتُ هَذَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ .
( وَاسْتُدِلَّ ) لِلْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَوْ كُلِّفَ هَذَا لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ ( بِتَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ لِلْعَامِّيِّ ) ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ ، وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ إنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ مِنْ النَّاسِ ذَوُوهُ ( أُجِيبُ بِأَنَّهُ ) أَيْ التَّرْجِيحَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ مِنْ الْعَامِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ ( بِالتَّسَامُعِ ) مِنْ النَّاسِ وَبِرُجُوعِ الْعُلَمَاءِ إلَيْهِ وَعَدَمِ

رُجُوعِهِ إلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ الْمُسْتَفْتِينَ وَتَقْدِيمِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ لَهُ .
وَقَالَ ( الْمَانِعُونَ ) مِنْ جَوَازِهِ : ( أَقْوَالُهُمْ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِ ( كَالْأَدِلَّةِ ) الْمُتَعَارِضَةِ ( لِلْمُجْتَهِدِ ) فَلَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهَا تَحَكُّمًا كَمَا لَا يُصَارُ إلَى بَعْضِ الْأَدِلَّةِ تَحَكُّمًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ ( فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ ) وَمَا التَّرْجِيحُ إلَّا بِكَوْنِ قَائِلِهِ أَفْضَلَ اتِّفَاقًا ( أُجِيبُ ) بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ ( لَا يُقَاوِمُ مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الْإِجْمَاعِ لِتَقْدِيمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَعَلِمْت مَا فِيهِ ) مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكُلِّ ( وَتَعَسُّرِهِ ) أَيْ التَّرْجِيحِ ( عَلَى الْعَامِّيِّ ) بِخِلَافِهِ لِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ ( وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ ) أَيْ التَّرْجِيحَ ( إذَا كَانَ بِالتَّسَامُعِ لَا عُسْرَ عَلَيْهِ ) أَيْ الْعَامِّيِّ فِيهِ ( وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ الْمُنَاطِ ) لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ ( لَا يُفِيدُ ) وَهُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ أَفْضَلُ مِنْهُ ( لَنَا مَنْعُهُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْمَفْضُولِ الْكُلَّ ) فَيَتَرَجَّحُ الْمَنْعُ عَلَى الْجَوَازِ .
هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَيُّنِ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ أَمَارَاتِهِ لَا الْأَفْضَلُ فِي مُجَرَّدِ ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى أَمَارَةٍ عَلَى ذَلِكَ ، نَعَمْ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَحَدَهُمْ أَعْلَمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ فَهَذَا يُفِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَيُّنِ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ اعْتِقَادًا ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِأَمَارَةٍ لَكِنْ لَعَلَّ هَذَا مِنْهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَمَارَةٌ لِأَفْضَلِيَّةِ أَحَدِهِمْ عَلَى الْبَاقِينَ ، وَإِلَّا فَلَوْ

قَامَتْ أَمَارَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَكَانَ مُعْتَقِدًا فِي غَيْرِهِ الْأَفْضَلِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ عَلَيْهَا فَتَقْدِيمُ ذَا عَلَى ذَاكَ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ بَلْ الْمُتَّجَهُ الْعَكْسُ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيمَا لَوْ اسْتَفْتَى أَحَدَهُمْ وَاسْتَبَانَ أَنَّهُ الْأَعْلَمُ وَالْأَوْثَقُ لَزِمَهُ بِنَاءً عَلَى تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ا هـ .
وَقِيلَ : الْحَقُّ أَنْ تَرَجُّحَ الْمَفْضُولِ بِدِيَانَةٍ وَوَرَعٍ وَتَحَرٍّ لِلصَّوَابِ وَعَدَمِ ذَلِكَ الْفَاضِلِ فَاسْتِفْتَاءُ الْمَفْضُولِ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَاسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ أَوْلَى ، وَلَوْ اسْتَوَيَا عِلْمًا وَتَفَاوَتَا وَرَعًا فَقِيلَ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَوْرَعِ قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْوَرَعِ تَأْثِيرًا فِي الِاحْتِيَاطِ ، وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالْآخَرُ فِي الْوَرَعِ فَالْأَرْجَحُ عَلَى مَا ذَكَرَ الرَّازِيّ وَنَصَّ السُّبْكِيُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ ؛ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ تَأْثِيرًا فِي الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ الظَّنُّ الْحَاصِلُ بِقَوْلِهِ أَكْثَرَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْوَرَعِ ، وَقِيلَ : يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَوْرَعِ ، وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ التَّسَاوِيَ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَجَّحًا فَيَتَخَيَّرُ وَلَوْ تَسَاوَيَا عِلْمًا وَوَرَعًا فَفِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ قُدِّمَ الْأَسَنُّ ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ ا هـ .
قُلْت وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ التَّقْدِيمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ التَّخْيِيرَ فِي اسْتِوَائِهِمْ ، وَفِي الْمَحْصُولِ ، وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( مَسْأَلَةٌ : لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ ) الْمُجْتَهِدَ ( فِيهِ أَيْ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا ) ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَيْسَ كَمَا قَالَا فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ .
لَكِنْ وَجْهُ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٍ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ أَوْ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ ، وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ يُقَلِّدُ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ ، فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ نَعَمْ الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهِّي كَذَا ا هـ .
قُلْت : وَالتَّوْجِيهُ الْمَذْكُورُ سَاقِطٌ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْعَامِّيِّ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَا يُفْصِحُ بِهِ لَفْظُ الْآمِدِيِّ ثُمَّ ذَكَرَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ الِالْتِزَامَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَتَعْلَمُ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ : ثُمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُخَصَّصًا بِحَالَةِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ إذْ لَا يُمْنَعُ فَقِيهٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
قُلْت : وَقَدْ

قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا فِي الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَاحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ : يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَهُ بِالْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ وَصَوَابُ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بِالثَّانِي أَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَأُ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا وَعَمِلَ بِهِ وَصَحَّ الْعَمَلُ حُكِمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ ظَاهِرٌ أَوْ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَهُ ظَاهِرًا مِمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ سِوَى مَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْعَمَلِ بِالْآخَرِ فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلَا مُجْتَهِدَيْنِ يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ إلَّا إذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ تَعَارُضَ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَسَتَسْمَعُ عَنْهُمْ أَيْضًا مَا يَشُدُّهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( وَهَلْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ ) أَيْ غَيْرَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ ( فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ؟ .
كَأَنْ يَعْمَلَ أَوَّلًا فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَثَانِيًا فِي أُخْرَى بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ ( الْمُخْتَارُ ) كَمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ ( نَعَمْ لِلْقَطْعِ ) بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ ( بِأَنَّهُمْ ) أَيْ الْمُسْتَفْتِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا ( كَانُوا يَسْتَفْتُونَ مَرَّةً وَاحِدًا وَمَرَّةً غَيْرَهُ غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ مُفْتِيًا وَاحِدًا ) وَشَاعَ وَتَكَرَّرَ وَلَمْ يُنْكَرْ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا .
(

فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشَّافِعِيِّ ) فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ( فَقِيلَ يَلْزَمُ ) ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ يَصِيرُ مُلْزَمًا بِهِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ .
( وَقِيلَ لَا ) يَلْزَمُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ فِي دِينِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَيَذَرَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ تَقْلِيدُ رَجُلٍ فَلَا يَحْكُمُ وَلَا يُفْتِي إلَّا بِقَوْلِهِ ا هـ .
وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٌ وَبَصَرٌ بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسَبِهِ أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنَا فَقِيهٌ أَوْ نَحْوِيٌّ أَوْ كَاتِبٌ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَائِلَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِذَلِكَ الْإِمَامِ سَالِكٌ طَرِيقَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَأَمَّا مَعَ جَهْلِهِ وَبُعْدِهِ جِدًّا عَنْ سِيرَةِ الْإِمَامِ وَعِلْمِهِ بِطَرِيقِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا بِالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ وَالْقَوْلِ الْفَارِغِ مِنْ الْمَعْنَى كَذَا ذَكَرَهُ فَاضِلٌ مُتَأَخِّرٌ قُلْت وَلَوْ شَاحَحَهُ مُشَاحِحٌ فِي

أَنَّ قَائِلَ أَنَا حَنَفِيٌّ مَثَلًا لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِ هَذَا الْمَذْكُورِ بَلْ مُتَّبِعُهُ فِي الْمُوَافَقَةِ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا فَسَيَظْهَرُ جَوَابُهُ مِمَّا يَذْكُرُهُ قَرِيبًا ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ : وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْهُورِ كُتُبِهِمْ جَوَازُ الِانْتِقَالِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ وَالْعَمَلِ فِيهَا بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ مَذْهَبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لِلرُّخَصِ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْأَعْمَى الَّذِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوَانِي مَاءٍ وَثِيَابٍ تَنَجَّسَ بَعْضُهَا إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا بَلْ يُقَلِّدُ بَصِيرًا يَجْتَهِدُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْأَوَانِي وَاحِدًا وَفِي الثِّيَابِ آخَرَ وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ ( وَقِيلَ كَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ إنْ عَمِلَ بِحُكْمٍ تَقْلِيدًا ) لِمُجْتَهِدٍ ( لَا يَرْجِعُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ ( وَفِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَا عَمِلَ بِهِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ ( لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ الْأَعْدَلُ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ ) أَيْ اتِّبَاعُهُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ( شَرْعًا ) بَلْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ وَتَقْلِيدَهُ فِيهِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَمَلُهُ بِهِ وَالْتِزَامُهُ لَمْ يَثْبُت مِنْ السَّمْعِ اعْتِبَارُهُ مُلْزِمًا كَمَنْ الْتَزَمَ كَذَا لِفُلَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ بِلَفْظِهِ كَمَا فِي النَّذْرِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَعَزْمِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ

الْقَائِلِ مَثَلًا قَلَّدْت فُلَانًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ تَعْلِيقُ التَّقْلِيدِ أَوْ الْوَعْدُ بِهِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ ( وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ كَوْنِهِ كَمِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ( جَوَازُ اتِّبَاعِهِ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ ) أَيْ أَخْذِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الْمَسَائِلِ ( وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِآخِرِ فِيهِ ) .
وَقَالَ أَيْضًا : وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخْصِ ، وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُسَوَّغٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمُّهُ عَلَيْهِ ( وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مَا خُفِّفَ عَلَيْهِمْ ) كَمَا قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظٍ عَنْهُمْ وَفِي لَفْظٍ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ أَيْ أُمَّتِهِ ، وَذَكَرْنَا ثَمَّةَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ قُلْت لَكِنْ مَا عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجْمَاعًا إنْ صَحَّ احْتَاجَ إلَى جَوَابٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ إذْ فِي تَفْسِيقِ الْمُتَتَبِّعِ لِلرُّخَصِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَحَمَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّقَةَ عَلَى غَيْرِ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ ، وَذَكَر بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إنْ قَوِيَ دَلِيلٌ أَوْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْسُقُ ، وَفِي رَوْضَةِ النَّوَوِيِّ وَأَصْلُهَا عَنْ حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِهِ ثُمَّ لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُلْ بِمَجْمُوعِهِ مُجْتَهِدٌ كَمَا أَشَارَ

إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقَيَّدَهُ ) أَيْ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ( مُتَأَخِّرٌ ) وَهُوَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ ( بِأَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ) أَيْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ( مَا يَمْنَعَانِهِ ) أَيْ يَجْتَمِعُ عَلَى بُطْلَانِهِ كِلَاهُمَا ( فَمَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ فِي عَدَمِ ) فَرْضِيَّةِ ( الدَّلْكِ ) لِلْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ( وَمَالِكًا فِي عَدَمِ نَقْضِ اللَّمْسِ بِلَا شَهْوَةٍ ) لِلْوُضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَلَمَسَ بِلَا شَهْوَةٍ ( وَصَلَّى إنْ كَانَ الْوُضُوءُ بِدَلْكٍ صَحَّتْ ) صَلَاتُهُ عِنْدَ مَالِكٍ ( وَإِلَّا ) إنْ كَانَ بِلَا دَلْكٍ ( بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا ) أَيْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ وَالِانْتِقَالُ إلَيْهَا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى صُورَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ وَأَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُ أُمِّيًّا فِي عَمَايَةٍ وَأَلَّا يَتَتَبَّعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ ، وَتَعَقَّبَ الْقَرَافِيُّ هَذَا بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالرُّخَصِ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَهُوَ حَسَنٌ مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ مَا لَا نُقِرُّهُ مَعَ تَأَكُّدِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالرُّخَصِ مَا فِيهِ سُهُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَيْفَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي الْمِيَاهِ وَالْأَرْوَاثِ وَتَرْكِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ مُخَالِفًا لِتَقْوَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَتَعَقُّبُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِضَائِرٍ فَإِنَّ مَالِكًا مَثَلًا لَمْ يَقُلْ إنَّ مَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ فِي عَدَمِ الصَّدَاقِ أَنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَنْكِحَةُ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَهُ بَاطِلَةٌ ، وَلَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ إنَّ مِنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي عَدَمِ

الشُّهُودِ أَنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَنْكِحَةُ الْمَالِكِيَّةِ بِلَا شُهُودٍ عِنْدَهُ بَاطِلَةٌ .
قُلْت : لَكِنْ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ نَظَرٌ غَيْرُ خَافٍ وَوَافَقَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الرُّويَانِيَّ عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهَا ، وَأَبْدَلَ الشَّرْطَ الثَّالِثَ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَا قَلَّدَ فِيهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ لَوْ وَقَعَ وَاقْتَصَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا وَقَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ وَدَلِيلُ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ } فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ فَفِعْلُهُ إثْمٌ ا هـ .
قُلْت : أَمَّا عَدَمُ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَأَمَّا انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ بِلَفْظِ { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ } فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبِلَفْظِ { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ } فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُشِيرًا إلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ فِي الصَّدْرِ حَرَجًا وَضِيقًا وَقَلَقًا وَاضْطِرَابًا فَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَنْكَرٌ بِحَيْثُ يُنْكِرُونَهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْإِثْمِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ فَاعِلُهُ وَغَيْرُ فَاعِلِهِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا

رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَمُشِيرًا إلَيْهِ بِاللَّفْظِ الثَّانِي يَعْنِي مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إثْمٌ ، وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْمٍ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْضًا إثْمًا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ وَكَانَ الْمُفْتِي لَهُ يُفْتِي بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ .
فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتَى بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ وَهَذَا كَالرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُ كَثِيرٍ مِنْ الْجُهَّالِ فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانَا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُ بَعْضِهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ } كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَرِهُوهُ وَكَرِهُوا مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ .
وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الرِّضَا وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }

وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إلَى مَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ ، وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُون وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا ا هـ .
بَقِيَ هَلْ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ صِحَّةِ جَوَابِ الْمُفْتَى وَحَقِّيَّتِهِ فِي نَفْسِ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ ؟ .
فَذَهَبَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى أَنَّ أَوْلَى الْأَوْجُهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ لِغَيْرِهِ قُلْت وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُوَافِقٌ لِمَا فِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ الْعِبْرَةُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْتَفْتِي فَكُلُّ مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ مَذْهَبٍ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ دِيَانَةً ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِلَافُهُ ا هـ .
وَمَا فِي رِعَايَةِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا يَكْفِيهِ مَنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَفِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ الْأَشْهَرُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ وَقِيلَ وَبِظَنِّهِ حَقًّا وَقِيلَ وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ إنْ ظَنَّهُ حَقًّا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُفْتِيًا آخَرَ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ا هـ .
يَعْنِي وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَذَكَرَ أَنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ وَشَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كَمَا أَسْلَفْنَا ذَلِكَ عَنْهُ فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى قَالَ لَوْ اسْتَفْتَى

فَقِيهَيْنِ أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ ، وَالْوَاجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ ا هـ .
لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّحَرِّي عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْعَمَلَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ فَيَحْتَاجُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْجَوَازِ بِدُونِهِ إلَى جَوَابٍ ثُمَّ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إنْ أَمْضَى قَوْلَ الْمُفْتِي لَزِمَهُ ، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى قَالُوا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ فَقِيهًا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلَّدِ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ النَّقْضَ فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ هَذَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَائِيُّ أَنَّهُ قَدْ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ فِي أَحَدِ صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إذَا كَانَ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَيْهِ أَوْ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ كَمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَذْهَبُ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحِنْثِ بِذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَامِلًا

بِهِ ثُمَّ تَخَرَّجَ مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ وَالْإِتْمَامَ فِيمَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَفْضَلُ احْتِيَاطًا لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَجِدْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ جَوَابًا قَوِيًّا عَنْهُ وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عَلَيْهِ إذْ الْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَرَعَهُ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُحَافَظَةً عَلَى مَذْهَبٍ الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ ا هـ .
قُلْت وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْقُدُورِيِّ وَعَلَيْهِ مَشَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ الصَّلَاحِ وَابْنُ حَمْدَانَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( تَكْمِلَةُ نَقْلِ الْإِمَامِ ) فِي الْبُرْهَانِ ( إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَامّ مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ بَلْ مَنْ بَعْدَهُمْ ) أَيْ بَلْ قَالَ : بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ ( الَّذِينَ سَبَرُوا وَوَضَعُوا وَدَوَّنُوا ) ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْضَحُوا طُرُقَ النَّظَرِ وَهَذَّبُوا الْمَسَائِلَ وَبَيَّنُوهَا وَجَمَعُوهَا بِخِلَافِ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا ، وَإِلَّا فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ قَدْرًا ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنِ سِيرِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُنَا .
( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ لِهَذَا الْوَجْهِ ( مَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ) وَهُوَ ابْنُ الصَّلَاحِ ( مَنَعَ تَقْلِيدَ غَيْرِ ) الْأَئِمَّةِ ( الْأَرْبَعَةِ ) أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ( لِانْضِبَاطِ مَذَاهِبِهِمْ وَتَقْيِيدِ ) مُطْلَقِ ( مَسَائِلِهِمْ وَتَخْصِيصِ عُمُومِهَا ) وَتَحْرِيرِ شُرُوطِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ( وَلَمْ يُدْرَ مِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا الشَّيْءَ ( فِي غَيْرِهِمْ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( الْآنَ لِانْقِرَاضِ أَتْبَاعِهِمْ ) .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَقْلِيدُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ ؛ وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ حَقَّ الثُّبُوتِ لَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ إنْ تَحَقَّقَ ثُبُوتُ مَذْهَبٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا ، وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ أَيْضًا إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ

إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ هَذَا وَقَدْ تَعَقَّبْ بَعْضُهُمْ أَصْلَ الْوَجْهِ لِهَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْرِ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ جَمَعَ وَسَبَرَ كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ بَلْ الظَّاهِرُ فِي تَعْلِيلِهِ فِي الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْطِيلِ مَعَايِشِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى ، وَأَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْإِسْنَادُ إلَى الصَّحَابِيِّ لَا عَلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةُ الْعَامِّيِّ لَيْسَتْ الْوَاقِعَةَ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَهُوَ ظَانٌّ أَنَّهَا هِيَ ؛ لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا غَلَطًا وَبِالْجُمْلَةِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ إمَّا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ ( صَحِيحٌ ) بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ بِأَقْوَالِهِ كُلِّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا .
وَمِنْ هُنَا قَالَ الْقَرَافِيُّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ حَجْرٍ ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ اسْتَفْتَى أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ وَقَلَّدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَمَنْ ادَّعَى دَفْعَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
هَذَا وَقَدْ تَكَلَّمَ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : وَأَحَقُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْ أُمُّ الْكَمَلَةِ عَنْ بَنِيهَا : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ لِنَاشِرِهَا دُونَ اسْتِيعَابِهَا ، وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضِّلِينَ عَلَى التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمُفَضِّلِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَإِلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عَنْ اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قَالَ النَّاظِرُ هِيَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ ، وَإِلَّا فَمَا يُتَصَوَّرُ فِي آيَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ ، وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ الْأَفْضَلِيَّةُ وَالْمَفْضُولِيَّة .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ عِنَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ إذَا قِيسَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ ثُمَّ اشْتِهَارُ مَذَاهِبِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا إلَّا قَلِيلًا عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ مِمَّا يَشْهَدُ بِصَلَاحِ طَوِيَّتِهِمْ وَجَمِيلِ سَرِيرَتِهِمْ وَمُضَاعَفَةِ مَثُوبَتِهِمْ وَرِفْعَةِ دَرَجَتِهِمْ - تَغَمَّدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأَعْلَى مَقَامَهُمْ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّتِهِ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ فِي زُمْرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ وَصَحَابَتِهِ وَأَدْخَلَنَا

وَصُحْبَتَهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ .

وَقَدْ خَتَمَ الْمُصَنِّفُ الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ صَحِيحٌ تَفَاؤُلًا بِصِحَّتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى وَلَهُ الْحَمْدُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي أَنْ يُؤْتِيَ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا وَيُزْكِيَهَا إنَّهُ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا إنَّهُ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا وَأَنْ يَقِيَهَا شُرُورَهَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهَا وَوَخِيمَ هَوَاهَا وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا فِي الدَّارَيْنِ الْعَوَاقِبَ وَيَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا فِيهِمَا بِجَمِيلِ الْمَوَاهِبِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْمُلْتَمَسُ مِنْ فَضْلِ ذَوِي الْأَلْبَابِ الْوَاقِفِينَ عَلَى مَا عَانَاهُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ فِي شَرْحِ مَقَاصِدِهِ وَتَوْضِيحِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ أَنْ لَا يَنْسَوْهُ مِنْ دُعَائِهِمْ الْمُسْتَجَابِ فِي وَقْتِهِمْ الْمُسْتَطَابِ بِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ وَحُسْنِ الْمَآبِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا عَانَيْتُهُ فِيهِ بِمَعُونَةِ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَمُسَاعَدَةِ التَّوْفِيقِ إلَى سُلُوكِ سَوَاءِ الطَّرِيقِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ فِي غَوَامِضَ يَحَارُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْأَفْكَارِ وَخَفَايَا يَقْصُرُ عَنْ كَشْفِ أَسْرَارِهَا ثَوَاقِبُ الْأَنْظَارِ مَعَ إيضَاحٍ لِمُبْهَمَاتِهِ وَتَبْيِينٍ لِمُشْتَبِهَاتِهِ وَتَنْقِيحٍ لِزَبَدِ مَعْقُولَاتِهِ وَتَصْحِيحٍ لِأَنْوَاعِ مَنْقُولَاتِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى مَقْبُولَةً لَدَى شَرِيفِ جَنَابِهِ وَجُنَّةً فِي الدَّارَيْنِ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ وَذَرِيعَةً إلَى رِضَاهُ وَالْخُلُودِ فِي دَارِ ثَوَابِهِ إنَّهُ سُبْحَانَهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْكَرْمِ الْعَمِيمِ لَا إلَه غَيْرُهُ وَلَا يُرْجَى إلَّا كَرَمُهُ وَخَيْرُهُ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِمَشَايِخِنَا وَلِأَوْلَادِنَا وَلِأَصْحَابِنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَسَلَّمَ آمِينَ .
( صُورَةُ خَطِّ الْمُصَنِّفِ فِي أَصْلِ أَصْلِ أَصْلِهِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ مَا مِثَالُهُ ) وَقَدْ نُجِزَ نَقْلُ هَذَا السِّفْرِ الْمُبَارَكِ مِنْ

السَّوَادِ إلَى الْبَيَاضِ عَلَى يَدَيْ مُؤَلِّفِهِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ذِي الْكَرَمِ الْجَزِيلِ وَالْوَعْدِ الْوَفِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُشْتَهِرِ بِابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ الْحَلَبِيِّ الْحَنَفِيِّ عَامَلَهُمْ اللَّهُ بِلُطْفِهِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ وَغَفَرَ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ آمِينَ وَكَانَ نِجَازُهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسُ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ أَحْسَنَ اللَّهُ تَقَضِّيهَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ بِالْمَدْرَسَةِ الْحَلَاوِيَّةِ النُّورِيَّةِ رَحِمَ اللَّهُ وَاقِفَهَا بِحَلَبِ الْمَحْرُوسَةِ لَا زَالَتْ رَايَاتُ الْأَعَادِي لَهَا مَنْكُوسَةً وَلَا بَرِحَتْ رِبَاعُهَا بِالْفَضَائِلِ وَالْبَرَكَاتِ مَأْنُوسَةً ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنَعَمْ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
( يَقُولُ الْمُتَوَسِّلُ بِجَاهِ الْمُصْطَفَى الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُودُ مُصْطَفَى خَادِمُ التَّصْحِيحِ بِدَارِ الطِّبَاعَةِ أَدَامَ اللَّهُ لَهُ سُلُوكَ سَبِيلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ثَبَّتَ فُرُوعَ دَوْحِ دِينِهِ الْمُبَرَّإِ مِنْ وَصْمَةِ الْعِوَجِ بِثَوَابِتِ الْأُصُولِ وَمَحَاسِنِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ وَمَنَحَنَا النَّظَرَ فِي غَوَامِضِ آيَاتِهِ تَفْصِيلًا ، وَإِجْمَالًا فَشَهِدْنَا وَحْدَانِيَّتَهُ ذَاتًا وَصِفَاتٍ وَأَفْعَالًا وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْأَنَامِ الْمُفَضَّلِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ مِنْ بَيْنِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَنْ تَأَسَّسَتْ قَوَانِينُ نُبُوَّتِهِ عَلَى أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ وَوُضِعَتْ دَعَائِمُ مِلَّتِهِ عَلَى أَبْهَرِ الْمُعْجِزَاتِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَمُلَ بِهِمْ الدِّينُ وَدَامَ لَهُمْ إلَى يَوْمِ الْجَمْعِ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَمَّ طَبْعُ هَذَا الْكِتَابِ النَّامِي فِي التَّحْقِيقَاتِ الْجَامِعِ لِمَا تَفَرَّقَ فِي

غَيْرِهِ مِنْ رَقَائِقِ التَّدْقِيقَاتِ الَّذِي عَنَتْ لَهُ وُجُوهُ الْأَسْفَارِ وَجَابَتْ فِي تَحْصِيلِهِ الْجَهَابِذَةُ الْفَيَافِيَ وَالْقِفَارَ الْمُوَضِّحُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَحْرِيرِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِي الْفَضَائِلِ مُشَارِكٌ وَلَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا مُزَاحِمٌ عَلَمِ الْأَعْلَامِ الْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ الصَّائِدِ لِرَاغِبِيهِ شَوَارِدَهُ الْمُقَيِّدِ لِطَالِبِيهِ أَوَابِدَهُ الْمُدْنِي لِلْأَذْهَانِ مِنْ مَبَاحِثِهِ كُلَّ غَرِيبٍ الْمُنْتَخِبِ لِلْحُذَّاقِ مِنْ نَفَائِسِهِ كُلَّ عَجِيبٍ الْفَائِقِ بِلَطِيفِ إشَارَتِهِ الشَّائِقِ بِرَقِيقِ عِبَارَتِهِ حَتَّى أُعْجِبَ بِهِ النَّاقِدُ الْبَصِيرُ الْمُسَمَّى بِالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ لِعَلَمِ الْعُلَمَاءِ وَوَاسِطَةِ عَقْدِ الْفُضَلَاءِ حُجَّةِ الْمُحَقِّقِينَ وَخَاتِمَةِ الْمُدَقِّقِينَ الْإِمَامِ الْخَطِيرِ وَالْعَلَّامَةِ النِّحْرِيرِ مَنْ هُوَ لِعُلَمَاءِ زَمَانِهِ كَالتَّاجِ الْمِفْضَالِ الشَّهِيرِ بِابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ .
وَقَدْ وُضِعَ بِهَامِشِ هَذَا الْكِتَابِ الْآخِذِ بِعُقُولِ ذَوِي الْأَلْبَابِ شَرْحُ الْإِمَامِ الَّذِي لَا يُبَارَى فِي بَرَاعَتِهِ وَلَا يُجَارَى فِي فَصِيحِ عِبَارَتِهِ الْحَائِزِ قَصَبَ السَّبَقِ فِي مِضْمَارِ الْفَضْلِ الْأُخْرَوِيِّ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ الْإِسْنَوِيِّ الْمُسَمِّي هَذَا الشَّرْحَ بِنِهَايَةِ السُّولِ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ لِلْفَاضِلِ الْمُشْتَهِرِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ بِأَعْلَى الْأَوْصَافِ وَأَجْلَى الْمَنَاقِبِ مَنْ هُوَ لِرُتَبِ الْفَضَائِلِ حَاوِي الْعَلَّامَةِ الْمَعْرُوفِ بِالْقَاضِي الْبَيْضَاوِيِّ أَسْكَنَ اللَّهُ الْجَمِيعَ فَرَادِيسَ الْجَنَّةِ وَأَجْزَلَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْمِنَّةَ عَلَى ذِمَّةِ الْمُلْتَزَمَيْنِ الْمُكْرَمَيْنِ الْكُرْدِيَّيْنِ الْمَاجِدَيْنِ الْأَمْجَدَيْنِ حَضْرَةَ شُكْرِ اللَّهِ أَفَنْدِي كَانَ اللَّهُ لَهُ مُعِينًا فِيمَا يُعِيدُ وَيُبْدِي وَحَضْرَةَ الْفَاضِلِ الشَّابِّ الذَّكِيِّ الشَّيْخِ الْأَجَلِّ فَرَجِ اللَّهِ زَكِيِّ جَمَعَنَا اللَّهُ جَمِيعًا فِي الْفِرْدَوْسِ بِلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ وَالْأَصْحَابِ .
فِي عَهْدِ الْحَضْرَةِ الْخِدِيوِيَّةِ وَظِلِّ الطَّلْعَةِ الْبَهِيَّةِ الْمَلْحُوظِ مِنْ مَوْلَاهُ بِعَيْنِ عِنَايَتِهِ الْمُؤَيَّدِ بِبَاهِرِ هَيْبَتِهِ وَسَطْوَتِهِ الْمَحْفُوظِ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي الْخِدَيْوِي الْأَعْظَمِ عَبَّاسِ حِلْمِي بَاشًّا الثَّانِي أَدَامَ اللَّهُ لَنَا أَيَّامَهُ وَوَالَى عَلَيْنَا إنْعَامَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِوَلِيِّ الْعَهْدِ وَجَعَلَهُ قَرِينَ الْمَجْدِ وَالسَّعْدِ وَكَانَ هَذَا الطَّبْعُ الْجَمِيلُ وَالْوَضْعُ الْبَاهِرُ الْجَلِيلُ بِالْمَطْبَعَةِ الْعَامِرَةِ بِبُولَاقِ مِصْرَ الْقَاهِرَةِ بِنَظَرِ مَنْ عَلَيْهِ مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ تُثْنَى سَعَادَةِ وَكِيلِ الْمَطْبَعَةِ مُحَمَّدٍ بِك حُسْنِي وَقَدْ بَدَرَ مِنْ هَذَا الطَّبْعِ بَدْرُهُ وَانْبَلَجَ صُبْحُهُ وَفَجْرُهُ فِي شَهْرِ جُمَادَى الثَّانِيَةِ فِي الْعَامِ الثَّامِنِ عَشَرَ مِنْ الْقَرْنِ الرَّابِعِ عَشَرَ مِنْ هِجْرَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ السَّلَامِ مَا لَاحَ بَدْرُ التَّمَامِ وَفَاحَ مِسْكُ الْخِتَامِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23