كتاب : التقرير والتحبير
المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد

الْعُدُولُ إلَى الِاجْتِهَادِ بَلْ يَتِمُّ عَلَى الْجَوَازِ بِحَضْرَتِهِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَاجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَخْيِيرَهُ مُطْلَقًا لِعِلْمِهِ ) أَيْ أَبِي بَكْرٍ ( أَنَّهُ لِكَوْنِهِ بِحَضْرَتِهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إنْ خَالَفَ ) الصَّوَابَ فِي اجْتِهَادٍ ( رَدَّهُ ) أَيْ اجْتِهَادَهُ وَهَذَا مَفْقُودٌ إذَا كَانَ فِي غَيْبَتِهِ وَلَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ .
( فَالْوَجْهُ جَوَازُهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ ( لِلْغَائِبِ ) عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا أَوْ لَا ( ضَرُورَةً ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَعَسُّرِ الرُّجُوعِ أَوْ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ فَيَحْسُنُ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ بِهَا لِسُهُولَةِ الْمُرَاجَعَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ قِصَّةُ مُعَاذٍ الشَّهِيرَةُ فِي إرْسَالِهِ إلَى الْيَمَنِ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَقَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى الْقُضَاةِ ، وَالْوُلَاةِ لِحِفْظِ مَنْصِبِهِمْ عَنْ اسْتِنْقَاصِ الرَّعِيَّةِ لَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ تَكَلُّفِ كِتَابَتِهِ بِلَا تَعَقُّبِهِ بِالرَّدِّ ( وَالْحَاضِرُ بِشَرْطِ أَمْنِ الْخَطَإِ هُوَ ) أَيْ أَمْنُهُ ( بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ حَضْرَتِهِ ) كَمَا تَقَدَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( أَوْ إذْنِهِ ) فِي ذَلِكَ ( كَتَحْكِيمِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ) ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا حَكَمَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَقَسْمِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ ، وَالنِّسَاءِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ } كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ { الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } وَكِلَاهُمَا يُرَجِّحَانِ كَسْرَ اللَّامِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ بِحُكْمِ الْمَلِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( مَسْأَلَةٌ الْعَقْلِيَّاتُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمْعٍ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوُجُودِ مُوجِدِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ ، وَالْمُصِيبُ مِنْ مُجْتَهِدِيهَا ) أَيْ الْعَقْلِيَّاتِ ( وَاحِدٌ اتِّفَاقًا ) ، وَهُوَ الَّذِي طَابَقَ اجْتِهَادُهُ الْوَاقِعَ فَأَصَابَ الْحَقَّ لِعَدَمِ إمْكَانِ وُقُوعِ النَّقِيضَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَالْمُخْطِئُ ) مِنْهُمْ ( إنْ ) أَخْطَأَ ( فِيمَا يَنْفِي مِلَّةَ الْإِسْلَامِ ) كُلًّا أَوْ بَعْضًا ( فَكَافِرٌ آثِمٌ مُطْلَقًا ) أَيْ اجْتَهَدَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ ( عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ ) أَيْضًا ( بَعْدَ تَأَهُّلِهِ لِلنَّظَرِ وَبِشَرْطِ الْبُلُوغِ عِنْدَ مَنْ أَسْلَفْنَا ) فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ ( مِنْ الْحَنَفِيَّةِ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ إذَا أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ ) وَقَدْرُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَلَفَ ثَمَّةَ ( إنْ لَمْ يَبْلُغْهُ سَمْعٌ وَمُطْلَقًا ) أَيْ أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ أَمْ لَا ( إنْ بَلَغَهُ ) السَّمْعُ ( وَبِشَرْطِ بُلُوغِهِ ) أَيْ السَّمْعِ إيَّاهُ ( لِلْأَشْعَرِيَّةِ وَقَدَّمْنَاهُ ) ثَمَّةَ ( عَنْ بُخَارِيِّ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ) ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ أَبْيَنُ مِنْ النَّهَارِ لَا مَجَالَ لِنَفْيِهَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا بِغَيْرِهِ إذْ الِاجْتِهَادُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا فِيهِ خَفَاءٌ وَغُمُوضٌ ، وَالْمُعَانِدُ مُكَابِرٌ فِيهَا ( وَإِنْ ) كَانَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ ( غَيْرَهَا ) أَيْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ ( كَخَلْقِ الْقُرْآنِ ) أَيْ الْقَوْلِ بِخَلْقِهِ ( وَإِرَادَةِ الشَّرِّ ) أَيْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّرَّ فَكَانَ الْأَوْلَى عَدَمَ إرَادَةِ الشَّرِّ ( فَمُبْتَدِعٌ آثِمٌ لَا كَافِرٌ وَسَيَأْتِي فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا النَّوْعِ ( زِيَادَةٌ ) فِي التَّتِمَّةِ الَّتِي تَلِي الْمَسْأَلَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَمَا عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ

الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ كَوُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ وَنَحْوِهِ فَلَا الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ وَلَا الْمُصِيبُ فِيهِ مَأْجُورٌ إذْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا مَجْرَى الْخَطَإِ فِي أَنَّ مَكَّةَ أَكْبَرُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرُ كَذَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِيَّةِ ( وَأَمَّا الْفِقْهِيَّةُ فَمُنْكِرُ الضَّرُورِيِّ ) مِنْهَا ( كَالْأَرْكَانِ ) أَيْ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْحَجِّ الَّتِي هِيَ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ ( وَحُرْمَةِ الزِّنَا ، وَالشُّرْبِ ) لِلْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَالرِّبَا ( وَالسَّرِقَةِ كَذَلِكَ ) أَيْ كَافِرٌ آثِمٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ ) ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ نَظَرِيًّا ( فَهُوَ إنْكَارٌ لِلْمَعْلُومِ ابْتِدَاءً عِنَادًا أَوْ ) مُنْكِرُ ( غَيْرِهَا ) أَيْ الضَّرُورِيَّةِ ( الْأَصْلِيَّةِ ) الْقَطْعِيَّةِ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ ( كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ، وَالْخَبَرُ ) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً ( وَالْقِيَاسُ ) حُجَّةً فَهُوَ مُخْطِئٌ ( آثِمٌ ) وَقَالَ الْقَرَافِيُّ ، وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً كَمَا أَنَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ مَنْ يَقُولُ : الْعَرَضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ ، أَوْ يَقُولُ بِنَفْيِ الْخَلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْمَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ( بِخِلَافِ ) إنْكَارِ ( حُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ ) ، وَالسُّنَّةِ ( فَإِنَّهُ ) أَيْ إنْكَارَهَا ( كُفْرٌ وَ ) مُنْكِرُ ( غَيْرِهَا ) أَيْ الضَّرُورِيَّةِ ( الْفَرْعِيَّةِ ) الِاجْتِهَادِيَّةِ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ ( فَالْقَطْعُ لَا إثْمَ ، وَهُوَ ) أَيْ ، وَالْقَطْعُ بِنَفْيِ الْإِثْمِ ( مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ شَرْطِ حِلِّهِ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ قَاطِعِ نَصٍّ ، أَوْ إجْمَاعٍ وَلَا يُعْبَأُ ) أَيْ لَا يُعْتَدُّ ( بِتَأْثِيمِ بِشْرٍ ) الْمَرِيسِيِّ

( وَالْأَصَمِّ ) أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ ، وَالظَّاهِرِيَّةِ ، وَالْإِمَامِيَّةِ الْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَّا ، وَالْحَقُّ فِيهَا مُتَعَيِّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَيَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ وَلَا يَفْسُقُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا لَا يُعْبَأُ بِهِ ( لِدَلَالَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى نَفْيِهِ ) أَيْ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِيهَا ( إذْ شَاعَ اخْتِلَافُهُمْ ) فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَ الْجَمِيعِ ( وَلَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مُعَيَّنٌ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ : الْآخَرُ آثِمٌ وَلَا مُبْهَمٌ بِأَنْ يَقُولُوا : أَحَدُنَا آثِمٌ ( وَلَوْ كَانَ ) أَيْ وُجِدَ الْإِثْمُ لِلْمُخْطِئِ ( لَوَقَعَ ) ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ مِنْ الْمُهِمَّاتِ ، وَلَوْ ذُكِرَ لَنُقِلَ وَاشْتُهِرَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ تَأْثِيمٌ عُلِمَ قَطْعًا عَدَمُ الْإِثْمِ .
( وَلَوْ اُسْتُؤْنِسَ لَهُمَا ) أَيْ بِشْرٍ وَالْأَصَمِّ ( بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا ) ذَكَرَهُ فِي التَّقْوِيمِ ( أَمْكَنَ ) الْقَدْحُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيمِ بِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا اُتُّبِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مِثْلِهِ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ ابْنَ عَبَّاسٍ ( لَمْ يُتَّبَعْ عَلَى مِثْلِهِ إذْ وَقَائِعُ الْخِلَافِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَأْثِيمَ ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهَا مَنْقُولٌ عَنْهُمْ ، وَقَالَ ( الْجَاحِظُ : لَا إثْمَ عَلَى مُجْتَهِدٍ ، وَلَوْ ) كَانَ الِاجْتِهَادُ ( فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ ) كَانَ نَفْيُهُ اجْتِهَادًا ( مِمَّنْ لَيْسَ مُسْلِمًا وَتَجْرِي عَلَيْهِ ) أَيْ النَّافِي فِي الدُّنْيَا ( أَحْكَامُ الْكُفَّارِ ، وَهُوَ ) أَيْ نَفْيُ الْإِثْمِ ( مُرَادُ ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ قَاضِي الْبَصْرَةِ الْمُعْتَزِلِيِّ ( الْعَنْبَرِيِّ

بِقَوْلِهِ : الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ هَذَا بَلْ أَرَادَ وُقُوعَ مُعْتَقَدِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ ) فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ كَالْقِدَمِ ، وَالْحُدُوثِ فِي اعْتِقَادِ قَدِمَ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ ( فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ) فَخَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَفَى السُّبْكِيُّ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَفْيَ الْإِثْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجَاحِظِ بِلَا زِيَادَةٍ بَلْ أَرَادَ أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ وَافَقَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا وَوَافَقَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا وَتَعَقَّبَهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَخْلَ فِيهَا الْوَضْعُ الشَّارِعُ كَكَوْنِ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَكَوْنِ الصَّانِعِ مُمْكِنَ الرُّؤْيَةِ ، أَوْ مُمْتَنِعَهَا ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ ثُمَّ قِيلَ : إنَّهُ عُمِّمَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ حَتَّى يَشْمَلَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّ الْيَهُودَ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْمَجُوسَ عَلَى صَوَابٍ ، وَهَذَا مَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ ، وَقِيلَ : أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُونَ فِيهَا إلَى آيَاتٍ وَآثَارٍ مُحْتَمَلَةٍ لِلتَّأْوِيلِ كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْمَجُوس فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ ثُمَّ قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّا لَا نَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَقْطَعُ بِتَضْلِيلِ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْمَجُوس وَأَنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ قَطْعًا وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَامَتْ لِأَهْلِ

الْإِسْلَامِ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ ، وَالدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ تُوجِبُ الِاعْتِقَادَ الْقَطْعِيَّ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ مُخْطِئُونَ قَطْعًا ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يُخَالِفُنَا فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ ، وَالْمُجَسِّمَةُ ، وَالْجَهْمِيَّةُ ، وَالرَّوَافِضُ ، وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عَقَائِدَهُمْ فَيَثْبُتُ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا اعْتَقَدُوهُ قَطْعًا حُكِمَ بِبُطْلَانِ مَا يُخَالِفُهُ قَطْعًا ، وَإِذَا حُكِمَ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ قَطْعًا ثَبَتَ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ وَمُبْتَدِعَةٌ انْتَهَى .
وَمَشَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ الْكَرْمَانِيُّ وَالتَّفْتَازَانِي وَاسْتَشْهَدَ السُّبْكِيُّ لَهُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدْرِ : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ ، وَفِي نَافِيهِ : هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ : وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ أَيْضًا وَلَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي عَنْهُ فِي التَّقْرِيبِ بِخِلَافِهِ فَانْتَفَى مَا فِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْكَافِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاسْتِبْعَادِ الْخِلَافِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِ الْيَهُودِيِّ مُخْطِئًا فِي نَفْيِهِ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي نَفْيِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجَسِّمَةَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ فِي أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَفِي جِهَةٍ انْتَهَى .
( لَنَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْمُخَالِفِ مِنْ الصَّحَابَةِ

وَغَيْرِهِمْ مِنْ لَدُنْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَلُمَّ عَصْرًا تِلْوَ عَصْرٍ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُعَانِدٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ ظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ ) جَمِيعِهِمْ بَلْ لِبَعْضِهِمْ .
وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ قِتَالُهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ثُمَّ هَذَا إنْ كَانَ خِلَافَ الْمُخَالِفِ فِيمَنْ خَالَفَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً وَكَيْفَ لَا ، وَالْمُخَالِفُ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ قَبْلَهَا مُسْلِمًا فَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا لَكِنْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْأَوَّلُ ) أَيْ الْإِجْمَاعُ عَلَى قِتَالِهِمْ ( لَا يَجْرِي ) دَلِيلًا عَلَى تَأْثِيمِ الْمُجْتَهِدِ مِنْهُمْ ( عَلَى ) قَوَاعِدِ ( الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ وُجُوبَهُ ) أَيْ قِتَالِهِمْ ( لِكَوْنِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا لَا لِكُفْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا لَهُمْ ) أَيْ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي التَّأْثِيمِ ( الْقَطْعُ بِالْعُمُومَاتِ ) الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ( مِثْلُ : وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ ، وَمِنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) وَهَذَا الْقَطْعُ ( إمَّا مِنْ الصِّيغَةِ ) الْمَوْضُوعَةِ لِلْعُمُومِ مِثْلُ الْكَافِرِينَ ، وَالْخَاسِرِينَ ( أَوْ ) مِنْ ( الْإِجْمَاعَاتِ ) الْكَائِنَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ ( عَلَى عَدَمِ التَّفْصِيلِ ) فِي كُفْرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ خِلَافُ الْمُخَالِفِ مَخْصُوصًا بِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأُصُولِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِنَفْيِ التَّأْثِيمِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ مُسْلِمًا ( تَكْلِيفُهُمْ ) أَيْ الْكُفَّارِ ( بِنَقِيضِ مُجْتَهِدِهِمْ ) تَكْلِيفٌ ( بِمَا لَا يُطَاقُ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ( كَيْفٌ ) ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ هُوَ إدْرَاكُ أَنَّ كَذَا

وَاقِعٌ ، أَوْ لَيْسَ بِوَاقِعٍ ( لَا فِعْلٌ ) اخْتِيَارِيٌّ لِلنَّفْسِ لِيَكُونَ مُكَلَّفًا أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى وَجْهِ كَذَا بِعَيْنِهِ فَهُوَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ بَعْدَ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ ، وَهُوَ النَّظَرُ فَلَيْسَ مَقْدُورًا لَهُ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ ( فَالْمُكَلَّفُ بِهِ اجْتِهَادُهُ ، وَقَدْ فَعَلَ ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ فِعْلِهِ ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ ( إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً ظَاهِرَةً لَوْ وَقَعَ النَّظَرُ فِي مَوَادِّهَا لَزِمَهَا ) أَيْ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ الْمَطْلُوبُ ( قَطْعًا ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ ) الْمَطْلُوبُ عِنْدَ مُكَلَّفٍ ( عُلِمَ أَنَّهُ ) أَيْ عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ( لِعَدَمِ الشُّرُوطِ ) فِي النَّظَرِ ( بِالتَّقْصِيرِ ) أَيْ بِوَاسِطَتِهِ ( مَثَلًا مَنْ بَلَغَهُ بِأَقْصَى فَارِسَ ظُهُورُ مُدَّعِي نُبُوَّةٍ ادَّعَى نَسْخَ شَرِيعَتِكُمْ لَزِمَهُ السَّفَرُ إلَى مَحِلِّ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ لِيَنْظُرَ أَتَوَاتَرَ وُجُودُهُ وَدَعْوَاهُ ثُمَّ أَتَوَاتَرَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنُبُوَّتِهِ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ جَامِعًا لِلشُّرُوطِ قَطَعْنَا مِنْ الْعَادَةِ أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْمُجْتَهِدَ ( يَلْزَمُهُ ) أَيْ اجْتِهَادُهُ ( عِلْمُهُ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ ( بِهِ ) أَيْ بِهَذَا الْمُدَّعِي ( لِفَرْضِ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ ، وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي مَكَانِهِ فَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لَا يُعْذَرُ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ اجْتِهَادَهُ ( فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ) أَيْ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ .
( وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كُلِّفَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ ) عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِكَوْنِهِ مِنْ الصِّفَاتِ ، وَالْكِيفَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ ، وَالْمَقْدُورُ إنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ : لَا يَتِمُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ التَّأْثِيرُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنْ غَيْرَهُ لَيْسَ مَقْدُورًا إذْ الْعِلْمُ الْكَسْبِيُّ مَقْدُورٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ تَأْثِيرًا بَلْ مِنْ الصِّفَاتِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ عَقِيبَ

الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَيَكُونُ أَثَرًا لَهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ مُؤَثِّرَةٌ فَالِاعْتِقَادُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : الْعِلْمُ الْكَسْبِيُّ يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّظَرِ وَعَرَّفُوا التَّوْلِيدَ بِأَنْ يُوجِبَ فِعْلُهُ فِعْلًا آخَرَ لِفَاعِلِهِ كَيْفَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِقَادُ مَقْدُورًا لَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ ( وَأَمَّا الْجَوَابُ ) عَنْ حُجَّتِهِمْ كَمَا فِي الشَّرْحِ الْعَضُدِيِّ ( بِمَنْعِ كَوْنِ نَقِيضِ اعْتِقَادِهِمْ غَيْرَ مَقْدُورٍ ) لَهُمْ ( إذْ ذَاكَ ) أَيْ غَيْرُ الْمَقْدُورِ لَهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ هُوَ ( الْمُمْتَنِعُ عَادَةً كَالطَّيَرَانِ وَحَمْلِ الْجَبَلِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِامْتِنَاعِ ) لِتَكْلِيفِهِمْ بِنَقِيضِ مُجْتَهِدِهِمْ هُوَ امْتِنَاعٌ بِالْغَيْرِ أَيْ ( بِشَرْطِ وَصْفِ الْمَوْضُوعِ هَكَذَا مُعْتَقَدُ ذَلِكَ الْكُفْرِ يَمْتَنِعُ اعْتِقَادُ غَيْرِهِ ) أَيْ الْكُفْرِ ( مَا دَامَ ) الْكُفْرُ ( مُعْتَقَدَهُ ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ الْإِسْلَامَ ، وَهُوَ ) أَيْ الْإِسْلَامُ ( مَقْدُورٌ ) لَهُ وَمُعْتَادٌ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا وَخَبَرُ الْجَوَابِ ( لَا يُزِيلُ الشَّغْبَ ) غَيْرُ أَنَّ الْأَوْلَى إثْبَاتُ الْفَاءِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ أَمَّا ، وَإِنَّمَا لَا يُزِيلُهُ ( إذْ يُقَالُ التَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ لِاسْتِعْلَامِ ذَلِكَ ) أَيْ الْإِيمَانِ ( فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ ) الِاجْتِهَادُ ( إلَيْهِ ) أَيْ إلَى ذَلِكَ ( لَوْ لَزِمَ ) ذَلِكَ ( كَانَ ) التَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ لِاسْتِعْلَامِ ذَلِكَ تَكْلِيفًا ( بِمَا لَا يُطَاقُ )

( مَسْأَلَةُ الْجُبَّائِيِّ ) وَابْنِهِ عَلَى مَا فِي الْبَدِيعِ ( وَنُسِبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ ) أَيْ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ نَصٍّ ، أَوْ إجْمَاعٍ ( قَبْلَ الِاجْتِهَادِ سِوَى إيجَابِهِ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ فِيهَا ( بِشَرْطِهِ فَمَا أَدَّى ) الِاجْتِهَادُ ( إلَيْهِ ) أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا ( تَعَلَّقَ ) بِهَا وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مُقَلِّدِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَزَادَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ثُمَّ قَالَ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ : لَا يَصِحُّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ : وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْهُ وَعَنْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَالْحَقُّ عِنْدَهُمْ مُتَعَدِّدٌ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْحُقُوقَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ نَعَمْ وَطَائِفَةٌ لَا بَلْ أَحَدُ تِلْكَ الْحُقُوقِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ( وَلَا يَمْتَنِعُ تَبَعِيَّتُهُ ) أَيْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا ( لِلِاجْتِهَادِ ) لِحُدُوثِهِ أَيْ الْحُكْمِ ( عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ فَذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ لِلَّهِ فِيهَا خِطَابًا لَكِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبًا ، أَوْ حُرْمَةً ، أَوْ غَيْرَهُمَا بِحَسَبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَالتَّابِعُ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ هُوَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ لَا نَفْسُ الْخِطَابِ .
وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ هُنَا خِطَابَ اللَّهِ الْمُخْتَلَفَ فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ بَلْ مَا يَتَأَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَيَسْتَلْزِمُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ الْعَمَلُ بِهِ ( وَالْبَاقِلَّانِيّ ) وَالْأَشْعَرِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ ( وَطَائِفَةٌ )

الْحُكْمُ ( الثَّابِتُ ) لِلْوَاقِعَةِ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( تَعَلُّقُ مَا يَتَعَيَّنُ ) ذَلِكَ الْحُكْمُ ( بِهِ ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ ( وَإِذْ عِلْمُهُ ) عَزَّ وَجَلَّ ( مُحِيطٌ بِمَا سَيَتَعَيَّنُ ) مِنْ الْحُكْمِ ( أَمْكَنَ كَوْنُ الثَّابِتِ تَعَلُّقَ ) حُكْمٍ ( مُعَيَّنٍ ) لَهَا ( فِي حَقِّ كُلٍّ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحُكْمُ الْمُعَيَّنُ ( مَا عُلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِذْ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ ) لِلْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ ( تَعَدَّدَ الْحُكْمُ بِتَعَدُّدِهِمْ ، وَالْمُخْتَارُ ) أَنَّ حُكْمَ الْوَاقِعَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا ( حُكْمٌ مُعَيَّنٌ ، أَوْجَبَ طَلَبَهُ فَمَنْ أَصَابَهُ ) فَهُوَ ( الْمُصِيبُ وَمَنْ لَا ) يُصِيبُهُ فَهُوَ ( الْمُخْطِئُ وَنُقِلَ ) هَذَا ( عَنْ ) الْأَئِمَّةِ ( الْأَرْبَعَةِ ) أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُمْ بَلْ نَقَلَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الَّذِي حَرَّرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : وَمَنْ قَالَ عَنْهُ غَيْرُهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِ ( ثُمَّ الْمُخْتَارُ ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا وَفِي الْمَحْصُولِ : وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَيُنْسَبُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ( أَنَّ الْمُخْطِئَ مَأْجُورٌ ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْخَطَإِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ( وَعَنْ طَائِفَةٍ لَا أَجْرَ وَلَا إثْمَ ) ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَعَلَّهُ ) أَيْ هَذَا الْخِلَافَ ( لَا يَتَحَقَّقُ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَجْرِهِ لَيْسَ عَلَى خَطَئِهِ بَلْ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ الِاجْتِهَادِ ، وَثُبُوتُ ثَوَابِ مُمْتَثِلِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ لَا يَتَأَتَّى نَفْيُهُ وَإِثْمُ خَطَئِهِ مَوْضُوعٌ اتِّفَاقًا ) بَيْنَ أَهْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ (

فَهُوَ ) أَيْ فَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الْقَوْلُ ( الْأَوَّلُ ) قُلْت : وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا عَلَيْهِ الْأَجْرُ لِلْمُخْطِئِ اخْتِلَافًا فَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَإِ بَلْ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَقِيلَ بَلْ عَلَى اشْتِدَادِهِ فِي تَقَصِّي النَّظَرِ ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَشْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ قَالَ : وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قَدْ يَحِيدُ فِي الْأَوَّلِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ وَالرَّافِعِيُّ ثُمَّ الْأَجْرُ عَلَامَ فِيهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ عَلَى الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ لَا الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَإِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ انْتَهَى ، وَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ قَوْلُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَدِيثِ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَإِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى قَصْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ خَطَأً كَمَا لَوْ اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا فَهُوَ مَأْجُورٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَلَمْ يَقَعْ عِتْقُهُ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ ، وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ ، وَالثَّانِي يُؤْجَرُ عَلَى الْقَصْدِ ، وَالِاجْتِهَادِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الْإِتْمَامُ قُلْت : عَلَى هَذَا أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَهَذَا

مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنْ حَادَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَهُ فِي صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ لَأَفْضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ قُلْت : وَلَا يَعْرَى عَنْ نَظَرٍ لِلْمُنَصِّفِ هَذَا ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَلَى الْقَصْدِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُشْرُ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَأُجِيبَ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { : جَاءَ خَصْمَانِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت أَوْلَى قَالَ : وَإِنْ كَانَ قُلْت مَا أَقْضِي قَالَ : إنَّك إنْ أَصَبْت كَانَ لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ أَخْطَأْت كَانَ لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ } أَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الْقُضَاةِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى فَرَجِ بْنِ فُضَالَةَ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْرَوَانِيُّ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ قُلْت : وَيُمْكِنُ التَّقَصِّي عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَا ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَذَا عَامٌّ ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ، وَأَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إلَّا أَنَّهُ لَا إشْكَالَ بِهَذَا عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَانَ الْأَجْرُ عَلَى نَفْسِ الِاجْتِهَادِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَذَا وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ ، وَالْأَمَارَاتِ ، فَإِذَا أُصِيبَ حَصَلَ أَجْرَانِ أَجْرُ

الْإِصَابَةِ وَأَجْرُ الِاجْتِهَادِ .
وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى هَذَا الثَّانِي وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ : حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ انْتَهَى ثُمَّ قَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يُثَابُ عَلَى الْإِصَابَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ وَأُجِيبَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ وَقِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الثَّانِي لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْجَرُ الْمُخْطِئُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ بِخِلَافِ الْمُصِيبِ ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدَ الْمُصِيبِ قَدْ اهْتَدَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْهُدَى ، وَهُوَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } بِخِلَافِ مُقَلِّدِ الْمُخْطِئِ ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ غَايَةُ الْأَمْرِ سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ .
قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ مِمَّا يُذْكَرُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَهَذَانِ ) الْقَوْلَانِ بِنَاءً ( عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ ) أَيْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْحَادِثَةِ ( دَلِيلًا ظَنِّيًّا ) ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ( وَقِيلَ ) بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ( قَطْعِيٌّ ، وَالْمُخْطِئُ آثِمٌ ) ، وَهُوَ ( قَوْلُ بِشْرٍ ، وَالْأَصَمِّ ) ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَابْنَ عُلَيَّةَ وَبَعْضُهُمْ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ ( وَقِيلَ : غَيْرُ آثِمٍ لِخَفَائِهِ ) أَيْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَغُمُوضِهِ وَعَزَاهُ فِي

الْكَشْفِ إلَى الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَنَّهُ مَالَ إلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَفِي الْمَحْصُولِ إلَى الْجُمْهُورِ مِنْ قَائِلِي : إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا ، وَقِيلَ : لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ بَلْ هُوَ كَدَفِينٍ يَعْثِرُ عَلَيْهِ الطَّالِبُ اتِّفَاقًا فَمَنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَعَزَى هَذَا فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ إلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ زَادَ الْقَرَافِيُّ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ( وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْخِلَافَ أَنَّهُ ) أَيْ الْمُخْطِئَ ( مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ) فِي اجْتِهَادِهِ وَفِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ .
( أَوْ ) مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ مُخْطِئٌ ( انْتِهَاءً ) فِيمَا طَلَبَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ ( وَهُوَ ) أَيْ وَهَذَا الْأَخِيرُ ( الْمُخْتَارُ ) عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ نَقْلَ الْحَنَفِيَّةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( لَا يَتَحَقَّقُ إذْ الِابْتِدَاءُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَهُوَ ) أَيْ الْمُجْتَهِدُ ( بِهِ ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ ( مُؤْتَمِرٌ غَيْرُ مُخْطِئٍ بِهِ ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ ( قَطْعًا ) وَكَيْفَ ، وَهُوَ آتٍ بِمَا كُلِّفَ بِهِ مُمْتَثِلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا فِي التَّقْوِيمِ ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا لِلْحَقِّ فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى إنَّ عَمَلَهُ يَقَعُ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ : وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ ، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَجَعَلَ قَضَاءَهُ فِي حَقِّهِ صَوَابًا

مَعَ فَتْوَاهُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ انْتَهَى غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي الْمَعْنَى لِمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( وَإِنْ حُمِلَ ) كَوْنُهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً ( عَلَى خَطَئِهِ فِيهِ ) أَيْ فِي الِاجْتِهَادِ ( لِإِخْلَالِهِ بِبَعْضِ شُرُوطِ الصِّحَّةِ ) لِلِاجْتِهَادِ ( فَاتِّفَاقٌ ) أَيْ فَكَوْنُهُ مُخْطِئًا اتِّفَاقٌ وَقِيلَ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً وَابْتِدَاءً أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ أَنَّ دَلِيلَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا إلَى مَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ .
وَمَنْ قَالَ : مُخْطِئٌ انْتِهَاءً لَا ابْتِدَاءً أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ ابْتِدَاءً اسْتِفْرَاغَ الْجُهْدِ فِي رِعَايَةِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ وَفِي الدَّلِيلِ الْمُوصِلِ إلَى مَا هُوَ الْحَقُّ ( لَنَا ) عَلَى الْمُخْتَارِ ( لَوْ كَانَ الْحُكْمُ ) فِي الْحَادِثَةِ ( مَا ) أَدَّى اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ ( إلَيْهِ كَانَ ) الْمُجْتَهِدُ ( بِظَنِّهِ ) لِلْحُكْمِ ( يَقْطَعُ بِأَنَّهُ ) أَيْ مَظْنُونَهُ ( حُكْمُهُ تَعَالَى ، وَالْقَطْعُ ) ثَابِتٌ ( بِأَنَّ الْقَطْعَ ) بِأَنَّ مَظْنُونَهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ( مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ ( وَالْإِجْمَاعَ ) أَيْضًا ثَابِتٌ ( عَلَى جَوَازِ تَغَيُّرِهِ ) أَيْ ظَنِّهِ بِظَنِّ غَيْرِهِ .
( وَ ) عَلَى ( وُجُوبِ الرُّجُوعِ ) عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ ( وَأَنَّهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ ( لَمْ يَزُلْ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَطْعِ ) بِهِ بَلْ يَتَأَكَّدُ أَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ بِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مُتَعَلَّقَهُ هُوَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ عَالِمًا بِالشَّيْءِ مَا دَامَ ظَانًّا لَهُ وَلَا يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ اجْتِمَاعَ الظَّنِّ ، وَالْعِلْمِ فِيهِ إذْ الظَّنُّ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : انْتِفَاءُ الظَّنِّ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِبَقَاءِ الظَّنِّ ( وَإِنْكَارُهُ ) أَيْ بَقَاءِ الظَّنِّ ( بُهْتٌ ) أَيْ مُكَابَرَةٌ ( فَيَجْتَمِعُ الْعِلْمُ ، وَالظَّنُّ ) لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ ( فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ ) لِلْحُكْمِ ( وَعَدَمِهِ ) أَيْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ ( وَإِلْزَامُ كَوْنِهِ ) أَيْ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ ( مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ ) ، فَإِنَّهُ كَمَا

يَلْزَمُ إصَابَةُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ إصَابَةُ وَاحِدٍ وَخَطَأُ الْآخَرِينَ أَيْضًا لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ صَوَابًا كَانَ ، أَوْ خَطَأً يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ ، وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَيَكُونُ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا حَالَ كَوْنِهِ ظَانًّا فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ وَعَدَمُ الْقَطْعِ وَهُمَا نَقِيضَانِ ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكَ الْإِلْزَامِ كَانَ الدَّلِيلُ بَاطِلًا إذْ بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَنْشَأَ الْفَسَادِ لَيْسَ خُصُوصِيَّةَ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ ( مُنْتَفٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ اتَّحَدَ مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ ، وَالْعِلْمِ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَتَّحِدْ هُنَا ( لِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الظَّنِّ ، وَهُوَ ) أَيْ مَحِلُّهُ ( حُكْمُهُ أَيْ خِطَابُهُ ) تَعَالَى الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ ( وَ ) مَحِلُّ ( الْعِلْمِ ، وَهُوَ ) أَيْ مَحِلُّهُ ( حُرْمَةُ مُخَالَفَتِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ ( بِشَرْطِ بَقَاءِ ظَنِّهِ ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ لَا أَنَّ مَحِلَّهُ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ ( فَهُنَا خَطَأٌ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ الْمَظْنُونُ وَتَحْرِيمُ تَرْكِهِ ) أَيْ الْمَظْنُونِ ( وَيُلَازِمُهُ ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعَ ( إيجَابُ الْفَتْوَى بِهِ ) أَيْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ ( وَهُمَا ) أَيْ تَحْرِيمُ تَرْكِهِ وَإِيجَابُ الْفَتْوَى بِهِ ( مُتَعَلِّقَةٌ ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ ( الْمَعْلُومُ ) بِالرَّفْعِ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْمَحِلَّانِ ( بِخِلَافِ ) قَوْلِ ( الْمُصَوِّبَةِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ إلَّا مَا تَأَدَّى إلَيْهِ ) الِاجْتِهَادُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُتَعَلَّقُ الْعِلْمِ كَمَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ فَيَتَّحِدُ الْمَحِلَّانِ .
( فَإِنْ قَالُوا ) أَيْ الْمُصَوِّبَةُ هَذَا الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ ، وَهُوَ بَيَانُ تَعَدُّدِ مُتَعَلِّقِي الْعِلْمِ ، وَالظَّنِّ يَجْرِي فِي دَلِيلِكُمْ ؛ لِأَنَّا ( نَقُولُ

مُتَعَلَّقُ الظَّنِّ كَوْنُهُ ) أَيْ الدَّلِيلُ ( دَلِيلًا ) أَيْ دَالًّا عَلَى الْحُكْمِ ( وَ ) مُتَعَلَّقُ ( الْعِلْمِ ثُبُوتُ مَدْلُولِهِ ) أَيْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ الْحُكْمُ ( شَرْعًا بِذَلِكَ الشَّرْطِ ) أَيْ بَقَاءُ ظَنِّهِ ( فَإِذَا زَالَ ) ظَنُّهُ ( رَجَعَ ) عَنْهُ لِزَوَالِ شَرْطِ ثُبُوتِهِ ، وَهُوَ ظَنُّ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ قَدْ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ ( أُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهُ ) أَيْ الدَّلِيلِ ( دَلِيلًا ) أَيْضًا ( حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَمَلِيٍّ ) أَيْ لَيْسَ بِخِطَابِ تَكْلِيفٍ بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اعْتِقَادِيٌّ هُوَ كَوْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي لَاحَ لِلْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا ( فَإِذَا ظَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا فَقَدْ ( عَلِمَهُ ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا إذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا بِهِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِظَنِّهِ وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِ أَنَّهُ دَلِيلٌ فَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إذْ هَذَا مُجْتَهِدٌ ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ دَلِيلٌ ( وَيَتِمُّ إلْزَامُهُ ) أَيْ دَلِيلِ الْمُصَوِّبَةِ ( اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ ) ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهِ بِخِلَافِ الْمُخَطِّئَةِ ، فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يُوجِبُ ظَنَّ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ظَنِّ الدَّلِيلِ دَلِيلًا مُخْطِئًا أَيْضًا ، وَلَا يَلْزَمُ خِلَافُ الْفَرْضِ هَذَا وَفِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَهُنَا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مَنَاطَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ ظَنَّ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَا نَفْسَ الدَّلِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا ، وَتَجْوِيزُ كَوْنِ غَيْرِهِ دَلِيلًا لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْغَيْرِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الظَّنُّ بِكَوْنِ

الْغَيْرِ دَلِيلًا فَالْمَظْنُونُ مَا دَامَ مَظْنُونًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِذَا صَارَ غَيْرُهُ مَظْنُونًا انْتَفَى الظَّنُّ الْمُتَعَلِّقُ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي انْدِفَاعِ التَّنَاقُضِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إصَابَتَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ لَا فِي كُلِّ حُكْمٍ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَالْجَوَابُ ) مِنْ قِبَلِ الْمُصَوِّبَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ ( أَنَّ اللَّازِمَ ) مِنْ ظَنِّ الدَّلِيلِ ( ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجُوعُ ) عَنْهُ ( وَهُوَ ) أَيْ مَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ( انْفِسَاخُ هَذَا الْحُكْمِ بِظُهُورِ ) الْحُكْمِ ( الْمَرْجُوعِ ) إلَيْهِ ( لَا ) ظُهُورِ ( خَطَئِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ( وَبُطْلَانُهُ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ ( وَتَجْوِيزُ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ ) الْأَوَّلِ ( بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَطْعِ بِهِ حَالَ هَذَا التَّجْوِيزِ ) لِنَقِيضِ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ ( فَبَطَلَ الدَّلِيلُ ) الْمَذْكُورُ لِلْمُخَطِّئَةِ ( عَنْهُمْ ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ .
( وَبِهَذَا ) الْجَوَابِ ( يَنْدَفِعُ ) عَنْ الْمُصَوِّبَةِ الدَّلِيلُ ( الْقَائِمُ ) مِنْ الْمُخَطِّئَةِ ( لَوْ كَانَ ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ اللَّازِمُ لِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ( امْتَنَعَ الرُّجُوعُ ) عَنْ الْحُكْمِ ( لِاسْتِلْزَامِهِ ) أَيْ الرُّجُوعِ عَنْهُ ( ظَنَّ النَّقِيضِ ) لِلْحُكْمِ ( وَالْعِلْمُ ) بِهِ ( يَنْفِي احْتِمَالَهُ ) لِظَنِّ نَقِيضِهِ ( فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ حِينَ كَانَ عِلْمًا ، أَوْ لَوْ كَانَ ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِعِلْمِهِ ( جَازَ ظَنُّهُ ) أَيْ النَّقِيضِ ( مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ ) بِالْحُكْمِ الَّذِي نَقِيضُهُ ذَلِكَ ( وَهُوَ ) أَيْ مُوجِبُ الْعِلْمِ ( الظَّنُّ الْأَوَّلُ ) وَجَوَازُ الظَّنِّ مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ بَاطِلٌ ، بَيَانَ الْمُلَازَمَةِ قَوْلُهُ : ( لِجَوَازِ الرُّجُوعِ ، أَوْ لَوْ كَانَ ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ ( امْتَنَعَ ظَنُّهُ ) أَيْ ظَنُّ نَقِيضِهِ ( مَعَ

تَذَكُّرِ الظَّنِّ ) لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ ( لِامْتِنَاعِ ظَنِّ نَقِيضِ مَا عَلِمَ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ ) لِلْعِلْمِ بِهِ لِوُجُودِ دَوَامِ الْعِلْمِ بِدَوَامِ مُلَاحَظَةِ مُوجِبِهِ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ ظَنُّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ ( لَمْ يَكُنْ ) ذَلِكَ الْمُوجِبُ ( مُوجِبًا ) هَذَا خُلْفٌ ( لَكِنَّهُ ) أَيْ ظَنَّ نَقِيضِ الْأَوَّلِ ( جَائِزٌ بِالرُّجُوعِ ) عَنْ الْأَوَّلِ إلَى نَقِيضِهِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ أَدِلَّةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُخَطِّئَةِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ ( وَقَدْ لَا يُكْتَفَى بِدَعْوَى ضَرُورِيَّةِ الْبُهُتِ ) لِإِمْكَانِ بَقَاءِ الظَّنِّ ( فَتُجْعَلُ ) هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ( دَلِيلَ بَقَاءِ الظَّنِّ عِنْدَ الْقَطْعِ بِمُتَعَلَّقِهِ ) أَيْ الظَّنِّ ( لَا ) دَلِيلًا ( مُسْتَقِلًّا وَأَلْزَمَ عَلَى الْمُخْتَارِ ) ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُخَطِّئَةِ ( انْتِفَاءَ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا فِي الْأَمَارَةِ ) حَيْثُ قَالُوا : لَا يَمْتَنِعُ زَوَالُ ظَنِّ الْحُكْمِ إلَى ظَنِّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْأَمَارَةِ الَّتِي عَنْهَا الظَّنُّ مَعَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ .
( وَجَوَابُهُ ) أَيْ هَذَا الْإِلْزَامِ ( أَنَّ بُطْلَانَهُ ) أَيْ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا الَّذِي هُوَ التَّالِي إنَّمَا هُوَ ( فِي غَيْرِهَا ) أَيْ الْأَمَارَةِ ( أَمَّا هِيَ ) أَيْ الْأَمَارَةُ ( فَإِذَنْ لَا رَبْطَ عَقْلِيٌّ ) بَيْنَ الظَّنِّ ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوجِبٍ ( جَازَ انْتِفَاءُ مُوجِبِهَا مَعَ تَذَكُّرِهَا ) كَمَا يَزُولُ ظَنُّ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْ الْغَيْمِ الرَّطْبِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لَهُ إلَى عَدَمِ نُزُولِهِ مَعَ وُجُودِهِ بَلْ رُبَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِنَقِيضِهِ كَمَا إذَا ظَنَّ شَخْصٌ كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ لِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ رَآهُ خَارِجَ الدَّارِ ، وَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لِلْمُخَطِّئَةِ مَا تَقَدَّمَ دَلِيلًا لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلَ ( بَلْ

الدَّلِيلُ إطْلَاقُ ) الصَّحَابَةِ ( الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ شَائِعًا مُتَكَرِّرًا بِلَا نَكِيرٍ كَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُخَطِّئَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ الْعَوْلِ ، وَهُوَ ) أَيْ ابْنُ عَبَّاسٍ ( خَطَّأَهُمْ ) فِي الْقَوْلِ بِهِ ( فَقَالَ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ ) أَيْ لَاعَنْتُهُ ، وَالْحَقِيقَةُ التَّضَرُّعُ فِي الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ ( إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ وَاحِدٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا ) لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ : وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إنْكَارِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ صَرِيحًا وَقَدَّمْنَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةِ إذَا أَفْتَى بَعْضُهُمْ تَخْرِيجَ تَخْطِئَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنًى لِلْقَائِلِينَ بِنَحْوِ هَذَا السِّيَاقِ بِدُونِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته ( وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْكَلَالَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ) فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ ( إلَى قَوْلِهِ : وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ ) أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَلَدَ ، وَالْوَالِدَ فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ : إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَأَيْت فِي الْكَلَالَةِ رَأْيًا ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ قِبَلِي وَالشَّيْطَانِ ، الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَالِدَ ، وَالْوَلَدَ .
( وَمِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ ( قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا ) زَوْجُهَا ( أَجْتَهِدُ إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا وَيُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ ( وَعَنْهُ ) أَيْ ابْنِ مَسْعُودٍ ( مِثْلُ ) قَوْلِ ( أَبِي بَكْرٍ ) الْمَاضِي فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَثَرُ بِدُونِ هَذَا فِي الْكَلَامِ فِي جَهَالَةِ الرَّاوِي ( وَقَوْلُ عَلِيٍّ لِعُمَرَ فِي الْمُجْهِضَةِ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَهِيَ

الْمَرْأَةُ الَّتِي أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا خَوْفًا مِنْ عُمَرَ لَمَّا اسْتَحْضَرَهَا وَسَأَلَ عُمَرُ مَنْ حَضَرَهُ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ لَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا ثُمَّ سَأَلَ عَلِيًّا : مَاذَا تَقُولُ فَقَالَ : ( إنْ كَانَا قَدْ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ يَعْنِي عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ) ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدَا فَقَدْ غَشَّاكَ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَلَّامَةِ وَمَشَى عَلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ الْعَضُدِيِّ وَعَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْمُجْهِضَةِ إنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك انْتَهَى ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْأَجْنَادِ يَغْشَاهَا الرِّجَالُ بِاللَّيْلِ يَدْعُوهَا وَكَانَتْ تَرْقَى فِي دَرَجٍ فَفَزِعَتْ فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ فِيهَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : إنَّك مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك قَالَ عَلِيٌّ : إنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك عَلَيْك الدِّيَةُ فَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ : عَزَمْت عَلَيْك لَتَقْسِمَنَّهَا عَلَى قَوْمِك قِيلَ أَرَادَ قَوْمَ عُمَرَ وَأَضَافَهُمْ إلَى عَلِيٍّ إكْرَامًا ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إنْ كَانَ وَمَا بَعْدَهُ فِي الْعَضُدِيِّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا لِعُثْمَانَ كَمَا ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا عَلَى أُصُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، فَإِنَّ الْحَسَنَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ثُمَّ الْإِجْهَاضُ إلْقَاءُ الْوَلَدِ قَبْلَ تَمَامِهِ ، وَالْمَعْرُوفُ تَخْصِيصُهُ بِالْإِبِلِ قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ .
( وَاسْتُدِلَّ ) لِلْمُخْتَارِ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ أَحَدُهَا إنْ كَانَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمُجْتَهِدَيْنِ ، أَوْ كِلَاهُمَا بِلَا دَلِيلٍ فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا بِدَلِيلٍ

فَالْجَوَابُ ( إنْ تَسَاوَى دَلِيلَاهُمَا تَسَاقَطَا ) وَكَانَ الْحُكْمُ الْوَقْفَ ، أَوْ التَّخْيِيرَ فَكَانَا فِي النَّفْيِ ، وَالْإِثْبَاتِ مُخْطِئَيْنِ ( وَإِلَّا ) إنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا ( تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ ) لِلصِّحَّةِ وَيَكُونُ الْآخَرُ خَطَأً إذْ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ ( وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ ) التَّقْسِيمَ إنَّمَا هُوَ ( بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْأَمَارَاتِ تُرَجِّحُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ ) إذْ لَيْسَتْ أَدِلَّةً فِي نَفْسِهَا بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَظَرِ النَّاظِرِ ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ ( فَكُلٌّ ) مِنْ الْقَوْلَيْنِ ( رَاجِحٌ عِنْدَ قَائِلِهِ وَصَوَابٌ ) لِرُجْحَانِ أَمَارَتِهِ عِنْدَهُ ، وَرُجْحَانُهُ عِنْدَهُ هُوَ رُجْحَانُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ثَانِيهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَبِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ طَالِبٌ ) لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ ( وَيَسْتَحِيلُ ) طَالِبٌ ( بِلَا مَطْلُوبٍ ) فَإِذَنْ لَهُ مَطْلُوبٌ ( فَمَنْ أَخْطَأَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ فَهُوَ ( الْمُخْطِئُ ) ، وَمِنْ وَجَدَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ ( أُجِيبَ نَعَمْ ) يَسْتَحِيلُ طَالِبٌ وَلَا مَطْلُوبَ ( فَهُوَ ) أَيْ الْمَطْلُوبُ ( غَلَبَةُ ظَنِّهِ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ ( فَيَتَعَدَّدُ الصَّوَابُ ) لِتَعَدُّدِ الْغَالِبِ عَلَى الظُّنُونِ لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَالِثُهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى شَرْعِ الْمُنَاظَرَةِ ) بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ ( وَفَائِدَتُهَا ظُهُورُ الصَّوَابِ ) عَنْ الْخَطَإِ وَتَصْوِيبُ الْجَمِيعِ يَنْفِي ذَلِكَ ( وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ ) أَيْ حَصْرِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ ( لِجَوَازِهَا ) أَيْ فَائِدَتِهَا أَنْ تَكُونَ ( تَرْجِيحًا ) أَيْ بَيَانُ تَرْجِيحِ إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَتُعْتَمَدُ الرَّاجِحَةُ ، أَوْ تَسَاوِيهِمَا فَيُحْكَمُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ وَقْفٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ( وَتَمْرِينًا ) لِلنَّفْسِ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ فَتَحْصُلُ مَلَكَةُ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَأْخَذِ وَرَدِّ الشُّبَهِ وَتَشْحِيذُ الْخَاطِرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى

الِاجْتِهَادِ ( وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ ) أَيْ تَمْرِينًا ، فَإِنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْعَ الْمُنَاظَرَةِ لَيْسَ لِهَذَا فَفِي مَا قَبْلَهُ كِفَايَةٌ رَابِعُهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ .
( وَبِلُزُومِ ) الْمُحَالِ كَحِلِّ الشَّيْءِ وَتَحْرِيمِهِ مَعًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْوِيبِ مِثْلُ ( حِلِّ الْمُجْتَهِدَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَحُرْمَتِهَا لَوْ قَالَ بَعْلُهَا الْمُجْتَهِدُ كَالشَّافِعِيَّةِ : أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ : رَاجَعْتُك ) إذْ هِيَ بِالنَّظَرِ إلَى مُعْتَقَدِهِ حِلٌّ ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَاتِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بَوَائِنَ فَتَجُوزُ الرَّجْعَةُ وَبِالنَّظَرِ إلَى مُعْتَقَدِهَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عِنْدَهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فَلَا تَجُوزُ الرَّجْعَةُ ( وَحِلُّهَا لِاثْنَيْنِ لَوْ تَزَوَّجَهَا مُجْتَهِدٌ بِلَا وَلِيٍّ ) لِكَوْنِهِ يَرَى صِحَّتَهُ ( ثُمَّ مِثْلُهُ ) أَيْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مُجْتَهِدٌ ( بِهِ ) أَيْ بِوَلِيٍّ لِكَوْنِهِ لَا يَرَى صِحَّةَ الْأَوَّلِ ( وَأُجِيبَ ) بِأَنَّ هَذَا ( مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ) إذْ يُرَدُّ عَلَى الْمُخَطِّئَةِ ( إذْ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ ظَنِّهِ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ ( فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا لَهُ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ كَالشَّافِعِيِّ لِكَوْنِ مَظْنُونِهِ جَوَازَ الرَّجْعَةِ .
( وَوُجُوبُهُ ) أَيْ الْعَمَلِ ( بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ) لِكَوْنِ مَظْنُونِهَا عَدَمَ جَوَازِ الرَّجْعَةِ ( وَكَذَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ وَوُجُوبِهِ ) أَيْ الْعَمَلِ بِحِلِّهَا ( لِلثَّانِي ) فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُوبَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ لِتَنَاقُضِ مُتَعَلِّقِيهِمَا ) نَظَرًا إلَى نَفْسَيْهِمَا ، فَإِنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ ( اسْتَلْزَمَ اجْتِمَاعَ مُتَعَلِّقَيْهِ ) أَيْ الْوُجُوبِ وَاجْتِمَاعَ ( الْمُتَنَاقِضَيْنِ ) ، فَإِنَّ حِلَّهَا لِأَحَدِهِمَا يُنَاقِضُ حِلَّهَا لِلْآخَرِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ( فَإِنْ أَجَبْتُمْ ) أَيُّهَا الْمُخَطِّئَةُ بِأَنَّهُ ( لَا يَمْتَنِعُ ) اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ ( بِالنِّسْبَةِ إلَى مُجْتَهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ ) ، وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ

مُصِيبًا لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِيهِ مِثْلُ الْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ ( نَعَمْ يَسْتَلْزِمُ مِثْلُهُ مَفْسَدَةَ الْمُنَازَعَةِ ) إذْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا فِي الْأُولَى أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ طَلَبُ التَّمْكِينِ مِنْهَا وَلِلزَّوْجَةِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ طَلَبُ التَّمْكِينِ ، وَهُوَ مُحَالٌ .
( وَقَدْ يُفْضِي إلَى التَّقَاتُلِ فَيَلْزَمُ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا حِينَئِذٍ ( رَفْعُهُ إلَى قَاضٍ يَحْكُمُ بِرَأْيِهِ فَيُلْزِمُ ) حُكْمَهُ ( الْآخَرَ وَإِذَنْ فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ مِثْلَهُ مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ ) فَلَا يَتَعَلَّقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا ( بَلْ الثَّابِتُ حُرْمَتُهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَفْسَدَةِ يَمْنَعُ شَرْعَ ذَلِكَ ) أَيْ الْحُكْمَيْنِ مَعَ إيجَابِ الِارْتِفَاعِ إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَفْسَدَةَ قَدْ تَقَعُ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَيْهِ بِأَنْ أَتَاهَا أَيْ الْمُجَوِّزُ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ لِشِدَّةِ حَاجَةٍ لَهُ إلَيْهَا ، أَوْ أَتَاهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ فِي الْعَادَةِ فَتَقَعُ مَفْسَدَةُ الْمُنَازَعَةِ ، وَالتَّقَاتُلِ فَوَجَبَ أَنَّ مِثْلَهُ ، وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ إذَا وُجِدَ حُكْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ حُرْمَتُهَا إلَى أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ( وَبِمَا وَضَّحْنَاهُ ) مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ وَأَنَّ الثَّابِتَ حُرْمَتُهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ ( انْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ لِرَفْعِ النِّزَاعِ إذَا تَنَازَعَا فِي التَّمْكِينِ ، وَالْمَنْعِ لَا لِرَفْعِ تَعَلُّقِ الْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ بِوَاحِدٍ ) ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عَلَى تَقْدِيرِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ذَكَرَهُ الْخَنْجِيُّ ( وَقَرَّرَهُ مُحَقِّقٌ ) أَيْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ التَّفْتَازَانِيُّ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمُورَدُ ( بَعْدَ انْدِفَاعِهِ بِمَا ذَكَرْنَا ) الْآنَ مِنْ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمَيْنِ فَلَيْسَ الثَّابِتُ

إلَّا حُرْمَتَهَا إلَى غَايَةِ الْحُكْمِ الرَّافِعِ لِلْخِلَافِ ( غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ رَفْعِ تَعَلُّقِ الْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ بِالْقَضَاءِ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ) أَيْ الْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ ( صَوَابًا ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ رَفْعَهُ بِالْقَضَاءِ ( نَسْخٌ مِنْهُ تَعَالَى ) لِأَحَدِهِمَا ( عِنْدَ حُكْمِ الْقَاضِي ) بِالْمُوَافِقِ لِلْآخَرِ ( كَالرُّجُوعِ ) عَنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ( عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ ، وَحَوْلَ هَذَا حَامَ الْأَبْهَرِيُّ حَيْثُ قَالَ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ تَعَلُّقَ الْحِلِّ ، وَالْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا يُفِيدُ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ مُعَارِضٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمُصَوِّبَةُ ( لَوْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَجَبَ النَّقِيضَانِ عَلَى الْمُخْطِئِ إنْ وَجَبَ حُكْمُ نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ ) أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ ظَنِّهِ إجْمَاعًا ، وَهُوَ مُحَالٌ ( وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَجَبَ ) عَلَيْهِ ( الْعَمَلُ بِالْخَطَأِ ) الَّذِي هُوَ مَظْنُونُهُ ( وَحَرُمَ ) عَلَيْهِ الْعَمَلُ ( بِالصَّوَابِ ) الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ وَتَحْرِيمُهُ بِالصَّوَابِ ( مُحَالٌ أُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الثَّانِي ) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ حُكْمِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُجُوبُ مَظْنُونِهِ ( وَمَنْعِ انْتِفَاءِ التَّالِي ) أَيْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ ( لِلْقَطْعِ بِهِ ) أَيْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَطَأِ فِيمَا لَوْ خَفِيَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ ( قَاطِعٌ ) مِنْ نَصٍّ ، أَوْ إجْمَاعٍ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى مُخَالَفَتِهِ ( حَيْثُ تَجِبُ مُخَالَفَتُهُ ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ ( وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ ) أَيْ خِلَافَ الْقَاطِعِ ( خَطَأٌ إذْ الْخِلَافُ ) فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ إنَّمَا هُوَ ( فِيمَا لَا قَاطِعَ ) فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ ( أَمَّا مَا فِيهِ

) دَلِيلٌ قَاطِعٌ ( فَالِاجْتِهَادُ عَلَى خِلَافِهِ ) أَيْ الْقَاطِعِ ( خَطَأٌ اتِّفَاقًا ) ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا لِتَقْصِيرِهِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ الطَّلَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ بَلْ إنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ لِبُعْدِ الرَّاوِي عَنْهُ ، أَوْ لِإِخْفَائِهِ مِنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ( قَالُوا ) ثَانِيًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } ) فَجَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلٍّ مِنْهُمْ هُدًى مَعَ اخْتِلَافِهِمْ ( فَلَا خَطَأَ ) فِي اجْتِهَادِهِ ( وَإِلَّا ) لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ ( ثَبَتَ الْهُدَى فِي الْخَطَإِ ، وَهُوَ ) أَيْ الْخَطَأُ ( ضَلَالٌ ) لَا هُدَى ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حُكْمٍ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( أُجِيبَ بِأَنَّهُ ) أَيْ الْخَطَأَ ( هُدًى مِنْ وَجْهٍ ) ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْعَمَلَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا ، أَوْ مُقَلِّدًا ( فَيَتَنَاوَلُهُ ) الِاهْتِدَاءُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِيهِ مُتَابَعَةُ مَا يُوصِلُ إلَى الصَّوَابِ ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ طُرُقٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مَا قَالُوا ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ تَكْمِيلٌ ثُمَّ وَجْهُ الْقَائِلِينَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَعَدُّدِهَا ، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْكُلِّ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا فَتَرْجِيحُ بَعْضِهَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وَوَجْهُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا أَحَقُّ ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعِ لِتَحَقُّقِ إصَابَةِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا هُوَ الْحَقُّ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ بِأَدْنَى نَظَرٍ ؛ لِأَنَّ

الْكُلَّ حَيْثُ كَانَ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي إتْعَابِ النَّفْسِ وَأَعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الطَّلَبِ فَائِدَةٌ بَلْ يَخْتَارُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ كَالْمُصَلِّي فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَخْتَارُ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَآخِذِ ، وَالْمَدَارِكِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّظَرِ إظْهَارُ الصَّوَابِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَدَعْوَةُ الْمُخَالِفِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالدَّلِيلِ وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَقِّيَّةِ لَمْ يَتَّجِهْ هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُنَاظَرَةَ فِي أَصْنَافِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَلَا بَيْنَ الْمُسَافِرِ ، وَالْمُقِيمِ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِمَا لِثُبُوتِ الْحَقِّيَّةِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَلْزَمُ اللُّزُومُ الْمَذْكُورُ ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُلٌّ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الِاجْتِهَادِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحُكْمُ بِحَقِّيَّةِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ تَابِعٍ لِاجْتِهَادِهِ وَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُمْكِنُ إصَابَةُ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَ مَا اجْتَهَدَ وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ مَعَ سَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاخْتِيَارُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فِي حَقِّهِ دُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ ، وَالِاجْتِهَادِ وَلَا النَّظَرِ فِي الْمَآخِذِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِيمَا ذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( تَتِمَّةٌ مِنْ الْمُخَطِّئَةِ الْحَنَفِيَّةُ ) فَقَدْ ( قَسَمُوا الْخَطَأَ ) بِالْمَعْنَى الْمُشَارِ إلَيْهِ يَعْنِي ضِدَّ الصَّوَابِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْخَطَأُ بِهَذَا الْمَعْنَى ( الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ ) وَتَقَدَّمَ فِي مَبَاحِثِ النَّظَرِ تَعْرِيفُهُ .
وَالْكَلَامُ فِيهِ ( إلَى ثَلَاثَةٍ ) مِنْ الْأَقْسَامِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَوَّلًا أَنَّ الْخَطَأَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَثَانِيًا أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْآتِيَةِ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَلَا يَظْهَرُ انْطِبَاقُهُ عَلَى جَمِيعِهَا وَخُصُوصًا الْقِسْمَ الثَّالِثَ كَمَا سَيَظْهَرُ .
نَعَمْ قَسَمُوا الْجَهْلَ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْبَسِيطِ ، وَالْمُرَكَّبِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي التَّلْوِيحِ ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مَبَاحِثِ النَّظَرِ حَيْثُ قَالَ فِي بَحْثِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسِبَةِ فَمِنْ الْأُولَى أَيْ الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الْجَهْلُ ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ ، فَإِنْ قَارَنَ اعْتِقَادَ النَّقِيضِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَإِلَّا فَبَسِيطٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الشُّعُورِ ، وَأَقْسَامُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَلَا شُبْهَةً فَهُوَ فِي الْغَايَةِ ، وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ وَجَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا غَيْرَ أَنَّ تَرْبِيعَ الْأَقْسَامِ لَهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ مُوَافِقَةٌ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا تَثْلِيثُهَا كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَمُوَافِقَةٌ لِصَاحِبِ الْمَنَارِ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ الْقِسْمُ ( الْأَوَّلُ جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَلَا شُبْهَةً ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ ) أَقْسَامٍ ( جَهْلُ الْكَافِرِ بِالذَّاتِ ) أَيْ ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ تَعَالَى ( وَالصِّفَاتِ ) أَيْ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ هَذَا

الْكَافِرَ ( مُكَابِرٌ ) أَيْ مُتَرَفِّعٌ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إنْكَارًا بِاللِّسَانِ وَإِبَاءً بِالْقَلْبِ ( لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ ) أَيْ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ ( حِسًّا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُحِيطَةِ بِهِ ) أَيْ بِالْكَافِرِ أَنْفُسًا وَآفَاقًا ( وَعَقْلًا إذْ لَا يَخْلُو الْجِسْمُ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَغَيْرِهَا ( وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الْحَوَادِثِ ( حَادِثٌ بِالضَّرُورَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ إذْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مُقْتَضَى ذَاتِهِ وَيَسْتَلْزِمُ ) الْحُكْمُ بِوُجُودِ ذَاتِهِ ( الْحُكْمَ بِصِفَاتِهِ ) الْعُلَى بِالضَّرُورَةِ ( كَمَا عُرِفَ ) فِي فَنِّ الْكَلَامِ .
( وَكَذَا مُنْكِرُ الرِّسَالَةِ ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا سِيَّمَا لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَالتَّسْلِيمِ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُهَا فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ ( بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُعْجِزَةِ ) وَهِيَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى خَارِقٌ لِلْعَادَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مُدَّعِي الرِّسَالَةِ مُقِرُّونَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ أَيْ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَارِقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، فَإِنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى مَمَرِّ السِّنِينَ ( وَ ) ثُبُوتُ ( تَوَاتُرِ مَا يُوجِبُ النُّبُوَّةَ ) لِمُدَّعِيهَا مِنْ أَهْلِيهَا بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى تَعْرِيفِهَا فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَيْضًا لِكَوْنِهَا ظَاهِرَةً مَحْسُوسَةً فِي زَمَانِهِ وَمَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ فِيمَا بَعْدَهُ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ وَخُصُوصًا ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَلِذَا ) أَيْ فَلِكَوْنِ مُنْكِرِهَا كَافِرًا مُكَابِرًا ( لَا تَلْزَمُ مُنَاظَرَتُهُ ) لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهَا حِينَئِذٍ ثُمَّ لِانْتِفَاءِ الْعُذْرِ فِي حَقِّ الْمُصِرِّ عَلَى الْكُفْرِ

وَخُصُوصًا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبْقَ الْمُرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا صَارَ إلَيْهِ ( بَلْ إنْ لَمْ يَتُبْ الْمُرْتَدُّ ) بِأَنْ أَصَرَّ عَلَى مَا صَارَ إلَيْهِ ( قَتَلْنَاهُ ) وَخُصُوصًا إنْ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ .
وَفِي التَّلْوِيحِ ، فَإِنْ قُلْت : الْكَافِرُ الْمُكَابِرُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَقَّ ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ تَمَرُّدًا وَاسْتِكْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا قُلْت : مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ وَمُكَابَرَتُهُ تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } الْآيَةَ وَمَعْنَى الْجَهْلِ فِيهِمْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُفَسَّرِ بِالْإِذْعَانِ ، وَالْقَبُولِ انْتَهَى ، وَهَذَا يُفِيدُ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ مُطْلَقُ الْجَهْلِ الشَّامِلِ لِلْبَسِيطِ ، وَالْمُرَكَّبِ وَأَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ مَا يَكُونُ جَهْلًا بَسِيطًا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ جَهْلًا مُرَكَّبًا ( وَكَذَا ) الْكَافِرُ مُكَابِرٌ ( فِي حُكْمٍ لَا يَقْبَلُ التَّبَدُّلَ ) عَقْلًا وَلَا شَرْعًا ( كَعِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى ) لِوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَالنَّقْلِيَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ لِكُفْرِهِ حُكْمُ الصِّحَّةِ أَصْلًا .
( وَأَمَّا تَدَيُّنُهُ ) أَيْ اعْتِقَادُ الْكَافِرِ ( فِي ) حُكْمِ ( غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّبَدُّلَ ، وَهُوَ مَا يَقْبَلُهُ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ حَالَ كَوْنِهِ ( ذِمِّيًّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِبَارِهِ ) أَيْ تَدَيُّنِهِ ( دَافِعًا لِلتَّعَرُّضِ ) لَهُ حَتَّى لَوْ بَاشَرَ مَا دَانَ بِهِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ ( فَلَا يُحَدُّ لِشُرْبِ الْخَمْرِ إجْمَاعًا ) لِتَدَيُّنِهِ لَهُ ( ثُمَّ لَمْ يُضَمِّنُ الشَّافِعِيُّ مُتْلِفَهَا ) أَيْ خَمْرَةً مِثْلَهَا إنْ

كَانَ ذِمِّيًّا وَلَا قِيمَتَهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ ، وَالْمَيْتَةِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالْأَصْنَامِ وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لَا لِحُرْمَتِهِ لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ كَالْمَيِّتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَإِتْلَافُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فَكُلُّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِهِ يَثْبُتُ بِعَقْدِهَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ ، وَقَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ بِإِشَاعَةِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْكَارُهُ تَعَنُّتٌ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِأَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَكُلُّ مَا يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ وَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَرُّضِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ( وَضَمَّنُوهُ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ مُتْلِفَهَا مِثْلَهَا إنْ كَانَ ذِمِّيًّا وَقِيمَتَهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ( لَا لِلتَّعَدِّي ) لِدِيَانَةِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ حِلَّهَا ( بَلْ لِبَقَاءِ التَّقَوُّمِ ) لَهَا ( فِي حَقِّهِمْ ) أَيْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَفْلَةَ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ عُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْخَمْرِ فَنَاشَدَهُمْ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ بِلَالٌ : إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِلَفْظِ وَلَّوْا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ كَإِتْلَافِهِ الشَّيْءَ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَالِيَّتِهِ وَتَقَوُّمِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهَا ( وَلِأَنَّ الدَّفْعَ عَنْ النَّفْسِ ، وَالْمَالِ

بِذَلِكَ ) أَيْ بِالتَّضْمِينِ ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ أَقْدَمَ عَلَى الْإِتْلَافِ ، وَالدَّفْعُ وَاجِبٌ ( فَهُوَ ) أَيْ التَّضْمِينُ ( مِنْ ضَرُورَتِهِ ) أَيْ الدَّفْعِ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ وَهِيَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَعَلَى الْمُتْلِفِ الذِّمِّيِّ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ تَمَلُّكِهَا وَتَمْلِيكِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِ قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهَا ، وَالْقِيمَةُ غَيْرُهَا .
( ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَ ) التَّدَيُّنُ ( تَنَاوُلَ الْخِطَابِ إيَّاهُمْ ) فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ( مَكْرًا بِهِمْ ) ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ ( وَاسْتِدْرَاجًا لَهُمْ ) ، وَهُوَ تَقْرِيبُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ إلَى الْعُقُوبَةِ بِالتَّدْرِيجِ عَلَى وَجْهٍ لَا شُعُورَ لِلْعَبْدِ بِهِ كَالطَّبِيبِ يَتْرُكُ مُدَاوَاةَ الْمَرِيضِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّخْلِيطِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنْ الْبُرْءِ لَا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ ( فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ كَخِطَابٍ لَمْ يَشْتَهِرْ فَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ بِنْتَه ، أَوْ أُخْتَهُ صَحَّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا لَا إنْ تَرَافَعَا إلَيْنَا ) لِانْقِيَادِهِمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } ( لَا ) إنْ دَفَعَ ( أَحَدُهُمَا ) صَاحِبَهُ إلَيْنَا ( خِلَافًا لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ( فِي ) نِكَاحِ ( الْمَحَارِمِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا ، وَإِنْ وَافَقَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَا لِإِبَاحَتِهِ أَصْلٌ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا يَبْقَى عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ لِقِصَرِ الدَّلِيلِ عَنْهُمْ فِيهِ بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ وَذَلِكَ كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ فَقَالَا : يُقَوَّمَانِ فِي حَقِّهِمْ لِإِبَاحَتِهِمَا قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَيَبْقَيَانِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَالتَّقَوُّمِ ، وَالضَّمَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيمَا لَيْسَ لِإِبَاحَتِهِ أَصْلٌ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَقَالَا : لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا ، وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ

مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ ( لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ثَابِتًا ) قَبْلَ الْإِسْلَامِ ( لِيَبْقَى ) النِّكَاحُ عَلَيْهِ ( لِقِصَرِ الدَّلِيلِ ) عَنْهُمْ بِالدِّيَانَةِ بَلْ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ بَاطِلًا ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهُمْ لِتَدَيُّنِهِمْ ذَلِكَ وَفَاءً بِالذِّمَّةِ ( وَفِي مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا ) صَاحِبَهُ إلَيْنَا أَيْضًا فَقَالَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الزَّوَالُ الْمَانِعُ مِنْ التَّفْرِيقِ بِانْقِيَادِ أَحَدِهِمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قِيَاسًا عَلَى إسْلَامِهِ ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَا يَتَوَارَثُونَ بِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ إجْمَاعًا ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَتَوَارَثُوا بِهَا .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فَيَكُونُ صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ إذْ كَانَ صَحِيحًا فَرَفْعُ أَحَدِهِمَا لَا يُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يُعَارِضُهُ فَيَبْقَى عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّهُ وَإِنْ عَارَضَ الْبَاقِيَ لِتَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي السُّكْرِ مُخَرَّجًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } ( ، وَلَوْ دَخَلَ ) الْمَجُوسِيُّ ( بِهَا ) أَيْ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي هِيَ مَحْرَمٌ مِنْهُ ( ثُمَّ أَسْلَمَ حُدَّ قَاذِفُهُمَا ) ، وَالْوَجْهُ قَاذِفُهُ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ النُّسْخَةُ أَوَّلًا وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا ثُمَّ أَسْلَمَا حُدَّ قَاذِفُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا لِإِحْصَانِهِمَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ إحْصَانِهِمَا بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ عِنْدَهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ مُعْتَبَرَةً فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ فَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى دِيَانَتِهِمْ فِي الرِّبَا قُلْنَا : لَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ مُطْلَقًا مُعْتَبَرَةً فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بَلْ الدِّيَانَةُ الصَّحِيحَةُ

بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ تَنَاوُلَ الرِّبَا صَحِيحَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( بِخِلَافِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقُوا بِهِ ) أَيْ بِالرِّبَا ( لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } ) .
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا وَسَاقَهُ وَفِيهِ وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ مِنْكُمْ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ } .
( وَأُورِدَ ) عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ( أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ كَذَلِكَ ) أَيْ لَيْسَتْ دِيَانَتُهُمْ بِهِ صَحِيحَةً فَلَا يَكُونُ نِكَاحُهُنَّ صَحِيحًا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا بَعْدَ إسْلَامِهِمَا إذَا دَخَلَ بِهَا فِي الْكُفْرِ وَلَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ جَوَازَ نِكَاحِهِنَّ ( نُسِخَ بَعْدَ آدَمَ فِي زَمَنِ نُوحٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَقَوْلِهِمَا : فَلَا حَدَّ وَلَا نَفَقَةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ) أَيْ نَسْخِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ ( الْمُرَادُ مِنْ تَدَيُّنِهِمْ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ) أَيْ مَا كَانَ شَائِعًا مِنْ دِينِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَرَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ أَمْ لَمْ تَرِدْ حَقًّا ، كَانَ أَوْ بَاطِلًا وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ فِي زَمَنِ الْمَجُوسِ ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كِتَابِهِمْ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ دِيَانَةً لَهُمْ بِخِلَافِ الرِّبَا عِنْدَ الْيَهُودِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُمْ إيَّاهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا دِيَانَةٌ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُعْتَقَدِهِمْ مَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضٌ مِنْهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ انْفِرَادِ الْقَلِيلِ بِعَدَمِ حَدِّ الزِّنَا وَنَحْوِهِ ) ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَافِعًا أَصْلًا ( وَلِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُوجِبُ الدَّلِيلَ كَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ) الْآيَةَ ( الشُّبْهَةُ ) لِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ ( فَيُدْرَأُ الْحَدُّ ) بِهَا إذَا

سَلَّمْنَا صِحَّةَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَكَوْنَهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا ( وَفَرَّقَ ) أَبُو حَنِيفَةَ ( بَيْنَ الْمِيرَاثِ ، وَالنَّفَقَةِ فَلَوْ تَرَكَ ) الْمَجُوسِيُّ ( بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا زَوْجَتُهُ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَيْ بِاعْتِبَارِ الرَّدِّ ) مَعَ فَرْضِهِمَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمِيرَاثَ ( صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا جَزَاءٌ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ) ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا عَجْزُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ الِاحْتِبَاسُ الدَّائِمُ ، فَإِنَّ دَوَامَهُ بِلَا إنْفَاقٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ عَادَةً ، وَالْمَرْأَةُ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الدَّوَامِ لِحَقِّ الزَّوْجِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ لِدَفْعِ هَلَاكِهَا فَتَكُونُ دِيَانَتُهَا مَحْبُوسَةً لِحَقِّهِ عَلَى الدَّوَامِ دَافِعَةً لِلْهَلَاكِ لَا مُوجِبَةً عَلَيْهِ شَيْئًا ( فَلَوْ وَجَبَ إرْثُ ) الْبِنْتِ ( الزَّوْجَةِ ) بِالزَّوْجِيَّةِ ( بِدِيَانَتِهَا ) بِالزَّوْجِيَّةِ ( كَانَتْ ) دِيَانَتُهَا ( مُلْزِمَةً عَلَى ) الْبِنْتِ ( الْأُخْرَى ) زِيَادَةَ الْمِيرَاثِ ( وَالزِّيَادَةُ دَافِعَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةٌ ، وَأَوْرَدَ أَنَّ الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ ) أَيْ بِجَوَازِ نِكَاحِ أُخْتِهَا حَيْثُ اعْتَقَدَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ أُخْتِهَا الزِّيَادَةَ فِي الْمِيرَاثِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِهَا بِدِيَانَتِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نِزَاعِهَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِزَاعِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ ( فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ ) ، وَهُوَ فِي طَرِيقَةِ الدَّعْوَى مَعْزُوٌّ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ( إلَى أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي ( أَنْ تَرِثَا ) ، وَالْوَجْهُ أَنْ تَرِثَ بِهَا أَيْضًا أَيْ بِالزَّوْجِيَّةِ ، أَوْ بِهِمَا أَيْ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْبِنْتِيَّةِ لِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ عِنْدَهُ ( وَأَنَّ النَّفْيَ ) لِإِرْثِهَا بِالزَّوْجِيَّةِ ( قَوْلُهُمَا ) أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ( لِعَدَمِ الصِّحَّةِ عِنْدَهُمَا وَقِيلَ ) أَيْ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ ( بَلْ ) إنَّمَا لَا تَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ

عِنْدَهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ ( إنَّمَا تَثْبُتُ صِحَّتُهُ فِيمَا سَلَف ) أَيْ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ ) أَيْ نِكَاحِهِنَّ ( سَبَبًا لِلْإِرْثِ ) فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْمُحِيطِ .
وَمِنْ هُنَا مَا فِي التَّلْوِيحِ الْمُرَادُ بِالدِّيَانَةِ الْمُعْتَقَدُ الشَّائِعُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى شَرْعٍ فِي الْجُمْلَةِ ( وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ) قَالَ : لَا تَرِثُ الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ ( لِفَسَادِهِ ) أَيْ النِّكَاحِ ( فِي حَقِّ ) الْبِنْتِ ( الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا ) أَيْ الْأُخْرَى ( إذَا نَازَعَتْهَا ) أَيْ الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ ( عِنْدَ الْقَاضِي ) فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ ( دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تَعْتَقِدْهُ ) أَيْ جَوَازَ النِّكَاحِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ مَبْنِيٌّ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا نَازَعَ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا بَعْدَ النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ لِمَا سَنَذْكُرُ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمُقْتَضَاهُ ) أَيْ الْمَذْكُورِ لِأَبِي زَيْدٍ ( أَنَّهَا ) أَيْ الْبِنْتَ الْأُخْرَى ( لَوْ سَكَتَتْ ) عَنْ مُنَازَعَةِ أُخْتِهَا الزَّوْجَةِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ ( وَرِثَتْ ) الْبِنْتُ الزَّوْجَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضًا ( وَلَا يُعْرَفُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( تَفْصِيلٌ ) فِي أَنَّ الْبِنْتَ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ إرْثًا ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَرُدُّ عَلَى تَعْلِيلِ إيجَابِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْحَاجَةِ ، وَالزَّوْجَةُ هُنَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَيْهَا لِكَوْنِهَا غَنِيَّةً ، وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ حَبْسِ الزَّوْجِ لَا

يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّمُ لِلزَّوْجَةِ فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ وُجُوبُهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ طَرِيقًا غَيْرَ هَذَا فَوَافَقَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَالْحَقُّ فِي النَّفَقَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَخَذَ بِدِيَانَتِهِ الصِّحَّةَ ) لِنِكَاحِ مَحْرَمِهِ حَيْثُ نَكَحَهَا ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْتَزَمَ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا وَدِيَانَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ( فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ غَيْرِهِ ) ، وَهُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ الزَّوْجَةِ ( لِمُنَازَعَتِهِ بَعْدَهُ ) أَيْ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَمْ يُوجَدْ ( بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا ) كَذَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ ، وَالْمُرَادُ مَنْ لَيْسَ مُشَارِكًا لِلْبِنْتِ الزَّوْجَةِ وَأَبِيهَا الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لَهُ وَالْأَظْهَرُ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ ( وَهُوَ الْبِنْتُ الْأُخْرَى ) الَّتِي لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ لَهُ لِفَوَاتِ الِالْتِزَامِ مِنْهَا فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً هَذَا وَفِي الْمُحِيطِ وَكُلُّ نِكَاحٍ حُرِّمَ لِحُرْمَةِ الْمَحِلِّ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ يَقَعُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُمْ لَا تَصِحُّ إذَا لَمْ تُعْتَمَدْ شَرْعًا كَدِيَانَتِهِمْ اجْتِمَاعَ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَدِيَانَتِهِمْ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَا تُعْتَمَدُ شَرْعًا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا لِضَرُورَةِ إقَامَةِ النَّسْلِ حَالَ عَدَمِ الْأَجَانِبِ وَهُمْ يَدِينُونَ جَوَازَهُ فِي حَالَةِ كَثْرَةِ الْأَجَانِبِ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْجَوَازِ بِدِيَانَتِهِمْ ، وَمَشَايِخُنَا يَقَعُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ عَدَمِ الْأَجَانِبِ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ حَالَ كَثْرَةِ الْأَجَانِبِ فَكَانَ

مَشْرُوعًا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَقَدْ اعْتَمَدُوا دِيَانَتَهُمْ جَوَازَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ، وَقَدْ أَنْكَرُوا النَّسْخَ فَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ فِي حَقِّهِمْ انْتَهَى ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْجَهَ مَا عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ ، وَمِنْهُمْ الْقُدُورِيُّ لَا الْقَوْلُ الْآخَرَ ، وَإِنْ اخْتَارَهُ أَبُو زَيْدٍ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حِلَّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا أَصْلِيًّا بَلْ كَانَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا لِتَحْصِيلِ النَّسْلِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ النَّسْلُ أَصْلًا ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُحِلَّ فِي شَرْعِهِ لِلرَّجُلِ أُخْتَهُ الَّتِي فِي بَطْنِهِ وَحَلَّتْ لَهُ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْبُعْدَى عَنْ الْقُرْبَى وَإِلَّا لَحَلَّتْ الْقُرْبَى كَالْبُعْدَى ثُمَّ لَمَّا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِكَثْرَةِ النَّسْلِ نُسِخَ حِلُّ تِلْكَ الْأَخَوَاتِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَيَلْزَمُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ غَيْرَ أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِبُلُوغِهِ إلَيْهِ ، وَالشُّهْرَةُ تُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمُقْتَضَى النَّظَرِ التَّفْصِيلُ وَفِي الْبَدِيعِ الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ ، وَعَلَى طَرِيقِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا

فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرْضِ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ ، وَالتَّخْلِيلِ ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحِلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا نَقِفُ عَلَى ذَلِكَ لِلْحَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ ، وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ ، .
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ حِسًّا لِمَا رُوِيَ { عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } ، وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَنَفْيُ الضَّمَانِ بِالْغَصْبِ ، وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ ، أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَتَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتَهَى .
وَهَذَا أَيْضًا يُفِيدُ فَسَادَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ فَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ

( وَجَهْلِ الْمُبْتَدِعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ ) وَمُوَافِقِيهِمْ ( مَانِعِي ثُبُوتِ الصِّفَاتِ ) الثُّبُوتِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ الْحَيَاةِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَالْعِلْمِ ، وَالْإِرَادَةِ ، وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ( زَائِدَةٌ ) عَلَى الذَّاتِ عَلَى اخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ هُوَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي ( وَ ) ثُبُوتُ ( عَذَابِ الْقَبْرِ ) ، وَإِنْكَارُهُ مَعْزُوٌّ فِي الْمَوَاقِفِ إلَى ضِرَارِ بْنِ عُمَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ اتَّفَقَ الْإِسْلَامِيُّونَ عَلَى حَقِّيَّةِ سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْكُفَّارِ وَبَعْضِ الْعُصَاةِ فِيهِ وَنُسِبَ خِلَافُهُ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرو ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لِمُخَالَطَةِ ضِرَارٍ إيَّاهُمْ وَتَبِعَهُ قَوْمٌ مِنْ السُّفَهَاءِ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ .
( وَ ) ثُبُوتُ ( الشَّفَاعَةِ ) لِلرُّسُلِ ، وَالْأَخْيَارِ وَخُصُوصًا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْعَرَصَاتِ وَبَعْدَ دُخُولِ النَّارِ ( وَ ) ثُبُوتُ ( خُرُوجِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ ) إذَا مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ مِنْ النَّارِ ( وَ ) ثُبُوتُ جَوَازِ ( الرُّؤْيَةِ ) لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الِانْكِشَافِ التَّامِّ بِالْبَصَرِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ( وَ ) مِثْلُ ( الشُّبْهَةِ لِمُثْبِتِيهَا ) أَيْ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِلَّهِ تَعَالَى زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ لَكِنْ ( عَلَى مَا يُفْضِي إلَى التَّشْبِيهِ ) بِالْمَخْلُوقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ( لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ) عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ الْمُشَارِ إلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ

الْمُنَزَّهِ عَنْ التَّشْبِيهِ وَكَذَا مَا بَعْدَهَا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ ( لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ ) الْمُبْتَدِعُ فِي ذَلِكَ ( إذْ تَمَسُّكُهُ بِالْقُرْآنِ ، أَوْ الْحَدِيثِ ، أَوْ الْعَقْلِ ) فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي مَوْضِعِهِ ( وَلِلنَّهْيِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ) أَيْ وَلِمَا رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ } لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ كَيْفَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي صِحَّتِهِ عَنْ أَحْمَدَ نَظَرًا ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَهُوَ مَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ غَفَرَ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ هَلْ تُسَمُّونَ الذُّنُوبَ كُفْرًا ، أَوْ شِرْكًا ، أَوْ نِفَاقًا قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ : وَلَكِنَّا نَقُولُ مُؤْمِنِينَ مُذْنِبِينَ انْتَهَى .
قُلْت : وَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ عَنْ أَحْمَدَ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَسَكَتَ عَلَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ } ، فَإِنَّهُ هُوَ وَحَدِيثُ { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } مُؤَوَّلٌ بِتَرْكِ جُحُودٍ أَوْ مُقَارَنَةِ كُفْرٍ ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهَا كُفْرًا لَمَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِقَضَائِهَا بِدُونِ تَجْدِيدِ إيمَانٍ ( وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا

وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا بَدَلَ فَاشْهَدُوا إلَخْ { فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ } كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ بِعَبَّادٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا { فَاشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ } قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : أَيْ اشْهَدُوا لَهُ وَقَالَ الْحَاكِمُ : لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّةِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَصِدْقِ رُوَاتِهَا ( وَجَمَعَ بَيْنَهُ ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ ( وَبَيْنَ ) حَدِيثِ { افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَ سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَرِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد مِلَّةً مَكَانَ " فِرْقَةً " وَلِأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد { ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ } .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ { كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا : مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي } وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَقَدْ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ وَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ مُنْفَرِدًا وَلَكِنْ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ ، وَلِلْحَدِيثِ

طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِنْ رِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ ( أَنَّ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الْمُتَّبِعُونَ فِي الْعَقَائِدِ ، وَالْخِصَالِ وَغَيْرُهُمْ يُعَذَّبُونَ ، وَالْعَاقِبَةُ الْجَنَّةُ وَعَدُوُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ) ، وَقَدْ ذَيَّلَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ الْمَوَاقِفَ بِذِكْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ قَالَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لِلنَّهْيِ ( وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ) أَيْ الْمُبْتَدِعَةِ ( عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَا شَهَادَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } ( وَعَدَمُهُ ) أَيْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ( فِي الْخَطَّابِيَّةِ ) مِنْ الرَّافِضَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي ( لَيْسَ لَهُ ) أَيْ لِكُفْرِهِمْ بَلْ لِتَدَيُّنِهِمْ الْكَذِبَ فِيهَا لِمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ وَحَلَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ ( وَإِذْ كَانُوا ) أَيْ الْمُبْتَدِعَةُ ( كَذَلِكَ ) أَيْ غَيْرَ كُفَّارٍ ( وَجَبَ عَلَيْنَا مُنَاظَرَتُهُمْ ) لِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ وَإِظْهَارِ الصَّوَابِ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَهُمْ ( وَأُورِدَ اسْتِبَاحَةُ الْمَعْصِيَةِ كُفْرٌ ) وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَامَّتُهُمْ يَسْتَبِيحُهَا فَيَكُونُونَ كُفَّارًا ( وَأُجِيبَ ) بِأَنَّ عَدَّ فِعْلِهَا مُبَاحًا إنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا ( إذَا كَانَ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَعَدَمِ دَلِيلٍ بِخِلَافِ مَا ) يَكُونُ ( عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ) ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كُفْرًا ( وَالْمُبْتَدِعُ مُخْطِئٌ فِي تَمَسُّكِهِ ) بِمَا لَيْسَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ بِدَلِيلٍ لِمَطْلُوبِهِ ( لَا مُكَابِرٌ ) لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ ( وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ ) هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذْنِبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ سَابِقًا بِقَوْلِهِ : وَلِلنَّهْيِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَى مَا هُوَ

مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ قَطْعًا مِنْ اعْتِقَادٍ رَاجِعٍ إلَى وُجُودِ إلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ إلَى حُلُولِهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ ، أَوْ إنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ذَمِّهِ ، أَوْ اسْتِخْفَافِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ فِي أُصُولٍ سِوَاهَا مِمَّا لَا نِزَاعَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاحِدٌ كَمَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَعُمُومِ الْإِرَادَةِ وَقِدَمِ الْكَلَامِ وَلَعَلَّ إلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ مَاضِيًا بِقَوْلِهِ إذْ تَمَسُّكُهُ بِالْقُرْآنِ ، أَوْ الْحَدِيثِ ، أَوْ الْعَقْلِ إذْ لَا خِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُخَالِفِ فِي ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُوَاظِبِ طُولَ الْعُمْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكَذَا الْمُتَلَبِّسُ بِشَيْءٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي تَكْفِيرُ الْخَطَّابِيَّةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُمْ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَمَ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الذَّنْبُ عَلَى مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَيَخْرُجَ الْمُكَفَّرُ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ : غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَعْتَقِدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَتَكْفِيرُهُ صَعْبٌ وَمَا يَعْرِضُ فِي قَلْبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ إنْ لَمْ تَكُنْ مُضَادَّةً لِذَلِكَ لَا يَكْفُرُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُضَادَّةً لَهُ ، فَإِذَا فُرِضَتْ غَفْلَتُهُ عَنْهَا وَاعْتِقَادُهُ الشَّهَادَتَيْنِ مُسْتَمِرٌّ فَأَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَكْثَرُ الْمِلَّةِ كَذَلِكَ وَيَكُونُ كَمُسْلِمٍ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : مَا بِهِ كُفْرٌ لَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ تَوْبَتِهِ عَنْهُ فَهَذَا مَحِلُّ نَظَرٍ .
وَجَمِيعُ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الَّتِي يُكَفِّرُ بِهَا أَهْلُ

الْقِبْلَةِ قَدْ لَا يَعْتَقِدُهَا صَاحِبُهَا إلَّا حِينَ بَحْثِهِ فِيهَا لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ ، أَوْ مُجَادَلَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ يَغْفُلُ عَنْهَا ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَوْتِ انْتَهَى فِيهِ مَا فِيهِ ثُمَّ عَدَمُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ فَقَالَ : وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا وَجَعَلَهُ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى مَا فِي مُنْتَقَى الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ مَنْ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ : مَنْ فَضَّلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَحَبَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَلَمْ يُحَرِّمْ نَبِيذَ الْجَرِّ وَلَمْ يُكَفِّرْ وَاحِدًا بِذَنْبٍ وَرَأَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَنْطِقْ فِي اللَّهِ بِشَيْءٍ قَالُوا : وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : لَا أَرُدُّ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّ الْكَذِبِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا يُفِيدُ كُفْرَهُمْ كَمَا سَلَفَ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرَّاوِي وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ وَقَالَ : اخْتَلَفْنَا فِي عِبَارَةٍ ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ قُلْت بَلْ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ ضَلَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَصَارُوا فِرَقًا مُتَبَايِنِينَ إلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْمَعُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ انْتَهَى فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا : أَظْهَرُ مَذْهَبَيْ الْأَشْعَرِيِّ تَرْكُ تَكْفِيرِ

الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَيْضًا وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ وَقَالُوا : إنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا ، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ كَمَا يُكَفِّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَلَى هَذَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ وَهَلْ يُقْطَعُ بِدُخُولِهِ فِيهَا حَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِ وَجْهَيْنِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ، وَمِنْ ثَمَّةَ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُجَسِّمَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرَةٌ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمَوَاقِفِ وَقَدْ كَفَّرَ الْمُجَسِّمَةَ مُخَالِفُوهُمْ قَالَ الشَّارِحُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُسَايَرَةِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ، فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجِسْمِ مُخْتَارًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ اقْتِضَاءِ النَّقْصِ اسْتِخْفَافٌ انْتَهَى .
نَعَمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِصَاحِبِهِ فَمَنْ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إجْمَاعٌ وَمَالِكٌ لَا يَقْبَلُهَا ، وَلَوْ لَمْ يُكَفَّرُوا بِأَهْوَائِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَتَابَعَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ إجْمَاعُ مَنْ قَبْلَهُ ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ

( وَجَهْلُ الْبَاغِي ، وَهُوَ ) الْمُسْلِمُ ( الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ ، وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا بِذَلِكَ ( بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ ) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِمُخَالَفَتِهِ التَّأْوِيلَ الْوَاضِحَ ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِّ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ ظَاهِرَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا قَالُوا : وَهَذَانِ الْجَهْلَانِ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ جَهْلُ الْبَاغِي ( دُونَ جَهْلِ الْمُبْتَدِعَةِ ) فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِهِ نَعَمْ ( لَمْ يُكَفِّرْهُ ) أَيْ الْبَاغِيَ ( أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُضَمَّ ) الْبَاغِي ( أَمْرًا آخَرَ ) يَكْفُرُ بِهِ إلَى الْبَغْيِ ( وَقَالَ عَلِيٌّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا ) فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ أُخُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ ( فَنُنَاظِرُهُ ) أَيْ الْبَاغِيَ ( لِكَشْفِ شُبْهَتِهِ ) لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِلَا قِتَالٍ ( بَعَثَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ ) كَمَا أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ .
( فَإِنْ رَجَعَ ) الْبَاغِي إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ ( بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَإِلَّا وَجَبَ جِهَادُهُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } أَيْ تَرْجِعَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ الْبَغْيَ مَعْصِيَةٌ وَمُنْكَرٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ ، وَقِيلَ : إنَّمَا تَجِبُ مُحَارَبَتُهُمْ إذَا تَجَمَّعُوا وَعَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا السَّوْقِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَاجِبَةٌ ، وَأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقِتَالُ وَاجِبٌ

قَبْلَهَا ، وَأَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ أَحْسَنُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا لِمَاذَا يُقَاتَلُونَ فَصَارُوا كَالْمُرْتَدِّينَ ( وَمَا لَمْ يَصِرْ لَهُ ) أَيْ الْبَاغِي ( مَنَعَةٌ ) بِالتَّحْرِيكِ ، وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ قُوَّةٌ يَمْنَعُ بِهَا مَنْ قَصَدَ مِنْ الْأَعْدَاءِ ( فَيَجْرِي عَلَيْهِ ) أَيْ الْبَاغِي ( الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ ) فِي قِصَاصِ النُّفُوسِ وَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّهِمْ ( فَيُقْتَلُ ) الْبَاغِي ( بِالْقَتْلِ ) الْعَمْدِ لِلْعُدْوَانِ ( وَيَحْرُمُ بِهِ ) أَيْ بِالْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِمُوَرِّثِهِ الْإِرْثُ مِنْهُ ( وَمَعَهَا ) أَيْ الْمَنَعَةِ ( لَا ) يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ ( لِقُصُورِ الدَّلِيلِ عَنْهُ ) أَيْ الْبَاغِي ( لِسُقُوطِ إلْزَامِهِ ) بِسَبَبِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْخِطَابِ عَنْهُ ( وَالْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ ) حِسًّا وَحَقِيقَةً فِيمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ الْمَنَعَةِ ( فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ ) الْفَاسِدِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَا ، وَهُوَ الْإِثْمُ ، فَإِنَّ الْبَاغِيَ يَأْثَمُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَلَا تَسْقُطُ حُقُوقُهُ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى اللَّهِ حَرَامٌ أَبَدًا ، وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ ( وَلَا نَضْمَنُ مَا أَتْلَفْنَا مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فَلَا يَضْمَنُ الْبَاغِي مَا أَتْلَفَ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ أَخْذِهِ ، أَوْ تَوْبَتِهِ كَمَا فِي الْحَرْبِيِّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ تَفْرِيعًا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِتَأْوِيلِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فِي يَدِهِ وَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ كَمَا لَا يَمْلِكُ مَالَهُ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ فِي الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ ثُمَّ فِي الْمَبْسُوطِ

عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ ، وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً فَيُفْتَوْنَ بِهِ وَلَا يُفْتَى أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ ضَمَانِ الْبَاغِي مَنُوطٌ بِالْمَنَعَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ فَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْهُ كَقَوْمٍ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَقَتَلُوا وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ بِلَا تَأْوِيلٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، وَلَوْ انْفَرَدَ التَّأْوِيلُ عَنْهَا بِأَنْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ ، أَوْ اثْنَانِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ عَنْ تَأْوِيلٍ ضَمِنُوا إذَا تَابُوا ، أَوْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى إنَاطَةِ نَفْيِ الضَّمَانِ بِالْمَنَعَةِ .
وَالتَّأْوِيلِ كَمَا يُفِيدُهُ مَا فِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إنَّهَا رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً قَالَ فَكَتَبَ إلَيْهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الْأُولَى ثَارَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا كَثِيرٌ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا يُرَدُّ مَالٌ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا وَأَنْ يُحَدَّ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهَا وَبَقَاءُ مَا عَدَا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عَلَى حُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ لَهُ ( وَيُدَفَّفُ عَلَى جَرْحَاهُمْ ) فِي الْمُغْرِبِ

دَفَّفَ عَلَى الْجَرِيحِ بِالدَّالِ ، وَالذَّالِ أَسْرَعَ قَتْلَهُ وَفِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ عِبَارَةٌ عَنْ إتْمَامِ الْقَتْلِ وَيُتَّبَعُ مُوَلِّيهِمْ ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يُتَّبَعُ مُوَلِّيهمْ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ الْوَاجِبُ ذِكْرَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ ظَاهِرُ الْكِتَابِ كَغَيْرِهِ وُجُوبُ التَّدْفِيفِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَبْسُوطِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَاقِيَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُتَّبَعُ مُدْبِرٌ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ : لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ الشَّرِّ ، وَإِذَا كَانَ لَهُمَا فِئَةٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَحَيَّزَانِ إلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُمَا كَمَا كَانَ وَأَصْحَابُ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ ( وَيَرِثُ ) الْعَادِلُ ( مُوَرِّثَهُ ) الْبَاغِيَ ( إذَا قَتَلَهُ ) اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثِ ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِالْعَادِلِ .
( وَكَذَا عَكْسُهُ ) أَيْ يَرِثُ الْبَاغِي مُوَرِّثَهُ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ ، وَقَالَ : كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَيْهِ مُوَافَقَةً ( لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إرَادَتِهِ ، وَلَوْ قَالَ : قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ عِنْدَهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَرِثُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي دَفْعِ الضَّمَانِ ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : الْمُتَحَقَّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعْلُ تِلْكَ الْمَنَعَةِ

وَالِاعْتِقَادِ دَافِعًا مَا لَوْلَاهُ لَثَبَتَ لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الثُّبُوتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْمَنَعَةُ وَالِاعْتِقَادُ لَثَبَتَ الضَّمَانُ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ فَيَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ قَائِمَةٌ ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَانِعٌ وُجِدَ عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْمَنَعَةِ فَمَنَعَ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْمَنْعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ ( وَلَا يَمْلِكُ مَالَهُ ) أَيْ الْبَاغِي ( بِوَحْدَةِ الدَّارِ ) أَيْ بِسَبَبِ اتِّحَادِ دَارِ الْعَادِلِ ، وَالْبَاغِي ؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذْ تَمَلُّكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ اخْتِلَافِ الدَّارِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ ثُمَّ ( عَلَى هَذَا ) أَيْ عَدَمُ تَمَلُّكِ مَالِ الْبَاغِي ( اتَّفَقَ عَلِيٌّ ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ وَلَا يُفْتَحَ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلَّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَزَادَ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يَأْخُذُ مَالًا لِمَقْتُولٍ وَيَقُولُ : مَنْ عَرَّفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهُ فَكَانَ اتِّفَاقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ

( وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ الْكِتَابَ كَحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَ ) جَوَازُ ( الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ) مِنْ الْمُدَّعِي ( مَعَ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ) الْآيَةَ قَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : { مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ كَافِيًا فَلِمَ قُلْت : إنَّهُ لَيْسَ بِكَافٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ انْتَهَى وَأُجِيبَ بِمَنْعِ إرَادَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الذِّكْرَ بِكَلِمَةِ عَلَى ، وَهُوَ يُفِيدُ إرَادَتَهُ بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : ذُكِرَ عَلَيْهِ وَسُمِّيَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ ، وَلَا يُقَالُ بِقَلْبِهِ قُلْت عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَرُدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ حَقِيقَتُهُ ، وَهُوَ حُضُورُ الْمَعْنَى لِلنَّفْسِ كَمَا هُوَ نَقِيضُ النِّسْيَانِ ، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَعْنَى مِنْ النَّفْسِ لِلُزُومِ عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ مَا نُسِيَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَا أُقِيمَ مَقَامَهُ ، وَهُوَ الْمِلَّةُ لِيَدْخُلَ النِّسْيَانُ أَيْضًا وَأَيْضًا النَّهْيُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبِحَمْلِ الذِّكْرِ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ ثُمَّ إقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَهُ لَا يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا فَتَعَيَّنَ إرَادَةُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ لِيَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَلَا يُقَالُ : الْمُرَادُ ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ ، وَالْمَجُوسِيِّ فَيُتَصَوَّرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : حُرْمَةُ ذَبَائِحِهِمْ لَا بِاعْتِبَارِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى انْتَهَى .
هَذَا وَكَوْنُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ

مُوَحِّدٌ سَوَاءٌ كَانَ مَيْتَةً ، أَوْ ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ، وَالْفِسْقُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مُحْوِجٌ إلَى مُعَيَّنٍ لَهُ ، وَالشَّأْنُ فِي ذَلِكَ نَعَمْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حُرْمَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَسَبَبَ النُّزُولِ وَإِجْمَاعَ مَنْ عَدَا عَطَاءً دَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِاللَّحْمِ ، وَالشَّحْمِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَأَجْزَائِهِ ثُمَّ هُوَ يَعُمُّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد وَبِشْرٌ لَكِنْ خَرَجَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا إمَّا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَحْثٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَيَخْدِشُهُ مَا أَخْرَجَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ قَصَّابًا ذَبَحَ شَاةً وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ غُلَامًا لَهُ أَنْ يَقُومَ عِنْدَهُ ، فَإِذَا جَاءَ إنْسَانٌ يَشْتَرِي يَقُولُ لَهُ : إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَك هَذِهِ شَاةٌ لَمْ تُذَكَّ فَلَا تَشْتَرِ مِنْهَا شَيْئًا وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : لَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا نُسِيَ أَنْ يُسَمَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَقَالُوا : إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمِلَّةِ ، وَإِنْ أُرِيدَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَصَحِيحٌ إذْ لَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ وَلَا أَحْمَدَ عَدَمُ الْأَكْلِ فِي النِّسْيَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ دَاوُد وَبِشْرٍ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى مِثْلِهِ .
وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالُوا لِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ قَالَ : اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } وَفِي لَفْظٍ { عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ لَكِنْ فِيهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ مَتْرُوكٌ لَكِنْ يَشُدُّهُ مَا

قَدَّمْنَاهُ فِي بَحْثِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد ثُمَّ ظَاهِرُهُمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي ، وَالْعَامِدِ وَبِهِ تَتَضَاءَلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ النَّاسِي ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ الشَّارِعُ الْمِلَّةَ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ فَجَعَلَ عَفْوًا دَافِعًا لِلْعَجْزِ وَعَدَمَ عُذْرِ الْعَامِدِ ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ ، فَإِنَّ هَذَا إبْطَالُ النَّصِّ بِالْمَعْنَى ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّنَزُّلِ نَحْوَ هَذَا ، فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِهِ ابْتِدَاءً فَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْعَامِدُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْزَاءِ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَرَجِ ، وَهُوَ فِي النَّاسِي لَا فِي الْعَامِدِ ثُمَّ هَذَا فِي ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ ، وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا عَمْدًا فَفِي الدِّرَايَةِ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ .
وَصُورَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَتَرَكَهَا مَعَ ذِكْرِهَا أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ اشْتِرَاطَهَا فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّاسِي ذَكَرَهُ فِي الْحَقَائِقِ وَمَعَ قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } الْآيَةَ قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُعْتَادَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ مَعَ أَنَّ حُضُورَهُنَّ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ هُوَ حَرَامٌ بِلَا ضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ فَلَوْ كَانَ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدٍ

حُجَّةً لَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ وُجُودًا وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَادٍ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَرُورَةٌ مُبِيحَةٌ لِحُضُورِهِنَّ لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَكَانَ النَّصُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ دَالًّا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ مَعَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَالنَّصُّ وَإِنْ كَانَ فِي التَّحَمُّلِ لَكِنَّ فَائِدَةَ التَّحَمُّلِ الْأَدَاءُ فَهُوَ يُفْضِي إلَيْهِ وَأَيْضًا أَوَّلُ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا } أَمْرٌ بِفِعْلِ الِاسْتِشْهَادِ ، وَهُوَ مُجْمَلٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى عَدَدِ الشُّهُودِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُوا ، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ الْمَأْكُولَاتِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ وَبَيَانًا لِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُرَادُ ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ رَجُلَيْنِ { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } كَقَوْلِهِ : كُلُوا الْخُبْزَ ، وَاللَّحْمَ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالْخُبْزَ ، وَالْجُبْنَ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي النَّصِّ هُوَ جَمِيعُ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ حُجَّةً إذْ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَبَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَيَانِ { وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا } وَأَيْضًا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ أَدْنَى مَا تَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي النَّصِّ حَيْثُ قَالَ { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقُومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا } وَلَيْسَ دُونَ الْأَدْنَى شَيْءٌ تَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ حُجَّةً لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ كَوْنِ الْمَنْصُوصِ أَدْنَى فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ضَرُورَةً .
( وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ ) أَيْ وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ ( كَالْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ ) أَيْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي ( مَعَ ) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } لَفْظُ الْبَيْهَقِيّ وَلَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ {

، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } فَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِ ، أَوْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَا عَهْدَ ثَمَّةَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ بَعْضُ الْأَيْمَانِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ سَيْفٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ فَقَالَ عَمْرٌو لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدِي ، .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ فَقَدْ رَمَى الْحَدِيثَ بِالِانْقِطَاعِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَسَيْفٌ عَنْ قَيْسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعِ فِي الضُّعَفَاءِ ، وَهُوَ الْكَامِلُ وَسَاقَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَعَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ : غَلِطَ سَيْفٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَسَأَلَ عِيَاشٌ ابْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ : مَا أَضْعَفَ حَدِيثَهُ وَضَعَّفَهُ جِدًّا وَمَعَ ضَعْفِهِ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَذَكَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِذَهَابِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ إلَى كَوْنِهِ غَلَطًا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا الْحَدِيثُ إرْسَالُهُ أَشْهَرُ انْتَهَى .
وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ لَا تَخْلُوَا كُلُّهَا مِنْ النَّظَرِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ هِيَ بِدْعَةٌ

وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا مُعَاوِيَةُ وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ : شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَوْرَدَ لَمْ يَبْقَ لِتَضْعِيفِ الْحَدِيثِ مَجَالٌ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ ، فَإِنَّ مُسْلِمًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَإِ ، وَقَدْ وَهِمَ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ نَاقِدٍ فَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مَقْطُوعًا وَقَالَ غَيْرُهُ : أُخِذَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي سَبْعِينَ مَوْضِعًا رَوَاهُ مُتَّصِلًا ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَافٍ رُجْحَانُ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ ظَاهِرَةً فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَحْكُومِ بِهِ ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَا كَيْفِيَّةُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ وَلَا الْمُسْتَحْلِفُ مَنْ هُوَ حَتَّى يَصِحَّ اعْتِبَارُ غَيْرِهِ بِهِ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُهُ بَلْ هُوَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ لَا يُدْرَى مَا هِيَ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ قَضِيَّةً خَاصَّةً فِي شَيْءٍ خَاصٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنًى مُتَّفَقٍ عَلَى جَوَازِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ شَهَادَةِ الطَّبِيبِ ، أَوْ امْرَأَةٍ فِي عَيْبٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّاهِدِ وَاسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَكُونُ قَاضِيًا فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُشْتَرِي وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَيْ مَعَ الْبَيِّنَةِ ، أَوْ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ فَأَطْلَقَ اسْمَ الشَّاهِدِ وَأَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ لَا الْعَدَدَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال ثُمَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ وَاحِدٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا

يَصِحُّ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَمْوَالِ فَأَصْحَابُنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَا يَصِحُّ أَيْضًا وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يَصِحُّ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( وَالتَّحْلِيلُ ) أَيْ وَكَالْقَوْلِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إذَا تَزَوَّجَهَا الثَّانِي ثُمَّ طَلَّقَهَا ( بِلَا وَطْءٍ ) كَمَا هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : النَّاسُ يَقُولُونَ حَتَّى يُجَامِعَهَا ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ : إذَا تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا ، فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ( مَعَ حَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ ) ، وَهُوَ مَا رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ قَالَ : حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ } ، فَإِنَّ قَوْلَ سَعِيدٍ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَاسْتُغْرِبَ مِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لَعَلَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَمَنْ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ، وَالْمَلَائِكَةِ ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَلَوْ أَفْتَى فَقِيهٌ بِذَلِكَ يُعَزَّرُ ( وَالْإِجْمَاعُ ) أَيْ وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ الْإِجْمَاعَ ( كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ) أَيْ جَوَازَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ ( مَعَ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ الصَّحَابَةِ ) ، وَالْوَجْهُ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ كَمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِهِ وَإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى مَنْعِهِ ( فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ حِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ، وَمِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي ، وَمِنْ وُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ ، وَمِنْ جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، وَأَمَّا هَذَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي

الْإِجْمَاعِ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ وَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ نَفَاذِ قَضَاءِ قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ زَمَانِنَا بِهِ ، وَلَوْ نَفَّذَهُ جَمٌّ غَفِيرٌ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا عَدَمُ نَفَاذِ وُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ وَعَدَمُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَظَاهِرٌ لِمُخَالَفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرَ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي لَا يَنْفُذُ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا عَدَمُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَهُوَ الْمَذْكُورُ لِكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ ، وَفِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ مَعَ إفَادَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْمَشَايِخَ ( وَكَتَرْكِ الْعَوْلِ ) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَخَرَّجْنَاهُ فِي الْإِجْمَاعِ ( وَرِبَا الْفَضْلِ ) أَيْ الْقَوْلُ بِحِلِّهِ كَمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُهُ عَنْهُ فَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَرَأَيْت الَّذِي يَقُولُ الدِّينَارَيْنِ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : نَعَمْ فَقَالَ : إنِّي لَمْ أَسْمَعْ هَذَا إنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ } .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَنَزَعَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا أَيْضًا لِمُخَالَفَةِ الْأَوَّلِ الْإِجْمَاعَ ،

وَالثَّانِي النَّصَّ ، وَالْإِجْمَاعَ ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ قَوْلِهِ فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَى مَا بَعْدَهُمَا ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعُ عَلَى مُرَادِهِ ، أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولُ لَفْظِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } فَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ ، وَالثَّانِي مِثْلُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ ، فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ ، أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، أَوْ لَا وَلِذَا يُمْنَعُ نَفَاذُ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ وَلَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحُكْمِ ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ .
قُلْت : ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ الْمُعَارِضُ لِمَدْلُولِ أَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْمَحْكُومِ بَعْدَ اعْتِبَارِهِ حَتَّى إنَّ الْقَضَاءَ لَا يَنْفُذُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا كَانَ مِنْ الْكِتَابِ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَلِكَ مُتَوَاتِرَ الثُّبُوتِ ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ ، وَالدَّلَالَةِ وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ لَكِنْ فِي صُدُورِ هَذَا مِنْ الْمُجْتَهِدِ بُعْدٌ عَظِيمٌ ؛

لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ مُخَالَفَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ كُفْرٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا كَانَ مِنْ الْكِتَابِ ، أَوْ السُّنَّةِ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ السُّنَّةُ قَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ ، أَوْ لَا ، أَوْ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا كَانَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ ، أَوْ الدَّلَالَةِ وَهَذَا فِي عَدَمِ نَفَاذِ الْحُكْمِ بِمُعَارِضِهِ مُطْلَقًا نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ لِلْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ جُمْلَةً قَضَاءُ الْقُضَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يُقْضَى بِخِلَافِ النَّصِّ ، وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُضَاةِ نَقْضُهُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ ، وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَوْضِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَفِي هَذَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ ، وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَيْءٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْخِلَافُ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَيْ يَكُونُ الْخِلَافُ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَجَازَهُ جَازَ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ قَضَى فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَيْسَ لِلثَّانِي نَقْضُهُ ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ يُجِيزُهُ انْتَهَى ، وَبَعْدَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَخْفَى مَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّظَرِ عِنْدَ تَحْقِيقِ النَّظَرِ .
ثُمَّ إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مَا عَدَا التَّحْلِيلَ بِلَا وَطْءٍ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ الْأُوَلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُعَارِضًا لِنَصٍّ قَطْعِيِّ الثُّبُوتِ ، وَالدَّلَالَةِ ، وَالْإِجْمَاعُ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلًا قَطْعًا ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ، أَوْ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ وَيَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ

لَا يَنْفُذُ مَا لَمْ يُمْضِهِ قَاضٍ آخَرُ ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالتَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ بِحُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ النَّفَاذِ أَصْلًا ، وَمِنْ جِهَةِ النَّفَاذِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَطْءِ فِيهِ بَعْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ ، أَوْ ظَنِّيٍّ لِلْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ بِإِجْمَاعٍ ظَنِّيٍّ لَمْ يَنْفُذْ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرَ ، وَإِنْ قِيلَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَكَيْفَ لَا ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَكَذَا الْجَوَابُ بِحِلِّ رِبَا الْفَضْلِ وَتَرْكِ الْعَوْلِ ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا : يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِكَذَا ، أَوْ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْقَضَاءِ بِهِ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأَزْمَانِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَاضِي مَذْهَبِ مُقَلَّدِهِ صَحَّ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ، وَإِمْضَاءُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ أَنَّ قُضَاةَ هَذِهِ الْأَزْمَانِ إنَّمَا فُوِّضَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ الْقَضَاءُ بِمَذْهَبِ مُقَلَّدِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ وَإِذَنْ فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لَا سَبِيلَ بِحَالٍ إلَى نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِوُجُودِ التَّحْلِيلِ بِلَا وَطْءٍ وَلَا بِحِلِّ رِبَا الْفَضْلِ وَلَا بِتَرْكِ الْعَوْلِ ، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ قَضَاءِ قُضَاةِ الْأَقْطَارِ بِهِ وَتَنْفِيذُهُمْ لَهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَفَاذِ بَعْضِ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الرَّابِعُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ

الْقِسْمُ ( الثَّانِي ) مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ ( جَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً ) دَرَاءَةً لِلْحَدِّ ، وَالْكَفَّارَةِ وَعُذْرًا فِي غَيْرِهِمَا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ مِثَالُ هَذَا ( كَالْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِفْ ) الِاجْتِهَادُ ( مَا ذَكَرَ ) أَيْ الْكِتَابَ ، أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ ، أَوْ الْإِجْمَاعَ ، وَكَانَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهِ خَفَاءٌ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ( كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى وُضُوءٍ ( ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِهِ ) أَيْ بِوُضُوءٍ ( ثُمَّ ذَكَرَ ) أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ( فَقَضَى الظُّهْرَ فَقَطْ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ يَظُنُّ جَوَازَ الْعَصْرِ ) بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ ( جَازَ ) أَدَاؤُهُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ ظَنَّهُ جَوَازَ الْعَصْرِ ( فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ ) الصَّحِيحِ ( فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ ) ؛ لِأَنَّ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ بِوُجُوبِهِ فِيهَا نَوْعَ خَفَاءٍ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا صَالِحًا لِإِفَادَةِ ظَنِّ جَوَازِ الْعَصْرِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أُدِّيَتْ قَبْلَ الظُّهْرِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعَصْرِ فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ عُذْرًا فِي جَوَازِ الْمَغْرِبِ لَا الْعَصْرِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسَادِ فِيمَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهْلِ وَفَسَادُ الْعَصْرِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ تَكُنْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فِي مَتْرُوكِهِ بِيَقِينٍ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ : إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ

حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَكَانَ زُفَرُ يَقُولُ : إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيَجْزِيهِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، وَكَذَا إنْ كَانَ نَاسِيًا ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ وَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَكَقَتْلِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ ) قَاتِلُ مُوَلِّيهِ عَمْدًا عُدْوَانًا ( بَعْدَ عَفْوِ ) الْوَلِيِّ ( الْآخَرِ ) جَاهِلًا بِعَفْوِهِ ، أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِعَفْوِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْقَوَدَ لَهُ ( لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ ( لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي التَّهْذِيبِ ( بِعَدَمِ سُقُوطِهِ ) أَيْ الْقِصَاصِ الثَّابِتِ لِلْوَرَثَةِ ( بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ ) حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْقَتْلُ هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِجْمَاعُ سَابِقًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، أَوْ لَاحِقًا إنْ ثَبَتَ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ، وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا وَحِينَئِذٍ ، فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْجَهْلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ ، وَالظَّاهِرُ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ نَافِذٍ عَلَيْهِ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ

لِمَعْنًى خَفِيٍّ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يُشْتَبَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ ( فَصَارَ ) الْجَهْلُ الْمَذْكُورُ ( شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقِصَاصَ ) ، وَقَدْ يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ الظَّنِّ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا ، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَيُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ أَمَّا لَوْ عَلِمَ سُقُوطَ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْقَوَدُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ عَلِمَ بِهِ ، أَوْ لَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ، أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا ، وَقَدْ انْطَوَى دَفْعُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَ ) مِثْلُ ( الْمُحْتَجِمِ ) فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ( إذَا ظَنَّهَا ) أَيْ الْحِجَامَةَ ( فَطَّرَتْهُ ) فَأَفْطَرَ بَعْدَهَا ( لَا كَفَّارَةَ ) عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ ( لِأَنَّ ) قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ ، وَالْمَحْجُومُ } ) رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ( أَوْرَثَ شُبْهَةً فِيهِ ) أَيْ فِي وُجُوبِهَا بِالْفِطْرِ بَعْدَ الْحِجَامَةِ ( وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ ) عَلَى الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ( فَتَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ فِطْرَهُ بَعْدَ الْحِجَامَةِ كَانَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَنَسْخِهِ ، وَهُوَ عَامِّيٌّ ، وَهُوَ

قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي الْمُعْتَمَدُ فِي فَتْوَاهُ فِي بَلَدِهِ إذَا كَانَ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ حَتَّى لَوْ أَفْتَاهُ بِالْفَسَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَأَفْطَرَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَتْوَى مُفْتِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَاهُ فَكَانَ مَعْذُورًا وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَقَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ ، أَوْ مَنْسُوخًا بَلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا ، فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ مُسْقِطَةٌ لَهَا بَقِيَ لَوْ أَفْطَرَ بَعْدَهَا ظَانًّا الْفِطْرَ بِهَا وَلَمْ يَسْتَفْتِ عَالِمًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ أَصْلًا ، أَوْ بَلَغَهُ وَلَكِنْ عَلِمَ تَأْوِيلَهُ ، أَوْ نَسْخَهُ وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ بِمَا خَرَجَ فَيَكُونُ ظَنُّهُ مُجَرَّدَ جَهْلٍ ، وَهُوَ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِتَعَاضُدِ عِلْمِهِ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ ، أَوْ نَسْخِهِ مَعَ كَوْنِ الْفِطْرِ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ حِينَئِذٍ فِي وُجُوبِهَا قَالُوا : وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِالْفِطْرِ بِهَا وَلَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ ( وَمِنْ زَنَى بِجَارِيَةِ وَالِدِهِ ) ، أَوْ وَالِدَتِهِ ( أَوْ زَوْجَتِهِ يَظُنُّ حِلَّهَا لَا يُحَدُّ ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ : يُحَدُّ لِلْوَطْءِ الْخَالِي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ

وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ ، أَوْ عَمِّهِ عَلَى ظَنِّ الْحِلِّ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يُحَدُّ ( لِلِاشْتِبَاهِ ) ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ فَظَنُّهُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِأَمَتِهِمْ اعْتِمَادٌ عَلَى شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ فَانْدَرَأَ الْحَدُّ بِهَا بِخِلَافِ الْأَخِ ، وَالْعَمِّ ، فَإِنَّهُ لَا انْبِسَاطَ لِكُلٍّ مِنْهُ ، وَمِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ فَدَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ لَيْسَتْ مُعْتَمِدَةً عَلَى شُبْهَةٍ فَلَا تُعْتَبَرُ ( وَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ ) بِهَذَا الْوَطْءِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ ( وَلَا عِدَّةَ ) أَيْضًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِهَذَا الْوَطْءِ ( لِمَا ) عُرِفَ ( فِي مَوْضِعِهِ ) مِنْ أَنَّهُ تَمَحُّضُ زِنَا إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحِلِّ ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَلَا عِدَّةَ مِنْ الزِّنَا ، وَهَذِهِ إحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ الدَّارِئَتَيْنِ لِلْحَدِّ عِنْدَهُمْ وَتُسَمَّى شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ وَشُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَقَوْمٍ سُقُوا خَمْرًا عَلَى مَائِدَةٍ فَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمَنْ لَا فَلَا وَالشُّبْهَةُ الْأُخْرَى وَتُسَمَّى الشُّبْهَةَ فِي الْمَحِلِّ وَشُبْهَةَ الدَّلِيلِ ، وَالشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وُجُودُ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهِ لِمَانِعٍ وَهَذِهِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الظَّنِّ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ إنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إذَا ادَّعَاهُ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شُبْهَةٌ أُخْرَى دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَقْدِ

سَوَاءٌ عَلِمَ الْحُرْمَةَ أَمْ لَا كَوَطْءِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِهَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَمَعْنَى دَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ زِنًا مُحَرَّمًا فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْمُحِيطِ الْآتِي قَرِيبًا ( وَكَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ لَا يُحَدُّ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا فِي وَقْتٍ ( بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى ) بَعْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَإِسْلَامِهِ زَاعِمًا حِلَّ الزِّنَا ، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى زَعْمِهِ وَيُحَدُّ .
وَإِنْ فَعَلَهُ أَوَّلَ يَوْمِ دُخُولِهِ الدَّارَ وَإِسْلَامِهِ ( لِأَنَّ جَهْلَهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا لَا يَكُونُ شُبْهَةً ) دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الشُّبْهَةِ ( لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ ) فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْعِلْمُ بِحُرْمَتِهِ عَلَى بُلُوغِ خِطَابِ الشَّرْعِ لِتَحَقُّقِ حُرْمَتِهِ قَبْلَهُ ( فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا ) لِكَوْنِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ ( بِخِلَافِ الْخَمْرِ ) ، فَإِنَّهَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا حَرَامًا فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ ( فَمَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ شَرْطُ الْحَدِّ أَنْ لَا يَظُنَّ الزِّنَا حَلَالًا مُشْكِلٌ ) ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُفِيدُ أَنَّ لَيْسَ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي عَدَمَ ظَنِّهِ حِلَّ الزِّنَا حَتَّى يَكُونَ ظَنُّهُ حِلَّهُ مَانِعًا مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ هَذَا وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمُصَنِّفِ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ انْتَهَى ، وَهُوَ أَخُصُّ مِمَّا هُنَا وَمَا فِي الشَّرْحِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي مُحِيطِ رَضِيِّ الدِّينِ وَهَذَا لَفْظُهُ ، وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ وَأَصْلُهُ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ

فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الزِّنَا فَاجْلِدُوهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ ، وَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ الشُّيُوعُ ، وَالِاسْتِفَاضَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ مُقَامَ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ شُبْهَةٍ بِعَدَمِ التَّبْلِيغِ ، وَالْإِسْمَاعِ بِالْحُرْمَةِ انْتَهَى غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَبْسُوطِ عَقِبَ هَذَا الْأَثَرِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ انْتَهَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَكُونُ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً لِاشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاشِئِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْمُقِيمُ بِهَا مُدَّةً يَطَّلِعُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْوَاقِعُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ فَلَا ، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّرْحِ وَنُقِلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ انْتَهَى ، وَهُوَ مُفِيدٌ أَنَّ جَهْلَهُ يَكُونُ عُذْرًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ فَمَتَى يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ عُذْرًا ، وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ عُذْرًا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَحِلُّ نَظَرٍ وَحِينَئِذٍ فَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُشْكِلُ فَلْيُتَأَمَّلْ ( بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ أَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ ) بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَقَالَ : أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا ( يُحَدُّ لِظُهُورِ الْحُكْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) ، وَهُوَ مُقِيمٌ فِيهَا ( فَجَهْلُهُ ) بِحُرْمَتِهَا مَعَ شُيُوعِهَا فِيهِ ( لِتَقْصِيرِهِ ) فِي مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا كَذَلِكَ دَارُ الْحَرْبِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا غَيْرُ شَائِعَةٍ فِيهَا فَكَانَ جَهْلُ

الْحَرْبِيِّ بِهَا دَارِئًا لِلْحَدِّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ

الْقِسْمُ الثَّالِثُ جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرَكَ بِهَا صَلَوَاتٍ جَاهِلًا لُزُومَهَا فِي الْإِسْلَامِ لَا قَضَاءَ ) عَلَيْهِ إذَا عَلِمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَهْلُ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ عَنْهُمْ فَانْتَفَى سَمَاعُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّهُ بِشُهْرَتِهِ فِي مَحِلِّهِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلَّهَا فَانْتَفَى قَوْلُ زُفَرَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَهُ وَلَكِنْ قَصُرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ وَذَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ الْوَقْتِ ( وَكُلُّ خِطَابٍ تُرِكَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فَجَهْلُهُ عُذْرٌ ) لِانْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ عَنْ جَاهِلِهِ بِخَفَائِهِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ( { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } لِلَّذِينَ شَرِبُوا ) الْخَمْرَ ( بَعْدَ تَحْرِيمِهَا غَيْرَ عَالِمِينَ ) بِحُرْمَتِهَا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فِي التَّيْسِيرِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا ، وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أَيْ مِنْ الْأَمْوَاتِ ، وَالْأَحْيَاءِ فِي الْبُلْدَانِ { جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } مِنْ الْخَمْرِ ، وَالْقِمَارِ { إذَا مَا اتَّقَوْا } مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سِوَاهُمَا ( قُلْت ) : لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ

الْوَاحِدِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَنَسٍ كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَهَرَقْتهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ فَقَالُوا : انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ وَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ } .
وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنْ الشَّارِبِينَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ نَعَمْ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا خِلَافَ فِيهِ ( بِخِلَافِهِ ) أَيْ الْخِطَابِ النَّازِلِ ( بَعْدَ الِانْتِشَارِ ) ، فَإِنَّ جَهْلَهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ جَهْلَهُ إنَّمَا هُوَ ( لِتَقْصِيرِهِ ) فِي مَعْرِفَتِهِ ( كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمْرَانِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْوُجُودِ ) ، وَهُوَ الْعُمْرَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ غَالِبًا ( وَتَرْكُهُ الْعَمَلَ ) بِالدَّلِيلِ ، وَهُوَ طَلَبُهُ فِيهِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْتَكْشِفْ الْحَالَ ، أَوْ اسْتَكْشَفَهُ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِيهِ أَمَّا لَوْ اسْتَكْشَفَهُ فَلَمْ

يَجِدْهُ فِيهِ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي لِظُهُورِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ فِي الْمَفَازَةِ عَلَى ظَنِّ الْعَدَمِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى حَيْثُ جَازَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْعَدَمِ لَا الْوُجُودِ ( وَكَذَا الْجَهْلُ ) لِلْإِنْسَانِ ( بِأَنَّهُ وَكِيلٌ ، أَوْ مَأْذُونٌ ) مِنْ سَيِّدِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا ( عُذِرَ حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمَا ) الْمُوَكِّلِ ، وَالْمَوْلَى قَبْلَ بُلُوغِ الْوَكَالَةِ ، وَالْإِذْنِ إلَيْهِمَا ( وَيَتَوَقَّفُ ) نَفَاذُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَيْهِمَا عَلَى إجَازَتِهِمَا ( كَالْفُضُولِيِّ ) أَيْ كَتَوَقُّفِ نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ عَلَى مَنْ تُصْرَفُ لَهُ عَلَى إجَازَتِهِ بِشَرْطِهَا كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ بِأَنَّ فِي التَّوْكِيلِ ، وَالْإِذْنِ نَوْعَ إلْزَامٍ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَالْمَأْذُونِ حَيْثُ يَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْعَقْدِ مِنْ التَّسْلِيمِ ، وَالتَّسَلُّمِ ، وَالْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ ، وَالْإِذْنِ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الْعِلْمِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا ، وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ مَعَ كَمَالِ وِلَايَتِهِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ عِلْمِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ حُكْمُ الْمُكَلَّفِ الَّذِي هُوَ قَاصِرُ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ عِلْمِهِ ( إلَّا فِي شِرَاءِ الْوَكِيلِ ) ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ شِرَائِهِ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ بَلْ ( يَنْفُذُ ) شِرَاؤُهُ ( عَلَى نَفْسِهِ ) .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ ( كَمَا عُرِفَ ) مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ نَفَذَ عَلَيْهِ ( قُلْت ) : كَذَا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي الْأُصُولِ هَذَا الْحُكْمَ لِجَهْلِهِمَا بِالْوَكَالَةِ ، وَالْإِذْنِ وَزَادَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَالْفُضُولِيِّ إلَخْ وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا اعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ اتَّفَقَتْ أَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا ثَبَتَتْ قَصْدًا

لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعِلْمِ أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ فِي ضِمْنِ أَمْرِ الْحَاضِرِ بِالتَّصَرُّفِ بِأَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اشْتَرِ عَبْدِي مِنْ فُلَانٍ لِنَفْسِك ، أَوْ لِعَبْدِهِ : انْطَلِقْ إلَى فُلَانٍ لِيُعْتِقَك ، أَوْ لِامْرَأَتِهِ : انْطَلِقِي إلَى فُلَانٍ لِيُطَلِّقَك ، فَاشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ ، أَوْ أُعْتِقَ ، أَوْ طَلَّقَ فُلَانٌ بِدُونِ الْعِلْمِ جَازَ ثُمَّ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ أَمْ لَا فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَصِيرُ وَفِي رِوَايَةِ وَكَالَةِ الْأَصْلِ يَصِيرُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ نَعَمْ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : تَأْوِيلُهُ إذَا عَلِمَ ا هـ .
فَإِنْ تَمَّ هَذَا وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدُوا بِالْوَكَالَةِ الْقَصْدِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا اُخْتِيرَ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ ثُمَّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوِصَايَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ ا هـ وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ يُعَكِّرُ حِكَايَةَ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الثَّانِي فِي الْخُلَاصَةِ ، وَلَوْ قَالَ لِأَهْلِ السُّوقِ : بَايِعُوا عَبْدِي هَذَا صَارَ مَأْذُونًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ كَوْنُ الْجَهْلِ عُذْرًا فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَيْضًا ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ : بِعْ عَبْدَك مِنْ ابْنِي إنْ عَلِمَ الِابْنُ صَارَ مَأْذُونًا وَإِلَّا فَلَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مُؤَثِّرٌ فِيمَا يَظْهَرُ وَلَا مَحِيصَ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ رِوَايَتَانِ فَيَتَخَرَّجُ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ عَلَى رِوَايَةٍ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِمَا فِيهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ : وَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا بِالْعِلْمِ فَلَوْ قَالَ : بَايِعُوا عَبْدِي ، فَإِنَى أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ ، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ا هـ

بَقِيَ الشَّأْنُ فِيمَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا ، فَإِنْ تَمَّ كَوْنُ الشَّارِطَةِ لِلْعِلْمِ هِيَ الرَّاجِحَةَ فِيهَا وَإِلَّا فَيَنْتَفِي التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَ مَعْنَاهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُفِيدُ أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى الْفُضُولِيُّ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ هَذَا عَلَى وُجُوهٍ إنْ قَالَ الْبَائِعُ : بِعْت هَذَا مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ الْفُضُولِيُّ : قَبِلْت ، أَوْ اشْتَرَيْت لِفُلَانٍ ، أَوْ لَمْ يَقُلْ لِفُلَانٍ يَتَوَقَّفُ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْت مِنْك فَقَالَ الْفُضُولِيُّ : اشْتَرَيْت ، أَوْ قَبِلْت لِفُلَانٍ لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ : اشْتَرَيْت هَذَا لِفُلَانٍ فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْت مِنْك .
الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : بِعْت مِنْك هَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْت ، أَوْ قَبِلْت ، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْت هَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ وَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْت لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَ ) كَذَا الْجَهْلُ ( بِالْعَزْلِ ) لِلْوَكِيلِ ( وَالْحَجَرِ ) عَلَى الْمَأْذُونِ عُذْرٌ فِي حَقِّهِمَا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ لِاسْتِقْلَالِ الْمُوَكِّلِ بِالْعَزْلِ ، وَالْمَوْلَى بِالْحَجْرِ وَلُزُومِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا بِدُونِ عِلْمِهِمَا إذْ الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَلْزَمَ تَصَرُّفُهُ الْمُوَكِّلَ ، وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ ، أَوْ رَقَبَتَهُ وَبِالْعَزْلِ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ الْوَكِيلَ وَبِالْحَجْرِ يَتَأَخَّرُ دَيْنُ الْعَبْدِ إلَى الْعِتْقِ وَيُؤَدَّى بَعْدَهُ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ ( فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا ) أَيْ الْوَكِيلِ ، وَالْمَأْذُونِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْمَوْلَى قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِالْعَزْلِ ، وَالْحَجْرِ ( قُلْت ) كَذَا ذَكَرُوا فِي الْأُصُولِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ

كَلَامِهِمْ فِي الْفُرُوعِ أَنَّ هَذَا فِي الْعَزْلِ مِنْ الْوَكَالَةِ إذَا كَانَ قَصْدِيًّا أَمَّا فِي الْحُكْمِيِّ ، وَهُوَ الْعَزْلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ جُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا ، أَوْ لَحَاقِهِ مُرْتَدًّا بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَالْحُكْمِ بِهِ ، أَوْ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَبْدًا مَأْذُونًا ، وَقَدْ وُكِّلَ بِبَيْعٍ ، أَوْ شِرَاءٍ ، أَوْ نَحْوِهِمَا ، أَوْ بِعَجْزِهِ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا ، أَوْ بِتَصَرُّفِهِ فِيمَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ تَصَرُّفًا يَعْجِزُ الْوَكِيلُ عَنْ بَيْعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ أَمَّا فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَ فَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعْتَمِدُ قِيَامَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ فَبَطَلَ مَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا فِي الْأَخِيرِ فَلِفَوَاتِ الْمَحِلِّ وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا بِذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِمْ لَهُ فِي الْفُرُوعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوْلَى التَّقْيِيدُ بِهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ ثُمَّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ انْحِجَارُ الْمَأْذُونِ عَلَى عِلْمِهِ بِالْحَجْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْإِذْنِ غَيْرُهُ أَمَّا إذَا كَانَ الْإِذْنُ مَشْهُورًا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِشُهْرَةِ حَجْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ سُوقِهِ ، أَوْ أَكْثَرِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفَاذِهِ بِدُونِ عِلْمِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَايِعُونَهُ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ الْإِذْنِ ، وَالْحَالُ أَنَّ حَقَّهُمْ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا أَيْضًا ( وَ ) كَذَا ( جَهْلُ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ ) جِنَايَةً خَطَأً عُذْرٌ لِلْمَوْلَى فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ لُزُومِ الْفِدَاءِ مُطْلَقًا لَهُ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهَا ( فَلَا يَكُونُ ) الْمَوْلَى ( بَيْعُهُ ) أَيْ الْعَبْدُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهَا ( مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ) ، وَهُوَ الْأَرْشُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا ، وَهُوَ الدَّفْعُ ، وَالْفِدَاءُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَالْأَرْشِ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِ

لِاسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ ( وَ ) كَذَا جَهْلُ ( الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ ) لِمَا يَشْفَعُ فِيهِ عُذْرٌ لَهُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ شُفْعَتِهِ إذَا أُخْرِجَ عَنْ مِلْكِهِ مَا يَشْفَعُ بِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ ( فَلَوْ بَاعَ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ بِهَا بَعْدَ بَيْعِ دَارٍ بِجِوَارِهَا ) هُوَ شَفِيعُهَا ( غَيْرَ عَالِمٍ ) بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا ( لَا يَكُونُ ) بَيْعُهُ الْمَشْفُوعَ بِهَا ( تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ ) فِي الْمَشْفُوعِ فِيهَا بَلْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلْمِ خَفِيَ لِانْفِرَادِ صَاحِبِ الْمِلْكِ بِبَيْعِهِ .
( وَ ) كَذَا جَهْلُ ( الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ ) عُذْرٌ لَهَا فِي عَدَمِ سُقُوطِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَهَا ( إذَا جَهِلَتْ عِتْقَ الْمَوْلَى فَلَمْ تَفْسَخْ ) النِّكَاحَ ( أَوْ عَلِمَتْهُ ) أَيْ عِتْقَ الْمَوْلَى ( وَجَهِلَتْ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا شَرْعًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَعُذِرَتْ ) فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهَا أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى مُسْتَقِلٌّ بِالْعِتْقِ وَلَا يُمْكِنُهَا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِخْبَارِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَلَا تَتَفَرَّغُ بِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ فَلَا يَقُومُ اشْتِهَارُ الدَّلِيلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَقَامَ عِلْمِهَا ( بِخِلَافِ الْحُرَّةِ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ ، وَالْجَدِّ ) حَالَ كَوْنِهَا ( صَغِيرَةً فَبَلَغَتْ جَاهِلَةً بِثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ ) أَيْ فَسْخِ النِّكَاحِ ( لَهَا ) إذَا بَلَغَتْ فَلَمْ تَفْسَخْهُ ( لَا تُعْذَرُ ) بِهَذَا الْجَهْلِ بِهَذَا الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ بِهِ ( لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْعِلْمِ وَلَيْسَ لِلْحُرَّةِ مَا يَشْغَلُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ فَكَانَ جَهْلُهَا ) بِهَذَا الْحُكْمِ ( لِتَقْصِيرِهَا ) فِي التَّعَلُّمِ ( بِخِلَافِ الْأَمَةِ ) كَمَا ذَكَرْنَا فَافْتَرَقَتَا ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِغَيْرِ الْأَبِ ، وَالْجَدِّ يَعْنِي الصَّحِيحَ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا بِبُلُوغٍ فِي تَزْوِيجِ

أَحَدِهِمَا إيَّاهَا لِكَمَالِ رَأْيِهِمَا وَوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمَا ، وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ الْأُمَّ ، وَالْقَاضِيَ حَيْثُ كَانَتْ لَهَا وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِيهِ لِعَدَمِ كَمَالِ الرَّأْيِ فِي الْأُمِّ وَعَدَمِ وُفُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْقَاضِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

( مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي ) وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى ( حُكْمٍ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّقْلِيدِ ) لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( فِيهِ ) أَيْ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ ( اتِّفَاقًا ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ ( وَالْخِلَافُ ) إنَّمَا هُوَ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ مِنْهُمْ ( قَبْلَهُ ) أَيْ اجْتِهَادِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ ( وَالْأَكْثَرُ ) مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ ( مَمْنُوعٌ ) مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقًا مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَمَالِكٌ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَيُشْكِلُ عَلَى مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا فِي الْقُنْيَةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَتَفَرَّقُوا ثُمَّ أُخْبِرَ بِوُجُودِ فَأْرَةٍ مَيِّتَةٍ فِي بِئْرِ حَمَّامٍ اغْتَسَلَ مِنْهُ فَقَالَ : نَأْخُذُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا انْتَهَى ( وَمَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ ) مَمْنُوعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ ( إلَّا إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ) الِاجْتِهَادُ فِي الْوَاقِعَةِ فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا بَلْ يَتَعَيَّنُ ( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ ) إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَا قَوْلًا آخَرَ كَمَا عَدُّوهُ ثُمَّ الَّذِي حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ هَذَا وَيَظْهَرُ أَنَّ خَوْفَ فَوْتِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ رَأَيْت عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ نَقْلَهُ بِخُصُوصِهِ عَنْهُ

وَيُؤَيِّدُهُ جَزْمُ السُّبْكِيّ بِمَنْعِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَبِطَرِيقٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَوْفُ فَوْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ أَصْلًا مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوْلًا آخَرَ وَيَسْتَسْمِعَ خِلَافَ الْأَوَّلِ أَيْضًا .
( وَقِيلَ لَا ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَزَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إلَى أَحْمَدَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : وَلَا يُعْرَفُ ( وَقِيلَ ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ ( فِيمَا يُفْتِي بِهِ ) غَيْرُهُ ( لَا فِيمَا يَخُصُّهُ ) أَيْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَحْصِيلَ رَأْيٍ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِعِلْمِهِ لَا فِيمَا يُفْتِي بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمُجْتَهِدِ بِحَيْثُ لَا يَعُمُّ غَيْرَهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ( وَقِيلَ ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ ( فِيهِ ) أَيْ فِيمَا يَخُصُّهُ ( أَيْضًا إلَّا إنْ خَشِيَ الْفَوْتَ كَأَنْ ضَاقَ وَقْتُ صَلَاةٍ ، وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا ) أَيْ فِي صَلَاتِهِ ( يُفَوِّتُهَا ) ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِ لِئَلَّا تَفُوتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا ، وَهُوَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهِ .
( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ ) إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُقَلِّدُ ) مُجْتَهِدًا ( أَعْلَمَ مِنْهُ ) لَا أَدْوَنَ مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيَ لَهُ نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي وَالرُّويَانِيُّ وَإِلْكِيَا قَالَ : وَرُبَّمَا قَالَ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ : إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ ( وَالشَّافِعِيُّ ) فِي الْقَدِيمِ ( وَالْجُبَّائِيُّ ) وَابْنُهُ أَيْضًا قَالُوا (

يَجُوزُ ) تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ( إنْ ) كَانَ الْغَيْرُ ( صَحَابِيًّا رَاجِحًا ) فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ ( فَإِنْ اسْتَوَوْا ) أَيْ الصَّحَابَةُ فِي الدَّرَجَةِ فِي نَظَرِهِ وَاخْتَلَفَتْ فَتْوَاهُمْ ( تَخَيَّرَ ) فَيُقَلِّدُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ عَدَاهُمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ : وَقَضِيَّتُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلصَّحَابَةِ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ( وَهَذَا ) مِنْ الشَّافِعِيِّ ( رِوَايَةٌ عَنْهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ ( فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ) وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عَدَمُ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِلْغَيْرِ مُطْلَقًا .
وَقِيلَ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا غَيْرِهِمَا مُطْلَقًا وَنَقَلَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا بَعْدَهُمْ غَيْرَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ( وَقِيلَ ) يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِلْغَيْرِ صَحَابِيًّا ( وَتَابِعِيًّا ) دُونَ غَيْرِهِمَا وَعَزَا هَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ إلَى الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِلَفْظِ ، أَوْ خِيَارِ التَّابِعِينَ وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْقَاضِي لَا غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إلَى إنْجَازِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ( لِلْأَكْثَرِ الْجَوَازُ ) لِلتَّقْلِيدِ ( حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ ) ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ ( وَلَمْ يَثْبُتْ ) الدَّلِيلُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ( فَلَا يَثْبُتُ ) الْجَوَازُ ( وَدَفْعُ ) هَذَا مِنْ قِبَلِ الْمُجَوِّزِينَ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ الْجَوَازَ ( الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ ) وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ( بِخِلَافِ تَحْرِيمِكُمْ ) التَّقْلِيدَ ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ( فَهُوَ الْمُفْتَقِرُ ) إلَى الدَّلِيلِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَثْبُتُ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ حُكْمٌ

شَرْعِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ فِي النَّسْخِ .
( وَأَمَّا ) الدَّفْعُ مِنْ الْأَكْثَرِ ( بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَصْلٌ ، وَالتَّقْلِيدَ بَدَلٌ ) عَنْهُ ( فَيَتَوَقَّفُ ) التَّقْلِيدُ ( عَلَى عَدَمِهِ ) أَيْ الِاجْتِهَادُ إذْ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِالْبَدَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْمُبْدَلِ كَالْوُضُوءِ ، وَالتَّيَمُّمِ ( فَمُنِعَ بَلْ كُلٌّ ) مِنْهُمَا ( أَصْلٌ ) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا كَمَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَغَسْلِ الرِّجْلِ ( فَإِنْ تَمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ ) لِلتَّقْلِيدِ عَنْ الِاجْتِهَادِ ( بِعُمُومِ ) قَوْله تَعَالَى ( { فَاعْتَبِرُوا } ) { يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالِاجْتِهَادِ ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْعَامِّيِّ ، وَالْمُجْتَهِدِ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عَنْهُ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ ( تَمَّ ) الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ ( وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يَتِمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ بِهَذَا ( لَا ) يَتِمُّ الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَدَلِيَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الثُّبُوتِ ( وَاسْتُدِلَّ ) لِلْأَكْثَرِ ( لَا يَجُوزُ ) التَّقْلِيدُ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( فَكَذَا ) لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( لِوُجُودِ الْجَامِعِ ) فِي الْمَنْعِ بَيْنَهُمَا ( وَهُوَ ) أَيْ الْجَامِعُ ( كَوْنُهُ ) أَيْ الْمُقَلِّدِ ( مُجْتَهِدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُوجِبَ ( فِي الْأَصْلِ ) أَيْ الْعِلَّةِ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ ( إعْمَالُ الْأَرْجَحِ ، وَهُوَ ظَنُّ نَفْسِهِ ) بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اجْتِهَادِهِ ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَهَذَا مَقْصُودٌ فِي الْفَرْعِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا .
وَاحْتَجَّ ( الشَّافِعِيُّ ) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُجْتَهِدِ بِهِمْ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُمْنَعُ الشَّخْصُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَبْعُدُ ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ ( مِنْهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ هَذَا ( لَمْ يَثْبُتْ ) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي الْإِجْمَاعِ ( وَلَوْ ثَبَتَ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ ) فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَيْثُ قَالَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ هَدْيٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَنَاوَلَهُ ( قُلْت ) : لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمُجْتَهِدِ الْغَيْرِ الصَّحَابِيِّ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ بَلْ هَذَا الْجَوَابُ يُقَرِّرُ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ ، أَوْ مُجْتَهِدًا قَبْلَ اجْتِهَادِهِ ، أَوْ بَعْدَهُ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا ، أَوْ لَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عُمُومِ { بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } لَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ إذْ لَا تَقْلِيدَ لَهُ بَعْدَهُ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ إذْ لَا تَقْلِيدَ إلَّا لِمُجْتَهِدٍ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَا هَذَيْنِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِمَنْعِ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ لِمُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ ، وَهُوَ مِنْ الْمَطْلُوبِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مُثْبِتًا لِجُزْءِ الْمَطْلُوبِ ، وَهُوَ جَوَازُ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ صَحَابِيٍّ إذْ الْمَطْلُوبُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( الْمُجَوِّزُ ) لِلتَّقْلِيدِ مُطْلَقًا قَالَ هُوَ وَمُوَافِقُوهُ أَوَّلًا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ تَعَالَى ( { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ }

أَيْ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ { إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ) فَيُفِيدُ وُجُوبَ سُؤَالِ الْمُجْتَهِدِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ جَوَازُ اتِّبَاعِ الْمَسْئُولِ فِيمَا أَجَابَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلسُّؤَالِ فَائِدَةٌ وَلَا مَعْنَى لِجَوَازِ تَقْلِيدِهِ إلَّا الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَصْلًا بَلْ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ .
( وَقِيلَ الِاجْتِهَادُ لَا يَعْلَمُ ) الْمُجْتَهِدُ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ فَشَمِلَهُ طَلَبُ سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ فَشَمِلَهُ أَيْضًا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ سُؤَالُ غَيْرِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اجْتِهَادِهِ أَيْضًا فَكَانَ مَعَ مُجْتَهِدٍ غَيْرِهِ كَمُجْتَهِدَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ فَيَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادَيْ مُجْتَهِدَيْنِ ( أُجِيبَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُقَلِّدِينَ إذْ الْمَعْنَى لِيَسْأَلْ أَهْلَ الْعِلْمِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْلٌ ) لِلْعِلْمِ ( وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَنْ لَهُ الْمَلَكَةُ ) أَيْ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِأَهْلِيَّتِهِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ ( لَا بِقَيْدِ خُرُوجِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ ) مِنْ الِاقْتِدَارِ ( إلَى الْفِعْلِ ) ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ مَنْ هُوَ مُتَأَهِّلٌ لَهُ وَمُسْتَعِدٌّ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَرِيبًا لَا مَنْ حَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمُقَلِّدِ ( قَالُوا ) ثَانِيًا ( الْمُعْتَبَرُ الظَّنُّ ) ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الظَّنُّ ( حَاصِلٌ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ .
( أُجِيبَ بِأَنَّ ظَنَّهُ اجْتِهَادَهُ ) بِنَصَبِ الدَّالِ إمَّا بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِاجْتِهَادِهِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ظَنِّهِ ( أَقْوَى ) مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ( فَيَجِبُ الرَّاجِحُ ، فَإِنْ قِيلَ ثَبَتَ ) فِي الْفُرُوعِ ( عَنْ أَبِي

حَنِيفَةَ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ يَقْضِي بِغَيْرِ رَأْيِهِ ذَاكِرًا لَهُ ) أَيْ لِرَأْيِهِ ( نَفَذَ ) قَضَاؤُهُ ( خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ فَيَبْطُلُ ) بِهَذَا الثَّابِتُ عَنْهُ ( نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَنْعِ ) مِنْ التَّقْلِيدِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( إذْ لَيْسَ التَّقْلِيدُ إلَّا الْعَمَلُ ، أَوْ الْفَتْوَى بِقَوْلِ غَيْرِهِ ) ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ ( وَإِنْ ذَكَرَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَنْهُ يَنْفُذُ وَجَعَلَهَا فِي الْخَانِيَّةِ أَظْهَرَ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحِلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ وَعَنْهُ لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ ( فَقَدْ صَحَّحَ أَنَّهُ ) أَيْ نَفَاذَ الْقَضَاءِ ( مَذْهَبُهُ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ .
( قُلْنَا : النَّفَاذُ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ لَا يُوجِبُ حِلَّهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ) ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ ( أَنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي النَّفَاذِ وَفِي بَعْضِهَا ) ذَكَرَ الْخِلَافَ ( فِي الْحِلِّ ) أَيْ حِلِّ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ ( لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمُعَوَّلَ الْحِلُّ بَلْ يَجِبُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ النَّفْيِ ) لِلْحِلِّ لِمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِهَا وَلِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا

وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ ، وَعَمَلُهُ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاءَهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ نَصَّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، وَالْمُحِيطِ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا بِعَدَمِ النَّفَاذِ فِي الْعَمْدِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى ، وَالْخَانِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ : ( وَصَرَّحَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ عَدَمُ تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ ، وَإِنْ رُوِيَ خِلَافُهُ ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قُبَيْلَ فَصْلِ التَّعَارُضِ فَكَوْنُ عَدَمِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

( مَسْأَلَةٌ : إذَا ) وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ فَاجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَهَا ثُمَّ ( تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ ) هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ النَّظَرِ وَتَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ فِيهَا أَمْ يَكْفِي الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ ( قِيلَ ) ، وَالْقَائِلُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ ( الْمُخْتَارُ لَا يَلْزَمُهُ تَكْرِيرُ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ إلْزَامَهُ بِهِ ( إيجَابٌ بِلَا مُوجِبٍ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ ) تَكْرِيرُ النَّظَرِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَقَالَ : وَإِلَّا يَكُونُ مُقَلِّدًا لِنَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى ، وَقَالَ : وَكَالْقِبْلَةِ يُجْتَهَدُ لَهَا ثَانِيًا وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ وَقِيلَ : ( لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ كَثِيرًا مَا يَتَغَيَّرُ ) فَيَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْقَدِيمِ إلَى الْجَدِيدِ ( وَلَيْسَ ) تَغَيُّرُهُ ( إلَّا بِتَكْرِيرِهِ ) أَيْ النَّظَرِ ( فَالِاحْتِيَاطُ ذَلِكَ ) أَيْ تَكْرِيرُهُ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ أَفْتَى بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ اسْتَمَرَّ ظَنُّهُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَأَفْتَى بِهِ ( أُجِيبَ فَيَجِبُ تَكْرَارُهُ ) أَيْ النَّظَرِ ( أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادَ ( يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ) أَيْ التَّغَيُّرَ ( فِي كُلِّ وَقْتٍ يَمْضِي بَعْدَ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ) ، وَالْوُجُوبُ الْأَبَدِيُّ لَهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا ) اللَّازِمُ ( لَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْحَادِثَةِ بِشَرْطِهِ ) أَيْ وُجُوبِهِ ( فَقَدْ أَخَذَ السَّبَبُ حُكْمَهُ ) بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ عِنْدَهَا ( وَاحْتِمَالُ الْخَطَإِ فِيهِ لَمْ يَقْدَحْ ) فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ( فَلَا يَجِبُ ) الِاجْتِهَادُ ( الْآخَرُ إلَّا بِمِثْلِهِ ) أَيْ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَالشَّرْطِ بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَنَّ تَكْرَارَهَا هَلْ هُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلنَّظَرِ ثَانِيًا فِيهَا مُسْتَجْمِعٌ لِشَرْطِ وُجُوبِهِ لَمْ يُفْصِحْ الْمُصَنِّفُ بِهِ وَقَالَ الْآمِدِيُّ : الْمُخْتَارُ أَنَّهُ

إنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ فَيَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا لُزُومُ التَّجْدِيدِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِدَلِيلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا قَدْ يُوجِبُ رُجُوعَهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعًا ، وَإِنْ تَجَدَّدَ مَا قَدْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ لَزِمَهُ قَطْعًا انْتَهَى .
( قُلْت ) : وَسَبَقَهُ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا قَدْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَمَّا ظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَحَذَفَهُ لِقَرِينَةٍ مُقَابِلَةٍ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ إنْ تَجَدَّدَ مَا قَدْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَزِمَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَا ، وَإِنْ كَانَ فِي لُزُومِهِ مَعَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا نَظَرٌ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ مُتَأَخِّرٌ مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَاجِحًا عَلَى مَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عُمِلَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يُعَدُّ الِاجْتِهَادُ وَإِلَّا أَعَادَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لَهُ ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ يَكُونُ أَخْذًا بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ إذْ لَا ثِقَةَ بِبَقَاءِ الظَّنِّ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَأَمُّلٍ ، وَمِنْ ثَمَّةَ حُكِيَ فِيهِ قَوْلٌ بِالْمَنْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّنَّ السَّابِقَ قَوِيٌّ فَيُعْمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجْحَانِ غَيْرِهِ وَقَالَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ فِي رَوْضَةِ الْحُكَّامِ اجْتَهَدَ لِنَازِلَةٍ فَحَكَمَ ، أَوْ لَمْ يَحْكُمْ ثُمَّ حَدَثَتْ ثَانِيًا فِيهِ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ إذَا كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا لَا يَخْتَلِفُ فِي مِثْلِهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسْتَأْنِفُهُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا فِي الْعَامِّيِّ يَسْتَفْتِي الْمُجْتَهِدَ فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ تَقَعُ لَهُ ثَانِيًا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عَنْ نَصِّ كِتَابٍ ، أَوْ سُنَّةٍ ، أَوْ إجْمَاعٍ ، أَوْ كَانَ قَدْ

يَتَحَرَّى فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَاهُ عَنْ نَصِّ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى الْأُولَى ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عَنْ اجْتِهَادٍ ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ ثَانِيًا لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا عِنْدِي إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الْفَتْوَى الْأُولَى يَجُوزُ تَغَيُّرُ الِاجْتِهَادِ فِيهَا غَالِبًا ، فَإِنْ قَرُبَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِفْتَاءُ ثَانِيًا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَحِلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَكْثُرْ وُقُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنْ كَثُرَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَامِّيِّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ قَطْعًا وَخَصَّ ابْنُ الصَّلَاحِ الْخِلَافَ بِمَا إذَا قَلَّدَ حَيًّا وَقَطَعَ فِيمَا إذَا كَانَ خَبَرًا عَنْ مَيِّتٍ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ الْعَامِّيَّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرَّافِعِيِّ وَأَفَادَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِاحْتِمَالِ مُخَالَفَةِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ نَصِّ الْإِمَامِ وَفِيهِ نَظَرٌ .

( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : ( لَا يَصِحُّ فِي مَسْأَلَةٍ لِمُجْتَهِدٍ ) بَلْ لِعَاقِلٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ( قَوْلَانِ ) مُتَنَاقِضَانِ ( لِلتَّنَاقُضِ ، فَإِنْ عُرِفَ الْمُتَأَخِّرُ ) مِنْهُمَا ( تَعَيَّنَ ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ( رُجُوعًا ) عَنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ ( وَإِلَّا ) لَوْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُتَأَخِّرُ ( وَجَبَ تَرْجِيحُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ لِأَحَدِهِمَا ( بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ ) كَمَا فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ ( وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يُخَيَّرُ مُتَّبِعُهُ الْمُقَلِّدُ فِي الْعَمَلِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ كَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِ ) الْمَذْكُورِ الْمُجْتَهِدُ ( فِي الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَتَرْجِيحُ ) الْمُجْتَهِدِ ( الْمُطْلَقِ بِشَهَادَتِهِ ) أَيْ قَلْبِهِ ( فِيمَا عَنَّ ) أَيْ ظَهَرَ ( لَهُ ) نَفْسُهُ ( وَالتَّرْجِيحُ هُنَا ) لِأَحَدِهِمَا إنَّمَا هُوَ ( عَلَى أَنَّهُ الْمُعَوَّلُ ) عَلَيْهِ ( لِصَاحِبِهِمَا ) أَيْ الْقَوْلَيْنِ ( وَقَوْلُ الْبَعْضِ ) مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ( يُخَيَّرُ الْمُتَّبِعُ فِي الْعَمَلِ ) بِأَيِّهِمَا شَاءَ ( لَيْسَ خِلَافًا ) لِمَا قَبْلَهُ ( بَلْ ) هُوَ ( مَحِلٌّ آخَرُ ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ لَا التَّرْجِيحِ ) لِأَحَدِهِمَا فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ ( وَفِي بَعْضِهَا ) أَيْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ ( إنْ لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخٌ ) لِلْقَوْلَيْنِ ( فَإِنْ نُقِلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ ( مَا يُقَوِّيهِ فَهُوَ ) أَيْ ذَلِكَ الْمُقَوَّى هُوَ ( الصَّحِيحُ عِنْدَهُ ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ ( وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مَا يُقَوِّي أَحَدَهُمَا ( إنْ كَانَ ) أَيْ وُجِدَ ( مُتَّبِعٌ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ ) فِي الْمَذْهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ ( رَجَّحَ بِمَا مَرَّ مِنْ الْمُرَجِّحَاتِ إنْ وَجَدَ وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يَجِدْ ( يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا اتَّبَعَ فَتْوَى الْمُفْتِي فِيهِ الْأَتْقَى الْأَعْلَمِ بِالتَّسَامُعِ ، وَإِنْ ) كَانَ ( مُتَفَقِّهًا تَبِعَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعَمِلَ بِمَا

هُوَ أَصْوَبُ وَأَحْوَطُ عِنْدَهُ ) .
وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّهُ إنْ نُقِلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ قَوْلَانِ مُتَنَافِيَانِ فَلَهُ حَالَانِ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ كَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَا مُرَادَيْنِ لَهُ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ ، فَإِنْ ذَكَرَ عَقِبَ أَحَدِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَتِهِ كَهَذَا أَشْبَهُ ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ وَحِينَئِذٍ فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ بِقَوْلَيْنِ احْتِمَالَهُمَا لِوُجُودِ دَلِيلِينَ مُتَسَاوِيَيْنِ ، أَوْ مَذْهَبُهُمْ لِمُجْتَهِدَيْنِ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ يَنُصَّ فِي كِتَابٍ عَلَى إبَاحَةِ شَيْءٍ وَفِي آخَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا ، وَإِلَّا حُكِيَ عَنْهُ الْقَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالرُّجُوعِ .
( وَإِذْ نُقِلَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِيهَا قَوْلَانِ ) كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ ، أَوْ فِي بِضْعَ عَشَرَةَ سِتَّ عَشَرَةَ ، أَوْ سَبْعَ عَشَرَةَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ ، أَوْ فِي سِتَّ عَشَرَةَ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، أَوْ فِيمَا لَا يَبْلُغُ عَشْرًا كَمَا نَقَلَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ ( حُمِلَ عَلَى أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ ) فِيهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِذَا ، وَبَعْضُهُمْ بِذَا فَيُحْكَى قَوْلُهُمْ وَفَائِدَتُهُ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ مِنْ أَرَادَ مِنْ الْمُجْتَهِدَيْنِ الذَّهَابَ إلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَقِيلَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهُمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ فَيَطْلُبُ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا ( أَوْ يَحْتَمِلُهُمَا ) لِوُجُودِ تَعَادُلِ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعُهُ

وَقِيلَ : يَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ ، وَرُجُوعُهُ عَنْ الْآخَرِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ دُونَ نِسْبَتِهِمَا جَمِيعًا وَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ كَالنَّصَّيْنِ إذَا عَلِمْنَا نَسْخَ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَهَذَا قَوْلُ الْآمِدِيِّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ عَمَلِ الْفُقَهَاءِ ( أَوْلَى فِيهَا ) قَوْلَانِ ( عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ عِنْدَ التَّعَادُلِ ) بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ وَتَعَقَّبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدَيْنِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ مِنْهُ بِالتَّخْيِيرِ وَأَيْضًا فَيَكُونُ الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَيَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا ( أَوْ تَقَدَّمَا ) أَيْ الْقَوْلَانِ ( لِي ) فَيَحْكِي قَوْلَيْهِ الْمُرَتَّبِينَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَعِنْدِي أَنَّهُ حَيْثُ نَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَذْهَبٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا لِيَتَرَوَّى فِيهِمَا وَعَدَمُ اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ رُتْبَةِ الرَّجُلِ وَتَوَسُّعِهِ فِي الْعِلْمِ وَعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَشْبَاهِ ، فَإِنْ قِيلَ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ إذْ لَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ وَلَا قَوْلَانِ عَلَى هَذَا قُلْنَا : هَكَذَا نَقُولُ وَلَا نَتَحَاشَا مِنْهُ ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ ذِكْرُهُ لَهُمَا وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهِمَا وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( تَنْبِيهٌ ) ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقَوْلَيْنِ لِلْقَطْعِ فِيهِمَا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ لَا النَّاقِلِ ،

وَالِاخْتِلَافُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ بِالْعَكْسِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَلِيغِيُّ فِي الْغُرَرِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا الْغَلَطُ فِي السَّمَاعِ كَانَ يُجِيبُ بِحَرْفِ النَّفْيِ إذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ وَيَقُولُ : لَا يَجُوزُ فَيَشْتَبِهُ عَلَى الرَّاوِي فَيَنْقُلُ مَا سَمِعَ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ وَيَعْلَمُ بَعْضُ مَنْ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ رُجُوعَهُ فَيَرْوِي الثَّانِيَ ، وَالْآخَرُ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَرْوِي الْأَوَّلَ .
( قُلْت ) : وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَالَ الثَّانِي عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ ( قُلْت ) وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ تَعْيِينَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ غَالِبًا هُوَ الْأَوَّلَ غَالِبًا لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقِيَاسَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي مَسَائِلَ فَالْقِيَاسُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ ، وَالِاسْتِحْسَانُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ ، وَالْمَرْجُوعُ عَنْهُ قَبْلَ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ قَالَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ ، وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَسْمَعُ كُلٌّ كُلًّا فَيَنْقُلُهُ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ كِلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ فِي إحْدَاهُمَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ هِيَ مَاشِيَةٌ عَلَى إحْدَاهُمَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ وَالِاحْتِيَاطِ فَيَنْقُلُ كَمَا سَمِعَ .
( قُلْت ) : ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا فِيهِ رِوَايَتَانِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَارِدِ لَا أَنَّ كُلًّا مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِعَدَمِ اطِّرَادِ كُلِّ مَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ

أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ رِوَايَتَانِ صَالِحٌ لِأَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( مَسْأَلَةٌ لَا يُنْقَضُ حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ ) أَيْ مَا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دَلِيلُهُ ظَنِّيٌّ فَخَرَجَ الْعَقْلِيُّ ، وَاللُّغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَمَا دَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ ( صَحِيحٌ ) فَخَرَجَ غَيْرُهُ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ الْوَجْهَ إسْقَاطٌ ( إذَا لَمْ يُخَالِفْ مَا ذَكَرَ ) أَيْ الْكِتَابَ ، وَالسُّنَّةَ ، وَالْإِجْمَاعَ ، وَالْقِيَاسَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِقَطْعِيٍّ مِنْهَا وَيُنْقَضُ إذَا خَالَفَ قَطْعِيًّا مِنْهَا اتِّفَاقًا ، وَلَا يُنْقَضُ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَنِّيٍّ مِنْهَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّتْبَةِ ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمَ نَفْسِهِ بِأَنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ ، أَوْ حُكْمَ غَيْرِهِ بِأَنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ صَحَّ اجْتِهَادُهُ اتِّفَاقًا ( وَإِلَّا ) لَوْ نُقِضَ بِخِلَافِهِ ( نُقِضَ ) ذَلِكَ ( النَّقْضُ ) بِخِلَافِهِ أَيْضًا ( وَتَسَلْسَلَ ) إذْ يَجُوزُ نَقْضُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ النَّقْضُ ، وَهَكَذَا لَا إلَى نِهَايَةٍ ( فَيَفُوتُ نَصْبُ الْحَاكِمِ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ ) لِاضْطِرَابِ الْأَحْكَامِ وَعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهَا ثُمَّ كَذَا حَكَى الِاتِّفَاقَ الْمَذْكُورَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَلَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ تَجْوِيزُ ابْنِ الْقَاسِمِ نَقْضَ مَا بَانَ أَنَّ غَيْرَهُ صَوَابٌ ( وَفِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ حَكَمَ ) حَاكِمٌ مُجْتَهِدٌ ( بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ ، وَإِنْ ) كَانَ الْحَاكِمُ الْمُجْتَهِدُ ( مُقَلِّدًا فِيهِ ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مُجْتَهِدًا آخَرَ ( كَانَ ) ذَلِكَ الْحُكْمُ ( بَاطِلًا اتِّفَاقًا وَعُلِّلَ ) كَمَا فِي شَرْحِ الْعَضُدِ ( بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِظَنِّهِ وَعَدَمُ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ ) مَعَ اجْتِهَادِهِ ( إجْمَاعًا إنَّمَا الْخِلَافُ ) فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ ( قَبْلَهُ ) أَيْ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ ( عَلَى مَا مَرَّ ) فِيمَا قِيلَ قَبْلَهَا ( وَأَنْتَ عَلِمْت قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَفَاذِ قَضَائِهِ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ فَبَطَلَ ) اتِّفَاقُ ( عَدَمِ نَفَاذِهِ وَأَنَّ فِي التَّقْلِيدِ ) لِغَيْرِهِ ( بَعْدَ الِاجْتِهَادِ ) مِنْهُ ( رِوَايَتَيْنِ ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ

أَيْضًا ( ثُمَّ عَدَمُ حِلِّ التَّقْلِيدِ ) عَلَى مَا قِيلَ : إنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ( لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ النَّفَاذِ لَوْ اُرْتُكِبَ ) التَّقْلِيدُ ( فَكَمْ تَصَرُّفٍ لَا يَحِلُّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ صِحَّةُ وَنَفَاذُ الْآخَرِ ) كَعِتْقِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ( وَلِلشَّافِعِيَّةِ ) فَرْعٌ لَوْ تَزَوَّجَ ( مُجْتَهِدٌ ) امْرَأَةً ( بِلَا وَلِيٍّ ) بِنَاءً عَلَى جَوَازِهِ فِي اجْتِهَادِهِ ( فَتَغَيَّرَ ) اجْتِهَادُهُ بِأَنْ رَآهُ غَيْرَ جَائِزٍ ( فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا ) أَيْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالتَّحْرِيمِ أَمْ لَا ( لِأَنَّهُ مُسْتَدِيمٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا ) ، وَهُوَ بَاطِلٌ .
( وَقِيلَ ) يَحْرُمُ ( بِقَيْدِ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ ) أَيْ بِالْجَوَازِ ، فَإِنْ حَكَمَ بِهِ لَا يَحْرُمُ ( وَإِلَّا ) لَوْ حُرِّمَ بَعْدَ حُكْمِ حَاكِمٍ بِجَوَازِهِ ( نُقِضَ الْحُكْمُ ) الْجَوَازُ ( بِالِاجْتِهَادِ ) الْمُؤَدِّي إلَى التَّحْرِيمِ ، وَالْحُكْمُ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ ( وَلَوْلَا مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) مَا سَيَأْتِي ( لِحُكْمٍ بِأَنَّ ) هَذَا ( الْخِلَافَ خَطَأٌ وَأَنَّ الْقَيْدَ ) أَيْ عَدَمَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْجَوَازِ ( مُرَادُ الْمُطْلِقِ ) لِلتَّحْرِيمِ ( إذْ لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي ) الْمَسْأَلَتَيْنِ ( السَّابِقَتَيْنِ ) فِي مَسْأَلَةِ الْجُبَّائِيِّ وَنُسِبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ إلَخْ يَعْنِي فِي لُزُومِ حِلِّ ( الْمُجْتَهِدَةِ ) الْحَنَفِيَّةِ ( زَوْجَةِ الْمُجْتَهِدِ ) الشَّافِعِيِّ لَهُ وَحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ رَاجَعَهَا ( وَحِلُّهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مُجْتَهِدٌ بِلَا وَلِيٍّ ثُمَّ مُجْتَهِدٌ بِوَلِيٍّ ( لِلِاثْنَيْنِ ) أَيْ الْمُجْتَهِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ( وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخِلَافِ لَكِنْ عِنْدَهُ ) أَيْ أَبِي يُوسُفَ ( فِي مُجْتَهِدٍ طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى وَاحِدَةً فَقَضَى ) عَلَيْهِ ( بِثَلَاثٍ ) بِهَا ( إنْ كَانَ ) الْمُجْتَهِدُ ( مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَزِمَ ) أَيْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ ( أَوْ ) كَانَ مَقْضِيًّا ( لَهُ أَخَذَ بِأَشَدِّ الْأَمْرَيْنِ فَلَوْ قَضَى

بِالرَّجْعَةِ ) لَهُ ( وَمُعْتَقَدُهُ الْبَيْنُونَةُ يُؤْخَذُ بِهَا ) أَيْ بِالْبَيْنُونَةِ ( فَلَمْ يُرْفَعْ حُكْمُ رَأْيِهِ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ) ، فَإِنَّهُ قَالَ يُرْفَعُ مُطْلَقًا ( وَلَوْ أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ مُقَلِّدٌ ثُمَّ عَلِمَ تَغَيُّرَ اجْتِهَادِ إمَامِهِ فَالْمُخْتَارُ كَذَلِكَ ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ كَإِمَامِهِ ( وَلَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ عَمِلَ فِي الْبَاقِي ) مِنْ صَلَاتِهِ ( بِهِ ) أَيْ بِاجْتِهَادِهِ الثَّانِي ( وَالْأَصْلُ أَنَّ تَغَيُّرَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( كَحُدُوثِ النَّاسِخِ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالْمَاضِي عَلَى الصِّحَّةِ ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ التَّغْيِيرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْمُعَامَلَةِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ شَبَهُ النَّاسِخِ وَابْتَنَى عَلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ الصِّحَّةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي الْمُعَامَلَةِ فَسَادُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

( مَسْأَلَةٌ ) تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ التَّعْرِيضِ ( فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُخْتَارُ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ : اُحْكُمْ بِمَا شِئْت بِلَا اجْتِهَادٍ ، فَإِنَّهُ صَوَابٌ ) أَيْ مُوَافِقٌ لِحُكْمِي بِأَنْ يُلْهِمَهُ إيَّاهُ وَيَكُونَ حُكْمُهُ إذْ ذَاكَ مِنْ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ : هَذَا حَلَالٌ تَعْرِيفًا لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي الْأَزَلِ بِحِلِّهِ لَا أَنَّهُ يُنْشِئُ الْحُكْمَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُجْتَهِدِ مُوَافِقٌ لِلْآمِدِيِّ وَاِبْنِ الْحَاجِبِ ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْعَالِمِ ، وَالنَّبِيِّ كَالْبَيْضَاوِيِّ وَالسُّبْكِيِّ ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ ، وَإِنْ عَمَّ النَّبِيَّ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْعَالِمِ ثُمَّ عَلَى كُلٍّ يَخْرُجُ الْعَامِّيُّ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ جَوَازَهُ عَقْلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ قِيلَ لِلْإِجْمَاعِ وَقِيلَ لِفَضْلِ الْمُجْتَهِدِ وَإِكْرَامِهِ وَرُدَّ بِاسْتِوَاءِ الْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ هُنَا فِي الصَّوَابِ لِفَرْضِ أَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ صَوَابٌ وَطَرِيقُ وُصُولِهِ إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ إخْبَارُ النَّبِيِّ بِهِ وَقُيِّدَ بِلَا اجْتِهَادٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ جَائِزٌ لِلْعُلَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ ( وَتَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ ) فِي الْجَوَازِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ .
قِيلَ وَهُوَ فِي الرِّسَالَةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ وَقِيلَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ رُتْبَتَهُ لَا تَبْلُغُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الْجُبَّائِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ : لَا يَجُوزُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ : إنَّهُ الصَّحِيحُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ ( ثُمَّ الْمُخْتَارُ ) عِنْدَ

الْمُجِيزِينَ كَالْآمِدِيِّ وَاِبْنِ الْحَاجِبِ ( عَدَمُ الْوُقُوعِ وَاسْتَدَلُّوا لِلتَّرَدُّدِ بِتَأْدِيَتِهِ ) أَيْ الْجَوَازِ ( إلَى اخْتِيَارِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ) لِجَهْلِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ ( فَيَكُونُ بَاطِلًا ) ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) الدَّلِيلُ ( يَصْلُحُ لِلنَّفْيِ ) أَيْ نَفْيِ الْجَوَازِ ( لَا لِلتَّرَدُّدِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْوَقْفُ ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ يَتَرَدَّدُ فِي الْجَوَازِ ( وَالْفَرْضُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مَا تَحْكُمُ بِهِ صَوَابٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَقْلِ ) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ ( وَالْأَلْيَقُ أَنَّ تَرَدُّدَهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ ( فِي الْوُقُوعِ ) مَعَ الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ ( كَمَا نُقِلَ عَنْهُ ) وَفِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ نَقْلًا ( الْوُقُوعُ ) دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَحْرِيمُ يَعْقُوبَ مَا حَرَّمَ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا بِتَفْوِيضِ التَّحْرِيمِ إلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ الْمُحَرِّمُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى ( أُجِيبَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ ) أَيْ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ( عَنْ تَفْوِيضٍ ) إلَيْهِ فِيهِ ( لِجَوَازِهِ ) أَيْ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ ( عَنْ اجْتِهَادٍ فِي ظَنِّيٍّ ) وَإِسْنَادُ التَّحْرِيمِ إلَيْهِ مَجَازٌ كَمَا فِي نَحْوِ حَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ كَذَا وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَالتَّفْوِيضُ لَا يَقْتَضِي إسْنَادَ الْحُكْمِ إلَى الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَامَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَلَامُنَا فِي تَفْوِيضِ الْحُكْمِ إلَى الْمُجْتَهِدِ اخْتِيَارًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُسْتَنَدَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَا اجْتِهَادًا .
( وَقَدْ يُقَالُ : لَوْ ) كَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ( عَنْهُ ) أَيْ عَنْ اجْتِهَادٍ ظَنِّيٍّ ( لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ ) أَيْ الطَّعَامُ ( حِلًّا ) لِبَنِي إسْرَائِيلَ ( قَبْلَهُ ) أَيْ

إنْزَالِ التَّوْرَاةِ ( لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُظْهِرُ الْحُكْمَ لَا يُنْشِئُهُ لِقِدَمِهِ ) أَيْ الْحُكْمِ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ ( قَالَ ) الْقَائِلُ بِالْوُقُوعِ أَيْضًا ( قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ) : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ أَيْ لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهَا الرَّطْبُ وَلَا شَجَرُهَا ، وَالْإِذْخِرُ بِالذَّالِ ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ ، وَالْخَاءِ نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مَعْرُوفٌ ( وَمِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَكُونُ عَنْ وَحْيٍ لِزِيَادَةِ السُّرْعَةِ ) فِي الْجَوَابِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ عَلَامَاتِ نُزُولِهِ ( وَلَا اجْتِهَادٍ ) لِذَلِكَ أَيْضًا ( أُجِيبَ بِأَحَدِ أُمُورٍ : كَوْنُ الْإِذْخِرِ لَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْخَلَا أَيْ لَا يَصْلُحُ لَفْظُ الْخَلَا لَهُ لِيَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى إبَاحَتِهِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْحِلِّ ( وَاسْتِثْنَاءُ الْعَبَّاسِ مُنْقَطِعٌ ) ، وَهُوَ شَائِعٌ سَائِغٌ ، وَلَوْ مَجَازًا .
( وَفَائِدَتُهُ ) أَيْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا ( دَفْعُ تَوَهُّمِ شُمُولِهِ ) أَيْ الْإِذْخِرِ ( بِالْحُكْمِ ) الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ ( وَتَأْكِيدُ حَالِهِ ) أَيْ الْإِذْخِرِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ ( أَوْ ) كَوْنُ الْإِذْخِرِ ( مِنْهُ ) أَيْ الْخَلَا أَيْ يَصْلُحُ لَفْظُ الْخَلَالَةُ ( وَلَمْ يُرِدْهُ ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ خَلَاهَا بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِهِ مِنْهُ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ ( وَفَهِمَ ) الْعَبَّاسُ ( عَدَمَهَا ) أَيْ عَدَمَ إرَادَتِهِ مِنْهُ ( فَصَرَّحَ ) بِالْمُرَادِ الَّذِي هُوَ قَصْرُ اللَّفْظِ عَلَى الْبَعْضِ تَحْقِيقًا لِمَا فَهِمَهُ ( لِيُقَرِّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ) عَلَيْهِ فَقَالَ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ لِيُقَرِّرَ مَا فَهِمَهُ لَا لِيَخْرُجَ مِنْ لَفْظِ خَلَاهَا الْمَذْكُورِ بَعْضُ مَا هُوَ دَاخِلٌ بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ غَيْرُ دَاخِلٍ بِحَسَبِ الْحُكْمِ ( وَأُورِدَ إذَا لَمْ يُرِدْ ) الْإِذْخِرَ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْخَلَا ( فَكَيْفَ يُسْتَثْنَى ) إذْ الْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ غَيْرَ مُرَادٍ بِحَسَبِ الْحُكْمِ ( أُجِيبَ بِأَنَّهُ ) أَيْ إلَّا الْإِذْخِرَ ( لَيْسَ ) مُسْتَثْنًى ( مِنْ ) الْخَلَا ( الْمَذْكُورِ بَلْ مِنْ مِثْلِهِ مُقَدَّرًا ) فَكَأَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إلَّا الْإِذْخِرَ وَقَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إلَّا الْإِذْخِرَ فَالِاسْتِثْنَاءُ ، وَالتَّقْرِيرُ مِنْ خَلَاهَا الْمُقَدَّرِ لَا الْمَذْكُورِ وَاَلَّذِي سَوَّغَ لِلْعَبَّاسِ تَقْدِيرَ التَّكْرِيرِ اتِّحَادُ مَعْنَى قَوْلِهِمَا لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِذْخِرُ مُرَادًا مِنْهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا السُّؤَالُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ ) فِي بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ ( مِنْ اخْتِيَارِ أَنَّ الْمَخْرَجَ ) مِنْ الصَّدْرِ ( مُرَادٌ بِالصَّدْرِ بَعْدَ دُخُولِهِ ) أَيْ الْمَخْرَجِ ( فِي دَلَالَتِهِ ) أَيْ الصَّدْرِ عَلَيْهِ ( ثُمَّ أَخْرَجَ ) الْمَخْرَجَ مِنْ الصَّدْرِ ( ثُمَّ أَسْنَدَ ) الْحُكْمَ إلَى الصَّدْرِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ ( وَنَحْنُ وَجَّهْنَا قَوْلَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَخْرَجَ ( لَمْ يُرَدْ ) بِالصَّدْرِ ( وَإِلَّا قَرِينَةُ عَدَمِ الْإِرَادَةِ ) مِنْهُ ( كَمَا هُوَ بِسَائِرِ التَّخْصِيصَاتِ فَلَا حَاجَةَ لِلسُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ هَذَا الْجَوَابِ وَإِمَّا مِنْهُ ) ، وَالْأَحْسَنُ ، أَوْ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْخَلَا أَيْ يَصْلُحُ لَفْظُهُ لَهُ ( وَأُرِيدَ ) الْإِذْخِرُ ( بِالْحُكْمِ ) الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ أَيْضًا ( ثُمَّ نُسِخَ ) تَحْرِيمُهُ ( بِوَحْيٍ كَلَمْحِ الْبَصَرِ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ إلْهَامُهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَحْيٌ ، وَهُوَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ مَعْنًى فِي

الْقَلْبِ دُفْعَةً ) بِلَا وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَلَا إشَارَتِهِ مَقْرُونٌ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّهُ مِنْهُ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ اكْتِفَاءً بِتَقَدُّمِهِ ، وَظُهُورُ الْعَلَامَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَحْيِ الْمُنْدَرِجِ لَا فِيمَا هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ ، أَوْ كَانَ إلْهَامًا ( وَأَوْرَدَ : الِاسْتِثْنَاءُ يَأْبَاهُ ) أَيْ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِوَحْيٍ كَلَمْحِ الْبَصَرِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْحُكْمِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَنْسُوخِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ قَبْلَ النَّسْخِ .
( أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ مُقَدَّرٍ لِلْعَبَّاسِ ) مِثْلُ الْمَذْكُورِ كَمَا ذَكَرْنَا ( لَا مِمَّا ذَكَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالنَّسْخُ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَعَ ذِكْرِ الْعَبَّاسِ فَذِكْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَبَّاسِ ( ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنْ اسْتِثْنَاءَ الْعَبَّاسِ مِنْ مُقَدَّرٍ ) مِثْلِ الْمَذْكُورِ ( عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ اسْتِثْنَاءَ الْعَبَّاسِ ( تَرْكِيبُ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ ، وَوَحْدَةُ الْمُتَكَلِّمِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ لِاشْتِمَالِهِ ) أَيْ الْكَلَامِ ( عَلَى النِّسْبَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُهَا بِنَفْسِهَا بِمَحِلَّيْنِ ، وَمِنْهُ ) أَيْ وَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّانِي ) أَيْ إنَّ الْإِذْخِرَ مِنْ الْخَلَا وَلَمْ يُرَدْ مِنْهُ .
( قَالُوا ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ أَيْضًا ( قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ } أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ جَزْمًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَأَضَافَ الْأَمْرَ إلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ وَعَدَمَهُ إلَيْهِ ( وَقَالَ ) أَيْضًا : ( لِقَائِلٍ { أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ لِلْأَبَدِ ، وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَ } ) كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُ خَافٍ

أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى لَفْظِ " فَقَالَ " ثُمَّ الْحَدِيثُ لَمْ يُحْفَظْ بِهَذَا السِّيَاقِ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ مُلَفَّقٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعًا لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ، وَفِيهِ فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ : أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ } ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَأَخْرَجَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ فَسَكَتَ ثُمَّ أَعَادَ فَسَكَتَ ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالرَّجُلُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ الْمُجَرَّدَ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ يُوجِبُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ( وَلَمَّا { قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بِأَمْرِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ بِالصَّفْرَاءِ فِي مَرْجِعِهِ مِنْ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ صَبْرًا ثُمَّ سَمِعَ مَا أَنْشَدَتْهُ أُخْتُهُ قَتِيلَةٌ } عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ هِشَامٍ ، وَالْيَعْمُرِيُّ .
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّهَا بِنْتُ النَّضْرِ كَذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْدِيُّ وَوَقَعَ فِي الدَّلَائِلِ وَمَشَى عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ فِي التَّجْرِيدِ ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْآمِدِيُّ ، وَالرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُمَا ( مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمُغِيظُ الْمُحْنَقُ فِي أَبْيَاتٍ ) سَابِقَةٍ عَلَى هَذَا هِيَ يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً

مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفُقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ هَلْ يَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ يَا خَيْرَ ضِنْءِ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرَقُ وَلَاحِقَةٍ لَهُ وَهِيَ ، أَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلَيُنْفِقَن بِأَعَزِّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْت قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبًا رَسْفَ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ عَارٍ مُوثَقُ الْأَثِيلُ مَوْضِعُ قَبْرِ أَخِيهَا بِالصَّفْرَاءِ وَمَعْنَى مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ أَيْ لَيْلَةٍ خَامِسَةٍ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِمَكَّةَ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَثِيلِ هَذِهِ الْمَسَافَةُ وَتَخْفُقُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا تَضْطَرِبُ ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَمُحَمَّدٌ لِلنِّدَاءِ ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ وَضِنْءٌ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا مَعَ هَمْزَةٍ آخِرَهُ الْوَلَدُ الَّذِي يُضَنُّ بِهِ أَيْ يُبْخَلُ بِهِ لِعِظَمِ قَدْرِهِ وَأُعْرِقَ فَهُوَ مُعْرَقٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا أَيْ لَهُ عِرْقٌ فِي الْكَرَمِ وَعَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ بِمَعْنَى أُنْتِجَ ، وَالْمَعْنَى أَنْتَ كَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ وَمَا نَافِيَةٌ ، أَوْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَضُرُّك لَوْ عَفَوْت ، وَالْفَتَى وَإِنْ كَانَ مُغْضَبًا مُضْجَرًا مَطْوِيًّا عَلَى حَنَقٍ وَحِقْدٍ وَعَدَاوَةٍ قَدِيمَةٍ وَيَعْفُو وَفِي هَذَا اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ .
{ قَالَ لَوْ بَلَغَنِي هَذَا الشَّعْرُ قَبْلَ قَتْلِهِ لَمَنَنْت عَلَيْهِ } وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ { فَرَقَّ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ لَوْ سَمِعْت شِعْرَهَا مَا قَتَلْت أَبَاهَا } وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِأَنَّهَا ابْنَتُهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ وَعَدَمُهُ إلَيْهِ لَمْ يُفَرِّقْ الْحَالُ بَيْنَ بُلُوغِ شِعْرِهَا إلَيْهِ وَعَدَمِ

بُلُوغِهِ .
( أُجِيبَ بِجَوَازِ كَوْنِهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( خُيِّرَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثَةِ ( مُعَيِّنًا ) أَيْ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي إيجَابِ السُّؤَالِ وَعَدَمِهِ وَتَكْرَارِ الْحَجِّ وَعَدَمِهِ وَقَتْلِ النَّضْرِ وَعَدَمِهِ ( أَوْ ) كَوْنِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِيهَا ( بِوَحْيٍ سَرِيعٍ ) لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِيعَابِ قَالَ الزُّبَيْرُ وَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَغْمِزُ أَبْيَاتَهَا وَيَذْكُرُ أَنَّهَا مَصْنُوعَةٌ وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : أَمَّا قَضِيَّةُ النَّضْرِ فَقَدْ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسَارَى ، وَالتَّخْيِيرُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ اتِّفَاقًا بَلْ هَذَا التَّخْيِيرُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ إمَامٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلْأَقْرَعِ : لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَ فَمَدْلُولُهُ الْوُجُوبُ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ نَعَمْ وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ نَعَمْ إلَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا وَقَوْلُهُ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَوْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الشَّرْطِ الَّذِي فِيهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي } فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ فَلَمَّا وَجَدَ الْمَشَقَّةَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ انْتَهَى قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا يَخْفَى أَنَّ ) الْجَوَابَ ( الْأَوَّلَ رُجُوعٌ عَنْ الدَّعْوَى ، وَهُوَ ) أَيْ الدَّعْوَى ( أَنَّهُ ) أَيْ التَّفْوِيضُ ( لَمْ يَقَعْ وَاعْتِرَافٌ بِالْخَطَأِ ) فِي نَفْيِ الْوُقُوعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَافِيهِ ( فَالْحَقُّ أَنَّهُ ) أَيْ التَّفْوِيضُ ( وَقَعَ وَلَا يُنَافِي ) وُقُوعَهُ ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مُتَعَبَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ) أَيْ مَأْمُورٌ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ

حُضُورِ الْوَاقِعَةِ وَعَدَمِ النَّصِّ ( ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ التَّفْوِيضِ فِي أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يُنَافِيهِ ) أَيْ كَوْنَهُ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ وُقُوعُهُ فِي الْكُلِّ ( وَإِذَنْ فَكَوْنُهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَذَلِكَ ) أَيْ فُوِّضَ إلَيْهِ ( فِي الْإِذْخِرِ ) فَيُجَابُ بِهِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْوُقُوعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمُدَّعَى إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ بَلْ وَلَا فِي جُزْئِيَّاتٍ خَاصَّةٍ ثُبُوتُهُ كُلِّيًّا ( أَسْهَلُ مِمَّا تَكَلَّفَ ) فِي أَجْوِبَتِهِ مِنْ الْوَحْيِ ، أَوْ النَّسْخِ الَّذِي كَلَمْحِ الْبَصَرِ الْمُقَارِنِ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْحَادِثَةَ لَا يَرْتَسِمُ فِيهَا الْمَعَانِي الْمُتَبَايِنَةُ دُفْعَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ ( وَأَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ ) .
قُلْت : غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُصَنَّفَ يُوهِمُ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ كَوْنُ مَحِلِّ النِّزَاعِ هُوَ الْوُقُوعَ كُلِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَنَازَعُ فِي جَوَازِهِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي وُقُوعِهِ ثَانِيًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ مَانِعِيهِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ لَا جَوَازُ التَّفْوِيضِ فِي الْجُمْلَةِ أَوَّلًا ثُمَّ وُقُوعُهُ ثَانِيًا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ وَعَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ مَانِعِيهِ وَحِينَئِذٍ فَالْحَقُّ الْأَبْلَجُ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ الْوُقُوعُ بِثُبُوتِ سَمْعٍ يُفِيدُهُ الْمُكَلَّفُ ، أَوْ مُجْتَهِدٌ ، أَوْ بُنِيَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ ، وَالْقَطْعُ بِانْتِفَائِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَالظَّاهِرُ انْتِفَاؤُهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ مَعَ مَا يَشُدُّهُ مِنْ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ مِنْ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ وُقُوعُهُ فِي جُزْئِيَّاتٍ خَاصَّةٍ عَنْ وُقُوعِهِ لَهُ كُلِّيًّا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ هَذَا وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنْ أَوْرَدَهَا

مُتَكَلِّمُو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بِمَعْرُوفَةٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوجَدْ وَلَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ فَقَدْ وُجِدَ انْتَهَى ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ ) كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ ( خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ ) وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْدِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَنْعِ الْخُلُوِّ عَنْهُ مُطْلَقًا وَلِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي مَنْعِهِ الْخُلُوَّ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَدَاعَ الزَّمَانُ بِتَزَلْزُلِ الْقَوَاعِدِ ، فَإِنْ تَدَاعَى بِأَنْ أَتَتْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ الْكُبْرَى جَازَ الْخُلُوُّ عَنْهُ ( قُلْت ) : وَمَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يُخَالِفُ فِي هَذَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُطْلِقِينَ الْمَنْعَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونَ هَذَا ( لَنَا لَا مُوجِبَ ) لِمَنْعِهِ .
( وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ) أَيْ عَدَمُ مُوجِبِ الْمَنْعِ ( بَلْ دَلَّ عَلَى الْخُلُوُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ } وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ ، أَوْ حَتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ ، أَوْ رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا } ) رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَالسِّتَّةُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالْمُرَادُ بِرَفْعِ الْعِلْمِ قَبْضُهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْحَنَابِلَةُ أَوَّلًا ( قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِدُونِ لَفْظِ عَلَى الْحَقِّ وَابْنُ وَهْبٍ بِلَفْظِ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ، أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ ( أَوْ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ ) قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ رَوَيْنَا مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إيَاسٍ الْمُزَنِيّ بِلَفْظِ

حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو إسْمَاعِيلَ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَهِيَ لَفْظَةٌ شَاذَّةٌ فَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَصَرَّحَ بِعَدَمِ الْخُلُوِّ إلَى الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ طَائِفَةٍ عَلَى الْحَقِّ فِي عَصْرٍ مُسْتَلْزِمٌ وُجُودَ الْعِلْمِ ، وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْحَقِّ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْعِلْمِ فَيَكُونُ الْمُجْتَهِدُ مَوْجُودًا فِي كُلِّ عَصْرٍ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( أُجِيبَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ أَعَمُّ مِنْ الضَّرُورِيَّةِ ، وَالْعَامُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَاصَّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَهُمْ ) أَيْ الْحَنَابِلَةِ ( لَا يَقَعُ ) خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ ( وَإِلَّا لَزِمَ كَذِبُهُ ) لَوْ وَقَعَ ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ( وَالْحَدِيثُ يُفِيدُهُ ) أَيْ عَدَمَ الْوُقُوعِ ( إذْ لَا يَتَأَتَّى لِعَاقِلٍ إحَالَتُهُ ) أَيْ الْخُلُوِّ ( عَقْلًا فَالْوَجْهُ التَّرْجِيحُ بِأَظْهَرِيَّةِ الدَّلَالَةِ ) لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الدَّالِّ عَلَى الْخُلُوِّ ( عَلَى نَفْيِ الْعَالِمِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمُجْتَهِدِ ) فَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمُجْتَهِدِ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْخَاصِّ ( بِخِلَافِ الظُّهُورِ عَلَى الْحَقِّ ) ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُجْتَهِدِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الظُّهُورَ عَلَى الْحَقِّ الْأَعَمُّ مِنْ الِاجْتِهَادِ ( يَتَحَقَّقُ دُونَ اجْتِهَادٍ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِإِرَادَةِ الِاتِّبَاعِ ، وَلَوْ تَعَارَضَا ) أَيْ مَا يُوجِبُ الْخُلُوَّ ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَمَا يُوجِبُ عَدَمَهُ ، وَهُوَ الثَّانِي وَتَسَاقَطَا ( بَقِيَ عَدَمُ الْمُوجِبِ ) لِوُجُودِ الْمُجْتَهِدِ فَجَازَ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُوجِدَهُ لِعَدَمِ إخْبَارٍ مِنْهُ بِلَا مُعَارِضٍ أَنَّهُ يُوجِدُهُ أَلْبَتَّةَ ( قَالُوا ) ثَانِيًا الِاجْتِهَادُ ( فَرْضُ كِفَايَةٍ فَلَوْ خَلَا ) الزَّمَانُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ ( اجْتَمَعُوا ) أَيْ الْأُمَّةُ .
( عَلَى الْبَاطِلِ ) ، وَهُوَ مُحَالٌ ( أُجِيبَ إذَا فُرِضَ

مَوْتُ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَبْقَ ) فَرْضًا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الْإِمْكَانُ ، وَإِذَا فُرِضَ الْخُلُوُّ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا مَقْدُورًا ( عَلَى أَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلَ ( فِي غَيْرِ مَحِلِّ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ الِاجْتِهَادُ بِالْفِعْلِ ) أَيْ تَحْصِيلِ الْمُكَلَّفِ مَرْتَبَتَهُ ، وَهُوَ مُمْكِنٌ لِلْعَوَامِّ ، وَمَحِلُّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ حُصُولُهُ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُنَافِي لِخُلُوِّ الزَّمَانِ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَا الْإِمْكَانُ ، وَالْقُدْرَةُ هَذَا وَقَوْلُ السُّبْكِيّ لَمْ يُثْبِتْ وُقُوعَ خُلُوِّ الزَّمَانِ مِنْ الْمُجْتَهِدِ إنْ أَرَادَ الْمُطْلَقَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ فَمُتَعَقَّبٌ بِقَوْلِ الْقَفَّالِ وَالْغَزَالِيِّ الْعَصْرُ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَبِقَوْلِ الرَّافِعِيِّ الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَبِمَا فِي الْخُلَاصَةِ الْقَاضِي إذَا قَاسَ مَسْأَلَةً عَلَى مَسْأَلَةٍ فِي حُكْمٍ فَظَهَرَ رِوَايَةً أَنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ فَالْخُصُومَةُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْقَاضِي وَعَلَى الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ آثِمٌ بِالِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا ، وَالْمُدَّعِي آثِمٌ بِأَخْذِ الْمَالِ وَمَا قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُجْتَهِدُ الْقَائِمُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عَنْهُ وَلَا يَلِي فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا مَنْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ : تَسْأَلُ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي وَقَالَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ بَلَغَا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَغَيْرُ

ظَاهِرٍ بَلْ كَلَامُ بَعْضِهِمْ نَابَ عَنْهُ كَمَا رَأَيْت ثُمَّ بَعْدَ تَمْشِيَتِهِ عَلَى مَا فِيهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ عَصْرٌ مِنْ الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ مِنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ عَصْرٌ مِنْ الْأَعْصَارِ الْآتِيَةِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

( مَسْأَلَةُ التَّقْلِيدِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إحْدَى الْحُجَجِ ) الْأَرْبَعِ الشَّرْعِيَّةِ ( بِلَا حُجَّةٍ مِنْهَا فَلَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ التَّقْلِيدِ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مِنْ الْحُجَجِ الْأَرْبَعِ ، وَكَذَا لَيْسَ مِنْهُ عَلَى هَذَا عَمَلُ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْمُفْتِي وَعَمَلُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الْعُدُولِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إحْدَى الْحُجَجِ فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِهِ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِإِيجَابِ النَّصِّ أَخْذَ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْمُفْتِي وَأَخْذَ الْقَاضِي بِقَوْلِ الْعُدُولِ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضَ لَهُمَا لِظُهُورِهِمَا بَلْ عَلَى هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ تَقْلِيدٌ فِي الشَّرْعِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّ حَاصِلَهُ اتِّبَاعُ مَنْ لَمْ يَقُمْ حُجَّةً بِاعْتِبَارِهِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إمَّا مُجْتَهِدٌ فَمُتَّبِعٌ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ فَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِهِ كَمَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَوْ جَازَ تَسْمِيَةُ الْعَامِّيِّ مُقَلِّدًا جَازَ تَسْمِيَةُ الْمُجْتَهِدِ مُقَلِّدًا ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ ثُمَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالرُّويَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَإِنَّمَا صُورَةُ الْأَخْذِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُورَةُ التَّقْلِيدِ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ حَقِيقَةً بَلْ نَقَلَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَمَنَعَ بِقَوْلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَا نَصُّهُ فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ .
ا هـ .
وَكَوْنُ مُرَادِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ التَّقْلِيدِ كَمَا ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ خِلَافُ الظَّاهِرِ بَلْ خَطَّأَ الْمَاوَرْدِيُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ ا هـ .
نَعَمْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُوَ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ يَهُونُ مَوْقِعُهَا عِنْدَ ذَوِي التَّحْقِيقِ وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُقَلِّدٌ لِلْمُجْتَهِدِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَنْهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ الْمَشْهُورُ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدَيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ أَوْ إلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى مَا شَاءَ بَعْدَ رِعَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( بَلْ الْمُجْتَهِدُ وَالْعَامِّيُّ إلَى مِثْلِهِ ، وَإِلَى الْمُفْتِي ) أَيْ بَلْ التَّقْلِيدُ رُجُوعُ الْمُجْتَهِدِ إلَى مِثْلِهِ وَالْعَامِّيِّ إلَى مِثْلِهِ ، وَإِلَى الْمُفْتِي أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ ( هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ تَقْلِيدِ عَامَّةِ مِصْرَ الشَّافِعِيَّ وَنَحْوَهُ ) وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ كَمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِأَخْذِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ فَخَرَجَ أَخْذُهُ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ بِهِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَخْذٌ مِنْ الدَّلِيلِ لَا مِنْ الْمُجْتَهِدِ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّ أَخْذَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الدَّلِيلِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُجْتَهِدِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ سَلَامَتِهِ مِنْ الْمُعَارِضِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنْهُ ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الْمُجْتَهِدُ بَقِيَ أَخْذُ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ الْعَامِّيِّ فَجَزَمَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا

يُسَمَّى تَقْلِيدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ .
قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا فِي الرُّجُوعِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ إلَى الْعَامِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا نَعَمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ ثُمَّ قِيلَ عَلَى هَذَا يُسَمَّى الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا إذَا قُلْنَا كَانَ يَقُولُ عَنْ قِيَاسٍ أَيْضًا وَلَمْ يَدْرِ قَالَ ذَلِكَ عَنْ وَحَيٍّ أَوْ قِيَاسٍ قُلْت وَحَيْثُ كَانَ الْمُسَوِّغُ لِتَسْمِيَتِهِ تَقْلِيدًا عَدَمَ الْعِلْمِ بِأَخْذِهِ مِنْ الْوَحْيِ عَيْنًا وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ لِلْوَحْيِ ، وَأَنَّهُ وَحَيٌّ بَاطِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فَلَا يُسَمَّى تَقْلِيدَ التَّعَيُّنِ كَوْنُهُ عَنْ الْوَحْيِ هَذَا ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الرَّأْيُ فَيَشْمَلُ مَا كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ التَّفْتَازَانِيِّ وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مَا يَعُمُّ الْفِعْلَ وَالتَّقْرِيرَ تَغْلِيبًا وَقَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ هُوَ أَعَمُّ مِنْ اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ خُرُوجِ الْأَخْذِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ عَنْهُ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَأْخُوذُ بِهِ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَأْخُوذِ عَنْهُ لِيَخْرُجَ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْمَأْخُوذِ عَنْهُ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَانَ الْوَجْهُ جَعْلَ الْمُعَرَّفِ بِمَا ذُكِرَ التَّقَلُّدُ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُقَلِّدَ ( جَعَلَ قَوْلَهُ ) أَيْ مَنْ قَلَّدَهُ ( قِلَادَةً ) فِي عُنُقِهِ وَهَذَا تَقَلُّدٌ لَا تَقْلِيدٌ ( فَتَصْحِيحُهُ ) أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ ( جَعَلَ عَمَلَهُ قِلَادَةَ إمَامِهِ ) الَّذِي قَلَّدَهُ فَكَأَنَّهُ يُطَوِّقُهُ مَا فِيهِ مِنْ تَبِعَةٍ إنْ كَانَتْ .
( وَالْمُفْتِي الْمُجْتَهِدُ وَهُوَ الْفَقِيهُ ) أَيْضًا اصْطِلَاحًا أُصُولِيًّا كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي

أَوَائِلِ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ جَازَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمُ فَاعِلٍ فَلَا جَرَمَ إنْ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ مَوْضُوعُ هَذَا الِاسْمِ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمْ يُوضَعَ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا .
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : الْمُفْتِي مَنْ اُسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عَنْ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ .
وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكَرِ فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ السُّنَّةِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ آثَمُ مِنْ الْأَوَّلِ ا هـ .
وَفِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ يَحْرُمُ تَسَاهُلُ الْمُفْتِي وَتَقْلِيدٌ مَعْرُوفٌ بِهِ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلْهِنْدِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ثِقَةً حَتَّى يُوثَقَ بِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ا هـ .
يَعْنِي فَهَذَا مِنْ شَرْطِ قَبُولِ فَتْوَاهُ لَا مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَالْكِفَايَةُ ، وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هَذِهِ الْخِصَالُ مُسْتَحَبَّةٌ فَيَقْصِدُ الْإِرْشَادَ ، وَإِظْهَارَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَالتَّنْوِيهَ بِاسْمِهِ ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ يُرَغِّبُ الْمُسْتَفْتِيَ وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَالْكِفَايَةِ لِئَلَّا يَنْسُبُهُ النَّاسُ إلَى التَّكَسُّبِ بِالْعِلْمِ

وَأَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ قَوْلُهُ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ تَحْتَمِلُ حَالَ الرُّوَاةِ وَتَحْتَمِلُ حَالَ الْمُسْتَفْتِينَ فَالْفَاجِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّخَصَ فَلَا يُفْتِيهِ بِالْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَسْكَرُ ، وَالْحَقُّ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ أَنَّ الْخَصْلَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ ، وَلِلْمُفْتِي رَدُّ الْفَتْوَى وَفِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ أَهْلٌ لَهَا شَرْعًا خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ جَوَابُ مَا لَمْ يَقَعْ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ السَّائِلُ وَلَا يَنْفَعُهُ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَحْرُمُ إلْقَاءُ عِلْمٍ لَا يَحْتَمِلُهُ وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَا يَنْبَغِي .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَمُسْلِمُونَ هُمْ فَقَالَ لِلسَّائِلِ أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ ذَا وَيُفْتَى أَخْرَسُ بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ ، وَكَانَ السَّلَفُ يَهَابُونَ الْفُتْيَا وَيُشَدِّدُونَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَهَا وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَتَكَلَّمُ وَإِنَّهُ لَيَرْعَدُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْمُوَفَّقِ إذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ قَلْبِهِ الِافْتِقَارَ الْحَقِيقِيَّ الْحَالِيَّ لَا الْعِلْمِيَّ الْمُجَرَّدَ إلَى مُلْهِمِ

الصَّوَابِ وَمُعَلِّمِ الْخَيْرِ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ طُرُقَ السَّدَادِ وَأَنْ يَدُلَّهُ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَجْدَرَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ أَنْ لَا يَحْرِمَهُ إيَّاهُ ( وَالْمُسْتَفْتِي مَنْ لَيْسَ إيَّاهُ ) أَيْ مُفْتِيًا ( وَدَخَلَ ) فِي الْمُسْتَفْتَى ( الْمُجْتَهِدُ فِي الْبَعْضِ ) مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ ( بِالنِّسْبَةِ إلَى ) الْمُجْتَهِدِ ( الْمُطْلَقِ ) نَعَمْ حَيْثُ قُلْنَا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مُسْتَفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ حِفْظُ الْأَدَبِ مَعَ الْمُفْتِي ، وَإِجْلَالُهُ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَتَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ السُّؤَالِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } الْآيَةَ { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } وَفِي لَفْظٍ { إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ذَلِكَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : كَرِهَ السَّلَفُ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا قَالَ سُدِّدَ وَوُفِّقَ ، وَإِنَّكُمْ إنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتُ بِكُمْ السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا } وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَلَهُ أَيْضًا وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا { نَهَى عَنْ الْغُلُوطَاتِ } قِيلَ بِفَتْحِ

الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَأَحَدُهَا غَلُوطَةٌ ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا وَأَصْلُهَا الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ هِيَ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ : وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُغَلِّطُونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعَضْلِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي } .
وَقَالَ الْحَسَنُ شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ شِدَادَ الْمَسَائِلِ يُغَمُّونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ فَلَقَدْ رَأَيْتَهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَهَى السَّلَفُ عَنْهَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( وَالْمُسْتَفْتَى فِيهِ ) الْأَحْكَامُ ( الْفَرْعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْعَقْلِيَّةُ وَلِذَا ) أَيْ كَوْنِ الْمُسْتَفْتَى فِيهِ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا عَقْلِيًّا ( صَحَّحْنَا إيمَانَ الْمُقَلِّدِ ، وَإِنْ أَثَّمْنَاهُ ) بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الْعَقْلِيُّ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفْتًى فِيهِ لَمْ يُصْحَحْ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْعَقَائِدِ وَأَمْرُ الْقَوَاعِدِ الْمُتَظَافِرُ عَلَى ثُبُوتِهِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالنَّقْلِيُّ الْقَطْعِيُّ نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ تَجْوِيزِ شُبْهَةٍ فَلَا جَرَمَ إنْ قَالَ صَاحِبُ الصَّحَائِفِ مِنْ اعْتَقَدَ أَرْكَانَ الدِّينِ تَقْلِيدًا فَإِنْ اعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ جَوَازَ شُبْهَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَقِيلَ مُؤْمِنٌ ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقِيلَ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ إلَّا بَعْدَ عِرْفَانِ الْأَدِلَّةِ

وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ .
ا هـ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ( فَمَا يَحِلُّ الِاسْتِفْتَاءُ فِيهِ ) الْأَحْكَامُ ( الظَّنِّيَّةُ لَا الْعَقْلِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ ) فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ بَلْ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ ( لَا قَصْرَ صِحَّتِهِ ) أَيْ الْمُسْتَفْتَى فِيهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّقْلِيدُ ( عَلَى ) الْأَحْكَامِ ( الظَّنِّيَّةِ ) بَعْدَ قَوْلِهِ إنْ أَثَّمْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ ( كَوُجُودِهِ تَعَالَى ) مِثَالٌ لِمَا هُوَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَمُقَابِلِ الصَّحِيحِ ( وَقِيلَ يَجِبُ ) التَّقْلِيدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ ( وَيَحْرُمُ النَّظَرُ ) وَالْبَحْثُ فِيهَا وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرِ ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْأَحْوَذِيِّ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ .
قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا تُوُهِّمَ عَنْهُمْ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ وَلَكِنَّ مَنْ تَتْبَعَ حَالَهُمْ عَلِمَ أَنَّ نَهْيَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خِيفَ أَنْ يَزِلَّ فِيهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ قَدَمُ صِدْقٍ فِي مَسَالِكِ التَّحْقِيقِ فَيَقَعُ فِي شَكٍّ أَوْ رِيبَةٍ لَا عَلَى مَنْ لَهُ قُوَّةٌ تَامَّةٌ وَقَدَمُ صِدْقٍ ( وَالْعَنْبَرِيُّ ) وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَعَزَاهُ الْآمِدِيُّ إلَى الْحَشْوِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّة قَالُوا ( يَجُوزُ ) التَّقْلِيدُ فِيهَا وَلَا يَجِبُ النَّظَرُ ( لَنَا الْإِجْمَاعُ ) مُنْعَقِدٌ ( عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ) وَصِفَاتِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ ( وَلَا يَحْصُلُ ) الْعِلْمُ بِهِ ( بِالتَّقْلِيدِ لِإِمْكَانِ كَذِبِهِ ) أَيْ الْمُفْتِي الْمُخْبِرِ ( إذْ نَفْيُهُ ) أَيْ الْكَذِبِ عَنْهُ ( بِالضَّرُورَةِ مُنْتَفٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ

يَكُونَ مَعْصُومًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ ( وَبِالنَّظَرِ لَوْ تَحَقَّقَ يَرْفَعُ التَّقْلِيدَ وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ) الْعِلْمُ بِالتَّقْلِيدِ ( لَزِمَ النَّقِيضَانِ بِتَقْلِيدِ اثْنَيْنِ ) لِاثْنَيْنِ ( فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَقِدَمِهِ ) بِأَنْ يَحْصُلَ لِزَيْدٍ الْعِلْمُ بِحُدُوثِهِ تَقْلِيدًا مِنْهُ لِلْقَائِلِ بِهِ وَلِعَمْرٍو الْعِلْمُ بِقَدَمِهِ تَقْلِيدًا لِلْقَائِلِ بِهِ إذْ الْعِلْمُ يَسْتَدْعِي الْمُطَابَقَةَ فَيَلْزَمُ حَقِيقَةُ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ ( الْمُجَوِّزِ ) لِلتَّقْلِيدِ فِيهَا النَّافِي لِوُجُوبِ النَّظَرِ وَمُوَافِقُوهُ قَالُوا أَوَّلًا ( لَوْ وَجَبَ النَّظَرُ لَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَأَمَرُوا بِهِ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ ، وَالْفَرْضُ انْتِفَاؤُهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْأَمْرِ ( مُنْتَفٍ ) وَلَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَكْثَرِ عَوَامِّ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالْأَدِلَّةِ الْكَلَامِيَّةِ ( وَإِلَّا ) لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ( لَنُقِلَ كَمَا ) نُقِلَ عَنْهُمْ النَّظَرُ ( فِي الْفُرُوعِ ) فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ( الْجَوَابُ مَنْعُ انْتِفَاءِ التَّالِي ) أَيْ عَدَمِ فِعْلِهِمْ ، وَإِلَّا لَزِمَ نِسْبَتُهُمْ إلَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ ضَرُورِيًّا ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَعَدَمُ أَمْرِهِمْ غَيْرَهُمْ بِهِ .
( بَلْ عِلْمُهُمْ ، وَ ) عِلْمُ ( عَامَّةِ الْعَوَامّ ) بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ حَاصِلٌ لَهُمْ ( عَنْ النَّظَرِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْرِ ) النَّظَرَ ( بَيْنَهُمْ ) أَيْ الصَّحَابَةِ ( لِظُهُورِهِ ) لَهُمْ بِوَاسِطَةِ مَا لَهُمْ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَمُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ ( وَنَيْلِهِ ) لَهُمْ ( بِأَدْنَى الْتِفَاتٍ إلَى الْحَوَادِثِ ) لِصَفَاءِ قَرِيحَتِهِمْ وَنَقَاءِ سَرِيرَتِهِمْ وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَكَيْفَ لَا وَهُمْ مُعَايِنُونَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23