كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

وأنهم اجتازوا، بعد ذلك بأيام، فأدركت الفيل ضجرة، فقبض على صبي، فشاله بخرطومه، ورقاه في الهواء، ثم استقبله بنابه، فأدخله في جسمه، فقتله.

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا الفضل بن باهماد السيرافي، بها، وكان مشهوراً بسلوك أقاصي بلدان البحر، قال: قال لي رجل من بعض بياسرة بلاد الهند، والبيسر: هو المولود على ملة الإسلام في بلاد الهند، أنه كان في بلدٍ من بلاد " 83 " الهند، وكان فيه الملك حسن السيرة، وكان لا يأخذ مواجهة، ولا يعطي مواجهة، وإنما يقلب بيده إلى وراء ظهره، فيأخذ ويعطي بها، إعظاماً للملك، وسنة لهم هناك، وأنه توفي، فوثب رجل على ملكه، فاحتوى عليه، وهرب ابن كان له، يصلح للملك، خوفاً على نفسه من المتغلب.
ورسوم ملوك الهند، أن الرجل إذا قام من مجلسه، لأي حاجة عرضت له، كانت عليه صدرة، قد جمع فيها كل نفيس فاخر، من اليواقيت والجواهر، مضرباً بالإبريسم، في الصدرة، ويكون قيمة ذلك ما إن لو أراد أن يقيم به ملكاً أقامه.
قال: ويقولون، ليس بملكٍ، من قام من مجلسه، وليس معه ما إن حدثت عليه حادثة فهرب به، أمكنه إقامة ملك عظيم منه.
فلما حدثت على الملك، تلك الحادثة، أخذ ابنه صدرته، وهرب بها.
فحكى عن نفسه، أنه مشى ثلاثة أيام، قال: ولم أطعم طعاماً، ولم يكن معي فضة ولا ذهب، فأبتاع به مأكولاً، وأنفت أن استطعم، ولم أقدر على إظهار ما معي.
قال: فجلست على قارعة الطريق، وإذا برجل هندي، مقبل، على كتفه كارة، فحطها، وجلس حذائي.
فقلت: أين تريد؟ فقال: الجدام الفلاني.
ومعنى الجدام: الرستاق.
فقلت له: هذا الجدام الفلاني أريد، فنصطحب.
قال: نعم.
فطمعت أن يعرض علي شيئاً من مأكوله، قال: فحل الكارة، وأكل، وأنا أراه، ولم يعرض علي، وأنفت أن أبتدئه بالسؤال.
وقام يمشي وقد شدها، فمشيت معه، وتبعته، طمعاً في أن تحمله الإنسانية والمؤانسة على العرض، فعمل بالليل، كما عمل معي بالنهار.
قال: وأصبحنا من غدٍ، ومشينا، فعاملني بمثل ذلك، وظل على هذا سبعة أيام، لم أذق شيئاً.
فأصبحت في اليوم الثامن، ضعيفاً، لا قدرة لي على الحركة، فرأيت جداماً في حاشية الطريق، وقوماً يبنون، وقيماً عليهم، يأمرهم.
قال: ففارقت الرجل، وعدلت إلى الوكيل، فقلت: استعملني بأجرة تعطنيها عشياً، مثل هؤلاء.
فقال: نعم، ناولهم الطين.
قال: فكنت آخذ الطين، فلعادة الملك، أقلب يدي إلى ظهري " 84 " ، وأعطيهم الطين، فكما أذكر أن ذلك خطأ علي يسبب سفك دمي، أبادر بتلافي ذلك، فأرد يدي بسرعة، قبل أن يفطنوا بي.
قال: فلمحتني امرأة قائمة، فأخبرت سيدها بخبري، وقالت: لا بد أن يكون هذا من أولاد الملوك.
قال: فتقدم إليها، بحبسي عن المضي مع الصناع، فاحتبستني، وانصرف الصناع.
فجاءني بالدهن العروق، لأغتسل بهما، وهذه مقدمة إكرامهم، وسنة لإعظامهم، فتغسلت بذلك.
فجاءوني بالأرز والسمك، فطعمت.
فعرضت المرأة نفسها علي للتزويج، فعقدت عليها، ودخلت بها من ليلتي، وأقمت معها أربع سنين، أرب حالها، وكانت لها نعمة.
فأنا يوماً، جالس على باب دارها، فإذا أنا برجلٍ من بلدي، فاستدعيته، فجاءني.
فقلت له: من أين أنت؟ قال: أنا من يلد كذا وكذا، وذكر بلدي.
فقلت: ما تصنع هاهنا؟ فقال: كان فينا ملكٌ حسن السيرة، فمات، ووثب على ملكه رجل ليس من أهل بيت الملك، وكان للملك الأول ابن يصلح للملك، فخاف على نفسه، فهرب، وإن المتغلب أساء عشرة رعيته، فوثبوا عليه، فقتلوه، وانبثثنا في البلدان نطلب ابن ذلك المتوفي، لنجلسه مكان أبيه، فما نعرف له خبراً.
قال: فقلت له: تعرفني؟ قال: لا.
فقلت: أنا طلبتكم.
قال: وأعطيته العلامات، فعلم صحة ما قلت له، فكفر لي.
قلت: اكتم أمرنا، إلى أن ندخل إلى الناحية.
فقال: أفعل.
قال: فدخلت إلى الامرأة، وأخبرتها الخبر، وحدثتها بالصورة، وبأمري كله.
وأعطيتها الصدرة، وقلت: فيها كذا، ومن حالها كذا، وأنا ماضٍ مع الرجل، فإن كان ما ذكره صحيحاً، فالعلامة أن يجيئك رسولي، ويذكر لك الصدرة، فانهضي معه، وإن كانت مكيدة، كانت الصدرة لك.
قال: ومضى مع الرجل، وكان الأمر صحيحاً، فلما قرب من البلد، استقبلوه بالتكفير، وأجلسوه في الملك، وأنفذ إلى الزوجة من حملها، وجاءت إليه.

فحين اجتمع شمله، واستقام ملكه، أمر فبنيت له دار " 85 " عظيمة، وأمر أن لا يجتاز في عمله مجتاز، إلا حمل إليها، ويضاف ثلاثة أيام، ويزود لثلاثة أيام أخر.
وكان يفعل ذلك، وهو يراعي الرجل الذي استصحبه في سفره، ويقدر أن يقع في يده.
وأراد أن يبني الدار شكراً لله تعالى، على الخلاص مما كان فيه، وأن يكفي الناس المؤونة التي كانت لحقته.
فلما كان بعد حولٍ، استعرض الناس، قال: وقد كان يستعرضهم في كل شهر، فلا يرى الرجل، فيصرفهم.
فلما كان ذلك اليوم، رأى الرجل بينهم، فحين وقعت عليه عينه، أعطاه ورقة تنبول، وهذه علامة غاية الإكرام، ونهاية رتبة الإعظام، إذا فعله الملك بإنسان من رعيته.
قال: فحين فعل الملك بالرجل ذلك، كفر له، وقبل الأرض، فأمره الملك بالنهوض، ونظر إليه، فإذا هو ليس يعرف الملك، فأمر بتغيير حاله، وإحسان ضيافته، ففعل، ثم استدعاه.
فقال له: أتعرفني؟ قال: وكيف لا أعرف الملك، وهو من حاله، وعظم شأنه، وعلو سلطانه.
قال: لم أرد هذا، أتعرفني، من قبل هذه الحال؟ قال: لا.
قال: فأذكره الملك الحديث والقصة، في منعه الطعام سبعة أيام في السفر.
قال: فبهت الرجل.
وقال: ردوه إلى الدار، وونسوه، وزاد في إكرامه، وحضر الطعام، فأطعم الرجل، فلما أراد النوم، قال الملك، لامرأته: امضي فغمزيه، حتى ينام.
قال: فجاءت المرأة، ولم تزل تغمزه، إلى أن نام، فجاءت إلى الملك، وقالت: قد نام.
فقال: ليس هذا نوماً، حركوه، فحركوه فإذا هو ميت.
قال: فقالت له المرأة: أيش هذا؟ قال: فساق إليها حديثه معه، وقال: وقع في يدي، فتناهيت في إكرامه، والهند لهم كبود عظام، وتوهمهم هو المعروف المتعالم عنهم، فدخلت عليه حسرة عظيمة، إذ لم يحسن إلي ذلك الوقت، فقتلته الحسرة.
وقد كنت أتوقع موته قبل هذا، مما توهمه واستشعره من العلة في نفسه، والحسرة والأسف، فقتلته.

الجبارية في الهند
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: رأيت بالهند قوماً، يقال لهم: الجبارية، يأكلون الميتة، ويقذرهم جميع أهل الهند، عندهم أنهم إذا ماسوهم نجسوا.
قال: فهم يمشون، وفي أعناقهم طبولٌ يطبلون بها، لتسمع أصواتها، فيتنحون عن طريقهم، فإذا لم يتنح الرجل عند سماع الطبل، فلا شيء على الجباري " 86 " ، وإن لم يضرب الجباري الطبل، حتى يلاصق جسده، جسد غيره، قتله الذي يلتصق جسده به، ولا يعدى عليه، لأن هذا من شرطهم، وسنتهم.
قال: ولا يشرب أحد من ماء هؤلاء الجبارية، ولا يأكل من طعامهم، ولا يخالطهم، فهم ينزلون في ظاهر البلد ناحية.
قال: وهم أرمى الناس، ومعاشهم من الصيد.
البابوانية في الهند
قال: وهناك قوم يقال لهم البابوانية، يجرون مجرى المستقفين هاهنا، والسلطان يطلبهم، فإذا وقعوا في يده، وظفر بهم، فعل بهم، كما يفعل باللصوص والعيارين.
قال: وهم يصطادون الناس، ولا يعرضون لغير ذلك.
قال: والواحد منهم، يتبع التجار الذين يطرأون إليهم من المسلمين والذمة، فإذا رأى الواحد من التجار، في طريق خال، قبض عليه، فحين يقبض عليه، وقد علم التاجر بأمره، فيسكت، لأنه إن استغاث، أو نطق قتله الهندي، وقتل نفسه في الحال، لا يتألم لذلك، لاعتقادهم المشهور في القتل.
قال: ويراهم الناس، وقد اصطادوا الرجل، فلا يعرضون لخلاصه، لئلا يقتله، ويقول لهم الرجل: الله، الله، إن عارضتموه، فلا يمكن لسلطان ولا غيره، انتزاعه من يده، في تلك الحال، لئلا يعجل بقتله.
قال: فأخبرني رجل من الهند، أن رجلاً من البابوانية، قبض في طريق سفر على رجل لقيه منفرداً من التجار.
فقال له: اشتر نفسك.
فتوافقا على أن يشتري نفسه منه بألف درهم.
فقال له التاجر: تعلم أني خرجت ولا شيء معي، ومالي في البلد، فتصير معي إلى داري في البلد، لأؤدي ذلك إليك.
قال: فأجابه، وقبض على يده، ولم يزل يمشي معه، حتى اجتازا في طريقهما، بقرية الجبارية وكان طريقهما في سكة منها، فسلكاها.
فحين حصلا فيها، فطن التاجر للحيلة في الخلاص، وقد كان عرف مذهب الهندي في الجبارية، فلم يزل يمشي معه، حتى رأى باباً مفتوحاً، من دور الجبارية، فجذب يده بحمية شديدة، من يد البابواني، وسعى فدخل دار الجباري.
فقال له: ما لك؟ قال: أنا مستجير بك، من يد بابواني اصطادني، وتعريت منه.

قال: لا بأس عليك " 87 " ، فاجلس.
فصاح البابواني: يا جباري، يا جباري، اخرج إلي.
قال: وهم لا يدخلون دور الجبارية، لاستقذارهم إياهم.
قال: فخرج، ووقف، بينهما عرض الطريق، لأنه لا يجوز لأحدهما أن يدنو من صاحبه.
فقال له البابواني: أعطني صاحبي.
قال: قد استجار بي، فهبه لي.
قال: لا أفعل، هذا رزقي، فإن لم تعطنيه، لم ندع جبارياً إلا قتلناه.
قال: فطال الكلام بينهما، إلى أن قال الجباري، أسلمه إليك في الصحراء فامض براً، تسبقه إلى الموضع الفلاني.
قال: فمضى.
ودخل الرجل على التاجر، وقال له : اخرج لا بأس عليك.
فخرج معه، وأخذ الجباري قوسه، وخمسين نشابة، قال: ونشابهم من القصب.
قال: فعلق المسلم بكم الجباري، ولصق به، علماً منه بأن البابواني لا يدنو منه.
فلما صارا إلى الصحراء، قال له الجباري: تهبه لي؟ واجتهد به، فلم يفعل.
قال: فإني لا أسلمه، أو لا يبقى معي سلاح.
قال: شأنك.
قال: وهم لا يخطئون البتة في الرمي، ففوق سهمه نحوه، فحين أطلقه تلقاه البابواني بشيء كان معه، فاعترض السهم بالشيء، فقطعه باثنين، وسلم منه.
فتحير الجباري.
قال: فلم يزل يرميه بنشابة نشابة، ويفعل بها البابواني، مثل ذلك، إلى أن ذهب النشاب، ولم يبق منه إلا نشابتان.
فضعفت نفس التاجر، وأيقن بالهلاك، وقال للجباري: الله، الله، في دمي.
قال: فقال له البابواني: لا يقع لك أنك قد أفلت، ثم أخذ سهماً.
فقال له الجباري: لا تقدر على ذلك، وسأريك من رميتي، ما تتحدث به أبداً، انظر إلى هذا الطائر الذي يطير في السماء، فإني أرميه، فأصرعه على رأسك، ثم أرميك فلا أخطيك.
قال: فشال البابواني رأسه، ينظر إلى الطير، فرماه الجباري، فأصاب فؤاده، فخر صريعاً يضطرب، ومات.
وقال للتاجر: ارجع الآن آمناً.
فرجع إلى داره، وأقام عندهم، إلى أن اجتازت بهم صحبة،رحل معها التاجر، إلى مأمنه.

سرق ماله بالبصرة، واستعاده بواسط
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثني رجل من أهل دار الزبير بالبصرة، دقاق، قال: أورد علي رجل غريب، سفتجة بأجل، فكان يتردد إلى أن حلت، ثم قال: دعها عندك، وآخذها متفرقة.
فكان يجيء في كل يوم، فيأخذ بقدر نفقته، إلى أن نفذت.
وصارت بيننا معرفة، وألف الجلوس عندي، وأنست به، وكان يراني أخرج كيسي من صندق لي، فأعطي منه النقدات التي تحل علي.
فقال لي يوماً: إن قفل الرجل، صاحبه في سفره، وأمينه في حضره، وخليفته على حفظ ماله، والذي ينفي الظنة عنده عن عياله، فإن لم يكن وثيقاً، تطرقت الحيلة عليه، وأرى قفلك هذا وثيقاً، فقل لي ممن ابتعته، لأبتاع مثله.
فقلت: من فلان القفال، في جوبات الصفارين.
قال: فما شعرت، إلا وقد جئت " 88 " ، وطلبت صندوقي، لأخرج منه شيئاً من الدراهم، فحمل إلي، ففتحته، فإذا ليس فيه شيء من الدراهم.
فقلت لغلامي - وكان غير متهم عندي - : هل أنكرت من الدرابات شيئاً؟ فقال: لا.
فقلت: ففتش، هل ترى في الدكان نقباً؟ ففتش، فقال: لا.
فقلت: فمن السقف حيلة؟ فقال: لا.
فقلت: اعلم أن دراهمي قد ذهبت؟ فقلق الغلام، فسكنته، وأقمت في دكاني، لا أدري ما أعمل، فتأخر عني الرجل، فلما تأخر، اتهمته، وتذكرت مسألته لي عن القفل.
فقلت للغلام: أخبرني كيف تفتح الدكان وتغلقه؟ فقال: رسمي، إذا أغلقت الدكان، أغلقه درابتين، درابتين، والدرابات في المسجد، أحملها دفعات، اثنتين وثلاثاً، في كل دفعة، فأشرجها، ثم أقفل، وكذا أفتحها.
فقلت: البارحة، واليوم كذا فعلت؟ فقال: نعم.
فقلت: فإذا مضيت لترد الدرابات، أو تحضرها، على من تدع الدكان؟ قال: خالياً.
فقلت: فمن هاهنا وقع الشر.
وذهبت ومضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل، فقلت له: جاءك إنسان منذ أيام، اشترى منك مثل هذا القفل؟ قال: نعم، وحكى من صفته كيت وكيت، فأعطاني صفة صاحبي.
فعلمت أنه جاء، واختبأ للغلام وقت المساء، حتى إذا انصرفت أنا، ومضى وهو يحمل الدرابات، دخل الدكان فاختبأ فيه، ومعه مفتاح القفل الذي اشتراه، الذي يقع على قفلي، وأنه أخذ الدراهم، وجلس طول ليلته، خلف الدرابات، فلما جاء الغلام، وفتح درابتين أو ثلاثاً، وحملها ليرفعها، خرج هو، وأنه ما فعل ذلك، إلا وقد خرج إلى بغداد.

قال: فسلمت الدكان إلى الغلام، وقلت له، من سأل عني، فعرفه أني خرجت إلى ضيعتي.
قال: وخرجت، ومعي قفلي ومفتاحه.
فقلت: أبتدئ بطلب الرجل بواسط، فلما صعدت من السميرية، طلبت خاناً في الجسر، أنزله، فأرشدت إليه، فصعدت، وإذا بقفل مقل قفلي، سواء، على بيت.
فقلت لقيم الخان: هذا البيت من ينزله؟ فقال: رجل قدم من البصرة، أول أمس.
فقلت: أي شيء صفته؟ فوصف صفة صاحبي " 89 " ، فلم أشك أنه هو، وأن الدراهم في بيته.
فاكتريت بيتاً إلى جنبه، ورصدت البيت حتى انصرف القيم، وقمت، ففتحت القفل بمفتاحي.
فحين دخلت البيت، وجدت كيسي بعينه، ملقى فيه، فأخذته، وخرجت وقفلت البيت، وتركته.
ونزلت إلى السفينة التي جئت فيها، وأرغبت الملاح في زيادة أجره، حتى حملني، وانحدرت في الحال، وما أقمت بواسط إلا ساعتين من النهار.
ورجعت إلى البصرة بمالي.

صيرفي بغدادي متحصن من اللصوص
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثني رجل من أهل بغداد، أن بعض من تاب من اللصوصية، حدثه، قال: كان في الناحية الفلانية، صيرفي، كثير المال، يطلبه اللصوص، فلا تتم عليه حيلة، ولا يقدرون عليه.
قال: فتواطأ عليه جماعة لصوص، كنت أحدهم، فقالوا: كيف نعمل في دخول داره؟ فقلت: أما الدخول، فعلي لكم، وأما ما بعد ذلك فلا أضمنه.
قالوا: فما نريد إلا الدخول.
قال: فجئت، وهم معي، عشاءً، فقلت لواحدٍ منهم: تصدق، فإذا خرجت الجارية إليك بشيء، فتباعد، وتعام عليها، لتجيء إليك تعطيك الصدقة، وكن على خطىً من الباب، لأدخل أنا، وهي متشاغلة معك، قد بعدت عن الباب، فلا تراني إلى أن أدخل، فأختبئ.
قال: ففعل ذلك، وحصلت مختبئاً في مستراح الدهليز.
فلما عادت الجارية، قال لها مولاها: قد احتبست.
قالت: حتى أعطيت السائل الصدقة.
قال: ليس هذا قدر دفعك إليه.
قالت: لم يكن على الباب، فلحقته في الطريق، وأعطيته.
فقال: وكم خطوة مشيت من الباب.
قالت: خطىً كثيرة.
قال: لعنك الله، أخطأت عليّ، قد حصل معي في الدار لص، لا أشك فيه.
قال: فحين سمعت هذا، قامت قيامتي، وتحيرت.
فقال لها: هات القفل.
فجاءته به، فجاء إلى باب دهليز الدار، والصحن بعد باب الدار، فقفله من عنده، ثم قال لها: دعي اللص الآن يعمل ما يشاء.
قال: فلما انتصف الليل، جاء أصحابي، فصفروا على الباب، ففتحت لهم باب الدار، فدخلوا الدهليز " 90 " ، وأخبرتهم بالخبر.
فقالوا: ننقب العتبة، ونخرج إلى الصحن.
ونقبوا، فلما فرغوا، قالوا: ادخل معنا.
فقلت: إن نفسي قد نبت عن هذا الرجل، وأحسست بشر، وما أدخل البتة.
فاجتهدوا بي، وقالوا: لا نعطيك شيئاً.
فقلت: قد رضيت.
فدخلوا، فحين حصلوا في الصحن، وأنا في الدهليز، أتسمع عليهم، مشوا فيه، فإذا للمولى زبية، في أكثر الصحن، محيطة به، يعرفها هو وعياله، فيتقون المشي عليها ليلاً ونهاراً، وهي منصوبة للحفظ من هذا وشبهه، وعليها بارية، من فوق خشب رقيق جداً.
فحين حصلوا عليها، سقطوا إليها، فإذا هي عميقة جداً، لا يمكن الصعود منها.
فسمع المولى صوت سقوطهم، فصاح: وقع هؤلاء، وقام هو وجاريته يصفقون ويرقصون.
وتناولوا حجارة معدة لهم، فما زالوا يشدخون رؤوسهم وأبدانهم بها، وأصحابي يصيحون، وأنا أحمد الله على السلامة، إلى أن أتلفهم.
وهربت أنا من الدهليز، ولم أعرف لأصحابي خبراً، كيف دفنوا، أو كيف أخرجوا.
فكان ذلك سبب توبتي من اللصوصية.
البراءة المزورة
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني رجل من البغداديين، قال: كنت وأنا حدثٌ، حسن الوجه، فلما اتصلت لحيتي، وهي طرية بعد، طلبت التصرف، فكتب لي إلى أبي أحمد النعمان بن عبيد الله، فلقيته في عمله، فأكرمني، وبالغ في بري، وأمرني بالجلوس، فجلست، وكلما أردت القيام احتبسني إلى أن لم يبق عنده أحد إلا خواصه.
ثم أحضر المائدة فأكلنا، فلما فرغنا، قمت لأغسل يدي، فحلف، أن لا أغسلها إلا بحضرته، فغسلتها، وقمت.
فقال: إلى أين؟ فقلت: إلى منزلي.
فقال: أنت هاهنا غريب، ولعلك في خان.
فقلت: هو كذلك.
فقال: وموضعنا أطيب، وهو خير، وخيشنا بارد، فأقم عندنا.
فقلت: السمع والطاعة.

ولم أعرف ما في نفسه، فدخلت الخيش، فلما حصلت عنده فيه، جعل يستدنيني، ولا أعلم غرضه، إلى أن صرت بقربه، فضرب بيده، يولع " 91 " بي، فعلمت أن شرطه في اللواط، أصحاب اللحى الطرية.
فصعب علي ما تم من ذلك، وقلت: كيف أصنع؟ ليس إلا التطايب.
قال: فقلت له، يا سيدي أي شيء تريد؟ قال: أريد أن أفعل كذا وكذا.
فقلت: يا سيدي، براءتي معي، وقبضت على لحيتي.
قال: لا تفعل، هذه براءة مزورة.
قلت: كيف؟ قال: لأني ما وقعت فيها بقلمي.

من شعر سيدوك الواسطي
أنشدني أبو طاهر المعروف بسيدوك الواسطي لنفسه:
هات اسقنيها كلمح البرق ما مزجت ... إلا لتسيير سقلاطونها فينا
إذا لواعب آذريونها عبثت ... بجلنار سناها هز نسرينا
أدير في الكأس ذر الشمس إذ رقصت ... والماء نغرف من نار كماشينا
وأنشدني لنفسه من أبيات:
ما أكثر الشعراء مذ قتل الندى ... والشعر أعوز من دموع الأرقم
وأنشدني لنفسه قصيدة يمدح بها أبا الحسن عمران بن شاهين، أمير البطيحة وفيها ذكر الهدري الذي يقاتل به، هو وأصحابه، وهو شبيه الحراب، يقول:
تسبي النفوس حراب ما أدرت بها ... كأس المنية إلا رحت ذا طرب
تظل من فضة حتى إذا وردت ... أصدرتها من دم الأبطال من ذهب
من كل مقلية الجنبين ماضية ... قدت من الشمس أو قدت من اللهب
من شعر أبي إسحاق الصابي
أنشدني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار، قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن هليل الصابي الكاتب لنفسه:
تورد دمعي فاستوى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبا لخمر أسلبت ... جفوني أم من دمع عيني أشرب
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
ما زلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمار
قال: وأنشدني لنفسه:
فديت من سارقني لحظها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجى زاهياً ... وغاظها ذلك من شيمته
سلت له البرقع عن وجهها ... فردت البدر إلى قيمته " 92 "
وأنشدني، قال: قرأت على ظهر دفتر:
كنا نزوركم والدار دانية ... في كل وقت فلما شطت الدار
صرنا نقدر وقتاً في زيارتكم ... وليس للشوق في الأحشاء مقدار
الحسن بن عون الموسوس
حدثني أبو الحسن محمد بن غسان الطبيب، قال: كان عندنا بالبصرة في البيمارستان، رجلٌ موسوس، يعرف بالحسن ابن عون، من أولاد الكتاب، حبس في البيمارستان للعلاج، في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة.
وطال حبسه سنين، ثم صلح، فاستخدم في البيمارستان، إلى أن تكامل صلاحه.
وكنت أختلف إلى البيمارستان، لتعلم الطب، فكنت أشاهده كثيراً، فأول يوم علمت أنه يقول الشعر، سمعته وهو يقول:
أدافع همي بالتعلل والصبر ... وأمنع نفسي بالحديث عن الفكر
وأرجو غداً حتى إذا ما غدٌ أتى ... تزايد بي همي فأسلمني صبري
فلا الهم يغنيني ولا العمر ينقضي ... ولا فرج يأتي سوى أدمع تجري
إلى الله أشكو ما أقاسي فإنه ... عليم بأني قد تحيرت في أمري
وعرفت حاله في أدبه، بإنشاده إياي كل يوم قطعة من شعره، يعملها بحضرتي.
وشاهد عمل الجلنجبين بالورد في البيمارستان، فقال: وأنشدنيه لنفسه:
أنظر إلى الورد في أكفهم ... يطبع للقاطفين من ورقه
كالقلب نار الهوى تحرقه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
وحملت إليه شيئاً من المأكول، اشتهاه عليّ، فكتب إلى جانب حائط:
حصرت من ظرف ما بعثت به ... وقلت: يا سيدي ومولاي
لو أن أعضاء شاكرٍ نطقت ... بالشكر أثنت عليك أعضاي
ما نفت للكرام كلهم ... ويا صباحي كمثل ممساي
لو أن ما بي ببعض أعداي ... بكيت مما أرى بأعداي
حكاية ديوث
حدثنا القاضي أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين:

أنه بلغه عن رجل قليل الغيرة، رديء الدين، كان يجمع بين زوجته، وبين أهل الفساد في منزله.
قال: عشق امرأته، رجلٌ، وكان ينفق عليها في منزله، وأحلفها بحضرته " 93 " ، أنها لا تطاوع زوجها على الجماع.
قال: وكانا ليلة على شأنهما، في أسفل الدار التي للزوج، فصعدت المرأة إلى السطح هناك، واحتبست، فلما جاءت، خاصمها العشيق، وقال: لعله فعل بك زوجك كذا.
فقالت: وحلفت، أنه ما جرى من ذلك شيء.
وسمع الزوج الكلام، فقام يصلي في السطح، ويصيح: الله أكبر، ليسمع العشيق، ويعلمه، أنه لم يكن ليصلي، وهو جنب، حتى يصلح بينه وبين المرأة، بذلك.

حجاب شديد
وهذا ضد ما حدثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول التنوخي : أن امرأة من أهلهم بالأنبار، كانت قد جاوزت الأربعين سنة، وخرجت من بيتها إلى بغداد، في محنة عرضت لها، فلما حصلت في الطريق رأت جملاً يدير دولاباً.
فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: دولاب الجمل.
فحلفت بالله، أنها ما رأت جملاً قط.
كتاب المافروخي عامل البصرة
حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن طريف، المعروف بأحمد الطويل، قال: كتب إليّ أبو محمد عبد العزيز المافروخي، وأنا أتقلد حصن مهدي، والفرض، والأعمال التي كنت أتقلدها مع ذلك، وهو يتقلد البصرة، يسألني إطلاق تمر له، اجتاز عليّ، ويعرض بأن مكافأة ذلك، لا تذهب عليه.
فأطلقت له التمر، بلا ضريبة، ولا مؤونة، وكتبت إليه أعاتبه على هذه اللفظة.
فكتب إليّ كتاباً، يعتذر، حفظت منه قوله: وصل كتابك الذي أبان الله به فضلك، وسهل إلى سبل المكارم سبقك، وفهمته فهم معجب به، ومتعجب منه، وسرني صدوره، لا لقدر الحاجة في نفسي، ولا في نفسك، ولكن لما أنفذه من بصيرتي فيك، وقواه من معرفتي بك.
ووجدتك، وقد اضطربت من لفظة ذكرت أني ضمنتها كتابي، وهي الإلماح والتلويح، بالمكافأة والتعويض.
ومعاذ الله أن ينطلق بذلك لساني، أو تجري به يدي، لأن مثله لا يجري إلا عن ذي عطن ضيق، إلى ذي باع في المحامد قصير، ولا هذه صورتك، ولا صورتي.
وإذا كانت " 94 " الأنفس واحدة، والأموال مشتركة، فأي فائدة لي في أن أتناولك ببعض مالك، أو أرد إليك ما هو لك.
فإن تكن الصورة كما يخيل لي، فأنت أيدك الله، المليم دوني، وإن كنت - بحمد الله ومنه - من كل ما يقع عليه اللوم بعيداً.
وإن تكن الأخرى، وهبت زلتي لمعذرتي، فإني بشر غير معصوم، والخطأ والنسيان جاريان عليّ.
للوزير المهلبي
في كلة قصب حركتها الريح
أنشدني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي، قال: أنشدنا أبو محمد المهلبي في وزارته، وعمله بين أيدينا، وقد نصبت له في داره بالأهواز كلة قصب، وحركتها الريح.
فاستحسن ذلك، وقال:
رأيت مر الهوا عليها ... ..............
فشمت منها اختلاس لحظ ... وخلت فيها وجيب قلب
زور مناماً فجاء مطابقاً للحقيقة
وحدثني أبو الفضل، قال: حدثني رجل من شيوخ المتصرفين ببلدنا، يقال له: عباد بن الحريش، قال: لما كتب علي بن المرزبان، عم أبيك، لعمرو بن الليث، ورقت حاله عنده، حتى قلده عمالة شيراز، صادر المتصرفين على أموال ألزمهم إياها، وكنت ممن أخذ خطه عن العمل الذي كان يليه بثمانين ألف درهم.
قال: فأديت منها أربعين ألف درهم، ونفذت حيلتي وحالي، ولم يبق لي في الدنيا إلا داري التي أسكنها، ولا قدر لثمنها، فيما بقي عليّ، فلم أدر ما أعمل.
وفكرت فوجدت علي بن المرزبان، رجلاً سليم الصدر، فعملت رؤيا، وأجمعت رأيي على أن ألقاه بها، وأجعلها سبباً لشكوى حالي، والتوصل إلى الخلاص.
قال: فجلست، وعملت الرؤيا، وحفظتها، واختلت خمسين درهماً، وبكرت من الغد، قبل طلوع الفجر، فدققت بابه.
فصاح بي خادم كان له يجري مجرى حاجب، من خلف الباب: من أنت؟ قلت: عباد بن الحريش.
قال: في هذا الوقت؟ قلت: نعم.
ففتح لي، فدخلت، وشكوت حالي، وقلت: هذه خمسون درهماً، لا أملك غيرها، فخذها، وأدخلني إليه قبل تكاثر الناس عليه، فإن فرج الله عني، فعلت بك وصنعت.
قال: فدخل، واستأذن لي، وتلطف حتى أدخلني إليه، وهو يستاك.
فقال: ما جاء بك في هذا الوقت؟ فدعوت له " 95 " ، وقلت: بشارة رأيتها في النوم البارحة.
فقال: وما هي؟

فقلت: رأيتك كأنك تجيء إلى شيراز، من حضرة الأمير، وتحتك فرس أشهب عظيم، لم يرقط أحسن منه، وعليك السواد، وقلنسوة الأمير على رأسك، وفي يدك خاتمه، وحواليك مائة ألف إنسان من فارسٍ وراجلٍ، وقد تلقاك أمير البلد، فترجل لك، وأنت تجتاز، وطريقك كله أخضر منور مزهر، والناس يقولون: إن الأمير قد استخلفه على جميع أمره.
قال: وقصصت الرؤيا، وهذا معناها.
فقال: خيراً رأيت، وخيراً يكون إن شاء الله، فما تريد؟ قال: فشكوت حالي، وذكرت أمري.
فقال: أنظر لك بعشرين ألف درهم، وتؤدي عشرين ألف درهم.
قال: فحلفت بالطلاق، أنه لم يبق لي إلا مسكني، وبكيت، وقبلت يده، واضطربت بحضرته، فرحمني، وكتب لي إلى الديوان، بإسقاط ذلك عني، وانصرفت.
ولم تمض، إلا شهور، حتى كتب عمرو بن الليث، إلى علي بن المرزبان، يستدعيه، ويأمره بحمل ما اجتمع له من الأموال، وكان قد جمع له، ما لم يسمع قط باجتماع مثله في وقت واحد، من أموال فارس، فإنه جمع له ستين ألف ألف درهم.
قال: فحملها إلى سابور، وخرج، وتلقاه عمرو بن الليث، بجميع قواده، وأهل عسكره.
وهاله عظم ذلك المال، فاستخلفه على فارس، وأعمالها، حرباً وخراجاً، وفوض إليه الأمور كلها، وأذن إليه في الحل والعقد بغير استئمار، وخلع عليه سواداً له، وحمله على فرس أشهب عظيم الخلقة، كان يعظمه عمرو، ويكثر ركوبه، ودفع إليه خاتمه، ورده إلى فارس.
قال: فوافاها في زمن الربيع، ولم يحل الحول على قصتي معه.
فخرج أمير البلد - وقد صار من قبله - ليستقبله، وخرج الناس، فتلقوه على ثلاثين فرسخاً، وأكثر، وخرجت فتلقيته على العطفة التي في طريق خراسان، وبينها وبين البلد، نصف فرسخ.
قال: فوافى وهو على الصفة التي ذكرتها له في المنام الموضوع، والدنيا على الحقيقة خضراء بآثار الربيع وزهره، وحوله أكثر من مائة ألف إنسان " 96 " ، وعليه قلنسوة عمرو بن الليث، وفي يده خاتمه، وعليه السواد، وتحته الفرس الأشهب، وقد تلقاه أمير البلد، فترجل له.
قال: فحين رأيته، ترجلت، ودعوت له، فلما رآني تبسم، وأخذ بيدي، وأحفى السؤال بي، ثم تفرق الجيش بين يديه، فلحقته إلى البلد، فلم أستطع القرب منه، لازدحام الدواب، فانصرفت.
وباكرته من غدٍ، في مثل ذلك الوقت، الذي جئته ليلة الرؤيا.
فقال لي الحاجب: من أنت؟ فقلت: عباد.
فقال: ادخل، واستأذن.
فدخلت وهو يستاك، فضحك إلي، وقال: قد صحت رؤياك يا عباد.
فقلت: الحمد لله.
فقال: لا تبرح من الدار، حتى أنظر في أمرك.
قال: وكان بأهله باراً، ورسمه إذا ولي عملاً، أن لا ينظر في شيء من أمر نفسه، حتى ينظر في أمر أهله، فيصرف من يصلح منهم للتصرف، أو يبره، وإذا فرغ منهم، عدل إلى الأخص، فالأخص، من حاشيته، فإذا فرغ من ذلك، نظر في أمر نفسه.
قال: فجلست في الدار إلى قرب العصر، وهو ينظر في أمر أهله، والتوقيعات تخرج، بالصلات، والأرزاق، وكتب التقليدات، إلى أن صاح الحاجب: عباد بن الحريش، فقمت إليه.
فقال: إني ما نظرت في أمر أحد، غير أمر أهلي، فلما فرغت منهم، بدأت بك قبل الناس كلهم، فاحتكم، ما تريد؟ فقلت: ترد علي المال الذي أديته، وتقلدني العمل الذي صرفتني عنه.
قال: فوقع لي برد المال، وتقليد العمل، وقال: امض، فقد أوغرت لك العمل، فخذ ارتفاعه كله.
قال: وكان يستدعيني في كل مديدة، ويحاسبني، ولا يأخذ مني شيئاً، وإنما يكتب لي روزات من مال العمل، ويصلح حسبانات، ويقبلها، ويخلدها الديوان، وأرجع إلى العمل.
وكنت كذلك إلى أن زالت أيامه، فرجعت إلى شيراز، وقد اجتمع لي مال عظيم، صودرت منه على شيء يسير، وجلست في بيتي " 97 " ، وعقدت نعمة بالمال، ولم أطلب تصرفاً إلى الآن.

من مكارم البرامكة
حدثني أبو الفضل، قال: حدثني أبو الحسن، ثابت بن سنان الحراني الطبيب : أنه رأى رقعة يتواردونها، بخط جبريل بن بختيشوع المتطبب، فيها ثبت ما وصل إليه، من يحيى بن خالد البرمكي، وبنيه، وجواريه، وأولاده، من ضيعة، وعقار، ومال، وغير ذلك، يحتوي على سبعين ألف ألف درهم، وتفصيل ذلك، شيئاً شيئاً، وأنهم يحفظونها للعجب والاعتبار.
قال: فاستهولت ذلك، وانصرفت، فحدثت بذلك، بعض الرؤساء ببغداد، وكان بحضرته أبو الحسن علي بن هارون المنجم، فقال: وأي شيء تتعجب من هذا؟

حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت بحضرة المتوكل، في يوم مهرجان، أو نيروز، وهو جالس، والهدايا تحمل إليه، من كل شيء عظيم، ظريف مليح، إلى أن ضربت دبادب الظهر، وهم بالقيام، فدخل بختيشوع الطبيب، وهو ابن جبريل بن بختيشوع الأكبر، فحين رآه المتوكل استدناه جيداً، حتى صار مع سريره، وأخذ يمازحه، ويلاعبه، ويقول: أين هدية اليوم؟ فقال له بختيشوع: يا أمير المؤمنين، أنا رجل نصراني، لا أعرف هذا اليوم، فأهدي فيه.
فقال: دع هذا عنك، ما تأخرت إلى الآن، إلا أنك أردت أن تكون هديتك خير الهدايا، فيرى فضلها على الهدايا.
فقال: ما فكرت في هذا، ولا حملت شيئاً.
فقال له: بحياتي عليك.
فضرب بيده إلى كمه، فأخرج منه، مثل الدواة، معمولاً من عود هندي، لم ير قط مثله، كالأبنوس سواداً، وعليه حلية ذهب محرق، لم ير قط أحسن منها عملاً، ولا من الدواة.
قال: فقدر المتوكل، أن الهدية هي الدواة، فاستحسنها.
فقال: لا تعجل يا مولاي، حتى ترى ما فيها.
ففتحها، وأخرج من داخلها، ملعقة كبيرة محرقة، من ياقوت أحمر.
قال: فخطفت أبصارنا، ودهشنا، وتحيرنا.
فبهت المتوكل، وأبلس، وسكت ساعة متعجباً، مفكراً، ثم قال: يا بختيشوع، والله، ما رأيت لنفسي، ولا في خزانتي، ولا في خزائن آبائي، ولا سمعت، ولا بلغني أنه كان للملوك من بني أمية، ولا لملوك العجم مثلها، فمن أين لك هذه؟ " 98 " .
فقال: الناس لا يطالبون بمثل هذا، وقد أهديت إليك، ما قد اعترفت بأنك لم تر، ولم تسمع، بمثله حسناً، فليس لم مسألتي عن غيره.
قال: بحياتي أخبرني.
فامتنع، إلى أن كرر عليه إحلافه بحياته، دفعات، وهو يمتنع.
فقال: ويحك، أحلفك بحياتي، دفعات، أن تحدثني حديثاً، فتمتنع، وقد بذلت لي ما هو أجل من كل شيء.
قال: فقال له: نعم يا مولاي، كنت حدثاً، أصحب أبي جبريل ابن بختيشوع إلى دور البرامكة، وهو إذا ذاك طبيبهم، لا يعرفون خدمة طبيب غيره، ولا يثقون برأي غيره، ويدخل إلى حرمهم، ولا يستتر أكثرهم عنه.
قال: فصحبته يوماً، وقد دخل إلى يحيى بن خالد، فلما خرج من عنده، عدل به الخادم، إلى حجرة دنانير جاريته، فدخلت معه، وأفضينا إلى ستارة منصوبة، في صدر مجلس عظيم، وخلفها الجارية، فشكت إليه شيئاً وجدته، فأشار عليها بالفصد، وكان لا يفصد بيده، وإنما يحمل معه من يفصد من تلامذته، ورسم الفصد عليهم خمسمائة دينار.
قال: فندبني ذلك اليوم للفصد، وأخرجت يدها من وراء الستارة، ففصدتها، وحملت إليّ في الحال خمسمائة دينار عيناً، وأخذتها، وجلس أبي إلى أن يحمل إليها شراب تشربه بحضرته، ورمانٌ أشار عليها باستعماله.
قال: فحمل ذلك في صينية عظيمة مغطاة، وتناولت منه ما أرادت، وخرج الظرف مكشوفاً، فرآه أبي، فقال للخادم: قدمه إليّ، فقدمه إليه، فكان في جملته جامة فيها رمان، وفيها هذه الملعقة، فحين رآها أبي قال: والله ما رأيت مثل هذه الملعقة، ولا الجامة.
قال: فقالت له دنانير: بحياتي عليك، يا جبريل، خذها.
قال: ففعل، وقام ينصرف.فقالت له: تمضي، ففي أي شيء تدع هذه الملعقة؟ قال: لا أدري.
قالت: أهدي إليك غلافها.
فقال: إن تفضلت.
فقالت: هاتم تلك الدواة.
فجاءوا بهذه الدواة، فوضع أبي فيها الملعقة، وحملها، والجامة في كمه، وانصرفنا.
فقال له المتوكل: جامة تكون هذه ملعقتها، يجب أن تكون عظيمة القدر، فبحياتي، ما كان من أمر الجامة؟ فاضطرب " 99 " ، وامتنع امتناعاً عظيماً، إلى أن أحلفه مراراً بحياته.
فقال: أعلم، إذا قلت أي شيء كانت، طالبتني بها، فدعني أمضي، وأجيء بها، وأتخلص منك دفعة واحدة.
فقال: افعل.
قال: ومضى، فلم يهن المتوكل الجلوس، ولم يأخذه القرار، حتى جاء بختيشوع، وأخرج من كمه جامة، على قدر الزبدية، أو الجامة اللطيفة، من ياقوت أصفر، فوضعها بين يديه.

يوسف بن وجيه صاحب عمان
وحدثني أبو الفضل، قال: كنت مقيماً بسيراف، أتصرف، واجتاز بها يوسف بن وجيه، يريد البصرة، ومحاربة البريدي، وضامنها - إذ ذاك - ابن مكتوم الشرازي، وهو مدبرها حرباً وخراجاً من قبل الأمير علي بن بويه، فتلقاه، وخدمه خدمة ارتضاها، ونزل بظاهر البلد، فحمل إليه ابن مكتوم، كل شيء من الألطاف والهدايا.

قال: فقال له يوماً: والله، ما وردت هذا البلد، إلا وفي نفسي الاجتراء عليه، وتخليف جيش به، ثم الخروج إلى البصرة، ولقد كاتبني جميع وجوه البلد في ذلك، وأشاروا علي بهذا، ولكني قد استحيت منك أن أفعل، فإنك بدأتني بالخدمة، وأنا في أطراف عملي، وليس بكثير أن أهب لك هذا البلد.
قال: وقد كان بلغنا أن أهل البلد كاتبوه بذلك، ولم نتحقق هذا، ولما قرب، أشار أهل البلد، على ابن مكتوم، بالانصراف، وأن لا يحضر، وخوفوه أن يقبض عليه، وأرادوا بذلك أن يتم التدبير لهم، في تملك يوسف ابن وجيه البلد.
فلم يجسر ابن مكتوم على ذلك، وقال: لأن يقبض عليّ، وليس لي إليه ذنب يقتلني به، أحب إليّ من أن أصير لنفسي ذنباً عند علي بن بويه، فيقتلني به، فإنه يظن أني واطأت على خروج البلد من يده لأكسر مال الضمان، ويقول لي: كان يجب الصبر، إلى أن يدخل، فيقبض عليك، أو تجيئني بعد واقعة يخدش فيها رجلٌ، ولم يبرح، وأخلد إلى خدمته الخدمة العظيمة، فنفعه ذلك، وتخلص.
قال: فلما كشف له يوسف، ما كان في نفسه، دعا له، وشكره، وتذلل.
فقال له يوسف: وقد كنت عملت أن لا أشرب، إلى أن أفتح هذا البلد الذي أقصده، ولكن قد اشتقت إلى الشرب، شهوة لأن أشرب " 100 " معك، لما رأيته من ظرفك وفتوتك، فتعود العشية إلى الشراب، ومعك من تأنس به من أصحابك.
قال: فانصرف، واختار جماعة من وجوه البلد، ووجوه المتصرفين، كنت واحداً منهم.
وجاءنا رسول يوسف بعد الظهر، فركب، ونحن معه، حتى أوصلنا إلى حضرته، فأجلسنا في فازة بهنسي لم أر قبلها مثلها حسناً، في صدرها سدة أبنوس مضببة بالذهب، ومساميرها ذهب، وعليها دست ديباج فاخر جداً، وبين يديها بساط جهرمي فوقه حصير واسع، كبير، عظيم، طبراني، ومخاد، وصدر منه.
وخرج يوسف، فجلس، وجلسنا معه، وأحضرت مائدة فضة بزرافين، تسع عشرين نفساً، فجلسنا عليها، ونقل علينا من الطعام، ما لم أر مثله حسناً، في أواني كلها صيني.
قال: وتأملت، فإذا خلف كل واحد منا، غلام صغير، مليح، قائم بشرابي ذهب، وكوز بلور فيه ماء، فأكلنا.
فلما تم أكلنا، نهض يوسف، فخرج من وراء الفازة، إلى موضع، وجاءنا فراشون بعددنا، بطساس وأباريق فضة، ومجامع فضة، فغسلنا أيدينا دفعة واحدة.
ومضى أولئك الغلمان الأصاغر، وجاء غيرهم بعددنا، ومعهم المرايا المحلاة الثقيلة، والمضارب البلور، والمداخن المحلاة الحسنة، فتبخرنا دفعة واحدة.
وتركنا ساعة في موضعنا، ثم استدعينا، فأدخلنا إلى فازة ألطف من تلك، ديباج، وفيها سدة صندل محلاة بفضة، فيها دست ديباج، وحصر طبرية، مثل تلك الحصر، وفيها نحو ثلاثين مطاولة، مسبكة، ذهب كلها، عليها تماثيل العنبر، على هيأة الأتراج والبطيخ، والدستنبو، وغير ذلك.
قال: فدهشنا، وتحيرنا، وإذا في أربع جوانب تلك المطاولات، أربع أجاجين بيض، كبار، عظام، كل واحدة كالقدس الكبير، والجميع مملوءة ماء ورد، وفيه أمر عظيم من تماثيل الكافور، وغلمان قيام بعددنا، يروحون، وغلمان أخر بعددنا، بأيديهم مناديل الشراب، وبين يدي كل واحد، صينية ذهب، ومغسل، ومركن ذهب " 101 " ، وخرداذي بلور، وقدح بلور، وكوز بلور، والجميع فارغ.
قال: فأمر يوسف، بإخراج الأنبذة، في مدافات بلور، تسمى بالفارسية: جاشنكير، فأخرجت عدة أنبذة من العنب، مما يعمل في جبل عمان، لم نظن أنه يكون في تلك النواحي بحسنها وطيبها.
فاختار ابن مكتوم، نبيذاً منها، فملئت الظروف منه، وقام على رأس كل واحد منا، غلام يسقيه، ويتفقد نقله، ويتفرد بخدمته، إلى أن شربنا أقداحاً.
ثم أجرى يوسف، حديث علي بن بويه، فقال لابن مكتوم، وقد خرج من حديث إلى حديث: أحب أن تخبرني عن أخي أبي الحسن علي بن بويه، أي شيء اعتقد في إمارته هذه؟ قال: إن له ألفي غلام أتراك، وأربعة آلاف بغل، وألفي جمل.
قال: وأخذ يكثر عليه من هذا.
فقال له: ويحك، هؤلاء عيال، وسبب خرج، لم أسأل عن هذا، إنما سألت أي شيء أدخر، مما يتنافس فيه الملوك.
قال: فقال له: وصل من الكنوز العتيقة، والأموال التي استخرجها إلى تسعين ألف ألف درهم.
قال: فقال: ولا هذا أردت، إنما أردت الذخائر والجواهر، وما يخف، وما يحمله الملوك معهم، محملاً لطيفاً، إذا حزبهم أمر.
قال: فقال ابن مكتوم: لا أعلم، إلا أني سمعت، أن الجبل الذي كان للمقتدر، قد وصل إليه.

فقال: وما الجبل؟ قال: فص ياقوت أحمر، فيه خمسة مثاقيل، إلا أني ابتعت له جوهرتين، بمائة وعشرين ألف درهم.
فقال: قد أنست بك، واقتضى أن أريك، ما صحبني في هذه السفرة، من هذا الجنس، إن نشطت لذلك.
قال: فشكره، ودعا له، وقال: إي والله، أنشط لذلك، وأتشرف به.
قال: فدعا بغلام، وقال: امض، فهات الربعة الفلانية.
قال: فجاءه بربعة كبيرة.
قال: وكانت بين يديه خرائط خراسانية، مطروحة في المجلس، فاستخرج من واحدة منهن، مفتاح ذهب، وتأمل أولاً، ختم الربعة، ثم فتحها بالمفتاح، وأخرج إلينا قضيباً عليه خواتيم، نحو خمسمائة خاتم، يواقيت، وفيروزج، وعقيق، لم نر مثله، فأرانا إياه، وقال: " 102 " ليس هذا بشيء، فدعوه.
قال: فتركناه، ثم أخرج إلينا عقداً، فيه ثلاث وتسعون حبة جوهر، كل واحد منها، على قدر بيض الحية والعصفور، فدهشنا من عظمها.
فقال: إن هذا العقد، في خزانة خالي أحمد بن هلال وخزانتي من بعده، منذ كذا وكذا سنة، والجوهر إلينا يصل أولاً، ثم يتفرق من عندنا إلى البلاد، ونحن مجتهدون، في أن نجد سبع حبات تشابه هذا، فيحصل في العقد مائة حبة، فما نقدر على ذلك، منذ كذا وكذا سنة.
قال: ثم أخرج إلينا فصاً من الماس، فلبسه في الحال، وأدناه من فص عقيق كان في يد ابن مكتوم، فجذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، حتى تكسر فص ابن مكتوم.
قال: ثم استخرج منديلاً لطيفاً، فحله، وأخرج قطناً، ففرقه بيده، واستخرج منه شيئاً خطف أبصارنا، وأضاء المجلس له، حتى دهشنا، وسلمه إلى ابن مكتوم، وقال: تأمله.
قال: فتأملناه، فإذا هو ياقوت أحمر، على كبر الكف، وقدها من الطول والعرض.
قال: فدهشنا.
فقال يوسف بن وجيه: أي هذا، يا ابن مكتوم، من الذي وصفته؟ قال: فانكسر ابن مكتوم.
وما زلنا نقلب تلك الكف، ونشرب عليها ساعة.
قال: ثم أخرج إلينا من الربعة، حشائش، ذكر أنها سموم قاتلة في الحال، وحشائش، ذكر أنها تبرئ من تلك السموم في الحال.
قال: وأخرج أشياء، هائلة، طريفة، لم يعلق بحفظي منها، إلا ما ذكرته، لدهشتي بما رأيت.
قال: فلما جاء المساء، جاءنا بشموع عنبر، فوضعت تتقد.
قال: وشربنا إلى نصف الليل، وانصرفنا.
وشخص يوسف إلى البصرة، وحاربه البريدي، فهزمه، وأفلت مركب، وأحرقت باقي مراكبه، فلم يحب الاجتياز بسيراف، فتوه في البحر، وسلك وسطه، يريد عمان.
قال: وبلغنا الخبر، وأنفذ ابن مكتوم، صاحباً له، إلى عمان، يتوجع له، ويتعرف خبره، وكاتبه على يده.
قال: فدخل صاحبنا إلى عمان، قبله بأيام، ثم وردها يوسف، فلما وقف على الكتب تذكر عهد ابن مكتوم، وذكره بالجميل، ووهب لصاحبه خمسة آلاف درهم، وأنفذ إلى ابن مكتوم هدية قيمتها مائة ألف درهم " 103 " تجتمع على طرائف البحار، وأنفذ إلى كل واحد من الجماعة الذين كانوا حضوراً دعوته مع ابن مكتوم، عدة أثواب من صنوف الثياب، وأفخرها، وأحسنها، وكنت ممن وصل إليه ذلك.

وصيف كامه يحسن إلى أهل قم
حدثني أبو الفضل، قال: حدثنا شيخ كان لنا بفارس، من أهل قم، قال: ورد إلينا وصيف كامه، أمير على بلدنا، فتلقيناه، فرأيناه من فضله، وعقله، وجلالة قدره، كل عظيم.
قال: فأقبل علينا بخطاب جميل، ووعدنا، ومنانا، وعرفنا رأي السلطان في العدل والإحسان، ثم أقبل يسأل عن أمور بلدنا، مسألة عالم به، ويسأل عن شيوخه، إلى أن انتهى في السؤال، إلى رجل، لم يكن جليلاً، ولا مشهوراً، ولا عرفه منا إلا واحد كان في المجلس.
قال: فأقبل يعظم من أمره، ويسأل عن معيشته، وأولاده.
قال: فاسترقعناه.
قال: ثم قال لنا: أحضروني إياه إحضاراً جميلاً، فإني أكره أن أنفذ إليه من يستدعيه، فأروعه.
قال: فأحضرناه، فحين وقعت عينه عليه، قام إليه قياماً تاماً، وأجلسه في الدست معه.
قال: فسقط من أعيننا، وقلنا جاهل لا محالة.
قال: ثم أقبلعليه، يسأله، عن زوجته، وبناته، وبنيه، والشيخ يجيب جواب ضجر، باهت، معظم لما عمله.
فقال له: أحسبك قد نسيتني؟ وأنكرت معرفتي.
فقال: كيف أنكر الأمير - أيده الله - مع عظمه وجلالته؟ فقال له: دع هذا، أتعرفني جيداً؟ قال: لا.
قال: أنا مملوك وصيف.

ثم أقبل علينا فقال: يا مشايخ قم، أنا رجل من الديلم، كنت سبيت في وقت كذا وكذا، في الغزاة التي غزاهم فيها فلان الأمير، وكان سني إذ ذاك عشر سنين أو نحوها.
فحملت إلى قزوين، فاتفق أن هذا الشيخ كان بها، فاشتراني، وحملني إلى قم، وأسلمني مع ابنه في الكتاب، وأجراني مجراه، في حسن التربية، وفعل بي وصنع، وجعل يعدد له ما يذكره، وأنه أحسن ملكته، حتى إنه ما تأذى منه قط، ولا ضربوه، ولا شتموه، وإنهم كانوا يكسونه، كما يكسون ابنهم، ويطعمونه كما يطعمونه.
ولم أزل معهم في أحسن عشرة، إلى أن بلغت، وكانوا يهبون لي الدراهم لشهواتي " 104 " ، ويعطوني أكثر مما أحتاج إليه.
وكنت - مذ كنت صبياً - كلما وقع بيدي شيء، جمعته عند بقال في المحلة، يعرف بفلان.
قال: ثم سأل عنه، فقيل: هو باقٍ.
فلما بلغت واشتددت، طلبت السلاح، وعملت به، ومولاي - مع هذا - يشتري لي كل ما أريده، ويمكنني من شهواتي، ويحسن إليّ، ولا يعترض في شيء أريده علي.
قال: واتفق، أن بعض الجند رآني، فقال: هل لك في أن تخرج معي إلى خراسان، فأركبك الدواب، وأفعل بك، وأصنع.
فقلت: أصحبك، على شرط أن لا أكون مملوك، ولا تتملكني، ولكن أشتري لنفسي دابة، وسلاحاً، وأتبعك غلاماً لك، مالكاً لنفسي، فمتى رأيت منك ما أكره، فارقتك، ولم يكن لك الاعتراض عليّ.
فقال: افعل.
قال: فجئت إلى البقال، فحاسبته، وكان قد اجتمع لي عنده شيء كثير، فأخذته، واشتريت منه دابة وسلاحاً، وأخذت اليك، ومعي دراهم، وصحبت الجندي، وأبقت من مولاي هذا.
ومضيت إلى خراسان بأسرها، وتقلبت بي الأمور، وترقت حالي مع الأيام، حتى بلغت هذا المبلغ، وأنا في رق هذا الشيخ، وأنا أسألكم الآن، مسألته أن يبيعني نفسي.
قال: فأكبر الرجل ذلك، وقال: أنا عبد الأمير، والأمير حر لوجه الله، وأتجمل بولائه، وأفتخر أنا وعقبي بذلك.
قال: فقال: يا غلام، هات ثلاث بدر.
وأحضرت، وصب المال، وسلمه إلى الشيخ، ثم استدعى له من الثياب، والدواب، والبغال، والطيب، والآلات، ما تزيد قيمته على قدر المال.
ثم استدعى ابنه، فأحضر، وأكرمه، وتطاول له، ووهب له عشرة آلاف درهم، وثياباً كثيرة، ودواب، وبغالاً.
واستدعى البقال، ووهب له خمسمائة دينار، وثياباً كثيرة.
قال: ثم أنفذ هدايا، إلى بنات الشيخ، وزوجته، وعيال البقال.
قال: ثم قال للشيخ: يا فلان، انبسط في هذا السلطان الذي قد رزقك الله إياه، انبساط من يعلم أن الأمير مولاه، واعلم بأنك لا تحل شيئاً فأعقده، ولا تعقد شيئاً فأحله.
قال: ثم التفت إلينا، وقال: يا مشايخ قم، أنتم سادتي، وشيوخي، وما على الأرض، أهل بلد، أحب إليّ منكم، ولا أوجب حقاً " 105 " منكم، فانبسطوا في حوائجكم، انبساط الشريك الذي لا فرق بيني وبينه، إلا فيما حظرته الديانة، وليس بيني وبينكم فرق، إلا في ثلاث: طاعة السلطان، وصيانة الحرم، ومخالفتكم في الرفض، فإني قد طوفت الآفاق، وسلكت الجبال والبحار، وبلغت أقاصي المشرق والمغرب، فما رأيت على دينكم أحد غيركم، ومحال أن يجتمع الناس كلهم على ضلالة، وتكونوا أنتم من بين أهل الآفاق على حق.
قال: ثم سأل كل واحد منا، عن حوائجه، ونظر إليه فيها بطرف، ونظر للشيخ بضعف ما نظر به لأجلنا.
قال: فخرجنا من عنده، وقد نبل في عيوننا نبلاً شديداً، وانقلبت المواكب إلى باب الشيخ، فأقبل الناس إليه في الحوائج، وإلى ابنه، فصارا رئيسي البلد، ولم يكن وصيف يردهما في شيء يسألانه من قليل ولا كثير، إلى أن خرج عن قم.
وصيف كامه يعين عاملاً على فارس
قال: وحدثني أبو الهذيل، أن وصيفاً لما ولي فارس، أقام بشيراز، وكان يتواضع للناس، تواضعاً شديداً، ويحسن السيرة، ويتحبب إلى العامة جداً، حتى كان يعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
قالوا: وما رأينا أميراً أعقل منه، ولقد رأيته يوماً، قد حضر جنازة رجل من السوق، راكباً دابة، وعليه دراعة بيضاء وعمامة، وليس بين يديه، إلا ثلاثة من الشاكرية، فوقف في جملة الناس، يصلي على الرجل.
قال: وكان عندنا حائك، يعرف بفلان، يظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: فرأيته، وقصد أن جاء فوقف إلى جنبه في الصلاة، وزاحمه، حتى وضع مرفقه في صدر وصيف، وزحمه به.

فجاء بعض من كان معه، ينكر ذلك، وينحي الرجل، فنظر إليه نظراً شزراً، جزع معه الغلام، وتنحى، وتركه والحائك.
قال: فرأيته، وقد تجمع في مكانه، ووسع للحائك، حتى أتموا الصلاة.

الوزير يتيم في حجر كل كاف
بلغني مكن جهة وثقت بها، عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، قال: حضرت مجلس أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، وأبو زنبور الكاتب، يعذله في إفضائه إلى أبي العباس بن الفرات، وتفويضه الأمور إليه، ويخاطبه بكل عظيم في ذلك.
إلى أن قال له: الناس يقولون، أيها الوزير: إنك يتيم في حجر ابن الفرات.
فقال عبيد الله: أنا يتيم في حجر كل كافٍ.
أبو أحمد الشيرازي والصفراء
حدثني بعض إخواني الثقات عندي " 106 " ، قال: حدثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: لما صحبت أبا علي بن مقلة إلى بغداد، واستكتبني، كان يتعمد نفعي بكل شيء، ويوصل إليّ أموالاً جليلة، فلم أكن أحفظها، وكانت كلها تخرج عن يدي، في القيان، والشراب، وأتلفها.
قال: فهويت جارية من القيان صفراء، واشتهر أمري معها، وأتلفت كل كسبي عليها، حتى بلغ أبا علي، وكان يعذلني، ويوبخني، ويمنعني من مفارقة حضرته، وأن أخل بها.
قال: فأفلت يوماً من حضرته، ومضيت إلى بيتي، وقد حصلها غلامي، وأعد لي مجلساً بالفاكهة الكثيرة، والتحايا الظراف، والشراب الفاخر.
قال: فشربت ليلتي معها، وخفت أن أخل بالوزير، فحملتني الشهوة للجلوس مع المغنية، على أن كتبت إلى الوزير رقعة، أعتذر فيها من التأخر، وأقول:: إن الصفراء تحركت عليّ، واضطرب جسمي، فلم أقدر على المجيء، وأباكر الخدمة في غد، وأسأل قبول عذري.
قال: فعاد إليّ الجواب، بخط أبي علي بن مقلة، في أضعاف السطور، بأجل خطاب، وألطف مداعبة.
وقال فيه: يا هذا، ظلمت الصفراء، أنت تحركت على الصفراء، ليس هي تحركت عليك، وقد علمت مغزاك في التأخر، وبحسب ذلك أجبتك، وقد بعثت إليك منديلاً مختوماً فاستعن بما فيه.
قال: ففتحت المنديل، وإذا فيه، رطل ند، وشيء كثير من الكافور، والمسك، ومائتا دينار عيناً.
وأنشدني أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم، لنفسه في معنى الصفراء، بيتين ما سمعت أظرف منهما في معناهما، وهما يقاربان قول ابن مقلة، وهما:
قال الطبيب وقد تأمل سحنتي ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً ومعنى ما أراد خطاء
لا يمكن التجلد على عذاب الله
حدثني بعض البغداديين، قال: ضرب عندنا رجل من أهل العصبية، خمسمائة سوط، في وقت واحد، فلم يتأوه، ولم ينطق.
فلما كان بعد أيام، حم حمى صعبة، وضرب عليه معها رأسه، فأقبل يصيح، كما يصيح البعير، ويقول: العفو، العفو، يكررها.
فلما كان من غد، اجتمع إليه قوم من أهل الحبس، فقالوا: فضحتنا، أنت تضرب بالأمس خمسمائة سوط، فلا تصيح، تحم ساعة من ليلة، فتصيح؟ فقال: عذاب الله عز وجل، أشد العذاب، وما كنت لأتجلد عليه.
الغلط الذي لا يتلافى
قال: وأتي " 107 " بعض الولاة، برجلين، أحدهما قد ثبت عليه الزندقة، والآخر قد وجب عليه الحد.
فسلم الوالي الرجلين، إلى بعض أصحابه، وقال: اضرب عنق هذا، - وأومأ إلى الزنديق - واجلد هذا، كذا وكذا.قال: فتسلمهما وخرج.
فوقف المحدود: وقال: أيها الأمير، سلمني إلى غيره، فإن هذا الأمر، لا آمن فيه الغلط، والغلط فيه لا يتلافى.
قال: فضحك منه الأمير، واستطابه، وأمر بإطلاقه، فأطلق، وضربت عنق الزنديق.
المهدي والمتهم بالزندقة
قال: وأتي المهدي بن المنصور، برجل قد رمي بالزندقة، فسأله عن ذلك.
فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، رسوله، وأن الإسلام ديني، عليه أحيا، وعليه أموت، وعليه أبعث.
فقال له المهدي:: يا عدو الله، إنما تقول هذا مدافعة عن نفسك، هاتم السياط، فأحضرت، وأمر بضربه، فضرب، وهو يقرره.

فلما أوجعه الضرب، قال له: يا أمير المؤمنين، اتق الله، فقد حكمت عليّ، بخلاف حكم الله تعالى، وخلاف حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا دماءهم، وأموالهم، إلا بحقهما، وحسابهم على الله، وأنت قد جلست تطالبني، وتضربني، حتى أكفر، فتقتلني.
قال: فخجل المهدي، وعلم أنه قد أخطأ.
فأمر بإطلاقه.

شر السلطان يدفع بالساعات
حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي علان الأهوازي، قال: حدثني جدي أبو القاسم بن أبي علان، وقد جرى حديث السلطان، وأن شره يدفع بالساعات، قال: ورد علينا أبو يوسف البريدي، كاتب السيدة، يطالبني، وأبا يحيى الرامهرمزي، أن نضمن منه ضياع السيدة، وتشدد علينا ونحن ممتنعون.
إلى أن أخلى لنا مجلسه، في يوم خميس، وناظرنا مناظرة طويلة، وشدد علينا أمراً عظيماً، فكدنا معه أن نجيبه، وكان علينا في ذلك ضرر عظيم.
فقلت لأبي يحيى: يجب أن نجتهد في رفع المجلس اليوم، لنتفكر إذا انصرفنا، كيف نعمل.
قال: وكان أبو يوسف محدثاً طيباً.
قال: فجره أبو يحيى، إلى المحادثة، واستلب هو الحديث، وسكت أبو يحيى.
قال: وكانت عادة أبي يوسف، في كلامه، أن يقول كل قطعة من حديثه: أفهمت؟ قال: وكان كلما قال أبو يوسف، لأبي يحيى، أفهمت؟ يقول أبو يحيى: لا، فيعيد الحديث، ويخرج منه إلى حديث آخر.
قال: فلم يزل " 108 " كذلك، حتى حمي النهار، وقربت الشمس من موضعنا.
فرجع أبو يوسف إلى حديث الضمان، ومطالبتنا بالعقد.
فقلت له: إنه قد حمي النهار، وهذا لا يتقرر في ساعة، ولكن نعود غداً، ورفقنا به، فقال: انصرفوا، فانصرفنا، واستدعانا من غد، فكتبنا إليه رقعة، إنه يوم الجمعة، وهو يوم ضيق، ونحتاج إلى الحمام والصلاة، وقل أمر يبتدأ به يوم الجمعة، قبل الصلاة، فيتم، ولكنا نبارك يوم السبت، فاندفع.
واستدعانا يوم السبت، فصرنا إليه، وقد وضعنا في نفوسنا، الإجابة، لما أيسنا من الفرج.
فحين دخولنا إليه، ورد إليه كتاب، فقرأه، وشغل قلبه، وقال: انصرفوا اليوم، فانصرفنا، ورحل بعد ساعة، لأن الكتاب كان يتضمن ذكر صرفه.
فبادر قبل ورود الصارف، وكفينا أمره.
كيفية إغراء العمال بأخذ المرافق
قال : وورد إلينا، في وقت من الأوقات، بعض العمال، متقلداً للأهواز، من قبل السلطان، وقد أسماه، ونسيه الذي حدثني.
قال: فتتبع رسومنا، ورام نقض شيء منها، وكنت أنا وجماعة من التناء في تلك المطالبة، وكان فيها ذهاب غلاتنا في تلك السنة، لو تم علينا، وذهاب أكثر قيم ضياعنا.
قال: فقالت لي الجماعة: ليس لنا غيرك، تخلو بهذا الرجل، وتبذل له مرفقاً، وتكفينا إياه.
قال: فجئته، وخلوت به، وبذلت له مرفقاً جليلاً، فلم يقبله، ودخلت عليه بالكلام في غير وجه، فما لان، ولا أجاب.
قال: فأيست منه، وكدت أن أقوم خائباً.
قال: فقلت له في عرض الكلام: يا هذا الرجل، أنت مصمم في هذا الأمر على خطأ شديد، لأنك تظلمنا، وتزيل رسومنا، من حيث لا يحمدك السلطان، ولا تنتفع أنت بذلك.
ومع هذا، فأخبرني، هل تأمن أن تكون قد صرفت، وكتاب صرفك، في الطريق، يرد عليك بعد يومين أو ثلاثة، فتكون قد أهلكتنا، وأثمت في أمرنا، وفاتك هذا المرفق الجليل.
ولعلنا نحن نكفى، ويجيء غيرك فلا يطالبنا، أو يطالبنا فنبذل له هذا المرفق، فيقبله، ويكون الضرر، إنما يدخل عليك وحدك.
قال: فحين سمع هذا، اعتقد أن لي ببغداد، من يكاتبني بالأخبار، وأنني قد أحسست باختلال أمره، وأخذ يخاطبني من أين وقع لي أنه قد وقع هذا.
قال: فقويته، وثبته في نفسه، فأجاب إلى أخذ المرفق، وإزالة المطالبة.
فسلمت " 109 " إليه رقاع الصيارف بالمال، وأخذت منه حجة بإزالة المطالبة، وانصرفت، وقد بلغت ما أردت.
قال: فسلمت، فلما كان بعد خمسة أيام، لا تزيد يوماً، ورد عليه الكتاب بالصرف.
قال: فدخلت عليه، فأخذ يشكرني، ويخبرني بما جرى، وبما ورد عليه، فأوهمته أني كنت قد قلت له ذلك، على أصل.
وكفيت تلك المطالبة.
يحتال على القواد الأتراك
بسر من رأى

حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، الوكيل على أبواب القضاة بالأهواز، قال: قال لي بعض المدين ببغداد، عن شيخ لهم أيسر، وعظمت حالته، حتى استغنى عن الشحذ، فكان يعلمهم ما يعملون، فسألناه عن سبب نعمته، فقال: كنت تعلمت السريانية، حتى كنت أقرأ كتبهم التي يصلون بها.
ثم لبست زي راهب، وخرجت إلى سر من رأى، وبها قواد الأتراك، فاستأذنت على أحدهم، فأدخلت.
فقلت له: أنا فلان الراهب، صاحب العمر الفلاني، وذكرت عمراً بعيداً بالشام، وأنا راهب فيه منذ ثلاثين سنة.
وكنت نائماً، فرأيت النبي صلى الله وسلم، وكأنه قد دخل إلى عمري، فدعاني إلى الإسلام، فأجبته، فقال لي: امض إلى فلان القائد، حتى يأخذ عليك الإسلام، فإنه من أهل الجنة، فجئت لأسلم على يديك.
قال: ففرح التركي فرحاً عظيماً شديداً، ولم يحسن أن يأخذ عليّ الإسلام، فتعتع في كلامه، وقطعت الزنار وأسلمت بحضرته.
قال: فوصلني ما قيمته خمسة آلاف درهم، من الدراهم، والثياب، وغيرها وعدت إلى منزلي.
فلما كان من غد، بكرت إلى قائد منهم، بزي الرهبان، وقلت له، كما قلت للأول، وأعطاني أكثر من ذلك، حتى طفت على جماعة منهم، فحصل لي من جهتهم أكثر من خمسين ألف درهم.
فلما كان في بعض تلك الأيام، صرت إلى أحدهم، واتفق أنه كانت عنده دعوة، فيها وجوههم، فلما دخلت، وقصصت الرؤيا، وتأملتهم، وإذا في الجماعة واحد ممن كنت لقيته بالرؤيا.
قال: فقامت عليّ القيامة، فلما فرغت من حديث الرؤيا، وأظهرت الإسلام على يد التركي، وأمر لي بالجائزة، وخرجت، أتبعني ذلك القائد بغلامه.
فلما بعدت عن الدار، قبض عليّ " 110 " ، وحملني إلى منزل التركي الأول، فقامت قيامتي، وأحسست بالمكروه، وبذلت للغلام جميع ما كان معي، ليدعني أنصرف، فلم يفعل.
وجاء التركي، وهو منتش، فقال: " يا با، حصلت تسخر بالأتراك واحد واحد، وتأخذ دراهمهم " ؟ قال: فقلقت فزعاً، وقلت: يا سيدي، أنا رجل صفعان، فقير، مكد، وأنا فعلت هذا لآخذ شيئاً.
قال: فقال لي: أظننت أنني أفضحك في بلدك؟ ما كنت بالذي أفعل، وقد جازت السخرية عليّ، حتى تجوز على الجماعة، كما جازت عليّ، ولكن أليس أنت؟ قال: فطايبته، وتصفعت له، فضحك مني، واستدعى بالنبيذ، وشرب، ولاعبته، فاستخف روحي، وحبسني عنده، وخلع علي، وأعطاني دراهم، ودعا جماعة من قواد الأتراك وخرجت عليهم في زي الصفاعنة، فعطعطوا عليّ، وضحكوا.
فحدثهم التركي، بالحديث، فضحكوا.
قال: فأخذت منهم، على تلك الحال، مالاً ثانياً جليلاً، وانصرفت إلى بغداد وابتعت به عقاراً، منه أعيش إلى الآن.
تم الجزو الثامن ويتلوه التاسع والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين " 111 "

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8