كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي قال: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: كان أسد بن جهور، كثير النسيان، فحضرته يوماً في مجلس عبيد الله ابن سليمان، وهو يخاطبه في أمر من الأمور، فيقول له أسد: سمعاً لأمر القاضي أعزه الله، وقد نسي أنه الوزير.
قال: وكان إلى جانبه أبو العباس بن الفرات، فغمزه أبو العباس، وقال: قل الوزير.
فقال: نعم، أعز الله القاضي.
فضحك ابن الفرات وقال: لست القاضي، فارجع إلى صاحبك فقضه.

أسد بن جهور يطلب الماء
للدواة مراراً ثم يشربه
قال: وكنت يوماً عند أسد، فجفت دواته وهو يكتب منها.
فقال: يا غلام كوز ماء للدواة.
فجاء الغلام بالكوز ليصبه فيها، فأخذه وشربه، ومضى الغلام.
فقال: ويلك، هات الماء للدواة.
فجاءه به ثانية، فشربه أيضاً، ومضى الغلام، واستمد من الدواة فكانت أجف.
فقال: ويلكم، كم أطلب ماء للدواة ولا يجيئني.
فجاؤوه بكوز ثالث، فأخذه ليشربه.
فقال الغلام: يا سيدي، تصب في الدواة أولاً.
فقال: نعم، نعم، فصبه في الدواة.
بين أبي بكر الأزرق التنوخي وأسد بن جهور
قال: وأخرجني ابن الفرات في سنة تسع وتسعين، انظر في أمر إصلاح الطريق ونفقات الموصل، وسبب لذلك مالاً على الكوفة، وأسد بن جهور عاملها.
فلما جئتها، وكان لي صديقاً، تأخر عن قصدي، فتأخرت عنه أيضاً، فولد ذلك بيننا وحشة، فاستقصيت عليه في المطالبة بالمال، وتقاعد بي، فصارت مكاشفة.
فكتبت إلى الوزير أحرضه عليه، وكتب يتشكاني، فوردت الكتب إلى شاكر الإسحاقي، وهو أمير الكوفة، أن يجمع بيننا في المسجد، ولا يبرح، ولا ينفصل، ولا يرضيني بالمال.
فركبت، وجئت إلى باب الإسحاقي، ولم أدخل، وعرفته ما ورد، وأنني متوجه إلى الجامع. فركب ولحقني، وقال: ورد اعلي مثل هذا.
فقلت: تحضر أسد، فركب إليه، فأحضره.
فحين اجتمعنا تخارجنا في الكلام، إلى أن قلت له: أتطن أني لا أعرف أباك، وأنه كان راجلاً على باب ديوان الضياع، برزق دينارين في الشهر.
قال: وكان اجتماعنا في أول يوم من شهر رمضان، فلم ينته الكلام إلى فصل، وجاءت الغرب، فقام شاكر ليركب، وأسد معه، فجلست أنا.
فقالا: لم تجلس؟ فقلت: أنا لا أخالف أمر الوزير، ولا أبرح إلا بفصل، أو بالمال.
فقال شاكر لأسد: اجلس معه ولا تبرح.
وقال لي: لولا أن قعودي معكما لا فائدة فيه، ويضرني، لقعدت، واعتذر إلى، فعذرته، وانصرف.
وقمت أنا إلى موضع من الجامع، يقال له قبة خالد، فجلست عنده أصلي، وجلس أسد مكانه، وأنفذ إلى داره يستدعي الإفطار، وأنفذت إلى داري، فجاء طعامه وطعامي معاً.
فقام إلي، وسألني أن أجعل إفطاري معه، وفرغ الجامع إلا من أصحابنا، وبسطت سفرته، واصلحت مائدته.
وأقبل أٍد يسألني المجيء إليه، وأنا أمتنع، إلى أن حلف، وكنت أعرف بخله.
فقلت لغلماني: أخرجوا طعامنا فصدقوا به، على من حوالي الجامع، ففعلوا.
وجئت، فأكلت معه منبسطاً، أكل الصائم، ولونه يتغير، ولا يقدر على النطق، فتقطعت نفسه، ولم نزل متلازمين في الجامع، خمسة عشر يوماً من رمضان إلى أن راج المال، وأنا أواكله هكذا.
فلما افترقنا، انعل بعد العيد بأيام، علة مات منها.
فقلت: إنا لله، ليت لا يكون ما عملته معه سبباً لموته غماً.
بين طاهر بن يحيى العلوي وأحد أصحابه
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني أبو القاسم علي بن الأخزر المشهور بعلم النحو، وكان نبيلاً، جليلاً مرتفعاً عن الكذب، قال: حججت، فدخلت إلى طاهر بن يحيى العلوي، أسلم عليه، فجاءه رجل، فقبل رأسه ويديه، وأخذ يعتذر إليه.
فقال: لا تعتذر، فقد زال ما في نفسي، وقبلت عذرك، وإن شئت أخبرتك عن قصدك إياي، وسبب عذري لك من قبل أن تخبرني.
فتعجب الرجل، وقال: افعل يا سيدي.
قال: إنك رأيت رسول الله صلى الله عليه في منامك، فعاتبك على قطع عالتك عني إذا دخلت المدينة حاجاً، وإنك طويتني عدة حجج دخلت فيها المدينة ولم تجئني.
فقلت له: إن الحياء منعك من قصدي، وإنك لا تأمن أن لا أبسط عذرك.
فقال لك: إني آمر طاهر ببسط عذرك، فلا تجف ولدي، وصله، فجئت إلى، فقال الرجل: كذا والله كان، فمن أين لك يا سيدي هذا؟

قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه، في المنام وأخبرني بما جري بينكما على هذا الشبه.

يا قديم الإحسان
حدثني أبو الحسن أيضاً، قال: كان في باب الشام رجل يقال له: لبيب العابد، زاهد، ناسك، صالح، فأخبرني، قال: كنت مملوكاً رومياً، فمات مولاي، فعتقني، فحصلت لنفسي رزقاً برسم الرجالة، وتزوجت بستي، زوجة مولاي، وقد علم الله، أني لم أتزوجها إلا لصيانتها، لا لغير ذلك، فأقمت معها مدة.
ثم إني رأيت يوماً حية وهي داخلة إلى جحرها، فأخذتها، فمسكتها بيدي، فانثنت على، فنهشت يدي، فشلت، ثم شلت الأخرى بعد مدة، ثم زمنت رجالي، واحدة بعد أخرى، ثم عميت، ثم خرست.
فمكثت على هذه الحال سنة، لم تبق في جارحة صحيحة، إلا سمعي، أسمع به ما أكره.
وكنت طريحاً على ظهري، لا أقدر على إشارة، ولا إيماء، فأسقى وأنا ريان، واترك وأنا عطشان، وأطعم وأنا ممتلئ، وأفقد الطعام، وأنا جائع، لا أدفع عن نفسي، ولا أقدر على إيماء بما يفهم مرادي منه.
فدخلت امرأة بعد سنة إلى زوجتي، فسألتها عني، فقال: كيف لبيب؟ فقالت لها، وأنا أسمع: لا حي فيرجى، ولا ميت فينسى.
فغمني ذلك، وبكيت، وضججت إلى الله تعالى في سري.
وكنت في جميع ذلك الحال، لا أجد ألماً في شيء من جسمي، فلما كان في ذلك اليوم، ضرب بدني كله ضرباً شديداً لا أحسن أن أصفه، وألمت ألماً مفرطاً.
فلما كان في الليل، سكن الألم، فنمت، وانتبهت، ويدي على صدري، فعجبت من ذلك وكيف صارت يدي على صدري، ولم أزل مفكراً في ذلك، ثم قلت لعل الله قد وهب عافيتي، فحركتها، فإذا هي قد تحركت، ففرحت، وطمعت في العافية.
وفلت: لعل الله إذن بخلاصي، فقبضت إحدى رجلي إلي، فانقبضت، وبسطتها، فانبسطت، وفعلت بالأخرى كذلك، فتحركت، فقمت قائماً، لا قلبة لي، ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحاً عليه، فخرجت إلى الدار، ورفعت طرفي، فرأيت الكواكب، فإذا أنا قد أبصرت، ثم انطلق لساني، فقلت: يا قديم الإحسان، بإحسانك القديم.
ثم صحت بزوجتي، فقالت: أبو علي.
فقلت: الساعة صرت أبو علي.
فأسرجت، وطلبت مقراضاً، وكان لي سبال كما يكون للجند، فقصصته، فضجت من ذلك، وقالت: ما هذا؟ فقلت: بعد هذا لا أخدم غير ربي، فصار هذا سبب عبادتي.
قال: وخبره مستفيض، ومنزلته في العبادة مشهورة، وصارت هذه الكلمة عادته، لا يقول في حشو كلامه، وأكثر أوقاته غيرها: يا قديم الإحسان.
قال: وكان يقال: إنه مجاب الدعوة، وكان الناس يقولون إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح يده عليه، فسألته عن ذلك، فحدثني بهذا الحديث، وقال: ما كان سبب عافيتي غيره.
قال: وقال لي: كان لي قراح على شاطئ دجلة ، بالمدائن، وكان فيه تلال وأشياء ينبغي أن تستخرج، ويطم بها مواضع فيه، فتحتاج إلى رجال كثيرة.
فكنت ليلة فيه، وكانت قمراء، فاجتاز بي خلق كثير من الفعلة، قد انصرفوا من عمل بثق، فرأوني فعرفوني.
فقلت لهم: هل لكم أن تكسحوا هذا القراح الليلة، وتسووا تلوله بالأرض، وتأخذوا مني كذا وكذا.
فقالوا: نعم، أتحفنا بالأجرة، فعملوا ذلك، فأصبحنا وقد صارت أرضاً مستوية.
فقالت العامة: الملائكة أصلحوه، وكذبوا، ما كان غير هذا.
الحلاج في جامع البصرة
حدثني أبو الحسين مجمد بن عبيد الله القاضي المعروف بابن نصرويه قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج، وهو إذ ذاك في جامع البصرة، يتعبد، ويتصوف، ويقرأ، قبل أن يدعي تلك الجهالات، ويدخل في ذلك.
وكان أمره إذ ذاك مستوراً، إلا أ، الصوفية تدعي له المعجزات من طرائق التصوف، وما يسمونه معونات، لا من طرائق المذهب.
قال: فأخذ خالي يحادثه، وأنا صبي جالس معه، أسمع ما يجري.
فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة.
فقال له خالي: لم؟ قال: قد صير لي أهل هذا البلد حديثاً، وقد ضاق صدري، وأريد أن أبعد عنهم.
فقال له: مثل ماذا؟

قال: يرونني أفعل أشياء، فلا يسألونني عنها، ولا يستكشفونها فيعلمون أنها ليست كما وقع لهم، ويخرجون ويقولون: الحلاج مجاب الدعوة، وله معونات قد تمت على يده، وألطاف، ومن أنا حتى يكون لي هذا؟ بحسبك، إن رجلاً حمل إلي منذ أيام دراهم، وقال لي: اصرفها إلى الفقراء، فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية من بواري الجامع إلى جنب اسطوانة عرفتها، وجلست طويلاً فلم يجئني أحد، فانصرفت إلى منزلي، وبت ليلتي، فلما كان من غد، جئت إلى الأسطوانة، وجلست أصلي، فاحتف بي قوم من الصوفية، فقطعت الصلاة، وشلت البارية، وأعطيتهم تلك الدراهم.
فشنعوا علي بأن قالوا: إني إذا ضربت يدي إلى التراب صار في يدي دراهم.
قال: وأخذ يعدد مثل هذا أشياء، فقام خالي عنه، وودعه، ولم يعد إليه.
وقال: هذا منمس، وسيكون له بعد هذا شأن.
فما مضى إلا قليل، حتى خرج من البصرة، وظهر أمره وتلك الأخبار عنه.

جحظة البرمكي يغضب من
خسارته في النرد
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: حدثني أبو علي بن الأعرابي الشاعر قال: كنت في دعوة جحظة، فأكلنا، وجلسنا نشرب، وهو يغني، إذ دخل رجل، فقدم إليه جحظة زلة كان زلها له من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلاً على الطعام.
قال: وكأن الرجل، كان طاوي سبع، فأتى على الزلة، وشال الطيفورية فارغة، وجحظة يرمقه بغيظ، ونحن نلمح جحظة، ونضحك. فلما فرغ، قال له جحظة: تلعب معي بالنرد؟ فقال: نعم.
فوضعاها بينهما، ولعبا، فتوالى الغلب على جحظة من الرجل، بأن تجيء الفصوص على ما يريد الرجل من الأعداد.
فأخرج جحظة رأسه من قبة الخيش، إلى السماء، وقال، كأنه يخاطب الله تعالى: لعمري، إني أستحق هذا، لأني أشبعت من أجعته.
بين مؤذن ومحتسب
وحدثني، قال: سمعت بعض شيوخنا يحكون: إن رجلاً مؤذناً عادى محتسباً، فأحضره.
فقال له: أي شيء بيننا، مما يوجب استدعاءك لي.
قال: أريد أن تعرفني وقت الصلاة، فإن كنت عالماً بها، وإلا لم أدعك تؤذن مع الناس بالصلاة في غير وقتها.
ووجده غير قيم بذلك، فمنعه من الأذان.
أبو بكر بن دريد كان آية في الحفظ
وحدثني، قال: حدثني جماعة عن أبي بكر بن دريد، أنه قال: كان أبو عثمان الأشنانداني معلمي، وكان عمي الحسين ابن دريد يتولى تربيتي، فإذا أراد الأكل، استدعى أبا عثمان، فأكل معه.
فدخل عمي يوماً، وأبو عثمان المعلم يرويني قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها:
أذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
فقال لي عمي: إذا حفظت هذه القصيدة، وهبت لك كذا وكذا.
ثم دعا بالمعلم ليأكل معه، فدخل إليه، فأكلا، وقعدا بعد الأكل ساعة، فإلى أن خرج المعلم، حفظت ديوان الحارث بن حلزة بأسره.
فخرج المعلم، فعرفته بذلك، فاستعظمه، وأخذ يعتبره علي فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمي، فأخبره، فأعطاني ما كان وعدني.
قال: وكان أبو بكر واسع الحفظ جداً، ما رأيت أحفظ منه، كان يقرأ عليه دواوين العرب كلها، أو أكثرها، فيسابق إلى حفظها، فيحفظها.
وما رأيته قط قرأ عليه ديوان شاعر، إلا وهو يسابق إلى قراءته لحفظه له.
البربهاري رئيس الحنابلة ببغداد
حدثني أبو الحسن، قال: سمعت أبا محمد السليماني الهاشمي، المعروف بعباد رحله، وقد جرى ذكر البربهاري بحضرته، فقال: وقف يوماً للقاهر، فقال: يا أمير المؤمنين أهلك الهاشميين.
فقال القاهر: أفعل، وإنما أراد أ، يذكره بهم، ويقول: أهلك.
ورأى عيناً هائجة، فقال: لو استعمل هذا الخضرط، عوفيت.
فقيل له: ليس هو الخضرط.
فقال: نعم، غلطت، هو الخضخض.
فسكتوا عنه، وإنما أراد الحضض.
أبو الفرج الببغاء ينشي نسخة كتاب
على لسان الأمير سيف الدولة بشأن الفداء
حدثني أبو الفرج الببغاء، قال: لما أقام سيف الدولة الفداء، بشاطئ الفرات في رجب سنة خمس وخمسين وثلثمائة، لزمه عليه خمسمائة ألف دينار، في شراء الأسارة، والأموال التي وصلهم بها، ورم بها أحوالهم.
وأخرج جميع ذلك من ماله، صبراً واحتساباً، وطلباً للثواب والذكر، من غير أن يعاونه أحد من الملوك عليه، ولا غيرهم.
وكان ذلك خاتم أعماله الحسنة، وأفعاله الشريفة، التي تجاوز الوصف، وتفوت العد.

فلما فرغ من ذلك، تقدم إلى كل من بحضرته، في الوقت، من أهل الكتابة، أن ينشئ كل واحد منهم، نسخة كتاب ليكتب عنه إلى من في البلدان من الجيش والرعية، بخبر تمام الفداء، ووصف الحال فيه.
فكتبت عنه في ذلك: كتابنا، تولاكم الله بكفايته، وحرسنا فيكم بناظر رعايته، من معسكرنا بالبقعة المعروفة بالمعقلة من شاطئ الفرات، بعد إمضائنا أمر الفداء الذي اختصنا الله فيه بشرف ذكره، وانتخبنا للنهوض بمعظم أمره، وولينا بالمعونة في تحمل ثقله، ووفقنا للفوز بإحراز فضله، بعد أن استراحت فيه النيات إلى الغفلة، ومطاوعة الشح، ومساكنة الراحة، وتظنون بالله الظنون. فالحمد لله حمداً نستديم بالإخلاص فيه مداد عوارفه وأياديه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ولما كانت منح الله تعالى لدينا، ونعمه المتظاهرة علينا، أعظم من أن تطاول بثناء، وأجل من أن تقابل بجزاء، رأينا الاعتراف بما أحرزناه من سالفها، والإشادة بما قابلناه من مستأنفها، أقدر على استزادتها، وأولى بحراستها.
ولم نزل، ولله المنة، منذ عرفنا ما ندبنا إليه، وتأملنا ما حضنا عليه، من الخفوف لجهاد الكافرين والتعبد بقتال المخالفين، بين رأي يتضمن التوفيق عواقبه، وعزم يصرع الإقبال مغالبه، وفتح يجمع الإسلام أثره، وبلاء تداول الأيام خبره.
ولا ننصرف عن غزو إلا إلى نفير، ولا نتشاغل بنظر إلا إلى تدبير، ولا نعتد بالمال إلا ما أنفقناه، ولا نسر بذخر إلا ما أنفدناه، فيما حرس الأمة، وحصن الملة، وبث العدل، وجمع الشمل.
إلى أن استعبدنا ملوكهم بالأسر، وجسنا ديارهم بكتائب النصر، وأوحشنا المراتب من أربابها، واستنزلنا عن الحصون أصحابها، وفجعنا ملكهم بصهره وابن أخته قهراً، وأثكلنا أخاه مراغمة وصغراً.
فلما أدلنا الحق من الدلال، وأعاده الله تعالى بنا من العز إلى أشرف حال، عدلت السيوف عن دمائهم إلى أغمادها، واستبدلت إصدارها بإيرادها، ونصلت الرماح أسنتها، وطاوعت الخيل أعنتها، واستماحتنا الأعداء إلى الموادعة، ورغبت إلينا بالتضرع في المسألة.
واستفتحوا ذلك بطلب الفداء الذي لا يسعنا الامتناع منه، ولا نجد تأولاً في الإضراب عنه.
فرأينا بعد الإثخان في الأرض، فك من في أيديهم من الموحدين، ومن في رقهم من المسلمين، أفضل كاسب لعاجل الشكر، وأوفى ضامن لأجل الأجر.
فأنفذنا إلى سائر الأقطار وبثثنا الأصحاب في جميع الأمصار لإحصاء السبي وانتزاعه، والتوفر على جمعه وابتياعه من خالص ملكنا وخاصة مالنا، من غير مسامحة لأحد من أهل زماننا في معاونتنا، بغير الثياب التي شركناهم بها في نيل الحمد وكسب المثوبة.
وأضفناهم إلى من ملكناه بحكم الرماح، وأحرزناه بقهر الخيل والصفاح، من أكابر البطارقة، وأنجاب الزراورة، ووجوه الأعلاج، وأجاد الأنجاس.
ولم يزل من سلف قبلنا من الملوك، وتقدمنا من السلاطين، في عقد الهدن، وإقامة الأفدية، يرغب إلى سائر نظرائه، وذوي السمعة من أتباعه، والمكنة من رعيته، في معاونته بالأحوال، ومعاضدته ببذل الأموال.
وأبى الله لنا إلا التفرد بأجر ذلك وشكره، وحميد أثره، وجميل ذكره.
وندبنا أكابر الغلمان، وثقاة الخدم، لتسييرهم بأعم رأفة وأتم رفق، حسب ما أمرنا به من ترفيه السبي، ومراعاة الأسرى، إلى أن عبرنا بجميعهم من الفرات، بحيث سألنا صاحبهم الانجذاب إليه، ورغب إلينا في النزول عليه، تأنساً بمجاورة الدروب المستصعبة، وحذراً من مفارقة الجبال المستعصمة.
فلما اقتضى قربنا سرعة المسير، وتنجزه، دنونا لإمضاء الأمر بعد التقرير.
أقدم مرتاباً بإقدامه، وسار متهماً عواقب رأيه واعتزامه، بجموع يفرق الجزع آراءها، وقلوب يشتت الخوف أهواءها، وأفكار مكدودة بالوجل، ومنن مستعبدة لأوامر الفشل، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فأحذرهم، إلى أن حل بفنائنا ملقياً مفاليد أمره إلى الاستسلام، وآخذاً من وفاءنا بأوكد ذمام.
وافتتحنا الفداء يوم السبت غرة رجب الذي هو غرة الأشهر الحرم، وقد عرف الله تعالى المسلمين ما استودعناه من صالح الأعمال، وذكي الأفعال، وتعجل البركات، وتناصر الخيرات، فاستمر بأكمل هدي، وأنجح سعي، وأبسط قدرة، وأعم نصرة، وأعز سلطان، وأوضح برهان، وكلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، والله عزيز حكيم.

ولم تزل الحال في ذلك جارية على أحكم نظام، وأحسن التئام، إلى أن استنقذ الله بنا من كاد تطاول الأسر يستغويه، والإياس من الخلاص أن يرديه، وهم على الإضل ما عهدتاهم عليه من حسن اليقين، والتمسك بعصم الدين.
وسار عنا من فاديناه من البطارقة المذكورين، والزراورة المشهورين، بأجسام ضاعنة، وقلوب قاطنة، تتلفت إلى ما خلفته من غامر تفضلنا، وألفته من ألطاف تطولنا.
فهم بعد الفداء موثوقون في أسر الإحسان، ومع الخلاص مقرونون برق التطول والامتنان.
ولما أحضرونا من أسروه من الأعمال النازحة، والبلدان الشاسعة، ولم نستخر ادخار الأموال عن خلاصهم، ولا الشح بها عن تعجيل فكاكهم، فابتعناهم من الأثمان بأعظمها، ومن الأموال بأجسمها، ولم نطع في ادخار الذهب والفضة، المقرون بمخاوف الوعيد، وفظيع التهديد، أمر الشك في ربح الصفقة بمتاجرة الله تعالى، جل اسمه واثقين بعاجل الخلف، وآجل الجزاء، وذلك الفوز العظيم.
وتداركنا من عمارة أحوالهم، ما كان مختلاً بمعاناة الفقر، ومتهافتاً بتطاول الأسر، وانقلبنا قافلين بأسعد منقلب، وأربح مكتسب، وأتم إقبال، وأجمل حال، بعد أن أجفل العدو خذله الله، مستطيلاً مدة إقامته، وشاكاً في إحراز سلامته، متوهماً أن الخيول تطلبه، والرماح تتعقبه، لا يعرج على ضعفاء ساقته، ولا يلوي على أخص من في جملته.
وتقدمنا بمكاتبة أوليائنا، وكافة رعيتنا، بذكر ما هيأه الله عز وجل لنا من تظاهر النعم، وتواتر القسم، وليشهروا ذلك على منابر الصلوات، ويعلنوه بالرسائل والمكاتبات، إذ كان ما يتوجه لله سبحانه من تتابع النعم والمنح، وتواصل العوارف، عائداً على الملة، ومساوياً بالنفع به الأمة.
فالحمد لله الذي اختصنا من اختياره، وأفردنا بإيثاره، بما رآنا له أهلاً لخلافة نبيه صلى الله عليه وسلم في حراسة أمته، وإعزاز كلمته.
وإليه نرغب في توفيقنا للاعتراف بعوارفه، لما تكون به النعم محروسة، والموهبة محفوظة، لا ينتقصها كفران، ولا يرتجعها عدوان، إن شاء الله تعالى.

الشاعر المعوج يمدح بدر الحمامي
حدثني أبي، قال: حدثني المعوج، قال: كبا الفرس ببدر الحمامي، وافتصد، فدخلت إليه، فأنشدته أبياتاً عملتها في الحال، وهي:
لا ذنب للطرف إن زلت قوائمه ... وليس يلحقه من عائد دنس
حملت بأساً وجوداً فوقه وندى ... ليس يقوى بهذا كله الفرس
قالوا افتصدت فما نفس العلى معها ... خوفاً عليك، ولا نفس لها نفس
كف الطبيب دعا كفاً يقبلها ... ويطلب الرزق منها حين يحتبس
فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فأخذتها وانصرفت.
الشاعر الصروي يمدح صاحب النشوار
وكنت سقطت من بغلة، فعمل أبو القاسم عبيد الله، قصيدة أنشدنيها، منها:
أسمت فتاة العير حمل العلى وقد ... نهيت من الإشفاق عن حملك القبا
ومشيتها تحت الشريعة والقضا ... ولو سمت رضوى حمل ذين قضى نحبا
فيا عجباً أن لم يسخ رسغها القضى ... وما هد ثقل الدين من متنها الصلبا
ومن ذا يطيق الطود حملاً إذا رسا ... ومن يحمل البحر الضم إذا عبا
فزلت ببدر منك لم يخف نوره ... وغيث حياً أحيا بسقطته التربا
وقمت سليم الجسم يدعو لك الثرى ... ويلثم منك الرجل والنعل والركبا
نهني بك المحراب والآي والتقى ... ودستك والأقلام والحكم والكتبا
أبيات من نظم أبي القاسم عبيد
الله بن محمدالصروي
أنشدني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي، لنفسه، يصف زراقة النفط:
وصفراء في فيها لعاب كلونها ... إذا قذفته لاعب الريح واستنا
يجلله من بطنها في خروجه ... رداء دجى حتى يصير لها حصنا
لها ذنب في رأسه ذنب له ... إذا جر منها رد في جوفها طعنا
يمج بروقاً بين ليلين من حشا ... إلى فم أفعى ما ترى بينه سنا
تخوض الوغى عريانة لتخيفه ... ولو سئلت لم تعرف الخوف والأمنا
وأنشدني لنفسه:

وناولني في أسفل الكأس فضلة ... مزعفرة صفراء والكأس أبيض
كنرجسة في الروض ترنو بمقلة ... مذهبة والجفن منها مفضض
وأنشدني لنفسه في صفة إبريق وساق
ولاح لنا الإبريق من كف شادن ... له وجنة من لحظنا أبداً تدمى
كملحوظة مدت يداً دون وجهها ... وأخرى بها ردت على رأسها الكما
على شعر في عارضيه كأنما ... زرعن المها أجفانها فيه والسقما
كأن الليالي قد عددن سنينه ... فصيرن في خديه داراته رقما
وأنشدني لنفسه يصف مجدوراً:
بدر وغصن من فوق دعص نقا ... لم أصغي في حبه إلي لاحي
له لحاظ مرضى بلا سقم ... سكرى من الغنج تسكر الصاحي
جدر فاعتاض من تورده ... بصفرة في ملثم ضاح
كأنه فوق خده حبب ... يلعب بعد المزاج في الراح
وأنشدني لنفسه في كانون:
كأن تأجج كانوننا ... تكاثف نور من العصفر
وأحدث إخماده زرقة ... تأجج في مدمج أحمر
كبركة خمر بحافاتها ... بقايا تفتح نيلوفر
وأنشدني لنفسه أيضاً في كانون:
أنظر إلى كانوننا ... يضحك من غير فرح
كحمرة في شفق ... دبجها قوس قزح

لأبي الفرج الببغاء في وصف كانون
وحدثني أبو الفرج الببغاء، قال: كنت بحضرة أبي العشائر بن حمدان، وبين يديه كانون، قد عمل النار في باطن فحمه، فعملت في الحال، وأنشدته:
ومجلس حل من يحل به ... من المعالي في أرفع الدرج
أمسى ندام الكانون لنا ... أكثر أنس النفوس والمهج
يبدي لنا ألسناً كالسنة ال ... حيات من ثابت ومختلج
لما بدا الفحم فيه أسود كال ... ليل وبث الشرار كالسرج
ودب صبغ اللهيب فيه بتض ... ريج خدود الشقائق الضرج
ظننت شمس الضحى به انكشفت ... للخلق في قبة من السبج
لأبي الفرج الببغاء في صفة شمعة
أنشدني لنفسه في صفة شمعة:
وصفر كأطراف العوالي قدودها ... قيام على أعلى كراس من الصفر
تلبسن من شمس الأصيل غلائلاً ... فأشرقن في الظلماء بالخلع الصفر
عرائس يجلوها الدجى لمماتها ... وتحيا إذا أذرت دموعاً من التبر
إذا ضربت أعناقها في رضا الدجى ... أعارته من أنوارها خلع الفجر
تبكي على أحشائها بجسومه ... فأدمعها أجسامها أبداً تجري
علاها ضياء عامل في حياته ... كما تعمل الأيام في قصر العمر
للسري الرفاء في الغزلأنشدني غير واحد، قالوا أنشدنا سري بن أحمد الكندي
الرفاء، لنفسه
وذي عنج يرنو بمقلة جؤذ ... متى يعد فيه خالع العذر يعذر
له فوق ورد الخد خال كأن ... إذا احمر ورد الخد نقطة عنبر
بين قاضي القضاة أبي السائب والشاعر ابن سكرة الهاشميأخبرني جماعة من أهل
عصرنا من المتأدبين ببغداد أن أبا الحسن محمد بن عبد الله بم سكرة الهاشمي، دخل إلى قاضي القضاة أبي السائب عتبة بن عبيد الله، وهو جالس للحكم، فكتب رقعة كالقصص، ودفعها إليه، وقد كان مدحه فتأخرت صلته عنه. فلما قرأها أبو السائب، لم يبن في وجهه غضب، ولا نكير، ووقع فيها شيئاً بخطه. وقال أين رافع هذه القصة؟ فقام ابن سكرة، فدفعها إلي، فأخذها مقداراً أن فيها ما يستكف لسانه عنه من صلة أو بر، فلما قرأها استحيا وانصرف.
فقرئت الرقعة، فإذا الابتداء بخط ابن سكرة شعر، والجواب بخط أبي السائب نثر، كما نسخناها هاهنا:
يا عتبة بن عبيدحوشيت من كل عيبلبيك يا مختصر
وأبعد الله قوماًرموك عندي بريبوأنت فحوشيت من كل سوء
قالوا بأنك تهوىزبيبةبن شعيبكذبوا
فقلت هذا محالأصبوة بعد شيب؟أحسن الله جزاءك
وقلت ما يشبهك، وربما كانت
لقد هتفتم بشيخنقي ذيل وجيببئس ما فعلوا، والحمد لله على ذلك
رأيتم الأير فيه؟فلم شهدتم بغيب؟جهلاً منهم بطرق الشهادة

طبيعة الأمير سيف الدولة في إسداء المكارم
حدثني أبو الفرج الببغاء، قال: تأخر عني رسمي من الكسوة، على الأمير سيف الدولة، وكان آثر الأشياء عنه، وأنفقها عليه، وأحبها إليه، أن يسأل فيعطي، وأن يستزاد فيزيد، وأن يطالب، ويناظر، حتى كان دائماً يعزل للإنسان شيئاً، يريد هبته له، خلف ظهره، ويقول: أريد أن أعطي فلاناً هذا.
فيخرج من يحضر: فيحدث الرجل، فيحضر، ولا يعطيه.
فيقول له الرجل: أيش وراء مسورة مولانا؟ فيقول: وأي شيء عليك؟ وأيش فضولك؟ فيقول: هذا والله لي عزله مولانا.
فيقول: لا .
فيقول: بلى، ويأخذه، ويجاذبه عليه، فإذا فعل ذلك، أعطاه، وزاده شيئاً آخر، يلتذ بهذا.
قال: فكتبت إليه، استحثه على رسمي من الكسوة: الرضا بالمأمول، أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة، دليل على همة الآمل، ومحل المسؤول في نفسه، مترجم عن نفاسة نفس السائل، إذ كان الناس من التخلق بالكرم، والتفاضل بالهمم، في منازل غير متقاربة، ومراتب غير متناسبة، وشرف أدبه، في شرف طلبه.
ورجاء سيف الدولة الشرف الذي ... يتقاصر التفصيل عن تفصيله
ضمنت تأميلي نداه فرده ... جذلان من سفر الظنون بسوله
وغنيت حين بلغت ورد نواله ... عن ورد ممتنع النوال بخيله
فالغيث يغبطني على إنعامه ... والدهر يحسدني على تأميله
وعلمي بأن أقرب مؤمليه - أيده الله - إليه، وأوجبهم حرمة عليه، أشدهم استزادة لنعمه، وأكثرهم تسحباً على كرمه، بعثني على التقرب إلى قلبه بالسؤال، ومناجاة كرمه بلسان الآمال. فسألته متقرباً، وطلبته مستحباً، فإن رأى العادل إلا في ماله، والمقتصد إلا في أفضاله، سيدنا الأمير سيف الدولة أطال الله بقاءه.
أن تعلم الأيام موضع عبده ... من عزه ومكانه من رائه
بشواهد الخلع التي يغدو بها ... متطاولاً شرفاً على نظرائه
فمن العجائب حبس توقيع له ... وموقع التوقيع من شفعائه
فعل إن شاء الله تعالى.
كيف تأثلت حال أبي عبد الله ابن الجصاص
حدثني أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعلان، قال: حدثني أبو علي أحمد بن الحسين بن عبد الله الجوهري، ابن الجصاص، قال: قال لي أبي: كان بدء إكثاري، أني كنت في دهليز حرم أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكنت أتوكل له ولهم في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أكاد أفارق الدهليز لاختصاصي بهم.
فخرجت إلي قهرمانة لهم في بعض الأيام، ومعها عقد جوهر، فيه مائتا حبة، لم أر قبله أحسن منه، ولا أفخر، تساوي كل حبة منه ألف دينار عندي.
فقالت: نحتاج أن تخرط هذه حتى تصغر، فتجعل لأربع عشرات اللعب.
فكدت أن أطير، وأخذتها، وقلت السمع والطاعة.
وخرجت في الحال مسروراً، وأنا على وجهي، فجمعت التجار، ولم أزل أشتري ما قدرت عليه، حتى حصلت مائة حبة أشكال من النوع الذي أرادته.
وجئت بها عشياً، وقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى زمان وإنظار، وقد خرطنا اليوم ما قدرنا عليه، وهو هذا، ودفعت إليهم المجتمع، والباقي يخرط في أيام.
فقنعت بذلك، وارتضت الحب، وخرجت.
قامت علي بأثمان قريبة، تكون دون مائة ألف درهم، أو حواليها، وحصلت جوهراً بمائتي ألف دينار.
ثم لزمت دهليز هم، وأخذت لنفسي غرفة كانت فيه، فجعلتها مسكني. قال: فلحقني من هذا، أكثر مما يحصى، حتى كثرت النعمة، وانتهت إلى ما استفاض خبره.
سبب اختصاص أبي عبد الله ابن الجصاص
بأبي الجيش خمارويه أمير مصر
حدثني أبو الحسين ابن عياش، قال: سمعت مشايخنا، يقولون: إن أصل اختصاص ابن الجصاص بأبي الجيش ابن طولون، أن أبا الجيش كان يشرب، إذا قعد للشرب، أربعين رطلاً من نبيذ مصر المعروف بالشيروي.
قال: ومن يشرب منه رطلاً، يقدر أن يشرب من غيره أرطالاً.
وكان لا يصبر معه أحد من ندماءه، ويسكرون قبله، فيصعب عليه، ويبقى وحده، فكان يتطلب المجيدين للشرب.
فوصف له ابن الجصاص، وهو إذ ذاك يتجر في الجوهر، فاستدعاه، فأدخل إليه، فحين مثل بين يديه، قبل الأرض، ولم يكن الناس يعرفون ذلك، فاستظرف خمارويه حسن أدبه.
وقال: أبو من؟ قال: عبد الأمير الحسين.
فقال: هذه اثنتان.

فواكله، وشاربه، قدحاً وقدحاً، حتى سكر خمارويه، ثم شرب بعده رطلاً.
فبلغ ذلك خمارويه من غد، فأدخله، وأجازه جائزة عظيمة.
وقال: ما صناعتك؟ فقال: الجوهر.
فقال: لا يبتاع لنا شيء إلا على يده، وكان مشغوفاً به، فكسب فيه الأموال.
وحصل يأكل معه، ويشاربه إذا أراد الشرب، فينام ندماؤه كلهم غيره، فولد ذلك له أنساً تاماً به، فكان يخرج إليه على النبيذ بأسراره، ويحادثه، ويأنس به.
ورد إليه أمر داره، والإشراف على جميع نفقاته.
ولم تزل حاله تقوى وتتزايد، حتى عرض له تزويج ابنته المعتضد، فأنفذه في الرسالة حتى عقد الإملاك، ثم أجرى أمر الجهاز على يده، فجرف الأموال بغير حساب.
قال: فأخبرني بعض أصحابنا، أنه لحق بعض الفرش الذي كان في جهاز قطر الندى ابنة خمارويه، مطر، فيما بين دمشق والرملة، فنزلها ابن الجصاص، وكتب إليه يعرفه الخبر، ويستأذنه في تطرية ذلك، فأذن له فيه.
فأقام شهرين لهذا السبب، وطرى الفرش، فاحتسب في النفقة، ثلاثين ألف دينار.
قال: ولما حصلت قطر الندى ببغداد، أضاق خمارويه إضاقة شديدة، لأنه افتقر بما حمله معها، وخرج من جميع نعمته، حتى طلب شمعة، فاحتبست عليه ساعة، إلى أن احتيلت.
فقال: لعن الله ابن الجصاص، أفقرني في السر.

بين الخليفة المكتفي والتاجر ابن الجصاص
قال: ومن عجيب أخبار ابن الجصاص، أنه طلب منه المكتفي عقداً حسناً من فاخر الجوهر، يبتاعه منه.
فقال: كم يبلغ يا أمير المؤمنين؟ قال: ثلاثين ألف دينار.
قال: لا تصيب كما تريد، ولكن عندي عقد فيه ستون حبة، ولا أبيعك إياه بأقل من ستين ألف دينار، فإن أذنت، حملته.
فقال: افعل.
فحمله إليه والعباس بن الحسن قائم بين يديه، فعرضه عليه، فهال المكتفي أمره وحسنه، وقال: ما رأيت مثل هذا قط.
فقال: ومن أين عندك أنت مثل هذا يا أبا مشكاحل؟ فتنكر المكتفي، وتنمر، وهم به.
فأومأ إليه العباس بالإمساك، فأمسك، وترك العقد الجصاص، بحضرة الخليفة، وخرج.
فقال المكتفي للعباس: بالله، وبحقي عليك، هذه الكنية تلقبني بها العامة؟ فقال: لا والله يا مولانا، ولكن هذا رجل رقيع، عامي، والعامة إذا افتخرت على إنسان، قالت له مثل هذا، وقد ربحت بهذه الكلمة العقد، بلا ثمن، فدعني وابن الجصاص، فإن جاءك فأحله علي.
فلما كان بعد أيام، جاء ابن الجصاص، فأذكر المكتفي بثمن العقد.
فقال له: إلق العباس.
فجاء إليه، فطالبه بالمال.
فقال: ويحك، تطالب بثمن العقد، بعدما لقبت الخليفة بسببه، واجترأت عليه بما لا يجوز أن تجترئ بمثله على بعض غلمانه؟ لا تتكلم بهذا فتولد لنفسك منه، ما لا تحتاج إليه.
فأمسك ابن الجصاص، وذهب منه العقد والمال بالكلمة.
إسماعيل بن بلبل والأعرابي العائف
حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: أخبرني من أثق به، إن إسماعيل بن بلبل، لما قصده صاعد، لزم داره، وكان له حمل قد قرب وضعه، فقال: اطلبوا لي منجماً يأخذ مولده، فأتي به.
فقال له بعض من حضر، ما تصنع أيدك الله بالنجوم؟ هاهنا أعرابي عائف، ليس في الدنيا أحذق منه.
فقال: يحضر، فأسماه الرجل، فطلب، وجاء.
فلما دخل عليه، قال له إسماعيل: تدري لأي شيء طلبناك؟ قال: نعم.
قال: ما هو؟ فأدار عينه في الدار، فقال: لتسألني عن حمل، وقد كان إسماعيل أوصى أن لا يعرف، فتعجب من ذلك.
فقال له: فأي شيء هو؟ أذكر أم أنثى؟ فأدار عينه في الدار، فقال: ذكر.
فقال: للمنجم: ما تقول؟ قال: هذا جهل.
فبينا نحن كذلك، إذ طار زنبور على رأس إسماعيل، وغلام يذب عنه، فضرب الزنبور، فقتله. فقام الأعرابي، وقال: قتلت والله المزنر، ووليت مكانه، ولي حق البشارة، وجعل يرقص، وإسماعيل يسكنه، فنحن كذلك إذ وقعت الصيحة بخبر الولادة.
فقال: انظروا ما المولود؟ فقالوا: ذكر.
فسر إسماعيل بذلك سروراً شديداً، لإصابة العائف في زجره، وترجيه الوزارة، وهلاك صاعد، ووهب للأعرابي شيئاً، وصرفه.
فما مضى على هذا إلا دون شهر، حتى استدعى الموفق إسماعيل، وقلده الوزارة،وسلم إليه صاعداً، فكان يعذبه، حتى قتله.
فلما سلم إليه صاعد، ذكر الحديث الأعرابي، فطلبه، فجاءوا به.

فقال: خبرني كيف قلت ما قلته ذلك اليوم؟ وليس لك علم بالغيب، ولا هذا مما يخرج في نجوم. فقال: نحن إنما نتفاءل ونزجر الطير، ونعيف ما نراه، فسألتني أولاً، لأي شيء طلبت؟ فتلمحت الدار، فوقعت عيني على برادة عليها كيزان معلقة في أعلاها، فقلت: حمل.
فقلت لي: أصبت، ثم قلت لي: أذكر أم أنثى؟ فتلمحت، فرأيت فوق البرادة عصفوراً ذكراً، فقلت: ذكر.
ثم طار الزنبور عليك، وهو مخصر، والنصارى مخصرون بالزنانير، والزنبور عدو، أراد أن يلسعك، وصاعد نصراني الأصل، وهو عدوك، فزجرت أن الزنبور عدوك صاعد وأن الغلام لما قتله، إنك ستقتله.
قال: فوهب له شيئاً صالحاً، ثم صرفه.

أعراب ثلاثة يتنبأون بموت قاضي القضاة
ودفنه في داره
وحدثنا أبو الحسين، قال: اجتزت أنا وأبو طاهر بن نصر القاضي، بشارع القاضي، نقصد دار قاضي القضاة أبي الحسين، في علته التي مات فيها، لنعوده، فإذا بثلاثة من الأعراب ركبان.
فشال أحدهم رأسه، وقد سمع غراباً ينعب على حائط دار أبي الحسين قاضي القضاة.
فقال للنفسين اللذين خلفه: إن هذا الغراب ليخبرني بموت صاحب الدار.
فقال له الآخر: أجل إنه ليموت بعد ثلاثة أيام.
فقال الآخر: نعم ويدفن في داره.
فقلت: أسمعت ما قالوه؟ فقال: نعم.
فقلت: هؤلاء أجهل قوم، وافترقنا.
فلما كان في ليلة اليوم الرابع سحراً،ارتفعت الصيحة بموت قاضي القضاة أبي الحسين، فذكرت قول الأعرابي، وعجبت.
وحضرنا جنازته، ودفن في داره.
فقلت لأبي طاهر: رأيت أعجب من وقوع مقالة الأعرابي بعينها؟ أيش هذا؟ فقال: لا والله ما أدري، ولكن تعال حتى نسأل عنهم، ونقصدهم، ونستخبر منهم من أين لهم ذلك.
قال: فكنا أياماً نسأل عنهم، وعن حلتهم من البلد، فلا نخبر.
إلى أن أخبرونا بنزول حلة من بني أسد بباب حرب، فقصدناهم.
فقلنا: هل فيكم من يبصر الزجر؟ فقالوا: أجل، ثلاثة أخوة في آخر الحي، يعرفون ببني العائف، ودلونا على أخبيتهم.
فجئنا، فصادفنا أصحابنا بأعيانهم، ولم يعرفونا، فأخبرناهم بما سمعناه منهم، وسألناهم عنه. فقالوا: إنا، وغيرنا من العرب، نعرف نعيباً للغراب بعينه، لا ينعبه في موضع إلا مات ساكنه، مجرباً على قديم السنين في البوادي، لا يخطئونه، ورأينا ذلك الغراب، نعب ذلك النعيب الذي نعرفه.
فقلنا للآخر: كيف قلت إنه يموت بعد ثلاثة أيام؟ قال: كان ينعب ثلاثاً متتابعات ثم يسكت، ثم ينعب ثلاثاً على هذا، فحكمت بذلك.
فقلت للآخر: وكيف قلت أنه يدفن في داره؟ قال: رأيت الغراب يحفر الحائط بمنقاره ورجليه، ويحثو على نفسه التراب، فقلت: إنه يدفن في داره.
عيافة أعرابي
حدثنا أبو الحسين بن عياش، قال: أخبرني صديق لي أنه خرج إلى الحائر على ساكنيه السلام ليزور.
فاجتاز في طريقه بموضع قريب من الأعراب، وهم نزول، فحط رحله ونزل، وجلس يأكل هو ومن معه، فوقف به بعض أولئك الأعراب يستطعم.
قال: فقلت له: اجلس حتى نأكل، ونفع إليك نصيباً.
فجلس قريباً منا، فإذا بغراب قد طار قريباً منه، وصاح صياحاً متتابعاً.
فقام الأعرابي يرجمه، ويقول: كذبت يا عدو الله، كذبت يا عدو الله.
قال: فقلنا له: ما الخبر يا أعرابي؟ قال: يقول الغراب إنكم ستقتلونني، وأنتم تريدون أن تطعموني، فكذبته في خبره.
قال: فاستحمقناه، وتممنا أكلنا.
وكان في السفرة سكين بزماورد عظيمة حادة، أنسيناها في السفرة. فجمعنا السفرة بما فيها، وقلنا للأعرابي: خذها، وفرغ ما فيها، واردد السفرة.
فجمعها بما فيها، وشالها، فضرب بها ظهره بحمية، من فرحه بتمكيننا إياه من جميع ما فيها، فخرجت السكين بحدتها، فدخلت بين كتفيه، فخر صريعاً يصرخ: صدق الغراب لعنه الله، مت ورب الكعبة.
فخشينا أن يصير لنا مع الأعراب قصة، فتركنا السفرة، وقمنا مبادرين، فاختلطنا بالقافلة حتى لا نعرف، وتركناه يتشحط في دمائه. ولا نعلم هل عاش أم مات.
من أحاديث الزراقين
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا سليمان بن الحسن، قال: قال لي أبو معشر المنجم، وقد جرى حديث الزراقين: رأيت أعجب شيء، وهو أن رجلاً في جواري بسر من رأى اعتقل، فأتاني أبوه، وكان لي صديقاً، فقال: تركب معي إلى صاحب الشرطة، نسأله إطلاقه، فركبت.

فاجتزنا بزراق على الطريق. فقلت: هل لك في أن نتلهى بهذا الزراق؟ فقال: افعل.
فقلت له: انظر في نجمنا، وأي شيء هو، وفي أي شيء هوذا نمضي؟ ففكر الزراق ساعة، ثم قال: تمضون في أمر محبوس.
قال: فانتقع لون أبي معشر، ودهش، وتلجلج لسانه.
فقلت أنا له: فهل يطلق أم لا؟ قال: تمضون وقد أطلق.
فقال لي أبو معشر: انطلق بنا، فهذا اتفاق طريف، وهوس.
فسرنا وجئنا إلى صاحب الشرطة، فسألناه في أمر الرجل.
فقال: الساعة - والله - وردت علي رقعة فلان، يسألني في أمره، فأطلقته.
فنهض أبو معشر مبادراً، وقال: إن لم أرف من أين أصاب الزراق في حكمه، ذهب عقلي، وخرقت كتبي، واعتقدت بطلان النجوم، ارجع بنا إليه.
قال: فرجعنا، فوجدناه في مكانه على الطريق.
فقال له أبو معشر: قم بنا، فأخذناه، وحمله إلى داره.
وقال له : أتعرفني؟ قال: لا.
قال:أنا أبو معشر المنجم.
فقبل الزراق يده، وقال: أستاذنا، وقد سمعت باسمك.
قال: دعني من ذلك، لك خمسة دنانير عيناً، وأصدقني من أين حكمت لنا بما حكمت به.
قال: أنا والله أصدقك، ولا أجسر آخذ منك شيئاً، وأنت أستاذ هذه الصناعة.
اعلم أني لا أحسن من النجوم شيئاً، وإنما أنا أزرق وأهذي على النساء، وبين يدي هذا التخت والإصطرلاب والتقويم للخلق حيلة.
ولكني قد صحبت أهل البوادي في وقت من الأوقات، وتعلمت منهم الزجر والفال والعيافة. وهم يعتقدون إذا سئلوا عن شيء أن ينظروا إلى أول ما تقع عليه عيونهم، فسيتخرجون منه معنى يجعلونه طريقاً لما يسألون عنه، وما يحكمون به.
فلما سألتني في أي شيء نمضي؟ تلجلجت، فوقعت عيني على سقاء معه ماء محبوس في قربته، فقلت: محبوس.
فقلت: هل يطلق أم لا؟ فنظرت أطلب شيئاً أزجره، فرأيت السقاء قد صب الماء، وهو يخرج من قربته، فقلت: إنكم تمضون وقد أطلق، فهل أصبت؟ فقال له أبو معشر: نعم، وفرجت عني أيضاً، أعطوه الدنانير، واصرفوه.
فأبى أن يأخذ، فما تركه أبو معشر حتى أخذها وخرج.
فطرح نفسه كالمستريح من أمر عظيم. ووضع يده على فؤاده، وقال: فرج عني.

بين الأمير الموفق وأبي معشر المنجم
حدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر بن الحارث الحارثي، قال:حدثني أبي، قال: كنت أحد من يعمل في خزانة السلاح للمعتمد وكنت قائماً بحضرة الموفق، في عسكره لقتال صاحب الزنج،وبحضرته أبو معشر، ومنجم آخر، أسماه أبي وأنسيته أنا.
فقال لهما: خذا الطالع في أضمرته منذ البارحة، أسألكما عنه، وأمتحنكما به، وأخرجا ضميري.
فأخذا الطالع، وعملا الزايرجه، وقالا جميعاً: تسألنا عن حمل ليس لإنسي.
فقال: هو كذلك، فما هو؟ قال: ففكرا طويلاً،ثم قالا: عن حمل لبقرة.
قال: هو كذلك فما تلد؟ قالا جميعاً: ثور.
قال: فما شيته؟ فقال أبو معشر: أسود في جبهته بياض.
وقال الآخر: أسود وفي ذنبه بياض.
قال الموفق: ترون ما أجسر هؤلاء، أحضروا البقرة، فأحضرت وهي مقرب.
فقال: اذبحوها، فذبحت، وشق بطنها، وأخرج منها ثور صغير أسود، أبيض طرف الذنب، وقد التف ذنبه، فصار على جبهته.
فتعجب الموفق، ومن حضره، من ذلك عجباً شديداً، وأسنى جائزتيهما. قال: وحدثني أبي، قال: كنت أيضاً بحضرة الموفق، وهذا المنجم، فقال لهما: معي خبيء، فما هو؟ فقال أحدهما، بعد أن أخذ الطالع، وعمل الزايرجه، وفكر طويلاً، وقال: هو شيء من الفاكهة. وقال أبو معشر: هو شيء من الحيوان.
فقال الموفق للآخر: أحسنت، وقال لأبي معشر: أخطأت، ورمى من يده تفاحة.
وأبو معشر قائم، فتحير، وعاود النظر في الزايرجه، ساعة، ثم عدا يسعى نحو التفاحة، حتى أخذها، فكسرها، ثم قال: الله أكبر، وقدمها إلى الموفق فإذا هي تنغش بالدود.
فهال الموفق من إصابته، وأمر له بجائزة عظيمة.
مما شاهده المؤلف من صحة أحكام النجوم
وهذا بعيد دقيق، ولكن فيما قد شاهدته من بعض صحة أحكام النجوم، كفاية.
هذا أبي حول مولد نفسه في السنة التي مات فيها، فقال لنا: هي سنة قطع على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد، إلى أبي الحسن بن البهلول القاضي ينعي نفسه إليه، ويوصيه.

فلما اعتل أدنى علة، وقبل أن تستحكم علته، أخرج التحويل، ونظر فيه طويلاً، وأنا حاضر، فبكى، وأطبقه، واستدعى كاتبه، وأملى عليه وصيته التي مات عنها، وأشهد فيها من يومه. فجاءه أبو القاسم غلام زحل المنجم، فأخذ يطيب نفسه، ويورد عليه شكوكاً.
فقال: يا أبا القاسم، لست ممن يخفى هذا عليه، فأنسبك إلى غلط، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فواقفه على الموضع الذي خافه، وأنا حاضر.
ثم قال له أبي: دعني من هذا، بيننا شك في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر، لسبع بقين من الشهر، فإنه ساعة قطع عندهم؟.
فأمسك أبو القاسم ولم يجبه، واستحيى منه أن يقول نعم، وبكى أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادماً لأبي.
وبكى أبي طويلاً، ثم قال: يا غلام الطست، فجاءه به، فغسل التحويل وقطعه، وودع أبا القاسم توديع مفارق.
فلما اكن في ذلك اليوم، العصر بعينه، مات، كما قال.

الأخذ بالحزم أولى
أخبرني غير واحد من أصحابنا، أ، أبا محمد عبد الله بن العباس الرامهرمزي المتكلم، أخبره، قال: أردت الانصراف من عند أبي علي الجبائي إلى بلدي، فجئته مودعاً فقال لي: يا أبا محمد، لا تخرج اليوم، فإن المنجمين يقولون: إنه من سافر في مثله غرق، فأقم إلى يوم كذا وكذا، فإنه محمود عندهم.
فقلت: أيها الشيخ مع ما تعتقده في قولهم، كيف تجيء بهذا؟ فقال: يا أبا محمد، لو أخبرنا مخبر ونحن في طريق، أن فيه سبع، أليس كان يجب في الحكمة علينا أن لا نسلك ذلك الطريق، إذا قدرنا على سلوك غيره، وإن كان ممن يجوز عليه الكذب؟ قلت: نعم.
قال: فهذا مثله، وقد يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادات، بأن تكون الكواكب إذا نزلت هذه المواضع حدث كذا، والأخذ بالحزم أولى.
قال: فأخرت خروجي إلى اليوم الذي قاله.
أبو علي أحذق الناس بالنجوم
حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني أبو هاشم الجبائي، قال: كان أبو علي من أحذق الناس بالنجوم، فولد في جواره مولود، فقال أبوه: إني أحب أن تأخذ طالعه.
قال: وكان ليلاً، فأخذ الاصطرلاب وعمل مولده، وحكم له بأشياء، صحت كلها بعد ذلك.
أبو الحسن الأهوازي وسابور ذو الأكتاف
جرى الحديث يوماً بحضرة أبي، في البخل والبخلاء، واختصاص الملوك بذلك، وكان أبو الحسن مطهر بن إسحاق بن يوسف الأهوازي الشاهد حاضراً فقال: دخلت يوماً إلى أبي عبد الله البريدي، وقد نصبت مائدته، فاستدعاني إليها، وكنت جائعاً، فأقبلت آكل منبسطاً.
فقدم جدي مشوي حار، فضربت يدي إلى كتفه، فأكلتها.
ثم قدم بعده ألوان أخر، وجدي بارد، فضربت يدي إلى كتفه فأكلتها.
ثم قد م بعده ألوان، وقدم جدي مبزر، فأخذت الكتف فأكلتها.
ثم جاء جدي بماء وملح، فجئت لآخذ الكتف، فسبقتني يد أبي عبد الله إليه، فكففت يدي.
فقال لي: يا أبا الحسن، أنت اليوم سابور ذو الأكتاف.
فاستحييت، وخجلت، وعلمت أنه ما قالها إلا من غيظ، فقصرت.
وتوقيت بعد ذلك مواكلته.
فقال أبي: ما كان أبو عبد الله بخيلاً على الطعام، وإنما كان نهماً، شديد الجوع، وكان في أول أكله، وإلى وسطه، يلحقه هذا النهم، وربما أطلق ما يشبه هذا، فيظن من لا يعرف طبعه أنه بخيل، ويحتاج من يواكله إلى التقصير، حتى يمضي نصف أكله.
فإذا مضى نصف أكله، انبسط، وانطلق وجهه، وساءه وغمه أن يقصر من يحضر في مواكلته، وقال: هوذاينسبوني إلى البخل ثم لا يأكلون.
أبو عبد الله الكرخي يحب مؤاكلة الأكول
ولكن أبا عبد الله بن القاسم الكرخي هو الجواد على الطعام والمال، ولقد دخلت إليه يوماً في الأهواز، وهو عاملها، أقلب عليه ثياباً، ولم تكن بيننا معرفة، فأخذ منها ما أراد، ووافقني على الأثمان، وطال جلوسي عنده، فجاء غلمانه بأطباق فاكهة، فقمت.
فقال: ما هذا الخلق النبطي يا أبا الحسن؟ اجلس، فجلست، وأخذنا في الأكل، وكنت جائعاً، فأقبلت آكل كمثراة، كمثراة، في لقمة، وخوخة خوخة، في لقمة، وتينة تينة، في لقمة، وهو ينظر إلى ذلك، ويستحسنه، ويضحك منه، ويعجبه ويستطرفه، وكان ضعيف الأكل جداً.
وكلما جئت لأقطع، حلف علي، ولقمني بيده.
ثم شيلت الفاكهة، وجاءوا بالطعام، وكانت هذه صورتي عنده، وانصرفت.
فلما كان من غد نصف النهار، وكنت جالساً في دكاني بالبزازين، فإذا بفراش ومعه غلام تحته بغل.

فقال: العامل يطلبك، فلم أدر ما هو، فركبت البغل وصرت إليه، وإذا المائة منصوبة، وهو ينتظرني.
فقلت: ما يأمر الأستاذ أيده الله؟ فقال: إني استطبت مؤاكلتك بالأمس، وأكلت فضلاً مما جرت عادتي به، فلما قدمت اليوم المائة، لم أتهنأ بالأكل، فعزلتها واستدعيتك، وأريد أن تجيني في كل يوم.
قال: فكنت أتأخر في الأيام، فيعاتبني، وينفذ إلي بغلاً أركبه.
وولد ذلك لي محلاً عظيماً في البلد، وجاهاً، وكسبت به عليه البز وغيره، مما رد إلي شراءه من جميع ما كان يحتاج إليه في داره، مالاً جليلاً.

بين أبي جعفر بن شيرزاد
وأبي عبد الله الموسوي
حدثنا أبو العباس هبة الله بن المنجم، قال: سمعت أبا عبد الله الموسوي العلوي، يقول: قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في أيام تدبيره الأمر، قصداً قبيحاً، وعمل لي كتابة مؤامرة في خراجاتي، بمائة ألف درهم، أكثرها واجب علي، وباقيها كالواجب. وأحضرني للمناظرة عليها، فاعتقلني في داره.
فضقت ذرعاً بما نزل بي، وعلمت أن المال سيؤخذ مني إذا نوظرت، وأنه يؤثر في حالي، ويهتك جاهي، فلم أدر ما أعمل.
فشاورت بعض من يختص به، فقال: طمعه فيك - والله - قوي، وما ينفعك معه شيء غير المال. فقلت: فكر في حيلة أو مخادعة.
ففكر، ثم قال: لا أعرف لك دواء إلا شيئاً واحداً، أن سمحت به نفسك، وتركت العلوية عنك، وفعلته، نجوت.
فقلت: ما هو؟ قال:هو رجل سمح على الطعام، محب لأكله على مائدته، موجب لحرمته، وأرى لك، إذا وضع طعامه، أن تخرج إليه، فإنك معه في الدار، ولا يمنعك الموكلون من ذلك، فتجيء بغير إذن، فتجلس على المائدة، وتأكل، وتنبسط، وتخاطبه في أمرك عقيب الأكل، وتسأله، وترفق به، وتخضع له، فإنه يسامحك بأكثرها، ويقرب ما بينك وبينه.
فشق ذلك علي، ثم نظرت، فإذا وزن المال أشق منه.
وكان أبو جعفر، لا يأكل إلا بعد المغرب، في كل يوم مرة، فلم آكل ذلك اليوم شيئاً، وراعيت مائدته؟، فلما وضعت المائدة، قمت.
فقال الموكل: إلى أين؟ قلت: إلى مائدة الوزير، فما قدر أن يمنعني، وجاء معي.
فلما رآني أبو جعفر، أكبر ذلك، وتهلل وجهه، وقال: إلى عندي يا سيدي، إلى عندي، وأجلسني إلى جنبه، وأقبلت آكل، وأنبسط في الأكل والحديث، إلى أن رفعت المائدة، وقام أبو جعفر، وقمنا، وشيلت المائدة، واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته.
فلما فرغت، أردت أن أبتدأه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيدي أبا عبد الله بتأخيرك عن منزلك، فامض إلى بيتك، وما أخاطبك بشيء مما في نفسي، ولا فيما أردت مخاطبتك فيه، ولا مطالبة عليك من جهتي بعدما تفضلت به.
فشكرته، وقلت: إن رأى سيدنا أيده الله، أن يتمم معروفه علي بتسليم المؤامرة إلي، فعل.
فقال: هاتموها، فما برحت، إلا وهي معي في خفي، وانصرفت إلى منزلي، وسقط المال عني. ولزمته للسلام، وصرت أتعد مؤاكلته، والتخصص به، فسلمت عليه طول أيامه، وسلم مالي وجاهي عليه، إلى أن مضى.
اللص والعجوز الجلدة أم الصيرفي
حدثني أبو جعفر محمد بن الفضل بن حميد الصيمري، مؤدبي، قال: كان في بلدنا عجوز صالحة، كثيرة الصيام والقيام، وكان لها ابن صيرفي منهمك على الشرب واللعب.
وكان يتشاغل بدكانه أكثر نهاره، ثم يعود عشياً إلى منزله، فيخبئ كيسه عند والدته، ويمضي، فيبيت في مواضع يشرب فيها.
فعين بعض اللصوص على كيسه ليأخذه، وتبعه في بعض العشايا، ودخل ورائه إلى الدر، وهو لا يعلم، فاختفى فيها، وسلم هو كيسه إلى أمه، وخرج، وبقيت وحدها في الدار.
وكان لها في دارها، مؤزر بالساج إلى أكثر حيطانه، عليه باب حديد، تجعل قماشها وكل ما تملكه فيه، والكيس، فخبأت الكيس فيه تلك الليلة خلف الباب، وجلست فأفطرت بين يديه.
فقال اللص: هذه الساعة تفطر، وتكسل، وتنام، وأنزل فأفتح الباب وآخذ الكيس والقماش.
قال: فلما أفطرت، قامت إلى الصلاة، فظن اللص أنها تصلي العتمة وتنام.
فانتظرها، فمدت الصلاة، وتطاول عليه الأمر، ومضى نصف الليل.
وتحير اللص مما نزل به، وخاف أن يدركه الصبح، ولا يظفر بشيء.

فطاف بالدار، فوجد إزاراً جديداً، وطلب جمراً فظفر به، ووقع في يده شيء كلن لهم فيه دخنة طيبة، فلبس الإزار، وأشعل ذلك البخور، وأقبل ينزل على الدرجة، ويصيح بصوت غليظ وتعمد أن يجعله جهورياً، لتفزع العجوز.
وكانت معتزلية جلدة، ففطنت لحركته، وأنه لص،فلم تره أنها فطنت.
وقالت: من هذا؟ بارتعاد وفزع شديد.
فقال لها: أنا رسول الله رب العالمين، أرسلني إلى ابنك هذا الفاسق، لأعظه، وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصي.
فأظهرت أنها قد ضعفت، وغشي عليها من الجزع، وأقبلت تقول: يا جبريل، سألتك بالله، إلا رفقت به، فإنه واحدي.
فقال اللص: ما أرسلت لقتله.
فقالت: فما تريد؟ وبما أرسلت؟ قال: لآخذ كيسه. وأؤلم قلبه بذلك، فإذا تاب رددته إليه.
فقالت: شأنك، يا جبريل، وما أمرت.
فقال: تنحي من باب البيت.
فتنحت، وفتح هو الباب ودخل ليأخذ الكيس والقماش، واشتغل في تكويره.
فمشت العجوز قليلاً قليلاً، وجذبت الباب بحمية، فردته، وجعلت الحلقة في الرزة، وجاءت بقفل، فقفلته.
فنظر اللص إلى الموت بعينه، ورام حيلة في داخل البيت، من نقب أو منفذ، فلم يجدها.
فقال لها: افتحي الباب لأخرج، فقد اتعظ ابنك.
فقالت: يا جبريل، أخاف أن أفتح الباب، فتذهب عيني من ملاحظتي لنورك.
فقال: إني أطفئ نوري حتى لا تذهب عينك.
فقالت: يا جبريل، إنك رسول رب العالمين، لا يعوزك أن تخرج من السقف أو تخرق الحائط بريشة من جناحك، وتخرج، فلا تكلفني أنا التغرير ببصري.
فأحس اللص بأنها جلدة، فأخذ يرفق بها، ويداريها، ويبذل التوبة.
فقالت له: دع ذا عنك، لا سبيل إلى الخروج إلا بالنهار، و قامت تصلي، وهو يهذي، ويسألها ، وهي لا تجيبه، حتى طلعت الشمس وجاء ابنها، فعرف خبرها، وحدثته بالحديث، فمضى وأحضر صاحب الشرطة وفتح الباب، وقبض على اللص.

من بركة المعتزلة إن صبيانهم
لا يخافون الجن سمعت جماعة من أصحابنا، يقولون من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن.
وقد حكي لنا: أن لصاً حصل في دار معتزلي، فأحس به، فطلبه، فنزل إلى بئر في الدار.
فأخذ الرجل حجراً عظيماً ليدليه عليه، فخاف اللص التلف.
فقال له: الليل لنا والنهار لكم، يوهمه أنه من الجن.
فقال له المعتزلي: فزن معي نصف الأجرة، ورمى بالحجر فهمشه.
فقال له: متى يأمن أهلك من الجن ؟ فقال المعتزلي: دع ذا عنك واخرج.
فخرج وخلاه.
محدث قارب المائة يتواجد في مجلس
خاطف المغنية
سمعت أبي، قال: جئت إلى أبي القاسم ابن بنت منيع،لأكبت عنه الحديث، فقال لي في منزله: قد توجه في حاجة له وكان سنه إذ ذاك نحو مائة سنة.
فجلسنا ننتظره، فإذا به قد جاء محمولاً، فألقي كالمغشي عليه، واستراح.
فقلنا له: يا أبا القاسم، ما كان هذا الأمر العظيم حتى خرجت فيه بنفسك، ألا كلفتنا حاجتك؟ فقال: ليس هذا مما أكلفكم إياه، مضيت إلى مجلس ستي خاطف، فسمعتها، وتواجدت من قولها. قال: فعجبنا من شيخ محدث يحضر مجلس امرأة تغني بالقضيب.
وأخبرني جماعة أثق بهم، أنها تدعى إلى هذا الوقت، وتغني بالقضيب وأن لها حول السبعين سنة.
وأخبرني أبو الحسن بن الأزرق، أيضاً في سنة إحدى وستين وثلثمائة، أنها توفيت في منزلها في جواره في هذه السنة.
الباغندي المحدث يخطئ في موضعين
حدثني أبو الطيب بن هرثمة : أنه سمع الباغندي المحدث، يقول لجارية كانت تخدمه وقد حرد عليها: ذهب زمانك الذي كنت تخضبين فيه خديك بالكلكين.
يريد : تطلين إلى وجهك الكلكون.
وأنه سمعه قال، في حديث حدث به، في قوله تعالى: " وفاكهة وأبا " ، فقال: فاكهة وأنا.
حكاية تدل على ذكاء القرد
حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، أحد الصوفية الطياب من أهل سر من رأى، ثم مر ببغداد، وأقام بالأهواز طويلاً، وتوكل على أبواب القضاة، وعاش نحو السبعين سنة، وكان ماجناً، خفيف الروح، قال: بت ليلة في خان، ومعنا قراد، ومعه قرد، وكنا كلنا في بيت واحد ضيق.
ففسا بعض من كان معنا، وزاد في الفسا.
فلم يزل القرد يجيء إلى فقحة كل واحد منا فيشمها، ويقف عندها ساعة، إلى أن وقع على فقحة الرجل الذي يفسو.

قال: فرأيته، وقد جاء إلى قطن كان مع صاحبه، فاستخرج منه كبة، وأخذها بيده، ثم جاء إلى سراويل الذي يفسو، فخرقه، فلم يزل يدس القطن في حجره.

هذا من تعليم القرد
وأخبرني أن بعض الصوفية حدثه: أنه اجتمع في بيت واحد من خان، مع قراد أمرد، فراوده عن نفسه، فحين حصل فوقه، التمس منه تمكينه من إتيانه في ذاته، فامتنع.
فأومأ إلي القرد بيده، وأخرج عليها بصاقا ًمن فيه،ولم يزل يضعه بها هكذا إلى نفسه.
قال: فأقحمت على الغلام.
فقال: هذا والله من تعليم القرد، فضحكت.
فلما نزلت عنه، قام إلى القرد، يضربه ويقول: يا فاعل، يا صانع علمته علي.
قال: فلم أزل به حتى خلصته من يده.
القرود والقلانس
وأخبرني بعض من سافر في الآفاق، وهو أبو غانم عبد الملك بن علي السقطي البصري: أنه كان في بعض طرقات اليمن، ومعهم رجل معه قفص فيه قلانس. فأصابتهم سماء، فابتلت القلانس، فأخرجها الرجل، فشرها في الشمس، لما نزلوا.
وإذا بقطعة عظيمة من القرود، قد أحاطوا بالقافلة، فلما رأوا القلانس، وكانت خارجة عن القافلة بالقرب منا، وقفوا ينظرون إليها.
فجاء قرد كبير يقدمهم، فلبس في رأسه واحدة، وأخذ كل واحد منهم واحدة فلبسها إلى أن فنيت القلانس.
فتأملت صاحبها يلطم ويقول: إن مضوا هؤلاء، وهي على رؤوسهم، افتقرت، فإني لا أملك غير هذه القلانس.
فقال أهل القافلة: اجلس، واسكت، ولا تهجهم، فجلس.
فلما كان بعد ساعة، وضع القرد الكبير القلنسوة من رأسه، فوضعوا كلهم القلانس، وانصرف، فتبعوه في الانصراف.
وقام الرجل إلى قلانسه فجمعها.
القرود المستأنسة في اليمن تشتري
الحاجات من السوق
وحدثني أيضاً، قال: رأيت قروداً عدة مستأنسة ببلدان اليمن، القرد منها يخرج بالزنبيل من منزل صاحبه، ومعه الفضة، فيقف على بائع اللحم، والخبز، وغيرها، ويومئ له بما يريد، ويعطيه ثمنه، ويحمل الحاجة إلى منزل صاحبه.
أبو عبد الله المزابلي والروح الأمين
جبريل رسول رب العالمين
وحدثني أبي، قال: كان عندنا بجبل أنطاكية، المعروف بجبل اللكام، رجل يتعبد، يقال له: أبو عبد الله المزابلي. وسمي بذلك، لأنه كان بالليل يدخل إلى البلد، فيتتبع المزابل، فيأخذ ما يجده فيها، فيغسله، ويقات به، لا يعرف قوتاً غير ذلك، وأن يتوغل في جبل اللكام، فيأكل من الأثمار المباحة فيه. وكان صالحاً مجتهداً، إلا أنه كان حشوياً، غير وافر العقل، وكانت له سوق عظيمة في العامة بأنطاكية.
وكان بها موسى بن الزكوري صاحب المجون والسفه في شعره والحماقات وكان له جار يغشى المزابلي.
فجرى بين موسى بن الزكوري، وجاره ذاك شر، فشكاه إلى المزابلي فلعنه المزابلي في دعائه، وكان الناس يقصدونه في كل يوم جمعة غدوة، فيتكلم عليهم ويدعو.
فلما سمعوا لعنه لابن الزكوري، جاء الناس إلى داره أرسالاً لقتله، فهرب، ونهبت داره، وطلبته العامة فاستر.
فلما طال استتاره، قال: إني سأحتال على المزابلي بحيلة أتخلص منه بها، فأعيوني، فقلت: ما تريد؟ فقال: أعطوني ثوباً جديداً، وشيئاً من الند والمسك، ومجمرة، وناراً وغلماناً يؤنسوني الليل في الطريق إلى الجبل.
قال أبي: فأعطيته ذلك كله.
فلما كان في نصف الليل ، مضى، وخرج الغلمان معه إلى الجبل، حتى صعد فوق الكهف الذي يأوي إليه المزابلي، فبخر بالند والمسك، فدخلت الريح إلى كهف أبي عبد الله، وصاح بحلق عظيم: يا أبا عبد الله المزابلي.
فلما شم تلك الرائحة، وسمع الصوت، أنكرهما.
فقال ما لك عافاك الله، ومن أنت؟ فقال ابن الزكوري: أنا الروح الأمين جبريل، رسول رب العالمين، أرسلني إليك.
فلم يشك المزابلي في صدق القول، فأجهش بالبكاء والدعاء، وقال: يا جبريل ، من أنا حتى يرسلك رب العلمين إلي.
فقال:الرحمان يقرؤك السلام، ويقول لك موسى بن الزكوري غداً رفيقك في الجنة.
فصعق أبو عبد الله، وسمع صوت الثياب، وقد كان خرج فرأى بياضها، فتركه موسى ورجع. فلما كان من الغد، كان يوم جمعة، فأقبل المزابلي يخبر الناس برسالة جبريل، ويقول: تمسحوا بابن الزكوري، واسألوه أن يجعلني في حل، واطلبوه لي.
فأقبل العامة أرسالاً إلى دار ابن الزكوري، يطلبونه ليتمسحوا به ويستحلوه للمزابلي، وأمن على نفسه.

عيار بغدادي يحتال على أهل حمص
حدثني أبو الطيب بن عبد المؤمن، قال: خرج بعض حذاق المكدين من بغداد إلى حمص، ومعه امرأته.
فلما حصل بها، قال لها: إن هذا بلد حماقة ومال، وإني أريد أن أعمل معيياً - قال: وهذه كلمة لهم إذا أرادا أن يعملوا حيلة كبيرة - فساعديني عليها بالصبر.
قالت: شأنك.
فقال: كوني بموضعك، ولا تجتازين بي البتة، وإذا كان كل يوم خذي لي ثلثي رطل زبيباً، وثلثي رطل لوزاً نياً، فاعجنيه، واجعليه وقت الهاجرة على آجرة نظيفة، لأعرفها، في الميضأة الفلانية، وكانت قريبة من الجامع، ولا تزيديني على هذا شيئاً، ولا تمرين بناحيتي.
فقالت: أفعل.
قال: وجاء هو، وأخرج جبة صوف كانت معه، فلبسها، وسراويل صوف، ومئزراً جعله على رأسه.
واعتمد اسطوانة في الجامع بحيث يجتاز عليها أكثر الناس، فلزمها يصلي نهاره أجمع، وليله أجمع، ولا يستريح إلا في الأوقات المحضورة فيها الصلاة، وإذا جلس للراحة سبح، ولم ينطق بلفظة.
ولم يشعر به أياماً، ثم تنبه على مكانه.
وروعي مدة، وعرف خبره، ووضعت العيون عليه، فإذا هو لا يقطع الصلاة، ولا يذوق الطعام، فتحير أهل البلد في أمره.
وكان لا يخرج من الجامع إلا في الهاجرة، في كل يوم دفعة، حتى يمضي إلى تلك الميضأة، فيبول، ويعمد إلى تلك الآجرة، وقد عرفها، وعليها ذلك المعجون، وقد صار مستحيلاً، وصورته صورة الغائط الناشف المستحيل، فمن يدخل ويخرج، لا يشك أنه غائط، فيأكله، ويقيم أوده، ويرجع، فإذا تمسح لصلاة العتمة في الليل، شرب كفايته من الماء.
وأهل حمص يظنون أنه لا يذوق الطعام، وأنه طاو طول تلك المدة.
فعظم شأنه ومحله عندهم، وقصدوه،وكلموه، فلم يجب، وأحاطوا به، فلم يلتفت، واجتهدوا في خطابه،فلزم لهم الصمت والعمل.
فزاد محله عندهم، حتى أنهم كانوا إذا خرج للطهور، جاءوا إلى موضعه فيتمسحون به، ويأخذون التراب من موضع مشيه، يحملون إليه المرضى فيمسح بيده عليهم.
فلما رأى أن منزلته قد بلغت إلى ذلك، وكان قد مضى على هذا الفعل سنة، اجتمع في الميضأة مع امرأته، وقال: إذا كان يوم الجمعة كما تصلي الناس، فتعالي، فعلقي بي، والطمي وجهي، وقولي لي: يا عدو الله يا فاسق، قتلت ابني ببغداد، وهربت إلى هاهنا، وجئت تتعبد، وعبادتك مضروب بها وجهك.
ولا تفارقيني، وأظهري أنك تريدين قتلي بابنك، فإن الناس يجتمعون عليك، وأمنعهم أنا من أذيتك، وأعترف بأني قتلته، وتبت، وجئت إلى هاهنا، للعبادة والتوبة، والنم على ما كان مني. فاطلبي قودي بإقراري، وحملي إلى السلطان، فسيعرضون لك الدية فلا تقبليها، أو يبذلوا لك عشر ديات، أو ما استوى لك بحسب ما تريدين من زيادتهم، وحرصهم.
فإذا تناهت عطيتهم في ٍافتدائي إلى حد يقع لك أنهم لا يزيدون بعده شيئاً، فاقبلي الفداء منهم، واجمعي المال، وخذيه، واخرجي من يومك عن البلد إلى طريق بغداد، فإني سأهرب، وأتبعك.
فلما كان من الغد جاءت المرأة، فلما رأته، فعلت به ما قال لها، ولطمته وقالت المقالة التي علمها.
فقام أهل البلد ليقتلوها، وقالوا: يا عدوة الله، هذا من الأبدال هذا من قوام العالم، هذا قطب الوقت، هذا صاحب الزمان، هذا، هذا.
فأومأ إليهم أن أبصروا ولا تنالوها بسوء ،فاصبروا، وأوجز صلاته، ثم سلم، وتمرغ في الأرض طويلاً.
ثم قال للناس هل سمعتم لي كلمة منذ أمت فيكم؟ فاستبشروا لسماع كلامه، وارتفعت صيحة عظيمة، وقالوا: لا.
قال: فإني إنما أقمت عندكم تائباً مما ذكرته، وقد كنت رجلاً في زيغ وخسارة، فقتلت ابن هذه المرأة، وجئت إلى هاهنا للعبادة، وكنت محدثاً نفسي بالرجوع إليها، وطلبتها لتقيدني، خوفاً من أن لا تكون توبتي قد صحت، وما زلت أدعو الله تعالى أن يقبل توبتي، ويمكنها مني، إلى أن أجيبت دعوتي، وقبل الله توبتي، لما جمعني وإياها، ومكنها من قودي، فدعوها تقتلني، وأستودعكم الله تعالى.
قال: فارتفعت الصيحة والبكاء.
وقال له هذا: يا عبد الله ادع لي .
وقال له هذا: ادع لي.
وأقبلت المرأة بين يديه، وهو مار إلى والي البلد، وهو يمشي على تأن ورفق، ليخرج من الجامع إلى دار الأمير، فيقتله بابنها.
فقال الشيوخ: يا قوم لم ضللتم عن مداواة هذه المحنة؟ وحراسة بلدكم بهذا العبد الصالح؟ فارفقوا بالمرأة، وسلوها قبول الدية، ونجعلها من أموالنا.

فأطافوا بها، وسألوها فقالت: لا أفعل.
قالوا: خذي ديتين.
فقالت: شعرة من ابني بألف دية.
فما زالوا حتى بلغوا عشر ديات.
فقالت: اجمعوا المال، فإذا رأيته، إن طاب قلبي بقبوله، والعفو عن الدم، فعلت، وإلا قتلت القاتل.
فقالوا: نعم.
فقال الرجل: قومي عافاك الله، ورديني إلى موضعي من الجامع.
قالت: لا أفعل.
قال: فذاك إليك.
فما زالوا يجمعون إلى أن جمعوا مائة ألف درهم، فقالوا: خذيها.
قالت: لا أريد إلا قتل قاتل ابني، فهو آثر في نفسي.
فأقبل الناس يرمون بثيابهم، وأرديتهم، وخواتيمهم، والنساء بحليهن، والرجال كل يرمي بشيء من متاعه، ومن لم يتحمل من ذلك الفداء، كان في أمر عظيم، وكأنه قد خرج من الدنيا. فأخذته، وأبرأته من الدم، وانصرفت.
فأقام الرجل في الجامع أياماً يسيرة، حتى علم أنها قد بعدت، ثم هرب في بعض الليالي، وطلب من غد فلم يوجد، ولا عرف له خبر.
حتى انكشف لهم أنها حيلة عملها، بعد مدة طويلة.

صوفي سمع، فطرب، فتواجد، فمات
رأيت ببغداد صوفياً يعرف بأبي الفتح، أعور، في مجلس أبي عبد الله ابن البهلول، يقرأ بألحان، قراءة حسنة، وصبي يقرأ " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " .
فزعق الصوفي: بلى، بلى، دفعات، وأغمي عليه طول المجلس، وتفرق الناس عن الموضع. وكان الاجتماع في صحن دار كنت أنزلها، فلم يكن الصوفي أفاق، فتركته مكانه، فما أفاق إلى قرب العصر، ثم قام.
فلما كان بعد أيام، سألت عنه فعرفت أنه حضر عند جارية بالكرخ، تقول بالقضيب، فسمعها تقول الأبيات التي فيها:
وجهك الميمون حجتنا ... حين تأتي الناس بالحجج
فتواجد ودق صدره، إلى أن أغمي عليه، فسقط.
فلما انقضى المجلس، حركوه، فوجدوه ميتاً، فشالوه، ودفنوه، واستفاض الخبر بهذا وشاع. والأبيات لعبد الصمد بن المعذل، وهي في أمالي الصولي عنه بإسناد ثابت في أصول سماعاتي:
يا بدع الدل والغنج ... لك سلطان على المهج
إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
لا أتاح الله لي فرجاً ... يوم أدعوا منك بالفرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم تأتي الناس بالحجج
والصوفية، إذا قالوا: وجهك المأمول، يقبلونه إلى ما لهم في ذلك من المعاني.
وكانت قصة هذا الرجل، وموته في سنة خمسين وثلثمائة، وأمره من مفردات الأخبار.
؟
مكديان بغداديان يحتالان على الناس
حدثني جماعة من شيوخ بغداد: إنه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسل أحدهما بأمير المؤمنين علي عليه السلام، والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، وتجيئهما القطع دارة.
فإذا انصرفا جميعاً، اقتسما القطع، وإنهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على الناس.
كلنا صيادون لكن الشباك تختلف
حدثني أبو أحمد عبد السلام بن عمر بن الحارث، قال: جاء رجل من الصوفية إلى بجكم وهو بواسط، فوعظه، وتكلم عليه بالفارسية والعربية، حتى أبكاه بكاء شديداً.
فلما ولى من بين يديه خارجاً، قال بجكم لبعض من بحضرته: احمل معه ألف درهم، وادفعها إليه.
قال: فحملت، فأقبل بجكم على من بين يديه، فقال: ما أظنه يقبلها وهذا محترق بالعبادة، أيش يعمل بالدراهم.
قال: فما كان بأسرع من أن رجع رسوله الذي كان أنفذه بالدراهم، فارغ اليد.
فقال له بجكم: أي شيء عملت؟ قال: أخذت إليه الدراهم، وأعطيته إياها.
قال بجكم: فأخذها؟ قال: نعم.
فعض بجكم على شفتيه، وقال: إنا لله، حيلة تمت على، كلنا صيادون لكن الشباك تختلف.
تاجر يتحدث عن صفقة عقدها
وراء باب الأبواب
وحدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، عن رجل من التجار الموغلين في الأسفار، قال: سافرت إلى وراء باب الأبواب بمسافة بعيدة ومعي متاع.
فبلغت أرضاً لها أهل بيض شقر، مرط، دقاق، قصر، عراة، قليلوا الأظفار، لغتهم لغة غير الفارسية والتركية، لا أعرفها، لا أعرفها، لا ورق، في بلادهم، ولا عين، وإنما يتعاملون بالأمتعة، والأغلب عندهم الغنم.
فحملت إلى ملكهم، فعرضت عليه ما معي، فاستحسن منه ثوب ديباج كان معي، منقط، فسألني عن ثمنه، فاستمت مالاً كثيراً.
فقال لي: لا مال عندنا، وإنما هي هذه الأمتعة، فإن صلحت لك، فخذ ما شئت.

فقلت: لا تصلح لي.
فقال: فالغنم؟ فقلت: كم عساك تعطيني؟ فقال: حكمك.
فقلت: بعدد كل نقطة في الثوب شاة.
فقال: قد أجبتك.
فأخذت أعد النقط، فلم ينضبط لي ذلك، وجهد جميع من عنده في هذا، فتعذر عليهم.
فقال لي: ما نعمل الآن، قد تعبنا، وأتعبناك في شيء لا يصح، فهممت بحمل الثوب والانصراف.
ففكر ساعة، ثم قال لترجمانه: قل له يبسط الثوب.
وكان له ترجمانان، يكلم أحدهما بلغته، فيكلم الترجمان، ترجماناً آخر، بلغة أخرى، فيكلمني ذاك بالفارسية، فأفهم.
قال: فبسطت الثوب، وأمر الملك، فأضر كل ما قدر عليه من حصى صغار وأحجار لطيف، فترك على كل نقطة حصاة، حتى امتلأ الثوب بالحصى والحجارة اللطاف، فوق النقط.
ثم أمر بجمع أمر عظيم من الغنم، وأوقفت بحضرته، وأمر رجالاً أن يجلسوا، ورجالاً أن يقوموا، فجلس بعضهم على الثوب.
فكانوا يأخذون حصاة حصاة فيلقونها عن الثوب، فكلما ألقى من الجلوس رجل حصاة، أخذ رجل من القيام، شاة من الموضع الذي فيه الغنم إلى رحلي، وسلمت إلى أصحابي، حتى استوفيت على عدد الحصى الذي كان فوق الثوب، بكل نقطة شاة.
قال: فاستحسنت فطنته لذلك، فقلت للتراجم: قولوا له: ما أنصرف إلى بلدي بشيء أحسن من فطنة الملك، لاستخراج هذا، فكيف وقع له هذا وهو لا يلابس مثله؟ وأنا تاجر، ما وقع لي ، ولا لجميع أهل مملكته.
قال: فأعجبه قولي، وقال: إنك لما أردت الانصراف، تأسفت على ما يفوتني من الثوب، ففكرت، والملوك لا بد أن يدبرهم الملك، ويسير لهم مزية في حيل الرأي في الحوادث التي تطرقهم، ليست لغيرهم، لأن أفكارهم صافية من الاهتمام بما يهتم به غيرهم من المعايش، موقوفة على مصالح المملك، ومداراة الخوارج، أو على الشهوات، قد ما شغلوا به نفوسهم، وليس يتحصل لواحد منهم الملك، إلا لشرفه، ومعنى قد فضل به، وتقدم من أجله، إما بسعادة تخدمه، أو بفضل في نفسه، فلما رأيت أن الثوب يريد أن يفوتني، فكرت، كيف الحيلة في عد النقط، فوقع لي ما رأيت.
فقلت له: أيها الملك، فائدتي بما سمعته منك، من هذا الكلام، أحب إلي من فائدتي بما ربحته عليك من ثمن الثوب.
قال: فأجازني بجائزة سنية، وأصحبني من آنسني، وخدمني في طريقي، وحمل معي تلك الغنم، إلى أن خرجت من أعماله، فبعنها بمال عظيم.

أبو علي الأنباري والطبيب الأنباري
و الطبيب يوحنا الأهوازي
حدثني أبو علي الأنباري، قال: كنت بحضرة أبي يوسف البريدي، فكتبت كتباً كثيرة ، وحمي النهار فقمت ضجراً، أمشي في الصحن الأعظم من الدار، فلقيت يوحنا الطبيب الأهوازي النصراني، فقال: يا أبا علي افتصد الساعة، وإلا طعنت.
فقلت: أمس افتصدت.
قال: فحل إزارك، وسراويلك.
قال: فوقفت، وفعلت ذلك.
فقال لي: لو لم يتغير لونك إلى الإسفار، لفصدتك ثانية.
قال: فعجبت من فطنته واجتماع الدم في وجهي، ومعالجته بسرعة.
طبيب يتحدث عن بعض خواص النارنج
وحدثني أبو علي، قال: دخل يوحنا يوماً إلى داري، وبحضرتي مطاولات كثيرة، فيها نارنج، فحين رآها، قال يوحنا: منذ كم هذه الأطباق عندك؟ فقلت: منذ أيام.
فقال: إنا لله، تقدم برفعها الساعة، وإلا لم أجلس وهي أمامي.
فقلت: شيلوها.
ثم قلت: ما السبب في هذا؟ فقال: إن النارنج خاصيته أن يرعف، وإنه لا يرعف أحد عقيب إدمانه شمه رعافاً يكون سببه شمه أو بالاتفاق، إلا يدوم رعافه إلى أ، يموت، فلا حيلة فيه.
من شعر أبي القاسم الصروي
أنشدني أبو القاسم الصروي لنفسه:
ويوم كيوم البين حراً قطعته ... على سابح طاوي الأياطل سابق
أخوض عليه جمرة القيظ حاسراً ... كأني على الهجران في قلب عاشق
الجزء الثالث
الأمين لا يتهم
حدثني أبو العباس محمد بن نصر الشاهد، قال: كان أبو عبد الله جعفر بن قاسم الكرخي، كتب إلى أبي جعفر بن معدان، أن يختار له وكيلاً، ينظر له في ضيعته بالأهواز، فاختار له عمر بن محمد الأشجعي، صاحبه، فنظر في الضيعة سنين.
ثم ولي الكرخي الأهواز، ووردها، فطالب الأشجعي بالحساب، فرفعه، وتتبعه كاتبه، فخرجوا عليه فيه ستة آلاف دينار.
فأمر الكرخي، فلوزم الأشجعي في دهليزه، وطولب بالمال، فكتب إلى ابن معدان بخبره.

قال: وكان رسم الكرخي، أن يستدعي أبا جعفر بن معدان، في كل يوم، إلى طعامه، فاستدعاه في ذلك اليوم، فتأخر، وراسله، بأنه من كان صاحبه، وثقته، واختياره، متهماً، مسلطاً عليه محالات الكتاب، معتقلاً، لا يستدعي للمراكلة.
قال: فامتنع الكرخي من الأكل، وأنفذ إليه الأشجعي، مع كاتب له، والحساب، وقال: والله ما كنت بالذي أدع محالاً يستمر على صاحبك، وما أخرج عليه إلا شيئاً صحيحاً، وقد يجوز أن يكون ضيع ذلك، ولم يتناوله، ولعمري إن من يكون اختيارك، وثقتك، لا يخون، ولم يك ملازماً، وإنما أجلسته انتظاراً لك، لتجيء فتدبر أمره، وإذا كان ذلك قد شق عليك، فمالي لك، وهذا الرجل والحساب، إن شئت أن تستوفي لي ذلك، أو بعضه، أو تدعه جميعه، فافعل، ولا تتأخر عني، فلست آكل، أو تجيء.
قال: فأطلق الأشجعي إلى منزله، وركب هو إلى الكرخي، ثم لم يعاود أحدهما صاحبه في معنى الأشجعي بكلمة، وفاز بالدنانير.
ومضت القصة على ذلك.
يرى مناماً فيمزق كتاباً
حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن مروان، قال: حدثني خالي محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا: كنت في بعض الليالي، أنظر في كتاب التشريح لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفاً، يهتف بي، ويقرأ: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم، وما كنت متخذ المضلين عضداً " .
فاستيقظت، ومزقت الكتاب.

القاضي أبو خازم يتأنى في أحكامه
وحدثني القاضي أبو بكر، قال: حدثني مكرم بن بكر، قال: كنت في مجلس أبي خازم القاضي، فتقدم رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فاستدعى الشيخ عليه ألف دينار عيناً ديناً.
فقال له: ما تقول؟. فأقر.
قال: فقال للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه.
فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك في أن تنقده البعض، وتسأله الإنظار؟ قال: لا.
فقال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه.
قال: فتفرس أبو خازم فيهما ساعة، ثم قال: تلازما، إلى أن أنظر بينكما في مجلس آخر.
قال: فقلت لأبي خازم، وكانت بيننا مودة وأنسة: لم أخر القاضي حبسه؟ فقال: ويحك إني أعرف في أكثر الأحوال، في وجوه الخصوم، وجه المحق من المبطل، وقد صارت لي بذلك دربة لا تكاد تخطىء، وقد وقع لي أن سماحة هذا بالإقرار، هي عن بلية، وأمر يبعد عن الحق، وليس في ملازمتهما بطلان حق، ولعله أن ينكشف لي من أمرهما شيء، أكون معه في الحكم على ثقة، أما رأيت قلة تغاضبهما في المناظرة؟ وقلة اختلافهما؟ وسكون جأشهما، مع عظم المال، وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع، حتى يقر مثل هذا طوعاً، عجلاً، بمثل هذا المال.
قال: فبينا نحن كذلك نتحدث، إذ استؤذن على أبي خازم، لبعض وجوه تجار الكرخ، ومياسيرهم، فأذن له، فدخل، وسلم عليه، وسبب لكلامه، فأحسن، ثم قال: قد بليت بابن لي حدث، يتلف مالي في القيان والبلاء، عند مقين يعرف بفلان، - وأسماه - فإذا منعته مالي، احتال بحيل تضطرني إلى غرم له، وإن عذلته عن ذلك، وعددت حالي معه، طال، وأقربه اليوم، إنه قد نصب المقين، ليطالبه بألف دينار عيناً، ويجعل ذلك ديناً حالاً، وبلغني أنه قد تقدم إلى القاضي، فيطالبه، فيحبس، وأقع مع أمه في بلية وتنغيص عيش، إلى أن أؤدي ذلك عنه إلى المقين، فإذا قبضه المقين، حاسبه به من الجذور.
ولما سمعت ذلك، بادرت إلى القاضي لأشرح له الأمر، فيداويه بما يشكره الله تعالى عليه، فجئت، فوجدتهما على الباب.
فحين سمع أبو خازم ذلك، تبسم، وقال لي: كيف رأيت؟ قال: فقلت: هذا، ومثله، من فضل الله عز وجل، على مولانا القاضي وجعلت أدعو له.
فقال: علي بالغلام والشيخ، فأدخلا.
فأرهب أبو خازم الشيخ، ووعظ الغلام، فأقر الشيخ أن الصورة كما بلغت القاضي، وأن لا شيء له عليه.
وأخذ الرجل بيد ابنه، وانصرفا.
أبو جدي كنية التيس
قال لي القاضي: كان مكرم هذا، من فضلاء الرجال، وعلمائهم، وكنت أرى رجلاً يدعوه: أبا جدي.
فقلت له: ما غرضك؟ فقال: ألست تعلم أن أبا الجدي، هو التيس.
لأبي علي الحاتمي في الأمير سيف الدولة
أنشدني أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، قصيدة له في سيف الدولة، وهي:
دنو فراق خلف الصبر نائيا ... ووجد محب غادر الدمع جاريا

وقفت بمغنى الشوق أنشد أهله ... فحاكى بلى جسمي هناك المغانيا
حكى نفسي فيها صباها وأدمعي ... حياها وأعضاي الطلول البواليا
يذكر فيها:
وكفل أرواح العداة إلى الوغى ... حساماً ملياً بالذي رام وافيا
له صفحة تنبو على أن حده ... يبيد أعاديه ويغني المواليا
كذا النار تهدي في الضلالة سارياً ... وتحرق من عادت، وتنفع صاليا
جعلت الظبى كأساً تدير دم العدى ... ووقع الظبى الألحان والحرب ساقيا
فإن كان بيت المال أصبح عاطلاً ... لديك فقد أضحى بك المجد حاليا

ما قاله أحد ملوك الهند
أنشدني أحمد بن عبد الله المعروف بالبختري، القاضي، البغدادي، لأبي العلاء صاعد بن ثابت، قال أنشدني لنفسه:
ثنتان من همتي ما ينقضي أسفي ... عليهما أبداً من خيفة الفوت
لم أحب منتجع الدنيا بجملتها ... ولا حميت الورى من صولة الموت
فاجتمعت مع أبي العلاء صاعد، بعد ذلك، بواسط، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلثمائة، فسألته عن البيتين، فقال: غلط علي، وما أخبرته أنهما لي.
فقلت: فلمن هما؟.
فقال: كان أبو الحسن داود، كاتب الوقف بالبصرة، حدثني، بإسناد ذهب عني: إن ملكاً من ملوك الهند، حارب ملكاً، فقتل في المعركة، فألفاه بعض أصحابه طريحاً بين القتلى، وفيه بقية من الروح، فنزل إليه، فقال: هل لك حاجة؟ فأنشده لنفسه شعراً، فسر، ونقل، فكان هذان البيتان، في جملة الشعر.
من شعر أحد الكتاب في بيمارستان البصرة
أخبرني أبو القاسم حسين بن محمد بن نبيل، كهل كان من أولاد الجند ببغداد، فخرج إلى الأهواز، وأقام بها يكتب لعلي بن أحمد الخراساني، حاجب معز الدولة، وكان أديباً سماعة لكتب أهل الأدب، وكان إمامي المذهب، قال: رأيت في بيمارستان البصرة، رجلاً من الكتاب محبوساً، يقول الشعر، فأنشدني لنفسه:
أدافع نفسي بالتعلل والصبر ... وأمنع نفسي بالحديث عن الفكر
وأرجو غداً حتى إذا جاءني غد ... تزايد بي همي فيسلمني صبري
فلا الهم يسليني ولا الغم ينقضي ... ولا فرح يأتي سوى أدمع تجري
إلى الله أشكو ما ألاقي فإنه ... عليم بأني قد تحيرت في أمري
قال: وأنشدني لنفسه أيضاً:
أي شيء يكون أقبح منا ... إن نقضنا عهد الإخاء وخنا
إن في حرمة المودة أن نغ ... ضي جميعاً على الخيانة منا
وإذا ما أصابنا الدهر بالعي ... ن رددناه بالتغافل عنا
قال: وأنشدني لنفسه:
ما بال دمعك، أين الدمع يا عيني ... عسى أصابتك عين الدهر بالعين
إني لأجزع من فقد البكاء كما ... قد كنت أجزع قبل البين للبين
مدائح قيلت في أبي القاسم التنوخي
وا لد المحسن
كان يلزم أبي، بالأهواز، شاعر يعرف بأبي الخير، صالح بن لبيب، فدخل إليه يوماً، وأنا حاضر، فأعطاه رقعة صغيرة، فقرأها أبي، وتبسم، وأمر له في الحال بدراهم، وانصرف.
فأخذت الرقعة، فإذا هي بخطه، وفيها:
يا من أراق له السماح ندىً ... أضحى به الأحرار في رق
فضلاً سبقت العالمين به ... والفضل مقصور على السبق
ألزمت نفسك غير لازمها ... وعرفت لي حقين لا حقي
ودخل إليه يوماً شاعر يعرف بالهمذاني، لا أعرف اسمه، ولا نسبه، فدفع إليه رقعة، فيها:
كفى القاضي رضاي بما ارتضاه ... ولم أذمم رضاي ولا رضاه
فأمر له في الحال، بجائزة سنية.
من نظم عضد الدولة
أنشدني غير واحد، من الشيرازيين، للأمير عضد الدولة، أبي شجاع بن ركن الدولة، أبي علي:
بهطة قصر عن وصفها ... من يدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلىء في ماء كافور
وله أيضاً:
رأيت بساطاً للزبرجد ناضراً ... قد أبرز أطرافاً تعد قحافا
قحافاً من البلور ملأى وفرغاً ... وممزوجة فيه رفعن سجافا

تدير رؤوساً للندامى كؤوسها ... وتترك أحلام الحليم سخافا
وقال أيضاً:
نحرنا بيننا دناً ... فعاد الليل إصباحا
وداجا نحره مثل ال ... غرابين إذا صاحا

من رسالة لأبي القاسم التنوخي
حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: كتب إلي القاضي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي، جواب كتاب كتبته إليه: وصل كتابك.
فما شككت وقد جاء الرسول به ... أن الشباب أتاني بعدما ذهبا
كان قتل أبي يوسف البريدي أبرك الأشياء
على سيف الدولة
حدثني أبو يعلى محمد بن يعقوب البريدي الكاتب، قال: لما قصدت سيف الدولة أكرمني، وأنس بي، وأنعم علي، وكنت أحضر ليلاً في جملة من يحضر.
قال: فقل لي ليلة من الليالي: كان قتل أبيك، أبرك الأشياء علي.
فقلت: كيف ذاك، أطال الله بقاء مولانا؟ قال: لما رجعنا من بغداد، اقتصر بي أخي ناصر الدولة، على نصيبين، فكنت مقيماً فيها، ولم يكن ارتفاعها يكفيني، فكنت أدافع الأوقات، وأصبر على مضض من الإضاقة مدة.
ثم بلغتني أخبار الشام، وخلوها إلا من يأنس المؤنسي، وكون ابن طغج بمصر بعيداً عنها، ورضاه بأن يجعل يأنس عليها، ويحمل إليه الشيء اليسير منها، ففكرت في جمع جيش، وقصدها، وأخذها، وطرد يأنس، ومدافعة ابن طغج، إن سار إلي، بجهدي، فإن قدرت على ذلك، وإلا كنت قد تعجلت من أموالها، ما تزول به إضاقتي مدة، ووجدت جمع الجيش لا يمكن إلا بالمال، وليس لي مال، فقلت: أقصد أخي، وأسأله أن يعاونني بألف رجل من جيشه، يزيح هو علتهم، ويعطيني شيئاً من المال، وأخرج بهم، فيكون عملي، زائداً في عمله، وعزه.
قال: وكانت تأخذني حمى ربع، فرحلت إلى الموصل على ما بي، ودخلت إلى أخي، وسلمت عليه.
فقال: ما أقدمك؟ فقلت: أمر أذكره بعد.
فرحب، وافترقنا.
فراسلته في هذا المعنى، وشرحته له، فأظهر من المنع القبيح، والرد الشديد، غير قليل.
ثم شافهته، فكان أشد امتناعاً.
وطرحت عليه جميع من كان يتجاسر على خطابه في مثل هذا، فردهم.
قال: وكان لجوجاً، إذا منع من الأول، شيئاً يلتمس منه، أقام على المنع.
قال: ولم يبق في نفسي، من يجوز أن أطرحه عليه، وأقدر أنه يجيبه، إلا امرأته الكردية، والدة أبي تغلب.
قال: فقصدتها، وخاطبتها في حاجتي، وسألتها مسألته.
فقالت: أنت تعلم خلقه، وقد ردك، وإن سألته عقيب ذلك، ردني أيضاً، فأخرق جاهي عنده، ولم يقض الحاجة، ولكن أقم أياماً، حتى أظفر منه، في خلال ذلك، بنشاط، أو سبب أجعله طريقاً للكلام، والمشورة عليه، والمسألة له.
قال: فعلمت صحة قولها، فأقمت.
قال: فإني جالس بحضرته يوماً، إذ جاءه براج، بكتاب طائر، عرفه سقوطه من بغداد.
فلما قرأه، اسود وجهه واسترجع، وأظهر قلقاً وغماً، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا قوم، المتعجرف، الأحمق، الجاهل، المبذر، السخيف الرأي، الرديء التدبير، الفقير، القليل الجيش، يقتل الحازم، المرتفق، العاقل، الوثيق الرأي، الضابط، الجيد التدبير، الغني، الكثير الجيش؟ إن هذا لأمر عجيب.
قال: فقلت له: يا سيدي ما الخبر؟ فرمى بالكتاب إلي، وقال: قف عليه.
فإذا هو كتاب خليفته ببغداد، بتاريخ يومه، يقول: في هذه الساعة، تناصرت الأخبار، وصحت بقتل أبي عبد الله البريدي، أخاه أبا يوسف واستيلائه على البصرة.
قال: فلما قرأت ذلك، مع ما سمعته من كلامه، مت جزعاً وفزعاً، ولم أشك أنه يعتقدني كأبي عبد الله البريدي، في الأخلاق التي وصفه بها، ويعتقد في نفسه أنه كأبي يوسف، وقد جئته في أمر جيش ومال، ولم أشك أن ذلك سيولد له أمراً في القبض علي، وحبسي، فأخذت أداريه، وأسكن منه، وأطعن على أبي عبد الله البريدي، وأزيد في الاستقباح لفعله، وتعجيز رأيه، إلى أن انقطع الكلام.
ثم أظهرت له، إنه قد ظهرت الحمى التي تجيئني، وإنه وقتها، وقد جاءت، فقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه.
فركبت دابتي، وحركت إلى معسكري، وقد كنت منذ وردت، وعسكري ظاهر البلد، ولم أنزل داراً.
قال: فحين دخلت إلى معسكري، وكان بالدير الأعلى، لم أنزل، وقلت لغلماني: ارحلوا، الساعة، الساعة، ولا تضربوا بوقاً، واتبعوني.
وحركت وحدي، فلحقني نفر من غلماني، وكنت أركض على وجهي، خوفاً من مبادرة ناصر الدولة إلي بمكروه.

قال: فما عقلت، حتى وصلت إلى بلد، في نفر قليل من أهل معسكري، وتبعني الباقون.
فحين وردوا، نهضت للرحيل، ولم أدعهم أن يراحوا، وخرجنا.
فلما صرنا على فرسخ من بلد، إذا بأعلام وجيش لا حقين بنا، فلم أشك أن أخي أنفذهم للقبض علي.
فقلت لمن معي: تأهبوا للحرب، ولا تبدؤوا، وحثوا السير.
قال: فإذا بأعرابي، يركض وحده، حتى لحق بي، وقال: أيها الأمير، ما هذا السير المحث؟ خادمك دنحا، قد وافى برسالة الأمير ناصر الدولة، ويسألك أن تتوقف عليه حتى يلحقك.
قال: فلما ذكر دنحا، قلت: لو كان شراً، ما ورد دنحا فيه.
فنزلت، وقد كان السير كدني، والحمى قد أخذتني، فطرحت نفسي لما بي، ولحقني دنحا، وأخذ يعاتبني على شدة السير، فصدقته عما كان في نفسي.
فقال: اعلم أن الذي ظننته انقلب، وقد تمكنت لك في نفسه هيبة، بما جرى، وبعثني إليك برسالة، يقول لك: إنك قد كنت جئتني تلتمس كيت وكيت، فصادفت مني ضجراً، وأجبتك بالرد، ثم علمت أن الصواب معك، فكنت منتظراً أن تعاودني في المسألة، فأجيبك، فخرجت من غير معاودة ولا توديع، والآن، إن شئت فأقم بسنجار، أو بنصيبين، فإني منفذ إليك ما التمست من المال والرجال، لتسير إلى الشام.
قال: فقلت لدنحا: تشكره، وتجزيه الخير، وتقول كذا وكذا، أشياء واقفته عليها، وتقول: إني خرجت من غير وداع، لخبر بلغني في الحال، من طروق الأعراب لعملي، فركبت لألحقهم، وتركت معاودة المسألة تخفيفاً، فإذا كان قد رأى هذا، فأنا ولده، وإن تم لي شيء، فهو له، وأنا مقيم بنصيبين، لأنتظر وعده.
قال: وسرت، ورجع دنحا، فما كان إلا أيام يسيرة، حتى جاءني دنحا، ومعه ألف رجل، قد أزيحت عللهم، وأعطوا أرزاقهم ونفقاتهم، وعرضت دوابهم وبغالهم، ومعهم خمسون ألف دينار، وقال: هؤلاء الرجال، وهذا المال، فاستخر الله، وسر.
قال: فسرت إلى حلب، وملكتها، وكانت وقائعي مع الأخشيدية، بعد ذلك، المعروفة، ولم تزل بيني وبينهم الحرب، إلى أن استقرت الحال بيننا، على أن أفرجوا لي عن هذه الأعمال، وأفرجت لهم عن دمشق، وما وراءها، وأمنت ناصر الدولة، واستغنيت عنه.
وكل ذلك، فسببه قتل عمك لأبيك.
؟

لأبي علي الحاتمي يمدح
أنشدني أبو علي الحاتمي، فصلاً من رسالة عملها إلى بعض الرؤساء في صفته:
أفكاره همم إيعاده نقم ... وعوده قسم تأميله عصم
ألفاظه حكم أوطانه حرم ... ألحاظه نعم آلاؤه ديم
تبغي الخلائق أن يحصوا فضائله ... ودون ذلك ما تستنفذ الكلم
ولو أرادوا جميعاً كتم معجزه ... أبى له الله ما يأتون والكرم
تبغي مجاراته في فعله بشر ... قد قصرت منهم عن كعبه القمم
وكيف يسطاع فعل أو يرام علا ... ما ليس تدركه الأوهام والفهم
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
حدثني بعض الأهوازيين، قال: رأيت أبا الحسن المنبري، الشامي، الطائي، الشاعر، بالأهواز، على باب الحسن بن علي المنجم، وهو عاملها، يتردد مدة، وكان قد امتدحه.
قال: فتذاكرنا شدة تلون أخلاق المنجم، وجنونه، ونواميسه في وقت، وعدوله عن ذلك في وقت آخر.
ثم قلت له: فأين أنت منه؟ فقال: ما آيس من رده، ولا أطمع في وعده.
قلت أنا: وهذا كأنه مأخوذ من الأبيات التي هجي بها الحسن بن رجاء، وهي مشهورة، فلذلك لم أوردها على جملتها.
والأخير من الأبيات هو:
لكنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
بحث في معرفة السارق
حكي لي عن بعض الصالحين، في إخراج السرق، قال: تأخذ قدحاً فيه ماء، وتأخذ خاتماً، فتشده فيه بشعرة، وتدليه في القدح، وتكتب خمس رقاع، فيها أسماء المتهمين بالسرقة، وتكتب: السارق، في القدح، وتضع رقعة، تكتب فيها اسم من تتهمه، على حرف القدح، وتقرأ عليه: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه، لعلكم تتقون " .
فإذا ضرب الخاتم القدح، نظرت في الرقعة، فإن السارق، هو صاحب الاسم، وإن لم يضرب القدح، فتضع أخرى، فإن السارق هو، إذا ضرب.
آيات لإعادة الآبق
وقال لي في الآبق:

تكتب فاتحة الكتاب مدورة، ويكتب في وسطها، " كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً. فما له من نور " ، اللهم اجعل الأرض علوها، وسفلها، وسهلها، وجبلها، وبرها، وبحرها، في قلب فلان بن فلان، أضيق من مسك شاة، حتى يرجع.

السرج واللجام في جهاز كل عروس
تذاكرنا في مجلس ببغداد، حضره أبو علي محمد بن منصور الشاهد، المعروف بابن كردي، حديث غلبة النساء على الرجال، إلا النفر من الرجال.
فقال لي أبو علي: كان لنا شيخ فاضل، من أهل القطيعة، كان يضرب لنا في هذا مثلاً، فيقول: إن في جهاز العروس إلى زوجها، سرجاً ولجاماً، فإذا انقضت أيام العرس، إن سبق الرجل إلى السرج، فأسرج المرأة، ووضع اللجام في رأسها، وركبها، ملك عليها أمرها، وإن تراخى لحظة، وضعت هي السرج على قفاه، واللجام في فيه، وركبته، فلم تنزل عنه، إلا بطلاق أو موت.
الوزير عبيد الله بن سليمان واليهودي
سهل بن نظير
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي، قال: حدثني سهل بن نظير اليهودي الجهبذ، قال: حدثني جدي سهل بن نظير، وكان يتجهبذ للوزير على قديم السنين، منذ أيام الفتنة، وإلى أن مات، قال: لما نكب عبيد الله بن سليمان، بعد كتبته للموفق، النكبة العظيمة، كنت أتوسم فيه الرفعة، وعلو الحال، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر مائة دينار، وهو في الحبس، ثم أطلق، فكنت أحملها إليه، إلى أن ولي الوزارة، فعرف لي ذلك، وبلغ بي كل مبلغ، وشكرني عليه أتم شكر.
قال: ثم إن عبيد الله، نكب جرادة الكاتب، وكانت قد جرت له علي الرئاسة، وعلى الناس والرؤساء، وكان له إحسان سالف إلي كثير، فكنت أحمل إلى عياله، في كل شهر، مائة دينار، وأحدر به إلى البصرة.
قال: فبلغ ذلك عبيد الله بن سليمان، وأنا لا أعلم، فدخلت إليه يوماً، فقال لي: يا سهل، بارك الله لك في عداوتنا.
قال: فقلت له: أيها الوزير، من أنا حتى أعاديك، وأنا أخس كلب ببابك؟ قال: وأكثرت التنصل، والتهيب، وبكيت، وقلت: يا سيدي، ما هذا الكلام؟ إن كان شيء رقى إلى الوزير أيده الله، عني، واقفني عليه، ولعل عندي فيه، حجة، أو برهاناً، على بطلانه.
قال: فقال لي: تحمل إلى عيال جرادة، في كل شهر مائة دينار.
قال: فقلت: أيها الوزير، أنا ما فعلت هذا، ولا تجاسرت عليه، إنما فعله الرجل الذي كان يحمل إلى عيال الوزير - أيده الله - مائة دينار في كل شهر رعاية لحق إحسانه إليه، فرعى لجرادة أيضاً إحساناً له إليه أيضاً، فحمل إليه، مثل ما كان يحمل، إلى عيال الوزير - أيده الله - .
فاحمر وجهه خجلاً، وأطرق، وسكت ملياً، ثم تصبب وجهه بالعرق، وقلت: قبض والله علي، ونكبني.
قال: فأسقطت.
فرفع رأسه، وقال: أحسنت يا سهل، ما ترى بعد هذا مني إنكاراً، ولا بقي في نفسي عليك شيء، فأجرهم على رسمهم، ولا يوحشك ما خاطبتك به.
عاقبة الظلم
حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الله الأهوازي، قال: حدثني أبو الفضل البلخي الفقيه، قال: حدثني الخليل بن أحمد السجستاني، قاضيها قال: قدم علينا صاحب جيش خراسان، من قبل نصر بن أحمد، ومعه خلق عظيم من الجيش، فملك سجستان، وأكثر أصحابه الفساد في البلد، وامتدت أيديهم إلى النساء في الطرقات قهراً.
قال: فاجتمع الناس إلي، وإلى فلان الفقيه، وقد ذكره البلخي وأنسيته أنا، وشكوا الحال، فمضينا معهم إلى صاحب الجيش، فدخلت إليه، أنا والفقيه، وجماعة من رؤساء البلد، وكان المبتدىء بالخطاب، الفقيه، فوعظه، وعرفه ما يجري.
قال: فقال له: يا شيخ، ما ظننتك بهذا الجهل، معي ثلاثون ألف رجل، نساؤهم ببخارى، فإذا قامت أيورهم، كيف يصنعون؟ ينفذونها بسفاتج إلى حرمهم؟ لا بد لهم أن يضعوها فيمن ها هنا كيف استوى لهم، هذا أمر لا يمكنني إفساد قلوب الجيش بنهيهم عنه، فانصرف.
قال: فخرجنا.
فقالت لنا العامة: أيش قال الأمير؟ قال: وأعاد عليهم الفقيه الكلام بعينه.
فقالوا: هذا القول منه فسق، وأمر بالفسق، ومكاشفة بمعصية الله تعالى، فهل يحل لنا عندك قتاله بهذا القول؟ فقال لهم الفقيه: نعم، قد حل لكم قتاله.
قالوا: فتأذن؟ قال: نعم.

قال: فبادرت العامة، وانسللنا من الفتنة، فلم نصل المغرب من تلك الليلة، وفي البلد أحد من الخراسانية.
قال: لأنه اجتمع من العامة، من لا يضبط عدده، فقتلوا خلقاً عظيماً من الخراسانية، واستحر القتل فيهم، ونهبت دار الأمير، وطلبوه ليقتلوه، فأفلت على فرسه، ومعه كل من قدر على الهرب، ومضوا على وجوههم.
فما جاءنا بعدهم جيش من خراسان، أصلاً.

خراج الأهواز في سنة خمس وثلثمائة
حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مهرويه، المعروف بابن أبي علان، قال: حدثني أبي أبو القاسم، قال: كنت أكتب لعبيد الله بن الحسن بن يوسف على كور الأهواز، فكتب علي بن عيسى يطالبنا بالحساب، فتقدم إلى أبو أحمد عبيد الله بن الحسن، بعمله، وبالخروج للمواقفة عليه، وذلك في سنة ست وثلثمائة.
قال: فجمعت الحساب، وعملت جماعة لسنة خمس وثلثمائة، بارتفاع مال الخراج بالأهواز، وكورها، سوى الضياع، فكان مبلغ ذلك، ستة عشر ألف ألف وثمانمائة ألف درهم وكسر، وكلها قد صح في الاستخراج، ولم يبق للسلطان إلا نيف وأربعين ألف درهم.
قال: وكان مال الضياع، يقارب هذا، إلا أنه لم يكن في حسابنا.
خضاب يسود الشعر
حدثني عبد الله بن عمر الحارثي، قال: عجل علي المشيب، فغمني ذلك، وفكرت في أن أخضب لحيتي، فنمت، فرأيت في النوم، كأني أشاور طبيباً في خضاب، فقال لي: لا تحتاج إلى خضاب، ولكن أصف لك شيئاً يسود الشعر ويحفظ لونه، ويمنع من السواد أن يبيض، خذ من دهن النارجيل العتيق، وزن خمسة دراهم، ومن الإهليلج الأصفر، وزن نصف درهم، ومن النوشاذر، وزن دانق، واسحق الجميع، ودفه بالدهن حتى يختلط، واطل به الشعر، فإنه يسود.
فانتبهت، وقد حفظت ذلك، فعملته، فاسود شعري، وتأخر الشيب عني دهراً طويلاً.
طلاء يمنع الحبل
وحدثني، قال: كنت في شبابي، أتمتع بالجواري والمماليك، فكان العزل يثقل علي جداً، فاشتريت جارية، بدنانير كثيرة، وكنت أخاف أن تحبل، فيذهب ثمنها، فنمت مشغول القلب بذلك، فأريت قائلاً يقول: إذا أحببت أن لا تحمل المرأة، فخذ بنجاً، واسحقه، واعجنه بلبن فرس، وجففه، واجعله في كيمخت، وعلقه على المرأة، فإنها لا تحبل.
فقلت له: ما سمعت هذا من طبيب.
فقال: إن أحببت أن تمتحن صحة ذاك، فخذ هذا الدواء، واجعله في قارورة ما، واجعلها على النار، وأوقد تحتها، فإنه لا يغلي، ولو مكث سنة.
قال: وانتبهت، وجربت ذلك، فوجدته صحيحاً.
الخليفة المعتضد يشهد على نفسه العدول
وحدثني أيضاً الحارثي، قال: حدثني أبي، وكان يخدم في دار الموفق، والمعتضد بعده: إن المعتضد أراد أن يشهد على نفسه العدول، في كتاب، صدره: هذا ما شهد عليه العدول جميعاً، أن أمير المؤمنين، عبد الله، أبا العباس المعتضد بالله، أشهدهم على نفسه، في صحة منه، وجواز أمر.
وعرضت النسخة، على عبيد الله بن سليمان، فضرب عليها، وقال: هذا لا يحسن كتبه عن الخليفة، اكتبوا: في سلامة من جسمه، وإصابة من رأيه.
؟
الحارثي يستهدي النبيذ
قال لي الحارثي: استهديت من صديق لي نبيذاً، فأنفذ إلي نبيذاً حامضاً، فرددته عليه، وكتبت إليه: الجيران، أحق بهذا من الإخوان.
صفة نبيذ لا يسكر
ووصف لنا مرة، نبيذاً طرياً شربه، فقال: " هو داء الفهم، عمل من ثمر البلاذر " .
أي هو لا يسكر، لضعف فعله.
الكاتب ابن جبير يفاضل بين الوزير
ابن الفرات والوزير علي بن عيسى
حدثنا أبو الفتح عبد الله بن محمد المروزي الكاتب، قال: حدثني بعض شيوخ الكتاب، قال: قال ابن الفرات، لأبي منصور بن جبير، كاتبه، أيما أكفأ، أنا، أو علي بن عيسى؟ فقال: الوزير أكفأ وأضبط.
قال: دعني من هذا.
قال: تؤمنني؟ قال: قد أمنتك.
قال: علي بن عيسى، إذا حضر بين يدي الخليفة، فأراد أن يكتب سراً له، لم يحتج إلى غيره، وكتب هو، وسحا، وختم، وخرط بيده وأنفذ العمل، وأنت، لا بد لك من زنجي، ولوطي صاحب دواته يقرأ، فيبطل الأمر بظهور اثنين عليه.
قال: فضلت علياً علينا.
قلت: لا والله يا سيدي، ولكن يكون علي بن عيسى كاتبك.
دناءة نديم، ولؤم أمير
حدثني عبد الله بن أحمد بن داسه:

إن أبا القاسم البريدي، أيام تقلده الأمر بالبصرة، شرب يوماً، وعنده جماعة من ندمائه، فافتقد قحف بلور، كان معجباً به، وطلبه الشرابية، فلم يعرف له خبر.
فحلف إنهم إن لم يحضروا، ضربهم بالمقارع.
فقال له أحدهم: لا تعجل، ولكن مر بإحضار كل من كان البارحة حاضراً.
فأمر بإحضارهم، فجلسوا، وأنفذ الغلام إلى منزل كل واحد منهم، برسالة منه، أن أنفذوا القحف البلور، الذي حملته إليكم البارحة.
فعاد أحد الرسل، من دار أحدهم، ومعه القحف.
فافتضح ذلك النديم، وسقط محله.
وهذا، مضاد لما حكي عن بعض الأكاسرة، إنه كان يشرب، فوقعت عينه على غلام من غلمانه، وقد سرق صينية ذهب، مع ما فيها، وحملها، فأمسك الملك، وفاز بها الغلام.
فافتقدها الخزان في الغد، وجاءوا في طلبها، فدعاهم، وقال: لا تتعبوا في طلبها، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
قال: فأمسكوا.
فلما كان بعد سنة، كان الملك يشرب، فدخل ذلك الغلام، فرأى عليه منطقة ذهب حسنة.
فقال له الملك سراً: هذا من ذاك؟ فقال: نعم.
فقال: إن كان ما عندك من الدنانير التي في الصينية، قد نفد، فعرفني، لأدفع إليك أخرى.

ألوان من الحجاب
وحدثني، قال: وحدثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: لما قدم حامد بن العباس الأبلة، يريد الأهواز، وهو وزير، خرجت لتلقيه، فرأيت له حراقة، ملاحوها خصيان بيض، وعلى سطحها شيخ، يقرأ القرآن، وهي مظللة، مسترة.
فسألت عن ذلك، فقالوا: هذه حراقة الحرم، لا يحسن أن يكون ملاحوها فحولة.
قال: وقال لي أبو الحسين: دخلت إلى ابن الجصاص في داره ببغداد، فرأيت خصياناً بيضاً مزينين.
جواب لأبي العيناء
قال: حدثنا أبو الحسين، قال: رأيت لأبي العيناء، خادمين، خصيين، أسودين، يقودانه.
فقيل له: كيف اتخذت خصيين أسودين؟ فقال: حتى لا يتهما بي، ولا أتهم بهما.
أبو العيناء لا ينسى ما حفظ
وحدثني، قال: حدثنا أبو الحسين، قال: قدم أبو العيناء البصرة، في سنة نيف وثمانين، بعد الغيبة الطويلة، التي غاب عنها، وخدمته للخلفاء، والوزراء، بسر من رأى.
وكان أبو خليفة، إذ ذاك، عالم البصرة، بالحديث، والأخبار، واللغة، والنحو، ومحمد بن جعفر بن بسام، قاضيها، وكان له محل من الأدب، واللغة، والشعر، كبير، وكنت منقطعاً إليه، ملازماً له، أدرس عليه الفقه، فكان أول من ائتمنني، ورفع شأني.
فقال لي: يا أبا الحسين، قد قدم أبو العيناء، وأحب أن أجمع بينه وبين أبي خليفة، وننظر أثرهما.
فقلت: علي ذلك.
قال: فمضيت، ولقيت أبا العيناء، وعقدت عليه وعداً للحضور، عند ابن بسام، وعلى أبي خليفة، فاجتمعا.
فأخذ أبو العيناء، في الرواية عن الأصمعي، ومشاهداته مع المتوكل، وابن أبي دؤاد، وفلان، وفلان، والشعراء.
قال: فأسكت أبو خليفة، فلم ينجر معه، ولم يلحق به.
قال: فأثنينا على أبي العيناء، وقرظناه.
فقال: يا أيها القاضي، أنا لا أنسى ما كنت أحفظه منذ أربعين سنة.
أبو العيناء وأحمد بن الحسن بن المثنى
وحدثنا أيضاً، قال: حدثني أبو عبيد محمد بن علي الآجري، قال: كنت عند أبي العيناء، لما قدم البصرة، سنة نيف وثمانين، بتسبيبات له على عمالها، وكان معنا أصحاب الحديث.
فقيل له: قد دخل إليك ابن المثنى، فقام، وقدر، أن أبا علي الحسن بن المثنى، قصده.
فقال له بعض الحاضرين: إنه أحمد بن الحسن بن المثنى، فجلس، قبل أن يقرب منه أبو الحسين.
ثم استدنى أبا الحسين، وأكرمه، وسأله عن خبر أبيه، فأخبره بوفاته، فترحم عليه، وقال: أنا أسن منه.
فسألناه عن مقدار الزيادة، فقال: لا أدري، كنت يوماً في مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالبصرة، وقد اجتاز بنا، وكان أصحاب الحديث حضوراً، وكان موسى لا يطيق أن يدخل مجلسه غلام أمرد، ليسمع الحديث، فحين رآه موسى، صاح: يا غلام، أخرجه.
فقلنا له: أعز الله القاضي، هذا ابن أخيك، أبو علي بن المثنى.
قال: فرفعه، وقدمه.
أبو خازم القاضي يريد أن يولي أحمد
بن الحسن بن المثنى القضاء
وحدثني، قال: حدثني أبو الحسين، قال: لما نشأت، كتب أبو خازم القاضي، إلى أبي، يقول: إنه قد بلغني أنه قد نشأ لك فتى يطلب العلم، ومن حاله، وصفته، - قال، وقرظني - فأنفذه إلي، لأقلده القضاء.

قال: فقال لي أبي: ما تقول؟ فقلت: أنفذني، فإنك، هو ذا، ترى ما نحن فيه من الإضاقة، فلعلي أتسع بالأرزاق، فقال أبي: لا تفعل، فإن الأعمال تفنى، والصيانة تبقى.

أبو العيناء في دار الواثقي أمير البصرة
وحدثني، قال: حدثني بعض شيوخنا: إن أبا العيناء، قصد دار الواثقي، وهو الأمير بالبصرة - إذ ذاك - ، فأجلس في الدهليز ساعة، إلى أن استؤذن له.
وجرى الحديث، فقال رجل، في حديث اقتضى ذلك، يا أبا العيناء، أنت صائم اليوم؟ فقال: أما في هذه الدار، فنعم.
فكتب صاحب الخبر، إلى الواثقي، بذلك، فأذن له في الحال، واعتذر إليه، من إجلاس البوابين له في الدهليز، وأنكر ذلك عليهم.
منافرة بين ضريرين
قال: واجتمع أبو العيناء، وأبو علي البصير، يوماً في مجلس، فاستطال عليه أبو العيناء، فقال له أبو علي: نحن جميعاً ضريران، فما هذا التطاول؟ فقال: ولا سواء، أنت من عميان العصا، وأنا من عميان المواكب.
المصالحة بين تاجر أفلس وبين دائنيه
حدثني محمد بن أحمد بن عثمان بن الحارث الزيات، قال: حدثني أبي، قال: كان لي، ولجماعة من التجار ببغداد، على رجل من البزازين، أربعة آلاف دينار، فقام للناس، فاجتمعنا، ففتحنا دكانه، فوجدنا فيه متاعاً ثمنه أربعمائة دينار.
فقال: إن اخترتم أخذها وإبرائي من الباقي، فخذوا، فإني لا أرجع إلى شيء غير ذلك، وإن اخترتم أن تؤخروني بالدين، وأفتح دكاني، وأعمل بهذه الأربعمائة دينار، دفعت إليكم في كل سنة أربع مائة دينار، فيأخذ كل واحد منكم العشر من ماله، وتستوفون المال في عشر سنين.
فأجبناه، إلا رجلاً، يعيد ويقول: زيدوني على العشر، ولو ديناراً واحداً، في السنة.
فقلنا للرجل: أجبه إلى هذا.
فقال: إن أعطيت هذا الدينار، زيادة، على أربعمائة الدينار، في السنة، مضت الأربع مائة دينار في التسع سنين، وبقيت، بقية دينكم، بحالها.
فعجبنا من ذلك، وقلنا: أوجدنا صحة ما قلت.
فقال: هذه الأربعمائة الدينار، إذا اتجرت فيها سنة، وسلمت، فربحي أربعمائة دينار.
يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وتسعة وتسعون ديناراً.
فأتجر فيها، في الحول الثاني، فيحصل معي سبعمائة وثمانية وتسعون ديناراً، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وسبعة وتسعون ديناراً.
فيحول الحول الثالث، فيصير المال سبعمائة وأربعة وتسعون ديناراً يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلاثمائة وخمسة وخمسون ديناراً.
يحول الحول الرابع، فيصير سبعمائة وستون ديناراً، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، ويبقى خمسمائة وثمانون ديناراً.
ويحول الحول الخامس، سبعمائة دينار، يخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وخمسة وثمانون ديناراً.
ويحول الحول السادس، فيخرج منها أربعمائة دينار ودينار، يبقى ثلثمائة وتسعة وسبعون ديناراً.
ويحول الحول السابع، فيصير سبعمائة وأربعة وخمسين ديناراً، يبقى ثلثمائة وسبعة وخمسين ديناراً.
ثم يحول الحول الثامن، فيصير مائتين وتسعين ديناراً، يخرج منها ثلثمائة دينار، بقي منها مائتين وتسعة وستين ديناراً. والدين دين، ولا يمكن أن أدفع إليكم، إذا كان الأصل أربعمائة، أكثر من أربعمائة.
فأجبناه إلى الاقتصار على الأربعمائة، وفتح دكانه، وعمل، ورزق.
إنفاق بلا دخل، يذهب بالأموال
وحدثني، قال: حدثني أبي، فقال: كل كيس يكون فيه ألف درهم، فتخرج منه درهماً واحداً، ولا يدخله درهم آخر، فإن الكيس كله يذهب، إن كان بتجارة، فبنقصان ربحها، وإن كان بنفقة، فليس يحتاج إلى دليل.
وإنما يحفظ الأموال، فضولها، وينستر التاجر بربحه.
بين الجبائي والكرخي
حدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عبيد الله، الفقيه، الحنفي، الأرمني، قال: كان أبو زهير الجبائي، الفقيه، ورعاً، حاذقاً بمذهب أبي حنيفة، فدخل بغداد، فبلغته أخبار أبي الحسن الكرخي، رضي الله عنه، في ورعه.
قال: فلقيه، فقال له: يا أبا الحسن، بلغني أنك تأخذ من السلطان رزقاً في الفقه.
قال: نعم.
قال: ومثلك في علمك، ودينك، يفعل هذا؟

فقال له أبو الحسن: أو ليس قد أخذ الحسن البصري، رضي الله عنه، في زمنه، وفلان، وفلان، فعدد خلقاً من الصالحين والفقهاء، ممن أخذ من بني أمية.
فقال له أبو زهير: ذهاب هذا عليك أطرف، بنو أمية، كانت مصائبهم في أديانهم، وجبايتهم الأموال سليمة، لم يظلموا في العشر، ولا في الخراج، وكان الفقهاء يأخذون من الأموال مع سلامتها، وهؤلاء، مع سلامة أديانهم، أموالهم فاسدة، وجباياتهم بالظلم والغش.
فسكت أبو الحسن، فلما كان وقت قبض جائزته، لم يطالب بها، وتركها، ولم يقبض شيئاً من الجاري، إلى أن مات.
قال لي عبد الله بن داسه: أن أبا زهير هذا، هو أستاذ أبي محمد بن عبدل، الذي علمه الفقه على مذاهب أصحابنا.
وكان أبو محمد بن عبدل، أستاذنا نحن في الفقه، وقد درست عليه، وشاهدته الطويل العريض، وما سمعت منه هذه الحكاية.

الخصال المذمومة في الشيخ
وحدثني، قال: قال لي بعض شيوخنا: إن الشيخ إذا أسن، صارت فيه ثلاث خصال مذمومة: إذا قام عجن، وإذا مشى زفن، وإذا سعل قرن.
شيخ من أهل المذار يرى مناما
ً
وحدثني، قال: حدثني عبد الله بن معاذ، قال: حدثني شيخ من أهل المذار، قال: كان لي زرع في ضيعة، وكان حسناً، جيداً، وافراً، وكنت واسع الطمع فيه، فبت ليلة، فرأيت في منامي، كأني بنفسين يطوفان الصحارى المزدرعة، ويقول أحدهما للآخر: اكتب، زرع فلان كر، وفلان كرين.
قال: وأنا أحفظ الأسماء، وبلغ الكيل إلى أن جاء إلى قراحي، فقال: اكتب، وزرع فلان ثلاثة أكرار.
فقلت له: أعزك الله، زرعي - والله - في غاية الجودة، وأنا أؤمل فيه عشرة وأكثر.
فقال لصاحبه: اكتب ثلاثة أكرار.
قال: فلما كان من الغد، انتبهت متعجباً، وقمت.
وما مضت أيام، حتى لحقت الغلة آفة، ونجا بعض الناس، وأصيب بعضهم، وحصد جيراني، وحصدت.
قال: فحصل لي، والله، ثلاثة أكرار، لا تزيد قفيزاً، ولا تنقص قفيزاً.
قال: وعرفت خبر القوم الذين كنت حفظت أسماءهم، ومبلغ كيلهم، فإذا كيل الجميع، قد خرج على ذلك المبلغ سواء.
من أقوال معز الدولة
بلغني من جهة وثقت بها، عن معز الدولة، إنه قال: ما نام بين طلوع الفجر، إلى طلوع الشمس، مقبل قط.
وهذا منه، على أنه رجل أعجمي، حسن جداً.
والأصل في ذلك، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " بورك لأمتي في بكورها " .
القاضي أبو عمر ينقذ بعمامته شخصاً من الغرق
حدثنا أبو أحمد بن أبي الحسك الشاهد، قال: كان أبو عمر القاضي، يجتاز بباب دارنا، دائماً، ذاهباً إلى ضيعته المعروفة بالصالحية، وأنا صبي، وبعد ذلك، إلى أن صرت حدثاً.
قال: فسمعت - إذ ذاك - أنه اجتاز، فلما صار على شاطىء نهر عيسى، رأى رجلاً في الماء، وهو يصيح: الغريق، ولم يكن بين يدي أبي عمر، إلا غلام واحد.
قال: فصعد أبو عمر بحماره على تلعة، وصاح بأعلى صوته: يا ناس، يا ناس، دفعات، فلم يجبه أحد، لخلو الموضع، وانقطاع الطريق.
فنزل عن حماره، وخلع عمامة كانت عليه، ورمى بها إلى الرجل، وأخذ طرفها بيده، وأمسك بيده الأخرى شجرة كانت هناك.
وقال للرجل: لا خوف عليك، فاجذب العمامة، بكل قوة.
قال: فما زال الرجل يجذبها، ويقرب، إلى أن قرب من الشط، حتى رقى في الشط، وخر مغشياً عليه.
وجازت جماعة، فرأوا القاضي على تلك الصورة، فدعوا له، وشكروه، وبادروا إلى الرجل، وعصروا جوفه من الماء، ونجا، وعاش.
الإكثار من الغالية يدفىء في الجو البارد
حدثني عبد الله بن أحمد بن بكر البصري، قال: كان المهريون بالبصرة، لهم نعم ومروءات، وكانوا في جيراننا، فحدثني شيوخنا: إن فتى منهم، وكان ظريفاً، ركب في يوم شات، شديد البرد، والماء قد جمد، وليس عليه من الحشو شيء، إنما كان عليه قميصان، وعمامة، وطيلسان، وخف، فدخل إلى قوم، فعجبوا من صبره على البرد، فنزع خفه، فإذا هو قد طلا رجليه بالغالية، وحشا منها شيئاً كثيراً، بين أصابعه، وفي سرته، واستعمل منها شيئاً كثيراً في لحيته، وأخذ خرقة، وطلا عليها، ووضعها على رأسه، وتعمم عليها، فحمي حمياً، لم يحتج معه إلى أكثر من قميصين.
الإكثار من الغالية يسبب العمى
قال: وحدثني شيوخنا:

أن محمد بن سليمان بن علي الهاشمي، كان في ضيعته التي يقال لها: المحدثة، خارج البصرة، جالساً في مجلس على بستان، وفي بعض زوايا البستان، إجانة صيني كبيرة، مملوءة غالية.
فدخل إليه قوم من العامة، في حاجة لهم، وكان أحدهم، خسيس الحال، فلما رأى الغالية، سرق منها شيئاً كثيراً، اغترفه ملء كفه، فوضعه على رأسه وأطبق عمامته عليه، وأطال القوم الجلوس، وهو معهم، فلما قاموا، قام معهم، فلم يبصر، فقال: خذوا بيدي فقد عميت.
فاغتم محمد بن سليمان، لذلك، وجاء بطبيب في الحال، وقال: ما دهاك! فلم يصدقه.
فأمر الطبيب بكشف رأسه، فرأى الغالية، فصب عليها الماء البارد، حتى لم يبق لها أثر، ثم طلاه بالصندل والماورد، والكافور، وأقامه في الهواء ساعة، فعاد بصره إلى حال الصحة، وانصرف.

مثل من الأمانة
وحدثني، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن إسحاق بن عباد النجار، وهو شيخ من وجوه التمارين بالبصرة، طال عمره، وحدث، وكتبت عنه، ولم أسمع هذه الحكاية منه، قال: كان في جوارنا فلان، فتصدق ليلة على ضرير اجتاز به، وهو لا يعرفه، فأراد أن يفتح إحدى صرتين في كمه، في إحداهما دنانير، وفي الأخرى دراهم، فيعطيه درهماً، فأعطاه ديناراً.
وانصرف الضرير، وهو لا يشك أن معه درهماً.
فبكر به إلى بقال يعامله، فقال: خذ هذا الدرهم، واحسب ما لك علي، وأعطني بالباقي كذا وكذا.
فقال له البقال: يا هذا، من أين لك هذا؟ قال: أعطانيه البارحة فلان.
قال: إنه دينار، فخذه.
فأخذه الضرير، وجاء به من الغد إلى الرجل، وقال: إنك تصدقت علي بهذا، وأظنك أردت أن تعطيني درهماً، وغلطت، وما أستحل أخذه مغالطة، فخذه.
فقال له الرجل: قد وهبته لك، وإذا كان في رأس كل شهر، فتعال إلي، أعطيك شيئاً آخر، مجازاة لأمانتك.
وكان يجيئه في رأس كل شهر، فيعطيه خمسة دراهم.
قال: فلم أر أعجب من أمانة البقال والضرير، ولو كان في هذا الوقت، لجرى الأمر بضد ذلك.
لا يعرض القرآن للمسألة
قال: وقال لي ابن عباد: وكان يقرأ بالسبعة، فكنت أسمعه طول الليل يقرأ، وكان فقيراً، فإذا كان النهار، خرج يتصدق، فأسمعه ينشد على الطريق، الرقائق والزهديات، لا أسمعه يتصدق بغيرها.
فقلت له يوماً: يا فلان، أنت تحفظ القرآن، وأراك تتصدق بالرقائق، فكيف لا تقرأ وتتصدق كما يفعل الأضراء؟ فقال: والله لا أعرض القرآن للمسألة أبداً.
السورجي وزوجته
حدثني أبو محمد، قال: حدثني السورجي، شيخ كان يجاورنا، مستور، قال: كانت لي امرأة صالحة، فكنت إذا اشتريت لحماً لتطبخه لنا، طبخته، وغرفته جميعه، وجاءتني به، وكنت أكولاً، فكنت آكله جميعه، وتجوع هي، وأولادها.
فقلت لها: يا هذه، إذا طبخت شيئاً، فاقسميه قسمين، وجيئيني بأحدهما، ودعي الآخر، لنفسك، وأولادك.
فقالت: لا والله، لا أفعل هذا، بل أقدمه إليك كله، لتأكل أجوده، فإنك أنت تسأل عنه.
يتمنى أن يمرض ليعوده حبيبه
أنشدني أبو الحسن بن أبي الليث، لنفسه:
عصيت الهوى وأطعت العذول ... وكنت كما قال في الحسود
وملكت رقك وهو المنى ... وبعتك للدين فيمن يزيد
لئن لم أكن أتمنى السقام ... لعلي ألقاك فيمن يعود
المعتضد يكتب رقعة في رفع ظلامة
حدثني محمد بن أحمد بن عثمان الزيات، قال: حدثني أبو بكر بن حورى - شيخ كان من أهل فامية، من أعمال النهروان، قد أقام ببغداد سنين، وكان مشهوراً بصحبة ابن أبي عوف - قال: كنت ألزم ابن أبي عوف، سنين، لجوار بيننا ومودة، لا أسأله حاجة، لأنها لم تكن تعرض لي، وكنت أتخفف بين يديه في حوائج ينفذني فيها، وكان رسمي في كل ليلة، أجيئه بعد العتمة، وقد صلى ودخل منزله، فحين يراني، يمد رجله في حجري، فأغمزها، وأحادثه، فيسألني عن الأخبار والحوادث ببغداد، وكنت أسأل عنها، وأتطلبها من كل موضع، وأجيئه بها، وأخبره بخبر من قدم البلد، ومن سافر عنه، ومن مات، ومن ولد، ومن خاصم، ومن ورث، ومن يرجف به الناس، وأخبار الجيران، وبكل غث وسمين، إلى أن ينعس، فإذا نعس، قبض رجله، فقمت إلي بيتي، وقد مضى ثلث الليل، أو بعضه، أو أقل.
وجرى الأمر على هذا سنين.
فلما كان ذات يوم، جاءني سقطي كان يعاملني، فقال: قد دفعت إلى شيء إن تم علي، افتقرت.

فقلت: ما هو؟ فقال: رجل كنت أعامله، فاجتمع لي عليه ألف دينار، فطالبته، فرهنني عقد جوهر، قوم بألف دينار، إلى أن يفتكه بعد شهور، أو أبيعه، وأذن لي في ذلك.
فلما كان أمس، وجه مؤنس الفحل، صاحب الشرطة، من كبس دكاني، وفتح صندوقي، وأخذ العقد، وقد استتر الرجل.
فقلت له: لا تفكر في هذا، فإني أخاطب أبا عبد الله بن أبي عوف، فيلزمه رده صاغراً.
قال: وأنا مدل بابن أبي عوف، لمكاني منه، ومكنته من المعتضد.
فلما كان تلك الليلة، جئته، فمد رجله في حجري، على الرسم وحادثته، وعرفته الأخبار، وقلت له في جملتها، أمر السقطي مع مؤنس.
ثم قلت: هذا الرجل جاري، ومعاملي، وأوجب الناس حقاً علي، ولا بد - والله - من تفضلك يا سيدي، واعتنائك في أمره، وإلزام مؤنس، رد العقد. قال: فحين سمع هذا نحى رجله من حجري وقال: ما أنا وهذا؟ أعادي صاحب شرطة الخليفة؟ وكيف استجزت أن تعرضني لمثل هذا، وتسألني فيه؟ كأني بك، وقد قلت: ابن أبي عوف صديقي ألزمه رد هذا، ولم تشفق على جاهي، وكأن صلاح حال السقطي، أحب إليك من صيانة جاهي، ما أنا، عافاك الله، وهذا؟ ولا أليه.
قال: فورد علي من هذا، أعظم مورد، وقلت في نفسي: هذا رجل قد خدمته، كذا وكذا سنة، هذه الخدمة، التي لم تخدمها العبيد، على أني ما سألته ط حاجة، ولا احتجت إليه في شيء، ولا له علي رزق، ولا أفضال، يلقاني في حاجة قد سألته فيها، بمثل هذا؟ شهد الله، لا دخلت له داراً بعدها أبداً.
وأمسكت وجلست لا أتكلم، ثم قمت قبل الوقت الذي كنت أقوم فيه، وعدت إلى منزلي منكسراً مغموماً.
فلما كان من الغد، بكرت، لئلا يجيئني الرجل، بسبب حاجته، فأفتضح عنده، ولم أدخل بيتي إلى وقت المغرب، ثم جئت، فصليت، وطرحت، واعتقدت أنني لا أمضي إليه.
فلما صليت العتمة، جاءني خادم لابن أبي عوف، فقال: الشيخ يقرأ عليك السلام، ويقول: لم تأخرت الليلة؟ إن كنت معافى، فتعال، وإن كنت متشكياً جئناك.
فاستحييت، وقلت: أمضي الليلة، ثم أنقطع.
فحين دخلت إليه، ورآني، مد رجله في حجري، فأخذتها، وغمزتها على الرسم.
فقال: أيش عندك من الأخبار؟ فأقبلت أحدثه، بحديث غث، متكلف، متصنع، فلم يزل يصبر على ذلك ساعة، ثم قبض رجله، فقمت.
فقال: يا أبا بكر، انظر أيش تحت المصلى.
وإذا برقعة في قرطاس، فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة، وإذا فيها: " يا مؤنس، جسرت على قصد دكان رجل تاجر، يعرف بفلان، وفتحت صندوقه، وأخذت منه عقد جوهر قيمته ألف دينار، وأنا في الدنيا؟ والله، لولا أنها أول غلطة غلطتها، ما جرى في ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى دكان الرجل، حتى ترد العقد في الصندوق، بيدك ظاهراً " .
فقلت لأبي عبد الله: أيش هذا يا سيدي؟ فقال: خط المعتضد إلى مؤنس، بما أردته، مثلت بين وجدك وعتبك، مع بقاء الحال مع مؤنس كما هي، وبين رضاك وقضاء حقك، وإيحاش مؤنس، فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين، بما تراه، فامض، وأوصله إليه، فإنه يفعل ما أمره به.
فقبلت رأسه، وشكرته، وانصرفت، وأنا من الفرح لا أعقل، وجئت إلى الرجل، وأخذت بيده، ومضينا إلى مؤنس، وسلمت التوقيع إليه، فحين قرأه اسود وجهه، وارتعد حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا، الله بيني وبينك، هذا شيء ما علمت به، وتموه علي، فألا تظلمتم إلي، فإن لم أنصفكم، فإلى الوزير، ما هذا؟ بلغتم الأمر إلى أمير المؤمنين، من أول وهلة؟ قال: وانتشطت، فقلت: بعلمك جرى، والعقد معك.
قال: فأحضر العقد، وقال: خذوا الألف دينار، التي عليه الساعة، واكتبوا على الرجل، بطلان ما ادعاه.
فقلت: لا نفعل.
فقال: خذوا ألفاً وخمسمائة دينار.
فقلت: والله، لو أعطيتنا ألف ألف دينار، ما رضينا، أو تركب بنفسك إلى الدكان، والعقد معك، فترده إلى الصندوق، ولا نكذب أنفسنا، أو ترد التوقيع، فقال: أسرجوا لي.
قال: فركب، والله، في موكبه، حتى وقف على دكان الرجل، ورد العقد بيده إلى الصندوق.
فجاءنا صاحبه، في ذلك اليوم، ودفع الألف دينار، وارتجعه.

ابن أبي دؤاد وكرمه وعلو همته

حدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو أحمد بن أبي الحسك الشاهد، قال: حدثني بمصر، أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، القاضي، وهو قاضيها يومئذ، قال: حدثني شيخ كان في جوارنا ببغداد، بدرب الرواسين، من باب الشام، قال: كان أبو عبد الله بن أبي دؤاد، ينزل بباب الشام، وهو صغير الحال، فكنا نعرف أحواله.
فباع يوماً منديلاً كان له، بسبعة دراهم، لتعذر القوت عليه.
قال: فاجتاز في طريقه، وهو عطشان، فرأى شارباً، فعدل إلى الموضع، ودعاه، واستسقاه، فكسر الشارب شفة كوز كان معه، وملأه ودفعه إليه.
فقال له ابن أبي دؤاد: لم فعلت ذلك؟ فقال: قد شرب في هذا الموضع قبلك من لم أرض لك، أن تجعل شفتك في موضع شفته، فكسرت الموضع من الكوز لتشرب من موضع، ما وقعت عليه شفة غير شفتك.
قال: فشرب الماء ثم دفع إليه السبعة دراهم، التي لم يكن يملك غيرها.

دعوة الأم لأولادها مستجابة
حدثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: كانت أمي قد رأت ليلة القدر، فدعت الله بدعاء كثير، فلما كان من الغد، قال لها أبي: هل دعوت الله لي؟ فقالت: شغلني الدعاء لأولادك، عن الدعاء لك.
قال: فكنا نرى أن ما أفاء الله تعالى علينا من نعمة، بعد ذلك، إنما كان بدعائها.
أبو الهيجاء بن حمدان ومتانة أعصابه
حدثني أبو الفضل الشيرازي الكاتب محمد بن عبد الله بن المرزبان، قال: حدثني شيخ من شيوخ النخاسين الجلة ببغداد، قال: كنت أعامل أبا الهيجاء، عبد الله بن حمدان، في الرقيق، فكان يشتري مني، ولا يبيع شيئاً يشتريه بوجه، إما أن يهبه، أو يعتقه.
فجاءني يوماً، إلى حجرتي، ولم تكن عادته جرت بذلك، فوجدته، وهو مستعجل، يريد الخروج إلى القصر، لقتال أعراب بلغه أنهم عاثوا في الطريق، وكان يليه، فقال: بعني الساعة جارية.
فعرضت عليه عدة جوار، فاختار مولدة منهن، وحملها في عماريته، على بغل.
فلما كان بعد شهور أقل من ستة، جاءني بها رجل من الجند، يريد بيعها.
فقلت لها: أليس كان الأمير أبو الهيجاء، اشتراك مني؟ فقالت: بلى، ولكنه وهبني لهذا.
قال: فلم أبعها حتى كاتبته، وعرفته خبرها، لئلا تكون قد هربت، أو وقع بها حيلة.
فلما أعلمني أنه وهبها، شرعت في بيعها في الحال، فتعذر، وأقامت عندي أياماً.
فسألتها عن أخبار أبي الهيجاء، وأمره في داره، فأخبرتني بأشياء من ذلك. فكان من طريف ما أخبرتني به، أن قالت: أخرجني من عندك في العمارية، وسرنا يومنا وليلتنا، إلى قريب من انتصاف الليل، فكدني السير وأتلفني، ثم حط العمارية في الصحراء، ثم ضربت له خيم، ولأصحابه، فصرنا في عسكر، وأشعلت النيران، ونصب له سرير مخلع في خيمة له، واستدعاني، فجئت وهو على فراشه، فلاعبني، ثم نزع سراويله، وجلس مني مجلس الرجل من المرأة، فوقعت صيحة عظيمة، فنهض عني، ولم يكن أولج، وضرب بيده إلى تحت الفراش، وإذا سيف مجرد، فأخذه، وخرج بلا سراويل، وصاح أنا أبو الهيجاء، وسألهم عن سبب الصيحة، فقالوا: سبع أطاف بالخيم.
فخرج يعدو، ومعه خلق من غلمانه وأصحابه، وأهاجوا السبع، وطلبوه، وناصبوه الحرب، وناصبهم، وأنا أسمع الصياح، وزأرات الأسد، وقد تلفت فزعاً، ثم يأتيه هو، من بين الجماعة، فقتله، فحمل رأسه، وجاءني وهو في يده، فلما رأيته صحت، فرمى بالرأس، وغسل يده.
ثم جاءني، فطرحني، وإذا أيره قائم، كما كان في وقت نهوضه، ما تغير، ثم جامعني، ثم نهضت.
فما رأيت قلباً أثبت من قلبه، ولا أيراً أقوى من أيره.
هجاه بالشعر فأجابه بأخذ الشعير
حدثني عبد الله بن أحمد بن داسه، قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان، قال: كان بإسكاف، شاعر له ضويعة، فهجا عاملها، وبلغه ذلك، فأمسك عنه، فلما كان وقت الغلة، ركب العامل إلى البيدر، وقسمه، وحمل غلة الشاعر أصلاً.
فجاء الشاعر إليه يشكو، ويداريه.
فقال: يا هذا ليست بيننا معاملة، أنت هجوتنا بالشعر، ونحن هجوناك بالشعير، وقد استوت الحال بيننا وبينك.
خلف النار الرماد
حدثني محمد بن عدي بن حر، وجماعة من البصريين، قالوا: لما نشأ لأبي الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه، مع فضله، ورجلته، ومحله المشهور من الدهاء والفضل، والعلم والعقل، ابنه الباقي الآن، وأخبر أبو الحسين بتأخره، غمه ذلك.

قال: وكان أبو الحسين، يوماً جالساً، إذ جاء ابنه هذا يسعى إليه، كأنه في مهم، ثم نتف طاقة شعر كانت على أذن أبي الحسين، وسعى، فآلمه ذلك، وغمه بلوغ تخلف الصبي، إلى هذا الحد، ورثينا لما جرى.
قال لنا: خلف النار الرماد

كما تدين تدان
وحدثني الحسين بن محمد الجبائي، قال: لما سعى أبو طاهر الحسين بن الحسن، عامل البصرة، على أبي الحسين بن نصرويه، حتى نكب النكبة الثانية، التي ألزمه فيها العباس بن الحسين، ما ألزمه من المال، راسل أبا طاهر، فقال له: اعلم أن الصياد الفاره، لا يذبح شباشه، وأنا كنت لك في هذا البلد، مع التجار والناس، مثل شباش الصياد، فبي إنما ظن الناس أنك عادل، وكنت تأخذ من تريد من الأوساط والأصاغر، ولا ينكشف أمرك، وقد صرت بما عاملتني، مثل الصياد الذي ذبح شباشه، فليس عزمه بعدها أن يصطاد، وستعلم أنك لا تنتفع بنفسك، ولا بالبلد بعدي.
ثم عدل إلى السعاية عليه مع أبي الفضل العباس بن الحسين الوزير، فما خرج من البصرة حتى قبض عليه، ونكبه، وقلد البصرة، أبا القاسم علي بن الحسين بن إبراهيم، ابن أخت أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وألزم مالاً ثقيلاً لم ينهض به، وتلف أبو طاهر في المطالبة، والضرب، ومات في الحبس، وانسحق هو وأهله، إلى آخر دهرهم، وكل ذلك بتدبير أبي الحسين، وترتيبه المكاره عليهم.
الصوفي المتوكل وجام فالوذج حار
حدثني محمد بن هلال بن عبد الله، قال: حدثنا القاضي أحمد بن سيار، قال: حدثني رجل من الصوفية، قال: كنت أصحب شيخاً من الصوفية، أنا وجماعة في سفر، فحدثني حديث التوكل، والأرزاق، وضعف النفس فيهما، وقوتهما.
فقال ذلك الشيخ: علي وعلي، لا ذقت مأكولاً، أو يبعث إلي بجامة فالوذج حار، ولا آكل إلا بعد أن يحلف علي.
قال: وكنا نمشي في الصحراء.
فقالت له الجماعة: الآخر جاهل.
ومشى ومشينا، وانتهينا إلى قرية، ومضى عليه يومان، وليلتان، لم يطعم فيهن شيئاً.
ففارقته الجماعة، غيري، فإنه طرح نفسه في مسجد القرية، مستسلماً للموت ضعفاً، فأقمت عليه.
فلما كان في ليلة اليوم الرابع، وقد انتصف الليل، وكاد أن يتلف الشيخ، فإذا بباب المسجد قد فتح، وإذا جارية سوداء، ومعها طبق مغطى.
فلما رأتنا، قالت: أنتم غرباء، أو من أهل القرية؟ فقلنا: غرباء.
فكشفت الطبق، فإذا بجام فالوذج، يفور لحرارته.
فقالت: كلوا، فقلت له: كل، فقال: لا أفعل.
فقلت له: والله لتأكلن، لأبر قسمه، فقال: لا أفعل.
قال: فشالت الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله، لئن لم تأكل لأصفعنك هكذا، إلى أن تأكل.
قال: فقال: كل معي.
فأكلنا، حتى نظفنا الجام، وجاءت الجارية تمضي.
فقلنا لها: مكانك، أخبرينا بخبرك، وخبر هذا الجام.
فقالت: نعم، أنا جارية رجل هو رئيس هذه القرية، وهو رجل أحمق حديد، فطلب منا منذ ساعة، فالوذجاً، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن تخرج الحوائج من البيت، وتشعل النار، ويعقد الفالوذج، تأخر عنه.
فطلبه، فقلنا: نعم، وطلبه ثانياً، ولم نكن فرغنا منه، وطلبه الثالثة، فحرد وحلف بالطلاق، لا يأكله، ولا أحد من داره، ولا أحد من أهل القرية، ولا يأكله إلا رجل غريب.
فجعلناه في الجام، وخرجنا نطلب في المساجد رجلاً غريباً، فلم نجد، إلى أن انتهينا إلى هذا المسجد، فوجدناكما، ولو لم يأكله هذا الشيخ، لقتلته ضرباً، إلى أن يأكل، لئلا تطلق ستي من زوجها.
قال: فقال الشيخ: كيف ترى، إذا أراد أن يرزق؟
سائل بالأبلة، وسائل بالصين
وحدثني، قال: حدثني القاضي أحمد بن سيار، قال: حدثني شيخ من التجار بعمان، قال: كنت بالأبلة، أريد الخروج إلى البحر، فرأيت سائلاً بباب الجامع، فصيح اللسان، مليح المسألة، فرققت له، وأعطيته دراهم صالحة.
وخطفت في الوقت إلى عمان، فأقمت بها شهوراً، ثم قضي لي أن مضيت إلى الصين، فدخلتها سالماً، فإذ أنا يوماً أطوف، فإذا الرجل بعينه قائماً في السوق يتصدق.
فتأملته، فعرفته، فقلت له: ويحك، سائلاً بالأبلة، وسائلاً بالصين.
فقال: قد دخلت إلى هذا البلد، ثلاث دفعات، وهذه الرابعة، لطلب المعيشة، فلا أجدها إلا من الكدية، فأرجع إلى الأبلة، ثم ارجع إلى ها هنا.
قال: فعجبت من شدة حرمانه.
تاجر يتمدح بتجسسه على رسائل التجار

وحدثني، قال: حدثني قاضي القضاة أبو محمد بن معروف، رضي الله عنه، قال: حدثني بعض أهل بغداد، عن أبي عبد الله بن أبي عوف، إنه قال: ضاق صدري، في وقت من الأوقات، ضيقاً شديداً، لا أعرف سببه، فتقدمت إلى من حمل لي طعاماً كثيراً، وفاكهة، وعدة من جواري، إلى بستان لي على نهر عيسى، وأمرت غلماني، وأصحابي، أن لا يجيئني أحد منهم بخبر يشغل قلبي، ولو ذهب مالي كله، ولا يكاتبوني، وعملت على أن أقيم في البستان بقية أسبوعي، أتفرج مع أولئك الجواري.
قال: وركبت حماري، وقد تقدمني كلما أمرت بحمله.
فلما قربت من البستان، استقبلني فيج، معه كتب.
فقلت له: من أين وردت؟ فقال: من الرقة.
فتتبعت نفسي، أن أقف على كتبه، وأخبار الرقة، وأسعارها.
فقلت له: تعرفني؟ فقال: نعم.
فقلت: أنت قريب من بستان لي، فتعال معي، حتى أهب لك دنانير، وأغير حالك، وأطعمك، وتستريح الليلة في البستان، وتدخل بغداد غداً.
فقال: نعم.
ومشى معي راجعاً، حتى دخل البستان، فأمرت من فيه، أن يدخله حماماً فيه، ويغير ثيابه ببعض ثيابي غلماني، ويطعمه.
فابتدوا معه في ذلك.
وتقدمت إلى غلام لي فاره، فسرق كتبه، وجاءني بها، ففتحتها، وقرأت جميع ما فيها، وعرفت من أسرار التجار الذين يعاملوني شيئاً كثيراً، وتفرجت بذلك.
ووجدت جميع الكتب، محشوة إلى التجار، بأن يتمسكوا بما في أيديهم من الزيت، ولا يبيعوا منه شيئاً، فإنه قد غلا عندهم وعز، ويوصونهم بحفظ ما في أيديهم.
فأنفذت إلى وكلائي في الحال، فاستدعيتهم، فجاءوا، فقلت لهم: خذوا من فلان الناقد، وفلان الناقد، كل ما عندهم من العين والورق الساعة، ولا ينقضي اليوم إلا وتبتاعون كلما تقدرون عليه من الزيت، واكتبوا إلي، عند انقضاء النهار، بالصورة.
فمضوا، فلما كان العشاء، جاءني خبرهم، بأنهم قد ابتاعوا زيتاً، بثلاثة آلاف دينار، فكتبت إليهم بقبض ألوف دنانير أخر، وبشرى كل ما يقدرون عليه من الزيت.
وأصبحنا، فدفعت إلى الفيج ثلاثة دنانير، وقلت له: إن أقمت عندي، دفعت إليك ثلاثة دنانير أخرى.
فقال: أفعل.
وجاءتني رقعة أصحابي، بأنهم ابتاعوا زيتاً بأربعة آلاف دينار، وأنه قد تحرك سعره لطلبهم إياه، فكتبت بأن يبتاعوا كل ما يقدرون عليه، وإن كان قد زاد.
وشاغلت الرسول، اليوم الثالث، ودفعت إليه في اليومين، ستة دنانير، وأقام ثلاثة أيام، وابتاع أصحابي بثلاثة آلاف دينار أخرى.
وجاءوني عشياً، فقلوا: كان ما ابتعناه اليوم زائداً على ما قبله، في كل عشرة، نصف درهم، ولم يبق في السوق شيء يفكر فيه.
فصرفت الرسول، وأقمت في بستاني أياماً، ثم عدت إلى داري، وقد قرأ التجار الكتب، وعرفوا خبر الزيت بالرقة، فجاءوني يهرعون، ويبذلون في الزيت، زيادة اثنين في العشرة، فلم أبع، فبذلوا زيادة ثلاثة في العشرة، فلم أبع.
ومضى على ذلك، نحو من شهر، فجاءوني يطلبون زيادة خمسة، وستة، فلم أفعل.
فجاءوا بعد أيام، فبذلوا للواحد الواحد.
فقلت في نفسي: ترك هذا خطأ، فبعته بعشرين ألف دينار.
فنظرت، فلم يكن لضيق صدري، وانفرادي في البستان، ذلك اليوم سبب، إلا ما أحبه الله تعالى، أن يوصل إلي ربح عشرة آلاف دينار.

صائغ يتمدح بأنه اؤتمن فخان
وحدثني، قال: حدثني صائغ كان يخدم في خزانة الأمير معز الدولة، يعرف بطاهر، قال: كنت أشرب يوماً في منزلي، وعندي جماعة من إخواني، فانقطع بنا النبيذ، فخرجت أحتال لهم شيئاً من ذلك، فلقيني ركابي، فقال: الأمير يطلبك.
فقلت: قل إنك لم ترني.
قال: لا أفعل.
فقلت: خذ مني ديناراً، وقل إنك لم تجدني.
قال: وأنا معه، إذ جاء ركابي آخر، فبذلت لهما دينارين، فأبيا، وجاء الثالث، فمضيت، وحملت معي غلاماً كان لي.
فحين دخلت إلى الأمير، قال لي: امض، فانظر ما يقول لك علي المغني، في الخزانة، فافعله.
فجئت إلى الخزانة، فقلت لعلي: أيش تريد؟ فأخرج إلي، مناطق كثيرة ذهباً، موكدة بلا سيوف، مما أخذه معز الدولة، من تركة أخته، وكانت الأخت، تشدها في أوساط الجواري، وتلبسهن القراطق والخفاتين، وتلك المناطق فوقها، ويخدمنها كذلك، فلما حصلت لمعز الدولة، لم يستحسنها، فأمر بكسرها، وصياغتها مراكب، وسيوفاً، ومناطق أعجمية.
فقال لي: اجلس واقلعها، حتى ننظر كم يجتمع منها، ويصاغ.

فقلت: ليس معي آلتي التي تستعمل.
فقال: أنفذ من يحضرها.
فأنفذت غلامي، فأحضر بعض الآلة، فما زلت أقلع، وأغتفل المغني، وأسرق، وأجعل ذلك في كمي، وتحت عمامتي، وأرمي إلى غلامي، فإذا حصل معه شيء، قلت له: هات المبرد، هذا قد كل، فامض، وجئني بغيره، أو هات الآلة الفلانية، فيمضي، ويحصل ما قد سرقناه، ويجيء بالآلة، وأسرق، وأعطيه، وأطلب آلة أخرى، على هذا، إلى أن جاء المساء، فجمع علي المغني، تلك المناطق، وأخذ الوعد علي، في الحضور في غد، ومعي الصناع، وشريكي المرسوم معي بالخدمة في الخزانة، فانصرفت، فوزنت ما قد حصل عندي، وكان أربعمائة وثمانين مثقالاً.
فقلت لعيالي: هذا، حملت إليه كرهاً، حتى أخذته، بعد أن بذلت، أن أعطي دينارين جعلاً، ولا أمضي، وحدثتهم القصة.
فلما كان من الغد، حضر الصناع، وشريكي، وجلسنا نفكك الباقي، وأحضرنا شيئاً آخر، فما استوى لنا أن نسرق إلا مائة وستين مثقالاً، قاسمته عليها، وعجبت من رزقي في ذلك.

من مكارم أخلاق الأمير الموفق
حدثني أبو الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون، الحراني، الصابىء، الطبيب، قال: حدثني أبي، قال: كنت، بين يدي الموفق، يوماً، فقال لي: يا إبراهيم، أنا أشتهي شهوة منذ سنين، وهو ذا، أستقبح أن أطلبها، وقد عن لي الساعة مواضعتك على طلبها.
قال: فقلت: يأمر الأمير.
قال: ويحك، أنا والله، منذ سنين كثيرة، أشتهي كبود الدجاج، وقوانصها مطبهجة، وأستقبح أن أطلبها، فيظن صاحب المائدة، أن نفسي قد تتبعته، شحاً به عليهم، لأن رسمهم جار، بأن يرتفقوا بأخذه وبيعه، وأريد إذا قدمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تتشهى ذلك علي، وتشير به من طريق الطب، لأتقدم إليهم باتخاذ شيء منه يسير، فيصير ذلك القدر رسماً في كل يوم، لا يؤثر عليهم قدره، ويبيعون هم الباقي، فإنه كثير، وأكون قد قضيت شهوتي.
قال: فعجبت من كرمه، وفرط حيائه من خدمه، حتى يلفق الحيلة في الوصول إلى شهوته، من غير إيحاشهم، أو تعرض لذمهم.
وقدمت المائدة، فجلس يأكل عليها وحده، وجلست مع الندماء، آكل، على مائدة بين يديه.
فلما أكل بعض أكله، قلت: لم لا يأمر الأمير الناصر، بأن يتخذ له شيء يسير في زبديات، من كبود الدجاج المسمن، وقوانصه، بالبيض، والمري، فيطجن بعضه، فيولع منه بالشيء اليسير، فإن في ذلك كذا وكذا، وأخذت أصف ما حضرني في الوقت، ونحن أيضاً نشتهي أن نأكل منه.
فقال: يصلح لنا من غد، كذا وكذا زبدية، مطجن، وكذا وكذا زبدية، من كبود الدجاج المسمنة، وقوانصها.
فأصلحوا ذلك، وصار رسماً جارياً، ولم يفطن أحد منهم لما جرى.
بحث في الأمانة
حدثني عبيد الله بن أحمد بن بكير، قال: حدثني أبو جعفر الضبي، الفقيه الحنفي، وقد شاهدته أنا، وكان من شيوخ التجار المستورين، فقيهاً، يحضر مجلس أبي للخلاف، ويناظر، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: حدثني شيخ من التجار، بسيراف، قال: كان عندنا نفسان، يمشيان في طريق، فرأيا صرة دراهم ملقاة في الطريق، فقال أحدهما للآخر: خذها واحفظها لصاحبها.
فقال الرجل: لا أفعل.
فقال: لكني آخذها، وأحفظها، فإن وجدت صاحبها، رددتها عليه.
قال: فأخذها ومشى. فإذا برجل يصيح.
فقالا له: ما لك؟ فقال: صرة صفتها كذا وكذا، فيها دراهم لي، سقطت مني الساعة.
فقال الذي هي معه: خذها، فإنها هذه.
فسلمها إليه، ثم قال لصاحبه: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبك، في أن لا يحفظوا على الناس، لضاعت أموالهم.
فقال له الآخر: أليس لو كان الناس كلهم على مذهبي، ما ضاعت الصرة، ولكانت تبقى في الطريق مكانها، حتى يرجع صاحبها، فيأخذها.
الخوارج يقطعون السارق من المرفق
حدثني أبو الحسين علي بن لطيف، المتكلم على مذهب أبي هاشم، قال: كنت مجتازاً بناحية قزدار، مما يلي سجستان ومكران، وقد كان يسكنها الخليفة من الخوارج، وهي بلدهم ودارهم، فانتهيت إلى قرية لهم، وأنا عليل، فرأيت قراح بطيخ، فابتعت واحدة، فأكلتها، فحممت في الحال، ونمت يومي وبقية ليلتي، في قراح البطيخ، ما عرض لي أحد بشيء.
وكنت قبل ذلك، قد دخلت القرية، فرأيت شيخاً خياطاً في مسجد، فسلمت إليه رزمة ثيابي، وقلت له: تحفظها لي.
فقال: دعها في المحراب.

فتركتها، ومضيت إلى القراح، فلما أفقت من الغد، عدت إلى المسجد، فوجدته مفتوحاً، ولم أر الخياط، ووجدت الرزمة بشدها في المحراب.
فقلت: ما أجهل هذا الخياط، ترك ثيابي وحدها، وخرج، ولم أشك في أنه قد حملها بالليل إلى بيته، وردها في الغد إلى المسجد، انتظاراً لي.
فجلست أفتحها، وأخرج شيئاً شيئاً، فإذا بالخياط.
فقلت له: كيف خليت ثيابي؟ فقال: أفقدت منها شيئاً؟ قلت: لا.
فقال: ما سؤالك؟ قلت: أحببت أن أعلم.
قال: تركتها البارحة في موضعها، ومضيت إلى بيتي.
فأقبلت أخاصمه، وهو يضحك.
وقال: أنتم قد تعودتم أخلاق الأرذال، ونشأتم في بلاد الكفر، التي فيها السرق والخيانة، وهذا لا نعرفه ها هنا، لو بقيت ثيابك مكانها، إلى أن تبلى، ما أخذها أحد غيرك، ولو مضيت إلى المشرق والمغرب، ثم عدت لوجدتها مكانها، فإنا نحن، لا نعرف لصاً، ولا فساداً، ولا شيئاً مما عندكم، ولكن، ربما لحقنا في السنين الطويلة، شيء من هذا، فنعلم أنه من جهة غريب قد اجتاز بنا، فنركب وراءه، ولا يفوتنا، فندركه، فنقتله، إما نتأول عليه بكفره، وسعيه في الأرض بالفساد، أو نقطعه كما يقطع السراق عندنا من المرافق، فلا نرى شيئاً من هذا.
قال: وسألت عن سيرة أهل البلد، بعد ذلك، فإذا الأمر كما ذكره، وإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل، وليس لأكثرهم أبواب، إنما هي شرائج ترد الكلاب والوحوش.

الأمير معز الدولة يطوف في قصور دار الخلافة
حدثني أبو الحسن، علي بن أحمد الحاجب، المعروف بابن الخراساني، وكان يحجب معز الدولة، قال: كنت مع معز الدولة يوماً في دار الخلافة، بحضرة المطيع لله، فلما انفض الموكب، قال لي: قل له: إني أريد أن أطوف في الدار، فأراها وأشاهد بساتينها، وصحونها، فيأمر من يطيفني فيها.
قال: فقلت ذلك للخليفة، بالعربية.
فأمر الخليفة، شاهك خادمه، وابن أبي عمرو حاجبه، أن يطيفاه فيها، فلما مشيا بين يديه، وأنا وراءهما أمشي، وبعدنا عن حضرة الخليفة، وقفا، فقالا: أيها الأمير إنه لا يصلح أن تطوف الدار، إلا ومعك نفسان، أو ثلاثة، أو نحو هذا، فاختر لنفسك من تريد، ورد أصحابك.
قال: فأخذ الصيمري كاتبه، معه، ونحو عشرة غلمان، من حجابه، وغلمانه، وترك باقي غلمانه، وجيشه، في صحن السلام.
فتوقفت أشد منطقتي، فسبقني، ودخل مع ساهك، وابن أبي عمرو، ولم ينتظروني، وأسرع في مشيه.
فشددت منطقتي ولحقته، وجذبت ثيابه من ورائه، فالتفت، فقلت بالفارسية: في أي موضع أنت؟ ما لك تعدو على وجهك؟ وليس تعلم أنك في دار قد قتلت ألف أمير ووزير، أيش كان غرضك في طوف هذه الدار وحدك؟ ما كان يؤمنك، لو وقف لنا عشرة من الخدم، أو عشرون نفساً، في هذا الممر الضيق، فتقتل.
قال: فكنت أكلمه بالفارسية، وأصحاب الخليفة لا يفهمون.
فقال له الصيمري، بالفارسية: قد صدقك.
فقال لنا: إن أنا رجعت الساعة، علموا أني قد فزعت، فضعفت هيبتي في نفوسهم، ونظروا إلي بعين جبان، ولكن التفوا حولي، فإن مائة من هؤلاء، لا يقاومونا، ولا صاحبهم يجسر أيضاً، على الحيلة علي.
وتسرع في مشيته، حتى أننا لم نثبت ما شاهدناه، حق تثبيته.
حتى انتهينا إلى دار فيها صنم من صفر، على صورة امرأة، وبين يديها أصنام صغار، على صور الوصائف، فما رأينا شيئاً قط، أحسن من ذلك، وخاصة المرأة.
قال: فتحير معز الدولة، وسأل عن ذلك، وقالوا: هذا صنم يقال له: شغل، حمل إلى المقتدر من بلد من بلدان الهند، وكان يعبده أهل ذلك البلد، ففتحه صاحب عمان، وملكه، وحمل الصنم.
فقال معز الدولة: قد والله عشقت هذا الصنم، لحسنه، ولو كان جارية، مع زهدي في الجواري، لاشتريتها بمائة ألف دينار، وأريد أطلبه من الخليفة، ليكون قريباً مني، فأراه في كل وقت.
فقال له الصيمري: لا تفعل، فإنك تنسب في ذلك، إلى أخلاق الصبيان.
قال: وأسرعنا الطوف، والخروج، فما عقلنا، ولا رجعت نفوسنا إلينا، حتى صار مع معسكره، وغلمانه.
فلما نزل إلى طياره، التفت إلى الصيمري، وقال: يا أبا جعفر، قد زادت محبتي للخليفة، لأنه لو كان يضمر لي سوءاً، وكان فيه شر، لكان قد قتلني اليوم بأسهل حيلة.
فقال له الصيمري: الأمر كذلك، فاحمد الله.

قال: فلما رجع إلى داره، أمر أن يحمل إلى نقيب الطالبيين عشرة آلاف درهم، ليفرقها فيهم، شكراً لله عز وجل، على سلامته.
ففرقت، ولم يعرفوا سبب ذلك.

أجر الطبيب عن سقي دهن الخروع
حدثني أبو محمد عبد الله بن داسه، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: حدثنا أبي، قال: كان في بني منقر، بالبصرة، طبيب يختلف إلى عيسى بن أبان القاضي، أيام مقامه بالبصرة، يسقيه في كل سنة، دهن الخروع، أياماً متوالية من كل سنة، فإذا فرغ، وقع له وكيله بمائتي درهم.
قال: فغلط سنة من السنين، فوقع له بمائتي دينار.
فلما عرض الطبيب الرقعة على الوكيل، استراب بها، وقال: حتى أستأذنه.
وجاء إليه فأراه التوقيع، فقال: ما أردت هذا، ما أردت إلا المائتي درهم التي هي رسمه، ولكن هذا شيء أجراه الله على يدي، لا أرجع عنه، أعطه إياه.
فأعطاه.
ابن الوزير علي بن عيسى يمنع والديه
من الاجتماع
وحدثني أبو محمد، قال: حدثني أبو سهل بن زياد القطان، قال: كان علي بن عيسى، يدخل في كل أسبوع، يوماً، إلى زوجته، والدة أبي القاسم، ابنه.
وكان أبو القاسم، قد نشأ وترجل.
فلما كان يوم النوبة، أدخل أبو القاسم أمه إلى حجرة، وقفلها عليها، وأخذ المفتاح.
فوافى علي بن عيسى، فأنكر قفلها.
فقال له الجواري: إن أبا القاسم ابنه، فعل ذلك.
فاستحيا، وعرف غرضه، فلم يدخل إلى أمه بعد ذلك، إلا لعيادة، أو حال ظاهرة.
الوزير أبو علي بن مقلة يثني على القاضي
أبي عمر
وحدثني، قال: حدثني أبو الفرج منصور بن القاسم القنائي الكاتب، قال: دخل أبو عمر القاضي، على أبي علي بن مقلة، وهو وزير، وعلي بن عيسى عنده جالس، فرفع أبا عمر عليه، فامتنع، فرفعه ثانية، فامتنع، وجلس دون أبي الحسن.
فانصرف، فراسله إلى طياره، واستدعى ابنه أبا الحسين، فجاء إليه، فقال: تقول لأبي عمر، إني ما رفعتك على علي بن عيسى، لتخالف أمري، وتمتنع من ذلك. وتجلس دونه.
فعاد إليه أبو الحسين، فقال له ما جرى.
فقال له: ارجع إليه، وقل له: هذا رجل رأس علي، ثم أدال الزمان منه، فكرهت أن أرتفع عليه، فيتصورني الوزير، بصورة من يرتفع على رؤسائه، وما فعلت ذلك، إلا لك، وإعظاماً للرياسات.
فعاد أبو الحسين، إلى ابن مقلة، وأعاد عليه ذلك.
فقال: قل له: أحسن الله جزاءك، فمنك يتعلم العقل.
الخليفة المعتضد يبحث عن حجة لقتل وزيره
حدثنا أبو محمد، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه، عن شيوخه.
إن المعتضد، لما قبض على إسماعيل بن بلبل، أحضر إسماعيل بن إسحاق القاضي، وقال له: بلغني أنك تعلم أن إسماعيل بن بلبل، زنديق، فما تقول في قتله؟ فقال: ما أقول في رجل تكنى، وسمي أبوه بالطيور.
فعلم المعتضد أنه يدافع، فقال ليوسف القاضي: هل عندك من أمره شيء؟ فقال: نعم. أمرني الموفق بالنفقة على الموسم، وتقدم إلى إسماعيل، أن يعطيني المال، فكنت ألزم مجلسه، أطالبه بذلك.
فلزمته يوماً من الغداة إلى المغرب، ما رأيته صلى، ولا نهض من موضعه.
ثم لزمته أياماً متتابعة، وكان هذا حكمه، فقلت لعله يقضيها ليلاً.
فقال لي في آخر يوم: بت عندي الليلة لأعطيك المال، وجلس يتحدث، وأنا بين يديه، إلى أن نعس، فأراد إكرامي، فأمرني بالنوم بحضرته، فنمت، وما رأيته خلال ذلك صلى.
فقال له المعتضد: انصرف، فقد أخبرتني بما أردته منك.
وقتله.
عمرو بن الليث الصفار
يعاقب واحداً من حرسه
حدثنا أبو محمد، قال: حدثنا أبو الحسن بن أبي نصر، أن ابن أبي الوليد بن أبي عبد الله بن أبي دؤاد، قال: حدثني أبي: أن عمرو بن الليث، كان له بيت ينام فيه، ويحرسه غلمان له ليلاً، فانتبه ليلة، فوجد بعض الغلمان، قد استند إلى الحائط، ونام قائماً، فجعل مرفقه، على صماخه، وغمز عليه، حتى قتله.
فما رؤي في داره، نائماً، ممن كان يحرسه، بعد ذلك.
حميد الطوسي يأمر بقتل الطباخ
لأنه لم ينضج دجاجة
حدثنا أبو محمد، قال: حدثني أبو الحسين أحمد بن الحسن بن المثنى، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: قال ابن عياش:

كنت آكل مع حميد الطوسي، فضربت يدي إلى دجاجة مشوية، ثم رغبت عنها شبعاً، فلم أكسرها، وانقضى الطعام، وغسلت يدي، وخرجت، فإذا بضوضاء في الدهليز، وإذا برجل يبكي.
فقام إلي، وقال: يا رجل، أحي نفساً، كنت أنت سبب قتلها.
فقلت: ما الخبر؟ فقال: أنا طباخ حميد، وإنك مسست دجاجة، ثم لم تكسرها، فقدر حميد أنني شويتها، ولم أنضجها، فأمر بقتلي.
فعدت إلى حميد، فحين رآني، قال: والله لا شفعتك في الطباخ.
قلت: يسمع الأمير ما أقوله، ويعمل ما يراه، قال: قل.
فحلفت بالأيمان المغلظة، إن الدجاجة كانت نضيجة، وإنما رغبت عنها، لأن الشبع صدني، ثم اتبعت المسألة في أمر الطباخ.
فقال: أهب لك ذنبه، على أن لا يدخل داري، إننا قد أيسنا من الآخرة، وإنما هي الدنيا، فلا نحتمل، والله، لأحد، تنغيصها علينا.

إسحاق المصعبي تحركه رقاع
أصحاب الأرباع في بغداد
وحدثني، قال: حدثني أبو يحيى بن مكرم، القاضي البغدادي، قال: حدثني أبي، قال: كان في جواري شيخ يعرف بأبي عبيدة، حسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، وكان ينادم إسحاق بن إبراهيم المصعبي.
فحدثني: إن إسحاق استدعاه ذات ليلة، في نصف الليل، بعدة رسل.
قال: فهالني ذلك، وأوحشني، لما أعرفه من زعارة أخلاقه، وشدة إسراعه إلى القتل، وخفت أن يكون قد نقم علي شيئاً في العشرة، أو بلغه عني باطل، فأحفظه، فيقتلني.
فخرجت طائر العقل، حتى أتيت داره.
فأدخلت من دار إلى أخرى، إلى أن أدخلت دار الحرم، فاشتد جزعي، ثم أدخلت إلى حجرة لطيفة، فسمعت في دهليزها، بكاء امرأة، متخافتاً، وهو جالس على كرسي، وبين يديه سيف مسلول.
فذهب علي أمري، وسلمت، ووقفت.
فقال: اجلس يا أبا عبيدة، فسكن روعي، وجلست.
فرمى إلي قصصاً، فإذا هي رقاع أصحاب الشرط في الأرباع، يخبر كل واحد منهم، بخبر يومه، وفي أكثرها، كبسات وقعت، بنساء من بنات الوزراء، والرؤساء من الكتاب، وبنات القواد والأمراء، مع رجال على ريب، وإنهن محصلات في الحبوس، ويستأذن في أمرهن.
فقلت: قد وقفت على هذه الرقاع، فما يأمرني الأمير؟ فقال: إن هؤلاء، كلهن، أجل آباء مني، وأكثر حسباً ومالاً، وقد أفضى بهن الدهر، إلى ما قد رأيت، وقد وقع لي أن بناتي سيبلغن إلى هذا، وقد جمعتهن - وهن خمس - بالقرب من هذا الموضع، لأقتلهن كلهن الساعة، وأستريح، فماذا ترى في هذا؟ .
فقلت: أيها الأمير، إن آباء هؤلاء المحبسات، أخطئوا في تدبيرهن، لأنهم خلفوا عليهن النعم، ولم يحفظوهن بالأزواج، فخلون بأنفسهن، ففسدن، ولو كانوا علقوهن على الأكفاء، ما جرى هذا منهن.
والذي أراه، أن تستدعي فلاناً، القائد، فله خمسة بنين، كلهم جميل الوجه حسن النشوة، فتزوج كل واحدة منهن، بواحد، فتكفي العار، والنار.
فقال: أحسنت يا أبا عبيدة، أنفذوا الساعة إليه، وافرغ لي من هذا.
قال: فراسلت الرجل، فما طلع الفجر، حتى حضر وأولاده، وعقدت النكاح لهم، على بنات إسحاق، في خطبة واحدة، وحمل إسحاق بين يدي كل واحدة، خمسة آلاف دينار، عيناً، وشيئاً كثيراً من الطيب، والثياب، والدواب، والبغال، والغلمان.
فأعطاني كل واحد من الأزواج شيئاً مما وصل إليه، وأنفذ لي أمهات الأولاد، هدايا في الحال، وشكرنني على تخليص بناتهن، وانقلبت الحال إلى السرور.
فخرجت، وقد حصل لي ثلاثة آلاف دينار عيناً، وشيء كثير، من الطيب والثياب.
شغف المتوكل بالعود الهندي
حدثني الحسين بن محمد الجبائي، قال: حدثني أبو القاسم عمرو بن زيد البزاز الشيرازي، المقيم ببغداد، قال: حدثني ابن حمدون النديم، عن آبائه، أن أحدهم أخبره: إن المتوكل، كان مشغوفاً بالعود الهندي، فشكا إليه ذات ليلة، إعوازه، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين، الملوك لا تستقبح أن تستهدي من الملوك، طرائف ما في بلادها، فلو أنفذت إلى ملك الهند، هدية حسنة، واستهديت منه عوداً هندياً، ما كان ذاك عيباً.
قال: فتكون أنت الرسول.
فأبيت.
فألزمني، إلى أن أجبت، فتمنيت أني لم أكن أشرت عليه بالرأي، وإن كان صحيحاً، لأجبر على الخطر بالنفس، وقلت في نفسي: قد كان يسعني السكوت.
وأعد المتوكل الهدايا، وتأهبت للخروج، ووصيت، لإيآسي من الرجوع.

فلما أجد بي الخروج، قلت: ليس إلا أن أحمل معي شراباً كثيراً، فإذا اشتدت الأمواج، شربت، وسكرت، ولا أعقل إن غرقت، ولا أحس بعظم الأمواج، مع السكر.
فاستكثرت من الشراب القطربلي والغناء الحسن، والتفاح الشامي، وجعلت بعضه في العسل، ليبقى.
وخرجت، فأقمت بالبحر شهوراً، وعانيت أهوالاً عظيمة، إلى أن وصلت إلى الساحل من بلد الهند، فأركبت الظهر، وسرت من بلد إلى آخر، إلى أن دخلت بلهوار، دار الملك الأعظم من ملوك الهند، وهو اسم الملك الأعظم هنالك.
فوصلت إلى البلد، مع أصحابه، وقد تلقيت، وأكرمت، وخدمت، وأنزلت داراً حسنة، من دورهم.
ثم جلس مجلساً عاماً، فدخلت إليه، وهو في حفله، وتأهبه، وجيشه، ورعيته، وقد جلس على سرير ملكه، وعليه مئزران حرير صيني، وقد اتشح بأحدهما، واتزر بالآخر، وفي حلقه خيط فيه صرة من ذلك الحرير، لا أدري ما فيها.
وكلمني بترجمانه، وقال: يقول لك الملك، لأي شيء قصدت؟ فقلت له: إن أمير المؤمنين أحب صلة الحال والمودة بينه وبينه، فبعثني لذلك، وحمل على يدي هداياه، وسألت أن يأمر بتسلمها.
فأعاد الترجمان عنه، جواباً حسناً جميلاً، وإنه أمر بقبض الهدية، وانصرفت، ورسله معي، فتسلمها.
وترددت إلى المجالس العامة، دفعات.
فلما كان بعد أيام، استدعاني في نصف نهار، وكان الزمان حاراً، فدخلت دار العامة التي كنت أصل إليه فيها، فلم أجد فيها كثير أحد، فأدخلت من موضع إلى آخر، حتى أدخلت إليه، وهو جالس في حجرة في غاية الحسن، والسرو، والظرف، والملاحة، وفاخر الآلات، كأنها من حجر دار الخلافة، ودست طبري في نهاية الحسن، والملك جالس فيه، وعليه قميص قصب في نهاية الخفة والحسن، وسراويل دبيقي، بتقطيع بغدادي، وعلى مسورته رداء قصب فاخر جداً، وبين يديه آلات ذهب، وفضة، وصياغات كثيرة عراقية، كلها حسنة، مملوءة بالكافور والماورد، والعنبر، والند، والتماثيل.
فلما دخلت، كلمني بالعربية، بلسان طلق ذلق، وقال: كيف أنت من قشف بلادنا؟ فشكرت إنعامه، وقرظت بلاده، وذكرت له أني في ريف من تفقده، وبره.
فباسطني، وطاولني، واستطاب حديثي، وأفضت معه في فنون من الأمور، حتى تكامل انبساطه إلي.
وتأملت أمره كله، فإذا رجل عراقي، متأدب.
فسقاني من شراب بين يديه، أصفر، في قدح، في صينية، وقال: اشرب هذا، وقل لي، هل عندكم مثله؟ فقبلت يده، وقبلت القدح، وشربته، وقلت: هذا، في نهاية الطيب والحسن والجودة.
فقال: أصدقني، هل عندكم مثله؟ فوصفت له الشراب القطربلي، وذكرت منافعه، وفضائله، وطيبه، وزدت في الوصف، وبسطته، فرأيت في عينه، استبعاداً لقولي.
فقلت له: إني كنت استصحبت منه شيئاً في طريقي، وقد فضل منه فضلة، لا أرضاها لحضرة الملك، ولكن إن أمر بإحضارها، ليعتبر بها صحة ما ذكرته له، أحضرتها.
فقال: افعل.
فقلت لغلامي: احمل كلما بقي عندنا من الشراب، فجاء الغلام بأدن يسيرة.
وقلت له: أن يحمل شيئاً من التفاح الشامي.
فحمل مما كان في العسل، عدة تفاحات، ومسحها من العسل، وكان في بعضه قد بقيت منه بقية صالحة.
فلما وضعت الدنان بين يديه، أمرت غلامي، ببزلها في قدح، وشربت منه أولاً، ثم دفع إليه، فاستحسن ذلك.
ثم أخذ التفاح، فلما رأى لونه، رأى شيئاً غير ما عنده، وشمه، فكاد أن يشهق استطابة، وشربه، وتقدح بشيء من التفاح، وقد كنت كسرت واحدة، وأكلت نصفها في حال شربه، وتركت النصف الآخر بين يديه، فتنقل به، ومسح فاه.
ثم قال لي: ما ظننت أن في الدنيا مثل هذا الشراب، ولا مثل هذا النقل، ولقد بعد في نفسي ما أخبرتني به، فلما شاهدته صدقتك، وعظم في نفسي بلد يكون مثل هذا فيه مبتذلاً، ولم أصدق ذلك لو لم أشاهده.
ثم قال لي: ويحك، تشربون مثل هذا، وتتنقلون بمثل هذا، وتموتون؟ إن هذا لأمر عجيب.
ثم صار يستدعيني، كل يوم، إلى تلك الحجرة، فآكل معه، ونشرب، ويخرج إلي بالأحاديث.
فلما أنست به، قلت له: أيها الملك، أتأذن لي، أن أسأل عن شيء؟ قال: قل.
قلت: إن الله عز وجل، قد جمع لك من الملك العظيم، أنك جالس في هذه الحجرة في قطعة من دار الخلافة بالعراق، بلا فرق ولا شك، وقد أعطاك من حسن الرأي والفهم، واللسان العربي، ما جعلك به، كأنك رجل من أهل بغداد، فمن أين لك هذا؟

فقال: ويحك، إن أبي كان من أولاد الملوك، وقتل أبوه، وانتزى على ملكه بعض قواده، ثم خرج عليه، ولم يكن من أهل بيت الملك، فهرب أبي خوفاً على دمه، إلى عمان، فدخلها مستخفياً، وتنقل في البلدان، إلى أن وقع ببغداد، في زي التجار، ومعه من يخدمه، ويكتم أمره، وطاف بلدان العراق، وكانت المادة تحمل إليه من ها هنا.
فأقام بالعراق سنين، حتى تفصح بالعربية، وعاشر أهل العراق، ونكح منهم، وخالطهم، وتطاولت السنون به، ومات ذلك الخارجي، الذي قتل أباه، وغصبه الملك، فأوقف أهل المملكة الملك عليه، وكاتبوه بالصورة، واستقدموه، وأمدوه بالأموال، فاستصحب قوماً من العراقيين، من أهل الأدب والعشرة، وأهل الصنائع، فقدم، فملك الأمر، وجعل غرضه، طلب العراقيين، وأسنى لهم العطايا، فكثروا عنده، فبنوا له هذه الحجرة، وخدموه بهذه الآلات.
فكان يجلس لأهل المملكة في زيهم، لئلا يشيع عليه مخالفتهم في الزي، وينقص بين ملوكهم، فيهون أمره عندهم، ويجلس في خلواته هكذا.
فلما ولدت، أسلمني إلى العراقيين، والهنديين، فكلموني باللغتين، فنشأت أتكلم بهما، ثم أدبني العراقيون، وغلبوا علي.
فلما مات، سلم الملك إلي، فاتبعت طرائقه في الجلوس العام لأهل المملكة بزيهم، والانفراد عنهم في الخلوة بهذا الزي.
قال: فقلت له: فما ذلك الذي تعلقه في حلقك في الصرة؟ فقال: هذه الصرة، فيها عظم من عظام الرجل الذي جاء بعبادة البد وأقام هذه الشريعة لهم، وله كذا وكذا ألف سنة، وذكر عشرات ألوف سنين.
وقال: إن الرجل، لما مات، وصى، بأن يجعل في تابوت، بعد تابوت، كذا وكذا ألف سنة، فما يزال، كلما بلي شيء من عظامه، احتفظوا بالباقي، ونحوا البالي، لئلا يسرع الفساد إلى الصحيح، إلى أن لم يبق منه إلا هذا العظم الواحد، فخافوا أن يبلى أيضاً، فجعلوه في حق من ذهب، وجعلوهما في صرة، وصارت الملوك تعلقه في حلوقها، في خيط، تعظيماً، وتبركاً به، وتشرفاً بمكانه، وصيانة له عن البلى، فقد علق في حلق كذا وكذا ملك، مدة أيام ملكهم كذا وكذا سنة، وذكر أمراً عظيماً، وقد صار عندنا كالبردة التي لصاحبكم، يلبسها خلفاؤكم.
قال: فلما طال مقامي، وضجرت، سألته الإذن في تسريحي، وأعلمته إعجاب الخليفة، بالعود الهندي، وأشرت عليه بالاستكثار منه، وقلت: هو أحب إليه من جميع ما تهديه إليه، من غيره.
فأنفذ منه شيئاً عظيماً، هائلاً، كثيراً، وفيه من الطرائف ما لم يسمع بمثله.
وأنفذ معه من الجواهر، واليواقيت، والتوتيا، وطرائف بلاده، ما يكون قيمته مالاً جليلاً، وأضعاف ما حملناه إليه.
فلما أردت توديعه، قال: اصبر، ثم دعا بصندوق، ففتحه، وأخرج منه مفتاح ذهب، وأخرج منه قطع عود هندي لطافاً، فأعطانيها، وقد كان قد ما أعطانيه نصف رطل، ودعا بدرج، وجعله فيه، وقفله، وسلمه ومفتاحه إلي، وقال: هذا خاصة، توصله من يدك إلى يده.
قال: فأنكرت ذلك في نفسي، وقلت: أبت الهندية فيه إلا الحمق.
قال: فبان له التنكر في وجهي. فقال: أظنك احتقرته؟ فقلت: وما هذا حتى توصيني فيه بمثل هذا.
فقلت: الملك يقول.
فقال: يا غلام، هات مجمرة، وناراً.
فأتى بهما، ودعا بمنديل لطيف للكم، فأتى به، وأخرج من ذلك العود شظية، مقدار أقل من نصف دانق فضة، فطرحها في النار، وبخر بها المنديل، ثم قال: شم.
فشممت شيئاً، لم أدر ما هو، لا يشبه الند، ولا العود، ولا شيئاً طيباً نتبخر به، ما شممت مثله قط.
فقلت: يحق لهذا أن يوصيني به الملك بما وصى.
فقال: اصبر، حتى أريك منه أعجب مما رأيت.
ودعى بطشت وماء، فأحضرهما، وأمر بغسل المنديل بالصابون، فغسل بين يديه، ثم أمر بأن يجفف في الشمس، ويحضر.
قال: ففعل.
ثم قال: شمه.
فشممت الرائحة بعينها، لم تتغير، ولا نقصت.
فأعاد الغسل بالصابون، والتجفيف، دفعات تقارب العشرة، إلى أن انقطعت الرائحة في الأخيرة.
فهالني ذلك.
فقال: اعرف الآن قدر ما معك، واعلم أنه ليس في خزائن ملوك الهند كلها، من هذا، رطل واحد، غير ما أعطيتك، وعرف صاحبك فضيلته.
قال: فودعته، وانصرفت.

ورزق الله السلامة، ودخلت على المتوكل، فسر بقدومي، وأكرمني، وسلمت إليه الهدايا، فحسن موقعها منه، وأعدت عليه أكثر حديثي مع الملك، إلى أن بلغت خبر النصف رطل عود، وأخرجته، فسلمته إليه، ولم أشرح له خبر الخرقة. فاستحمق الرجل، كما استحمقته، فقصصت عليه الشرح، وأخرجت المجمرة، والنار، وخرقة، وفعلت كما فعل الملك، فهاله ذلك، أمراً عظيماً، وسر به سروراً شديداً، وقال: هذا النصف رطل بسفرتك.
قال الحسين: فقال لي عمرو بن زيد: استبعدت أمر هذا العود، إلى أن حدثني بعض التجار الثقات، المشهورين بدخول الهند دفعات، بحديث هذا العود، ووصفه لي، فخرج الحديثان واحداً على اتفاق.
فقلت: هل سمعت ما سبب قلته؟ فقال: سألتهم عن سبب ذلك، فقالوا: ليس ينبت إلا في موضع واحد، في قلة جبل، بيننا وبينه مشاق، وغرر، وأخطار، ووحوش ضارية كثيرة، فالملوك تتكلف إنفاق الأموال العظيمة، على مرور الأيام، والشهور، والأعوام، حتى يصل أصحابهم إلى ذلك الجبل، ويصعدون منه إلى حيث يمكن، فيبلغون إلى حيث لا طريق فيه، ولا حيلة، ويرون تيوساً، كالتيوس الجبلية التي ها هنا، ترعى في تلك الأشجار من بعد، فربما اتفق أن يروا الواحد، وهو في الذروة، وفي فيه قطعة من هذا العود يأكله، فيرمونه بالسهام، فإذا اتفق أن يصيبه السهم، فيسقط التيس إليهم بحمية السهم، وفي فمه ذلك العود، فيتناولوه من فيه، وإلا فلا سبيل إلى الحصول على شيء من العود البتة.
ففي سنين طوال، تتفق هذه القطعة اليسيرة، بعد المشقة العظيمة، على مراصدة الرجال بذلك.
فبهذا السبيل يقل.

الكاتب بشر بن هارون
النصراني يهجو وزيرا
ً
أنشدنا أبو علي عبد الله بن الحجاج، لأبي نصر النصراني، الكاتب، يهجو أبا الفضل الشيرازي - الوزير كان - من أبيات:
ما كل من طول عثنونه ... ينال فضلاً يا أبا الفضل
طولت عثنونك تبغي العلى ... أي علىً في ذنب البغل
ولست أحصي كم رأيت امرأ ... ألحى ولكن كوسج العقل
رأي الوزير ابن الفرات في سياسة المملكة
حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري، الشاهد، قال: حدثنا الحسين بن فلان، الكاتب، النصراني، الملقب ببظر أم الدنيا، قال: قال لي ابن الفرات: أول أمور السلطان مخرقة، فإذا استحكمت، وتمت، صارت سياسة.
الخليفة لا يخاتل
وحدثنا، قال: حدثنا قاضي القضاة أبو محمد بن معروف، قال: كنت مع المطيع لله، في طياره، وقد ركب، وأنا واقف بين يديه، مع حاجبه، وكلما دعت له طائفة، سألني عنها، فأخبره بها، حتى دعت له طائفة من الطالبيين.
فقال: من هؤلاء؟ فقلت: الطالبيون.
فأعرض عنهم، وأطرق ساعة، وعبس، إلى أن جازهم.
ثم قال: يا عبيد الله.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: العلوية أهلي، وأقرب الناس إلي، ووالله إني أحبهم، ولكني أعلم، أنهم يبغضوني، ومثلي لا يخاتل، ولا يجوز أن أعاملهم إلا بما رأيت.
علم الخرق وعلم الورق
وسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي الصوفي، يقول: لو تركني الصوفية، لجئتكم بإسناد الدنيا.
مضيت إلى عباس الدوري، وأنا حدث، فكتبت عنه مجلساً واحداً، وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية، فقال: أيش هذا معك؟ فأريته إياه.
فقال: ويحك، تدع علم الخرق، وتأخذ علم الورق.
قال: ثم خرق الأوراق.
ودخل كلامه في قلبي، فلم أعد عباس.
المواساة بخل، إنما هو الإيثار
وسمعته يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت جنيداً الصوفي، يقول: سمعت سري السقطي الصوفي، يقول: أعرف قوماً يرون المواساة بخلاً، إنما هو الإيثار.
الجنيد والسائل
وسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي، يقول: وقف سائل على الجنيد، ونحن في حلقته، فسأله.
فرد عليه، فقال: يا هذا، الصناعة واحدة، ولكنا أظرف، انصرف أغناك الله.
فانصرف.
جعفر الخلدي يحج على التوكل
وسمعته يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: حججت ستاً وخمسين حجة، منها عشرون حجة على المذهب، يعني على التوكل بلا زاد ولا راحلة.
كتم رويم حب الدنيا أربعين سنة
وسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: من أراد أن يستكتم سراً له، فليستكتم رويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة.
فقيل له: كيف؟

قال: كان يتصوف أربعين سنة، فولي بعد ذلك، إسماعيل بن إسحاق القاضي، قضاء بغداد، وكانت بينهما مودة وكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلاً على بابه، فترك الصوفية، والتصوف، والتوكل، ولبس الخز، والقصب، والدبيقي، والمروي، وركب الحمير والبغال، وأكل الطيبات، وبنى الدور.
وإذا هو كان يكتم حب الدنيا، لما لم يجدها، فلما وجدها، أظهر ما كان يكتم من حبها.

البريء جريء والخائن خائف
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البزاز الصوفي يقول: سمعت الجنيد يقول: قال لنا السري السقطي: البريء جريء، والخائن خائف، والجاني مستوحش.
ومن الشعر الجيد في هذا المعنى:
أمستوحش أنت لما أسأت ... فأحسن إذا شئت واستأنس
الجاهل ميت، والعاصي سكران
حدثنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، القاضي، قال: حدثنا أبو القاسم البزاز، قال: حدثني بعض أصحاب سهل بن عبد الله التستري الزاهد، قال: قال لنا سهل: الجاهل ميت، والعاصي سكران، والمصر هالك.
كن صحيحاً تكن فصيحاً
من أمثال العامة: كن صحيحاً، تكن فصيحاً.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: إذا كان بولك صحيحاً، فاضرب به وجه الطبيب.
أي إذا كنت سليماً، فلا تبال ما صنعت.
حسن الأدب بين يدي الله
سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري، يقول: سمعت جعفراً الخلدي، يقول: سمعت جنيداً، يقول: سمعت سرياً السقطي، يقول: الناس في الأعمال يتقاربون، وإنما قارب من قارب، بحسن الأدب بين يدي الله تعالى.
ابن نصرويه يشاور شابا
ً
وحدثني، قال: كان أبو الحسين بن نصرويه، ربما شاورني في الشيء يجري، فأستعظم ذلك منه، وأقول: مثلك أنت والشيخ المجرب، المحنك، المدرب، المهذب، تشاور مثلي، وأنا ولدك، هذا مما يوحشني منك، ويقع لي أنك تجريه مجرى الهزل.
فيقول لي: قد رفعك الله عن هذا، وإنما كان هذا يجري كما قلت، لو كنت لا أناقضك الرأي، وتناقضني، وأحاجك وتحاجني، إلى أن يتقرر الشيء بيننا، فأعمل بما يتقرر، فأما وأنت تراني أفعل هذا، فلا مظنة فيه، وأمثل ما عندك في نفسي أنك شاب، ولعمري إن علم الشباب محقور.
الوزير المهلبي ينعى على أبي تمام الزيني
نقص مروءته
وحدثني، قال: سمعت أبا الحسين بن نصرويه يقول: وافى أبو محمد المهلبي، لما كتب لمعز الدولة، البصرة، فاعتقل القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، ليغض منه، ويشفي أبا تمام الزيني الهاشمي، لأجل ما كان بينهما من المصاهرة، وعداوته لابن عبد الواحد، ولم يكن بين ابن عبد الواحد، والمهلبي، شيء يختص به من عداوة.
فدخل أبو تمام إلى المهلبي مسلماً، فلما خرج، قال المهلبي لغلمانه: انظروا إلى أين بلغ؟ .
فعادوا، وقالوا: قد خرج من الدهليز، وانصرف.
فقال: أقبض على مثل ابن عبد الواحد، لا لشيء إلا لأجله، ويدخل إلي، وهو معتقل عندي، فلا يكون فيه من المروءة، ما يدخل إليه، ويعرض نفسه عليه، ويتكفل بأمره، ويسألني فيه، ويكون سبب إطلاقه، ويسترقه بذلك؟ قم يا أبا الحسن فخذ بيد ابن عبد الواحد إلى منزله، فقد أطلقته.
قال: فمضيت إلى ابن عبد الواحد، وهو في الحبس، فحدثته بما جرى، وجئت به إلى المهلبي حتى شكره، وانصرف إلى منزله.
الوزير المهلبي يفاضل بين ابن عبد الواحد والزيني
وحدثني، قال: سمعت أبا الحسين نصرويه، يقول: حضرت مجلس المهلبي، وقد دخل إليه جعفر بن عبد الواحد، فلقيه بوجه مقطب، وقصر به، ثم جلس، وأخرج من كمه رقعة، فتأملت التثاقل والتكره في وجهه، فقرأها، ووقع فيها، ثم أخرج أخرى، وأخرى، إلى أن عرض عليه عدة رقاع، فوقع، وكلما وقع في واحدة، انبسط وجهه في وجه ابن عبد الواحد، إلى أن تكاملت الرقاع.
ثم قام ابن عبد الواحد، ودخل أبو تمام الزيني، فرفعه المهلبي، أتم رفعة، واهتش له، وأقبل عليه بوجهه، فأخرج رقعة فعرضها عليه، فوقع له، وأخرج عدة رقاع، وكان كلما أخرج رقعة، ووقع فيها، ظهر في وجهه الكراهية والتثاقل، إلى أن فرغ من الرقاع. فأخذها أبو تمام، وقام.

فأقبل المهلبي، وقال: يا أبا الحسين، شتان بين الرجلين، دخل إلي ابن عبد الواحد فعملت على أن أقصيه، بما عاملته من قلة الرفع والتقرب، فعرض علي أول رقعة، فاعتقدت قبل قراءتها أن أردها، فلما قرأتها، وجدتها لحاجة غيره، فاستحييت أن يكون أكرم مني، وقد بذل جاهه لمن سأله سؤالي، مع ما يعلمه بما له عندي، فما منعه ذلك أن يستميح بجاهه للسائل، وأبخل أنا بما أقدر عليه، فيكون أكرم مني، فأنفت من ذلك، ووقعت له، ثم توالت رقاعه، فوجدت جميعها في حوائج الناس، ما له ولا لأحد ممن يخصه شيء منها، فوقعت في جميعها، ونفسي سمحة بذلك، وقد نبل في عيني، وتذممت من رده.
وقد دخل هذا، فعاملته من الأكرام بما رأيت، لما بيني وبينه، فعرض رقاعه، فوجدت أولها في شيء يخصه، فوقعت له، وكلما عرض رقعة تطلبت أن يكون فيها شيء لغيره، فأقضيه له، وأجعل له محمدة عليه، فما وجدت الجميع إلا له، وفيما يخصه، فكرهت ذلك منه، وانحط من عيني، ولم أستحسن رده، لما بيننا، فوقعت له، فكيف يمكنني أن أرفع ممن هذا سبيله، وأضع ممن ذلك سبيله.

الغيبة فاكهة القراء
سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت جعفراً الخلدي، يقول: سمعت الجنيد، يقول: سمعت السري السقطي، يقول: فاكهة القراء الغيبة.
سري السقطي يشتهي أكلة
وسمعته يقول: سمعت جعفر الخلدي، يقول: سمعت الجنيد، يقول: سمعت السري السقطي، يقول: أشتهي منذ ثلاثين سنة، شهوة ما قدرت عليها.
فقيل له: ما هي؟ قال: أشتهي آكل أكلة، لا يكون فيها لله عز وجل علي تبعة، ولا لمخلوق، فما وجدت ذلك.
من مكارم أخلاق أبي عمر القاضي
وسمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت بعض شهود الحضرة القدماء، يقول: كنت بحضرة أبي عمر القاضي، وجماعة من شهوده، وخلفائه الذين يأنس بهم، فأحضر ثوباً يمانياً، قيل له في ثمنه خمسون ديناراً، فاستحسنه كل من حضر المجلس.
فقال: يا غلام، هات القلانسي، فجاء.
فقال: اقطع جميع هذا الثوب، قلانس، واحمل إلى كل واحد من أصحابنا قلنسوة.
ثم التفت إلينا، وقال: إنكم استحسنتموه بأجمعكم، ولو استحسنه واحد، لوهبته له، فلما اشتركتم في استحسانه، لم أجد طريقاً، إلا أن يحصل لكل واحد منكم، واحدة منها.
تعليق المهلبي على كتاب القنائي الكاتب
حدثني أبو الحسين محمد بن محمد بن إسماعيل بن شانده الواسطي، قال: كان أبو قرة، الحسين بن محمد القنائي الكاتب، قد كتب لأبي علي كتاب ابن العباس الديلمي، المعروف بالكوسج، ضامن واسط، برسالة الوزير أبي محمد المهلبي، ومشورته عليه بذلك، ثم استوحش منه، فاستتر منه، يومين، أو ثلاثة، وراسله، فأمنه، وظهر، فكتب أبو قرة، إلى المهلبي، بخبره، بعد ظهوره، بسبب استتاره، لئلا يهجن أخباره عند أبي علي.
قال: فوقع بخطه على ظهر الكتاب، توقيعاً قرأته، فكان: أحسن الله إليك، كما أحسن توفيقك، فلتسكن نفسك، فإني عونك، ومن ورائك، إن شاء الله.
الوزير المهلبي يستولي على غلات بالبصرة
دون رضى أصحابها
وحدثني أيضاً، قال: كان المهلبي، في بعض انحداراته إلى البصرة، وهو وزير، أضاق، فأخذ غلة عظيمة، بعشرة آلاف دينار، لأبي علي، وجدها بالبصرة، وأخذ غلات التجار المحدورة من دستميسان، وواسط، وغلات خلق كثير، وباعها، وصرفها، في دخل وخرج المملكة.
فأشير على أبي علي، بالإصعاد إلى سبكتكين الحاجب، ومسألته ليخبر معز الدولة بذلك، فيأمر بارتجاعها منه.
فخالف أبو علي، وانحدر إلى المهلبي، فتلقاه بالأبلة.
قال: فلما صعدت إليه، هش بي، وسر سروراً عظيماً، وقال: ما جاء بك؟ فقلت: بلغني أن الوزير أيده الله، أخذ غلة وجدها لي بالبصرة، فسررت بذلك، لتقديري أنه شرفني بهذه الحال، وبسط يده في مالي، كما يبسطها في مال نفسه، وأوليائه، إذا احتاج إلى أموالهم، وتشرفت بذلك، إلى أن بلغني أنه أخذ مع مالي، أموال التجار، وأصحاب الضياع، وأصاغر الناس، من أهل دستميسان، وواسط، فأقلقني ذلك، وعلمت أن هذا، لو كان على سبيل الأنس، لخصني به سيدنا الوزير، ولم يشرك فيه معي، هذه الطبقة، التي لا يجوز لمثله أن يأنس بها في قرض ولا استعانة، وإنما هم للمصادرات فقط، فخفت أن يكون جميل رأيه في، استحال، في تخليطي بهذه الطائفة، فجئت مستصلحاً لرأيه، وواقفاً تحت أمره.

قال: فأعجبه قولي جداً، فقال لي: يا أبا علي، أنت والله مقبل، - وكررها مراراً - ، قبل أن تدخل بلحظة، حضرني من قال: إنك قد أصعدت إلى الحاجب سبكتكين، لتشاكيني إليه، فاعتقدت لك كل قبيح، وعملت على نصرة فعلي، إن جرى فيه كلام، بكل ما يجوز أن ينصر به مثله، فأنا أفكر في ذلك، إذ استؤذن لك علي، فدخلت، فسحرتني، ووالله، لا خرجت من هذا الموضع، أو أوصلك إلى مالك، أو أكثره، وأقيم لك بالباقي وجوهاً ناضة.
وجذب الدواة، فكتب الوجوه، بما يعجل، ويسبب، وفرغ من ذلك، وأمر بإنشاء الكتب، وسبب لي بالباقي، على سباشي الخوارزمي، مولى معز الدولة، ضامن البصرة.
فأخذته في مدة قريبة، وأصعدت إلى واسط.

وشديد عادة منتزعة
حدثني أبو بكر بن جعفر السواق، أحد تجار الكرخ ببغداد، المشهورين باليسار والستر، وحفظ القرآن، ووجه من وجوههم، قال: كان علي وعد بنقدة، لابن عبدان الصيرفي، وهذا رجل باق إلى الآن، من وجوه الصيارف، بدرب عون، من المياسير، فأخرت إنجازه، لضرورة لحقتني، ولم تكن عادتي جارية معه بمثل ذلك.
فجاءني يقتضيني، وقال في عرض الخطاب: أقول لك يا أبا بكر، كما قال الله: وشديد عادة منتزعة.
فقلت: إنا لله، إنا لله، ما قال الله عز وجل هذا.
قال: فاستحيا مني، وقام، فما عاد إلي أياماً.
فلما حضرت الدراهم، أنفذتها إليه.
صلاة التجار
وكان عندنا بالبصرة، رجل من التجار، مستور، يعرف بأبي علي بن سعدان، أحد الباعة في دار البطيخ، موسر، يركب، وينبسط في المجالس، وفي الكلام.
فأخبرني أبو طلحة الأزدي، صاحب بني المثنى، شيخ مستور، قال: رأيته مرة، ونحن جلوس في دهليز جعفر بن عبد الواحد القاضي، ننتظر الإذن عليه، وقد حضرت العصر، فقام كل واحد منا، فصلى، وقام ابن سعدان، فصلى صلاة، لم أر قط أسخف منها.
فقلت له: يا أبا علي، هذه ليست صلاة، فأحسن صلاتك، فإن هذه الصلاة، كما قال ابن المعتز:
صلاتك بين الملا نقرة ... كما اختلس الجرعة الوالغ
فقال لي: يا أبا طلحة، أعزك الله، هذا فضول لا نعرفه، نحن نصلي صلاة التجار.
فقلت له: هذا أعجب، كأن الله عز وجل، فرض على التجار صلاة غير الصلاة التي فرضها على سائر عباده؟ وتمام الشعر، لابن المعتز، مشهور، وكان النميري، نديمه، صلى بحضرته، صلاة سخيفة، ثم سجد بعدها، سجدة طويلة.
فقال ابن المعتز، ارتجالاً، البيت الأول، وتمامه:
وتسجد من بعدها سجدة ... كما ختم المزود الفارغ
من بز يوماً بز به
حدثني محمد بن عدي بن زحر البصري، جارنا بها، قال: رأيت أبا إسحاق ياسين، وهو رجل كان ينزل بالقرب من الجامع بالبصرة، وقد حدث في آخر عمره، يناظر رجلاً في الجامع، وهو يقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
من بز يوماً بز به ... والدهر لا يغتر به
القاضي ابن بهلول يوصي القاضي
التنوخي لما نصبه للقضاء
حدثني أبي، قال: كان أول شيء قلدته، القضاء بعسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور والسوس، وأعمال ذلك، من قبل القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي. وكنت في السنة الثالثة والثلاثين من عمري، وذلك في شهور إحدى عشرة وثلاثمائة، لأن مولدي في ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ومائتين.
فلما سلم إلي أبو جعفر العهد، أوصاني بتقوى الله عز وجل، وبأشياء من أمور العمل، وسياسته في الدنيا والدين، وبأمر جاريه، أتنجزه من العامل هناك، لأنه كان مسبباً عليه، فودعته، ونهضت.
فقال: اجلس، فقد أنسيت مهماً.
فجلست، فقال: إنك شاب، وفضلك تام، وعملك وافر، وإنك سترد على قوم فيهم شر، وسيحسدونك على فضلك، أو يطلبون معايبك، إذا حكمت عليهم بالحق، فلا يجدون طريقاً إلى الغض منك، إلا بنسبتك إلى الحداثة، وقلت حنكتها، ولن تعدم منهم ذلك، فإن صدقت حققوا ما يريدون، والكذب لا يجوز، فإياك أن تخبر بسنك على حقيقتها، ولكن إذا سئلت عنها، فقل: دون الأربعين سنة، فلو كانت عشرين، أو أقل، لكنت صادقاً، وفي فزعك إلى الأربعين ستر عليك، لأنها الأسد، وحد التكهل والحنكة، فإن بليت بمن يطول معك، فيقول: دون الأربعين بكم؟ فقل: لست أذكر، وانو أنك لست تخبر، ليقطع الخطاب، ويقع للسائل، أنك ناس حقيقة سنك.

قال: فخرجت، واتفق أن شعرة واحدة، ابيضت في لحيتي، في مسافة الطريق، فلما دخلت الأهواز، تعملت لإخراجها بالمشط، إلى حيث يلحقها النظر، تجملاً بها.
واستقبلني محمد بن جعفر بن معدان الشاهد، وكان يخلف أبا جعفر، على الوقوف، وقد كاتبه بإعظامي، وتلقي، فجاءني بمركوب إلى الشط، وركبته إلى دار اتخذت لي، وكان يغشاني في كل يوم.
فلما أردت الخروج إلى عملي، قال لي: قد هالني ما رأيته من فضل القاضي أيده الله، فكم سنوه؟ فذكرت، وصية أبي جعفر، فقلت: دون الأربعين سنة.
فقال: دونها بكم؟ فقلت: لست أذكر.
فلم يشك أني ناس لتحققها، فأمسك عني.
وهذا ضد ما نشاهده الآن، فإني قد رأيت ببغداد، قاضيين، هاشميين خطيبين، شاهدين، أحدهما أجل وأنبه، وإليهما أعمال جليلة، وأحدهما قد تقلد من جهة الخليفة جلائل الأعمال، ووهل نفسه، لقضاء القضاة، وخطب ذلك فما تم له، وهما يخضبان لحيتهما، ظاهراً، بالسواد، وأحدهما ترك ذلك، قبل موته بسنين، وهو الأدون محلاً، والآخر باق مقيم على الخضاب، إلى الآن، ونسأل الله ستراً جميلاً، فإن الخضاب، وإن كانت فيه روايات، فإنما يعذر فيه الجند، والكتاب، ومن لا يتصدى للحكم والشهادة، فأما من نصب نفسه، فلا عذر له فيه.

ابن شاهويه القاضي يبحث في قضية شرعية
حدثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر، الفقيه المعروف، بابن السماك، السيرافي، قال: كنت بحضرة أبي بكر محمد بن أحمد بن علي بن شاهويه، القاضي بأرجان، فتقدم إليه نفسان، ادعى أحدهما على الآخر ألف درهم.
فسأله: فأنكر.
فقال للمدعي: لك بينة؟ فقال: لا، ولكن استحلفه لي.
فقال للمدعى عليه: أتحلف؟ قال: قد كان قدمني إلى القاضي الذي كان قبلك، واستحلفني له، على هذه الدراهم.
فقال للمدعي: ما تقول؟ فقال: نعم، قد كان حلف لي كاذباً.
فقال: انصرف، فلا مطالبة لك عليه.
فانصرفا.
ثم التفت إلي، وإلى أبي الوعد الفقيه على مذهبنا، يعني مذهب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء كانوا قعوداً، والجماعة حنفيون، فقال: أرأيتم إن ادعى هذا المدعي الألف، إنه قد حلف المدعى عليه، وإني ما حلفته، وأردنا أن نعرض اليمين عليه، فذكر أنه قد حلف على هذا المعنى، ولم يزل ذلك يتردد بينهما، في دعوى كل واحد على صاحبه، كيف نفصل الحكم بينهما؟ قال: ففكرنا جميعاً ساعة، ثم جرى خوض لم يتقرر له معنى، ولم يتضح لنا وجه الفتوى.
فقلت له: إن رأى القاضي، أن يذكر ما عنده.
فقال: حكى لنا القاضي أبو طاهر الدباس، عن أبي خازم القاضي، في هذه المسألة بعينها إنه قال: للحاكم أن يستحلف الذي ادعيت عليه الألف في الابتداء، إن هذا المدعي عليك الألف درهم، لم يستحلفك عليها عند حاكم آخر.
الدليل على تحليل نبيذ التمر
سئل بعض غلمان أبي الحسن الكرخي، عن الدليل على تحليل النبيذ التمري المعمول بالداذي، الشديد، المسكر، فقال: قد وجدنا، أن الله تعالى، لما وعدنا بالجنة، ووصفها لنا، أباح لنا في الدنيا من جنس ما وعدنا به، وحلل لنا تناولها، لنعرف بذلك فضل ما وعدنا به في الجنة، ودوام ذلك، وانقطاع هذا.
فلما وعدنا بالخمر في الجنة، وقد حرمها علينا في الدنيا، ولا طريق إلى علم فضلها، لنحرص على الأعمال التي توجب دخول الجنة، وشربها فيها، فوجب أن يبيح لنا في الدنيا، شيئاً من جنسها هكذا، نستدل به على طيبها، فكان النبيذ.
دليل آخر على تحليل النبيذ
وكان قد سئل عن مثل هذا مرة أخرى، فقال: إن الله تعالى، خلق المنثور الذي ليس بخيري، والله لا يخلق ما لا فائدة فيه، وليس فيما عدا الخيري من المنثور فائدة، إلا أن يشرب عليه النبيذ.
وكان يخرج هذا القول، مخرج الجد، لمن يستضعفه، ومخرج الهزل، مع أهل العلم.
الجبائي وتحليل النبيذ
وأصحاب الحديث، والحفاظ، يقولون: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث في تحريم النبيذ، ولا في تحليله.
فذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، في مسألة أملاها في تحليل النبيذ، مشهورة، إلى أن الأصل في الأشياء، أنها على الإباحة، إلى أن يثبت حظرها.
فلما كان العقل، لا يدل على تحريم النبيذ، ولم ينقطع العذر عن تحريمه، وجب أن يكون على الأصل من الإباحة.

ثم نصر ذلك، بأشياء أوردها، واعترض أدلة المحرمين له، وبين فسادها، وأورد زيادات على نفسه، وانفصل عنها بما يطول شرحه، ويخرج عما نحن فيه، إن أوردناه.

الوزير المهلبي يناظر بعض دعاة الفتنة ببغداد
حضرت مجلس أبي محمد المهلبي، وكانت العامة ببغداد، قد هاجت في أيام وزارته، وعظمت الفتنة، وقبض على جماعة من العيارين وحملة السكاكين، وجعلهم في زوارق مطبقة، وحملهم إلى بيروذ، وحبسهم هناك.
فاستهانوا بالقصة، وكثف أمرهم، وكثر كلام القصاص في الجوامع، ورؤساء الصوفية، فخاف من تجديد الفتنة، فقبض على خلق منهم، وحبسهم، وأحضر أبا السائب، قاضي القضاة إذ ذاك، وجماعة من القضاة، والشهود، والفقهاء، وكنت فيهم، لمناظرتهم، وأصحاب الشرط، لنأمن مضرتهم، إذا قامت الحجج عليهم.
فاتفق أن بدىء برجل من رؤساء الصوفية، يعرف بأبي إسحاق بن ثابت، ينزل بباب الشام، أحد الربانيين، عند أصحابه، فقال له: بلغني أنك تقول في دعائك: " يا واحدي بالتحقيق، يا جاري اللصيق " ، فمن لا يعلم بأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه لصيق على الحقيقة، فهو كافر، لأن الملاصقة من صفات الأجسام، ومن جعل الله جسماً كفر، فمن يكون محله في العلم هذا، يتكلم على الناس؟ وقل لي: ما معنى ما بلغني عنك، أنك تقول في جملة كلامك: " أخذتني مني، ولم تبقني علي، فها أنا بلا أنا " .
حصلنا على أنكم تهذوا، وتوهموا الناس، على أنكم ربانيين، وتستدعونهم، بالجهالات، إلى الضلالات، وتفتنون حضرة السلطان عليه.
السياط يا غلام.
فلم يزل يسأل في أمره، حتى كف عنه، وكتب عليه أن لا يتكلم على الناس، ولا يحلق حلقة.
لماذا كنى نفسه أبا البيان
كان يجيء - بالبصرة - إلى معلمي، معلم يكنى أبا الحسن، وكنى نفسه، أبا البيان.
فسمعت معلمي يعاتبه على ذلك، ويقول: يا هذا، غيرت كنيتك، وهي مقبولة، وكنية أمير المؤمنين.
فقال له: يا أبا جعفر، كم رأيت في عمرك من كنيته أبو الحسن؟ قال: لا أحصي.
قال: فهل رأيت أبا البيان غيري؟ قال: لا.
قال: خذ بيدك، هذه واحدة من فضائلها، ومن ذلك أني أشتهر بها، ولا أشارك فيها.
ومن فضائلها: أن تسقط عني التلقيب، وأن يشتغل الناس بها، عما سوى ذلك من عيوبي.
طريقة أبي البيان المؤدب في التدريس
ورأيته يوماً عند معلمي، في مكتبي، وقد حضر وقتاً كان فيه المعلم يأخذ علينا الشعر، وكانت عادته أن يقيم الصبيان صفاً، فيطالبهم بإنشاد القصيدة.
فأقامهم في تلك العشية، وقد حضر أبو البيان، فقال له: يا أبا جعفر، ما هذا التفريط؟ قال: وكيف؟ قال: إن لي عادة في سياسة الصبيان، لا أرخص لهم فيها، إن سألتني علمتك إياها.
فقال: افعل.
قال: تقدم إلى صبيانك، أن يمتثلوا أمري، لأريك ذلك.
فقال لهم أبو جعفر: انظروا ما يأمركم به أبو البيان، فافعلوه.
فأقبل عليهم يخاطبهم في كلامه، فقال: لكم أقول أيها الصبيان، ولمن يجاوركم من الغلمان، إلى حدود الأحداث والفتيان، اسمعوا وعوا، فمن خالف بعد البرهان، أنزلت به غليظ الامتحان، تراصوا في صفوفكم، والزقوا أقدامكم، وأقيموا ألواحكم، وأقبلوا علي بألحاظكم، وأحضروا فيما تنشدون قلوبكم، وارفعوا أصواتكم، وقولوا قول صبي واحد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وصاح بالشعر مطرباً.
فما ملك الصبيان الضحك، وضحك معلمي معهم.
فقال: يا أبا جعفر، التراب والجندل بفيك وعلى رأسك، والويل والويح محيطان بك، أتطمع أن تعلمهم بهذه الهيبة؟ حفت بك اللعنة والخيبة، أسبابك أفسدت، أمن قدري بضحكك وضعت؟ أم سترك عند هؤلاء الأنكاد هتكت؟ أشهد الله، لا أكلمك، أو تعتذر.
وأخذ أبو جعفر، يداريه، ويعتذر إليه، حتى رضي لوقته.
وكان يقول الشعر، وينشده أبا جعفر دائماً، وما حفظت منه شيئاً.
ولولا أن هذه الألفاظ، تعاودناها في المكتب ونحن صبيان، لم تعلق بحفظي، فلما ترعرعت، كتبتها في موضع، وأنسيتها، ثم نقلتها منه، إلى هذا الموضع، وبقيت عندي إلى الآن.
مؤدب يتشاتم مع التلاميذ
وسمعت، وأنا في الكتاب، أنه جاء إلى معلمي، فأسلم إليه ابنه، فقال له: لم نقلته من عند المعلم الأول؟ قال: لأنني جزت به يوماً، والصبيان يتشاتمون، وهو لا يمنعهم بأكثر من أن يقول: قيدوا ألفاظكم، أخزى الله حرماتكم، لا تتشاتموا يا بني البظر.

وإذا هو، ليس يمنعهم من سوء الأدب، ويدخل في جملة المتشاتمين، فنقلته.

رقية للمرأة كي لا تسقط حملها
حدثني عبد الله بن عمر بن الحارث، قال: كان أبي يكتب آي الرقى، على أصل وقع إليه في ذلك.
وكان مما يكتبه رقية للمرأة، إذا خافت أن تسقط ولدها، وتعلق في وسطها، فلا تسقط.
قال: وجربنا عليه ذلك، على طول السنين، فلم يخطىء.
يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا " ، الآية، " وما قدروا الله حق قدره " ، الآية " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " ، إلى آخر السورة، " ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة " ، الآية.
رقية لإعادة الآبق
قال: وكان يكتب رقية الآبق، ما رأيتها أخلفت، وهي أن تأخذ رقاً فتكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، " وذا النون إذ ذهب مغاضباً، فظن أن لن نقدر عليه " ، إلى: " ننجي المؤمنين " ، " أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج " ، إلى آخر قوله تعالى: " فما له من نور " ، " فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم " ، أدركه بآيات الله، يرده رب السموات والأرض، فاجعل ما بينهما أضيق على فلان - يعني الآبق - من مسك حمل، حتى تمكن منه، فإنه من فضلك وعطائك.
ويدفن الرق في عتبة باب.
رقية لإمساك الرعاف
قال: وكان يكتب للرعاف، في ورقة، ويعلقه على جبهة المرعوف: بسم الله الرحمن الرحيم، " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي " إلى قوله تعالى: " للقوم الظالمين " . " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده، ولوا على أدبارهم نفورا " .
رقية للخراج
وكان يكتب للخراج على ورقة سلق، وتوضع على الخراج: " ما أصابك من حسنة فمن الله ... " الآية.
القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقه
حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أبي محمد الصلحي الكاتب، قال: رأيت بمصر طبيباً كان بها، مشهوراً، يعرف بالقطيعي، وكان يقال: إنه كان يكسب في كل شهر ألف دينار، من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر، ومن السلطان، ومما يأخذ من العامة.
قال: وكان له دار، قد جعلها شبيه البيمارستان، من جملة داره، يأوي إليها ضعفاء الأعلة، يعالجهم، ويقوم بأودهم، وأدويتهم، وأغذيتهم، وخدمتهم، وينفق أكثر كسبه في ذلك.
قال أبو الحسن: فأسكت بعض فتيان الرؤساء بمصر - وأسماه لي، فذهب عني اسمه - وكنت هناك، فحمل إليه أهل الطب، وفيهم القطيعي، فأجمعوا على موته، إلا القطيعي.
وعمل أهله على غسله، ودفنه.
فقال القطيعي: دعوني أعالجه، فإن برىء، وإلا ليس يلحقه أكثر من الموت، الذي قد أجمع عليه هؤلاء.
فخلاه أهله معه.
فقال: هاتم غلاماً جلداً، ومقارع، فأتي بذلك.
فأمر به فمدد، فضربه عشر مقارع، من أشد الضرب، ثم مس مجسه، وضربه عشراً أخرى شديدة، ثم مس مجسه، وضربه عشراً أخرى. ثم مس مجسه، فقال للطب: أيكون للميت، نبض يضرب؟ فقالوا: لا.
قال: فجسوا.
فجسوه، فقالوا: قد زاد نبضه.
فضربه عشراً أخرى، فقوي النبض.
فضربه عشراً أخرى، فتحرك الميت.
فضربه عشراً أخرى، فصاح.
فقطع عنه الضرب، فجلس العليل يجس بدنه، ويتأوه، وقد ثابت قوته إليه.
فقال: ما تجد؟ فقال: أنا جائع.
فقال: أطعموه الساعة.
فجاءوه بما أكل، ورجعت قوته، وقمنا، وقد برىء.
فقال له الطب: من أين لك هذا؟ قال: كنت مسافراً في قافلة فيهم أعراب يخفروننا، فسقط منهم فارس عن فرسه، فأسكت، فقالوا: قد مات، فعمد شيخ منهم، فضربه ضرباً عظيماً كثيراً، وما رفع الضرب عنه، حتى أفاق، فعلمت أن الضرب، جلب إليه حرارة أزالت سكتته.
فقست عليه أمر هذا العليل.
مهاترة بين رجلين من الخاصة
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد الأزدي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كنت، وأنا حدث، أوقع بين يدي، أبي محمد دلويه، وهو، إذ ذاك، يكتب للمؤتمن سلامة - أخي نجح الطولوني - حاجب القاهر.

فجاءه يوماً أبو علي الحسين بن القاسم بن عبيد الله، وأبو جعفر الكرخي مسلمين، فحبسهما للأنس، وأجلست في دست، في صدر قبة كانت له، وجلس دونهما على مطرح، وفرش في بيت إلى جانب القبة، له باب إليها، واجلس فيه ابنه، وأجلسني معه، وكأنه رفع الرجلين عن معاشرتهما لنا، ونحن أحداث، وأراد بذلك سماع كلامهما، والأنس بسماع الغناء.
وكان إلى جانب القبة، بيت آخر، فأجلس الغناء فيه، ومدت ستارة على بابه.
وأخذوا في الشراب، ونحن نسمع الغناء، وما يجري من كلامهم، ولا نرفع أصواتنا بالكلام، لئلا يسمعوا ذلك.
فلما توسطوا الشراب، أحضر باكورة، فقبلها، ثم أقبل عليهما، وقال: الإنصاف أن أقسمها أثلاثاً، ولكني قد وفرت قسمي عليكما يا سيدي، فاقتسماها أنتما.
فأخذها الحسين بن القاسم، فقال: يا سيدي، يا أبا جعفر، هذه تحب أن آخذ أنا ثلثيها، وأعطيك ثلثها؟ فقال الكرخي: فعلام يا سيدي؟ فقال: لأنك، أنت وأخوك، ولدتما توأماً، فأنت نصف توأم، وأنا تام لأني ولدت وحدي، ولو كان أخوك حاضراً، لكان لي ولك وله أثلاثاً، ومع غيبته، فأنت لا تستحق أكثر من الثلث.
فقال له أبو جعفر: ما أعجب هذا، أنت رجل كان جدك نصرانياً، يعتقد أن الله ثالث ثلاثة، ونشأ أبوك فصار ثنوياً، وترك مرتبة، ونشأت أنت فكان القياس أن تترك مرتبة واحدة أخرى، ولكنك تركت مرتبتين، فنشأت ملحداً، لا تعتقد شيئاً أصلاً، ولم نعيرك بذلك، تعيرنا أنت بالتوأم، ولا ذنب لنا فيه، وما هو عار على الحقيقة.
فغضب الحسين بن القاسم، وابتدر ليجيب.
فقام دلويه، وقال: الطلاق ثلاثاً، لازم لي، وكل ما أملكه صدقة، إن أجبت يا سيدي بشيء، ولا تكلمت أنت يا سيدي، يا أبا جعفر بشيء، فإن هذا يخرج الآن عن المزاح إلى العربدة، والأحقاد، والوحشة التي تبقى، وقدركما يرتفع عن هذا.
قال: فسكتا ساعة واجمين، ولم يزل أبو محمد، يداريهما، ويبسطهما، ويستعطف كل واحد منهما لصاحبه، حتى اصطلحا.

ابن سكرة الهاشمي يهجو
القاضي ابن أبي الشوارب
أنشدني محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي، وهو من ولد عبد الله بن علي بن المهدي، المعروف بابن ريطة، غلب عليه اسم أمه، كما غلب على إبراهيم بن المهدي، اسم أمه شكلة، يهجو أبا العباس بن أبي الشوارب، وهو من ولد خالد بن أسيد الأموي، أخي عباد بن أسيد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، لما تقلد قضاء القضاة، وكانت العامة تلقبه بحدندل:
خلعت على حدندل من مديحي ... قميصاً لا اكتسى رجل كساه
على نفسي دعوت لأن جهلي ... دعاني أن شرهت إلى نداه
وكيف رجوت جوداً من عدوي ... ولم أغسل حسامي من دماه
من مختار شعر أبي فراس
لأبي فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون العدوي التغلبي، قصيدة أولها:
وقوفك في الديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعار
ويقول فيها:
وطال الليل بي ولرب دهر ... نعمت به لياليه قصار
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجل وأقداحي الكبار
عشقت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار
إذا انحسر الظلام امتد آل ... كأنا دره وهو البحار
يموج على النواظر فهو ماء ... ويلفح بالهواجر فهو نار
فكم بلد شتتناهن فيه ... ضحى وعلى منابره المغار
وكن إذا أغرن على ديار ... رجعن ومن طرائدها الدمار
وكم ملك نزعنا الملك منه ... وجبار بها دمه جبار
وله قصيدة أولها:
عذيري من طوالع في عذاري
يقول فيها:
أرى نفسي تطالبني بأمر ... قليل دون غايته اصطباري
وما يغنيك من همم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار
وقيل لي انتظر زمناً ومن لي ... بأن الموت ينتظر انتظاري
للشاعر الببغاء يصف شرابا
ً
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، المعروف بالببغاء، الكاتب، لنفسه، يصف شراباً في قدح أبيض، أبياتاً ثابتة في ديوانه، اختصرت منها قوله:
بالقفص للقصف منزل كثب ... ما للتصابي في غيره أرب

دارت نجوم الكؤوس في فلك ... منه له من فتوتي قطب
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن لم يغب ووهم ولو ص ... ح وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... ر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأدوار والنخب
فالراح بدر والجام هالته ... والأفق كفي والأنجم الحبب

زمان الهوى ألذ زمان
وأنشدني لنفسه مقطوعة:
فليالي الصبا أسر ليال ... وزمان الهوى ألذ زمان
وأسر البلاد ما حمد السا ... كن فيها خلائق الجيران
مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد
حدثني بعض المتطببين، قال: حدثنا أبو منصور بن مارية، كاتب أبي مقاتل، صالح بن مرداس الكلابي، صاحب حلب، وكان أبو منصور من رؤساء أهل الصراة، الذين يضرب بهم المثل، في كل فن، وكان أديباً، وقد شاهدته، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: أخبرني أحد شيوخنا، قال: كان بعض أهلنا قد استسقى، وأيس من الحياة، فحمل إلى بغداد، فشوور الطب فيه، فوصفوا له أدوية كثاراً، فعرفوا أنه قد تناولها بأسرها، فلم تنجع، فأيسوا منه، وقالوا: لا حيلة لنا في برئه، وهذا تالف.
فسمع العليل ذلك، فقال لمن كان معه: دعوني الآن أتزود من الدنيا، وآكل ما أشتهي، ولا تقتلوني بالحمية قبل أجلي.
فقالوا: كل ما تريد.
فكان يجلس على دكان باب الدار التي نزلها ببغداد، فمهما رآه يجتاز على الطريق، اشتراه، وأكله.
فمر به رجل يبيع الجراد مطبوخاً، فأجلسه، واشترى منه عشرة أرطال، وأكلها بأسرها.
فلما كان بعد ساعة من أكله، انحل طبعه، وتواتر قيامه، حتى قام في ثلاثة أيام أكثر من ثلثمائة مجلس، وضعف، وأيس منه.
ثم انقطع القيام، وقد زال كل ما كلن في جوفه، وأنابت إليه قوته، وبرأ.
فخرج برجليه، في اليوم الخامس، يتصرف في حوائجه، فرآه أحد الطب، وعجب من أمره، وسأله عن الخبر، فعرفه.
فقال: ليس من شأن الجراد، أن يفعل هذا الفعل، ولا بد أن يكون في الجراد الذي فعله، خاصية، فأحب أن تدلني على بائع الجراد.
قال: فما زالوا في طلبه، حتى اجتاز بالباب، دفعة ثانية، ورآه الطبيب، فقال: ممن اشتريت هذا الجراد؟.
فقال: ما اشتريته، أنا أصيده، وأجمع منه شيئاً كثيراً، وأطبخه على الأيام، وأبيعه.
فقال: من أين تصطاده؟ قال: فذكر قرية على فراسخ يسيرة من بغداد.
فقال له الطبيب: أعطيك دنانير، وتدع شغلك، وتجيء معي إلى الموضع الذي اصطدت منه الجراد.
قال: نعم.
فخرجا، وعاد الطبيب من غد، ومعه من الجراد شيء، وحشيشة.
قالوا له: ما هذا؟ فقال: صادفت الجراد الذي يصيده هذا الرجل، يرعى في صحراء جميع نباتها حشيشة يقال لها: مازريون، وهي من دواء الاستسقاء، وإذا دفع إلى العليل منها وزن درهم، أسهله إسهالاً يزيل الاستسقاء، ولكن لا يؤمن أن ينضبط، ولا يقف، فيقتله بالذرب، فالعلاج بها خطر جداً، وهي مذكورة في الكتب، ولفرط غررها، لا يكاد أن يصفها الطب، فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة، وأنضجتها معدته، ثم طبخ الجراد، فضعف فعلها، بطبخين اجتمعا عليها، وقصر، وتناولها هذا، وقد تعدلت بمقدار ما أبرأته، ولم تدفع طبعه دفعاً لا ينقطع، فبرأ.
مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى
حدثنا محمد بن أحمد بن طوطو الواسطي، أبو الحسين، قال: سمعت أبا علي عمر بن يحيى العلوي الكوفي، يقول: كنت في بعض حججي، في طريق مكة، فاستسقى رجل كان معنا، من أهل الكوفة، وثقل في علته.
وسل الأعراب قطاراً من القافلة، وكان العليل على جمل منه، فلما افتقد، جزعنا عليه، وعلى القطار، وكنا راجعين إلى الكوفة.
فلما كان بعد مدة، جاءنا العليل إلى الكوفة، معافى.

فسألته عن قصته، وسبب عافيته، فقال: إن الأعراب، لما سلوا القطار ساقوه إلى خيمهم، وكانت قريبة من المحجة، على فراسخ يسيرة، فأنزلوني، ورأوا صورتي، فطرحوني في آخر بيوت الحي، وتقاسموا ما كان في القطار.
وكنت أزحف، وأتصدق بين البيوت ما آكله، فأطعم، فتمنيت الموت، وسهل علي، وكنت أدعو الله تعالى، به.
فرأيتهم يوماً، وقد عادوا من ركوبهم، فأخرجوا أفاعي قد اصطادوها، وقطعوا رؤوسها وأذنابها، واشتووها، وأكلوا.
فقلت: هؤلاء يأكلون هذه الأفاعي، ولا تضرهم للعادة التي تربوا عليها، ولعلي أنا، إن أكلت شيئاً منها، تلفت، فأستريح مما أنا فيه.
فقلت لبعضهم: أطعمني من هذه الحيات، فرمى إلي بواحدة، فيها أرطال، مشوية، فأكلتها بأسرها، وأمعنت، طلباً للموت، فأخذني نوم عظيم، وانتبهت، وقد عرقت عرقاً عظيماً، واندفعت طبيعتي، فقمت في بقية يومي وليلتي، أكثر من مائتي مجلس، إلى أن سقطت طريحاً، والطبع يجري، فقلت: هذا طريقي إلى الموت، فأقبلت أتشهد، وأدعو بالمغفرة.
فلما أضاء الصبح، تأملت بطني، وإذا هي قد ضمرت جداً، وزال عنها ما كان بها، فقلت: أيش ينفعني هذا، وأنا ميت؟ فلما أضحى النهار، انقطع القيام، ووجبت الظهر، فلم أحس بقيام، وجعت، فجئت لأزحف على العادة، فوجدت نفسي خفيفاً، وقوتي صالحة، فتحاملت، وقمت، ومشيت، وطلبت منهم مأكولاً، فأطعموني، فقويت، فبت تلك الليلة الثانية معافى، ما أنكرت شيئاً من أمري.
فأقمت أياماً، إلى أن وثقت من نفسي، بأني إن مشيت نجوت، فأخذت الطريق مع بعضهم، إلى أن صرت على المحجة، ثم سلكتها منزلاً، منزلاً، إلى الكوفة مشياً.
ابن نصرويه يجيز شاعراً مدحه بثلاثة دراهم
حدثني أبو أحمد الفضل بن محمد، ابن بنت المفضل بن سلامة البصري، قال: كنت عند أبي الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه فدخل إليه شاعر غريب، ورد إلى البصرة، يعرف بالمطرف الحميري، فامتدحه بقصيدة حسنة، فأمر غلامه أن يعطيه عطية، ساره بها، فلما قام الشاعر معه، أعطاه إياها، فإذا بالشاعر، قد رجع من الدهليز، فرمى بالقرطاس، في حجر ابن نصرويه، فكان فيه ثلاثة دراهم، ثم استخف به، بكلام قبيح، وأنشده ثلاثة أبيات هجاء له باسمه، ونسبه، طيبة، ارتجلها، ورده، وترضاه، وابذل له عني مائة درهم، وأن لا يعيد في هجائي شيئاً.
فتبعته، وسعيت على أثره، حتى لحقته، وما زلت أداريه، إلى أن بذلت له المائة درهم، فقال:
لا ألبس النعماء من رجل ... ألبسته عاراً على الدهر
وانصرف، فلا أدري، الشعر له، أو لغيره.

بحث في شكوى الزمان
وحدث أبو العباس الحسين بن علي بن الفضل بن سليمان الواسطي، قال: كنت جالساً ببغداد، في سنة ثماني عشرة، عند صديق لي بباب الطاق، فتشاكينا الهم والغم، وفساد الزمان، إذ ذاك، ولو كان لنا ذاك الفساد الآن، لكان غاية الصلاح.
فقال لي: يا أبا العباس، هون عليك، فلو وقف الإنسان في هذه السوق العظيمة، وأشار بيده إلى باب الطاق، وصاح: يا مكروب، لما بقي فيها أحد، إلا قال له: لبيك.
توقيع للقاضي ابن معروف
لما تقلد الطائع لله، أمير المؤمنين، الخلافة، طالب القاضي أبا محمد، عبيد الله بن أحمد بن معروف، أن يتولى له الوزارة، فامتنع عليه من ذلك، وبذل له أن يتدبر أمره، ويقوم له بترتيب الأمور إلى أن يستكتب من يراه.
فكان يحضر دائماً، ويعينه بنفسه، ويدبر الأمور، وربما لم يكن في الدار كاتب، فيوقع بخطه في الأمور.
وأما أول يوم، فكان نظر الوزراء، فمن ذلك، أنه وقع بتوقيع نسخته: ليكتب للحسين بن موسى الهاشمي، من الحضرة بالمظالم، وتسيير الحجيج أيام المواسم، ونقابة الطالبيين من بني هاشم.
وكتب عبيد الله بن أحمد في يوم كذا من شهور كذا.
كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي
قرأت كتاباً كتبه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب، في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلثمائة عن ابن بقية، وهو إذ ذاك وزير إلى أبي المظفر حمدان بن ناصر الدولة، وهو بحلوان متقلداً لها ولطريق خراسان، وقد أنزل عياله في دار أبيالعلاء صاعد ببغداد، يسأله تفريغها، وخط أبو إسحاق نسخته، نقلتها من خطه:

كتابي أطال الله بقاء سيدي الأمير، وأدام تأييده ونعمته، يوم كذا، عن سلامة، وسيدي الأمير، أدام الله عزه، يعرف مذهبي في رعاية الحقوق التي تضعف أسبابها، ويصغر أصحابها، فما عنده فيما تناهى عندي، يزيد تأكداً ووجوباً، وتقدماً وتمهيداً، وما منزلة أبي العلاء صاعد بن ثابت، عندي، تخفى على سيدي الأمير أدام الله عزه، فأذكرها، وهو بضعة مني لا تتميز، وكاللحمة التي لا تنفصل، وليس ما تحدثه أحوال الزمان والتصرف، من شوائب تشوب، وتوائب تنوب، مغيراً للأصول، ولا قادحاً في الاعتقاد، وما كانت صورته في الوحشة التي لحقته، وأخلت منه داره، موجبة للرخصة في أن تنزل، ولو رام ذلك منها غير سيدي الأمير أدام الله عزه، لعز عليه أن يناله، وإنما سمحت له بذلك، لثقتي بطاعته لي، وعلمه بأن ذلك المنزل منزلي، وأنني أعيره وأسترده، وأتصرف فيه تصرف من يملكه، وقد قبح بي أن يكون أبو العلاء، مع أواصره الوكيدة، وملازمته لي المتصلة، ممنوعاً منه، وأسبابه منتقلين عنه، وتردد مني في ذلك، مراسلات ومكاتبات، أحمدت نتاجها، الحكاية عن الحرة - يعني امرأة حمدان - أيدها الله، في التذمم، ومعرفة الحق، وإيثار الانتقال، وأنكرت أن يقف الأمر مع هذه الحال، فالأعراض كثيرة مبذولة، وأنا أسأل سيدي الأمير أيده الله، أن يوجب ما أوجبت، ويعرف ما عرفت، ويراعيني أولاً، ثم حقوق أبي العلاء ثانياً، ويكتب إلى من ينوب عنه، بقبول ما يعرضه، والانتقال إليه، ويسلم الدار، فلو كانت له، لاستنزلته - والعياذ بالله - عن ملكها، ولم أقنع بخروجها عن اليد، فكيف إذاً، وهي مستعارة، والحكم فيها الرد، وسيدي الأمير ولي ما يراه في هذا الأمر الخاص بي، وحاشاي أن أعيد فيه قولاً أو كتاباً، أو أتجشم من أجله قصداً أو إعادة، فقد أنفذت بكتابي هذا، قاصداً يوصله أبو الفتح قرة بن دنحا، في معناه، ما يعرفه الأمير من جهته إن شاء الله.
ونسخة التوقيع بخط الوزير: أنا راغب إلى الأمير، أدام الله عزه، في هبة هذه الدار لي، ولا أقول أكثر من هذا، والسلام.

أبو العلاء صاعد يفتخر
حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: لما كثر دخولي إلى الملك عضد الدولة، ببغداد، سنة أربع وستين وثلثمائة، وكان إذا رآني، يقول لي سائلاً: يا أبا العلاء، ما أنحل جسمك؟ فلما كثر ذلك علي، عملت أبياتاً، وأنشدته إياها، وهي:
يقول مليك الأرض جسمك ناحل ... على ذاك عرضي والثناء جميل
وأحسن ما في الهندواني أنه ... نحيف رقيق الشفرتين صقيل
فإن أك معروق العظام فإنني ... نهوض بأعباء الأمور حمول
أقوم أغصان الخطوب إذا التوت ... برفقي ومثلي في الكفاة قليل
أرى الملك المنصور أنكر مضربي ... وأي حسام ليس فيه فلول
وكم لك عندي من يد وصنيعة ... أقصر عن شكري لها فتطول
ومن لفظة تسري إلي ونظرة ... عليها من الرأي الجميل دليل
إذا صح لي من حسن رأيك لمحة ... فليس لمقدور إلي سبيل
كظم الغيظ من مكارم الأخلاق
حدثني إبراهيم بن عيسى بن نصر السوسي، النصراني، الكاتب، قال: قال أبي: قام في نفسي حقد على رجل، لقبيح عاملني به، أربعين سنة، ما كافأته عليه إلى أن مات.
الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه
ويعيد إليه نعمته
حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن معروف، أخو قاضي القضاة، أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، قال: كنت بمصر، وكان بها رجل يعرف بالناظري، من تناء حلب، وقد قبض سيف الدولة ضيعته، وصادره، فهرب منه إلى كافور الإخشيدي، فأجرى عليه جراية في كل شهر، سائغة، كما كان يجري على جميع من يقصده، من الجرايات التي سماها: الراتب، وكان مالاً عظيماً، مقداره في كل شهر خمسون ألف دينار، لأرباب النعم، وأجناس الناس، وليس فيها لأحد من الجيش ولا من الحاشية، ولا من المتصرفين في الأعمال شيء.
قال: فجرى ذكر هذا الناظري، بحضرة كافور، وقيل إنه بغاء، وكثرت الحكايات عنه بحضرته، فأمر بقطع جرايته.

فرفع إليه، يشكو انقطاع المادة، ويسأل التوقيع، بإجرائه على رسمه، فأمر، فوقع على ظهر الرقعة: قد صح عندنا أنك رجل تصرف ما نجريه عليك، فيما يكره الله عز وجل، من فساد نفسك، وما نرى أن نعينك على ذلك، فالحق بحيث شئت، فلا خير لك عندنا.
قال: وخرج التوقيع إلى الرجل، فأعضل به، فعمل محضراً، وأخذ فيه خطوط خلق كثير، ممن يعرفه بالستر، وأنه ما عرف قط ببغاء، ولا صحبة الأحداث، وجعله طي رقعة إلى الأستاذ كافور، يحلف فيها بالطلاق والعتاق، والأيمان المغلظة، أنه ليس ببغاء، واحتج بالمحضر، وتركه في طي الرقعة.
وقال: إنه لم يكن يدفع إليه ما دفع، لأجل حفظ فرجه، أو هتكته، وإنما كان ذلك، لأنه منقطع، وغريب، وهارب، ومفارق نعمة، ويسأل رده إلى رسمه.
ورفع القصة إلى كافور.
قال: فلا أدري إلى أين انتهى أمره، إلا أنه صار فضيحة، وتحدث الناس بحديثه.
واتفق خروجي من مصر، عقيب ذلك، إلى حضرة سيف الدولة، بحلب، وجرت أحاديث المصريين، وكان يتشوق إلى أن يسمع حديثهم، فقلت: أمر عجب، جرى بها اتفاقاً، إنه كان بها رجل يقال له الناظري، فقصصت القصة عليه.
فاستضحك من ذلك ضحكاً عظيماً، وقال: هذا المشؤوم بلغ إلى مصر؟ قال: فقال لي محمد الأسمر، علمت أن هذا الرجل، صديقي جداً، وقد هلك، وافتقر، وفارق نعمته، فأحب أن تخاطبه في أمره، عقيب ما جرى، لأعاونك، فلعل الله أن يفرج عنه.
قال: فقلت: افعل.
قال: فأخذ يسألني عن الأمر، فأعدت عليه شرحه، فعاد يضحك.
فقلت له: أطال الله بقاء مولانا، قد سررت، وضحكت، فيجب أن يكون لذلك ثمرة، إما لي، أو للرجل الذي قد صيرته فضيحة بحلب، بما أخبرت بحديثه.
فقال: أما لك، فنعم، وأما له، فما يستحق، فإنه فعل، وصنع، وأخذ يطلق القول فيه.
قال: فقلت له: فوائدي من مولانا متصلة، ولست أحتاج مع إنعامه، ودوام إحسانه، إلى التسبب إلى الفوائد، ولكن، إن رأى أن يجعلها لهذا المفتضح المشؤوم.
قال: فقال: تنفذ إليه سفتجة بثلاثة آلاف درهم.
قال: فشكرته، والجماعة، وخاطبته بأن يأذن له بالعود إلى وطنه، ويؤمنه.
فقال: ويكتب له أمان، ويؤكد، ويؤذن له في العود إلى وطنه.
قال: فغمزني الأسمر في الاستزادة، فقلت: أطال الله بقاء مولانا، إن الثلاثة آلاف درهم، لو نفذت إليه، إلى مصر، من غير أن يؤذن له في العود، ما كفته لمن يحمله على نفسه، لأن أكثر أهل مصر بغائين، وقد صافوه في الناكة، وغلبوه باليسار، فلا يصل هو إلى شيء، إلا بالغرم الثقيل.
قال: فأعجبه ذكري لأهل مصر بذلك، فقال: كيف قلت أيها الأخ؟ فقلت: المياسير من أهل مصر، لهم العبيد العلوج، يأتونهم، لكل واحد منهم عدة غلمان، والمتوسطين يدعون العلوق والزنوج المشهورين بكبر الأيور، فينفقون أموالهم عليهم، ولا يصل الفقير والمتجمل إليهم.
ولقد بلغني آنفاً، وأنا بمصر، أن رجلاً من الفقراء، اشتد عليه حكاكه، فطلب من يأتيه، فلم يقدر عليه، فخرج إلى الموضع الفلاني - قرية ذكرها، قريبة من مصر - فأقام بها، فكان إذا اجتاز بها المجتازون، استغوى منهم من يمتاز بهذا الحال، فحمله على نفسه، وكان يعيش بالمجتاز بعد المجتاز، ويتمكن من إرضائه بما لا يمكن بمصر، فعاش بذلك برهة، حتى جاءه يوماً بغاء آخر، فسكن معه في الموضع، فكان إذا جاء الغلام الذي يصلح لهذه الحال، تنافسا عليه، فأفسده على الأول أمره، فجاء إلى الثاني، فقال له: بيني وبينك، شيخنا ابن الأعجمي الكاتب، رئيس البغائين فجذبه إلى مصر، واحتكما إليه.
فقال: إني كنت لما اشتد بي أمري الذي تعرفه، ومنعني فقري من اتخاذ الناكة بمصر، عدلت إلى الموضع الفلاني، فعملت كذا، وقص عليه القصة، فجاء هذا، وصنع، وقص عليه القصة، وشرح له أمره، فإن رأيت أن تحكم بيني وبينه، فاحكم.
فحكم بينهما ابن الأعجمي، ومنع الثاني من المقام في الناحية، وقال: ليس لك أن تفسد عليه عمله، وناحيته، اطلب لنفسك موضعاً آخر.
فيمكن الناظري - أيد الله مولانا الأمير سيف الدولة - أن يستشفي بثلاثة آلاف درهم، أمرت له بها، في بلد هذه عزة الناكة فيه، وكثرة البغائين؟ . هذا لو كان مقيماً، فكيف وقد أنعمت عليه بالمسير، ويحتاج إلى بغال يركبها في الطريق بأجرة، وديون عليه يقضيها، ومؤن.

قال: فضحك ضحكاً شديداً، من حكاية البغائين، وحكم ابن الأعجمي بينهما، وكان هذا من مشهوري كتاب مصر، فقال: اجعلوها خمسة آلاف درهم.
قال: فقلت له، أنا والجماعة: فيرد أطال الله بقاء الأمير مولانا، بخمسة آلاف درهم، قد أنفقها في الطريق، إلى سوء المنقلب؟ .
قال: وكان يعجبه أن يماكس، فيجود مع المسألة، والدخول عليه مدخل المزاح في ذلك، والطيبة، واقتضاء الغرماء بعضهم لبعض، وما أشبه هذا.
قال: فقال: قد طولتم علي، في أمر هذا الفاعل الصانع، أطلقوا له عن ضيعته بأسرها، ووقعوا له بذلك إلى الديوان، وعن مستغله، وانقلوا من في داره عنها، وتقدموا بأن تفرش أحسن من الفرش الذي كان نهب له منها، لما سخط عليه.
قال: فأكبت الجماعة، تقبل يده ورجله، وتحلف أنها ما رأت مثل هذا الكرم قط، هذا، مع سوء الرأي فيه، وسوء حديثه، ويقولون: ما على الأرض بغاء أبرك على صاحبه منه.
فضحك، ونفذت الكتب، والتوقيعات، بما رسمه.
فلما كان بعد مدة، جاء الرجل، وعاد إلى نعمته، وخلع عليه سيف الدولة، ونظر في حوائجه.

سخاء الأمير سيف الدولة
حدثنا أبو القاسم بن معروف، قال: دخلت إلى حلب، إلى أبي محمد الصلحي الكاتب، وأبي الحسن المغربي، أسلم عليهما، وكانا في خدمة سيف الدولة، وهما في دار واحدة نازلان لضيق الدور، وكان وكيل كل واحد منهما، يبكر يوماً، فيقيم لهما، ولغلمانهما، ما يحتاج إليه، للمادة والوظائف، فإذا كان من الغد، بكر الآخر، فأقام الوظائف، لهما، ولغلمانهما، على هذا.
قال: فلما استقررت عندهما، دخل إليهما رجل ضرير، فسلم، وجلس، ثم قال: إن لي بالأمير سيف الدولة، حرمة قديمة، وجواراً، واختصاصاً، أيام مقامه بالموصل، وقد قصدته، ومعي رقعة، فإن رأيتما أن توصلاها إليه، وأخرج رقعة عظيمة، هائلة جداً، فلما رأياها، قالا له: هذه عظيمة ولا ينشط الأمير أن يقرأها، فغيرها، واختصرها، وعد في وقت آخر، فإنا نأخذها، ونوصلها إليه.
فقال: الذي أحب، أن تتفضلا بعرض هذه الرقعة.
فدفعاه عن ذلك، فقام كالآيس، يجر رجله، منكسر القلب، فداخلتني عليه رقة.
وركبت، فدخلت على سيف الدولة، وهو جالس، وكان رسمه، أن لا يصل إليه بتة، أحد، إلا برقعة، يكتبها الحاجب باسم من حضر، واحداً كان أو أكثر، فإذا قرأ اسم الرجل، فإن شاء دعا به، وإن شاء أمر بصرفه.
فلما استقررت، عرض عليه الحاجب، رقعة، فيها: فلان بن فلان الموصلي، الضرير.
فقال: وهذا يعيش؟ أين هو؟ فقال: بالباب.
قال: يدخل، فما أظنه - مع ما أعرفه من زهده في الطلب - قصدنا إلا لجهد حقه.
قال: فدخل، فإذا الشيخ الذي رأيته عند الصلحي والمغربي.
فلما قرب منه، استدناه، وبش به، وقال: يا هذا، ما سمعت بأنا في الدنيا؟ ما علمت مكاننا على وجه الأرض؟ ما جاز لك أن تزورنا، مع ما بيننا من الحرمة الأكيدة، والسبب الوكيد؟ لقد أسأت إلى نفسك، وأسأت الظن بنا.
قال: فجعل الرجل، يدعو له، ويشكره، ويعتذر، فقربه، وأجلسه.
فجلس ساعة، ثم قام، فسلم إليه الرقعة بعينها، فأخذها، وقرأها إلى آخرها، وقال: يا بونس بن بابا - وكان خازنه - فحضر، فأوعز إليه بشيء، ثم استدعى حاجب الكسوة، فساره بشيء، واستدعى رئيس الإصطبل، فأمره بشيء.
وانصرفت الجماعة، وجاء ابن بابا، فوضع بين يديه، صرتين عظيمتين، فيهما دنانير تزيد على خمسمائة دينار.
وجاء حاجب الكسوة، بثياب كثيرة صحاح، من ثياب الشتاء والصيف، منثرة بطيب كثير، وصياغات، من ربع، ومرآة، وما جرى مجرى ذلك.
وجاء عريف الفراشين ببسط، وزلالي، وثياب ديباج للفرش، وسبنيات، وأشياء كثيرة من أنواع الفرش بألوف الدنانير، فصار ذلك كالتل بين يديه.
وكان يعجبه، إذا أمر لإنسان بشيء، أن يحضره إلى حضرته، بحيث يراه، ثم يعطيه لمن وهبه له.
قال: فأخرج ذلك، والضرير لا يعلم، وعنده، أنه قد تغافل عنه، فهو في الريب وأخذ لا يسار الضرير، ولا يقول له شيئاً.
وجاء صاحب الكراع، ومعه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، بمركب ثقيل حسن.
وجاء الخادم، ومعه خادم بثياب جدد، فسلمت البغلة إليه، فأمسكها في الميدان أسفل الدكة التي عليها سيف الدولة.
ثم قال للخادم: كم جرايتك؟ قال: عشرون ديناراً في الشهر.

قال: قد جعلتها لك ثلاثين دينارأً، وخدمتك لهذا الشيخ خدمة لنا، فلا تقصر فيها ولا ينكسر قلبك، وأحسن خدمته، ادفعوا له جرايته لسنة، فدفعت في الحال إليه.
ثم قال: فرغوا الدار الفلانية. فتقدم بتفريغها.
ثم تقدم: أن يحمل إلى عياله، زورق من تل فافان، إلى الموصل، فيه كران حنطة، وكر شعير، ويملأ ببقولة الشام، ومآكلها.
ففعل ذلك كله.
ثم استدعى أبا إسحاق بن شهرام، المعروف بابن ظلوم المغنية، وكان يكتب له، ويترسل، إلى ملك الروم، ويبعثه في صغير أموره، وكبيرها، فساره بشيء.
فأخذ أبو إسحاق، الشيخ، وجعل يخاطبه من الأمير سيف الدولة، باعتذار طويل، ويقول: إنك جئتنا في وقت، هو آخر السنة، وقد تقسمت أموالنا الحقوق، والزوار، والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أن نواسيهم، ولولا ذلك، لأوفينا على أملك، وقد أمرنا لك بكذا . . .
قال: وجعل ابن شهرام، يقرأ عليه من فهرست قد عمل، ثبتاً للمجموع الذي أمر له به، من صنوف الثياب والفرش، وغير ذلك.
قال: فقلت للأمير سيف الدولة: يا مولانا، لا تورد على هذا الشيخ، هذه الجائزة، جملة، عقب اليأس العظيم الذي قد لحقه، فتنشق مرارته.
قال: فلما استوفى الشيخ الكلام، بكى بكاء شديداً، وقال: أيها الأمير قد والله زدت على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حقي، وما هو أعظم من حقي، وما أحسن أن أشكرك، ولكن الله يتولى عني شكرك، ومجازاتك، فتمن علي بتقبيل يدك، فإنه أفضل من كل عطية.
فأذن له في ذلك، فدنا الشيخ، فقبل يده دفعات، فجذبه إليه سيف الدولة، وشاوره بشيء، فضحك الشيخ وقال: إي والله، إي والله، أيها الأمير.
قال: فاستدعى خادم حرمه، وساره بشيء.
وانصرف الشيخ إلى الدار التي أخليت له، وقال له: أقم فيها، إلى أن أنظر في أمرك، وتخرج إلى عيالك.
قال: فسألت عما ساره خادم حرمه، فقال: أخرج إليه جارية من وصائف أخته، في نهاية الحسن، بثياب، وزي، تزيد قيمتها على عشرة آلاف درهم. فحملت إليه.
قال: فقمت قائماً، وقلت: والله، أيها الأمير، ما سمع بهذا الفعل، عن البرامكة ولا غيرها.
فقال: دعني من هذا، ما معنى قولك لأبي إسحاق بن شهرام، لا تورد عليه هذا، عقيب اليأس، فتنشق مرارته؟ فقلت: كنت منذ ساعة، عند أبي محمد الصلحي، وأبي الحسن المغربي، فجرى كذا وكذا، وقصصت عليه القصة، وانصرف هذا الشيخ، أخزى منصرف، ثم جاء بنفسه، فعامله مولانا، بمثل هذا الفعل العظيم، فخفت أن يعرفه فجأة، فتنشق مرارته.
فقال: هاتم الساعة، الصلحي، والمغربي، فجاء أحدهما قبل الآخر، فجلس، ولم يخاطبه حتى حضر الآخر، ثم أقبل عليهما، فقال: ويحكما، أخبراني، ألم أحسن إليكما، وأصطنعكما، وأنوه بكما، وأسن أرزاقكما، وأعل مرتبتكما، وأخفف الخدمة عليكما، وأتناه بجهدي، في قضاء حقوقكما؟ فأخذا يشكرانه.
فقال: ما أريد هذا، إما أن تقولا: نعم، أو لا.
فقالا: بلى، والله، وزيادة.
قال: فمن حقي عليكما، ومكافاة هذا، وشكره، أن تقطعا عني رجاء الناس؛ وتصدانهم عن أملي، وتؤيسانهم من بري، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاع المؤملين، والبخل على المستحقين؟ . ما كان عليكما، لو أخذتما رقعة الرجل، فإن أجرى الله على يدي خيراً، كنتما فيه شريكين، وإن ضجرت، كان الضجر إلي منسوباً، وأنتما منه بريئان، وقد قضيتما حق قصد الرجل لكما، فلا حقه قضيتما، ولا حق الله عز وجل، فيما أخذه على عباده من بذل الجاه، ولا حق إنعامي.
قال: وأسرف في لومهما، وتوبيخهما، حتى كأنهما قد جنيا أعظم جناية.
قال: فأقبلا يعتذران، ويحلفان أنهما ما أرادا إلا التخفيف عنه بقراءة شيء طويل، وأرادا أن يخفف الرجل الرقعة، فتخف قراءتها، وتكون أنجع لحاجته، وإنهما ما قدرا أنه قد أيس، وانصرف مغموماً، ولو علما بذلك، لقصداه، حتى يرتجعا رقعته، ويوصلانها.
قال: فأقبلت الجماعة تدعو له، وتحلف، أن هذا التأديب، والتفضل، والنية في الجود والكرم، أحسن من الفعل الذي عمله مع الرجل، على عظم حسنه، وأنه ليس على وجه الأرض من يعمله غيرك.

الوزير حامد بن العباس يعذب
المحسن بن الفرات حدثنا أبو الحسين الحارثي النهرسابسي، قال: حدثني شيخ من شيوخنا:

إن أبا جعفر بن الشلمغاني، كان في نهاية الاختصاص بحامد بن العباس، فلما وزر اجتذبه معه إلى بغداد، وكان يدخله في آرائه، ويشاوره في مهماته، ويوسطه في كبار الأمور.
قال: فلما جرى من حامد على المحسن بن الفرات، تلك القضية الشديدة، كتب إلى ابن الشلمغاني، يسأله، مسألة حامد الرفق به، والتقدم إلى المستخرج بالتوقف عن ضربه، وإذلاله، ليؤدي على مهل.
فتكفل ابن الشلمغاني بأمره، وخاطب حامد بن العباس في ذلك، فرده، فعاوده في مجلس حافل، ولج حامد، ولج ابن الشلمغاني، إلى أن قال حامد: هاتم المحسن، ابن كذا وكذا، وهاتم الغلمان والمقارع.
قال: فقبل ابن الشلمغاني يده، فلم يقنع، وحلف أنه لا بد أن يصفعه، ويضربه في ذلك المجلس، وتوجه الغلمان ليجيئوا به.
فلما عادوا، ومعهم المحسن، قام ابن الشلمغاني، من قبل أن يدخل المحسن، وانصرف، فاستشاط حامد، وجن، وكاد أن يقبض على ابن الشلمغاني، ويوقع به، ثم استرجع، وأخرج غيظه على المحسن، وصفعه الصفع المشهور، الذي كان سبب قتل المحسن له، لما ولي أبوه الوزارة الثالثة.
قال: ونهض ابن الشلمغاني، فدخل إلى دار حجبة حامد، مغموماً، وأخذ يشكو ما يجده إلى الحاجب، ويتشاكيان، ويقول: هذا الرجل يريد أن يقتلنا كلنا بعده، وأن لا يبقي لنا باقية، يا قوم، أي شيء يعمل بنفسه؟ قال: فهو كذلك، إذ دعا حامد بحاجبه، وقد قام عن مجلسه، ورد حامد المحسن إلى محبسه بعد ما جرى، وقال للحاجب: ويحك، أين ابن الشلمغاني؟ فقال: عندي في الحجرة.
قال: فما قال؟ قال: لم يقل شيئاً.
فأمسك كالخجل، ثم قال: هاته.
فلما جاء، قال: يا أبا جعفر، من حق مودتي لك، أن تتوافى لأعدائي، وتقوم عن مجلسي، إذا رأيتني أوقع بأعدائي؟ فقال: ننصف؟ أو نقول: صدق الأمير؟ قال: أسمع وأنصف.
قال: أيها الوزير، هذا رجل سألتك فيه، فاعمل أنه كان بقالاً، لابن وزير أنت تعلم حالته، وقديم رياسته، فما كان يحسن أن تردني فيه، ولا إن رددتني، أن تسومني الجلوس، وحضور عذاب من شفعت فيه، ثم أنت تعلم، أن الأيام دول، وأن لهذا الفعل عاقبة، يكفيك الله إياها، فأي شيء يضرك من سلامة مهجتي، في حال العافية، وإفلات نعمتي من شر هؤلاء؟ وأن يقولوا غداً: دهننا، ولم يشفع لنا، ولو كان نصحنا ما خالفه الوزير، مع ما بينهما، وما قعد ليشاهد صفعنا، إلا تشفياً منا، وأي شيء أحسن بك من أن تنسب حاشيتك، ومن اخترته لمودتك وأنسك، إلى الخير، وبعدهم من الشر، فيقال: إنه لو لم يكن خيراً، لما استصحب الأخيار، وإنما يحمله على ما فعله، الغضب، والحاجة إلى المال، وإلا فالخير طبعه، والغالب عليه، ولا يقال: إنه شرير جمع الأشرار حواليه، واعلم أني ما قمت من مجلسك، إلا وقد وضعت في نفسي، أنك تنكبني، وعلمت أني قد أسأت أدبي، وأني غير آمن من عجلتك في نكبتي، ولكن قلت: أكون على حق، ومتمسكاً بحجة وحزم، وإن جنى علي، وإن سلمت، فبفضل الله، وإن هلكت فالله يخلصني.
قال: فخجل حامد، واعتذر إليه وقال: اخرج الآن، وخذ بيد المحسن، وتوسط أمره، وخفف محنته.

من شعر المهلبي الوزير
وجدت بخط المهلبي الوزير، كتاباً إلى أبي سلمة، أهداه إلي، وقال: هذا كتابه إلي، وهو بالخط الذي أعرفه، وفيه لنفسه:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الأفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه رب المال بالبذل
وحفظته حفظ الأسير إذا ... ورد الأمان له من القتل
ووجدت بخط أبي محمد، كتاباً، إلى أبي القاسم بن بلبل، كتب إليه به، وهو صغير الحال جداً، وفيه:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى بالقاء يبدو الصباح
ذاك إن تم لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح
وله إلى غيره:
جاد لي بالعتاق من صرف دهري ... بكتاب يسرني أو رسول
فعلى قدر ما تكلف من وص ... لي لعلمي بقطعه للوصول
أشكر البذل من جواد وأزدا ... د إذا البذل جاءني من بخيل
وله أيضاً:
أمثلي يا أخي وشقيق روحي ... يفارق عهده عند الفراق
ويسلو سلوة من بعد بعد ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
وأقسم بالعناق، وتلك أوفى ... وأشفي من يميني بالعتاق

لقد ألصقت بي ظناً ظنيناً ... تجافى جانباه عن التصاق
وله أيضاً:
فديت أخاً يواصلني بكتب ... أسر من البشارة حين تأتي
أخ لم يرض لي بالوصل حتى ... حباني بالبقية من حياتي
وله أيضاً:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فيه لقلبي من حياتي مورد
فرأيته كالدر نضد عقده ... في كل فصل منه، فصل مفرد

قال الخليفة المقتدر ما ظننت
أن في الدنيا من يأكل طعاماً بلا حلوى بعده
حدثنا أبو منصور القشوري، وكان من الجند المولدين، قال: كنت أخدم وأنا حدث، في دار نصر القشوري، المرسومة بالحجبة من دار المقتدر بالله.
فركب المقتدر بالله يوماً، على غفلة، وعبر إلى بستان الخلافة، المعروف بالزبيدية، وأنا مشاهد لذلك، في نفر من الخدم والغلمان، وتشاغل أصحاب الموائد، والطباخون، بحمل الآلات، والطعام، وتعبيتها في الجون، فانفلت، وأعجل هو في طلب الطعام، فقيل له: لم يحمل بعد.
فقال: انظروا ما كان.
فخرج الخدم، محتارين، ليس يجسروا يعودوا، فيقولوا: ما جا شي، وهم يتشاورون فيما يفعلونه.
فسمعهم جعفر، ملاح طيار المقتدر، الرئيس على الملاحين الذين برسم الخدمة، فنادى عليهم، وقال: معي طعام.
قال: فهاتم ما معه.
فأخرج من تحت الطيار، جونة مليحة، خيازر، لطيفة، فيها جدي بارد، وسكباج مبرد، وبزماورد، وإدام، وقطعة مالح ممقور طيبة، وأرغفة سميذ جيدة، وكل ذلك نظيف، وإذا هي جونة تعمل له في منزله، في كل يوم، وتحمل إليه، فيأكلها في موضعه في الطيار، ويلازم الخدمة.
فلما حملت إلى المقتدر، استنظفها، وأكل منها، واستطاب المالح، والإدام، فكان أكثر أكله منه.
ولحقته الأطعمة من مطبخه، فقال: ما آكل اليوم، إلا من طعام جعفر الملاح، فأتم أكله منه، وأمر بتفريق الطعام على من حضر.
ثم قال: قولوا له: هات الحلوى.
فقال: نحن لا نعرف الحلوى.
فقال المقتدر: ما ظننت أن في الدنيا من يأكل طعاماً، بلا حلوى بعده.
فقال الملاح: حلوانا التمر، والكسب، فإن تنشط له أحضرته.
قال: لا، هذا حلو صعب، لا أطيقه، فأحضروا من حلوانا.
فأحضرت عدة جامات، فأكل، وجلس للشرب.
ثم قال لصاحب المائدة: اعمل في كل يوم جونة، تنفق عليها، ما بين عشرة دنانير، إلى مائتي درهم، وسلمها إلى جعفر الملاك، تكون برسم الطيار أبداً، فإن ركبت يوماً على غفلة، كما ركبت اليوم، كانت معدة، وإن حان المغرب، ولم أركب، كانت لجعفر.
فعملت، إلى أن قتل المقتدر، وكان جعفر يأخذها، وربما حاسب عليها الأيام، وأخذها دراهم.
وما ركب المقتدر بعدها، على غفلة، ولا احتاج إليها.
الخليفة المعتضد يأمر بصنع جزورية
ويشبه هذا، ما بلغني عن المعتضد، أنه طلب يوماً لوناً من طعام، فقيل له: ما عمل اليوم.
فأنكر ذلك، وقال: يجب أن لا يخلو المطبخ من كل شيء، حتى إذا طلب لم يتعذر.
ووقع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون، إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يصلح، وينفق عليه دراهم كثيرة، ولا يحضر المائدة، توقعاً أن يطلبه، فيقدم عند الطلب، كما رسم.
فمضى على ذلك سنة، ولم يطلبه.
ثم رفعت إليه حسبة، وكان يقف بنفسه على حسباناته، فرأى ما أنفق على ذلك اللون في طول السنة، فاستهوله، وقال: أستغفر الله، ينفق لي من مال المسلمين، على لون لم آكله، هذا كله، إن هذا لعين السرف، اقطعوا عمله، ولا تقع معاودة لمثل هذا، في هذا ولا في غيره.
وقالوا: كان اللون جزورية، فكان يذبح له الطباخ في كل يوم قلوصاً، فلذلك عظمت النفقة.
وقالوا: بقرية، فكان يذبح في كل يوم عجلاً.
وقالوا: مضيرة بفراريج، كل ذلك سمعته.
اللهم أنقذنا من ذل الطمع
حدثنا أبو إسحاق، إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد، الشاهد، المعروف بالطبري، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن صالح الأبهري، الفقيه المالكي، وهو باق إلى الآن، ومحله مشهور في الورع والعلم، قال: رأيت في المنام، رجلاً من الزهاد، ذكره لي، وكأني أطلبه، فخرج علي، من بين نخل، وعليه فوطتان، متزر بإحداهما، متشح بالأخرى، كأنه سندي.
فقلت له: قل لي شيئاً، أو عظني بشيء.
فقال: قل: اللهم قصر أملي، وحسن عملي، واستنقذني من ذل الطمع.
آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبدا
ً

وحدثنا، قال: حدثنا جعفر الخلدي، قال: حدثني الخواص الصوفي، قال: ركبت في البحر، مع جماعة من الصوفية، فلما أوغلنا فيه كسر بنا، وركبنا خشباً من خشب المركب، ونجا منا جماعة، فوقعنا إلى ساحل لا ندري أين هو، ولا ما هو، فأقمنا فيه أياماً، لا نجد ما نقتاته، وأحسسنا بالهلاك.
فاجتمعنا، وقال بعضنا لبعض: تعالوا حتى نجعل لله عز وجل، على أنفسنا، إن هو خلصنا من هذا المكان، وأحياناً، أن ندع له شيئاً.
فقال بعضنا: لا أفطر الدهر.
وقال بعضنا: أصلي كل يوم كذا وكذا ركعة.
وقال بعضنا: أدع الكذب.
إلى أن قال كل واحد من الجماعة شيئاً، وقالوا لي: ما تقول أنت؟ فقلت: لا آكل لحم فيل أبداً.
فقالوا: ما هذا الهزل في مثل هذا الموضع؟ فقلت: والله، ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم، أعرض على نفسي شيئاً، أدعه لله عز وجل، فلا تطاوعني نفسي، إلى غير هذا الذي لفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.
فقالوا: لعل هذا أمراً.
وتفرقنا بعد ساعة، نطوف تلك الأرض، نطلب شيئاً للأكل، فوقعنا على فرخ فيل، في نهاية السمن، فأخذه أصحابنا، واحتالوا فيه، حتى ذبحوه، وشووه.
وقالوا: تقدم، فكل.
فقلت: منذ ساعة، تركته لله عز وجل، ولعل ذلك الذي جرى على لساني من ذكره، إنما هو سبب موتي، لأني لم آكل منذ أيام شيئاً، ولا أطمع في شيء آخر آكله، وما يراني الله أنقض عهده، فكلوا، واعتزلتهم.
فأكلوا، وشبعوا، وعاشوا، وأقبل الليل، فتفرقوا في مواضعهم التي كانوا يبيتون فيها، وأويت إلى أصل شجرة، كنت أبيت عندها.
فلم يكن إلا ساعة، وإذا بفيل، أقبل من الموضع الذي استخرجنا منه الفرخ، وهو ينعر، والصحراء قد امتلأت بنعيره، وشدة وطأته، وهو يطلبنا.
فقال بعضنا لبعض: قد حضر الأجل، فاستسلموا، وطرحوا أنفسهم إلى الأرض، على وجوههم.
فجاء الفيل، وجعل يقصد واحداً واحداً، فيشمه من أول جسده، إلى آخره، فإذا لم يبق منه موضع إلا شمه، شال إحدى قوائمه، فوضعها على الرجل، حتى يفسخه، فإذا علم أنه قد تلف، شال قائمته، وقصد الآخر، ففعل به، مثل فعله بالأول.
وظل على هذا، إلى أن لم يبق غيري، وأنا جالس منتصب، أشاهد ما يجري، وأدعو وأستغفر، ما طرحت نفسي، ولا هربت، إلى أن قصدني، فحين قرب مني، طرحت نفسي على ظهري، فجاء حتى تشممني من سائر أعضائي، أو أكثرها، كما فعل بأصحابي، ثم أعاد تشممي مرتين، أو ثلاثاً، ولم يكن فعل ذلك بهم، ثم لف خرطومه علي، وشالني في الهواء، فقلت: هذه قتلة أخرى، يريد أن يقتلني بها، فما نحى خرطومه عني، حتى جعلني فوق ظهره، فانتصبت جالساً، وحفظت نفسي، وحمدت الله سبحانه على تأخر القتل، وجعلت أعجب مرة، وأتوقع القتل أخرى، والفيل يهرول، ويسرع، إلى أن أضاء الفجر، فوقف، وأصعد خرطومه إلي، فقلت: حضر الأجل، فلفه علي، وأنزلني على رفق إلى الأرض، وتركني عليها، وجعل يسعى في الطريق التي جاء منها، وأنا لا أصدق.
فلما بعد عني، حتى لم أره، أقبلت أدعو وأصلي، وتأملت موضعي، وإذا أنا على محجة، فمشيت عليها نحو فرسخين، فإذا بلد عظيم، قد لاح لي، فقصدته، ودخلته، فإذا هو بلد من بلدان الهند العظيم، وذكر اسمه.
قال: فعجب أهله مني، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها، فزعموا أن الفيل، قد سار في هذه الليلة الواحدة، مسيرة أيام.
وتسببت إلى الخروج من عندهم، والنقلة من بلد إلى بلد، حتى حصلت في بلدي سالماً.

يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه
قال: حدثني جعفر، قال: ودعت في بعض حجاتي، المزين الكبير الصوفي، وقلت له: زودني شيئاً.
فقال: إن ضاع منك شيء، وأردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا " ، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك الإنسان.
طلسم لإزالة الغم
قال: فجئت إلى الكتاني الكبير الصوفي، فودعته، وقلت له: زودني شيئاً، فأعطاني فصاً عليه نقش كأنه طلسم، وقال: إذا اغتممت فانظر إلى هذا، فإن غمك يزول.
قال: وانصرفت، فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء، إلا استجيبت، ولا رأيت الفص، وقد اغتممت، إلا وزال غمي.

فأنا ذات يوم أعبر، قد توجهت إلى الجانب الشرقي من بغداد، حتى هاجت ريح عظيمة، وأنا في السميرية، والفص في جيبي، فأخرجته لأنظر إليه، فلا أدري كيف ذهب مني، في الماء، أو في السفينة، أو في ثيابي.
فاغتممت غماً عظيماً، فدعوت الله تعالى، وعبرت، وما زلت أدعو الله تعالى بها يومي وليلتي، ومن غد، وأياماً.
فلما كان بعد ذلك، أخرجت صندوقاً فيه ثيابي، لألبس شيئاً منها، ففرغت الصندوق، فإذا أنا بالفص، في أسفل الصندوق.
فأخذته، وشكرت الله عز وجل.

رقية تنفع من لسعة العقرب
وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول التنوخي، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: كنت بحضرة المعتضد، فجاء رجل يصيح بالباب: نصيحة، فأخبر بذلك، فقال: اخرجوا إليه، وقولوا له يذكرها.
فعادوا، وقالوا: قد قال: لا أذكرها إلا لأمير المؤمنين.
فقال: قولوا له: إن لم تكن نصيحة، بالغت في عقوبتك، فخرجوا، وعادوا، فقالوا: قد قال: رضيت.
فأدخل، وأنا حاضر، فسلم على الخليفة.
فقال: ما نصيحتك؟ فقال: رقية وقعت إلي، تحبس السم عن الملسوع، في الحال.
فقال المعتضد: هاتوا عقرباً.
قال: فكأنها كانت معدة، فأتي بها في أسرع وقت، فأومى إلى الخادم بحضرته، فطرحت عليه، فلسعته، فصاح.
فقال له الرجل: أرني موضع اللسعة، فأراه، فأخرج حديدة، لا حد لها، وجعل يمسح بها من أعلى موضع اللسعة والسم، إلى أسفل، ويقول: " بسم الله، أوم سرا، ومربهل، بني تعبه، كرواري، أنهج أنهج، بهشتن، يهوذا، له مهر، أستروم، لوبه، قرقر، سعلهه " .
ويكرر ذلك دفعات، إلى أن قال الخادم: قد سكن الوجع عن يدي كلية، إلا موضع اللسعة، فإني أحس منه ببقية.
قال: أعطوني إبرة.
فجاءوه بها، ففتح الموضع، فخرج منه شيء أصفر، وقام الخادم معافى.
فأمر المعتضد، فكتبت الرقية، وخلدت في الخزانة.
وأمر للرجل بجائزة سنية.
والرقية تنفع أيضاً في لسعة الزنبور
قال لي أبو الحسن؛ وقد جربت، على الزنبور، فصحت، وسبيلها أن تجرب على الحية، لأن قوله: تحبس السم، يدخل كل ذلك تحته.
وأنا رأيت أحمد بن يوسف، يرقي بهذه الرقية، على هذا الموضع، فيقوم الملسوع من بين يديه، يمشي وهو معافى.
حدثني أبو الفرج، المعافى بن زكريا، الفقيه على مذهب أبي جعفر الطبري، أحد خلفاء قاضي القضاة على بعض السواد، قال: حدثني أبو طالب بن البهلول القاضي، عن رجل، عن ابن الطيب، بهذه الحكاية، هذا وأنسي أبو الفرج اسم الرجل، ولا أشك - والله أعلم - أنه أبو أحمد الرازي.
هذه الحكاية منتشرة جداً في آل البهلول، عن هذا الرجل، عن ابن الطيب، وجميعهم يرقى بها، وينقلها قولاً وعملاً.
لأبي الحسن بن المنجم، يعاتب صديقاً له
أنشدني أبو الحسن، علي بن هارون بن يحيى المنجم لنفسه، وكتب بها إلى علي بن هارون بن خلف بن طناب، في غيبة كان غابها، وتأخرت عنه كتبه، وفيه صنعة لأبي الحسن بن طرخان:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
ما غاب من لم ينأ صفو وداده ... والحاضرون وإن دنوا غياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فإنه ... يصل القطوع فيقدم الغياب
فإذا دنوت مواصلاً فهو المنى ... سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلل ... إلا رسول بالرضا وكتاب
لأبي الفتح بن المنجم في الغزل
أنشدني أبو الفتح، أحمد بن علي بن يحيى بن المنجم، لنفسه، والقافية في الأبيات كلها لفظة واحدة، باختلاف المعنى:
سيدي أنت ومن عادته ... باعتداء أو بجور جاريه
وهذه الأبيات قد مضت في غير هذا الجزء من الكتاب.
لأبي أحمد بن سليمان متغزلا
ً
أنشدني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان، لنفسه:
أيا من قده ألف ... ويا من صدغه لام
لقد أكثرت لوامي ... ولو أنصفت ما لاموا
أشهدوا العدول على الخليفة المطيع لما خلع نفسه

وأخبرني شاهد من الشهود المقبولين ببغداد، وسألني أن لا أذكر اسمه وهو حي، فلذلك لم أسمه، قال: كنت أحد الشهود الأربعة، الذين أدخلوا مع قاضي القضاة، أبي محمد، وهو إذ ذاك، غير متقلد شيئاً من الأعمال، ومعنا أبو بكر الأصبهاني، صاحب سبكتكين التركي، مولى معز الدولة، لما وثب على الأمر، وتسمى بالإمارة.
فأدخلونا، وليس معنا سابع، حتى شهدنا على المطيع لله، بأنه قد خلع نفسه، وقرأنا عليه رقعة الخلع، وقررناه بما فيها، وخرجنا.
فأدخلنا إلى دار أخرى، من دور الخلافة، حتى حصلنا بحضرة الأمير أبي بكر عبد الكريم بن المطيع، فبايعناه بالخلافة، وسلمنا عليه بها، وخرجنا، فجلسنا في مجلس قريب من مجلسه، لنوقع خطوطنا بالشهادة في كتاب الخلع.
قال: واستسقى أمير المؤمنين الطائع، ماءً، فجاء بعض الخدم، بكوز فيه ماء، فشرب، وخرج، فرأيت الكوز، وكنت عطشاناً، فقلت له: يا أستاذ، اسقني، فجاءني بماء في ذلك الكوز بعينه، فشربت منه.
وكتبنا خطوطنا، وخرجنا.

الأمير الراسبي يأمر بقتل أحد المجرمين
على مائدته
كان أبو محمد المهلبي، يكثر الحديث على طعامه، ويكون أطيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب، وضروب الحديث، على المائدة، لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيراً ما أحضر.
فقدم إليه في بعض الأيام طيهوج، فقال: أذكرني هذا، حديثاً طريفاً.
فسئل: ما هو؟ فقال: أخبرني بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير، قال: كنت آكل معه يوماً، وعلى المائدة خلق عظيم، فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، فاستأمن إليه، فأمنه، واختصه، وطالت أيامه معه.
فكان في ذلك اليوم على مائدته، إذ قدم حجل، فألقى الراسبي منه واحدة إلى الكردي، كما يلاطف الرؤساء مواكليهم، فأخذها الكردي، وجعل يضحك.
فتعجب الراسبي من ذلك، وقال: ما سبب هذا الضحك؟ وما نرى ما يوجبه.
فقال: خبر كان لي.
فقال: أخبرني به.
فقال: شيء طريف، ذكرته، لما رأيت هذه الحجلة.
قال: ما هو؟ فقال: كنت أيام قطعي الطريق، وقد اجتزت في بعض المحجة الفلانية، في الجبل الفلاني، وأنا وحدي، في طلب من آخذ ثيابه، حتى استقبلني رجل وحده، فاعترضته، وصحت عليه، فاستسلم إلي، ووقف، فأخذت ما كان معه، وطالبته أن يتعرى، ففعل، ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق، من يستنفره على طلبي، فأطلب، وأنا وحدي، فأؤخذ، فقبضت عليه، وعلوته بالسيف، لأقتله.
فقال: يا هذا، أي شيء بيني وبينك، قد أخذت ثيابي، وعريتني، ولا فائدة لك في قتلي.
فكتفته، ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنعه بالسيف.
فتلفت، كأنه يطلب شيئاً، فرأى حجلة قائمة، وهي على الجبل، فقال: يا حجلة، اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوماً.
فما زلت أضربه، حتى قتلته، وسرت، فما ذكرت هذا الحديث، حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة ذلك الرجل، فضحكت.
قال: فانقلبت عين الراسبي حرداً، وقال: لا جرم إن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم، في الدنيا قبل الآخرة، وما أمنتك إلا على ما كان منك من فساد السبيل، فأما الدماء، فما أسقطها الله عنك بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي، يا غلام، اضرب عنقه.
قال: فبادر الغلام إليه، وغيره، بسيوفهم يخبطونه، وضرب كل واحد منهم قفاه، فكأن رأسه قثاءة قطعت نصفين.
فتدحرج رأسه بين أيدينا، ونحن على المائدة، وجرت جثته.
ومضي الراسبي في الأكل.
رقعة إلى رجل تزوجت أمه
أملى علي أبو إسحاق، إبراهيم بن هلال الكاتب، الصابىء، نسخة رقعة إلى رجل زوج أمه، كتبها إليه: قد جعلك الله، وله الحمد، من أهل التحصيل، والرأي الأصيل، وصحة الدين، وخلوص اليقين، كما أنك لا تتبع الشهوة في محظور تحله، فكذلك لا تطيع الأنفة في مباح تحظره، وتأدى إلينا من إيقاعك العقد، بين الوالدة - نفس الله لها في مدتك - وبين فلان، ما علمنا أنك بين طاعة للديانة توخيتها، ومشقة فيها تجشمتها، فإنك جدعت أنف الغيرة لها، وأضرعت خد الحمية فيها، وأسخطت نفسك لرضاها، وعصيت هواك لرأيها، فنحن نهنئك بعزيمة صبرك، ونعزيك عن فائت مرادك، ونسأل الله الخيرة لك، وأن يجعلها أبداً معك، فيما شئت وأبيت، وتجنبت وأتيت، والسلام.
رقعة الصابي إلى الوزير ابن بقية

وأنشدني لنفسه، قال: وكتبت بها وأنفذتها إلى الوزير ابن بقية وهو في حضرة الأمير، وقد كان وعدني بتخليصي، فأخر ذلك:
أيا ناصراً للدين والدولة التي ... رددت إليها العز إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده

تملكت يا مهجتي مهجتي
أنشدني رجل مصري، قال: أنشدني أبو الفتح الكاتب ابن البكتمري، رجل باق بالشام، من أهلها، لنفسه:
تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري
وما كان ذا أملي يا ملول ... ولا خطر الهجر في خاطري
وفيك تعلمت نظم الكلام ... فلقبني الناس بالشاعر
لا فكك الله
أنشدني ابن غسان المتطبب البصري:
أفدي من السوء مولىً بات معتنقي ... وقد أمال إلي طائعاً فاه
وكلما قلت يا مولاي أوثقني ... لك الهوى قال لي: لا فكك الله
كيف كان الأبزاعجي صاحب شرطة بغداد
يحقق مع المتهمين
حدثني أبو القاسم بهلول بن أبي طالب القاضي وهو محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: حدثني صاحب الربع، بباب الشام، وأسماه لي، قال: كنت أعمل في أصحاب الشرط، مع أبي الحسن الأبزاعجي، صاحب الشرطة ببغداد، فأخرج لصوصاً من الحبس، واستأذن معز الدولة في صلبهم، وقتلهم عند الجسر، فأذن في صلبهم عشياً، وكانوا عشرين رجلاً، ووكل بهم جماعة كنت فيهم، والرئيس علينا فلا،.
وقال: كونوا عند خشبهم بقية يومكم وليلتكم، حتى إذا كان من غد، ضربت أعناقهم هنا.
وقضينا الليل نوماً، فثقل رئيسنا في نومه، وجماعتنا.
فاحتال بعض اللصوص، في أن قطع الحبل، ونزل من الخشبة، فما انتبهنا، إلا بصوت وقعه، وعدوه.
فعدا رئيسنا خلفه، وأنا معه، فما لحقناه.
وخفنا أن يتشوش الرجالة الباقون، فيفلت إنسان آخر، فرجعنا مسرعين، وجلسنا مغمومين، مفكرين ماذا نعمل.
فقال رئيسنا: إن الأبزاعجي لا يقيل لي عثرة، ولا يقبل مني عذراً، ويقع له أنني قد أخذت من أحد اللصوص مالاً وأفلته، فيضربني للتقرير، فلا أقر، فيقع له، أنني أتجلد عليه، فيمر الضرب علي، إلى أن أتلف، فما الرأي؟ فقلت: تهرب.
قال: فمن أين أعيش؟ فقلت: هذا نصف الليل، ولم يعلم بما جرى أحد، فقم حتى نطوف، فلا يخلو أن يقع بأيدينا مشؤوم، قد حانت منيته، فنوثقه، ونصلبه، ونقول له: سلمت إلينا عشرين رجلاً، فإنه ما أثبت حلاهم.
فقال: هذا صواب.
فقمنا نطوف، وسلكنا طريق الجسر، لنعبر إلى الجانب الغربي، فرأينا في أسفل كرسي الجسر رجلاً يبول، فعدلنا إليه، فقبضنا عليه.
فصاح: يا قوم ما لكم؟ أنا رجل ملاح، صعدت من سميريتي أبول، وهذه سميريتي - وأومأ إليها - أي شيء بيني وبينكم؟ فضربناه، وقلنا: أنت اللص الذي هرب من الخشبة، وجبناه، ورقيناه إلى الخشبة، وصلبناه مكان اللص الهارب، وهو يصيح طول الليل، ويبكي.
فتقطعت قلوبنا رحمة له، وقلنا: مظلوم، ولكن ما الحيلة؟ فلما كان من الغد، ركب الأبزاعجي إلى الحبس، وجاء، وقد اجتمع الناس، ليضرب أعناق القوم.
فصاح به الملاح: أيها الأستاذ - وكذا كان يخاطب، وهو رسم لكل من يتقلد رئاسة الشرطة ببغداد - بوقوفك بين يدي الله، أدعني، واسمع مني كلامي، فلست من اللصوص الذين أخرجتهم، وأمرت بصلبهم، وأنا مظلوم، وقد وقعت بي حيلة.
فأنزله، وقال له: ما قصتك؟ فشرح له حديثه على حقيقته.
فدعا بنا، وقال: ما هذا الرجل؟ فقلنا: ما نعرف ما يقول، سلمت إلينا عشرين رجلاً، وهؤلاء عشرون رجلاً.
فقال: قد أخذتم من أحد اللصوص دراهم، وأطلقتموه، واعترضتم هذا، من الطريق، رجلاً، غريباً، بريئاً، فأخذتموه.
فقلنا: ما فعلنا هذا، اللص الذي سلمته إلينا، هو هذا.
فضرب أعناق الجماعة، وترك الملاح، وقال: هاتم السجانين، والبوابين.
فجاءوا، فقال لهم: هذا من جملة العشرين الذين أخذناهم؟ فتأملوه، بأجمعهم، وقالوا: لا.
ففكر ساعة، ثم أمر بإطلاقه.
ثم قال: هاتموه إلي، فرددناه.
فقال: اشرح لي قصتك، فأعاد عليه الحديث.
فقال له: في نصف الليل، أي شيء كنت تعمل هناك، في ذلك الموضع؟ فقال: كنت قد بت في سماريتي، فأخذتني بولة، فصعدت أبول.

قال: ففكر ساعة، ثم قال له: اصدقني على الحقيقة، حتى أطلقك، أي شيء كنت تعمل هناك؟ فلم يخبره بغير ذلك.
قال: وكان من رسمه، إذا أراد أن يقرر إنساناً، قرره وهو قائم بين نفسين، ووراءه جماعة بمقارع، فإذا حك رأسه، ضرب المقرر، واحدة جيدة عظيمة، فيقول للذي ضربه: قطع الله يدك ورجلك، يا فاعل، يا صانع، من أمرك بضربه؟ ولم ضربته؟ تقدم يا هذا، لا بأس عليك، اصدق، فقد نجوت.
فإن أقر، وإلا حك رأسه ثانية، وثالثة، أبداً على هذا، وكذا كانت عادته في جميع الجناة، وهو رسم له معروف، عند المتصرفين بحضرته.
قال: فلما أطال عليه الملاح، حك رأسه، فضرب قفاه بعض القائمين، بمقرعة ضربة عظيمة.
فصاح الملاح.
فقال الأبزاعجي: من أمرك بهذا، يا فاعل، يا صانع، قطع الله يديك.
ثم قال للملاح: اصدق، وانج بنفسك.
فقال له الملاح: أيها الأستاذ، الله شاهد عليك، أني آمن على نفسي وأعضائي، حين أصدق؟ فقال له: نعم.
قال: أنا رجل ملاح، أعمل في المشرعة الفلانية، يعرفني جيراني بالستر، وقد كنت سرحت سماريتي، إلى سوق الثلاثاء، البارحة بعد العتمة، أتفرج في القمر، فنزل خادم من دار لا أعرفها.
فصاح: يا ملاح؟ فقدمت.
فسلم إلي امرأة، نظيفة، حسنة، ومعها صبيتان، وأعطاني دراهم صحاحاً، وقال: احمل هؤلاء إلى المشرعة الفلانية، بباب الشماسية.
فصعدت بهم قطعة من الطريق، فكشفت المرأة وجهها، فإذا هي من أحسن الناس وجهاً، كالقمر، فاشتهيتها، فعلقت مجاذيفي في الكرك، وأخرجت السفينة إلى وسط دجلة، وتقدمت إلى المرأة، فراودتها عن نفسها، فأخذت تصيح.
فقلت لها: والله، لئن صحت، لأغرقنك الساعة.
فسكتت، وأخذت تمانعني عن نفسها، واجتهدت بأن أقدر عليها، فما قدرت.
فقلت لها: من هاتان الصبيتان منك؟ فقالت: بناتي.
فقلت لها: أيما أحب إليك، تمكنيني من نفسك، أو أغرق هذه؟ وقبضت على واحدة منهم.
فقالت: أما أنا، فلا أطيعك، اعمل ما شئت.
فرميت إحدى الصبيتين في الماء، فصاحت، فضربت فاها، وصحت معها: والله لا أطلقك ولو قتلتني، ليشتبه ذلك، على من عساه يسمع الصياح في الليل.
فسكتت، وأخذت تبكي، ثم تركتها ساعة، وقلت لها: دعيني أفعل بك وإلا غرقت الأخرى.
فقالت: والله، لا فعلت.
فأخذت الصبية الأخرى، فرميت بها في الماء، فصاحت، وصحت معها، ثم قلت لها: ما بقي الآن إلا قتلك، فدعيني، وإلا قتلتك، وأخذت بيدها، وشلتها لأرمي بها في الماء.
فقالت: أدعك.
فرددتها إلى السمارية، فمكنتني من نفسها، فوطئتها.
وسرت، لأمضي بها إلى المشرعة، فقلت في نفسي: هذه الساعة تصعد إلى دارها، أو إلى الموضع الذي تأوي إليه، فتنذر بي، فأؤخذ، وأقتل، وليس الوجه إلا تغريقها، فجمعت يديها، ورجليها، ورميت بها إلى الماء.
فحين غرقت، فكرت فيما ارتكبته، وعظم ما جنيته، فندمت، وكنت كرجل كان سكراناً، فأفاق.
فقلت: أي شيء أعمل؟ ليس إلا أن أنحدر إلى البصرة، وأغوص في أنهارها، فلا أعرف.
فانحدرت، فلما صرت حذاء الجسر، أخذتني بطني، وقلت: أصعد، وأتفسح، وأعود إلى سماريتي.
فصعدت، فأنا جالس أتغوط، فما أحسست حتى قبض هؤلاء علي.
قال: فقال له الأبزاعجي، مطابياً: يا هذا، أي معاملة بين مثلك وبيني، انصرف بسلام.
فظن لجهله، أن ذلك حقيقة، فولى ينصرف.
فصاح به، وقال: يا فتى، هو ذا تنصرف، وتدعنا من حقا؟ فلا أقل من أن ترجع لنحلفك، أنك لا تعود إلى مثل هذا.
فرجع.
فقال: خذوه، فأخذوه.
فقال: اقطعوا يده.
فقال: يا سيدي، أليس قد أمنتني؟ فقال: يا كلب، وأي أمان لمثلك؟ قد قتلت ثلاثة أنفس، وزنيت، وأخفت السبيل.
قال: فقطعت يداه، ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرق جسده بالنار في مكانه.

لماذا لقب بالأبزاعجي
أخبرني من أثق إليه من أهل بغداد، أن الأبزاعجي، إنما لقب بذلك، لأنه كان يخدم قائداً من غلمان الموفق، تركياً، وكان يسمى أبزاعج، فلقب بالأبزاعجي لذلك.
وكيل دعاوى يحرم من أجره
فيعرقل حسم الدعوى
حدثني أبو بكر بن عثمان الصيرفي، الشاعر، قال: سمعت عمر بن أكثم، يقول: كان قوم يريدون تثبيت وفاة، وعدد ورثة، عند أبي عمر القاضي، وكانوا قد ضمنوا للوكيل خمسين ديناراً على ذلك.

فلما ثبت عند القاضي، عدد الورثة، بشهادة شاهدين، ساموه أن يأخذ منهم البعض، ويدع عليهم البعض.
فأخذ ما عفوا به، وتقدم إلى القاضي، وخصومهم في المجلس، وقال: قد وكلني هؤلاء - أعز الله القاضي - وقد أخرجت نفسي من الأولين.
فقال: تكلم.
فقال: شهد الشاهدان، عند القاضي، أنهما لا يعلمان وارثاً، غير من ذكروه، وعندي شاهدان عدلان، يعلمان وارثاً آخر.
فقال: أحضرهما.
فقاموا، ودافع بالحكم، ولم يزل يدفع بهم شهراً، إلى أن جاءه الورثة، فقالوا: قد أهلكتنا.
فقال: بما كسبت أيديكم، والله لأدفعن بأمركم سنة، أو تعطوني خمسين ديناراً مستأنفة، لأمسك.
وأعطوه ما طلب، وتقدم، فقال: لا بينة لي.
فحكم القاضي لهما.

إذا صرف الأمين زائدا
ً
عن الحاجة ألزم بتعويضه من ماله
وحدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عمر بن أكثم، قال: تقدم يتيم كان في حجر أمين من أمناء القاضي أبي جعفر بن البهلول، إليه، وقد بلغ وفك حجره، فقال: أيها القاضي، إن فلاناً الأمين، ضيع من مالي هذا، كذا وكذا، وأنا أطالبه به.
فقال: هاه، هاه، أتقول هذا لأمين ثابت الأمانة عندي؟ فقال: أيها القاضي، لم أقل خان فيه، ولكنه أنفق علي أكثر مما كنت أحتاج إليه، بكذا وكذا، وهذا تضييع.
فدعا أبو جعفر الأمين، فسأله، فأقر بذلك.
فألزمه المال في ذمته.
رؤيا عبد الملك بن مران وتفسيرها
حدثنا أبو القاسم بن بشر الآمدي، قال: قال لي أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، يوماً، وقد تجاذبنا على خلوة، الحديث فيما بينه وبين أبي القاسم البريدي، وتدبير كل واحد منها على صاحبه في القبض عليه، وأنا أشير عليه أن يهرب عن البصرة، ولا يقيم، وأنه لا يجب أن يغتر.
قال: لست أفكر في هذا الرجل، لألوان كثيرة، منها رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة.
فقلت: ما هي؟ قال: رأيت ثعباناً عظيماً، قد خرج علي من هذا الحائط - وأومأ بيده إلى حائط في مجلسه - وهو يريدني، فطلبته، وضربته، فأثبته في الحائط، فتأولت أن ذلك الثعبان، البريدي، وأني أغلبه.
قال: فحين قال: فأثبته في الحائط، سبق إلى قلبي، أن البريدي، هو الثابت، وأن الحائط، حائطه، دون أبي أحمد، فأردت أن أقول له: إن الخبر مستفيض، بما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنه وابن الزبير، قد اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وإنه أنفذ راكباً إلى البصرة، فلقي ابن سيرين، فقص عليه الرؤيا، كأنها لها، وكتم ذكر ابن الزبير.
فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، ولا أفسرها لك.
فألح عليه.
فقال: يجب أن تكون رؤيا عبد الملك، فإن صدقتني، فسرتها لك.
فقال: هو كما وقع لك.
فقال: قل له: إن صحت رؤياك هذه، فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك، أربعة ملوك.
فمضى الرجل إلى عبد الملك، فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين، وقال: ارجع إليه، وقل له: من أين قلت هذا؟ فرجع الرجل إليه.
فقال له: إن الغالب في النوم مغلوب، وتمكنه على الأرض غلبة عليها، والأوتاد الأربعة، التي أوتدها في الأرض، هم ملوك يتمكنون في الأرض، كما تمكنت الأوتاد.
قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد، هذا، وما وقع لي من القياس عليه، في تعبير رؤياه، فكرهت ذلك، لأنه كان يكون سوء أدب، وقباحة عشرة، ونعياً لنفسه.
فما مضت الأيام، حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان.
أبو أحمد بن المثنى ومناماته التي لا تخطىء
وكان ممن حضر عندي، لما حدثني أبو القاسم بهذا الخبر، أبو القاسم عمر بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحسن بن المثنى، فقال: كانت لجدي، منامات طريفة لا تخطىء، فمنها: إني كنت بحضرته، وأنا صبي، في تربة جدي لأمي، وعم أبي، أبي الحسين، فقال لنا: إني رأيت البارحة مناماً، فقد أبصرت ثلاثة قبور قد احتفرت، أولها لحسان، والثاني لأبي الحسين أخي، والثالث لي من بعده، وقد أبصرت حسان نائماً في قبره، وأبصرت أبا الحسين قاعداً في القبر، أما أنا فقد كنت أقعد في القبر وأقوم في حركة دائبة، وكأن هاتفاً يهتف بي، إن عمرك وعمر أخيك واحد، وقد توفي أخي منذ سنة وما أظن بيني وبين أخي إلا سنة.
قال: فقال له من حوله: يبقي الله الشيخ، ويفعل به ويصنع.

قال: فانصرف من التربة، فلما كان في اليوم السابع من ذلك الحديث، قبض عليه أبو القاسم البريدي، في يوم الخميس، غرة شعبان، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، فأقام في يده دون ثلاثة أشهر، ثم قتله في حبسه، في شوال، بحيلة احتالها له، عبدان المتطبب، لعنه الله، في شيء سقاه.
فقال أبو القاسم الآمدي: كنت حاضراً ابتداء المجلس، ولما أخبر رؤياه، تأولها تأولاً غير ما وقع، وهو: إن نوم حسان في قبره سلامة متينة، وإن قعود أبي الحسين، لأن الحال التي مات بها، أشد من حال حسان، لأنه فلج سنين، فعاش مبتلي، قد نقص من صحته، ورأى في نفسه ما لا يحبه، وإن وفاة أبي أحمد تكون بحال هي أشد من ذلك كله، بحسب قعوده وقيامه في المشقة، وفرق ما بين القعود والنوم والراحة.
فمات أبو أحمد، مقتولاً، بعد الحبس والنكبة، والفقر والذلة.

قاضي شيراز يحكم بين صوفي وصوفية
حدثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر السيرافي، الفقيه، المتكلم، المعروف بابن السماك رحمه الله، قال: حضرت بشيراز، عند قاضيها أبي سعد بشر بن الحسن الداودي، وقد ارتفع إليه صوفي وصوفية.
قال: وأمر الصوفية هناك مفرط جداً، حتى يقال إن عددهم ألوف، رجال ونساء.
قال: فاستعدت المرأة على زوجها إلى القاضي، فلما حضرا، قالت له: أيها القاضي، هذا زوجي يريد أن يطلقني، وليس له ذلك، فإن رأيت أن تمنعه.
قال: فأخذ أبو سعد، يعجبني من هذا الكلام، وينبهني على مذاهب الصوفية فيه.
ثم قال لها: كيف ليس له ذلك؟ قالت: لأنه تزوج بي، ومعناه قائم، والآن يذكر أن معناه قد انقضى مني، وأن معناي قائم فيه ما انقضى، فيجب أن يصبر، إلى أن ينقضي معناي فيه، كما انقضى معناه مني.
فقال لي أبو سعد: كيف ترى هذا الفقه؟ ثم أصلح بينهما، وخرجا من غير طلاق.
ابن خفيف شيخ الصوفية بشيراز يتكلم
على الخطرات والوساوس
أخبرني جماعة من أهل العلم: أن بشيراز رجلاً يعرف بابن خفيف البغدادي، شيخ الصوفية هناك، يجتمعون إليه، فيتكلم على الخطرات والوساوس، ويحضر حلقته ألوف من الناس، وأنه فاره، فهم، حاذق، وأنه قد استغوى الضعفى من الناس، إلى هذا المذهب.
قال: فمات رجل صوفي من أصحابه، وخلف زوجة صوفية، فاجتمع النساء الصوفيات - وهن خلق كثير - ولم يختلط بمأتمها غيرهن.
فلما فرغوا من دفنه، دخل ابن خفيف، وخواص أصحابه - وهم عدد كثير - إلى الدار، وأخذ يعزي المرأة، بكلام من كلام الصوفية، إلى أن قالت: قد عزيت.
فقال لها: ها هنا غير؟ فقالت: لا غير.
قال: فما معنى التزام النفوس، آفات الهموم، وتعذيبها بعذاب الغموم؟ ولأي معنى نترك الامتزاج، لتلقي الأنوار، وتصفو الأرواح، وتقع الإخلافات، وتنزل البركات؟ قال: فقالت النساء: إذا شئت.
قال: فاختلط جماعة الرجال، بجماعة النساء، طول ليلتهم، فلما كان سحراً خرجوا.
قوله: ها هنا غير؟ ، أي: ها هنا غير موافق في المذهب؟ فقالت: لا غير، أي ليس من مخالف.
قوله: نترك الامتزاج، كناية عن الوطء، من الممازجة.
وقوله: لتلقي الأنوار، على أصلهم إن في كل جسم نوراً إلهياً.
وقوله: الإخلافات، أن يكون خلف لكل من مات أو غاب من أزواجكن.
وهذا عندي عظيم، ولولا أن جماعة أخبروني، يبعدون عندي عن الكذب، ما حكيته، لعظمه عندي، واستبعاد مثله أن يجري في دار الإسلام.
وبلغني أن هذا ومثله، شاع، حتى بلغ الأمير عضد الدولة، فقبض على جماعة منهم، وضربهم بالسياط، وشرد جماعة منهم، وشتت جموعهم، فكفوا.
من شعر أبي فراس الحمداني
لأبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، لما أسر:
ما للعبيد من الذي ... يقضي به الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع
وله إلى سيف الدولة، قصيدة اخترت منها قوله:
أيدرك ما أدركت إلا ابن همة ... يمارس في كسب العلى ما أمارس
يضيق مكاني عن سواي لأنني ... على قبة المجد المؤثل جالس
وقال، وقد حضر العيد، وهو ببلد الروم أسير:
يا عيد ما جئت بمحبوب ... على معنى القلب مكروب
يا عيد قد عدت على ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها ... أصبح في أثواب مربوب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8