كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

فغرق في البحر شلنديان من مراكب المسلمين التي يقصدون فيها الروم، فكتب الكاتب عن صاحبه، إلى الأمير بحلب: بسم الله الرحمن الرحيم، أعلم الأمير أعزه الله، أن شلنديين، أعني مركبين، صفقاً، أي غرقاً، من خب البحر، أي من شدة موجه، فهلك من فيهما، أي تلفوا.
فأجابه صاحب حلب: ورد كتابك، أي وصل، و فهمناه، أي قرأناه، فأدب كاتبك، أي اصفعه، و استبدل به، أي اصرفه، فإنه مائق، أي أحمق، و السلام، أي قد انقضى الكتاب.

حماقة متمكنة و رقاعة متبينة
كان أبو العباس سهل بن بشر ، من ارتفعت في الدولة الديلمية رتبته، و علت درجته و منزلته، و ضمن واسط و الأهواز، على حماقة متمكنة، و رقاعة متبينة.
و كان دأبه تغليط الكتاب، و الرد عليهم، و تغيير كتبهم التي ينشؤونها عنه، و عكس حساباتهم التي يرفعونها إليه، و يعرضونها عليه، بالمحال الفاسد، و المستحيل الباطل.
و لقد قال يوماً لأحدهم: ويلك، لم يجب أن تفصل في هذا الموضع، هذا التفصيل الواسع، كان يجب أن يكون بقدر ما تسلكه نملة، و قد جعلته بحيث تسلكه حية، أيش حية بل شاة، أيش شاة بل دابة، أيش دابة، بل جمل، أيش جمل بل فيل، أيش فيل بل كركدن، ثم خرق الكتاب و رمى به.
و حكى القاضي أبو علي التنوخي، قال: رأيته عدة دفعات، لا أحصيها كثرة، يلس في مجلس العمل، فإذا كثر عليه الشغل، و ضاق به صدره، و غلبت عليه سوداؤه، تركه مفكراً، ثم أخذ الدرج الذي بين يديه، و خرق منه، و فتله، و تخلل به، و أخرجه من فيه، و شمه، ثم رمى به حيث وقع من حجور الناس، أو وجوههم، أو لحاهم، أو عمائمهم.
فاتفق في بعض الأيام، أن وقع من ذلك واحدة في لحية أحمد بن عمر الطالقاني الكاتب، فصوت من فيه، كصوت البوق.
فتنبه سهل بن بشر من غفلته، و قال: ما هذا؟ و شتمه أفحش شتم، و سبه أقبح سب.
فقال له: نصب سيدنا الأستاذ في لحيتي هذا المطرد ، فظننت أنه يريد الخروج إلى بعض الأسفار، فضربت بالبوق ليعلم ذلك، فيصحبه من يريد أن يصحبه، و يسير معه.
فضحك منه الحاضرون .
حديد شفيه شتام
و قال القاضي : كان سهل حديداً، سفيهاً، شتاماً للغلمان، و لم يكن يصبر على خدمته أحد.
و شتم يوماً بعض الفراشين، فتداخلت الفراش حمية الإسلام، و دخل بقربته إلى حجرة خالية، بعيدة عن الدار الكبيرة التي فيها الغلمان، ليرش خيشاً فيها، و قام سهل وراءه، يتبعه و يشتمه.
و رأى الفراش خلو الموضع من غيرهما، فصفعه بالقربة، إلى أن قطعها على قفاه جميعها.
و وقع سهل مغشياً عليه، فداس بطنه، و لكم جنوبه، فلما شفى نفسه منه، تركه يتخبط، و خرج، فأخذ ما كان له في خزانة الفراشين و انصرف.
و بعد ساعة لما ظهر على سهل، و عرف ما جرى عليه، طلب الفراش بأصحاب الشرط، و المراكز، و الجوازات، فلم يوقف له على خبر.
اشتفيت و الله
و شتم يوماً فراشاً آخر، فرد عليه، فنهض إليه، و عدا من بين يديه، فقال له: بحق محمد نبيك، قف لي حتى ألحقك.
فقال له: بحق عيسى ربك، ارجع عني و اتركني.
و ما زالا يعدوان، حوالي البستان، و عثر الفراش، فوقعت عمامته، فأخذها سهل، و ما زال يعضها و يخرقها و يقول: اشتفيت و الله.
ثم رجع فجلس في مكانه .
سهل بن بشر يشتم ذوي الحاجات
قال القاضي : و اجتمع النصارى بجند يسابور إلى مطرانهم، و شكوا ما يجري من سهل عليهم من السب و الشتم، و القذف و الصفع، و إنهم لا يأمنون نفرة من المسلمين عليهم لأجله، و فتكة بهم بسببه.
فقال لهم: أنا أكفيكم ذلك، في يوم الأحد عند حضوره في البيعة.
و فعل المطران ذلك، و استقصى الخطاب له فيه.
فقال له: أنت، يا أبونا، أحمق، إنما أخاطب الناس، بما أخاطبهم به، عن القائد، لا عنيّ، فإن لساني مستعار منه، و مستأجر لهذا و غيره.
فلعنه المطران، و انصرف سهل.
و أراد أن يشتم رجلاً، فقال له: اسمع يا هذا، قد وعظني المطران، و أنا رجل مستأجر مع هذا القائد، و لا بد لي من أن أمتثل أمره، و أؤدي عنه ما يقوله.
و قد قال لك: يا زوج كذا و كذا، و يا ابن كذا، و يا أخو كذا، و شتمه و سبه، لم فعلت كذا؟ و ذكر له ما أراد موافقته عليه.
و بقي يقول ذلك مدة، ثم قال: هذا طويل، حر أم المطران، و رجع إلى ما كان أولاً عليه.
صدقت، صدقت

و قال القاضي : كنت عنده يوماً، و نحن خاليان، فجاءه الدواتي بكتاب، فقرأه و طواه، و كتب عليه: لأبي فلان، فلان بن فلان، من ... ووقف، ثم قال لي: ممن؟ فقلت: إما منك، أو من الأمير.
فقال: صدقت، صدقت، و كتب .

نعب الغراب، فصفع البواب
قال القاضي : و حدثني عبيد الله بن محمد الصروي الشاعر ، و كان منقطعاً إلى سهل، قال: رأيته يوماً، و قد سقط غراب، على حائط صحن داره، فنعب، فتطير من صياحه، و أمر بصفع البواب، لم مكن الغراب من دخول الدار ؟
هاشمي متخلف يراسل وكيله
و حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: رأيت عند القاضي أبي بكر بن قريعة ، في سنة إحدى و ستين و ثلثمائة شيخاً يعرف بابن سكران، يتوكل له في ضياعه و ضماناته ببادوريا .
فقلت له: من يكون منك ابن سكران الذي كان يتوكل للحسن بن عبد العزيز الهاشمي، في ضيعته، و يكتب إليه كتباً طريفة مضحكة؟ فقال: أنا هو.
و سمناه أن يقرأ علينا شيئاً من ذاك، و كان يقال عنه، إنه يحفظه، فامتنع.
و لم أزل و القاضي أبو بكر به، إلى أن أملي عليّ كتابين من لفظه، على ما بهما من الخطإ و النقصان في الهجاء.
فكان أولهما، و عنوانه: من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، أبو لمة يريد أبو الأئمة، لأن أولاده كانوا أئمة في الجوامع إلى وكيله و خادمه، أبو القاسم سكران، و لولا أنه يقول، أنه خادمه، قلنا أنه منهم، و مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن سكران، قد أعجبتك نفسك، صبغوني في عينك، أنت تعرفني إذا حردت، فكيف إذا غضبت، ها ها ، كدت أفعل، كنت إذا أردت أن تعمل شيء، تكتب إليّ، و تستأذنني، و تشاورني، و صرت تأمر و تنهي لنفسك، و الله لأقطعن يد الآخر ، و رجليك، و لأضعنك في أضيق الحبوس.
أنا مع أمير المؤمنين، ابن عمي أعزه الله، و قد خرج، صلى بنا الجمعة، في جوف عيني، و عيني في جوف فمه، لا ينظر إلى غيري، ترى لا أقدر أنتصف منك، و الذثي يبقى لي ابني أبو بكر و عمر، و عثمان، هاه، من هونا يحردون الروافض، عليك و عليهم لعنة الله، يا ماص بظر أمه، إن كنت منهم، و إن لم تكون منهم، فلا شيء عليك.
و ليس أنت كما ذكرت طويتك، ما دامت لك هذه العين تدور، و هذه الشعرة تعيش، و الذي يعطيني في الآخرة أضعاف ما أعطاني في الدنيا، منه أسأل إن شاء الله.
الجزير الذي أوصل كتابك، قد أطعمته البارحة مما أكلت، خبز و شواء، و كل خير، و ما رزق الله، فسله حتى يقل لك.
البارحة، و حياتك يا أبا القاسم، ذكرتك و قد شربت ماءً بارداً بثلج كثير، فقريت عليك، و عوذتك، و دعوت لك، و لوالدي، و لجميع المسلمين.
و قلت: ترى، ذاك وكيلي ابن سكران الميشوم، أيش خبره، في هذه الشمس الحارة و نصف النهار؟ و ما أبالي معك بولد و لا تلد و لا أحد، فاحمل إلي الخراج، صح ، و صنان الباذنجان ، و خيار، و بطيخ، و كل ما في القرية، و الحملين الذي طلبتهم منك، احملهم إلى في شعبان، قبل رمضان، سمان، سمان، واحد كبير نطبخه، و آخر صغير نشويه.
أسمعت يا أبا القاسم أعزك الله و فهمت؟ أعزك الله يا أبا القاسم، و أطال بقاءك، و أكرمك و أتم عليك، و صلى الله على محمد النبي و آله، و على أصحابه، قول آمين.
و عنوان الآخر: من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، الإمام في الرصافة، و ابنه أبو بكر الإمام في دار الخلافة، و ابنه الآخر عمر الإمام بمصر و الحرمين، و ابنه عثمان يكون الإمام في مدينة المنصور، و ابنه علي يكون الإمام في باقي الدنيا إن شاء الله.
إلى وكيله ابن سكران.
و باطنه: بسم الله الرحمن الرحيم، تحضر الجبابرة بني دينار، و الأطروش خاطر، و ابن كيلوه، لعنهم الله، فإنهم كلاب أحاط الله أكره، بل زط، حتى ننظر أيش يعملون.
فقد و الله محمود أردت أن أضرب القريتين بالنار، و لكن الله سلمكم، فانظروا كيف تكونون.
و قولوا: أمر سيدنا و سيدكم، أبو علي الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، ابن عم النبي صلوات الله عليه و على أزواجه أمهات المؤمنين، بشرى من هم نحن منهم، و قد تقدم سيدنا أبو علي بإحضاركم، فتكون أعينكم بين أيديكم. و السلام.
عار على آدم
قال أبو القاسم التنوخي:

جلس إبراهيم بن لنكك في جاتمع البصرة، فجلس إليه قوم من العامة، فاعترضوا كلامه بما غاظه، فأخذ محبرة بعض الحاضرين، و كتب من شعره:
و عصبة لما توسطتهم ... ضاقت عليّ الأرض كالخاتم
كأنهم من بعد أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم
يضحك إبليس سروراً بهم ... لأنهم عار على آدم
كأنني بينهم جالس ... من سوء شاهدت في مأتم
فاعترضه ولده و قال: يا أبت، أبياتك متناقضة، و لكن اسمع ما عملت:
لا تصلح الدنيا و لا تستوي ... إلا بكم يا بقر العالم
من قال للحرث خلقتم فلم ... يكذب عليكم لا و لم يأثم
ما أنتم عار على آدم ... لأنكم غير بني آدم

سيد العرب ابن أبي دؤاد
حدث القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه بما جاء في كتابه، قال: حدثني الصولي ، قال: حدثني محمد بن القاسم بن خلاد ، قال: رفع بعض العمال إلى المعتصم ، و كان قد تولى من الخراج و الحرب، ما كان يتولاه خالد بن يزيد بن مزيد ، بأن خالداً اقتطع الأموال و احتجن بعضها، فغضب المعتصم، و حلف ليأخذن أموال خالد، و ليعاقبنه و ينفينه.
فلجأ خالد إلى أحمد بن أبي داؤد القاضي ، فاحتال حتى جمع بينه و بين خصمه، فلم تقم على خالد حجة، فعرف ابن أبي دؤاد القاضي، المعتصم بذلك، و شفع إليه في خالد، فلم يشفعه، و أحضر خالداً، و أحضر له آلات العقوبة، و كان قبل ذلك قبض أمواله و ضياعه، و صرفه عن العمل.
و حضر ابن أبي دؤاد المجلس، فجلس دون مجلسه الذي كان يجلس فيه.
فقال له المعتصم: ارتفع إلى مكانك.
فقال له: يا أمير المؤمنين ما أستحق إلا دون هذا المجلس.
قال: و كيف؟ قال: لأن الناس يزعمون أنه ليس محلي محل من شفع في رجل قرف بما ليس فيه، و لم يصح عليه شيء منه، فلم يشفع.
قال: فارتفع إلى موضعك.
قال: مشفعاً أو غير مشفع؟ قال: بل مشفعاً، قد وهبت لك خالداً، و رضيت عنه.
قال: إن الناس لا يعلمون بهذا.
قال: رددت عليه جميع ما قبض منه من ضياعه و أمواله.
قال: فمر بفك قيوده، و اخلع عليه.
ففعل ذلك.
قال: يا أمير المؤمنين، قد استحق هو و أصحابه رزق ستة أشهر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجعلها صلة له.
قال: لتحمل معه.
فخرج خالد، و عليه الخلع، و المال بين يديه، و الناس ينتظرون الإيقاع به.
فلما رأوه على تلك الحال سروا، و صاح به رجل: نحمد الله على خلاصك يا سيد العرب.
فقال: مه، بل سيد العرب و الله ابن أبي دؤاد الذي طوقني هذه المكرمة التي لا تنفك من عنقي أبداً.
بين الإسكندر و ملك الصين
قال القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، حدثني أبو الفرج الأصبهاني من حفظه، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل: أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين، و نازل ملكها، أتاه حاجبه، و قد مضى من الليل شطره، فقال له: رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك.
فقال: ائذن له.
فلما دخل، وقف بين يديه و سلم، و قال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل.
فأمر الاسكندر من بحضرته بالانصراف، و بقي حاجبه.
فقال له الرسول: إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك. فأمر بتفتيشه، ففتش، فلم يوجد معه شيء من السلاح. فوضع الاسكندر بين يديه سيفاً مجرداً، و قال له: قف مكانك، و قل ما شئت، ثم أخرج كل من كان عنده.
فلما خلا المكان، قال له الرسول: إني أنا ملك الصين لا رسوله، و قد حضرت أسألك، عما تريده مني، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، و لو على أصعب الوجوه، أجبت إليه، و غنيت أنا و إياك عن الحرب.
فقال له الاسكندر: و ما آمنك مني؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل، و أنه ليس بيننا عداوة متقدمة، و لا مطالبة بذحل، و أنك تعلم أن الصين إن قتلتني، لا يسلمون ملكهم إليك، و لا يمنعهم عدمهم إياي، أن ينصبوا لأنفسهم ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل، و ضد الحزم.
فأطرق الاسكندر مفكراً في مقالته، و علم أنه رجل عاقل، ثم قال له: الذي أريده منك، ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً، و نصف ارتفاعه في كل سنة.
قال: هل غير ذلك شيء؟ قال: لا.
قال: قد أحببتك.
قال: فكيف تكون حالك حينئذ؟

قال: أكون قتيلاً أو محارباً، و أكلة أول مفترس.
قال: و إن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح مما يكون إذا ألزمت بما تقدم ذكره.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة.
قال: يكون ذلك مجحفاً بملكي، و مذهباً لجميع لذاتي.
قال: فإن اقتصرت منك على السدس؟ قال: يكون السدس موفراً، و الباقي لجيشي، و لأسباب الملك.
قال: قد اقتصرت منك على هذا.
فشكره، و انصرف.
فلما أصبح، و طلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض، و أحاط بجيش الاسكندر، حتى خافوا الهلكة، و تواثب أصحابه، فركبوا و استعدوا للحرب.
فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين و عليه التاج، فلما رأى الاسكندر ترجل.
فقال له الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا و الله.
قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك، أني لم أطعك من قلة و ضعف، و الآن ترى هذا الجيش، و ما غاب عنك منه أكثر، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلاً عليك، ممكناً لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأكبر. غلب، فأردت طاعته بطاعتك، و الذلة لأمره، بالذلة لك.
فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني و بينك، أحداً، يستحق التفضيل، و الوصف بالعقل، غيرك، و قد أعفيتك من جميع ما أردته منك، و أنا منصرف عنك.
فقال لملك الصين: إما إذا فعلت ذلك، فلست تخسر.
فلما انصرف الاسكندر، أتبعه ملك الصين، من الهدايا و الألطاف، بضعف ما كان قرره معه .

أبو هاشم الجبائي
يموت في السادسة و الأربعين ذكر المحسن بن علي التنوخي، في كتاب نشوار المحاضرة و أخبار المذاكرة، في الجزء الحادي عشر منه، و قد ضمن في خطبة كتابه هذا، أنه تحقق ما يوجد فيه عنده. قال: حدثني أبو الحسن بن الأزرق ، قال: كان أبو هاشم بن أبي علي الجبائي، لما قدم بغداد، يخبرنا أ، أباه أبا علي، كان كثير الإصابة في علم النجوم، و يحدثنا من ذلك بأحاديث كثيرة، و أخبرنا أنه حكم له أن يعيش نيفاً و سبعين سنة شمسية، فكنا لإصابة أبي علي في الأحكام، طياب النفوس بهذا الحكم.
فلما اعتل أبو هاشم علته التي مات فيها ببغداد، جئت إليه. عائداً، فوجدت أخته، ابنة أبي علي، قلقة عليه، فأخذت أطيب نفسها، حتى قلت: أليس قد حكم أبوه أنه يعيش نيفاً و سبعين سنة شمسية؟ قالت: بلى، و لكن على شرط.
قلت: ما هو؟ قالت: إنه قال: إن أفلت في السنة السادسة و الأربعين، و قد اعتل هذه العلة الصعبة فيها، فقلقي عليه لذلك، خوفاً من أن يصح الحكم الأول.
قال أبو الحسن: فمات في تلك العلة .
النجوم تكشف عن مولود أحنف
و من إصابات أبي علي الجبائي في أحكام النجوم، ما رواه أيضاً في نشوار المحاضرة، قال: حدثني القاسم بن بدر الرامهرمزي ، و كان يخلفني على العيار في دار الضرب، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عباس ، قال: كنت مع أبي علي الجبائي في عسكر مكرم، فاجتاز بدار، فسمع فيها ضجة بولادة فقال: إن صح ما يقول المنجمون، فهذا المولود ذو عاهة.
فدققت الباب، فخرجت امرأة، فسألتها عن الخبر، فجمجمت .
ثم خرج رجل كهل، فحين رآه أبو علي، قال: هذه دارك؟ قال: نعم.
قال: فكيف هو؟ يعني المولود.
قال: أحنف . فأخذ أبو علي يطيب نفسه.
فقال تتفضل يا أبا علي، فتدخل تحنكه، و تؤذن في أذنه، فلعل الله يجعله مباركاً.
فدخل و حنكه، و أذن في أذنه، و رأيناه و هو أحنف.
يتنبأ بموت مولود في يومه السادس عشر
و من إصابات أبي علي في النجوم، ما حكاه التنوخي، في كتاب نشوار المحاضرة أيضاً، قال: سمعت أبا أحمد بن مسلمة الشاهد العسكري المعتزلي الحنفي، و كان شيخ بلده، يحكي عن رجل من أهل عسكر مكرم ، و وثقه و عظمه، قال: كنت مع أبي علي الجبائي جالساً في داره في عسكر مكرم، فدخل إليه بعض غلمانه، فقال له: اجلس.
فقال: لي زوجة تطلق، و أريد الرجوع إليها لحاجة طلبتها.
فقال أبو علي، لبعض من حضر: امض معه، فإذا ولدت امرأته، فخذ الارتفاع، و جئني به.
ففعل.
فلما كان في غد، قال لنا أبو علي: إن صح حكم التنجيم، فإن هذا الولد يموت بعد خمسة عشر يوماً.
فلما كان اليوم السادس عشر، و كنا جلوساً ندرس على أبي علي، إذ دخل الرجل، فقال: إن فلاناً قد مات، يعني ولده. فقال أبو علي: قوموا فأحضروه، و وفوه حقه.

تنبأوا له بالوزارة و هو صبي
و من المعروفين بعلم النجوم، و الإصابة فيها، فتى من ولد يحيى بن يعقوب.
فمن حكايته في ذلك، ما ذكره التنوخي في كتابه، قال: حدثني أبو الحسين ، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج النحوي ، قال: كنت أؤدب القاسم بن عبيد الله ، و كان أبوه إذ ذاك، يحضره الديوان.
فلما أخرجه من المكتب، كنت معه في الديوان ببادوريا ، و هو معه فيه، و له من العمر ست عشرة سنة، و أبوه متعطل، و ذلك في وزارة إسماعيل ابن بلبل ، للموفق و المعتمد .
و كان معه في ذلك الديوان جماعة من أولاد الكتاب، و فيهم فتى نجيب من ولد يعقوب بن فرازون النصراني، و كان يفهم النجوم.
فقال له ذلك الفتى: يا سيدي أرى فيك نجابة و صناعة، و لك حظ من الرياسة، و قد رأيت مولد، و هو يدل على أنك تتقلد الوزارة، و تطول أيامك فيها، فاكتب لي حظاً، يكون معي تذكر فيه اجتماعنا، و تضمن لي أن يكون لي حظ منك إذ ذاك، حق بشارتي لك.
قال: فأخذ القرطاس، و كتب فيه، بحسن خطه: ليلقني فلان، إذا بلغني الله ما احب، لأبلغه ما يحب إن شاء الله.
فحدثت أباه في ذلك، ففرح، و قال: قد و الله سررتني بذلك. و احضر المنجمين، و اخرج مولده، فحكموا له بالوزارة، و أنه يتقلدها سنة ثمان و سبعين .
فخلف أباه على وزارة المعتضد في إمارته ، و دامت له إلى أن مات .
وزير لا تغيره الوزارة
قال لي الزجاج : لما ولي القاسم الوزارة بعد موت أبيه، و دخل داره، وقفت في صحن الدار، لينصرف الناس، و دخل هو ليستريح، فيخرج للناس، فلا أنسى هيبتي عند غلمانه، حيث دخلت عليه، فلم أمنع، فوجدته قد صلى و سلم، و هو يدعو الله في خلوته، و ليس بحضرته أحد، فلما رآني، قام إلي، فانكببت على رجله.
فقال لي: يا سيدي، يا أبا إسحاق، أنت أستاذي، و هذا الذي أعتقده في إكرامك، و كان في نفسي أن أعاملك به قبل أن تشرفني عند حضور الناس، و توقير مجلس الخلافة، و إذا فعلت ذلك، فهو حقك علي، و إذا لم أفعله، فهو نقص حق العلم و العمل.
قال: ثم ما أنكرت منه شيئاً في عشرة، و لا مخاطبة، عما كان يعاملني به، إلى أن مات .
القاضي التنوخي والد المحسن
و قوة حافظته قال القاضي التنوخي، في الجزء السادس من نشوار المحاضرة: كان أبي يحفظ للطائيين سبعمائة قصيدة و مقطوعة ، سوى ما لغيرهم من المحدثين، و المخضرمين، و الجاهليين.
و لقد رأيت له دفتراً بخط يده يحتوي على رؤوس ما حفظه، و هو الآن عندي في نيف و ثلاثين ورقة، أثمان منصوري لطاف.
و كان يحفظ من اللغة و النحو شيئاً عظيماً.
و مع ذلك كان علم الفقه و الفرائض و الشروط و المحاضرة و السجلات رأس ماله، و كان يحفظ منه ما قد اشتهر به.
و كان يحفظ من الكلام و المنطق و الهندسة الكثير، و كان في علم النجوم، و الأحكام، و الهيئة، قدوة، و كذلك في علم العروض، و له فيها، و في الفقه و غيره، عدة كتب مصنفة.
و كان مع ذلك يحفظ و يحدث فوق عشرين ألف حديث، و ما رأيت أحداً أحفظ منه، و لولا أن حفظه متفرق في هذه العلوم، لكان أمراً هائلاً.
أبو يوسف البريدي يخالف منجمه فيقتل
ومن الموصوفين بعلم النجوم من السلمين، أبو القاسم غلام زحل ، و قد حكى الشيخ الفاضل المحسن بن علي التنوخي، في الجزء السادس من نشوار المحاضرة عنه جملاً، و ذكر طرفاً من فضله، و إصابته في الأحكام بالنجوم، فقال: و من العجيب، حكمه في قتل أبي يوسف ، فإنه قد كان يخدمه في النجوم أبو القاسم غلام زحل المنجم، و هو الآن شيخ من شيوخ المنجمين في الأحكام، و كان أبي يقدمه في هذه الصناعة، و يستخدمه فيها، و يسلم إليه سني تحويل مولده، و مولدي، إذا قطعه قاطع عن عملها بيده، لأنه كان قلما يأخذ تحاويلنا بيده، بل يولي ذلك غيره .
و أبو القاسم الآن مقيم بخدمة الأمير عضد الدولة بشيراز .
فقال أبو القاسم هذا، لأبي يوسف البريدي، في اليوم الذي عزم فيه على الركون إلى الأبلة ، ليسلم فيه على أخيه أبي عبد الله : أيها الأستاذ لا تركب، فإن هذا اليوم يوجب تحويلك فيه عليك، قطعاً بالحديد.
فقال: يا فاعل، إنما أركب إلى أخي فممن أخاف؟ و خرج بالطيار.
فعاد غلام زحل، فأخرج جميع ما كان له في الدار من أثاث، و ذهب لينصرف.
فقال له الحجاب: إلى أين؟

فقال: أهرب، لأن الدار بعد ساعة تنهب.
و مضى أبو يوسف، إلى أبي عبد الله، فقتله في ذلك اليوم .
و كان هذا الخبر مشهوراً، عن أبي القاسم غلام زحل، نقله أبي، و شهد بصحته.
و كان يحكي ذلك في تلك الأيام، و أنا صبي، فأسمع ذلك، و كان يعده من إصابات، غلام زحل.

سهلون و يزدجرد ابنا مهمندار الكسروي
و ممن وصف بعلم النجوم، سهلون، و يزدجرد، ن علماء الإسلام فيما ذكره التنوخي في رابع أجزاء النشوار، فقال ما هذا لفظه: حدثني أبو عبد الله محمد الحارثي ، قال: كان ببغداد، في أيام المقتدر، أخوان، كهلان، فاضلان، و عندهما من كل فن مليح، و هما من أحرار فارس، قد نشآ ببغداد، و تأدبا بها، و تعلما علوماً كثيرة، يقال لأحدهما: سهلون، و للآخر يزدجرد، ابنا مهمندار الكسروي، و يعرفان بذلك، لانتسابهما إلى الأكاسرة، و كانا ذوي نعمة قديمة، و حالة ضخمة، و كنت ألزمهما، على طريق الأدب.
و كان ليزدجرد منهما، كتاب حسن ألفه في صفة بغداد ، و عدد سككها، و حماماتها، و شوارعها، و ما تحتاج إليها في كل يوم من الأقوات و الأموال، و ما تحتوي عليه من الناس، و عدة كتب أدبية و فلسفية، قرت أكثرها عليه.
و كان هو و أخوه ينشدان الشعر الجيد لأنفسهما، و سهلون بن مهمندار كان لزم بعض الرؤساء، و عمل له رسائل و قصائد.
ثم ذكر التنوخي، ن شعر سهلون، ما يقتضي علمه بالنجو، فقال: أنشد من شعره:
تعففت عن أخذ الدراهم و البر ... ليمسك من سري فبالغت بالستر
و لم ير ميلي للجين و للتبر ... و لكن لإكرامي و أن يعرفوا قدري
و لست أسوم الناس صعباً من الأمر ... و لا عابني حال من العسر و اليسر
و لا أنا ممن يمدح الناس بالشعر ... و لا أنا من يهجو بشعر و لا نثر
و لكنني رب العلوم و ذو الأمر ... بنظم تغليه الجواري على الدر
و لي دربة طالت على كل عالم ... إذا أعوز الإنسان علم بما يدري
من الطب و التنجيم من بعد منطق ... و لا علم إلا ما أحاط به صدري
و ها أنا سيف الله علماً بدينه ... أذب عن التوحيد في أمم الكفر
ثم ذكر تمام الأبيات، و المراد منها ما ذكره عن نفسه في عالم النجوم.
أبو العباس بن المنجم
يعرض بأبي عبد الله البصري المتكلم و ن المعروفين بعلم النجوم من أهل الإسلام، و إن لم يعرف له شيء من الأحكام، ممن ذكرهم التنوخي، في كتابه النشوار، جماعة، منهم: أبو بكر ابن عمر ، و قد صنف كتباً كثيرة في النجوم.
و منهم أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم .
و نمهم يحيى بن أبي منصور المنجم ، و كان يحيى مجوسياً، أسلم على يد المأمون، فصار مولاه بذلك، و كان خصيصاً به، و منجمه، و نديمه.
و أبو منصور، والده، منجم المنصور .
و منهم أبو الحسن محمد بن سليمان، صاحب الجيش، و كان منقطعاً إلى أبي علي بن مقلة، قبل الوزارة، و بعدها، مختصاً به من اجل النجوم و الأدب.
و منهم الحسن بن علي بن زيد المنجم ، غلام أبي نافع، عامل معز الدولة على الأهواز و قطعة من كورها، و محله عنده محل أحد وزرائه.
و منهم والد أبي العباس هبة الله بن المنجم، الذي ذكر التنوخي، أن ولده أبا العباس جرت له حكاية، فقال: أنشد أبو العباس لنفسه، يعرض بأبي عبد الله البصري المتكلم ، لما صير له عضد الدولة رسماً، أن يحمل من مائدته كل يوم جونة كبيرة، طعاماً، تشريفاً له بذلك.
و أنا أقول: كان سبب ذلك، أنه أقطعه إقطاعاً بمال جليل في كل سنة، فلم يقبل، فبذل له شراء ضباع يوقفها عليه، بدل هذا الإقطاع، و تستطاب غلتها، و يصخ إنفاقها، فلم يقبل، و أبى.
قال عضد الدولة : فلا أقل من أن ينفذ إليك في كل يوم، نم حضرتي، بما تأكله، و في كل فصل بكسوة، و طيب تستعمله.
فأجاب في ذلك.
فأنفذ إليه ثياباً جليلة، من صنوف القطن، و الكتان، و العود الهندي، و نواعاً من العطر، و صار ينفذ إليه جونة في كل يوم، مع غلام من أصحاب مائدته، من الطعام الذي يقدم إليه، ثم يشال من بين يديه.

فقال هبة الله أبو العباس المنجم، لكني سمعت هذا الشعر، و أبو العباس ليس بحي، و لا أبو إسحاق النصيبي ، فأعرف صحته، إلا أني أثق بخبر أبي علي ، و الشعر هو:
أظهر هذا الشيخ مكنونه ... و جن لما أبصر الجونه
شح عليها إذ رأى حسنها ... و هي بلحم الطير مشحونه
أسلم للعاثور إسلامه ... و باع في أكلتها دينه

منجم يأخذ طالع المعتصم
ذكر التنوخي في الجزء السابع من نشوار المحاضرة، قال: حدثني علي ابن العباس النوبختي ، قال: جدثني محمد بن داود بن الجراح ، قال: حدثني أبو علي الحسن بن وهب ، قال: رأيت يوماً محمد بن عبد الملك الزيات ، قد عاد من موكب المعتصم ، قبل خروجه إلى سامراء، و هو على غاية من الضجر، و كنت جوراً عليه.
فقلت: ما لي أرى الوزير أيده الله مهموماً؟ قال: أفما عرفت خبري؟ قلت: لا.
قال: ركب أمير المؤمنين، و أنا أسايره من جانب، و ابن أبي دؤاد يسايره من الجانب الآخر، حتى بلغنا رحبة الجسر، فأطال الوقوف، حتى ظننا أنه ينتظر شيئاً.
ثم أسرع خادم يركض، حتى أسر إليه سراً، فقال: غممتني، و كر راجعاً إلى الجانب الشرقي، فلما توسط الطريق جعل يضحك، و لا شيء يضحكه.
فجسر عليه ابن أبي دؤاد، فقال: إن رأى أمير المؤمنين، أن يشركنا بالسرور فيما يسره.
قال: ليست لكما حاجة في ذلك.
فقال ابن أبي دؤاد: بلى.
قال: أما إذا سألتماني لم ركبت اليوم، فإني اعتمدت أن أبعد، و صرت إلى رحبة الجسر، فذكرت منجماً كان يجلس فيها أيام فتنة الأمين ، و بعدها، و كان موصوفاً بالحذق قديماً، و كنت أسمع به.
فلما غلب إبراهيم بن شكلة ، على الامور، اعتمد علي في الرزق، و أجرى لي خمسمائة دينار في الشهر، و لم يكن أحد داخله أكثر رزقاً مني، لأن جيشه إنما كان كل واحد له تسعة دراهم و عشرة، و القواد مثلها دنانير و نحو ذلك، لضيق الأحوال، و خراب البلاد، و الناس إنما كانوا يقاتلون معه عصبية، لا لجائزة.
فركبت يوماً حماراً، متنكراً لبعض شأني، فرأيت ذلك المنجم، فتطلعت إليه نفسي أن أسأله عن أمر إبراهيم و أمري، و هل يتم لنا شيء، أم يغلبنا المأمون ، فعدلت إلى المنجم، و كنت متنكراً.
و قلت للغلام: أعطه ما معك، فأعطاه درهمين.
و قلت له: خذ الطالع، و اعمل لي مسألة، ففعل.
ثم قال لي: سألتك بالله هل أنت هاشمي؟ قلت: ما سؤالك عن هذا؟ فقال: كذا يوجب الطالع، فإن لم تصدقني لم أنظر لك.
فقلت: نعم.
قال: فهذا الطالع أسد، و هو الطالع في الدنيا، و إنه يوجب لك الخلافة، و أنت تفتح الآفاق، و تزيل الممالك، و يعظم جيشك، و تبني لك بلاداً عظيمة، و يكون من شأنك كذا، و من أمرك كذا، و قص علي جميع ما أنا فيه الآن.
قلت: فهذا السعود، فهل علي من النحوس؟ قال: لا، و لكنك إذا ملكت، فارقت وطنك، و كثرت أسفارك.
قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شيء أنحس عليك من شيء واحد.
قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولون عليك في أيام ملكك، أصولهم دنية، سفلة، فيغلبون عليك، و يكونون أكابر أهل مملكتك.
قال: فعرضت عليه دراهم كانت في خريطة معي في خفي، فحلف أن لا يقبل غير ما أخذه.
و قال: إذا وليت هذا الأمر فاذكروني، و أحسن في ذلك الوقت إلي. فقلت: أفعل.
و لكني ما ذكرته إلى الآن، و لما بلغت الرحبة، وقعت عيني على موضعه فذكرته، و ذكرت كلمته، و تأملتكما حوالي، و أنتما أكبر أهل مملكتي، و أنت ابن زيات ، و هذا ابن قيار و أومأ إلى ابن أبي دؤاد فإذا قد صح جميع ما قال.
فأنفذت هذا الخادم في طلبه و البحث عنه، لأفي له بسالف الوعد، فعاد إلي، و ذكر أنه قد مات قريباً، فكسلت، و غمتني أن فاتني الإحسان إليه، فرجعت عن الأبعاد، و أخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السفل.
قال: فانكسرنا، و وددنا أنا ما سألناه.
كيف اتصل نوبخت المنجم
بأبي جعفر المنصور أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: أنبأنا الحسين بن القاسم الكسروي ، قال: حدثني أبو سهل بن علي بن نوبخت ، قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية، و كان في علم النجوم نهاية، و كان محبوساً في سجن الأهواز.

قال: رأيت أبا جعفر المنصور قد دخل السجن ، فرأيت من هيبته، و جلالته، و سيماه، و حسن وجهه، و شأنه، ما لم أره لأحد قط، فصرت من موضعي إليه، فقلت: يا سيدي، ليس وجهك من وجوه أهل هذه البلاد.
فقال: أجل يا مجوسي.
قلت: من أي بلاد أنت؟ قال: من المدينة.
قلت: أي مدينة؟ قال: مدينة الرسول صلوات الله عليه.
فقلت: و حق الشمس و القمر، من أولاد صاحب المدينة؟ قال: لا، و لكن من عرب المدينة. فلم أزل أتقرب إليه و أحدثه، حتى سألته عن كنيته. فقال: أبو جعفر.
فقلت: أبشر، وجدتك في الأحكام النجومية، تملكني، و جميع ما في هذا البلد، حتى تملك فارس، و خراسان، و الجبال.
فقال لي: و ما يدريك يا مجوسي؟ قلت: هو كما أقول، و اذكر لي هذا.
قال: إن قضى الله، فسوف يكون.
قلت: قد قضى الله من السماء، فطب نفساً.
و طلبت دواة، فوجدتها، فقلت: اكتب، فكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا فتح الله على المسلمين، و كفاهم معرة الظالمين، و رد الحق إلى أهله، فلا نغفلك.
فقلت: اكتب لي في خدمتك خطاً، و أماناً. فكتب لي.
قال نوبخت: و لما ولي الخلافة، صرت إليه، فأخرجت الكتاب، فقال: أنا له ذاكر مع الأمان، و الحمد لله الذي صدق وعده، و رد الحق إلى أهله.
قال: فأسلم نوبخت، و كان منجماً لأبي جعفر، و مولى له.

كلب يموت على قبر صاحبه
و ذكر بعض الرواة ، قال: كان للربيع بن بدر، كلب قد رباه، فلما مات الربيع، و دفن، جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات.
و كان لعامر بن عنترة كلاب صيد و ماشية، و كان يحسن صحبتها، فلما مات عامر، لزمت الكلاب قبره، حتى ماتت عنده، و تفرق عنه الأهل و الأقارب.
وفاء الكلب، و غدر أبي سماعة
كان للأعمش كلب يتبعه في الطريق إذا مشى، حتى يرجع، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت صبياناً يضربونه، ففرقت بينهم و بينه، فعرف لي ذلك فشكره، فإذا رآني يبصبص لي، و يتبعني.
و لو عاش أيدك الله الأعمش إلى عصرنا، و وقتنا هذا، حتى يرى أهل زماننا هذا، و يسمع خبر أبي سماعة المعيطي و نظائره، لازداد في كلبه رغبة، و له محبة.
قال: هجا أبو سماعة المعيطي، خالد بن برمك ، و كان إليه محسناً، فلما ولي يحيى الوزارة، دخل إليه أبو سماعة، فيمن دخل من المهنئين.
فقال: أنشدني الأبيات التي قلتها.
فقال: ما هب؟ قال: قولك:
زرت يحيى و خالداً مخلصاً لل ... ه ديني فاستصغرا بعض شأني
و لو أني ألحدت في الله يوماً ... أو لو أني عبدت ما يعبان
ما استخفا فيما أظن بشأني ... و لأصبحت منهما بمكان
إن شكلي و شكل من جحد الل ... ه و آياته لمختلفان
قال أبو سماعة: لا أعرف هذا الشعر، و لا من قاله.
فقال له يحيى: ما تملك صدقة إن كنت تعرف من قالها؟ فحلف.
فقال يحيى: و امرأتك طالق، فحلف.
فأقبل يحيى على الغساني، و منصور بن زياد، و الأشعثي، و محمد بن محمد العبدي و كانوا حضوراً في المجلس و قال: ما أحسبنا إلا و قد احتجنا أن نجدد لأبي سماعة منزلاً، و آلة، و حرماً، و متاعاً، يا غلام: ادفع له عشرة آلاف درهم، و تختاً فيه عشرة أثواب، فدفع إليه.
فلما خرج تلقاه أصحابه، يهنئونه، و يسألونه عن أمره، فقال: ما عسيت أن أقول إلا أنه ابن زانية أبي إلا كرماً.
فبلغت يحيى كلمته من ساعته، فأمر به، فحضر، فقال له يا أبا سماعة، لم تعرق في هجائنا، و تغرق في شتمنا؟ فقال له أبو سماعة: ما عرفته أيها الوزير، افتراء و كذب علي. فنظر إليه يحيى ملياً، ثم أنشأ يقول:
إذا ما المرء لم يخدش يظفر ... و لم يوجد له أن عض ناب
رمى فيه الغميزة من بغاها و ذلت من قرائنه الصعاب فقال أبو سماعة: كلا أيها الوزير، و لكنه كما قال:
لم يبلغ المجد أقوام و إن شرفوا ... حتى يذلوا، و إن عزوا، لأقوام
و يشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل و لكن صفح أحلام
ثم تمثل قائلاً:
متى لم تتسع أخلاق قوم ... تضيق بهم فسيحات البلاد
إذا ما المرء لم يخلق لبيباً فليس اللب عن قدم الولاد ثم قال: هو و الله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المؤمن لا يشفي غيظه.

ثم إن أبا سماعة، هجا بعد ذلك سليمان بن أبي جعفر ، و كان إليه محسناً، فأمر به الرشيد ، فحلق رأسه و لحيته .

كلب يرج صاحبه من حفرة دفن فيها حيا
ً
أنبأنا الفقيه أبو موسى عيسى بن أبي عيسى القابسي ، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي قراءة عليه، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه الخزاز ، أن أبا بكر محمد بن خلف بن المرزبان ، أخبرهم، قال: أنشدني أبو عبيدة ، لبعض الشعراء:
يعرج عنه جاره و شقيقه ... و يرغب فيه كلبه و هو ضاربه
قال أبو عبيدة: قيل هذا الشعر، في رجل من أهل البصرة خرج إلى الجبانة ينتظر ركابه، فاتبعه كلب له فطرده، و ضربه، و كره أن يتبعه، و رماه بحجر فأدماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه.
فلما صار إلى الموقع، وثب به قوم، كانت لهم عنده طائلة ، و كان معه جار له، و أخ، فهربا عنه، و تركاه و أسلماه، فجرح جراحات كثيرة، و رمي به في بئر، و حثوا عليه التراب، حتى واروه، و لم يشكوا في موته، و الكلب مه هذا يهر عليهم ، و هم يرجمونه.
فلما انصرفوا، أتى الكلب إلى رأس البئر، فلم يزل يعوي، و يبحث في التراب بمخالبه، حتى ظهر رأس صاحبه و فيه نفس يتردد، و قد كان أشرف على التلف، و لم يبق فيه، إلا حشاشة نفسه، و وصل إليه الروح.
فبينما هو كذلك، إذ مر أناس، فأنكروا مكان الكلب، و رأوه كأنه يحفر قبراً، فجاءوا، فإذا هم بالرجل على تلك الحال، فاستخرجوه حياً و حملوه إلى أهله.
فزعم أبو عبيدة، أن ذلك الموضع، يدعى: بئر الكلب.
كلب خلص صاحبه من موت محقق
حدثني عبد الله بن محمد الكاتب، قال: حدثني أبي، عن محمد بن خلاد ، قال: قدم رجل على بعض السلاطين، و كان معه حاكم أرمينية، منصرفاً إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، فإذا قبر عليه قبة مبنية، مكتوب عليها: هذا قبر الكلب، فمن أحب أن يعلم خبره، فليمض إلى قرية كذا و كذا، فإن فيها من يخبره.
فسأل الرجل عن القرية، فدلوه عليها، فقصدها، و سأل أهلها، فدلوه على شيخ، فبعث إليه، و أحضره، و إذا شيخ قد جاوز المائة سنة، فسأله، فقال: نعم، كان في هذه الناحية ملك عظيم الشأن، و كان مستهتراً بالنزهة و الصيد و السفر، و كان له كلب قد رباه، و سماه باسم، و كان لا يفارقه حيث كان، فإذا كان وقت غدائه و عشائه، أطعمه مما يأكل.
فخرج يوماً إلى بعض متنزهاته، و قال لبعض غلمانه: قل للطباخ، يصلح لنا ثريدة لبن، فقد اشتهيتها، فأصلحوها، و مضى إلى متنزهاته.
فوجه الطباخ، فجاء بلبن، و صنع له ثريدة عظيمة، و نسي أن يغطيها بشيء، و اشتغل بطبخ شيء آخر.
فخرج من بعض شقوق الحيطان أفعى، فكرع من ذلك اللبن، و مج في الثريدة من سمه، و الكلب رابض، برى ذلك كله، و لو كان له في الأفعى حيلة لمنعها، و لكن لا حيلة للكلب في الأفعى و الحية، و كان عند الملك جارية خرساء، زمنة ، قد رأت ما صنع الأفعى.
ووافى الملك من الصيد في آخر النهار، فقال: يا غلمان، أول ما تقدموان إلي الثريدة.
فلما قدموها بين يديه، أومأت الخرساء إليهم، فلم يفهموا ما تقول، و نيح الكلب و صاح، فلم يلتفتوا إليه، و ألح في الصياح ليعلمهم مراده فيه.
ثم رمى إليه بما كان يرمي إليه في كل يوم، فلم يقربه، و لج في الصياح.
فقال لغلمانه: نحوه عنا، فإن له قصة، و مد يده إلى اللبن.
فلما رآه الكلب، يريد أ، يأكل، وثب إلى وسط المائدة، و أدخل فمه في اللبن و كرع منه، فسقط ميتاً، و تناثر لحمه.
و بقي الملك متعجباً منه و من فعله، فأومأت الخرساء إليهم، فعرفوا مرادها، و ما صنع الكلب.
فقال الملك لندمائه و حاشيته: إن كلباً قد فداني بنفسه، لحقيق بالمكافأة، و ما يحمله و يدفنه غيري، و دفنه بين أبيه و أمه، و بنى عليه قبة، و كتب عليها ما قرأت، و هذا ما كان من خبره .
أبو الحسن القمي يقترح أصواتا
ً
كان أبو الحسن القمي، يكتب لروزبهان بن ونداد خورشيد ، على إقطاعه في السواد، و خليفة عنه بحضرة معز الدولة ، ببغداد، و كان يهوى منداة جارية قهرمانة ابن مقلة ، و هي صبية مليحة الوجه، طيبة الغناء، و كان من أصواته عليها:
أيا راهبينجران ما فعلت هند ... أقامت على عهدي و أني لها عهد

فأراد يوماً أن تغنيه له، فقال له: يا ستي، غني لي ذاك سوت :
أيا راهبي نجران ما فعلت هندي ... أقامت بلا عهد و إني بلا عهد
فضحكت، و قالت له: أعلم أنك سفلة، بلا عهد.
و قال لها مرة: يا ستي، غني ذاك سوت: يا فاطمة بعط ذلول فضحكت و ضحك الحاضرون، يريد: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل و حدثت عنه، بين يديه، و هو يسمع، قالت: غنيت له ليلة:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
و فيه لحن حسن، فأعجبه، و أطربه، و لم يزل يتلقنه، و يتحفظه، إلى أن ظن أنه قد أتقنه.
و صبر ساعة، وقال لي: يا ستي، بالله غني لي، ذاك سوت: أمن سميته دموعك عينك ذرذف فضحكت منه، فقال: ما لك؟ فأعدت البيت عليه، على صحته.
فقال: يا باردة، كله واحد.
قالت: و غنيت له مرة، صوتاً استحسنه، و قال لي: يا ستي، اكتبيه لي.
فقلت له: يا هذا أنت كاتب أو أنا؟ فقال: أنا ما أحسن أكتبه بلحنه، أريد تكتبينه أنت بلحنه، كما تحسنينه .

أبو الحسن القمي يتحدث عن يقطين قم
و كان يوماً في دار أبي الحسن الأهوازي ، فتحدث بحديث يقطين يكون بقم ، عظيماً، حتى إن قشر الواحدة إذا فرغ و جفف وسع من الحنطة شيئاً كثيراً.
و قال: و هو مقبل على أبي الحسن بن محمود البادرائي، نديم أبي الحسن الأهوازي، و كان طيباً، نادراً، فقال له: إقطعون رأسك، أخرجون صوف.
فقال له ابن محمود: يكون يا سيدي في قرع قم، صوف؟ قال: هاي، كيف يكون صوف في قرع؟ إنما أخرجون قماش بطنك.
فقال ابن محمود: كانت حالي مع الصوف أصلح، مر يا سيدي في حديثك، فلك نيتك، و قد علمنا ما أردت.
فضحكت الجماعة.
فقال: ذا قرع مبارك، جاب الضحك و الفرح.
و ضحك معهم .
رقعة أبي الحسن القمي
إلى الأمير عبد الواحد بن المقتدر و كتب يوماً رقعة إلى عبد الواحد بن المقتدر بالله ، يسأله مبايعته سقف ساج مذهب، كان في بيت ماء في داره على دجلة، بباب خراسان : بسم الله الرحمن الرحيم، قد علم سيدي الأمير، حال السقف الذهب، الذي حاشا وجه سيدي في الخلاء، و هو هدية من ماله، و الشكر عليه كثير، و ليس أجعله و حياة راس سيدي الأمير في الخلاء، أريده لصفة ، و يوعز سيدي الأمير، إذا منحني من ثمنه، مزحت مع سيدي، و ليس أخرج له من رأي قضاء حقي، حتى أبو محمد القرافي يعرفه ما في الأمر، و يزن الثمن، و عرفته ذلك، حتى يعمل معي ما يشبهه، إن شاء الله .
ابن الجصاص يتحدث
عما سلم من أمواله من المصادرة حكى ابن الجصاص ، قال: كنت يوم قبض علي المقتدر ، جالسا في داري، و أنا ضيق الصدر، و كانت عادتي، إذا حصل مثل ذلك، أن أخرج جواهر كانت عندي في درج، معدة لمثل هذا، من ياقوت أحمر، و أصفر، و أزرق، و حباً كباراً، و دراً فاخراً، ما قيمته خمسين ألف دينار، و أضعه في صينية، و ألعب به حتى يزول قبضي.
فاستدعيت بذلك الدرج، فأتي به بلا صينية، فأفرغته من حجر، و جلست في صحن داري، في بستان، في يوم بارد، طيب الشمس، و هو مزهر بصنوف الشقائق و المنثور .
و أنا ألعب بذلك، إذا دخل الناس بالزعقات و المكروه، فلما رأيتهم دهشت، و نفضت جميع ما كان في حجري من الجوهر، بين ذلك الزهر في البستان، فلم يروه.
و أخذت، و حملت، و بقيت مدة في المصادرة و الحبس، و تقلبت الفصول على البستان، و جف ما فيه، و لم يفكر أحد فيه.
فلما فرج الله عني، و جئت إلى داري، و رأيت المكان الذي كنت فيه، ذكرت الجوهر، فقلت: ترى بقي منه شيء؟.
ثم قلت: هيهات، و أمسكت.
ثم قمت، و معي غلام ينثر البستان بين يدي، و أنا أفتش ما ينثره، و آخذ الواحدة بعد الواحدة، إلى أن وجدت الجميع، و لم أفقد منه شيئاً .
ابن الجصاص يتحدث
عما سلم من أمواله من المصادرة قال ابن الجصاص: لما نكبني المقتدر، وأخذ مني تلك الأموال العظيمة ، و أصبحت يوما في الحبس، آيس ما كنت فيه من الفرج، فجاءني خادم، فقال: البشرى! قلت: و ما الخبر؟ قال: قم، فقد أطلقت.
فقمت معه، فاجتاز بي في بعض دور الخليفة، يريد إخراجي من دار السيدة، لتكون هي التي تطلقني، لأنها هي شفعت في.
فوقعت عيني على أعدال خيش لأعرفها، و ما مبلغها مائة عدل، فقلت: أليس هذا من الخيش الذي حمل من داري؟

قال: بلى.
فتأملته، فإذا هو مائة عدل، و كانت هذه الأعدال، قد حملت إلي من مصر، في كل عدل منها ألف دينار، و كانت هناك ، فخافوا عليها، فجعلوها في أعدال الخيش، فوصلت سالمة، و لاستغنائي عن المال، لم أخرجه من الأعدال، و تركته في بيت من داري، و قفلت عليه، و نقل كل ما في داري، فكان آخر ما نقل منها، الخيش، و لم يعرف أحد ما فيه، فلما رأيته بشده، طمعت في خلاصه.
فلما كان بعد أيام من خروجي، راسلت السيدة، و شكوت حالي إليها، و سألتها أن تدفع إلي ذلك الخيش لا نتفع بثمنه، إذ كان لا قدر له عندهم، و لا حاجة بهم إليه، فوعدتني بخطاب مقتدر في ذلك.
فلما كان بعد أيام، أذكرتها، فقالت: قد أمر بتسليمه إليك.
فسلم إلي بأسره، ففتحته، فأخذت منه المائة ألف دينار ما أضاع منها شيء، و بعت من الخيش و ما أرادت، بعد أن أخذت منه قدر الحاجة .

الوزير ابن الفرات يحسن إلى عطار
حكى أن ابن الفرات اجتاز يوماً ببعض الطرق، فاتفق أن سار تحت ميزاب، فوقع عليه منه ما لوث ثيابه، و سرجه، و دابته، فوقف في الطريق، و أنفذ إلى داره من يحضره خلعة ثياب أخرى، فرآه رجل عطار كان في الموضع، فقام إليه، و سأله أن يدخل إلى منزله، و يقيم فيه، إلى أن يعود الرسول بالثياب، ففعل، و أقام عنده، و خلع ما كان عليه، و تنظف بالماء مما كان أصابه، و أحضره الغلام الثياب، فلبسها، ثم سأله العطار، أن يأذن له في إحضار بخور يتبخر به، فأذن له، و ركب أبو الحسن.
و مضت الأيام، فلما ولي الوزارة، كانت حال العطار قد اختلت، و رزحت .
فقالت له زوجته: لو مضيت إلى الوزير، و تعرفت عليه بخدمتك كانت له ، لرجوت أن ينظر في أمرك نظراً يغير به حالك.
فأعرض عن قولها، و استبعد الأمل مما ذكرته.
ثم ألحت عليه في القول، فمضى، و دخل دار أبي الحسن، و تعرض له، إلى أن رآه، فأمسك، و انصرف.
فعرف زوجته ما جرى، فأشارت عليه بالعود.
فعاد و معه رقعة يستميحه فيها، و لم يزل حتى وجد فرصة، فعرضها عليه، فلما وقف عليها، قال: سل حاجة، تقض لك.
و اتفق أن صار إليه من خاطبه في أمر كاتب للعيال ، كان محبوساً، و سأله مسألة الوزير إطلاقه، و ضمن له خمسة آلاف دينار له خاصة، و للوزير عشرين ألف دينار، على يده، و للحواشي خمسة آلاف دينار، و واقفه على تعديل المال، عند بعض التجار بالكرخ.
فلما توثق منه، قصد الوزير، و معه رقعة بالصورة، فأمره بحمل المال، ليطلق له الرجل.
فحمل المال، فلما حصل في الدار، منع بعض الخدم من إدخاله في الخزانة، إلى أن يؤذن في قبضه.
و عرف الوزير أمره، فتقدم إلى العطار، أن يفرق ما للحاشية عليهم، و يأخذ جميع الباقي لنفسه، و أمر بإطلاق كاتب العيال.
فاستعظم العطار ذلك، و ملأ قلبه، و رأى قدره يصغر عن مثله، فقال للوزير: يقنعني من هذا كله، ألف دينار، أغير بها حالي، و أجعلها رأس مالي.
فقال له: خذ الجميع، عافاك الله، و لا تكثر علي في الخطاب.
فخرج من حضرته، و صار إلى أبي أحمد المحسن، و عرفه الحال، و أنه يقنعه اليسير مما أعطيه، و أومأ إلى حمل الباقي إليه.
فقال له أبو أحمد: يأمر لك الوزير بشيء و أصانعك عليه؟ خذ المال، و انصرف .
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
و انبثت عن عمر ابن أحمد بن هبة الله، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحنبلي، بأصبهان، عن أبي طاهر التاجر، قال: أنبأنا أبو القاسم بن منده، إذناً، عن أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، قال: حدثني أبو الحسن البصري، قال: قال لي رجل: كنت أخدم علي بن محمد بن الفرات، وزيراً، فقال: فغضب عليه السلطان، و تقدم بحبسه.
قال: و كان عندي خمسمائة دينار، فقلت لامرأتي، و كانت ذات عقل و رزانة: إني أريد أن أحمل هذه الدنانير إلى الوزير، لعله يحتاج إليها في حبسه.
قالت: ويحك، إن ابن الفرات، لا يحمل إليه خمسمائة دينار، فإنه يستخفها، و حاملها.
قال: فعصيتها، و حملت الدنانير.
فلما رآني، تعجب، و قال: فلان؟ قلت: نعم، أيد الله سيدنا.
قال: حاجتك؟ فأخرجت الصرة، و قلت: هذه خمسمائة دينار، و لعلها تصلح أن تبر بها بواباً، أو موكلاً.
فقال: قبلتها، ثم قال: خذها، تكون وديعة عندك.
قال: فخجلت، و رجعت إلى امرأتي، و حدثتها، فقالت: قد كنت أشرت عليك، أن لا تفعل، فأبيت.

قال ثم إن السلطان، رضي عن الوزير، و عاد إلى أفضل مما كان عليه، فدخلت عليه؛ فلما أبصرني، طأطأ رأسه، و لم يملأ عينه مني فقلت: هذا ما قالته لي امرأتي.
و كنت أغدو إليه بعد، و أروح، فلا يزداد إلا إعراضاً عني، حتى أنفقت تلك الدنانير، و بقيت متعطلاً، أبيع ما في بيتي.
و بكرت إلى ابن الفرات يوماً، على ما بي من انكسار، و ضعف حال و منة، فدعاني، و قال: وردت البصرة سفن من بلاد الهند، فانحدر، و فسرها، و أقبض حق بيت المال ، و ما كان من رسمنا من المستثنى ، و لا تتأخر.
فعدت إلى أهلي، فقلت لها: من تمام المحنة، إنه كلفني سفراً، و أنا لا أقدر ما أنفقه.
قال: فناولتني خماراً لها، و قرطين، فبعث ذلك، و جعلت ثمنه نفقتي، و انحدرت، و فسرت السفن ، و قبضت حق بيت المال، و رسم الوزير، فحملته إلى بغداد، و عرفت الوزير فقال: سلم الحق بيت المال، و اقبض الرسم المستثنى لنا، و كم هو؟ قلت له: خمسة و عشون ألف دينار.
قال: احملها إلى منزلك.
فأخذتها إلى منزلي، و سهرت ليلي لحفظتها، على اهتمامي طول نهاري بها، و مضى لهذا الحديث زمان ليس بالطويل، و بان الضر في وجهي.
فدخلت إليه يوماً، فقال لي: ادن مني، ما لي أراك متغير اللون، سيء الحال؟.
فحدثته بإقلالي و إضاقتي.
فقال: ويحك، و أنت ممن ينفق في مدة يسيرة، خمسة و عشرين ألف دينار؟ قلت: أيد الله سيدنا الوزير، و من أين لي خمسة و عشرون ألف دينار؟ قال: يا جاهل، أما قلت لك احملها إلى منزلك؟ أتراني لم أجد من أودعه مالي غيرك؟ ويحك أما رأيت إعراضي عنك، أول دخولك إلي.
قلت: بلى أيها الوزير، و ذاك الذي لأذاب قلبي.
قال: ويحك، إنما أعرضت عنك، حياء منك، و تذكرت جميل صنيعك، و أنا محبوس، فقلت: متى أقضي حق هذا فيما فعله؟ فجعل إلى منزلك، و اتسع في النفقة، و أنا أنظر لك، بما يغنيك، و يغني عقبك، إن شاء الله تعالى.
فعدت إلى منزلي، عودة عبد من عند مولى كريم، و كان ذلك سبب غناي.

خشكنانجانات حشوها دنانير
حكى ابن الهمذاني، أن ابن سمعون ، ذكر على كرسيه في ليلة النصف من رمضان، الحلوى، و كانت مزنة، جارية أبي سعيد الصائغ ، حاضرة، و هو تاجر مشهور بكثرة المال، و منزله بدرب رباح، فلما أمسى، أتاه غلام و معه خشكنا نكه ، فكسر واحة، فوجد فيها ديناراً فكسر الجميع، و أخرج الدنانير، و حملها بنفسه، إلى أبي سعيد الصائغ، و قال: قد جئتك في سبب، و أريد أن يكون جوابك قبول قولي، و أن لا تنكر على أهل الدار، و أخبره بالدنانير.
فقال له أبو سعيد: أعيذك بالله، أن يحضر مجلسك من فيه ريبة، و الله ما تركت المرأة الدنانير إلا بحضرتي، و تساعدنا جميعاً على هذا العمل.
يكتب هذا في مكارم الأخلاق
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني محمد بن احمد بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن احمد بن موسى القاضي، يقول: حضرت مجلس موسى بن إسحاق ، القاضي بالري، سنة ست و ثمانين و مائتين، فتقدمت امرأة، فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر.
فقال القاضي: شهودك؟ قال: قد أحضرتهم.
فاستدعى بعض الشهود، أن ينظر إلى المرأة، ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد، و قال للمرأة: قومي.
فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك، و هي مسفرة، لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج: أنا أشهد القاضي، أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه، و لا تسفر عن وجهها.
فأخبرت المرأة بما كان زوجها، فقالت: و أنا أشهد القاضي، أني قد وهبته هذا المهر، و أبرأته منه في الدنيا و الآخرة.
فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق.
من التقط ما تحت مائدته أمن من الفقر
و حكي عن هدبة بن خالد ، رحمه الله، قال: حضرت مائدة المأمون، فلما رفعت المائدة، جعلت ألتقط ما في الأرض، فنظر إليّ المأمون، فقال: أما شبعت يا شيخ؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين، و لكن حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ابن أنس ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم، يقول: من التقط ما تحت مائدته، أمن من الفقر.
فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه، فأشار إليه، فما شعرت أن جاءني، و معه منديل فيه ألف دينار، فناولني إياه.

فقلت: يا أمير المؤمنين، و هذا من ذاك.

من محاسن القاضي أحمد بن أبي دؤاد
و من ملح أخبار القاضي أحمد بن أبي دؤاد، ما حكي : أن المعتصم كان بالجوسق، مع ندمائه، و قد عزم على الاصطباح، فأمر كلاً منهم أن يطبخ قدراً، و نظر سلامة، غلام أحمد بن أبي دؤاد، فقال: هذا غلام ابن أبي دؤاد جاء ليعرف خبرنا، و الساعة يأتي، فيقول: فلان الهاشمي، و فلان القرشي، و فلان الأنصاري، و فلان العربي، فيقطعنا بحوائجه عما كنا عزمنا عليه، و أنا أشهدكم أني لا أقضي له اليوم حاجة.
فلم يكن بأسرع من أن دخل إيتاخ ، يستأذن لأحمد بن أبي دؤاد. فقال لجلسائه: كيف ترون؟ قالوا: لا تأذن له يا أمير المؤمنين.
قال: سوأة لهذا الرأي، و الله، لحمي سنة، أسهل عليّ من ذلك.
فأذن له، فدخل، فما هو إلا أن سلم، و جلس، و تكلم، حتى أسفر وجه المعتصم، و ضحكت إليه جوارحه.
ثم قال: يا أبا عبد الله، قد طبخ كل واحد من هؤلاء قدراً، و قد جعلناك حكماً في أطيبها.
قال: فلتحضر لآكل، و أحكم بعلم.
فأمر المعتصم بإحضارها، فأحضرت القدور بين يديه، و تقدم القاضي أحمد بن أبي دؤاد، فجعل يأكل من أول قدر أكلاً تاماً.
فقال له المعتصم: هذا ظلم.
قال: و كيف ذاك؟ قال: أراك قد أمعنت في هذا اللون، و ستحكم لصاحبه.
قال: يا أمير المؤمنين، ليس بلقمة، و لا باثنتين، تدرك المعرفة بأخلاط الطعام، و عليّ أ، أوفي كلاً حقه من الذوق، ثم يقع الحكم بعد ذلك.
فتبسم المعتصم، و قال: شأنك إذاً.
فأكل من جميعها، كما ذكر، ثم قال: أما هذه فقد أجاد صاحبها، إذ كثر خلها و قلل فلفلها، ليشتهي حمضها، و أما هذه فقد أحكمها طباخها، بتقليل مائها، و كثرة ربها، و أقبل يصفها واحدة واحدة، حتى أتى على جميعها، بصفات سر بها أصحابها.
و أمر المعتصم بإحضار المائدة، فأكل مع القوم بأكملهم، أنظف أكل و أحسنه، فمرة يحدثهم بأخبار الأكلة في صدر الإسلام، مثل معاوية بن أبي سفيان، و سليمان بن عبد الملك، و عبيد الله بن زياد، و الحجاج، و مرة يحدثهم عن أكلة دهره، مثل ميسرة الرواس، وحاتم الكيال، و إسحاق الحمامي، فلما رفعت الموائد قال له المعتصم: ألك حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: فاذكرها، فإن أصحابنا يريدون أن يتشاغلوا بقية يومهم.
فقال: رجل من أهلك يا أمير المؤمنين، قد وطئه الدهر، فغير من حاله، خشن معيشته.
قال: و من هو؟ قال: سليمان بن عبد الملك النوفلي.
قال: قدر له ما يصحه.
قال: خمسين ألف درهم.
قال: قد أمرت له بها.
قال: و حاجة أخرى. قال: و ما هي؟ قال: ضياع هارون بن المعمر توغر بها له . قال: قد فعلت.
قال: فوالله ما برح حتى سأل في ثلاث عشرة حاجة، لا يرده المعتصم عن شيء منها.
ثم قام خطيباً، فقال: يا أمير المؤمنين، عمرك الله طويلاً، فبعمرك يخصب جناب رعيتك، و يلين عيشهم، و تنمو أموالهم، و لا زلت ممتعاً بالسلامة، منعماً بالكرامة، مدفوعاً عنك حوادث الأيام، و غيرها، ثم انصرف.
فقال المعتصم: هذا و الله الذي يتزين بمثله، و يبتهج بقربه، أما رأيتم كيف دخل؟ و كيف أكل، و كيف وصف القدور، و كيف انبسط في الحديث، و كيف طاب به أكلنا؟ و الله لا يرد هذا عن حاجة إلا لئيم الأصل، خبيث الفرع، و الله، لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ألف درهم، ما رددته عنها، فإني أعلم أنه يكسبني في الدنيا جمالاً و حمداً و في الآخرة ثواباً و أجراً .
قاضي القضاة ابن أبي دؤاد
ينجي أبا دلف من القتل قيل: كان الأفشين مبغضاً لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ، و حاسداً له على فضله، و يبغضه للفروسية و الشجاعة ، فحمل نفسه يوماً على قتله، و استدعاه باستحثاث و إزعاج.
و كان أبو دلف، صديقاً لقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد، فبعث إليه: أدركني، فمن أمري كذا و كذا، فركب مسرعاً، و استحضر من حضره من الشهود.
فلما ورد باب الأفشين، قال له الغلمان: نستأذن لك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك، و نزل، و دخل، فألفى الأفشين جالساً في موضعه، و قد أقيم أبو دلف بين يديه في الصحن.
فلما رأى الأفشين قاضي القضاة، دخل بلا أذن، بهت.
فقال له أحمد بن أبي دؤاد: أيها الأمير، أنا رسول أمير المؤمنين إليك، يأمرك أن لا تحدث في أمر القاسم حدثاً إلا بإذنه.

ثم التفت إلى الشهود، فقال: اشهدوا أني قد بلغت رسالة أمير المؤمنين و القاسم حي معافى.
ثم خرج فأتى باب المعتصم مسرعاً، و استأذن عليه، فأذن له، فلما دخل عليه، قال: يا أمير المؤمنين، قد كذبت عليك واحدة، أرجو بها الجنة، و لك بها الفخر.
قال: و ما هي؟ قال: كان من الأمر كيت و كيت.
قال: فضحك المعتصم، و قال: أحسنت، أحسن الله إليك.
ثم لم يلبث أن جاء الأفشين مستأذناً، فأذن له، فلما استقر مجلسه قال: يا أمير المؤمنين، جاءتني رسالة منك مع قاضي القضاة في معنى أبي دلف، فما تأمر في شأنه؟ قال: نعم، أرسلت إليك فيه، فاحذر أن تتعرض له إلا بخير. فأفلت بذلك من يده .

سنان بن ثابت الحراني
يعالج أمير الأمراء بجكم بعث بجكم التركي، أمير الأمراء ، إلى الطبيب سنان بن ثابت ، بعد موت الراضي ، و سأله أن ينحدر إليه، إلى واسط ، فانحدر إليه، فأكرمه و قال له: إني أريد أن أعتمد عليك في تدبير بدني، و في أمر آخر، هو أهم إلي من أمر بدني، و هو أمر أخلاقي، لثقتي بعقلك، و دينك، فقد غمتني غلبة الغضب، و الغيظ، و إفراطهما فيّ، حتى أخرج إلى ما أندم عليه، عند سكونهما، من ضرب، و قتل، و أنا أسألك أن تتفقد ما أعمله، فإذا وقفت لي على عيب، لم تحتشم أن تصدقني عنه، و تنبهي عليه، ثم ترشدني إلى علاجه.
فقال له: السمع و الطاعة، أنا أفعل ذلك، و لكن يسمع الأمير مني بالعاجل، جملة علاج ما أنكره من نفسه، إلى أ، آتي بالتفصيل في أوقاته: اعلم أيها الأمير، أنك قد أصبحت، و لي سفوق يدك يد لأحد من المخلوقين، و أنك مالك لكل ما تريده، قادر على أن تفعله، ي وقت أردته، لا يتهيأ لأحد من المخلوقين منعك منه، و لا أن يحول بينك و بين ما تهواه، أي وقت أردت، و اعلم أ، الغيظ و الغضب يحدثان في الإنسان سكراً، أشد من سكر النبيذ بكثير، فكما أن الإنسان يعمل في وقت السكر من النبيذ، ما لا يليق به، و لا يذكره إذا صحا، و يندم عليه إذا حدث به، و يستحي منه، كذلك يحدث له في وقت السكر من الغيظ، بل أشد، فإذا ابتدأ بك الغضب، فضع في نفسك أن تؤخر العقوبة إلى غد، واثقاً بأن ما تريد أن تعمله في الوقت، لا يفوتك عمله، فإنك إذا بت ليلتك، سكنت فورة غضبك، و قد قيل: أصح ما يكون الإنسان رأياً، إذا استدبر ليله، و استقبل نهاره، فإذا صحوت من سكرك، فتأمل الأمر الذي أغضبك، و قدم أمر الله عز وجل، أولاً، و الخوف منه، و ترك التعرض لسخطه، و اشف غيظك، بما لا يؤثمك، فقد قيل: ما سفى غيظه من أثم، و اذكر قدرة الله عليك، فإنك تحتاج إلى رحمته، و إلى أخذه بيدك، في أوقات شدائدك، فكما تحب أن يغفر لك، كذلك غيرك، يؤمل عفوك، و فكر بأية بات المذنب قلقاً لخوفه منك، و ما يتوقعه من عقوبتك و اعرف مقدار ما يصل إليه من السرور، بزوال الرعب عنه، و مقدار الثواب الذي يحصل لكم، بذلك، و اذكر قوله تعالى: ألا تحبون أن يغفر الله لكم، و إنما يشتد ذلك عليك مرتين، أو ثلاثاً، ثم تصير عادة لك، و خلقاً، فيسهل.
فابتدأ بجكم، فعمل بما قال له .
مسافر لا يفكر في قطع الطريق
قال عبد الواحد بن نصر المخزومي : أخبرني من أثق به أنه خرج في طريق الشام، مسافراً يمشي و عليه مرقعة، و هو في جماعة نحو الثلاثين رجلاً، كلهم على هذه الصفة، قال: فصحبنا في بعض الطريق رجل شيخ، حسن الهيأة، معه حمار فاره يركبه، و معه بغلان عليهما رحل، و قماش، و متاع فاخر.
فقلنا له: يا هذا، إنا لا نفكر في خروج الأعراب علينا، فإنه لا شيء معنا يؤخذ، و أنت لا تصلح لك صحبتنا، مع ما معك.
فقال: يكفينا الله.
ثم سار، و لم يقبل منا، و كان إذا نزل يأكل، استدعى أكثرنا، فأطعمه و سقاه، و إذا أعيى الواحد منا، أركبه على أحد بغليه، و كانت الجماعة تخدمه و تكرمه، و تتدبر برأيه.
إلى أن بلغنا موضعاً، فخرج علينا نحو ثلاثين فارساً من الأعراب، فتفرقنا عليهم، فقال الشيخ: لا تفعلوا، فتركناهم، و نزل، فجلس، و بين يديه سفرته، ففرشها، وجلس يأكل.
و أظللتنا الخيل، فلما رأوا الطعام، دعاهم إليه، فجلسوا يأكلون، ثم حل حله، و أخرج منه حلوى كثيرة، و تركها بين يدي الأعراب، فلما أكلوا، و شبعوا، جمدت أيديهم، و خدرت أرجلهم، و لم يتحركوا.

فقال لنا: إن الحلو مبنج، أعددته لمثل هذا، و قد تمكن منهم، و تمت الحيلة عليهم، و لكن لا يفك البنج ، إلا أن تصفعوهم، فافعلوا، فإنهم لا يقدرون على الامتناع.
فعلمنا صدق قوله، و أخذنا أسلحتهم، و ركبنا دوابهم، و سرنا حواليه في موكب، و رماحهم على أكتافنا، و سلاحهم علينا، فما نجتاز بقوم، إلا ظنونا من أهل البادية، فيطلبون النجاء منا، حتى بلغنا مأمننا.

فهل عند رسم دارس من معول
قال أبو بكر الصولي، حضرت باب علي بن عيسى الوزير، معنا جماعة من أجلاء الكتاب، فقدمت دواة، و كتبت:
وقفت على باب ابن عيسى كأنني ... قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
إذا جئت أشكو طول فقري و خلتي ... يقولون لا تهلك أسى و تجمل
ففاضت دموع العين من قبح ردهم ... على النحر حتى بل دمعي محملي
لقد طال تردادي و قصدي إليهم ... فهل عند رسم دارس من معول
فنم الخبر إليه، فاستدعاني، و قال: يا صولي، فهل عند رسم دارس من معول؟ فاستحييت، وقلت: أيد الله الوزير، ما بقي شيء، و أنا كما ترى فأمر لي بخمسة آلاف درهم فأخذتها، و انصرفت .
ألا موت يباع فأشتريه
و من لطائف المنقول: أن أبا محمد الوزير المهلبي، كان في غاية من الأدب، و المحبة لأهله، و كان قبل اتصاله بمعز الدولة بن بويه، في شدة عظيمة ن الضرورة و المضايقة، و سافر و هو على تلك الحالة، و لقي في سفره شدة عظيمة، فاشتهى اللحم، فلم يقدر عليه، فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
غلا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو أنني فيما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه
و كان له رفيق، يقال له: أبو عبد الله الصوفي، و قيل: أبو الحسن العسقلاني، فلما سمع هذه الأبيات، اشترى له لحماً بدرهم، و طبخه، و أطعمه، و تفارقا.
و تنقلت الأحوال، و ولي الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور ، و ضاق الحال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر، و بلغه وزارة المهلبي، فقصده، و كتب إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... إلا موت يباع فأشتريه
فلما وقف عليها، تذكر الحال، و هزته أريحية الكرم، فأمر له بسبعمائة درهم، و وقع له في رقعته: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة.
ثم دعا به، فخلع عليه، وقلده عملاً، يرتفق منه .
سبحة المقتدر بالله
تقوم بما يزيد على مائة ألف دينار و أنبئت عنه ابن النجار، قال: أنبأنا أبو الفرج الحراني، عن أبي علي بن المهدي، قال: سمعت الأمير أبا محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، قال: أخبرتني والدتي عمرة، جارية المقتدر، قالت: استدعى المقتدر، بجواهر، فاختار منها مائة حبة، و نظمها سبحة يسبح بها، فعرض على الجوهريين، فقوموا كل حبة منها بألف دينار، و أكثر، فكان إذا أراد أن يسبح، استدعى بها، ثم ردها إليّ، فأعلقها في الخزانة، في خريطة.
فلما قتل المقتدر، وقع النهب، فأخذت في جملة ما أخذ، فلعل الذي أخذها، لا يدري ما هي .
ما أغنى عني ماليه
لما احتضر عضد الدولة ، في السنة اثنتين وسبعين و ثلثمائة، جعل يتمثل بقول القاسم بن عبيد الله :
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدواً و لم أمهل على ظنة خلقاً
و أخليت دور الملك من كل نازل ... فشردتهم غرباً و شردتهم شرقاً
فلما بلغت النجم عزاً و رفعة ... و صارت رقاب الخلق أجمع لي رقاً
رماني الردي سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاطلاً ملقى
فأذهبت دنياي و ديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
ثم جعل يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، فرددها إلى أن توفي في آخر يوم الاثنين من شوال هذه السنة، عن سبع و أربعين سنة، و أحد عشر شهراً و ثلاثة أيام ، و أخفى خبره، و دفن بدار المملكة، ثم حصل إلى مشهد علي عليه السلام.

أقوال الحكماء في الاسكندر
و في عضد الدولة لما توفي عضد الدولة سنة 372، بلغ خبره إلى مجلس بعض العلماء، و فيه جماعة من أكابر أهل العلم، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحكماء، عند موت الاسكندر ، و قد رويت لنا من طرق مختلفة الألفاظ، و نحن نذكر أحسنها: و ذاك، أن الاسكندر، لما مات، قام عند تابوته، جماعة من الحكماء، فقال أحدهم: سلك الاسكندر، طريق من فني، و في موته عبره لمن بقي.
و قال الثاني: خلف الاسكندر، ماله لغيره، و سيحكم فيه بغير حكمه.
و قال الثالث: أصبح الاسكندر مشتغلاً بما عانى، و هو بالأعمال يوم الجزاء أشغل.
و قال الرابع: كنت مثلي حديثاً، و أنا مثلك و شيكاً.
و قال الخامس: إن هذا الشخص كان لكم واعظاً، و لم يعظكم قط بأفضل من مصرعه.
و قال السادس: كان الاسكندر كحلم نائم انقضى، أو كظل غمام انجلى.
و قال السابع: لئن كنت بالأمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم، و ما يخافك أحد.
و قال الثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة، طويت في ذراعين.
و قال التاسع: أجاهل كنت بالموت فنعذرك، أم عالم به فنلومك؟ و قال العاشر: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، و كفى للملوك عظة بموت العامة.
و قال بعض من حضر المجلس، الذي أشيع فيه، بموت عضد الدولة، و ذكرت فيه هذه الكلمات، لو قلتم أنتم مثلها، لكان ذلك يؤثر عنكم.
فقال أحدهم : لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، و أعطاها فوق قيمتها، و حسبك أنه طلب الربح منها، فخسر روحه فيها.
و قال الثاني : من استيقظ لدنيا فهذا نومه، و من حلم فيها فهذا انتباهه.
و قال الثالث : ما رأيت غافلاً في غفلته، و لا عاقلاً في عقله، مثله فقد كان ينقض جانباً، و هو يظن أنه مبرم، و يغرم، وهو يظن أنه غانم.
و قال الرابع : من جد للدنيا هزلت به، و من هزل راغباً عنها جدت له.
و قال الخامس: ترك هذا الدنيا شاغرة، و رحل عنها بلا زاد و لا راحلة.
و قال السادس : إن ماءً أطفأ هذه النار لعظيم، و إن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوف.
و قال السابع : إنما سلبك من قدر عليك.
و قال الثامن : لو كان معتبراً في حياته، لما صار عبرة في مماته.
و قال التاسع: الصاعد في درجاتها إلى سفال، و النازل في دركاتها إلى معال.
و قال العاشر : كيف غفلت عن كيد هذا الأمر، حتى نفذ فيك، و هلا اتخذت دونه جنة تقيك، إن فيك لعبرة للمعتبرين، و إنك لآية للمستصرين .
الوزير بن الفرات
ينصب مطبخاً لأصحاب الحوائج و أنبئت عنه عمر ابن أحمد بن هبة الله، و عن غيره، قالوا: حدثنا ذار بن كامل، قال: كتب إليّ أبو بكر الشيراوي، قال: حدثنا بائق الشيراوي، قال: أخبرنا أبو القاسم محمد بن الحسن بن علي الساري ، أن محمد بن عمر الكاتب قال: حدثنا جماعة من مشايخنا: أن صاحب الخبر، رفع إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، و هو وزير، أن رجلاً من أرباب الحوائج، اشترى خبزاً و جناً، فأكله في الدهليز، فأقلقه ذلك، و أمر بنصب مطبخ، لمن يحضر من أرباب الحوائج . فلم يزل ذلك طول أيامه.
هذا جزاء من استودع فجحد
و من ذلك، ما حكي أنه: قدم رجل إلى بغداد، و معه عقد يساوي ألف دينار، فأراد بيعه، قلم يتفق، فجاء إلى عطار موصوف بالخير و الديانة، فأودع العقد عنده.
و حج: و أتى بهدية للعطار، و سلم عليه، فقال: من أنت؟ و من يعرفك؟ فقال: أنا صاحب العقد، فلما كلمه، رفسه، و ألقاه عن دكانه.
فاجتمع الناس، و قالوا: ويلك، هذا رجل صالح، فما وجدت من تكذب عليه، إلا هذا؟ فتحير الحاج، و تردد إليه، فما زاده إلا شتماً و ضرباً.
فقيل له: لو ذهبت إلى عضد الدولة ، لحصل لك من فراسته خير.
فكتب قصته، و جعلها على قصبة ، و عرضها عليه.
فقال له: ما شأنك؟ فقص عليه القصة.
فقال: اذهب غداً، و اجلس في دكان العطار، ثلاثة أيام، حتى أمر عليك في اليوم الرابع، فأقف، و أسلم عليك، فلا ترد عليّ إلا السلام، فإذا انصرفت، أعد عليه ذكر العقد، ثم أعلمني بما يقول لك.
ففعل الحاج ذلك.
فلما كان في اليوم الرابع، جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الحاج، وقف، و قال: السلام عليكم.
فقال الحاج: و عليكم السلام، و لم يترك.
فقال: يا أخي، تقدم إلى العراق، و لا تأتينا، و لا تعرض علينا حوائجك.

فقال له: ما اتفق هذا.
و لم يزده على ذلك شيئاً، هذا و العسكر واقف بأكمله، فانهل العطار و أيقن بالموت.
فلما انصرف عضد الدولة، لتفت العطار إلى الحاج، و قال له: يا أخي، متى أودعتني هذا العقد؟ و في أي شيء و هو ملفوف؟ فذكرني لعليّ أتذكر.
فقال: من صفته كذا و كذا.
فقام، و فتش، ثم فتح جراباً، و أخرج منه العقد، و قال: الله يعلم أني كنت ناسياً، و لو تذكرني به، ما تذكرت.
فأخذ الحاج العقد، و مضى إلى عضد الدولة، فأعلمه، فعلقه في عنق العطار، و صلبه على باب دكانه، و نودي عليه: هذا جزاء من استودع فجحد.
ثم أخذ الحاج العقد، و مضى إلى بلاده.

ابني ابني
و أنبئت عن المؤيد الطوسي، و أبي أحمد بن سكينة، و غيرهما، عن محمد بن عبد الباقي ، قال: كتب إليّ أبو غالب، محمد بن أحمد بن شبران الواسطي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب، قال: كنت عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين بن ماكولا ، يوماً فحدثه أبو بكر محمد بن عمر القاضي المعروف بابن الأخضر، و هو جالس إلى جنبي، قال: حدثني الشيخ أبو الحسن علي بن نصر الفقيه المالكي، و كان ناهيك به عدالة و ثقة و ضرب بيده على فخذي قال: زوجت أيام عضد الدولة بعض غلمانه الأتراك، من صبية في جوارنا، و كان لها، و لوالدتها، أنس بدارنا، و كانت من الموصوفات بالستر و العفاف، و مضى على ذلك سنتان.
و حضرني الغلام التركي ،و قال: يا سيدي، هذه المرأة التي زوجتني بها، قد ولدت لي ابناً، و ما أشكو شيئاً من أمرها، و لا أنكره، غير أنها ما أرتين ولدي منذ ولدته، و كلما طالبتها به، دافعتني عنه، و أريد أن أراه.
فبعثت عليها، و على والدتها، و خاطبتهما، فأشارت إليّ، و قالت: يا سيدي، صدق فيما حكاه، و إنما دافعناه عن هذا لأننا قد بلينا بلية قبيحة، و ذلك أن زوجته، ولدت منه، و لداً أبلق ، من رأسه إلى سرته أبيض، و بقيته إلى قدمه أسود، في لون الحبش.
قال: و سمع التركي قولها: أبلق، فصاح: داست كفت ، ثم قال بالعربية: ابني، ابني، و هكذا كان جدي، بالتركي ، و قد رضيت.
ففرحت المرأة بقوله، و انصرفت، فأظهرت له الولد .
النار ما اشتملت عليه ضلوعه
و الماء ما سحت به أجفانه أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن أبي نصر الحميدي ، قال: حدثني أبو محمد علي بن أبي عمر اليزيدي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الواحد الزبيري، قال: حدثني أبو علي الحسن بن الأشكري المصري، قال: كنت من جلاس الأمير تميم بن المعز ، و ممن غلب عليه جداً، فبعث بي إلى بغداد، فاشتريت له جارية رائعة، من أفضل ما وجد في الحسن و الغناء، فلما وصلت إليه، أقام دعوة لجلسائه، و أنا منهم ثم وضعت الستارة، و أمرها بالغناء، فغنت:
و بدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء و دونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فدنا لينظر كيف لاح فلم يط ... نظراً إليه و صده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... و الماء ما سحت به أجفانه
قال: أحسنت، و طرب تميم، و كل من حضر، ثم غنت:
سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة و أواخره
ثنى الله عطفيه و ألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره
فطرب الأمير تميم، و من حضر، طرباً شديداً. ثم غنت:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فاشتد طرب تميم، و أفرط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك مناك.
فقالت: أتمنى عافية الأمير و بقاءه.
فقال: و الله، لا بد لك أن تتمني.
فقالت: على الوفاء، أيها الأمير، بما أتمنى؟ فقال: نعم.
فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد.
فانتقع لون الأمير، و تغير لونه، و تكدر المجلس، و قام، و قمنا كلنا.
قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه، و قال لي: ارجع، فالأمير يدعوك.
فرجعت، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت، و جلست بين يديه.
فقال: ويحك، أرأيت ما امتحنا به؟ فقلت: نعم، أيها الأمير.

قال: لا بد من الوفاء لها، و ما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك، فاصرفها.
فقلت: سمعاً و طاعة.
قال: ثم قمت، و تأهبت، و أمرها بالتأهب، و أصحبها جارية له سوداء، تعادلها و تخدمها، و أمر بناقة و محمل، فأدخلت فيه، و حملها معي، ثم سرت إلى مكة، مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، و سرنا .
فلما وردنا القادسية ، أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي، أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية.
فانصرفت إليها، فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها يرتفع بالغناء:
لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق
و شممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي و لمن أح ... ب بجمع شمل و اتفاق
و ضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله، أعيدي بالله.
قال: فما سمع لها كلمة.
قال: ثم نزلنا بالياسرية ، و بينها و بين بغداد قرب، في بساتين متصلة، ينزلها الناس، فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد.
فلما كان قريب الصباح، إذا بالسوداء أتتني مذعورة.
فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيدتي ليست حاضرة.
فقلت: و أين هي؟ قالت: و الله ما أدري.
قال: فلم أحس لها أثراً بعد، و دخلت بغداد، و قضيت حوائجي منها، و انصرفت إليه، فأخبرته الخبر.
فعظم ذلك عليه، و اغتم له، ثم ما زال بعد ذلك، ذاكراً لها، واجماً عليها.

ابن أبي حامد صاحب بيت المال
يحسن إلى رجل من المتفقهة أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ، قال: حدثني عبيد الله بن أبي الفتح، قال: حدثنا أبو الحسن الدراقطني ، قال: كان أبو حامد المرورذي ، قليل الدخول على ابن أبي حامد، صاحب بيت المال ، و كان في مجلسه رجل من المتفقهة، فغاب عنه أياماً، فسأل عنه، فأخبر أنه متشاغل بأمر قد قطعه عن حضور المجلس، فأحضره، فسأله عن حاله، فذكر انه اشترى جارية لنفسه، و أنه انقطعت به النفقة، و ضاقت يده في تلك السنة، لانقطاع المادة عنه من بلده، و كان عليه دين لجماعة من السوقة، فلم يجد قضاء لذلك، دون أن باع الجارية، فلما قبض الثمن، تذكرها، و تشوق إليها، و استوحش من بعدها عنه، حتى لم يمكنه التشاغل بفقه، و لا بغيره، من شدة قلقه، و تعلق قلبه بها، و ذكر أن ابن أبي حامد قد اشتراها، فأوجبت الحال مضي أبي حامد الفقيه، إلى ابن أبي حامد، يسأله الإقامة، و أخذ المال من البائع.
فمضى، و معه الرجل، فحين استأذن على ابن أبي حامد، أذن له في الحال، فلما دخل إليه، قام إليه، و استقبله و أكرمه غاية الإكرام، و سأله عن حاله، و عما جاء له، فأخبره أبو حامد، بخبر الفقيه، و بيع الجارية، و سأله قبض المال، و رد الجارية على صاحبها.
فلم يعرف ابن أبي حامد، للجارية خبراً، و لا كان عنده علم من أمرها، و ذلك أن امرأته كانت قد اشترتها، و لم يعلم بذلك، فورد عليه من ذلك مورد، تبين في وجهه.
ثم قام و دخل على امرأته، يسألها عن جارية اشتريت في سوق النخاسين على الصفة و النعت.
فصادف ذلك، أن امرأته، كانت جالسة، و الجارية حاضرة، و هم يصلحون وجهها، و قد زينت بالثياب الحسان و الحلي.
فقالت: يا سيدي، هذه الجارية التي التمست.
فسر بذلك سروراً تاماً، إذ كانت عنده رغبة في قضاء حاجة أبي حامد، فعاد إلى أبي حامد، و قال له: خفت أن لا تكون الجارية في داري، و لا أن فهي بحمد الله عندنا، و الأمر للشيخ أعزه الله في بابها.
ثم أمر بإخراج الجارية، فحين أخرجت، تغير وجه الفتى، تغيراً شديداً، فعلم بذلك، أن الأمر كما ذكره الفقيه، من حبة لها، و صبابته بها.
فقال له ابن أبي حامد: هذه جاريتك؟ فقال: نعم، هذه جاريتي، و اضطرب كلامه من شدة ما نزل به عند رؤيتها.
فقال له: خذها، بارك الله لك فيها.
فجزاه أبو حامد خيراً، و شكره، و سأله قبض المال، و أخبره أنه على حاله، و قدره ثلاثة آلاف درهم، فأبى أن يأخذه، و طال الكلام في ذلك.
فقال أبو حامد، إنما قصدناك نسأل الإقالة، و لم نقصد أخذها على هذا الوجه.

فقال له ابن أبي حامد: هذا رجل فقير، و قد باعها لأجل فقره و حاجته، و متى أخذت المال، خيف عليه أن يبيعها ثانية، ممن لا يردها عليه، و المال في ذمته، فإذا جاءته نفقة من بلده، جاز أن يرد ذلك.
فرد المال له، و سلمه الجارية و كان عليها من الحلي و الثياب، شيء له قدر كبير.
فقال له أبو حامد: إن رأى أيده الله أن يتفضل، و ينفذ مع الجارية، من يقبض هذه الثياب، و الحلي الذي عليها، فما لهذا الفقيه أحد ينفذه به على يده.
فقال: سبحان الله، هذا شيء أسعفناها به، و وهبناه لها، سواء كانت في ملكنا، أو خرجت عن قبضتنا، و لسنا نرجع فيما وهبناه من ذلك.
فعرف أبو حامد، أو الوجه ما قاله، فلم يلح عليه، بل حسن موقعه من قلبه.
فلما أراد لينهض، و يودعه، قال ابن أبي حامد: أريد أن أسألها، قبل انصرافها، عن شيء. فقال: يا جارية، أيما أحب إليك، نحن، أو مولاك هذا الذي باعك و أنت له الآن؟ فقالت: يا سيدي، أما أنتم، فأحسن الله عونكم، و فعل بكم، و فعل، فقد أحسنتم إلي و أغنيتموني، و أما مولاي هذا، فلو ملكت منه ما ملك نفسي، ما بعته بالرغائب العظيمة.
فاستحسن الجماعة ذلك منها، و ما هي عليه من العقل مع الصبا. و ودعته، و انصرفوا.

طبيب يعالج جارية الرشيد
بإدخال الفزع إليها حدثنا أبو القاسم الجهني ، قال: إن حظية لبعض الخلفاء أظنه الرشيد قامت لتتمطى، فلما تمطت، جاءت لترد يديها فلم تقدر، و بقيتا جافتين، فصاحت، وآلمها ذلك، و بلغ الخليفة، فدخل، و شاهد من أمرها ما أقلقه، و شاور الأطباء، فكل قال شيئاً، و استعمله، فلم ينجح.
و بقيت الجارية، على تلك الصورة أياماً، و الخليفة قلق بها.
فجاءه أحد الأطباء، فقال: يا أمير المؤمنين، لا دواء لها، إلا أن يدخل إليها رجل غريب، فيخلو بها، و يمرخها مروخاً يعرفه، فأجابه الخليفة إلى ذلك، طلباً لعافيتها.
فأحضر الطبيب رجلاً، و أخرج من كمه دهناً، و قال: أريد أن تأمر يا أمير المؤمنين بتعريتها، حتى أمرخ جميع أعضائها بهذا الدهن، فشق ذلك عليه، ثم أمر أن يفعل ذلك، بعد أن تعريها، فعريت الجارية، و أقيمت.
فلما دخل الرجل، و قرب منها، سعى إليها، و أومأ إلى فرجها ليمسه، فغطت الجارية فرجها بيدها، و لشدة ما داخلها من الحياء و الجزع، حمي بدنها، بانتشار الحرارة الغريزية، فعاونتها على ما أرادت من تغطية فرجها، و استعمال يدها في ذلك، فلما غطت فرجها، قال لها الرجل: قد برئت، فلا تحركي يديك.
فأخذه الخادم، و جاء به إلى الرشيد، و أخبره الخبر.
فقال له الرشيد: كيف نعمل بمن شاهد فرج حرمتنا؟ فجذب الطبيب بيده لحية الرجل، فإذا هي ملتصقة، فانفصلت، فإذا الشخص جارية، و قال: يا أمير المؤمنين، ما كنت لأبدي حرمتك للرجال، و لكن خشيت أن أكشف لك الخبر، فيتصل بالجارية، فتبطل الحيلة، لأني أردت أن أدخل إلى قلبها فزعاً شديداً، يحمي طبعها، و يقودها إلى الحمل على يديها، و تحريكها، و إعانة الحرارة الغريزية على ذلك، فلم يقع غير هذا، فأخبرتك به، فأجزل الخليفة جائزته، و صرفه .
قال أبو القاسم: و لهذا استعملت الأطباء، في علاج اللقوة الضعيفة، الصفعة الشديدة، على غفلة، من ضد الجانب الملقو، ليدخل قلب المصفوع ما يحميه، فيحول وجهه ضرورة بالطبع إلى حيث صفع، فترجع لقوته .
المكتفي يفتقد وزيره المريض
مرض القاسم بن عبيد الله بن سليمان، الوزير، في رمضان سنة إحدى و تسعين و مائتين ، فأمر أن يطلق العمال من الحبوس، و يكفل من عليه مال، و يطلق من في الحبس من العلويين الذين أخذوا ظلماً بسبب القرمطي الناجم بالشام .
و زادت علته، فاستخلف ابن أخيه، أبا أحمد عبد الوهاب بن الحسن ابن عبيد الله ، فجاء يعرض على المكتفي، فلما خرج من بين يديه، تمثل المكتفي:
و لما أبى إلا جماحاً فؤاده ... و لم يسل عن ليلى بمال و لا أهل
تسلى. بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى و لا تسلي
ذكاء المنصور العباسي

و من ذلك، ما روي عن منصور بني العباس ، و هو أنه جلس يوماً في إحدى قباب المدينة ، فرأى رجلاً ملهوفاً، يجول في الطرقات، فأرسل إليه من أتاه به، فسأله عن حاله، فأخبره أنه خرج في تجارة، فأفاد فيها مالاً كثيراً، و أنه رجع بها إلى زوجته، و دفع المال إليها، فذكرت المرأة أن المال سرق من المنزل، و لم ير نقباً و لا تسلقاً.
فقال له المنصور: منذ كم تزوجتها؟ قال: منذ سنة.
قال: تزوجتها بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً.
قال: شابة أم مسنة؟ قال: شابة.
فدعا المنصور بقارورة طيب، و قال: تطيب بهذا، فإنه يذهب همك.
فأخذها، و انقلب إلى أهله.
فقال المنصور لجماعة من نقبائه: اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم، و شممتم منه روائح هذا الطيب، فأتوني به.
و مضى الرجل بالطيب، إلى بيته، فدفعه إلى المرأة، و قال: هذا من طيب أمير المؤمنين.
فلما شمته، أعجبها إلى الغاية، فبعثت به إلى رجل، كانت تحبه، و هو الذي دفعت المال إليه، فقالت له: تطيب بهذا الطيب.
فتطيب به، و مر مجتازاً بعض الأبواب، ففاحت منه روائح الطيب، فأخذ، و أتي به إلى المنصور.
فقال له: من أين استفدت هذا الطيب؟ فتلجلج في كلامه، فسلمه إلى صاحب شرطته، و قال له: إن أحضر كذا و كذا من الدنانير، فخذ منه، و إلا فاضربه ألف سوط.
فما هو إلا أن جرد ، و هدد، حتى أذعن برد الدنانير، و أحضرها، كهيئتها، ثم أعلم المنصور بذلك، فدعى صاحب الدنانير، و قال له: أرأيت إن رددت إليك الدنانير، أتحكّمني في امرأتك؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال: ها هي دنانيرك، و قد طلقت امرأتك.
و قص عليه الخبر.

يبايع بالخلافة و هو لاجئ في البطائح
أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا محمد بن أبي نصر الحميدي ، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد لن هلال بن المحسن ، قال: أخبرني أبي ، قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسن بن محفوظ قال: حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ما سرجس ، قال: حدثني أبو القاسم هبة الله بن عيسى، كاتب مهذب الدولة ، قال: لما ورد القادر بالله ، البطيحة، و أقام عندنا، كنت أغشاه يومين في كل أسبوع، كالنوبة في خدمته، فإذا حضرت، تناهى في الإدناء لي، و الإحفاء بي، و الرفع من مجلسي، و الزيادة في بسطي، و أجتهد في تقبيل ، و لا يمكنني منها.
فاتفق أن دخلت يوماً على رسمي، فوجدته متأهباً، تأهباً لم أعرف سببه، و لا جرت له به عادة، و لم أر منه، ما عودنيه، من الإكرام، و الرفع من مجلسي، و الإقبال عليّ، و البسط لي، و جلست دون موضعي، فما أنكر ذلك مني، و رمت تقبيل يده، فمدها إليّ و شاهدت، من أمره، و فعله، ما اشتد وجومي له، و اختلفت مني الظنون فيه، و قلت له عند رؤيتي ما رأيته، و إنكاري ما أنكرته: أيؤذن لي بالكلام.
قال: قل.
قلت: أرى اليوم من الانقباض عني، ما قد أوحشني، و خفت أن يكون لزلة كانت مني، فإن يكن ذلك، فمن حكم التفضل إشعاري به، لأطلب بالعذر مخرجاً منه، و أستعين بالأخلاق الشريفة في العفو عنه.
فأجابني بوقار: اسمع خبرك، رأيت البارحة في منامي، كأن نهركم هذان و أومأ إلى نهر الصليق ، قد اتسع، حتى صار في عرض دجلة دفعات، و كأنني متعجب من ذلك، و سرت على ضفتيه، متأملاً لأمره، و مستطرفاً لعظمه ، فرأيت دستاهيج قنطرة ، فقلت: ترى ن قد حدث نفسه، بعمل قنطرة في هذا الموضع، و على هذا البحر الكبير، و صعدته، و كان وثيقاً محكماً، و مددت عيني، فإذا بإزائه مثله، فزال عني الشك، في أنهما دستاهيج قنطرة، و أقبلت أصعد، و أصوب نظري، و أتعجب.
و بينما أنا واقف عليه، رأيت شخصاً قد قابلني من ذلك الجانب الآخر، و ناداني: يا أحمد، تريد أن تعبر؟ قلت: نعم.
فمد يده، حتى وصلت إليّ، و أخذني، و عبرني، فهالني أمره و فعله، و قلت له، و قد تعاطمني فعله: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، و هذا الأمر صائر إليك، و يطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي و شيعتي.
فما انتهى الخليفة إلى هذا الكلام، حتى سمعنا صياح الملاحين، و ضجيج ناس، فسألنا عن ذلك، فقيل: ورد أبو علي الحسن بن محمد بن نصر، و معه جماعة، و إذا هم الواردون للإصعاد به، و مد تقررت الخالفة له، و أنفذ إليه معهم قطعة من أذن الطائع لله .

فعاودت تقبيل يده، و رجله، و خاطبيته بإمرة المؤمنين، و بايعته و كان من إصعاده، و إصعادي معه، ما كان .
/الجزء الثامن

فرجة بين الصدر والقبر
حدثني أبو الحسين علي بن هشام بن عبد الله، الكاتب البغدادي، المعروف أبوه، بأبي قيراط، كاتب ابن الفرات، قال: سمعت أن أبا القاسم، كان إذا خلا، وتذكر أمر الآخرة، وما هو منقطع به عنها من أمر السلطان، يقول: اللهم، لا تخرجني من الصدر إلى القبر، لا فرجة لي بينهما.
قال أبو الحسين: فأجيبت دعوته، وجلس في منزله، قبل موته، نحو من سنة، تائباً من التصرف، تاركا لطلبه.
فلما اعتل علة موته، جاءته رسالة الراضي، يستدعيه، ليقرر معه أمر الوزارة، ويوليه إياها.
فقال: الآن؟ أين كان قبل مدة، لعله لو جاءني هذا الأمر، وأنا تائب، لما رددته، ولعلي كنت أنقض التوبة، فالحمد لله الذي لم يتم علي ذلك.
الوزير علي بن عيسى
يستحث عاملا على حمل الخراج
حدثني أبو الحسين، قال: أقرأني أبو عبد الله أحمد بن محمد الحكيمي كتاباً بخط علي بن عيسى، وأخبرني أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة، وهو يتقلد له طساسيج طريق خراسان، يحثه على حمل المال، ونسخته، قال: قد كنت - أكرمك الله - عندي، بعيداً عن التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير، راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت نحوك عنايتي، ورددت الجليل من العمال إليك، واعتمدت في المهم عليك.
ثم وضح لي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطاءك ولائمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال.
وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى تدر حمولتك وتتوفر، ويتصل ما يتوقع وروده من جهتك ولا يتأخر.
فنشدتك الله، لما " 2 " تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب على كتابي هذا، بمال تبتزه من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخيره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من التوكل
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو عبد الله بن علي البقطائي، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعة عبيد الله بن يحيى، طلب المتوكل لحدث من أولاد الكتاب، يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي، واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب، باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها.
فأسمي له جماعة، فاختار عبيد الله من بينهم.
فحضر أول يوم، فصلى في الدار ركعات، وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية، على رسم الكتاب.
قال أبو الحسين: لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلا القضاة، لا في موكب، ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب، فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.
فلما صلى عبيد الله، وجلس، لم يجتز به أحد من الحاشية، كبير ولا صغير، إلا قام إليه قائماً، وسلم عيه، حتى قام إلى رئيس الفراشين.
فرآه بعض الحاشية، فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس، حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له: فلان.
ثم أذن له المتوكل، لما خلا، فدخل إليه، وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق، فظهرت عنقه.
فلما رآه المتوكل، أومأ بيده إلى قفاه، ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها.
فنفق عليه، وخف على قلبه، وسر بذلك، واستخف روحه.
وقال له: اكتب فكتب وهو قائم: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، إلى قوله عز وجل " " 3 " " وينصرك الله نصراً عزيزاً " فكتب: وينصرك الله - يا أمير المؤمنين - نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له، وتفاءل بذلك.
وقال له: الزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.
وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها، وليس هو بعد وزير، والتاريخ لوصيف.
فأمره المتوكل في بعض الأيام، أن يكتب نسخة في أمر الأبنية، فقال: نعم.
فلما كان بعد ساعة، سأله، هل كتبت؟

فقال: لم يكن معي دواة.
فقال: اكتب الساعة، فاستحضر دواة.
وكان إيتاخ الحاجب قائماً، يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله، قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين، لتكتب بين يديه، فإذا حضرت بلا دواة فلأي شيء تجيء؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا؟ أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك، فأمر به فبطح، وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً؟ فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد، فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره، فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قصده إيتاخ لمحبتي له.
وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبة، لتمكنه من الأتراك.
فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم.
فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله، ويثاقفه.
وقوي أمر عبيد الله، حتى حذف نفسه، من غير أمر، اسم وصيف من التاريخ، وأثبت اسمه.
ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة، بعد مديدة، وخلع عليه لها خلعاً آخر.
ثم قلده كتابة المعتز، وخلع عليه.
ثم قلده كتابة المؤيد، وخلع عليه.
وضم المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجلاً، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً.
فلما تمكن هذا التمكن بالجيش، والمحل، عارض إيتاخ، وبطأ حوائجه، وقصده، ووضع من كتابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله، إلى أن دبر على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحج.

الواثق ومحمد بن عبد الملك الزيات
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن الحسن، الكاتب المعروف بابن الماشطة، وكان يتقلد قديماً العمالات، ثم صار من شيوخ الكتاب، وتقلد في أيام حامد بن العباس، ديوان بيت المال، قال: سمعت أبا الفضل، وهو يحكي عن أبيه، وهو ابن الفضل بن مروان، قال: كان في نفس الواثق، على محمد بن عبد الملك الزيات، العظائم، مما كان يعامله به في أيام أبيه.
فمن ذلك: أن المعلم شكا إلى المعتصم، أن الواثق لا يتعلم، فإذا طالبه بذلك، شتمه، ووثب عليه، فأمر المعتصم محمداً، بأن يضرب الواثق أربعة مقارع.
فخرج محمد، واستدعى الواثق، وضربه ثلاث عشرة مقرعة، حتى مرض.
فلما عرف أبوه الخبر، أنكر ذلك، وحلف للواثق، أنه ما أمر محمداً، إلا أن يضربه أربع مقارع، فأخفاها في نفسه، فكان يبغضه.
وعلم محمد بذلك، فكان يقصده في ضياعه وأملاكه، لما ترعرع وصار أميراً.
فوقع المعتصم يوماً، أن يقطع الواثق، ما ارتفاعه ألف ألف درهم، فمحاها محمد، وكتب: ما قيمته ألف ألف درهم.
فلما دخل إليه الخادم، وعرفه ما عمله محمد، وثب إلى أبيه، وعرفه ذلك، وعرض التوقيع عليه.
فقال له المعتصم: ما أغير ما وقعت به، وما أرى في التوقيع إصلاحاً، وكان محمد قد أجاد محوه.
وعلم المعتصم، أن رأي محمد في الاقتصاد، أصلح، فبطل ما كان يريده الواثق، وانصرف.
فقال للخادم: قد تم علي من هذا الكلب، كل مكروه، فإن أفضت الخلافة إلي، فقتلني الله إن لم أقتله.
ثم قال له: أنت خادمي، وثقتي، فإن أفضى هذا الأمر إلي فاقتله ساعة أخاطب بالخلافة، ولا تشاورني، وجئني برأسه.
قال: فمضت الأيام، وتقلد الواثق، فحضر الدار في أول يوم، محمد ابن عبد الملك " 5 " ، مع الكتاب.
فتقدم الواثق إلى الكتاب دونه، بأن يكتب كل منهم نسخة، بخبر وفاة المعتصم، وتقلده الخلافة، فكتبوا بأسرهم، وعرضوا ذلك عليه، فلم يرضه.
فقال لمحمد: اكتب أنت.
فكتب في الحال، بلا نسخة، كتاباً حسناً، وعرضه، فاستحسنه، وأمر بتحرير الكتب عليه.
ولم يبرح من حضرته، حتى أقره على الوزارة، وخرج من بين يديه، والناس كلهم خلفه.
قال الخادم: فعجبت من ذلك، وقلت: تراه أنسي ما كان أمرني به؟ لم لا أستأذنه في ذلك، وأذكره به؟ فتقدمت إليه لما خلا، وأذكرته الحديث، واستأذنته، فقال: ويحك، السلطان إلى محمد بن عبد الملك، أحوج من محمد إلى سلطان، دعه.
قال: فرقاه الواثق إلى ما لم يرقه إليه المعتصم.
قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً، وزر وزارة واحدة، بلا صرف لثلاثة خلفاء متسقين، غير محمد بن عبد الملك.

أبو خازم القاضي
يطالب الخليفة المعتضد بما في ذمته للوقف
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: حدثني وكيع القاضي.
قال أبو الحسين: وقد رأيت محمد بن خلف، وكيع، وكتبت عنه أشياء كثيرة، ليس هذا منها.
قال: كنت أتقلد لأبي خازم، وقوفاً في أيام المعتضد، منها وقوف الحسن بن سهل.
فلما استكثر المعتضد من عمارة القصر المعروف بالحسني، أدخل إليه، بعض وقوف للحسن بن سهل، كانت في يدي، ومجاورة للقصر.
وبلغت السنة آخرها، وقد جبيت مالها، إلا ما أخذه المعتضد.
فجئت إلى أبي خازم، فعرفته اجتماع مال السنة، واستأذنته في قسمته في سبله، وعلى أهل الوقف.
فقال لي: فهل جبيت ما على أمير المؤمنين؟ فقلت: ومن يجسر على مطالبة الخليفة؟ فقال: والله، لا قسمت الارتفاع، أو تأخذ ما عليه، ووالله، لئن لم يزح العلة، لا وليت له عملاً.
ثم قال: امض إليه الساعة، وطالبه.
فقلت: من يوصلني؟ فقال: امض إلى صافي الحرمي، وقل: إنك رسولي، أنفذتك في مهم، فإذا وصلت، فعرفه ما قلته لك.
فجئت، وقلت لصافي ذلك، فأوصلني، وكان آخر النهار.
فلما مثلت بين يدي الخليفة، ظن أمراً عظيماً قد حدث، فقال لي: هي، قل، كأنه متشوق.
فقلت: أنا ألي لعبد الحميد، قاضي أمير المؤمنين، وقوف الحسن بن سهل، ومنها " 6 " ، ما قد أدخله أمير المؤمنين إلى قصره، ولما جبيت مال هذه السنة، امتنع من تفرقته، إلى أن أجبي ما على أمير المؤمنين، وأنفذني الساعة قاصداً لهذا السبب، فأمرني أن أقول: إني حضرت في مهم، لأصل.
قال: فسكت ساعة متفكراً، ثم قال: أصاب عبد الحميد، يا صافي، هات الصندوق.
قال: فأحضر صندوقاً لطيفاً.
فقال: كم يجب لك؟ فقلت: الذي جبيت عام أول من ارتفاع هذه العقارات، أربعمائة دينار.
قال: كيف حذقك بالنقد والوزن؟ فقلت: أعرفهما.
قال: هاتوا ميزاناً، فجاءوا بميزان حراني حسن، عليه حلية ذهب، فأخرج من الصندوق دنانير عيناً، فوزن منها أربعمائة دينار، وقبضتها، وانصرفت إلى أبي خازم بالخبر.
فقال: أضفها إلى ما اجتمع للوقف عندك، وفرقه في غد، في سبله، ولا تؤخر ذلك، ففعلت.
فكثر شكر الناس لأبي خازم، لهذا السبب، وإقدامه على الخليفة، بمثل ذلك، وشكرهم للمعتضد رضي الله عنه، في إنصافه.
لوزير ابن الفرات يحاسب عاملا
ً
حدثني أبو الحسين علي بن هشام أبي قيراط، الكاتب البغدادي، قال: سمعت أبا الحسن، علي بن محمد بن الفرات، يحدث.
قال: كان النهيكي العامل، قد لازم أبا القاسم عبيد الله بن سليمان في أيام نكبته، فلم يكن له - لما ولي الوزارة - هم، إلا الإحسان إليه.
فقلده بادوريا، وكان لا يتقلدها إلا جلة الناس.
ولقد سمعت أخي أبا العباس يقول: إن من صلح لتقلد بادوريا، صلح أن يتقلد ديوان الخراج، ومن صلح لديوان الخراج، صلح للوزارة.
قال: والسبب في هذا أن المعاملات ببادوريا، كثيرة مختلفة، وأنها عرصة المملكة، وعاملها يعامل أولاد الخلافة، والوزراء، والقواد، والكتاب، والأشراف، ووجوه الرعية، فإذا ضبط اختلاف تلك العادات، وقام بإرضاء هذه الطبقات، صلح للأمور الكبار.
قال أبو الحسن: فأقام النهيكي، يتولى بادوريا نحو سنتين، مدة تقلد عبد الرحمن بن محمد بن يزداد لديوان الخراج، في أيام عبيد الله، ثم مدة أيام أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي الأصبغ. " 7 " إلى أن أطلقت أنا وأخي، وتقلد أخي ديوان زمام الخراج، وزمام ديوان الضياع، وخلفته عليهما.
فكنا إذا كاتبنا النهيكي في رفع الحساب، لم يجبنا، إدلالاً لمحله من الوزارة، وتعففه، فإنه كان مشهوراً بالعفة، وإذا كاتبناه في شيء من أمور العمل، أقل الحفل بكتبنا.
فلما طالت المدة علينا، ألححنا عليه بالمطالبة برفع الحساب، وشكوناه إلى الوزير فوكل به من داره، مستحثاً له في رفع الحساب لعدة سنين.
فتشاغلت أنا لعمل مؤامرة له، فلم أجد عليه كثير تأول، وحضرنا بين يدي عبيد الله لمناظرته.
وقد كنت، صدرت أول باب من المؤامرة، بأنه فصل تفصيلاً، ثمن الغلة المبيعة، جملته على حسب ما يوجبه التفصيل، أكثر من الجملة التي أوردها بألف دينار.
فقال: أتتبع، فما زال يتتبع، إلى أن صح الباب عليه، وقال: وما هذا؟ غلط الكاتب في الجملة.

فبدأت أكلمه، فأسكتني أخي، وأقبل على عبيد الله، فقال: أيها الوزير، صدق، هذا غلط في الحساب، فالدنانير في كيس من حصلت؟ فقال: له عبيد الله: صدق أبو العباس، والله، لا وليت لي عملاً يا لص.
ثم أتبعت هذا الباب، بباب آخر، وهو ما رفعه ناقصاً عما كان قدم به كتابه في كيل غلة عند قسمتها.
فلما لاحت عليه الحجة، قال: أريد كتابي بعينه.
فبدأت أكلمه، فأسكتني أخي، ثم قال: أيها الوزير، يطعن في ديوانك، ونسخ الكتب الواردة، والنافذة، شاهداً عدل.
فقال: صدق، يا عدو الله، وأمر بسحبه، فسحب.
وما برحنا، حتى أخذ خطه بثلاثة عشر ألف دينار، وأهلكناه بهذا، وما عمل بعد هذا كثير عمل.

أبو العباس ابن الفرات
يهدد عاملاً قد ألط بالمال
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني، قالا: حضرنا مجلس ابن الفرات، وقد عملت مؤامرة لابن حبش العماني، وكان يتقلد الزاب ونهر سابس، في أيام وزارة عبيد الله بن سليمان.
فأخذ أبو العباس وأبو الحسن يناظرانه عليها، إلى أن ألزم خمسة وعشرين ألف درهم، من أبواب صحيحة، وطولب بأدائها، وأخذ خطه بتصحيحها.
فصحح خمسمائة وأربعين، طول المدة، وألط بالمال " 8 " ، فقيد فلم ينفع، وضرب سبع مقارع، فلم يؤد.
وكان إذا خرج بإنسان من العمال، إلى هذا القدر من المكروه، فعندهم أنه النهاية.
فأخرجه أبو العباس إلى حضرته، وطالبه بالمال، فأقام على أنه لا شيء معه، وأن ضيعته وقف.
فقال له: ويلك، لا أعرف أجهل منك، إذا كان هذا صبرك على المكروه، وإسلامك لنفسك، وبذلك لها، فلم لم تأخذ أصل الارتفاع؟ فإنا ما كنا نعمل بك أكثر من هذا.
ولكن إن شئت، فأنا أدع عليك هذا المال، وأصرفك إلى منزلك، ولكن بعد أن كشف للوزير صبرك على المكاره، فلا تتصرف - والله - في أيامه أبداً، ويذهب خبرك.
قال: فقلق من ذلك، وسأل أن يخفف عنه شيء من المال، ليؤدي الباقي.
فما برحنا حتى تقرر أمره على بعض المال، وأداه، وانصرف.
الوزير عبيد الله بن سليمان
يحرم عاملاً من التصرف
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: ناظرت الجهظ، أحد العمال، على مؤامرة قد عملناها له، وكنت أنا وأخي، وجعلنا نأخذ خطه بباب باب.
فلما كثر ذلك، قال لي سراً: ليس الشأن في الخط، الشأن في الأداء ستعلمون أنكم لا تحصلون على شيء.
فسمعه عبيد الله، لأنا كنا في مجلسه، فقال له: أعد علي ما قلت، فاضطرب.
فقال: لابد أن تعيده، فأعاد ذلك.
فقال: إذن، لا تلي لي - والله - بعدها عملاً أبداً، قم عافاك الله إلى منزلك، خرق يا غلام، المؤامرة.
قال: فخرقت في الحال، وانصرف الجهظ إلى منزله، فما صرفه عبيد الله بعد ذلك.
وشاع خبره، فتحامى الناس كلهم استخدامه، فهلك جوعاً في منزله، حتى بلغ أنه احتاج إلى الصدقة.
وزير ينفى لأنه طرب لغناء صوت
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله زنجي الكاتب، قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات، قال: كتب صاحب الخبر، بمدينة السلام، إلى إسماعيل بن بلبل، في وزارته الأولى للمعتمد، بأن مغنية من جواري بدعة الكبرى، غنت عند الحسن بن مخلد، وهو إذ ذاك معطل، بهذا الصوت، فاستعاده، وطرب عليه " 9 " .
عادات طيء في بني أسد ... ري القنا وخضاب كل حسام
لهفي على قتلى النباج فإنهم ... كانوا الذرى ورواسي الأعلام
كانوا على الأعداء سيف محرق ... ولجارهم حرماً من الأحرام
لا تهلكي جزعاً فإني واثق ... برماحنا وعواقب الأيام
فأنهى إسماعيل ذلك إلى المعتمد، وقال: هذا يسعى عليك، ويتربص بك الدوائر، فأمر بنفيه إلى مصر، فكان مضيه إليها سبب تلفه.
أحمد بن طولون
يقتل الحسن بن مخلد بالسم
حدثنا أبو الحسين، قال: سمعت أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قبل الوزارة، يتحدث، قال: حدثني أبو عبد الله حمد بن محمد القنائي الكاتب.

قال أبو الحسين: وكان ابن أخت الحسن بن مخلد، وكان قد خلفه دفعات، على ديوان الخراج، ومرة على ديوان الضياع، ثم ولي أعمالاً جليلةً، من العمالات، والدواوين، منها ديوان المغرب، ومات وهو يتقلد ديوان الخراج، والضياع العامة بالسواد، وما يجري فيه وقد رأيته، وتعلمت بين يديه، وسمعته يتحدث بأشياء، ولم أسمع هذا منه.
قال سليمان : قال لي حمد: سألت الخادم الذي تبع خالي الحسن بن مخلد، إلى ابن طولون، لما نفي إليه، عن السبب الذي دعا ابن طولون، إلى قتله، فقال: لما ورد عليه، تناهى في إكرامه، وبره وإعظامه، ثم أنس به، حتى نادمه وصار يشاركه في مهم أموره.
فشاوره مرات في خلع طاعة المعتمد، فعظم عليه أمر السلطان، وخوفه من العصيان، فقبل رأيه.
ثم طولب ابن طولون، بمال الوظيفة التي كانت عليه، فقال لابن مخلد: ما رأيت أعجب من جهل هذا المخذول - يعني الموفق - يطالبني بالوظيفة، وهو عاص على الخليفة، إلى من أحمل؟ فقال له: لا تفعل، فإن الأمور إليه، والجيش معه، وإن منعته المال، قصدك وحاربك.
فقام في نفس ابن طولون أنه دسيس للقوم عليه، وقال: لو كان هذا عدواً للقوم، ما أشار علي بهذه المشورة، وإنما هو دسيس على ملكي، ليأخذ البلدان مني لهم، ويرهبني، ويستخرج البلدان مني باللطف.
فتنكر له، ثم أمر بالقبض عليه، وحبسه، وكان جباناً، فلم يحب - مع إيحاشه له - أن يفلت، في وقت من الأوقات، فدس إليه في شربة، فقتله بها.
وجد الموفق، وأنفذ إليه المعتضد في الجيش " 10 " ، وأخرج أحمد بن طولون، خمارويه، ابنه، لمحاربة المعتضد، فتحاربا، فانهزم كل واحد منهما من صاحبه، وهو لا يعلم أن صاحبه قد انهزم.
فضرب الناس بهما المثل، وقالوا: صبي لقي صبياً، وهكذا تكون محاربة الصبيان.
قال: فلما جرت هذه الحال، تندم أحمد بن طولون، على قتل الحسن ابن مخلد، وقال: صدقني، فلم أقبل منه واتهمته.

جرأة وزير على أخذ أموال السلطان
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قال: قال لي نافذ، خادم أبي وثقته، وكان يتولى نفقته: إني ما رأيت أجسر من مولاي، على أخذ مال السلطان.
ومن ذلك، أني باكرته يوماً، وقد لبس سواده، ليمضي إلى دار المعتمد، وهو إذ ذاك يتولى دواوين الأزمة والتوقيع، وبيت المال.
فقلت له: قد صككت علي البارحة للمعاملين، بألف وستمائة دينار، وما عندي من ذلك حبة واحدة.
فقال لي: يا بغيض، تخاطبني في هذه الساعة؟ أين كنت عن خطابي البارحة لأوجه لها وجهاً؟ ولكن اتبعني إلى دار السلطان.
فتبعته.
ودخل إلى المعتمد، مع عبيد الله بن يحيى الوزير، ودخل معهما أحمد ابن صالح بن شيرزاد، صاحب ديوان الخراج، فلما خرج، قال لي: امض إلى صاحب بيت المال، فخذ منه ما يسلمه إليك.
فظننت أنه قد استسلف على رزقه شيئاً، فمضيت إلى صاحب المال، فسلم إلي ثلاثين ألف دينار.
فاستعظمت ذلك، وعلمت أنه ليس من الرزق، وحملتها إلى الدار، وعرفته خبرها.
فقال لي: أنفق منها ما وقعت به إليك، واحفظ الباقي، فليس في كل وقت يتفق لنا مثل هذا.
ومضى على الحديث أيام، ودعا دعوة، فيها صاعد بن مخلد، وإليه - إذ ذاك - عدة دواوين، وجماعة من الكتاب، وأكلوا، وناموا، وانتبهوا.
فإذا كاتب من كتاب أحمد بن صالح بن شيرزاد، يستأذن علي، فاستأذنت لدخوله على مولاي، وكانوا قد بدأوا بالشرب.
فترك مولاي المجلس، وخرج إلى بيت خلوة، واستدعى الرجل، فأدخله إليه.
فسمعته يقول: أخوك أبو بكر، يقرأ عليك السلام - يعني أحمد بن صالح - ويقول لك: أنت تعرف رسمي مع صاحب بيت المال، وأن محاسبته " 11 " في سائر الأموال إلي، وأنا إذا تمت ثلاثون يوماً، وجهت صاحبي إلى حساب بيت المال، فحمله مع صاحب بيت المال، لينظم دستور الختمة بحضرتي، وأصحح حكايتها.
ونحن منذ عشرة أيام في هذا، حتى انتظمت الحسبة، ولم يبقى إلا ثلاثون ألف دينار، ذكر صاحب بيت المال، أنك خرجت إليه، من حضرة أمير المؤمنين، فأمرته بحملها إلى خادمك نافذ، ولست أدري في أية جهة صرفت؟ ولا في أي باب أثبتها؟ ولا ما الحجة فيها؟

قال: فأجابه مولاي بلا توقف، وقال: أخي أبو بكر - والله - رقيع، أسأل أنا الخليفة، في أي شيء صرف ما أمر أن يحمل إلى حضرته؟ يجب أن يكتب في الختمة: وما حمل إلى حضرة أمير المؤمنين في يوم كذا وكذا، ثلاثون ألف دينار.
قال: فقام الكاتب خجلاً، ومر ذلك في الحساب على هذا، فما تنبه أحد عليه، وحصل له المال.

الوزير ابن الفرات
يستولي على أموال المصادرات
قال أبو الحسين، فقال لي سليمان، بعقب هذه الحكاية: ما رأيت لهذه الفعلة شبيهاً، إلا ما عمله ابن الفرات، في وزارته الأولى، فإنه نصب يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، الجهبذين، فلم يدع مالاً لابن المعتز، ولا للعباس بن الحسن، ومن نكب، وبل في الفتنة، وما صح من مال المصادرين، وغيرهم ممن يجري مجراهم، إلا أجراه على أيديهما، دون يدي صاحب بيت مال العامة والخاصة.
وأفرد لذلك ابن فرجويه، كاتبه، يحاسبهما، ولا يرفع لهما حساب إلى ديوان من الدواوين.
فلما كان في السنة التي قبض عليه فيها، كتب كتاباً عن نفسه إلى مؤنس الخادم صاحب بيت المال، ذكر فيه: أنه حوسب يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، على ما حصل عندهما من كيت وكيت - حتى استغرق تلك الوجوه - فكان الباقي قبلهما - بعد الذي حمل إلى حضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وصرف في مهمات أمر بها هو، والسادة أيدهم الله - من الورق، ألف ألف، وأربعمائة وسبعين ألف درهم، وخمسمائة وستة وأربعين درهماً، وأمر بقبض ذلك منهما، وإيراده بيت مال الخاصة.
فقبض مؤنس منهما تلك البقية، ومضى الأصل " 12 " كله، لا يعرف في أي شيء صرف، وكان مبلغه، فيما ظنه الكتاب، وكانوا يتعاودونه، نحو ألف ألف دينار، فإن ابن الفرات فاز بجميعها، ولم تقم بها حجة عليه.
قال أبو الحسين: فحدثني أبي بعد ذلك، قال: لما قلدني علي بن عيسى، في وزارته الأولى، ديوان الدار، الجامع للدواوين، أمرني بإحضار هذين الجهبذين، ومطالبتهما بختماتهما، لما كان حصل في أيديهما، في وزارة ابن الفرات الأولى، من الجهات التي تقدم ذكرها.
فاستدعيتهما، وطالبتهما، فأحالا على أن ابن الفرات، أخذ حسابهما ولم يدع عندهما نسخة منه.
فأمرني بحبسهما، وتهديدهما، ففعلت ذلك.
فأحضراني حساباً مبتوراً، ذكروا أنهما وجداه، فرأيته غير منتظم.
فلم أزل أرفق بهما، إلى أن أقرا أنه قد وصل إليهما من فضل الصرف، فيما بين ما ورد عليهما، وبين ما أنفقاه، مائة ألف درهم، فجعلتها عشرة آلاف دينار، وقررت أمرهما عليها، وأخذت بها خطوطهما.
فلم يقنع علي بن عيسى بذلك، وأخذهما من يدي، وسلمهما إلى حمد ابن محمد وكان إليه ديوان المغرب، وأمره أن يتتبع أمرهما بنفسه، وكان حسن الكتابة، ولم يعرفه أني أخذت خطهما بشيء.
فتتبع حمد ذلك، فلم يجد في الحساب، إلا إحالات على " حمل إلى الخليفة، والسادة " وأشياء صرفت إلى خاص ابن الفرات.
فقال له حمد: هذا كله مزوق، والقوم معهم حجج بالإبراء، وما عليهم طريق، وابن الفرات كان أجلد من أن يدع هؤلاء يفوزون بحبة من المال.
فردهما إلي، وقال: اجتهد في أن تأخذ منهما مائتي ألف دينار.
فقلت: لا يمكن ذلك.
فقال: اعمل على أنك طالبتهم بمرفق لنفسك بتمام مائتي ألف درهم.
فقلت له: فإذا فعلت هذا، فأي شيء أعمل أنا لنفسي؟ فقال: خذ منها عشرين ألف درهم، وألزمهما مائة وثمانين.
قال: فخرجت، وجددت بهما، إلى أن ألزمتهما ذلك. وأخذت لنفسي منه ما قال.
فلما فرغنا من ذلك، أخذنا بها خطوطهما، وأخذنا لهما خطه بالبراءة من ذلك.
فقال لي علي بن عيسى: سأريك موضعي أنا من العمل " 13 " ، وأن للرئيس في كل أمر موضعاً لا يقوم فيه أحد مقامه.

فاستحضرهما إلى حضرته، وأنا في مجلسه، فقال لهما: تريدان مني أن أزيل عنكما تبعة، إن لم أزلها بقيت عليكما، وعلى ورثتكما، أبد الدهر؟ لست أفعل هذا إلا بشيء يقرب، لا ضرر عليكما فيه، وهو: أني أحتاج في كل هلال، إلى مال أدفعه في ستة أيام من ذلك الشهر، إلى الرجالة، ومبلغه ثلاثون ألف دينار، وربما لم يتجه في أول يوم من الشهر، ولا الثاني، وأريد أن تسلفاني في أول كل شهر، مائة وخمسين ألف درهم، ترتجعانها من مال الأهواز في مدة الشهر، فإن جهبذة الأهواز إليكما، فيكون هذا المال سلفاً لكما أبداً، واقفاً، وهي عشرون ألف دينار، فيكون ذلك بإزاء مال القسط الأول من النوبة، فيخف عني ثقل ثقيل.
فتأبيا ساعة، فلم يفارقهما حتى استجابا لذلك.
فقال لي علي بن عيسى: كيف رأيت؟ فقلت: ومن يفي بهذا إلا الوزير، أيده الله تعالى.
قال: وكان علي بن عيسى، إذا حل المال، وليس له وجه، استسلفه من التجار على سفاتج قد وردت من الأطراف، فلم تحل، عشرة آلاف دينار، بربح دانق ونصف فضة في كل دينار، وكان يلزمه في كل شهر ألفان وخمسمائة درهم أرباحاً.
فلم يزل هذا الرسم يجري على يوسف بن فنحاس، وهارون بن عمران، ومن قام مقامهما، مدة ست عشرة سنة، وبعد وفاتهما، لأنهما ما صرفا إلى أن ماتا، وكانا قد تقلدا في أيام عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان السلطان لا يرى صرفهما، ليبقى جاه الجهبذة مع التجار، فيقرض التجار بالجهبذة، إذا وقعت الضرورة، ومتى صرف الجهبذ، وقلد غيره، ولم يعامله التجار، وقف أمر الخليفة.

الصناعة نسب
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثني أبو بكر محمد بن جني الكاتب، وكان أبوه مغنياً، وهو من أعيان الكتاب، قال: حدثني ابن ثوابة الكاتب، قال: حدثني أبو الفرج عن نجاح بن سلمة، عن أبيه عن الفضل بن مروان، قال: كنت أتولى مجلس الحساب، من قبل صاحب ديوان الرشيد، وكان يجيئنا إلى الديوان، شيخ من بقايا كتاب " 14 " بني أمية، وكان صاحب الديوان يقول لنا: هذا أكتب أهل زمانه، وكان يلبس دراعة وقلنسوة كأكسية النصارى، وخفاً أحمر، وكان هذا زي المتعطلين من الكتاب إذ ذاك، وكان صاحب الديوان يكرمه جداً.
فصار إلي في يوم من الأيام لحاجة عرضت له، وأنا متشاغل بعمل مهم قد طلبه الرشيد، وأنا جالس حيال صاحب الديوان أعمله، فقصرت في حق الشيخ.
ولامني صاحب الديوان على تقصيري به، ووبخني، فاعتذرت إليه بشغل القلب.
فلما كان بعد أيام جاءني، فزدت في إكرامه، وقمت إليه، وجلست بين يديه.
فأقبل علي صاحب الديوان، فقال: أحسبك عاتبت فتانا على تقصيره أولاً.
ثم أقبل علي، وقال: يا فتى، كنا نعد الصناعة نسباً، والنعمة نسباً، واللغة نسباً، والنحلة نسباً.
كيف اتصل الفضل بن مروان
بالمأمون ووزر له
حدثنا أبو الحسن قال: حدثنا أبو عبد الله الباقطائي، قال: حدثني أبو الفضل عون بن هارون بن مخلد بن أبان، وكان كاتب المأمون، على ديوان الضياع، قال: قال ميمون: سمعت الفضل بن مروان يقول: لا ينبغي لأحد أن يحقر أحداً، ولا يأيس علوه، فإني كنت في حداثتي أتوكل لهرثمة بن أعين في مطبخه، أيام الرشيد، وكان بخيلاً، وكان له خادم يشرف على مطبخه، وأجرى علي خمسة عشر درهماً في الشهر ووظيفة خبز.
فلما كثر توفيري عليه، صيرها عشرين درهماً.
وكنت لا آكل من مطبخه شيئاً، فسأل الخادم عن أكلي، فعرفه أني لا آكل، فأمره أن يطعمني من المطبخ كل يوم، ويوفر الوظيفة على منزلي.
فدعا يوماً دعوة عظيمة، فوفرت عليه في الأسعار ألف درهم، وعرضت عليه بذلك عملاً، فسره، وحسن موقعه منه، وكان بخيلاً جداً.
فقال لي يوماً: قد استحققت الزيادة، فكم تحب أن أزيدك؟ فقلت: لا أقل من عشرة دراهم أخرى.
فقال: هذا كثير، ولكن أربعة دراهم.
فأيست من خيره، واتفق له بعد ذلك، خروج عن مدينة السلام، فتعاللت عليه، ولم أتبعه، ولزمت الديوان، وتعلمت، فصرت كاتب مجلس في ديوان الرشيد، وكان ذلك أول إقبالي " 15 " ، وتخرجت، وزادت حالي مع الأيام.
فلما ولي المأمون، وعظم من أمر المعتصم، كان المعتصم شديد المحبة للصيد، وكنت في فتنة محمد المخلوع، قد صرفت ما كنت جمعته في ضياع وبساتين بالبردان وصاهرت بعض تنائها، واجتمعت لي حال، فلما انجلت الفتنة، كنت من وجوه البردان.

فاجتاز بها المعتصم، منصرفاً من صيده، متسرعاً، وليس معه من أصحابه كبير أحد.
فاجتاز في الطريق، وأنا واقف على بابي، فتوسمت فيه الجلالة، وقدرته أحد وجوه القواد.
كان لي وعد على عامل البلد، أن يكون ذلك اليوم في دعوتي، وقد أعددت له طعاماً، وفيه جداء، وحلوى، وفاكهة كثيرة، وثلج استدعيته من بغداد، وكان قبل ذلك بساعة، قد جاءني خبر العامل، أنه عرض له مهم في السواد، فخرج لوقته.
فلما رأيت المعتصم، وتوسمت فيه الجلالة، قلت: لم لا أحلف على هذا القائد، وأضيفه عندي على هذا الطعام المعد؟ قال: فكلمته، وسألته الزول عندي.
فأجاب، ونزل، وأكل، وشرب، وأنفذت في الحال، فاستدعيت له قياناً، وجلس يشرب، وقد انبسطت بين يديه، وخدمته.
فنحن نشرب، انبث الجيش في طلبه، وعرفوا خبره، وأحاطوا بالدار، فعرفت حينئذ، أنه أخو الخليفة، فهبته.
فبسطني، وسألني عن شرح حالي، فعرفته، فقال: لا بد أن تجيء معي إلى بغداد.
وقلدني بعض أموره، ثم تزايدت حالي عنده، إلى أن جمع لي جميع أمره، ورياسة كتابه.
ثم خلطني بخدمة المأمون، وقلدني ديوان الخراج مضافاً إلى كتبة أخيه.
ثم رقيت إلى الوزارة، من تلك الحال التي كنت عليها مع هرثمة.
قال أبو الحسين: ما رؤي في الدولة العباسية، من الكتاب، من اتصل تصرفه منذ نشأ، إلى أن مات، وترددت ولايته الوزارة، وديوان الخراج، وديوان الضياع، من غير أن يتعطل، أحد، غير الفضل بن مروان.
وصادره المعتصم على أربعين ألف ألف درهم " 16 " ، فأداها بغير مكروه.

الخليفة المعتصم يصادر وزيره
وسمعت حامد بن العباس، يحكي: أنه سمع صاعداً، يقول: حدثني أحمد بن إسرائيل، قال: حدثني الفضل بن مروان، قال: ما في الأرض أجهل من وزير يطلب الخليفة منه مالاً، وهو في ولايته، فيعطيه إياه، فإنه يطمعه في نعمته، وإنما يدفع النكبة مدة، ثم تحدث، وقد ذهب المال.
فمن ذلك: أن المعتصم، لما خرج لغزو الروم، وأنا وزيره، استخلفني على سر من رأى، واستخلف لي بحضرته، محمد بن الفضل الجرجرائي.
فلما عاد، طمع في، فقال لي: قد وردت، والمال نزر، والجيش مستحق، فاحتل لي مائة ألف دينار، من مالك وجاهك، ففعلت.
فلما مضى شهر، طلب مني على هذا السبيل، خمسين ألف دينار، ففعلت.
فطلب مني في الدفعة الثالثة، بمثل هذا الوجه، ثلاثين ألف دينار، فوعدته بها، ودافعته أياماً، ثم جملتها إليه.
فبلغني عنه، أنه قال لابنه الواثق: هذا النبطي، ابن النبطية، أخذ مالي جملة، وهو ذا يتصدق به علي تفاريق.
ثم قبض عليه، بعد أيام، وأخذ منه أربعين ألف ألف درهم.
العمارة والتوفير
أولى واجبات الوزير
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الملك التواريخي، وكان شيخاً قد عني بجمع التواريخ، فلقب بها، وكان يجلس في الجامع إلى جانب الزجاج، ويعظمه، قال: سمعت المبرد يقول: كنت أصحب الفضل بن مروان، فذكر بحضرته - في أيام الواثق - عظم بناء أحمد بن الخصيب بسر من رأى، وأنه استعمل في سقف دهليز داره سبعين قارية ساج، والقارية: ساجة عظيمة، تستعمل صحيحة، فقال الفضل: ما كانت لي في حياتي، لذة في بناء، ولا فرشٍ، ولا غلمان، ولا جوارٍ، ولا مفاخرة بمروءة، وإنما كانت لذتي في العمارة والتوفير، ولهذا اتصلت مدتي في صحبتهم.
ولعهدي، وقد وليت للمأمون ديوان الخراج، فوجدت الأهواز. قد اختلت ببثق سد أبطل العمارة، فأنفقت عليه، مائة ألف دينار، وجددت في عمارة النواحي، وكانت كور الأهواز " 17 " ، إذ ذاك، قد ارتفعت بأربعة وعشرين ألف ألف درهم للسلطان، فضمنتها له بثمانية وأربعين ألف ألف درهم، صالحة للحمل.
السبب في علو حال
عبيد الله بن يحيى بن خاقان مع المتوكل
حدثنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفرج محمد بن جعفر بن حفص الكاتب قال: حدثنا أبي، قال: سمعت نجاح بن سلمة، يقول: إن السبب في علو حال عبيد الله بن يحيى بن خاقان، مع المتوكل، أن أباه يحيى بن خاقان بن موسى، تقلد ديوان الخراج في أيام المتوكل، فقلد ابنه أبا محمد عبد الله، مجلساً من مجالس الديوان، ولم ير عبيد الله، أهلاً لمثل ذلك.
فغضب على أبيه، وصار إلى الفضل بن مروان، وهو يتقلد ديوان الضياع، فلزمه، وخط بين يديه.

وكانت أرمينية تجري في ديوان الضياع، وكان على أهلها مقاطعة فضلها مال جليل، فامتنع الفضل من إمضائها لهم، وعرض عليه مرفق مائة ألف درهم، فأبى قبولها، وطرحوا نفوسهم على أكثر الوجوه بسر من رأى، فلم يجب أحداً إلى ذلك، فلجأوا إلى عبيد الله بن يحيى، وسألوه مسألته، لما ظهر من اختصاصه به، ونفاقه عليه.
فخاطبه في أمرهم، فتذمم من رده، لأنه ما كان يعمل معه بالرزق، ولا له نفع، وكانت حاله قوية، وإنما أراد التصرف مراغمة لأبيه، وجعل ذلك كالمرفق له، والصلة، فأجابه، وأمضى المقاطعة.
فحمل إليه القوم خمسة آلاف دينار، فردها، وقال: ما كنت لآخذ على معروفي ثمناً.
فلما خرجوا إلى أرمينية، أحبوا مهاداته، ومكافأته، فاستعملوا له فرش بيت أرمني ببساطٍ عظيم، ومصليات، وأنخاخ، ومساور، ومخاد، ودست، وستور، وأذهبوا الجميع، وكتبوا عليه كنيته واسمه، ولم يكن رؤي قط مثله حسناً وجلالة، وحملوه إليه.
واتفق أنه وكل المتوكل، تلك السنة، بالطرق، وأمر أن لا يدخل شيء من الأمتعة، أو يعرض عليه، فعرض عليه البيت، في جملة ما جيء به من أرمينية، فاستهوله، وقال: من هذا " 18 " الرجل؟ فقالوا: هو عبيد الله بن خاقان.
قال: وأي شيء إليه، حتى يستعمل له هذا العمل؟ لعل هذا مرفق لأبيه؟ فقيل له: إن أرمينية تجري في ديوان الضياع، ولا معاملة بينه وبين أبيه.
فاستشرح الصورة، ونقر عليها، إلى أن حدث الحديث على صحته.
فاستحسن ذلك من فعل عبيد الله، وأمر بتسليم فرشه إليه، وقال: هذا فتى يدل فعله، على كبر همته.
فلما صرف محمد بن الفضل الجرجرائي، عن وزارته، قال: قد استغنيت عن وزير، لأن أصحاب الدواوين، يعرضون أعمالهم علي، والتاريخ يجعل باسم وصيف التركي، فأجرى الأمر على ذلك مدة.
ثم إنه احتاج إلى كاتب يكون بين يديه، في أبنيته، والتوقيعات في المهم الذي يأمر به من حضرته فيها، وفي غيرها، إلى أصحاب الدواوين، وغيرهم، فأمر أن يطلب له حدثٌ من أولاد الكتاب، ينصبه لذلك.
فسمي له جماعة، منهم: عيسى بن داود بن الجراح، وأبو الفضل بن مروان، وجماعة، وكان فيهم عبد الله وعبيد الله، ابنا يحيى بن خاقان.
فحين مر على سمعه ذكر عبيد الله، ذكر حديث الفرش، فاختاره، ولم يزل حاله يرقى معه، إلى أن استوزره.

ابن شيرزاد يتحدث
عن عمله في ديوان الضياع الخاصة
حدثني أبو الحسن، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن زكريا بن شيرزاد الكاتب، قال: لما تقلد أبي ديوان الضياع المعروفة بغريب الخال، استخلف أخي أبا الحسين، زكريا بن يحيى على الديوان، وأجرى له عشرين ديناراً في الشهر، وأجرى علي عشرة دنانير برسم التحرير في هذا الديوان، فأنفت من ذلك. ولم أقبل الرزق، ولا العمل.
ومضيت إلى ديوان الضياع الخاصة، وكان يليه، إذ ذاك، أبو حامد محمد ابن الحسن، الملقب بسودانية، فلم ألقه، ولا توسلت إليه، بما كان بين أبي وبينه.
ولزمت الديوان بحضرة أبي يوسف عبد الرحمن بن محمد بن سهل المعروف بالمرمد، وإليه كان مجلس الحساب في هذا الديوان، مدة " 19 " شهر، وكنت أتعلم.
فبلغ أبا حامد خبري، ولم أكن - إذ ذاك - بلغت عشرين سنة، ولا قاربتها، فاستحضرني، فدخلت إليه، فعاتبني على تركي الدخول إليه، والتعرف إليه، وأمرني بملازمة حضرته، وأجرى لي درجين وثبتاً وقرطاساً في كل يوم، وقال: سود فيها، وتعلم الخط.
فلما كان بعد أيام، فرقت أرزاق الكتاب لشهر واحد، فوقع إلى خازنه، المتولي للتفرقة، أن يحمل إلي، بقيمة عشرين ديناراً، ثلثمائة درهم، وقال: قد أجري لك هذه في كل شهر.
فصرت إلى أبي، فأريته إياها، وقلت: قد فعل الله بي خيراً مما فعلت.
فقال: خذ الآن العشرة، والزم موضعك، ليصير لك ثلاثين ديناراً في الشهر.
فأخذتها، وكان هذا أول إقبالي.
البحتري وأبو معشر
يؤصلان عند المعتز أصلا
ً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، قال: لما أنفذ أبي إلى مصر، اجتذبت البحتري وأبا معشر، فكنت آنس بهما، لوحدتي، وملازمتي البيت، وكانا في أكثر الأوقات، يحدثاني ويعاشراني.
فحدثاني يوماً: أنهما أضاقا في وقت من الأوقات، إضافة شديدة، وكانا مصطحبين، فعرض لهما أن يلقيا المعتز، وهو محبوس، ويتوددان إليه، ويؤصلان عنده أصلاً، فتوصلا إليه، حتى لقياه في حبسه.

قال: فقال لي البحتري: فأنشدته أبياتاً، كنت قلتها في محمد بن يوسف الثغري، لما حبس، وجعلتها إليه، وهي:
جعلت فاك الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والحدث المشكي
وقد هذبتك النائبات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلى ... وأصبح عز الدين في قبضة الشرك
فأخذ الرقعة التي فيها الأبيات، ودفعها إلى خادم كان معه، وقال: غيبها واحتفظ بها، فإن فرج الله عني، فأذكرني بها، لأقضي حق هذا الرجل.
قال أبو معشر: وكنت قد أخذت مولده، وعرفت وقت عقد البيعة للمستعين، ووقت " 20 " البيعة بالعهد من المتوكل للمعتز، ونظرت فيه وقد صححت النظر، وحكمت له بالخلافة، بعد فتنة وحروب، وحكمت على المستعين بالخلع والقتل، فسلمت ذلك إليه، وانصرفنا.
قال وضربت الأيام ضربها، وصح الحكم بأسره، فدخلنا جميعاً، إلى المعتز، وهو خليفة، وقد خلع المستعين، وكان المجلس حافلاً.
قال أبو معشر: فقال لي المعتز: لم أنسك، وقد صح حكمك، وقد أجريت لك مائة دينار في كل شهر رزقاً، وثلاثين ديناراً نزلاً، وجعلتك رئيس المنجمين في دار الخلافة، وأمرت لك عاجلاً بألف دينار صلة.
قال: فقبضت ذلك عاجلاً كله في يومي.
قال البحتري: وأنشدته أنا في ذلك اليوم، قصيدتي التي مدحته بها، وهنأته، وهجوت المستعين، وأولها:
يجافينا في الحب من لا نجانبه ... ويبعد عنا في الهوى من نقاربه
حتى انتهيت إلى قولي:
وكيف رأيت الحق قر قراره ... وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
ولم يكن المغتر بالله إذ شرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعري من برد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيل وجه مسرعاً ... إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه
إلى واسطٍ نحو الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه
فضحك، واستعاد هذه الأبيات مراراً، فأعدتها.
فدعى بالخادم، وطلب الرقعة التي فيها أبياتي التي أنشدته إياها في حبسه، فأحضره إياها، بعينها.
فقال: قد أمرت لك لكل بيت في الرقعة بألف دينار، وكانت ستة، فأعطيت ستة آلاف دينار.
وقال لي: كأني بك، وقد بادرت، فاشتريت غلاماً، وجارية، وفرساً، وفرشاً، وأتلفت المال، لا تفعل، فإن لك، فيما تستأنفه من أيامك معنا، ومع وزرائنا وأسبابنا، إذا علموا موقعك منا، غناء عن ذلك، فاشتر بهذا المال ضيعة ببلدك، تقوم في أدناها فترى أقصاها، ويبقى لك أصلها، وتنتفع بغلتها، كما فعل ابن قيس الرقيات، بالمال الذي وصله به عبد الله بن جعفر.
فقلت: السمع والطاعة، وخرجت، فعملت " 21 " بما قاله، واعتقدت بالمال ضيعة جليلة بمنبج، ثم تأثلت حالي معه، وأعطاني، وزاد وما قصر.

ضيعة البحتري
في حيازة حفيد ولده
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفتح بن جعفر بن محمد بن الفرات، بعد عوده من مصر والشام، في أيام الراضي، وتقلد الوزارة، قال: اجتزت في رجوعي هذا، إلى مدينة السلام، بمنبج، فرأيت ضياعاً في نهاية العمارة والحسن.
فسألت عنها، فقيل: هي أقطاع البحتري الشاعر وأملاكه.
فقلت: لمن هي اليوم.
فقيل لي: هي اليوم في يد ابن ابنة ابنه أبي الغوث.
فقلت: هذا نسب طويل، وأمرت الحسن بن ثوابة بقبضها.
فلما كان من الغد، جاءني رجل متكهل، في زي الجندي، وذكر أنه صاحب الضياع، وقال: يا سيدي، هذه الضياع التي قال جدي البحتري بسببها:
وما أنا والتقسيط إذ تكتبونه ... ويكتب قبلي جلة القوم أو بعدي
وأنشدني هذه الأبيات كلها، وقال: ذاك بكاء لأجل تقسيط يسير، فكيف يكون حالي، إذا قبضت هذه الضياع؟ قال: فتذممت أن أكون سبب ذهاب معيشته، فأطلقت له عنها.
عامل يصفع عند المطالبة
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الفتح، قبل تقلده الوزارة الأولى بمدة طويلة، قال: حدثني أبي، قال:

صرفت محمد بن يوسف العامل، عن بادوريا، وتقلدتها، فاستدركت عليه أشياء كثيرة، وطالبته بها، فلم يرد فيهاشيئاً.
فأخرجته يوماً إلي، وناظرته، فأقام على أمر واحد، فاغتظت عليه وأمرت بصفعه، فلم يتأوه، ولم يزل يصيح: واحدة، فإذا صفع أخرى قال: ثانية.
وعلى هذا، إلى أن صفع ثلاث عشرة صفعة.
فتعجبت من عده، وقلت: يا هذا، ويحك أي فائدة لك في العد؟ وأن لا تستعفي.
قال: أنا أعدد ذلك - أعزك الله - لأصفعك بعدده، بعد أيام، إذا صرفتك، وتقلدت مكانك، فلا أظلمك بالزيادة، ولا تفوز بالنقصان.
قال: فأخجلني، فقلت: قم، في غير حفظ الله إلى منزلك.
فأطلقته، وذهب المال.

حمال مستور
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا نفطويه، قال: حدثنا ثعلب، قال: كان عندنا في الحربية، حمال مستور " 22 " ، يوصف بالزهد وكان لا يحمل لأصحاب السلطان شيئاً، وكان إذا حمل على قدر قوته - على ضيق - لم يزدد عليه شيئاً، وأراح نفسه، ولا يحمل إلا كارة خفيفة، مثل لحم وفاكهة، وما يكون قدره خمسين رطلاً أو نحوه.
قال: فاتبعته يوماً، وهو لا يعلم أني خلفه، فرأيته يضع رجلاً، ويول: الحمد لله، ويرفعها، ويقول: أستغفر الله.
فقلت له: لم تفعل هذا؟ فقال: أنا بين نعم لله، وذنوب، فأنا أحمده - عز وجل - على نعمه، وأستغفره من ذنوبي.
فأردت امتحانه، فقلت: ما تقول في علي وأبي بكر؟ فقال: إذا نشرت الدواوين، ووضعت الموازين، أأسئل عن ذنوبي، أم عن تفضيل أبي بكر وعلي؟ فقلت: بل عن ذنوبك.
فقال: فلي في نفسي شغل عن معرفة الأفضل منهما.
حامد بن العباس
وبواب الوزير إسماعيل بن بلبل
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، قال: سمعت حامد بن العباس يقول: ما في الدنيا أضر على الإنسان من مداجاة العدو، وينبغي أن تشهر ما بينك وبين عدوك، حتى لا يقبل قوله فيك.
قال، وسمعته يقول: ربما انتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير، أكثر من منفعته بالكبير.
فمن ذلك: أن إسماعيل بن بلبل، لما حبسني، جعلني في يد بواب، كان يخدمه قديماً، قال: وكان رجلاً حراً، فأحسنت إليه، وبررته، وكنت أعتمد على عناية أبي العباس بن الفرات.
وكان البواب قديم الخدمة لإسماعيل، يدخل إلى مجلس الخاصة، ويقف بين يديه، فلا ينكر ذلك خدمه عليه، لسالف الصحبة.
فصار إلي في بعض الليالي، فقال: قد حرد الوزير على ابن الفرات، وقال له: ما يكسر المال على حامد غيرك، ولا بد من الحد في مطالبته بباقي مصادرته، وسيدعو بك الوزير في غدٍ إلى حضرته، ويهددك.
فشغل ذلك قلبي، فقلت له: فهل عندك من رأي؟ فقال: اكتب رقعة إلى رجل من معامليك، تعرف شحه، وضيق نفسه والتمس منه لعيالك ألف درهم يقرضك إياها، واسأله أن يجيبك على ظهر رقعتك، لترجع إليك، فتخرجها، فإنه لشحه وسقوطه، يردك بعذر، واحتفظ بالرقعة، فإذا طالبك الوزير، أخرجتها " 23 " إليه، وقلت: قد أفضت حالي إلى هذا، وأخرجتها على غير مواطأة، فلعل ذلك ينفعك.
ففعلت ما قاله، وجاءني جوابه بالرد، كما حسبنا، فشددت الرقعة معي.
فلما كان من غدٍ، أخرجني الوزير، وطالبني، فأخرجت الرقعة، وأقرأته إياها، ورققته، وتكلمت، فلان واستحيا، وكان ذلك سبب خفة أمري، وزوال محنتي.
فلما تقلدت في أيام عبيد الله بن سليمان، سألت عن البواب، واجتذبته إلى خدمتي، فكنت أجري عليه خمسين ديناراً كل سنة.
وهو باق معي إلى الآن.
عامل مصروف يختبئ في قدر هريسة
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن هشام، قال: حدثني يحيى لن عبد الله الكسكري، قال: كنت أكتب لابن البختري الأصغر على مصر، فصرف بسليمان بن وهب، وخرج معه ابنه عبيد الله - وكان يخلفه عليها - .
فجلس العامل ابن البختري لرفع حسابه، وتخلوا لنظم الحساب، وكنت أغدو وأروح إلى سليمان، أعرض عليه ما أعمل.
وكان قد وكل بابن البختري، قائداً من قواد مصر، معه عدة من الفرسان، والرجالة، والغلمان، وكان ابن البختري يقيم لهم الطعام الواسع.
وحضر المهرجان، فتقدم بأن تحضر قدر النبيذ، وتعمل فيها الهريسة، في الدار التي كان فيها معتقلاً.
وكان قصيراً ضئيلاً، فجاءوا له بالقدر، وطبخ فيها الهريسة، في جملة الطعام، وأكل الموكلون، وشربوا، وسكروا.

وأعمل هو الحيلة، فجلس في القدر، وغطيت عليه، وأخرجت، ولم يعرفوا خبره، حتى طلبوه لما أفاقوا، فلم يجدوه.
قال يحيى بن عبد الله: ولم أكن أنا عرفت الخبر، فبكرت إلى سليمان، على رسمي، فوجدت عبيد الله جالساً، متشاغلاً بطلبه، وقد ضج، وهو يقول: أي شيء أقبح من أن يتصل بالخليفة، أنا عجزنا عن حفظ العامل المصروف، فيقال فينا: كيف يحفظ هؤلاء الأموال، والأعمال، مع عجزهم عن حفظ محبوس؟ وجعل يضرب الناس في التقرير عليه.
وأمر بالقبض عليّ، لما رآني، فقلت له: أعزك الله، لو كان عندي علم بالخبر ما جئتك، قال: فصدق قولي، وكان حضوري سبب " 24 " خلاصي.
قال: ووقع في يده وكيل نصراني لابن البختري، يتوكل في مطبخه، وكان نبطياً، وقيل له: إنه لا يجوز أن يخفى عليه خبره، فجعل يضربه.
وكان في المجلس سليمان بن وهب، وأصحاب البرد والأخبار، والناس بأجمعهم.
وكنت أحسن النبطية، ولم يكن عبيد الله يحسنها.
فلما حمي الضرب على الوكيل، كاد أن يقر على موضع ابن البختري، ففهم ذلك سليمان، ولم يحب أن يأمره بالإنكار، فيكتب بالخبر، وأراد أن يسلم المنكوب، سلوكاً لمذهب الناس قديماً، في طلب السلامة، بالإبقاء على أعدائهم.
قال: فقال للمضروب كلاماً بالنبطية، تفسيره: لا تقر، فإن الإقرار مثل القير لا ينقلع.
قال: فتصبر الرجل على الضرب، ثم قال سليمان لعبيد الله: إلى كم تضرب هذا البائس؟ لو كان يعرف شيئاً لقاله، اقطع عنه الضرب، لا يتلف، فتدخل في دمه.
قال: فرفع الضرب عنه، وأطلق من يومه، وأفلت المستتر.

من مكارم أخلاق المأمون
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي، قال: حدثنا المبرد، قال: حدثني الحسن بن سهل، لما أسن، وجلس في بيته، قال: دخلت يوماً إلى المأمون، وهو جالس، وبحضرته جماعة من خواصه، منهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وكان في يده كتاب يقرأه، فلم ينظر إلي، فوقفت قائماً.
فقال له إسحاق: يا أمير المؤمنين، أبو محمد، الحسن بن سهل.
فقال لي: اقعد، فقعدت.
فقال: أحضر دواتك، فأحضرت.
فقال: وقع بتقليد إسحاق بن إبراهيم، جميع أعمال المعاون بالسواد، جزاء له على ما نبه عليه من تكرمتك يا أبا محمد.
فشكرته، ودعوت له، ووقعت بذلك.
الشاعر الكوفي أبو الحسن البصير
أنشدني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار بن أحمد الداري، الصيدلاني، البصري، قال: أنشدني أبو الحسن عبد الله بن سليمان الكوفي، الضرير، المعروف بالبصير، لنفسه:
واحربا ما الذي لقيت أنا ... أحمل في كل بلدة شجنا
أدخلها وادعاً فتجلب لي ... رقة قلبي من أهلها سكنا " 25 "
الخارجي وصلاة الجمعة
حدثني أبو الحسن محمد بن غسان بن عبد الجبار، قال: رأيت بعمان شيخاً من الخوارج، قد دخل في يوم الجمعة، من ناحية بلد الشراة، إلى السوق بعمان، وكانت طريق الناس إلى الجامع، والناس يتعادون إلى حضور الجمعة، خوفاً من فوتها، والخارجي ماشٍ الهوينا في حاجته، لا يراعي أمر الجمعة، فإذا بشيخ قد جاء من ناحية الجامع، فالتقيا.
فقال الشيخ للخارجي، وهو لا يعرفه، وقدر أنه يريد الجامع: إلى أين تمضي يا شيخ؟ وقد صلى الناس وفاتتك الصلاة؟ فقال الخارجي: يا أبله، إنما فاتت من أدركها.
يريد أن التجميع معهم، لا يسقط الفرض الذي هو الظهر، وهو إذا جمع معهم ترك الظهر، فتفوته الصلاة الواجبة، وهي الظهر، ويصلي ما لا يجزي عنه في مذهبه من تفكيرهم.
قال: ولم يفهم الشيخ ما سمعه.
وقلت أنا للخارجي: أظنك - أعزك الله - شارياً؟ قال: فقال: نعم، والحمد لله.
قال: وهم يستحبون أن يقال لهم شراة، ويأبون أن يقال لهم: خوارج، ويذهبون إلى قوله تعالى " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " .
أحد القائلين بالتناسخ
يدعي أن الهرة أمه
حدثني أبو الحسن علي بن نظيف البغدادي، المعروف بابن سراج، المتكلم، المعروف بالبهشمي، قال:

كان يجتمع معنا في المجالس ببغداد، شيخ للإمامية يعرف بأبي بكر بن الفلاس، وكان طيباً، فحدثنا يوماً: أنه دخل على بعض من كان يعرفه بالتشيع، ثم صار يقول بمذهب أهل التناسخ، قال: فوجدته، وبين يديه سنور سوداء، وهو يمسحها، ويحك بين عينيها، ورأسها، وعينها تدمع، كما جرت العادة في السنانير بذلك، وهو يبكي بكاء شديداً.
فقلت له: لم تبكي؟ فقال: ويحك، ما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها؟ هذه أمي لا شك، وإنما تبكي من رؤيتها لي حسرة.
قال: وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم عنه، وجعلت السنور تصيح قليلاً قليلاً.
قال: فقلت له، وأنا معتقد الطنزبه : فهي تفهم ما تخاطبها به؟ فقال: نعم.
فقلت له: أفتفهم أنت عنها صياحها؟ فقال: لا.
فقلت له: " 26 " فأنت إذن الممسوخ، وهي الإنسان.

كتاب تعزية
كتب محمد بن عيسى، أحد كتاب زماننا، بتعزية إلى صديق له، قرأته بخطه، فاستحسنت منه صدره، ونسخته: من سره امتداد عمره، ساءته فجائع دهره، بفقد حميمن أو طارق هموم، عادة للزمان معروفة، وسنة للحدثان مألوفة، وأحق من سلم للأقضية والأقدار، من وهب الله تعالى له جميل الاصطبار، فإن أصابته مصيبة، تلقاها مسلماً، أو نابته نائبة، وجدته محتسباً.
شاعر يقتضي ثواب مديح
كتب إلي عمرو بن محمد بن الأشعث، شاب ورد من عمان، مجتازاً بواسط - ذكر أنه كان من الجند فيها، فزالت نعمته، وهرب حين ملك الديلم عُمان - أبياتاً في آخر رقعة له، اقتضاني فيها، ثواب مديح، كان أسلفنيه، وهي:
مات الرجاء بغيظه فلك البقا ... ولربما أفضى النعيم إلى الشقا
فإن احترقت فمن تلهب حادث ... لأقل منه تلهباً أن يحرقا
إن كان عود الجود جف فإنه ... لم يسق ماء نداك حتى أورقا
وأريد منك إذا حرمت مطالبي ... تسعى معي فلعلني أن أرزقا
الانتقال في ليلة واحدة
من الحر إلى البرد
حدثني أبو علي المنتاب، قال: حدثني أبي، قال: كنا مع حامد بن العباس في ولايته، يوماً، جلوساً في الخيش، بواسط، في النصف الأخير من تشرين الثاني، لشدة الحر، فجاء البرد في ليلة، فأصبحنا من غد، وقد لبسنا الخزوز والمحشو، وعجبنا من التفاوت بين الحالين في شدة الحر، وفي شدة البرد، في ليلة واحدة.
في العافية طعم كل شيء
حدثني أبو علي محمد بن محمد بن إسماعيل بن شانده الواسطي، قال: سمعتبعض شيوخنا، يحكي عن إبراهيم الحربي، أنه قال: في العافية طعم كل شيء، وفي الرزق نصر كل شيء.
القاضي أبو خازم والخليفة المعتضد
حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت القاضي أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، الأنباري، يحدث أبي، وقد جئت إليه معه نهنيه بعيد أضحى، فحدث أحاديث، فقال: حدثني أبو خازم القاضي، قال: كان في حجري أيتام، ذكور وإناث، خلفهم بعض العمال، فرددت أمانتهم، إلى بعض الشهود، فصار إلي " 27 " الأمين يوماً، وعرفني أن عامل المستغلات، ببغداد، الذي يتولى مستغلات السلطان، وعامل بادوريا، قد أدخلا أيديهما، في أملاك الأيتام، وذكرا أن الوزير عبيد الله ابن سليمان، أمرهما بذلك، عن أمير المؤمنين المعتضد.
فصرت إلى المعتضد في يوم موكب، فلما انقضى الموكب، دنوت منه وشرحت له الصورة.
فقال لي: يا عبد الحميد، هذا عامل خانني في مالي، واقتطعه، ولي عليه مال جليل، من نواحي كان يتولاها من ضيعتي خاصة، وما لي عليه بضعف هذه الأملاك التي خلفها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما تدعيه عليه يحتاج إلى بينة، وقد صح عندي أن هذه الأملاك أملاكه يوم مات، ولا طريق إلى انتزاعها من يد وارثه إلا ببينة بالمال، هذا حكم الله في البالغين، فكيف في الأطفال؟ قال: فسكت ساعة مطرقاً، ثم دعا بدواة، ووقع بخطه إلى عبيد الله ابن سليمان، بالإفراج عن الضياع.
دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكان يخلف أبا نوح بن إبراهيم، على ديوان الضياع، حدث أنه: كانت في يد صاعد بن مخلد، ضمانات كثيرة، وكانت إليه معاملة مع أبي نوح، وكان صاعد - إذ ذاك - من وجوه الناس، ولم يكن بلغ المبالغ الكبار.

فحضر عنده صاعد، أول خلافة المعتز، ونحن حضور، فطالبه أبو نوح بأموال وجبت عليه، وجرت بينهما مناظرات، أدت إلى أن تنقطع في الجواب.
فاغتاظ أبو نوح، فأعضه، فرد عليه صاعد، مثل ما قاله له.
فاستعظم الناس ذلك، فاستخفوا به، وقالوا: يا مجنون، يا جاهل، قتلت نفسك، قم، قم.
وخلصوه من أن يفتك به أبو نوح في الحال، وقالوا: هذا مجنون، ولم يدر ما خرج من فيه.
وانصرف صاعدا إلى منزله متحيراً، لا يدري ما يعمل فيما قد نزل به.
فحدث أخاه عبدوناً بما جرى، فقال له: إن لم تطعني، فأنت غداً مقبوض عليك، مطالب من المصادرة بما لا يفي به حالك، ولا حال من عرفك من أهلك، ومقتول بلا شك، تشفياً منك.
قال: وما الرأي؟ قال: كم عندك " 28 " من المال الصامت العتيد ؟ وأصدقني عن جميعه.
قال: خمسون ألف دينار.
قال: تسمح نفسك أن تتعرى منها، وترمي بها كأنها لم تكن، وتنقذ نفسك وتحرس بدنك، وما بقي من حالك، وضياعك، وعقارك، فتصير من أجلاء الناس؟ أو لا تسمح بذلك، فتؤخذ الدنانير منك تحت المقارع، وتذهب الضيعة والنعمة كلها، وتذهب النفس؟ قال: ففكر طويلاً، ثم قال: قد تعريت عنها في عز نفس.
قال: أعطني منها الساعة ثلاثين ألف درهم.
قال: خذ.
فأخذها، وجاء إلى حاجب موسى بن بغا، وقت عتمة، وقال له: هذه عشرة آلاف درهم، وأوصلني إلى فلان الخادم.
قال: وكان هذا الخادم، يتعشقه موسى جداً، ويطيعه في كل أمره، وموسى إذ ذاك هو الخليفة، وكتبته كالوزارة، والأمور في يديه، والخليفة في حجره.
قال: فأخذ الحاجب المال، وأوصله إلى الخادم، فأحضره العشرين الألف درهم الباقية، وقال: هذه هدية لك، وتوصلني الساعة إلى الأمير، وتعاونني في حاجة أريد أن أسأله إياها، ومشورة أريد أن أشير عليه بها.
فأوصله الخادم.
فلما مثل بين يديه، سعى إليه بكتابه، وقال: قد نهبوك، واقتطعوا مالك، وأخرجوا ضياعك، وأخي يجعل كتبتك أجل من الوزارة، ويتغلب لك على الأمور، ويوفر عليك كذا، ويفعل كذا، ويحمل إليك الليلة، من قبل أن ينتصف الليل، خمسين ألف دينار عيناً، هدية منه لك، لا يريد عليها مكافأة، ولا يرتجعها من مالك، وتستكتبه، وتخلع عليه غداً سحراً.
قال: فقال له موسى: أفكر.
فقال: ليس هذا موضع فكر، وألح عليه.
قال: وقال له الخادم: في الدنيا أحد جاءه هذا المال العظيم دفعة واحدة، فرده؟ وكاتب بكاتب، والمال ربح.
قال: فأجابه، وصافحه.
فقال له: فتنفذ الساعة بمن يحضرك أخي، وتشافهه بذلك.
وأنفذ من أحضره، وبات عبدون في الدار، وقلد موسى كتبته لصاعد، في الحال، وأمره بالبكور إليه ليخلع عليه، وتقدم إلى النقباء بأن يباكروا الرجل ليركبوا معه.
قال: وبكر صاعد، وليس عند أحد له خبر، فخلع عليه موسى بن " 29 " بغا لكتبته، وركب الجيش على بكرة أبيهم، وانقلبت سر من رأى، بظهور الخبر.
فبكر بعض المتصرفين، إلى الحسن بن مخلد، وكان صديقاً لأبي نوح، فقال له: قد خلع على صاعد.
فقال: لأي شيء؟ فقال: تقلد كتبة موسى بن بغا.
فاستعظم ذلك، وقال: ثيابي.
فأحضرت، فلبس، وركب إلى أبي نوح، فقال له: عرفت خبر صاعد؟ فقال: نعم، الكلب، وقد بلغك ما عاملني به؟ والله لأفعلن به ولأصنعن.
قال: أنت نائم؟ ليس هذا أردت، قد ولي الرجل كتبة الأمير موسى ابن بغا، وخلع عليه الساعة، وركب الجيش معه بأسرهم، إلى داره.
فقال له أبو نوح: هذا ما لم نظنه، بات خائفاً، وأصبحنا خائفين منه، فما الذي عندك؟ فقال: أنا أصلح بينكما الساعة.
قال: فركب الحسن بن مخلد، إلى صاعد، وهنأه، وأشار عليه أن يصالح أبا نوح، وقال له: وأنت بلا زوجة، وأنا أجعلك صهره، وتعتضد به، فإنك وإن كنت قد نصرت عليه، فهو من يعلم موضعه، ومحله، ويتجمل بمصاهرته، ومودته، وأنت حبيب على الرجل.
قال: ولم يدعه، حتى أجاب إلى الصلح والصهر.
فقال له: فتركب معي إليه، فإنه هو أبو الابنة، والزوج يقصد المرأة، ولولا ذاك لجاءك.
قال: فحمله من يومه إلى أبي نوح، واصطلحا، ووقع العقد في الحال بينهما.
وزوج أبو نوح، في مجلسه ذلك، ابنته الأخرى، بالعباس بن الحسن بن مخلد، فولدت له أبا عيسى المعروف بابن بنت أبي نوح، صاحب بيت مال الإعطاء، ثم تقلد ديوان زمام الجيش لعمه سليمان بن الحسن، وكان أصغر سناً من أبيه.

فكانت كتبة صاعد لموسى، ومصاهرته لأبي نوح، أول رتبه العظيمة التي بلغها، ثم تقلبت به الحال، حتى ولي الوزارة.

حدة طبع أبي العباس بن الفرات
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم سليمان بن الحسن، قال: كنت أخط بين يدي أبي العباس بن الفرات، في أول وزارة عبيد الله ابن سليمان، وأتحقق به، لأن أبي اصطنع أباه، وكنت أشرب معه.
فكنا ليلة على شراب، وقد جرت الأحاديث، فحدثنا بأخبار عدة من الكتاب والوزراء، كانت فيهم حدة.
وقال: كان أحمد بن الخصيب، يركل المتظلمين.
وكان أبو عباد ثابت بن يحيى، يضربهم بالمقرعة، إذا كان راكباً.
وكان أحمد بن أبي خالد، يشتمهم.
وعد جماعة " 30 " ، قال: وكان في أبي العباس، حدة، وسفه لسان، فسمعنا ذلك منه، ولم نقدم على موافقته.
فلما كان من غدٍ، ركب وأنا معه، في السحر، فلقيه في الطريق، أهل سمطيا، يتظلمون من عاملهم، في شيء ذكروه، فصاح عليهم، وشتمهم.
فتقدم إليه أحدهم، فألح عليه في الكلام، فرفسه برجله في الركاب، وقنعه بالمقرعة، وبصق عليه.
فذكرت الحديث الذي حدثنا به من ليلته، فضحكت.
فسمع قهقهتي، فالتفت مبتسماً، وقال: من أي شيء ضحكت يا عيار؟ فقلت: زدتنا نتفة يا سيدي في ذلك الحديث الذي جرى البارحة.
فقال: أو قد حفظته؟ قلت: نعم.
قال: فقال لي سليمان بن الحسن: سمعت دفعات لا أحصيها، أبا العباس ابن الفرات، وقد احتد طبعه على قوم غضب عليهم، وكان يقول للواحد منهم: يا ابن مائة ألف كر خردل مضروبة في مائة ألف مثلها زواني، تشاغل بحساب هذا فهو أنفع لك.
سفه لسان حامد بن العباس
قال أبو الحسين: وما رأينا ولا سمعنا، برئيس أسفه لساناً، من حامد ابن العباس، فإنه كان لا يرد لسانه على أحد البتة، وكان إذا غضب شتم.
فمن ذلك: أن أبي حدثني، أنه كان بحضرته في مجلس حافل، فجاءت أم موسى القهرمانة، فقالت له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أقول لك، في مجلس حفلك، أن ابن الفرات، كان يحمل إلي خريطة في كل يوم فيها ألف دينار، وإلى السيدة عشرة آلاف دينار في الشهر، وإلى الأمراء والقهارمة، خمسة آلاف دينار في الشهر، وأنك قد أخللت منذ أربعين يوماً.
فقال لها في جواب ذلك: الساعة قد جئت حادة محتدة، تطالبينني بهذا؟ اضرطي والتقطي، واحذري لا تغلطي.
قال: فقامت خجلة، وكان ذلك أحد أسباب سقوطه عندهم، وغلبة علي بن عيسى على الأمور.
ومن ذلك: أنه استحضر ابن عبد السلام العدل، يطالبه بوديعة، سعي بأنها عنده لابن الفرات، وأن يحيى بن عبد الله الدقيقي، أبا زكريا، قرابة أم كلثوم، قهرمانة ابن الفرات، أودعه ذلك " 31 " .
فجرى الخطاب بينهما في ذلك، وعلي بن عيسى حاضر، والخلق من القضاة والأشراف والأولياء، وكنت فيهم، وأنا حدث مع أبي.
فقال له: هذا الدقيقي ابن البظراء، قرابة أم كلثوم العفلاء، تعرفه؟ فقال العدل: الوزير أعزه الله، أعرف به مني.
ومن ذلك: أنه قال لابن الحواري، في دار الخليفة، وأم موسى حاضرة، ليلة قدم من واسط ليتقلد الوزارة، في حديث جرى بينهما: قد نكت أمه مرتين.
فقالت أم موسى: ويلي، أي شيء هذا؟ فاستحيا، وقال لابن الحواري: نحن في السواد، إذا غلبنا خصومنا، قلنا قد نكنا أمهاتهم.
ومنها: أنه استحضر الوليد بن أحمد، ابن أخت الراسبي، ليصادره بمصادرة قد وقف عليها، عشية عيدٍ أتى عليه في وزارته، ولم يشغله حضور الناس عنده للتهنئة بالعيد.
فأتي بالرجل بجبة صوف، فلما رآه علي بن عيسى، وكان حاضراً، قال: إن رأى الوزير أن يخليني وإياه لأخاطبه، وأقوده إلى امتثال أمره.
فقال: افعل.
واستدعاه إليه، وجعل يساره، وكان علي بن عيسى، قريب المجلس من حامد، يسمع عليه ما يخاطبه به.
فسمع الوليد يحلف قليلاً، قليلاً، ما بقيت لي حيلة.
فقال لعلي بن عيسى: يا أبا الحسن، تلومني الساعة، أن أنيك أم هذا؟ فقال علي بن عيسى: اللهم غفراً، أي والله، أي لوم.
قال: وكان ابن عبدوس الجهشياري، الذي ألف كتاب الوزراء، قائماً على رأس علي بن عيسى، لأنه كان يحجب أبا الحسن، وكان أبوه من قبله مضموماً إليه رئاسة الرجال، برسم علي بن عيسى الوزير، وكان يحجبه أيضاً.
قال: فتنحى ابن عبدوس من مكانه، وقال: لعن الله زماناً صرت أنت فيه وزيراً.

ومنها: أنني سمعته، وقد اجتاز على باب دار كنا ننزلها بشارع الكوفة، إذ ذاك، وأنا قائم على الباب، وقد اتفق أن كلمه في الموضع، قوم من أهالي بادوريا، في خراج النخل الشهريز، وأكثروا، وأنهم يبيعون المائة رطل منه - وهي حمل نخلة - بدرهمين، وخراجها ثلاثة دراهم، وأنهم يمنعون من قلعه، فإما أذن لهم في ذلك، وإما خفف عنهم من الخراج.
قال: فصاح عليهم، وقال: ليس لي في هذا نظر، قد صار النظر في هذا وشبهه، إلى علي بن عيسى، فامضوا إليه.
قال: فانصرف القوم؛ وسار خمس خطى أو نحوها، ثم وقف، وقال: ردوهم، فردهم " 32 " الرجالة.
فقال لهم: كأني بكم، تمضون إلى علي بن عيسى، وتقولون: قد أحالنا الوزير عليك، وأجابنا، وأمي إن كنت أجبتكم إلى هذا زانية، وأمكم إن قلتم هذا زانية، وأم علي بن عيسى إن أجابكم إلى هذا زانية.
ثم سار متوجهاً إلى بستانه المعروف بالناعورة ليتنزه.
ومن ذلك: أنه كان يجتمع مع علي بن عيسى، في دار الخليفة، لما ضمن حامد في وزارته السواد، وصار علي بن عيسى مستوفياً عليه، ومطالباً له، فيتناظران في أمر المال، فيحتفيه علي بن عيسى، بالحجة، فيعدل هو به إلى السبب والسفه، فيقول له علي بن عيسى: سلاماً، سلاماً.
يريد بذلك، قول الله تعالى: " وإذا خاطبهم الجاهلون، قالوا سلاماً " .
فلما كثر ذلك على حامد، قال له يوماً عقيب سفه جرى عليه منه: كم تذكر سلامه الذي ينيك أختك أسماء ؟ فقام علي بن عيسى، وقال: ما بعد هذا شيء، وتجنب مخاطبته بعد ذلك.
وقال لعلي بن عيسى مرة بحضرة المقتدر: أنا والله، نكت هذا مرتين، وهو أمرد.

من عجائب صنع الله
حدثني أبو الحسين، قال: رأيت ببغداد، في سنة ثلاث عشرة وثلثمائة، وأبي، وأنا، مستتران في الكرخ، طوافاً، يصيح ويقول: انظروا إلى قدرة الله، في رأس بقرة، برأسين وأربعة أعين، فرأيت ذلك كما وصف.
ورأيت معه فروجاً له ثلاثة أرجل، يمشي بهن، ولا يعرج.
الرياسة دين لا يقضى
وحدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبي يقول: لما ولي أبو الحسن بن الفرات، الوزارة الأولى، لم يبدأ بتقليد أحد، قبل أبي العباس أحمد بن محمد بن بسطام، وكان مقيماً في مصر، على عطلة، فكاتبه بأجل مكاتبة، وقلده أعمال مصر، وزاده في الدعاء.
وقال: هذا رجل، قد جرت له علي رياسة، والرياسة دين لا يقضى.
ابن الفرات يتعصب لآل نوبخت
قال أبو الحسين: وسمعت أنا - في الوزارة الثالثة - أبا الحسن بن الفرات، يقول: - وقد دفع إليه صاحب الخبر، خبراً فقرأه، وخرقه - ثم قال: يتمعضني الناس، بتعطيلي مشايخ الكتاب، وتفريقي الأعمال على آل بسطام، وآل نوبخت، والله، لولا أنه لا يحسن تعطيل نفرٍ من العمال، وقد قلدتهم، لما استعملت في الدنيا، إلا آل " 33 " نوبخت، دون غيرهم.
قال أبو الحسين: وإنما كان يتعصب لآل بسطام لرياسة أبي العباس عليه وللمذهب، ويتعصب لآل نوبخت، للمذهب.
المعتضد والعمال المنكوبون
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت جماعة من مشايخ الكتاب، يقولون: كان المعتضد، إذا نكب رجلاً من جلة العمال ورؤسائهم، وكل به من يحفظه من قبله، ولم يكن عبيد الله من نفسه.
وربما أمر بصيانته، وشدد الوصية في أمره، من غير توكيل به من جهته، ولا أطماع في المال.
وكان إذا وكل به، يظهر أن التوكيل للمطالبة، وزيادتها، والتشدد فيها، لا لحفظ نفسه، فيطمع العامل.
قال: وكان يقول: هؤلاء من أكابر العمال الذين قد قامت هيبتهم في نفوس الرعية، وعرفوا أقطار البلاد، هم أركان الدولة، وأنداد الوزارة، والمرشحون لها، فإن لم تحفظ نفوسهم، وضع ذلك من الأمر، وأثر فيه.
لون من ألوان التعذيب
حدثني أبو الحسين، علي بن هشام، قال: حدثني أبو منصور عبد الله ابن جبير النصراني، كاتب ابن الفرات، قال: لما نكبت، بنكبة أبي الحسن بن الفرات، بعد الوزارة الأولى، سلمت إلى أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل، فحبسني عنده، وكان يطالبني بالمال، فأدفع عن نفسي.
إلى أن أحضرني يوماً، فخاطبني في المال، فلم أذعن بشيء، فدعا بمزين، وأمره أن ينتف بالمنقاش ربع شعر رأسي.
فلما نتف منه طاقات يسيرة، كدت أتلف، وقام هو، وقال: إذا نتفتم ربع رأسه، فعرفوني.

فلما قام، رشوت الموكلين، فحلقوا باقي الربع من رأسي، ولم ينتف، وأعلموه أنه قد نتف، فأمر أن يقير الموضع النظيف من رأسي، بقير حار.
فجاءوا بالقير، فوضعوه على رأسي، ولم يكن مفرط الحرارة، لأنه لا كان مفرطاً، لأتلفني لا محالة.
فحين أحسست بحمي القير، قامت قيامتي، وكدت أن أتلف، فأذعنت بالأداء، وأقررت بسبعين ألف دينار، ودائع لي " 34 " ، وكتبت ألتزم تسليمها إليهم، فأخذت في اليوم الثالث.
فلما كتبت خطي بتسليمها، أمر بالزيت فطلي به رأسي، وقلع به القير من رأسي، فقزع شعري إلى الآن.

من شعر نفطويه
حدثني أبو الحسين قال: انصرفت من عند أبي عبد الله، نفطويه، وقد كتبت عنه أشياء، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، فقال لي: ما هذا الدفتر. فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان، قد أنشدنيهما نفطويه لنفسه.
فلما قرأهما الزجاج استحسنهما جداً، وكتبهما بخطه على ظهر كتاب (غريب الحديث)، وكان بحضرته.
والمقطوعتان:
تواصلنا على الأيام باقٍ ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوته لكن تراه ... على روعاته ذاني النزوع
كذا العشاق هجرهم دلال ... ومرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذ الله أن نلفى غضاباً ... سوى دل المطاع على المطيع
والأخرى:
وقالوا شانه الجدري فانظر ... إلى وجهٍ به أثر الكلوم
فقلت ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السماء بلا نجوم
رعونة عبيد الله بن سليمان
جرت النكبة عليه وعلى أبيه
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا جماعة من شيوخ الكتاب، منهم علي بن عيسى، والباقطائي، وغيرهما، قالوا: حدثنا عبيد الله بن سليمان، قال: لما أضاق المعتمد بسر من رأى، وأمره - إذ ذاك - نافذٌ، ومعه قطعة من الجيش، وكان سليمان بن وهب وزيره، والموفق بواسط، وعبيد الله ابن سليمان كاتبه، طلب المعتمد من سليمان، مالاً يحتاله، لداره، وحرمه، وخاص نفقته، لا يعلم به الجند، فدافعه بذلك، فقبض عليه، وقال له: قد تقلدت منذ أيام المعتز، إلى الآن، أعمالاً متوالية، منها الوزارة للمهتدي، ومرة الجبل، وغير ذلك، وما نكبت، ولا صودرت، وأريد منك خمسمائة ألف دينار.
قال: وورد عليّ الخبر، فلشدة محبتي لخلاص أبي، ما جنيت عليه جناية عظيمة، بأن صرت إلى الموفق، فقلت له: لم يقدم المعتمد على أبي إلا لبغضه لك، وليس يحقد علينا إلا تمشية أمرك، واجتذاب الجيش " 35 " إليك.
فوعدني بتخليص أبي، على مهل.
فقلت: إن أخرت الأمر، أسرع إلى مكروهه، وإزالة نعمته.
فقال: ما تريد؟ فقلت: تخرج بمن معك، فتنتزعه من يده قسراً.
فقال: هذا يحتاج إلى مال ورجال، وهو خليفة على كل حال، ولا أحسب الرجال يطاوعوني على حربه.
فقلت له: علي المال والرجال.
فقال: دعني، حتى أفكر.
قال: ودافعني، واعتقد في أقبح اعتقاد، ورآني بصورة من يملك طاعة الرجال، في قتال الخليفة، ويمكنه من المال، من عنده، ومن حيلته، ما يرضي به الجيش.
فلما عاودته، قال: يجب أن نقدم المراسلة بيننا وبينه، فإن أنجعت، وإلا كانت الحرب.
فاخترنا للرسال، صاعد بن مخلد، وهو إذ ذاك، من جلة أصحاب الدواوين.
فاستدعاه الموفق إلى حضرته من سر من رأى، فصار إليه، وحمله رسالة إلى المعتمد.
فمضى، وأداها، وأصلح الأمر مع المعتمد لنفسه، وأشار على المعتمد بإطلاق أبي عاجلاً، وضمن له إفساد رأي الموفق فيه، وفيّ، حتى يقبض علينا.
فأقام أبي عند الموفق، والوزارة إليه، فدبر أمر الموفق، ثم عاد صاعد فشرع مع الموفق في الأمر، وأنفذ المعتمد ثقاته سراً إلى الموفق، بما لقنه صاعد، ولم يزل ينسج الأمر، حتى تمت النكبة علينا.
ما في الأرض أشد جناية
على الوزراء والرؤساء من أصاغر أسبابهم
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عيسى، أخو أبي صخرة، واسمه أحمد بن محمد بن خالد، قال: سمعت إسماعيل بن بلبل يقول: ما في الأرض أشد جناية على الوزراء، والرؤساء، من أصاغر أسبابهم، ولقد قال لي راشد، صاحب جيش الموفق: كنت قد بليت بالنظر في أمر إنزال الرجالة، ومن يجري مجراهم، وكنا نحتاج في كل يوم لذلك إلى ستة آلاف دينار، فما زالت تنقص بالإضافة، إلى أن اقتصر على ما لا بد منه، وكان ثلاثة آلاف دينار.

واعتمد الموفق عليّ في ذلك، لشدة اهتمامه به، لأقوم به - إذا لم يطلق المال - بمالي وجاهي، وحيلتي، فأفقرني ذاك.
وكان عبيد الله بن سليمان، وأبوه، وهما مقيمان " 36 " بالحضرة، يقصداني، ويريثان المال عليّ، فأحفظني ذلك عليهما، واقتصر لي، على ألفي دينار في كل يوم، عاجلة، وألف بحوالات لا تروج، فكنت أحتاج أن أرهن سيوفي، وسروجي، وأدخل كل كدخل، حتى أقيم الأنزال.
ووقعا لي في بعض الأيام، إلى جهبذهما ليث، بمالٍ من مال الأنزال، جعلاه من مال ضياعهما، فتوارى ليث، فبثثت الرسل في طلبه، فوجده بعض رجالتي، فأوصل إليه التوقيع.
فقال: ما عندي للوزير، ولا لابنه مال.
فقال له: فاحتل، ولو من مالك، فهذا مهم للأمير أبي أحمد.
فقال: وأيش لأبي أحمق عندي؟ فجاءني الرجل بالخبر، فحملني الغيظ عليهما، أن شكوت إلى الموفق هذه الحال، وقلت: قد قال كلاماً لا يجوز إعادة مثله - قبحاً - عليك.
فطالبني بإحضار الرسول، فأحضرته، فأمره أن يحكي الكلام، فخاف الرسول، فأرهبه، فأعاده عليه بعينه، من غير كناية.
فقال: صدق ليث، لو لم أكن أبو أحمق لما تركت عليه، وعلى أصحابه الأموال، حتى ننظر.
فكان ذلك سبب تعجيل النكبة لهما.
فقال لي الموفق: أريد أن تلزم أصحابك، طلب ليث، وتظهر أنه بسبب هذا التوقيع، وتبث الرجالة، حتى إذا حصل، قبضنا على أصحابه.
فأنفذت عدة، ولم أزل أجتهد حتى حصل.
وجاء سليمان وعبيد الله، من غدٍ، للخدمة على الرسم، فشوغلا في الدار، إلى أن حصل ليث، فلما حصل، قبض عليهما، وأنفذ إلى صاعد، من أحضره، فتقلد الأمر، وسلم إليه ليث.
قال راشد: صرت إلى صاعد مهنئاً له بالوزارة، فقال: قم بنا، لأريك العجب.
فقمنا، وخلونا، ودعا ليث، ورفق به، فلم ينفع الرفق، فقال: علي بجيش غلامه، فجيء به، فضربه مقارع يسيرة.
فقال: أنا أدلك على بئر المال.
فقال لليث: هذه البئر مالك، أو مال أصحابك؟ فقال: بل مالي، أنا رجل تاجر.
فأخرجوا من البئر ثمانين ألف دينار، واستخرج بعدها من ليث جملة أخرى كثيرة.
فكانت تلك أحد ما قوى طمع الموفق في آل وهب، واستئصالهم " 37 " .

الأمير الموفق يأمر وزيره الجديد
بتعذيب الوزير المصروف
حدثني أبو الحسين، قال: كنا في مجلس حامد بن العباس، وهو وزير، وكان يتحدث في مجلس العمل كثيراً، فسمعته يحكي، قال: قال لي صاعد ابن مخلد: لما قلدني الموفق وزارته، شرطت عليه، أن لا أدخل في مكاره سليمان ابن وهب، وعبيد الله ابنه، ولا أطالبهما، ولا أنظر إليهما في مال، ولا وديعة.
وقلت للموفق: سليمان اصطنعني، ورفع حالي، وصرفني، وما دخل قط لي في مكروه، ولا دخلت لهما في مثله.
ولم أجب إلى التقليد، حتى صافحني أن لا يلزمني ذلك.
فلما تقلدت، وخلع علي، خاطبني في أمرهم بعد أيام، وذكر ضيق المال إلا من جهتهم، فقلت: الشرط أملك، وأنت قادر أن تنصب لهذا كاتباً، وتدبره بنفسك، وبمن ترى من حاشيتك.
فعاودني دفعات، وأنا ممتنع، حتى مضى شهر من تقلدي.
فلما رآني على هذه الحال، راسل سليمان، وقال له: إن صاعداً غرني من نفسه، وضمن لي القيام بالأمور، وقد بلح، وليس يذهب ولا يجيء، وهو عدوك وعدو ابنك، وهو سعى بكما، فاضمنه مني، واذكر لي ما عليه من الأموال، وما في جيبه، ومعايبه، والحجج، والتطرق عليه وعلى أملاكه.
وكان سليمان محنكاً، مجرباً، فأعاد الجواب على الرسالة، بأني إن كنت موثوقاً بي، فلا تحتاج إلى ضماني، لأني أنصح وأستقصي على كل من يجب عليه حق الأمير، إن أعادني إلى خدمته.
ودافع عن كتابة الرقعة، وعلم أنها حيلة عليه، لامتناعي عن مكروهه، حتى يجعل الرقعة حجة عليه عندي.
فأنفذ الموفق، إلى عبيد الله، مثل هذه الرسالة، واستكتمه ذلك عن أبيه، فكتب عبيد الله، رقعة طويلة، يسعى عليّ فيها، أقبح سعاية، ويضمنني بمال جليل، ويثلبني، وينكل بي.
فلما وصلت إلى الموفق، احتفظ بها، وغدوت عليه، فخاطبني في تسلمهم، ومطالبتهم، فاستعفيت، وأقمت على الامتناع.
فقال: اقرأ هذه الرقعة، فلما قرأتها، ولم يكن عندي - إذ ذاك - علم كيف جرت الصورة، وإنما " 38 " انكشفت لي بعد ذلك المجلس، قامت قيامتي، وخفت على نفسي، من معاجلة الموفق، متى لم أعاجلهم، ولم أشك أن ذلك القول صحيح من عبيد الله، وأن الموفق قد أنعم عليّ بإطلاعي عليه.

فاستجبت إلى تسلمهم، وناظرتهم، وألزمتهم الأموال العظيمة، واستمرت النكبة عليهم.

سبيل الإنسان في المحن
أن يطأطئ لها
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى، يقول: سمعت عبيد الله بن سليمان، يقول: لما دخل صاعد بن مخلد، علي وعلى أبي، ليناظرنا، ونحن في حبس الموفق، قمنا، وتلقيناه.
فخاطب أبي بجميل، وأكرمه، وتجهمني بقبيح، وجعل لا يخاطبني إلا باسمي، ويقول: يا عبيد الله.
فلما أكثر عليّ، آلمني ذلك، فقلت له: أنا عبيد الله بن سليمان بن وهب بن سعيد، نتصرف في خدمة السلطان، منذ خمسين ومائة سنة، ونتقلب في جلائل الأعمال، أنت صاعد بن مخلد، مخلد من أبوه؟ فكان هذا من أكبر ما أحفظه علي، حتى تناهى في مكارهي.
وكان أبي يلومني على ذلك، ويقول: سبيل الإنسان في المحن أن يتطأطأ لها، ويذل لوقوعها، ولا يغالبها.
ولم تكن نفسي، أنا، تطاوعني على ذلك، وكان من أضر الأمور عليّ، وكان الحزم مع أبي دوني.
حفلة تعذيب بمحضر الوزير
قال أبو الحسين: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن حمدون الواسطي، صاحب حامد بن العباس، وخليفته، قال: قال لي حامد: كان صاعد بن مخلد، أول من قلدني العمالة، رياسة، فقال لي في بعض الأيام: احضر دار الأمير الموفق، فحضرتها معه.
فجلس في مجلسه منها، واستدعى على خلوة، سليمان بن وهب، وابنه عبيد الله، وهما منكوبان.
فرأيت سليمان، وقد خرج بطيلسانٍ، وخف، ومبطنةٍ، وابنه حافٍ مكشوف الرأس، على أذل صورة.
فأكرم الأب، وأسمع الابن المكروه، إلى أن دعا له بالمقارع، فأخذ سليمان يستعطفه كل الاستعطاف، وهو لا ينثني، ويقول له: إذا صنتك يا أبا أيوب عن مثل " 39 " هذه الحال، فلا أقل من أن تدعني أنتقم من هذا الجاهل، الفاعل، الصانع.
قال: وأقبلت المقارع تأخذ عبيد الله، وسليمان يستعطفه.
فلما زاد الأمر، قال له سليمان: يا كافر، يا فاجر، أما تستحي؟ إنا اصطنعناك، وأقعدناك هذا المقعد، تضربه بين يدي، سبة عليك.
قال: فاستحيا، وأمر بقطع الضرب، فما ضرب بعدها عبيد الله بحضرته، وواضع الموفق بعد ذلك، على أن يكون الضرب بحضرته، بأيدي غلمانه، في داره.
فحرض الموفق عليهما، حتى نهكهما عقوبة وضرباً.
وحفلة تعذيب بمحضر الأمير
فحدثني أبو علي بن مقلة، في نكبته بعد الوزارة الثالثة، وهو في دار أبي بكر بن قرابة، لمال يؤديه، ضمنه عنه ابن قرابة، وشكا ما عامله به الخصيبي من المكروه، ثم قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن سليمان، يقول: أخرجت وأخرج أبي في نكبتنا، في بعض الأيام، بواسط، إلى حضرة الموفق، وقد نصبت له سبنية، فجلس وراءها، ونحن نعلم بذلك.
ودعا براغب، فأمره بضربنا، فضرب أبي نيفاً وعشرين مقرعة، ثم دعي بي، فنوظرت، ثم أمر بضربي.
فإلى أن يستدعى لي من يضربني، قال أبي لراغب: الذي نحن فيه يستطاب معه الموت، وما أقول ما أقوله دفعاً عن نفسي، ولا عن ولدي، وإنما أقوله شفقة على الأمير، فأعلمه: أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل، ذبح سخلة، بحضرة أمها فخبط من ساعته.
قال: فوالله، ما مضى راغب ليؤدي الكلام، حتى جاءت الرسل من عند الموفق، بأن يرفع الضرب عنا، وقد كان بحيث يسمع الكلام من وراء السبنية.
فما عاد بعدها علينا مروه.
أبو زكريا السوسي يرى مناما
ً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي، المعروف بخلف، ومحله، في اليسار، والجلالة، والمكنة من السلطان، والاشتهار بالدين، والثقة، والصدق، والأمانة، وصحة الرأي، مشهور، وكان نصرانياً في حداثته، فأسلم، وحسن إسلامه، قال: رأيت في منامي - يعني بعد إسلامه - علياً عليه السلام، وكأنه جالس ومعه جماعة " 40 " من أصحابه، وبالقرب منه، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومعهما جماعة.
قال: فسألته، قلت: يا أمير المؤمنين، ما عندك في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً كثيراً.
قلت: فلم لم تجلس معهما؟ فقال: حياءً منهما لما يعمل بهما الرافضة.
حفيد يزيد بن هارون
يرى جده في المنام

حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي المعروف بنفطويه، في مسجد الرصافة، إملاء في سنة ثمان وثلثمائة، قال: حدثنا ابن بنت يزيد بن هارون، ولم يسمه، وكذا أملى علينا، قال: رأيت جدي يزيد في النوم، فقلت، ما فعل الله بك؟ ومنكر ونكير ما قالا لك؟ قال: قالا لي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فقلت: ألي يقال هذا؟ وأنا أعمله الناس منذ ثمانين سنة؟ فقالا لي: نم نومة العروس، فلا بؤسى عليك.
وعاتبني ربي، على كتابي عن عثمان بن جرير، فقلت: يا رب، عبدك وما أعلم إلا خيراً.
قال: إنه كان يبغض علياً عليه السلام.

ابن الفرات وأحد طلاب الوزارة
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن بن الفرات، قال: دخل عليّ المقتدر يوماً، وأنا في حبسه، في وزارة حامد، فقال لي: يا أبا الحسن، أتعرف الحسن بن محمد الكرخي الكاتب ؟ فقلت: نعم.
قال: أي شيء هو من الناس؟ قلت: عامل، له محل، ويفهم في الحساب شيئاً، وهو من صنائعي، ووجوه عمالي، وقد كان قبل، تقلد عمالات لعبيد الله بن سليمان، وهو أخو القاسم بن محمد الكرخي، وهو من أهل بيت.
قال: فقال لي: إنه قد كتب إلي يخطب الوزارة، ويتضمن بحامد، وبعلي بن عيسى.
قال: فقلت له: ولا كل هذا يا أمير المؤمنين، إن هذا، إنما طمع في الأمر لما رأى حامداً قد تقلد الوزارة، ولعمري إنها قد اتضعت بتقلده، وطمع فيها كل أحد، ولعمري أنه فوق حامد، أولا في العفافة، وحفظ اللسان، والحساب والخط، ولكن ليس لأنه فوق حامد، يجب أن يقلد الوزارة، ولا لأن الغلط جرى في أمر حامد، يجب أن يقلد هذا، على أنه غلط في ظنه أنه يصلح لصرف حامد، لأن حامداً رجل قديم في الرياسة في العمال، وله مروءة عظيمة، وضياع كثيرة، وغلمان كثيرو العدد، وله هيبة " 41 " ، وسطوة، وسن، ونشأ بعيداً عن الحضرة، فلم تستشف أخلاقه، وأفعاله، فانستر أمره عن أهلها، وله كرم يغطي كثيراً من معايبه، وترك الأمر في يده، ويد علي بن عيسى، وهو لا يلحق بعض كتابه، فضلاً عنه أولى، وإني لأقول الحق فيهما، على عداوتهما لي.
قال: فأضرب المقتدر عن تقليده.
قال هشام: ثم تم التدبير لأبي الحسن، في الوزارة، وصرف حامد، فحين جاءه الحسن بن محمد الكرخي، أبو أحمد، ذكر تلك الحال التي حدثه بها المقتدر، فهاب الحسن بن محمد، على الأمر، ورآه بعين رجل بعيد الهمة، وعرف تقلب رأي المقتدر، فرأى أن يحسن إلى الحسن بن محمد، ويبعده عن الأعمال، فقلده الموصل، وأخرجه إليها صارفاً لابن حماد.
فانتفع الكرخي بذلك الشروع.
الحسن بن محمد الكرخي
وكمال مروءته
قال أبو الحسين : فكنا في بعض الليالي بحضرة ابن الفرات، وهو يعمل، وأنا مع أبي، والمجلس حافل، حتى قرأ كتاباً من صاحب بريد الموصل، يذكر فيه، أن أبا أحمد، قد تبسط في الأعمال، وأظهر من المروءة أمراً عظيماً، وركب باللبود الطاهرية، وبعدة حجاب وغلمان، حتى أنه يسير معهم في موكب، وأنه ورد معه من الزواريق والجمال التي تحمل أثقاله، شيء كثير، وأن هذا ما لا يحتمله رزقه، وإنما هو من الأصل.
فرمى بالكتاب إلى أبي القاسم زنجي، الباقي إلى الآن - وكان إذ ذاك حدثاً يخط بحضرته - وقال له: وقع عليه، ليكتب إليه، ويعرف، أنه نفع الرجل من حيث تعمد ضره، لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع، عامل وجيه، جليل، كثير التجمل، والهيبة، والمروءة، صلح أن يبادر به السلطان، إلى مصر، وأجناد الشام، متى أنكر على عمالها أمراً، لأن هذه النواحي، لا تصلح إلا لمن كان حسن التجمل، والمروءة، كثير النعمة.
راتب عامل فارس
ثلاثة آلاف دينار في الشهر
ثم أقبل على من في مجلسه، فقال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان: أن المعتضد، رفع إليه خبر، رفعه النوشجاني، صاحب يريده، يذكر فيه: أن الأخبار ذاعت ببغداد، بأن حامد بن العباس، لما دخل فارس، متقلداً لعمالتها، دخل ومعه عدد " 42 " كثير عظيم، من الغلمان والحاشية.
قال: فتحيرت، لما دفع الكتاب إلي، وخفت أن يكون قد أنكر ذلك، ويقع له، أن هذا اصطلام للمال، ودخلني فزع منه، فلم أدر بأي شيء أجيب.

فقال لي: يا أبا القاسم، وقد كان كناه أول ما استوزره، وكان يتكنى على الناس إلا على بدر، وصاحب خراسان، وكان هو وبدر يتكاتبان بالكاف، والدعاء بينهما سواء.
قال المعتضد: يا أبا القاسم، قرأت الكتاب؟ فقلت: نعم.
فقال: قد سرني ما ذاع من مروءة حامد، وهيبته بذلك في نفوس الرعية، فكم رزقه؟ فقلت: ألفان وخمسمائة دينار في الشهر.
فقال: اجعلها ثلاثة آلاف، ليستعين بها على مروءته.
المعتضد يعفي عاملاً من المطالبة

لما ظهر من مروءته
قال: ثم قال أبو الحسن بن الفرات، عقيب هذا: وقد فعل المعتضد، قريباً من هذا، مع أبي العباس أحمد بن بسطام، فإن المعتضد، طالبه، بعجز ضمانه واسط، وحبسه في دار ابن طاهر، وألزم سبعين ألف دينار يؤديها، فكان يصححها على جميل، وهو موكل به من قبل المعتضد في دار ابن طاهر، وأصحاب عبيد الله يطالبونه، ويقتضون المال.
فكتب النوشجاني، صاحب الخبر، فيه: أنه كان يفرق في أيام ولايته، في كل شهر، عشرين كراً، حنطة ودقيقاً، على حاشيته، وعلى المستورين والفقراء، وأنه فرق في هذا الشهر الأكرار على رسمه، ولم يقطعها، وهو مع ذلك يماطل بأداء ما عليه.
فلما دخل عبيد الله على المعتضد، أراه الرقعة، فسكت عبيد الله، فقال له المعتضد: قد سرني هذا، لأن ابن بسطام رجل مشهور بعظم المروءة، وكثرة المعروف، وقد جملنا بما قد فعله، حين لم يظهر أن ما قد ألزمناه أحوجه إلى الزوال عن عادته في المعروف، فكم بقي عليه؟ قال: بضعة عشر ألف دينار.
فقال: أسقطها عنه، ورده إلى عمله، وعرفه إحمادي ما قد فعله.
فامتثل عبيد الله ذلك.
علو نفس الحسن بن مخلد
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عبيد الله أحمد بن محمد بن بدر ابن أبي الأصبغ، يحدث أبي، قال: كنت أتصرف مع سليمان بن وهب، لقرابة كانت بيننا من جهة النساء، وكانت حالي بصحبته في نهاية السعة، حتى أنه كان يطحن الزعفران في داري، كما يطحن الناس الدقيق " 43 " ، لكثرة ما كان يجيئنا من الجبل، ونستعمله، ونهديه.
فولي سليمان ديوان الخراج، فكنت أحد عماله فيه، فوقعت بيني وبين ابنه عبيد الله، نفرة، فلزمت منزلي أياماً.
فما شعرت إلا برقعة الحسن بن مخلد، يستدعيني وهو يتولى ديوان الضياع، وكانت بينهما مماظة، فمضيت إليه، فقال لي: أنت معطل ولا تصير إلي؟ وقد انفصل ما بينك وبين أبي أيوب؟ فقلت: يا سيدي، كيف ينفصل ما بيننا، مع القرابة؟ ولكن بيننا عتب.
فقال: دع ذا، أنت معطل، وما تبرح حتى أقلدك عملاً.
قال: وأراد اجتذابي لناحيته، وكان الناس - إذ ذاك - يتغايرون على الكفاة.
فقلدني أعمال السيب الأسفل، وقسين، وجنبلا، وكانت تجري في ديوانه، فقبلتها.
وخرجت إليها، وكان الأرز قد قارب الإدراك، فقدرته، وعدت إلى سر من رأى، لأشرح له حال التقدير، وأستأمره في العمل.
فلما بصر بي قال: قد قدمت على فاقة مني إليك، قد تأذيت بالفلاحين، وأريد لهم عشرة آلاف دينار سلفاً لما يقيمونه في جبل باسورين من الثلج.
فقلت له: الأرز خافور، وما بلغ إلى أن يحرز.
فقال: لا بد من أن تستفرغ جهدك، وحيلتك، في هذا، حتى تخفف عني.
وكان، أول خدمة، فاحتجت أن أضطرب، لأصنع نفسي عنده، فخرجت مفكراً فيما أعمله.
فلإقبالي، لقيني رجل من وجوه التجار في الطريق، وكانت بيننا مودة، وكان موسراً، وكان جميع متجره غلات السلطان، فبدأني بالعتاب على تركي مبايعته شيئاً بالسلف من غلات عملي.
فاجتذبته إلى منزلي، وقلت: البيت لك، فاحتفل، ولو رأيتك ما عدلت عنك.
قال: فأقام عندي يومه، ولم أزل حتى بعته بحساب الكر الأرز المعدل، بسبعة دنانير، وكنت قد قدرت الحاصل فيه للسلطان، ثلاثة آلاف كر معدل، وسثنيت عليه في كل كر ديناراً، وأخذت خطه بضمانة تعجيل عشرة آلاف دينار، لمن يؤمر بأدائها إليه.
ورحت إلى دار الحسن بن مخلد، فوجدته نائماً، والناس " 44 " مطرحون في داره، ثم دخلت إليه، وشرحت له الصورة، فسر بها، وأمر بإحضار صاحب مجلس النفقات في الديوان، وسلم الرقعة إليه، وقال: أحل الفلاحين على هذا التاجر.
فلما خلا مجلسه، تقدمت إليه، وعرفته خبر الاستثناء، وأريته الخط، وقلت: إلى من أسلم المال، إذا قبض؟ فلم يجبني، فألححت عليه.

فقال لي: يا هذا، إنك صحبت قوماً، لا مروءة لهم، فتعودت منهم، أن تعطوا نفوسهم إلى مضايقة خدمهم في هذا القدر، وما هو أتفه منه، وإذا أخذت أنا هذا المرفق، فأنت لم تخدمني، وتتبعني؟ خذ هذا، وأصلح به حالك، ليبين عليك أثر خدمتك لي.
فقبلت يده، ورجله، وعدت إلى عملي، واستخرجت المال، ودبرت العمل.
وحضر بعد مديدة، النوروز، وقد كنت مذ خرجت من حضرته، سألت ثقات إخواني من التجار في الأسواق، أن يجمعوا لي كل علق، حسن، غريب، طريف، مثمن، من فرش ديباج مثقل، وأبي قلمون مذهب، ووشي، وديبقي مرتفع، وقصب.
قال: فجمع لي من ذلك، ما كان شراه خمسة آلاف دينار، وهو يساوي أكثر منها بكثير.
ثم كتبت إليه رقعة في معنى الهدية، وتضرعت في قبولها، وتشبثت بذلك، وكتبت ثبت الهدية، في أسفل الرقعة.
فكتب إلي فيها: لك أكرمك الله، بنات، وهن إلى هذا أحوج مني، وقد قبلت ما يصلح قبوله أنساً بك، وإسقاطاً للحشمة معك، ورددت إليك الباقي، ليكون لهن.
وكان الذي قبله، ثوب قصب، ومنديل ديبقي، وشستجة قصب.

الوزير علي بن عيسى يرفع التكملة
ويضع الخراج على الشجر
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عبد الله الباقطيء، يقول: وحكى لي أبي ذلك، قالا: إن السجزية لما غلبوا على فارس، أجلي قوم من أهل الخراج عنها، لسوء المعاملة، ففضوا خراجهم على الكوجودين، وسموا ذلك: التكملة، حتى يكمل به مال قانون فارس - كان - متقدماً.
ولم تزل الحال في ذلك، تزيد تارة، وتنقص أخرى، إلى افتتح أبو الحسن بن الفرات، في وزارته الأولى، فارس، على يد وصيف " 45 " .
ومحمد بن جعفر العبرتائي، ومن ضمه إليهما من القواد في سنة ثماني وتسعين ومائتين.
فأمر ابن الفرات، بإجراء الأمر في التكملة، على ما كان جارياً عليه.
وجرى الأمر على ذلك، في أيام محمد بن عبيد الله الخاقاني، وفعله علي بن عيسى، في صدر وزارته الأولى.
فلما مضت منها مديدة، صار إلى مدينة السلام، عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي، وطعن على محمد بن أحمد بن أبي البغل، وكان - إذ ذاك - يتقلد فارس، وذكر أنه إن ضمن العمل مكانه، وفر جملة من المال، فضمنه علي بن عيسى، وانصرف ابن أبي البغل عما كان يتقلده أمانة، وقلده أصبهان.
ثم أخر عبد الرحمن بن جعفر المال، واحتج بأن أهل فارس يتظلمون من التكملة، ولا يلتزمونها.
وكان أبو المنذر النعمان بن عبد الله، يتقلد ديوان كور الأهواز، مجموعة، فكتب إليه علي بن عيسى، أن يستخلف على أعماله، وينفذ إلى فارس، فيطالب عبد الرحمن بما حل عليه من المال، وينظر في هذه التكملة، ويشرح أمرها.
وكتب إلى أحمد بن محمد بن رستم بأن يصير من أصبهان إلى فارس ليضمنها.
وكتب إلى النعمان، بحل ضمان عبد الرحمن، وعقد البلد على ابن رستم.
فاستخرج النعمان التكملة، ووجد قطعة منها على عبد الرحمن، قد قدر أن يكسرها، فعسفه، وباع قطعة من أملاكه، حتى استوفى ذلك.
وكتب إليه علي بن عيسى يسأله عن التكملة، وأن يشرح له أمرها، وأنه قد صار يستضعف قوم فيلزمون منها أكثر مما يجب عليهم، ويرهب قوم، فيسامحون بها، أو بأكثرها.
فكتب إليه النعمان وابن رستم: إن من طرائف ما يجري بفارس، أن الناس يطالبون بالتكملة، وهي ظلم صراح، سنة الخوارج، ويترك عليهم ما قد أوجبه الفقهاء، وهو خراج الشجر، لأن فارس افتتحت عنوة، وليس على الشجر بها خراج، وأرباب الشجر يذكرون، أن المهدي أسقط عنهم خراج الشجر، وليس لهم حجة بذلك، إلا طول مدة الرسم، والأصل وجوب الخراج على الشجر.
فتسامع أهل البلد بالخبر، فتبادر أجلاؤهم إلى حضرة علي بن عيسى من فارس، فدخلوا مجلسه للمظالم " 46 " ، وفي أكمامهم حنطة محرقة.
فلما تظلموا، قالوا له: نمنع من إطلاق غلاتنا، وتعتقل علينا في الكناديج، إلى أن تعفن وتصير هكذا - ورموا بالحنطة المحرقة من أكمامهم - حتى نبيع شعورنا، ونؤدي التكملة الباطلة، حتى تطلق غلاتنا وقد احترقت هكذا.
ورمى قوم من أكمامهم بتين يابس، وخوخ مقدد، ولوز، وفستق، وبندق، وغبيراء، ونبق، وبلوط، وقالوا: هذا كله بغير خراج، لقوم آخرين، والبلد عنوة، فأما تساوينا في الإحسان أو الاستيفاء.

فخاطب علي بن عيسى، في ذلك، الخليفة، واستأذنه في جمع الفقهاء، والقضاة، ومشايخ الكتاب، ووجوه العمال، وجلة القواد، ومناظرة القوم بحضرته، وتقرير الأمر على ما يوجب الحق - عند الجماعة - والعدل، فأذن له في ذلك.
فجمع الناس في دار المخرم، التي كانت برسم الوزارة، وصيرها علي بن عيسى ديواناً، وطالت المناظرات، واحتج من حضر من أرباب الشجر، بفعل المهدي، وقالوا: قد استهلكت أموالنا، في أثمان هذه الأملاك التي لا خراج عليها، وإن ألزمت الخراج، بطلت القيم، وافتقرنا: فأفتى الفقهاء بوجوب الخراج، وبطلان التكملة.
وقال الكتاب: إن كان المهدي، شرط شرطاً، لمصلحة في الحال، أو عناء اعتناء أهل البلاد، في جدب أو غيره، ثم زالت المصلحة، زال الشرط.
فقال علي بن عيسى للقوم: أليس عندكم أنا ما فعله المهدي واجب؟ قالوا: بلى.
قال: لم؟ أليس لأنه إمام رأى رأياً ليس فيه مضرة؟ قالوا: بلى.
قال: فإن أمير المؤمنين، وهو الإمام الآن، قد رأى أن الأحواط للمسلمين، والأحفظ للكافة، إلزام الخراج الشجر، وإزالة التكملة.
فقام إليه الزجاج، ووكيع القاضي، فوصفاه، وقرضاه.
وقال الزجاج: لقد حكمت بحكم، لو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حاضراً، ما تجاوزه.
وقال وكيع: لقد فعل الوزير في هذا، كفعل أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه، في مطالبة أهل الردة بالزكاة.
وأنهى علي بن عيسى، والقضاة، ما جرى، إلى المقتدر، في يوم الموكب، واستأذنه في كتب كتاب بإسقاط التكملة عاجلاً، إلى أن يتقرر أمر الشجر.
فأمر بكتب ذلك " 47 " في الحال بحضرته، وأحضر قائداً من قواد الحضرة، كان يخلف بدراً الكبير، المعروف بالحمامي، عامل المعاون، بفارس وكرمان، ليسلم إليه الكتاب، ويطالب النعمان، وابن رستم بامتثاله.
وأمر الخليفة بإحضار دواة يكتب بها علي بن عيسى، وكان رسم الوزراء، إذا أمروا بكتب كتاب بحضرة الخليفة، أن تحضر لهم دواة لطيفة، بسلسلة، فيمسكها الوزير بيده اليسرى، ويكتب منها باليمنى.
فأحضرت تلك الدواة، لعلي بن عيسى، وبدأ يكتب منها الكتاب بغير نسخة.
فلما رآه المقتدر، وقد شق عليه ذلك، أمر بإحضار دواته، وأن يقف بعض الخدم، فيمسكها إلى أن يكتب.
فكان أول وزير أكرم بهذا، ثم صار ذلك رسماً جارياً للوزراء، بحضرته.
فكتب علي بن عيسى، في ذلك كتاباً إلى النعمان، وخرجت نسخته، إلى الديوان، وأثبت فيه.
قال أبو الحسين: فحفظناه ونحن أحداث، ونسخته : بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله جعفر، الإمام المقتدر بالله، أمير المؤمنين، إلى النعمان ابن عبد الله.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين، يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أفضل الأعمال قدراً، وأجملها ذكراً، وأكملها أجراً، ما كان للتقى جامعاً، وللهدى تابعاً، وللورى نافعاً، وللبلوى رافعاً.
قود جعل الله - عز وجل - أمير المؤمنين، فيما استرعاه من أمور المسلمين، مؤثراً لما يرضيه، صابراً على ما يزلفه عنده ويحظيه، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل، وبه يستعين.
وقد عرفت حال السجزية والخرمية، الذين تغلبوا على كور فارس وكرمان، وأحدثوا الجور والعدوان، وأظهروا العتو والطغيان، وانتهكوا المحارم، وارتكبوا المظالم، حتى أنفذ أمير المؤمنين جيوشه إليهم، وتورد بها عليهم، فأزالهم وبددهم، وشتتهم وأبادهم، بعد حروب تواصلت، ووقائع تتابعت، أحل الله بهم فيها سطوته " 48 " ، وعجل لهم نقمته، وجهلهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمستمعين، " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد " .
ولما محق الله أمر هؤلاء الكفار، وفرق عدد أوباشهم الفجار، وجد أمير المؤمنين، أفظع ما اخترعوه، وأشنع ما ابتدعوه، في مدتهم التي طال أمدها، وعظم ضررها، تكملة اجتنبوها بكور فارس، في سني غوايتهم، لما طالبوا أهلها بالخراج على أوفر عبرتهم، من غير اقتصار به على الموجودين، حتى فضوا عليهم خراج ما خرب من ضياع المفقودين.
فأنكر أمير المؤمنين، ما استقر من هذا الرسم الذميم، وأكبر ما استمر به من الظلم العظيم، ورأى صيانة دولته، عن قبيح معرته، وحراسة رعيته، من عظيم مضرته، مع كثرته، ووفور جملته.

فرفع عن الرعية هذه التكملة رفعاً مشهوراً، وقد جعل الله تعالى من سنها مدحوراً، ونادى في المساجد الجامعة بإزالتها، وإبطال جبايتها، ليرتفع ذلك في الجمهور، ويتمكن السكون إليه في الصدور، وتحمد الله الكافة على ما أتاحه لها من تعطف أمير المؤمنين ورعايته، وجميل حياطته لهم وعنايته.
واكتب ما يكون منك في ذلك، فإن أمير المؤمنين يتوكفه، ويراعيه ويتشوفه، إن شاء الله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب علي بن عيسى يوم النصف من رجب سنة ثلاث وثلثمائة.

الوزير علي بن عيسى
يأمر بالرفق في الجباية
وقد كان علي بن عيسى، قبل ذلك بسنة، نظر لأهل التكملة من جملتها في شيراز، بعشرة آلاف درهم، قبل أن يخرج في السنة المقبلة، خراج الشجر، ثم تقرر أمر الشجر على أن يؤخذ منه الخراج، ويقارب أهله فيه، على طسوق توضع لهم مخففة، وكان النعمان رفيقاً يقاربهم، حتى عاد بإزاء ما أسقط من مال الضمان في التكملة، أكثره على التدريج.
فكتب علي بن عيسى، في أمر الشجر، كتاباً كنا نتحفظه في الحداثة من الدار، نسخته إلى ابن رستم، لأن النعمان عاد إلى بغداد، واستخلف بفارس أبا مسلم، محمد بن بحر، وضمن البلد من ابن رستم، وجعل أبا مسلم، مستوفياً عليه للمال: بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى أحمد بن محمد بن رستم " 49 " ، من عبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله، أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الله تعالى بعظيم آلائه، وقديم نعمائه، وجميل بلائه، وجزيل عطائه، جعل أموال الفيء للدين قواماً، وللحق نظاماً، وللعز تماماً، فأوجب للأئمة حمايتها، وحرم عليهم إضاعتها، إذ كان ما يجتبى منها، عائداً بصلاح العباد، وحراسة البلاد، وحماية البرية، وحياطة الحوزة والرعية، ولذلك، يعمل أمير المؤمنين، فكره ورويته، ويستفرغ وسعه وطاقته، في حراستها وحياطتها، وقبض كل يد عن تحيفها وتنقصها، والله ولي معونته، على جميل نيته، وحسن طويته، بمنه ورحمته.
ولما فتح الله عز وجل، كور فارس على المسلمين، وأزال عنها أيدي المتغلبين، وجد أمير المؤمنين أهلها، قد احتالوا في إسقاط خراج الشجر بأسره، مع كثرته وجلالة قدره، فأمر بإشخاص وجوههم إلى حضرته، واتصلت المناظرة لهم بمشهد من قضاته وخاصته، إلى أن اعترفوا به مذعنين، والتزموه طائعين، وضمنوا أداء ما أوجبه الله تعالى فيه من حقوقه، على ما تقرر معهم من وضائعه وطسوقه، فطالب بخراج الشجر، في سائر الكور، على استقبال سنة ثلاث وثلثمائة، فاستخرجه، واستوف جميعه واستنظفه، واكتب بما يرتفع من مساحته، ويتحصل من مبلغ جبايته، متحرياً للحق، متوخياً للرفق، إن شاء الله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب علي بن عيسى، يوم الاثنين لعشر ليال خلون من شعبان سنة ثلاث وثلثمائة.
إذا تم أمر بدا نقصه
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، وهو ابن بنت إبراهيم بن المدبر، قال: حدثني أبو الفضل صاعد ابن هارون بن مخلد بن أبان، قال: حدثني عدة من جلة الكتاب، عن كاتب كان يخلط بين يدي المورياني، وهو وزير المنصور، قال: كنت يوماً بحضرته على خلوة، فدخل عليه حاجبه، وقال: بالباب رجل يذكر أنه يريد أن يلقي إليك شيئاً مهماً.
قال: اسمع منه ما يقوله، وأده إليّ.
قال: قد سمته ذلك فأبى، وبذلت أن أخرج إليه كاتباً فامتنع من ذلك، وقال إما أن أصل إليه، أو أنصرف " 50 " .
قال: فما زيه؟ قال: زي التناء.
قال: هاته.
فأدخله، فلما وصل، استأذنه في السرار، فأذن له، فدنا إليه، فأطال سراره، ثم دعا بخازنه، فقال: خذ ما يدفعه إليك.
ثم قال لي: قم، فاكتب بكل ما يريده، على إملائه، وإن التمس توقيعي في شيء منه، فأنفذه إليّ مع غلامك.
قال: فقمت، فكتبت له بما أملاه، وعدت، فعرفته إزاحتي علته فيما طلبه، فجعل يبكي بكاء شديداً.
فسألت غلمانه: هل ورد بعدي شيء يكرهه.
فقالوا: لا.
فقلت: يا سيدي، ما هذا البكاء؟ وكنت آنساً به.

فقال: إن هذا الرجل لقيني منذ أكثر من سنة، وذكر أنه من بني البختكاني وذكر كبر نعمته - وأنا بهم عارف - ، ووصف أن العمال يتحيفونه، ويستضعفونه، وسألني أن أوقع اسمي على ضيعته، وأظهر أني قد استأجرتها منه، وأكاتب العمال، ووكلائي بذلك، وأن تقر يده فيها، إذ كنت قد وثقت به على ذلك، وبذل لي النصف من ارتفاعه، بعد المؤونة، حلالاً.
فوافقته على ذلك، وكتبت له بما أراد، ومضى.
ولم تبتغ نفسي الاستقصاء عليه، ولا الاستظهار، ولا مضايقته، وقلت لعله أراد الانتفاع بجاهي، فلا أحرمه إياه، فإن وفى، وإلا كان ذلك من زكاة الجاه.
ثم أنسيت أمره، فما ذكرته حتى رأيته الساعة، فأعلمني أنه يتردد منذ مدة إلى الباب، فلا يصل، وأعلمني أنه قد حصل لي من ذلك، مائتا ألف درهم، وأوقفني على حساب رفعه، واستأذنني في تسليم المال.
وسألني تجديد الكتب، بمثل ما كنت كتبت به إليهم في السنة الماضية، في أمر هذه الضياع.
فتقدمت إلى خازني، بقبض المال، وتقدمت إليك، فكتبت عني بذلك، فأنا أبكي لهذه الحال.
فقلت له: يا سيدي، فأي شيء في هذا مما يبكيك؟ فقال: ويحك، ويذهب هذا عليك، مع طول ملازمتي وخدمتي؟ قد كنت عندي، أنك تحنكت بخدمتي، أمر يكون هذا من إقباله، فكيف يكون إدباره؟ قال: فما بعد أن قبض عليه المنصور، ونكبه، واستصفى ماله، وأموال أهله، وقتله.
قال أبو الحسين عبد الواحد بن محمد: فحدثت بهذا الحديث، أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبا الحسن علي بن " 51 " عيسى، كل واحد على الانفراد، في وقت مفرد، فكل واحد منهما أفرط في استحسانه، حتى سأل أن أمليه عليه، فكتبه عني بخطه.

الجزاء من جنس العمل
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب، المعروف بابن أبي عمر، كاتب المحسن بن الفرات، وكان ممن تقلد بعد آل الفرات، عدة أعمال جليلة، ودواوين عظيمة، حتى تقلد الأزمة، صارفاً للخصيبي، في أيام ابن رائق، وقتل بديار مضر، قتله عمار القرمطي.
وقد كان أبو الحسن، متقلداً لديار مضر من قبل ابن رائق، فأغار عليها عمار، ليتملكها عاصياً، فطالبه بالمال لأصحابه.
فقال: ما معي شيء، ولو قتلتني، وصلبتني.
فقال: عليّ أن أفعل بك ذلك.
فقتله، وصلبه، في يوم عيد الفطر من سنة تسع وعشرين.
قلم يزل ابن رائق، يحتال على عمار، حتى حضر مجلسه، وتركه أياماً مع جيشه، ثم قبض عليه، وبحضرته وجوه الأتراك المستأمنة إلى ابن رائق بالشام، ومن أصحاب بجكم، فأمرهم بدقه بالأعمدة.
فلما كاد أن يموت، قال: أذيقوه حد السيف، فأخذ رأسه، وصلبه في المكان الذي صلب فيه عامله ابن أبي عمر.
الخليفة المهدي ووزيره أبو عبيد الله
قال أبو الحسين : فحدثني أبو الحسن بن أبي عمر هذا، قال: حدثنا أبو عبد الله حمد بن محمد القنائي، ابن أخت الحسن بن مخلد، قال: حدثني أبو محمد خالي، قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن العباس الصولي، يقول: حدثت عن المأمون، عن الرشيد، أنه سمع المهدي يقول: بعد زوال أمر أبي عبيد الله عن الوزارة، واقتصاره على ديوان الرسائل، وعلى الجلوس في منزله، وتفويض الأمر إلى يعقوب بن داود : ما رأيت أحزم، ولا أفهم، ولا أكفأ، ولا أعف، من أبي عبيد الله، ولقد كنت أحبه، مع إجرائي إياه مجرى الوالد، وكنت أجتهد به أن يدعوني إلى داره، فيمتنع، ويزعم أنه لا تتسع همته، ولا نعمته، لذلك.
إلى أن اعتل علة عظيمة، فتمادت الأيام به، ولم أعده، إلى أن كتب إلي باستقلاله، وأنه قد عمل على الركوب إليّ، بعد يوم أو يومين، فسابقته، وركبت إليه في خف من غلماني وخاصتي.
فلما دخلت إليه، قلت له: قد كنت أجتهد بك أن تدعوني " 52 " ، فتأبى، والآن، قد جئتك جامعاً للعيادة، والتهنئة بالعافية، والدعوة.
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما لي طعام، ولا غلمان، ولا زي يصلح لدعوتك.
فقلت: قد فرغت لك من ذلك، وتقدمت إلى غلماني، بحمل الآلات، والطعام، والأشربة، وجميع ما يحتاج إليه، وإنما أردت تشريفك، والأنس بك.
قال: وجاء الغلمان، بآلات، وفرشٍ لي، وجلست، وهو معي، فأكلنا، وجعل يتحفني من منزله، بالفاخر من الفرش، والآنية، والآلات هدية لي، كما يفعل الناس، فأخذت كلما يحمله من أحسن شيء، وأجمله، وأرشقه، فازداد ابتهاجاً به.

ثم دعوت بالشراب، فلما شربت ثلاثة فقط، عملت على الانصراف.
فلما أحس بذلك، قال لي: أريد أن أبكي، وأنا أتطير أن أبكي بعد انصراف أمير المؤمنين، وأنا استأذنه في البكاء بحضرته.
قال: وتحدرت دموعه عقيب الكلام، فبكى بكاء شديداً.
فقلت له: يا هذا، أنا أعلم أن فيك شحاً، تسميه حسن التدبير، وما يحسن منك أن تبكي، فإن كان ندماً على ما أهديته، فهو مردود بلا شك.
قال: فحلف بأيمانٍ عظيمةٍ، وانزعج انزعاجاً شديداً، أنه ما بكى لذلك.
وقال: كيف أبكي على ما سبيلي أسر به، حيث جعلتني أهلاً لقبوله؟ قال: فقلت: فلم تبكي؟ قال: لم تبق مرتبة تنال، إلا وقد نلتها، وبلغتها، بفضل أمير المؤمنين، وتطوله، حتى انتهت بي الحال، إلى أن وصلت، من مال أمير المؤمنين، بأمره، وعن أمره، في ليلة واحدة، وهي ليلة ورد الخبر بوفاة أمير المؤمنين المنصور صلوات الله عليه، وأخذت بيعة ثانية لأمير المؤمنين على الناس، بعشرة آلاف ألف درهم، وفي هذه العلة، تصدقت بجميع ما في خزانتي من المال، وكان أربعة آلاف ألف، بعد أن استأذنت أمير المؤمنين، فأذن لي، ولم يكن بقي، إلا أن يعودني أمير المؤمنين في علة، أو يهنئني بحال متجددة، أو يصير إلى دعوتي، فلما كان اليوم، جمع أمير المؤمنين لي ذلك، فعلمت أني قد بلغت النهاية، وأنه ليس بعدها إلا الانحطاط، فبكيت لذلك " 53 " .
قال: فرققت له، وعلمت فضله، وقلت له: أما في أيامي، فأنت آمن ذلك، وإن أصابك شيء بعدي، فالحياة - على كل حال - خبر من الموت، ولك بي أسوة.
واعتقدت أن لا أنكبه.
فلما رأى الربيع عظم منزلته، حسده، فجد في السعاية إليّ به، والفساد بيننا، والحيلة عليه عندي، إلى أن جرى في أمر ابنه، وإقراره بالزندقة، ما بم يسع معه، أن لا يقتل، فقتلته، وخفت أن يكون قد استوحش لذلك فلم آمنه على نفسي، فاحتجت إلى صرفه، وحرست نفسه، وبقيت نعمته، واستحال الأمر عما عقدته له.
وكان الأمر على ما ظنه، من النقصان بعد التناهي.

معنى النهروان بالفارسية
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت علي بن عيسى، يحدث، دفعات، عن أبيه، أنه سمع أباه، يحدث عن جده، عن مشايخ أهل العلم بأخبار الفرس، وأيامهم، قالوا: معنى النهروان بالفارسية: ثواب العمل.
قالوا: وإنما سمي نهر النهروان بذلك، لأن بعض ملوك الأكاسرة، كان قد غلب عليه بعض حاشيته، حتى دبر أكثر أمره، وترقت منزلته عنده، وكان قبل ذلك، من قبل صاحب المائدة، مرسوماً بإصلاح الألبان والكواميخ، ثم علت حاله، فكان صاحب المائدة يتحسر، كيف علت حال هذا، وقد كان تابعاً له، وغلب على الملك؟ وكان مع ذلك الرجل، يهوديٌ ساحر ممخرق، فقال له ما لي أراك مهموماً؟ فحدثني بأمرك، لعل فرجك على يدي.
قال: فحدثه.
فقال له اليهودي: إن رددتك إلى منزلتك، ما لي عندك؟ قال: أشاطرك حالي ونعمتي، وجميع مالي.
فتعاهدا على ذلك، فقال: أظهر وحشة تجري بيننا، وأنك قد صرفتني ظاهراً.
ففعل ذلك به.
فصار إلى الرجل الغالب على الملك، فحدثه، وتقرب إليه بما جرى عليه من الرجل الأول، ولم يزل يحدثه مدة طويلة، حتى أنس به ذلك الرجل.
فلقيه في بعض الأيام، ومع غلامه غضارة ذهب، فيها شيراز في نهاية الطيبة، يريد أن يقدمه إلى الملك.
فقال: أرني هذا الشيراز.
فقال الرجل لغلامه: أره إياه، فأراه، فخاتل الرجل والغلام، وأخذ بأعينهما بسحره، وطرح في الشيراز قرطاساً كان معه، فيه سم ساعة.
وغطى الغلام الغضارة " 54 " الكبيرة، ومضى ليقدمها، إذا قدمت المائدة.
فبادر اليهودي إلى صاحب المائدة الأول، وقال له: قد فرغت من القصة، وعرفه ما عمله، ووصف له الغضارة، وقال له: امض الساعة إلى الملك، فقل له: هذا أراد أن يسمك في هذه الغضارة، فلا تأكلها، وجربها، فإنه سيجربها على كلب، أو غيره، فيموت في الحال، فيقتل عدوك، ويشكر لك، فيردك إلى مرتبتك.
قال: فبادر الرجل، فوجد المائدة، تريد أن تقدم إلى الملك، فحين قدمت، تقدم إليه، وقال: أيها الملك، إن هذا يريد أن يسمك في هذه الغضارة، وهي مسمومة بسم ساعة، فلا تأكلها.
فراع الملك، وأمر بتجريب الشيراز على حيوان.
فقال الرجل: قد كذب هذا، وليس يحتاج إلى حيوان، أنا آكل من هذه الغضارة، ليعلم الملك كذبه.

قال: والرجل لا يعلم ما في الغضارة، فبادر فأكل منها لقمة، فتلف في الحال.
فقال صاحب المائدة الأول: إنما أكل أيها الملك من ذلك، ليتلف لما علم أنك تجرب ذلك، فتجده قاتلاً، فخاف أن تعذبه، فاستروح إلى هذا.
فلم يشك الملك، في صحة الأمر، ورد إلى صاحب المائدة الأول، ما كان إليه، وأكرمه وعظمه.
زمضت السنون على ذلك.
قال: وعرض للملك، علة، كان يسهر من أجلها في أكثر الليالي، فكان يخرج، وحاشيته غافلون، فيطوف في صحون داره، وحجرها، وبساتينها، ويقف على أبواب حجر نسائه، وغلمانه، فيتسمع عليهم، ويعلم ما يتحدثون به.
فانتهى في ليلة، في طوفه، لأجل السهر، إلى حجرة فيها ذلك اليهودي، وقد خلطه صاحب المطبخ بنفسه، وغلمانه، وهو جالس يحدث بعض أصحاب صاحب المطبخ، ويتشكى إليه، ويقول: إنه يقصر في حقي، ويعدد تقصيره في حقه.
ثم قال: أنا أصل نعمته وما هو فيه.
فقال له الذي يحدثه: وكيف صرت أصل نعمته؟ قال: وتكتم ذلك؟ قال: نعم.
فحدثه بحديث الشيراز والسم.
فلما سمع الملك ذلك، قامت قيامته، وأحضر الموبذ من غدٍ، وحدثه بالحديث، وشاوره فيما يعمله، مما يزيل عنه إثم ذلك الفعل في معاده، فأمر بقتل اليهودي وصاحب المائدة والإحسان إلى عقب - إن كان - لذي قتل نفسه.
وقال: ولا يزيل عنك إثم هذا، إلا أن تطوف في عملك، حتى تنتهي إلى بقعة " 55 " خراب، فتستحدث لها عمارة، ونهراً، وشرباً، فيعيش الناس بذلك، في باقي الدهر، بدلاً من موت ذلك الرجل، فيمحص عنك الإثم.
ففعل الملك ذلك، وطاف أعماله، حتى بلغ موضع النهروان، وهو خراب، فأجمع رأيه، على حفر النهر فيه، فحفر، وسماه: ثواب العمل، لأجل هذه القصة.

رقعة نفعت صاحبها وخلفه
حدثني أبو الحسين، قال: حدثني أبو الحسن الأنباري الكاتب، صديق الكرخيين قال: دفع إلي أبو أحمد عبد الوهاب بن الحسن بن عبيد الله بن سليمان، رقعة أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة بن خالد، الكاتب، إلى جده عبيد الله.
وقال لي: كان إلى أبي - الحسن بن عبيد الله - ديوان الرسائل، وديوان المعاون، في جملة الدواوين التي كانت إليه في أيام أبيه.
فأمر الوزير عبيد الله، أبي، أن يستخلف أبا الحسين بن ثوابة، على ديوان الرسائل، والمعاون، وصار كالمتقلد له من قبل الوزير، لكثرة استخدامه له فيه، وكانت هذه الرقعة سبب ذلك.
ثم مات أبي، فأقره جدي على الديوان رياسة، وبقي عليهم، يتوارثونه، مرة رياسة، ومرة خلافة.
فما سمع برقعة أولى منها، وهي في غاية الحسن، ونسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صرفها إلى عطفك، وأستجير من لؤم غلبتها، بكرم قدرتك، فإنها تؤخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت، أعطت يسيراً، وإن ارتجعت، ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا أعددت للإنصاف منها إلا فضلك، ودفع ذمام المسألة، وحق الظلامة، وحق التأميل، وقدم صدق الموالاة والمحبة، والذي يملأ يدي من النصفة، ويسبغ العدل عليّ، حتى تكون محسناً إليّ، وأكون بك للأيام معدياً، أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حال الفراغ إلى الشغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني، فقد استعديت، وتجيرني فقد عذت بك، وتوسع عليّ كنفك، فقد أويت إليه، وتعمني بإحسانك، فقد عولت عليه، وتستعمل يدي ولساني، فيما يصلحان لخدمتك فيه، فقد درست كتب أسلافك، وهم الأئمة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفيت آثارهم، اقتفاء حصلني بين وحشي الكلام وأنيسه " 56 " ، ووقفني منه على جادة متوسطة، يرجع إليها الغالي، ويسمو نحوها المقصر، فعلت، إن شاء الله.
أبو قوصرة المستخرج
والوزير المصروف الحسن بن مخلد
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن يحيى ابن أبي البغل، وهو إذ ذاك، عدل في جوارنا ببغداد، ويعاشرني.
قال: حدثني أبو قوصرة المستخرج.
قال أبو الحسين: وقد رأيت أنا أبا قوصرة، وأنا حدث، وهو شيخ مسن، من بقية القواد المتقدمين، وقد لزم منزله، وكان الرسم قديماً، إن يقلد بعض القواد الذين يفهمون المناظرة، الاستخراج.

قال ابن أبي البغل: قال لي أبو قوصرة: تقدم إلي سليمان بن وهب، في وزارته للمعتمد، لما قبض على الحسن بن مخلد، أن أدخل إليه، إلى الحبس، فأطالبه بما صودر عليه، فكنت أخشن عليه ظاهراً، وألين له باطناً، وأتخبر له على سليمان، وأشير عليه.
فوقفت على أن عبيد الله بن سليمان، قد عمل على أن يجتمع هو، وأبوه، وصاعد بن مخلد، وأبو صالح بن المدبر، وجماعة من الكتاب، في مجلس، ويخرجوا الحسن، فيباهتوه بكل محال لا أصل له، ويكابروه على المحالات، حتى يضطروه بذلك، إلى الأداء، ويرهبوه بأخذ خطه بزيادة على ما عليه، لأنه كان قد بلح، وقال: لم يبق لي ما أؤديه.
قال: فجئته إلى الحبس، فحدثته بأنهم في غدٍ، سيخرجونه لذلك.
قال: ففكر ساعة، فظننته يفكر فيما يدبر به أمره.
ثم أنشدني لنفسه:
من صادر الناس صادروه ... وكابر الناس كابروه
وباهتوه الحقوق بهتاً ... وبالأباطيل ناظروه
بمثل ما راح من قبيح ... أو حسن منه باكروه

من تواضع ارتفع
حدثني أبو الحسين، قال: كان أبو الفضل عبيد الله بن عبد الله بن الحارث الكاتب، من وجوه العمال، ثم خلف أبا القاسم سليمان بن الحسن، في وزارته الأولى، على كثير من أمر الوزارة، فتكبر على الناس، ولم يوفهم الحق، فبحثوا عن معايبه، وأطلقوا الألسن بمثالبه.
وكان قد اشتهر أن أمه، تزوجت أزواجاً، بعد أبيه وقبله، وقيل إن عددهم بضعة عشر رجلاً، ومنهم رجل يعرف بسوشيخ، يبيع الأرز باللبن.
فقال فيه العصفري الشاعر يهجوه، وأنشدنيها لنفسه:
قالوا: أبو الفضل شمخ ... وازداد كبراً وبذخ " 57 "
فقلت أمه، قولوا له ... يا هرل سوشيخ الوسخ
ما كنت، لا كنت بذي ... سوشيخ يقرط لأمخ
وإنما أراد أن يتطايب بهذا الشعر، مع ذكر أمه، لأن أصله كان من قرية من أعمال واسط بالأسافل، يقال لها قلمايا.
وقد كان أبو الحسين بن عياش القاضي، أنشدني هذه الأبيات قديماً، وحكى مثل هذه القصة، فأنسيت الأبيات حتى أذكرنيها أبو الحسين بن هشام، وفي رواية ابن عياش:
ويلك ما كنت بذي
قال: ومعنى يقراط لأمخ: ينيك أمك.
الخليل بن أحمد والراهب
حدثني أبو الحسين بن هشام، قال: حدثني أبو الحسن زكريا بن يحيى ابن محمد بن شاذان الجوهري، قال: حدثنا أبو العباس المبرد، قال: حدثت عن الخليل بن أحمد قال: اجتزت في بعض أسفاري، وأنا متوجه، براهب في صومعة، فدققت عليه، والمساء قد أزف جداً، وقد خفت من الصحراء، وسألته أن يدخلني.
قال: فقال: من أنت؟ فقلت: أنا الخليل بن أحمد.
فقال: أنت الذي يزعم الناس أنك وجه، وواحد في العلم بأمر العرب؟ فقلت: كذا يقولون، ولست كذلك.
قال: إن أجبتني عن ثلاث مسائل، جواباً مقنعاً، فتحت لك، وأحسنت ضيافتك، وإلا لم أفتح لك.
فقلت: وما هي؟ قال: ألسنا نستدل على الشاهد بالغائب؟ قلت: بلى.
قال: فأنت تقول: إن الله ليس بجسم ولا عرضٍ، ولم نر له مثلاً، فبأي شيء أثبته؟ وأنت تزعم: إن الناس في الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، وانت لم تر آكلاً، شارباً، إلا متغوطاً.
وأنت تقول: أن نعيم أهل الجنة لا ينقضي، وأنت لم تر شيئاً إلا منقضياً.
قال: فقلت له: بالشاهد الحاضر، استدللت على ذلك كله.
أما الله تعالى، فإني استدللت عليه، بأفعال الدالة عليه، أنه لا مثل له، وفي الشاهد مثل ذلك، الروح التي فيك، وفي كل حيوان، نعلم أنه يحس بها تحت كل شعرة منا، ونحن لا ندري أين هي، ولا كيف هي؟ ولا ما صفتها، ولا جوهرها، ثم نرى الإنسان من الناس، يموت إذا خرجت، ولا يحس بشيء، وإنما استدللت عليها بأفعالها، وبحركاتها، وتصرفنا، بكونها فينا.
وأما قولك: إن أهل الجنة لا يتغوطون، مع الأكل، فالشاهد لا يمنع ذلك، ألا تعلم أن الجنين يغتذي في بطن أمه، ولا يتغوط.
وأما " 58 " قولك: إن نعيم أهل الجنة، لا ينقضي مع أن أوله موجود، فإنا نجد أنفسنا نبتدئ الحساب بالواحد، ثم لو أردنا أن لا ينقضي إلى ما لا نهاية له، لم نزل نكرره، وأعداده، وتضعيفه، إلى ما لا انقضاء له.
قال: ففتح لي الباب، وأحسن ضيافتي.
عافية القاضي يستقيل من القضاء

حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سعد، مولى بني هاشم، وكان يكتب ليوسف القاضي قديماً، قال: حدثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي، عن أشياخه، قال: كان عافية القاضي، يتقلد للمهدي، القضاء، بأحد جانبي مدينة السلام، مكان ابن علاثة، وكان عافية عالماً زاهداً.
فصار إلى المهدي، في وقت الظهر، في يوم من الأيام، وهو خالٍ، فاستأذن عليه، فأدخله، وإذا معه قمطره، فاستعفاه من القضاء، واستأذنه في تسليم القمطر، إلى من يأمره بذلك.
فظن أن بعض الأولياء قد غض منه، أو ضعف يده في الحكم، فقال له في ذلك.
فقال: ما جرى من هذا شيء.
فقال: ما سبب استعفائك؟ فقال: كان تقدم إلي خصمان من شيراز وأصبهان، في قصة معضلة مشكلة، وكل يدعي بينة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم، رجاء أن يصطلحا، أو يتعين لي وجه فصل ما بينهما.
قال: فوقف أحدهما، من خبري، على أني أحب الرطب السكر، فعمد، في وقتنا، وهو أول أوقات الرطب، إلى أن جمع رطباً سكراً، لا يتهيأ في وقتنا جمع مثله إلا لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي جملة دراهم، على أن يدخل الطبق إلي، ولا يبالي أن يرد، فلما أدخل إلي، أنكرت ذلك، وطردت بوابي، وأمرت برد الطبق، فرد.
فلما كان اليوم، تقدم إلي مع خصمه، فما تساويا في قلبي، ولا في عيني، وهذا يا أمير المؤمنين، ولم أقبل، فكيف لو قبلت، ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني، فأهلك، وقد فسد الناس، فأقلني، أقالك الله، واعفني.
فأعفاه.

لا تصلح الدنيا إلا بالعدل
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت حامد بن العباس، في وزارته، يتحدث، قال: كان صاعد بن مخلد، وصفني للناصر لدين الله، وعظم عنده من أمري، حتى اختصصت بخدمته.
فاستدعاني يوماً على خلوة، وقال: قد علمت ما لحقنا من هذا العدو، يعني " 59 " صاحب الزنج، حتى عدنا إلى هاهنا.
قال: وكان ذلك بعد انهزامه من بين يدي صاحب الزنج، وعوده من مقامه بواسط، ليستريح، ويتأهب للرجوع، ويستعد لقتاله.
قال: وقال لي الناصر: وأمري كما ترى مختل، وجميع ما في خزانتي ثلاثون ألف دينار عيناً، وهذا لا يقع مني، وأريد أن تصرف همتك إلى ما يثمر معه، ويضعف قدره.
قال: فقلت له: هاهنا وجه فيه مرفق عظيم.
فقال: ما هو؟ فقلت: هذه أسناية الخيزران، ومنها يشرب المبارك بأسره، وبعض الصلح، وكانت إقطاعاً لأم الرشيد، الخيزران، فحفرت لها هذه الاسناية، وكانت تغلها غلة عظيمة، وقد تعطلت الآن، وخرب الصلح، والمبارك، كله، فإن صرفت هذه الثلاثين الألف الدينار، في حفر الاسناية، وإطلاق البذر والبقر، لأهل هاتين الناحيتين، توليت لك تفرقة ذلك، ومشاهدة الحفر بنفسي، حتى لا يضيع منه دانق واحد، ولا يرتفق أحد بحبة منه، وتغل في سنة، ضعف هذا وأكثر.
قال: قد فعلت.
قال: فأنفقت على حفر الاسناية عشرين ألف دينار، بأتم احتياط، وأطلقت العشرة الآلاف الدينار، الباقية، للضعفاء من الأكرة، والتناء، والمزارعين، في أثمان بقر وبذور، واحتطت في جميع ذلك، وطالبت الأقوياء بالزراعة من أموالهم، وحرصوا هم أيضاً الحرص كله، لما رأوا الماء، وأن الضياع معطلة منذ سنين كثيرة، وطمعوا في كثرة الريع، ووفور الأسعار في النواحي.
فزرع الناس بالرغبة والرهبة، حتى استنفذوا جهدهم.
فلما أدركت، حصلت في بيدر واحد، من بيادر الصلح، وقد كان ارتفع أصل الكيل منه، ثلاثة آلاف كر وستمائة كر حنطة، بالنصف، فحصلت منه الثلث، والعشر، على المقاسمة مع الأجور، وفضل الكيل، ألف كر وستمائة كر للسلطان، وبعتها بحساب الكر بنيف وعشرين ديناراً، فحصل الثمن ستة وثلاثون ألف دينار عيناً من بيدرٍ واحد، وبقي البلد كله بأسره ربحاً.
فحصل له منه في أول سنة، أضعاف ما أنفق مضاعفاً.
فتقوى بذلك على الرجوع إلى الخائن " 60 " ، وكان ذلك من أكبر أسباب تقدمي عنده ورفعتي.
قال: وكان حامد يحدث بهذا، عقيب شيء جرى، قال حامد معه: لا تصلح الدنيا إلا بالعمارة، وقمع العمال عن السرقات.
ثم تحدث بهذا الحديث.
تنح عن القبيح ولا ترده
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يقول: كان أبو الحسن محمد بن فراس الكاتب، سبب الوصلة بين القاسم بن عبيد الله، والعباس بن الحسن، حتى استكتبه له.

فلما علت حال عباس، حسده ابن فراس، وعاد يسعى عليه، ويثلبه عند القاسم.
إلى أن اعتل القاسم علة موته، فقال ابن فراس: إن العباس بن الحسن، يسعى في طلب الوزارة، مع الداية، وصافي الحرمي، وإنه قد قطع السواد.
فلم يتقبل ذلك القاسم، وكتب الرقعة المشهورة إلى المكتفي.
قال: فدخلنا عليه في الليلة التي ولي فيها الوزارة، إثر موت القاسم، ولم يكن خلع عليه، ودخل ابن فراس مهنئاً له، فجلس في أخريات الناس.
وتشاغل العباس، بتقليب ثياب السواد، وقد جاءوه بها، ليختار منها ما يقطع له، فيلبسه من غد، في دخوله إلى الخليفة، قبل الخلع، حتى يبركه هناك، ويلبس الخلع فوقه.
وكان الرسم إذ ذاك، أن لا يصل أحد إلى الخليفة، في يوم موكب إلا بسواد.
قال: فلما اختار العباس ما يريده من الثياب، أقبل علينا، وقال معرضاً بابن فراس: لعن الله أهل الحسد والشر، سعى قوم على دمي، عند ولي الدولة، وقالوا له إني قد سعيت في الوزارة، وإني قد قطعت السواد منذ أيام كثيرة، وهذا بحضرتكم، على غير تواطؤ، هو ذا أقلب ثياباً، ليقطع منها سواد لي.
فقام ابن فراس قائماً، وقال: قد حضرني، أطال الله بقاء الوزير، بيتان في هذا المعنى، فإن أذن الوزير - أيده الله - أنشدتهما.
فاستحيا العباس، وقال: بحياتي، اجلس، وأنشد.
فجلس، وقال:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستكفى من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده " 61 "

جور أبي عبد الله الكوفي
حدثنا أبو الحسن، محمد بن محمد بن عثمان الأهوازي الكاتب، المعروف بابن المهندس، قال: حدثني ابن مروان الجامدي، قال: لما ظلم الناس بواسط، أبو عبد الله، أحمد بن علي بن سعيد الكوفي، وهو إذ ذاك يتقلدها لناصر الدولة، وقد تقلد الوزارة، وإمرة الأمراء ببغداد، كنت أحد من تظلم، فظلمني وأخذ من ضيعتي بالجامدة، نيفاً وأربعين كراً أرزاً بالنصف من حق رقبتي - سوى ما أخذه من حق بيت المال - بغير تأويل ولا شبهة، فتظلمت إليه، وكلمته، فلم ينصفني.
وكان الكر الأرز بالنصف، إذ ذاك، بثلاثين ديناراً.
فقلت له: قد أخذ سيدنا مني، ما أخذ، ووالله، ما أهتدي، أنا وعيالي، إلى شيء سواه، وما لي ما أقوتهم به، باقي سنتي، ولا ما أعمر به ضيعتي، وقد طابت نفسي أن تطلق لي من جملته عشرة أكرار، وأجعل الباقي لك حلالاً.
فقال: هذا ما لا سبيل إليه.
فقلت: فخمسة أكرار.
فقال: لا أفعل.
قال: فبكيت، وقبلت يده، ورققته، وقلت: فهب لي منه، وتصدق علي، بثلاثة أكرار، وأنت من الجميع في حل وسعة، بطيب من قلبي.
فقال: لا والله، ولا أرزة واحدة.
قال: فتحيرت، وقلت له: فإني أتظلم إلى الله عز وجل منك.
فقال لي: كن على الظلامة - يكررها دفعات - وبكسر الميم، بلغة الكوفيين.
قال: فانصرفت محترق القلب، فجمعت عيالي، وما زلت أدعو الله عليه، ليالي كثيرة.
فهرب من واسط في الليلة الحادية عشرة من أخذه الأرز، وجئت إلى البيدر، فأخذت أرزي، وحملته إلى منزلي.
وما عاد الكوفي بعدها إلى واسط، ولا أفلح.
أبو عبد الله الكوفي
يعاقب ملاحاً على سوء أدبه
حدثني أبو الحسن محمد بن محمد الأهوازي بن عثمان المعروف بابن المهندس، قال: كنت أتقلد الضريبة وغيرها، في أعمال واسط، في هذا الوقت، للكوفي.
فقدم ملاح، يقال له ابن شبيب، من بغداد، في زورق عظيم، وكان فيه حديد، وخواب، فطالبته على ضريبتهما بثمانية آلاف درهم وكسر.
فالتجأ إلى ثمل وهو غلام سيف الدولة، لأن سيف الدولة كان مقيماً بواسط حينئذ، أميراً عظيماً.
فكتب إلي ثمل، رقعة يلزمني تخفيف " 62 " الضريبة عن الملاح، ومقاربته، وأنفذ غلماناً من غلمانه.
فوضعت في نفسي المقاربة لأجله، فقلت للملاح، عليك ثمانية آلاف درهم، وكذا وكذا، فبكم تحب أن أسامحك، لجل كلام فلان أيده الله؟ قال: وكان مجلساً حافلاً بأهل الأسواق، والتجار، والمعاملين في الضريبة.
قال: فقال لي الملاح مستفهماً: كم علي؟ فقلت: ثمانية آلاف درهم وكسر.
قال: فضرط من فمه، لي، وقال: تأخذ مني بميزان قرع، وصنج بعر.

قال: فورد عليّ أمر عظيم، من استخفافه بي في مجلس العمل، وكرهت أن أوقع به، فتشرق الحال بيني وبين ثمل، مع تمكنه من سيف الدولة، وتصير منابذة بينه وبين صاحبي، ولا أدري كيف يكون حالي في ذلك.
فقلت له: أما أنت فأقل من أن تجاب عن هذا الكلام، ولكن سأريك أمرك، كونوا معه.
قال: فوكلت به جماعة من الرجالة، وعبرت في زبزبي، إلى الكوفي، فحدثته بالقصة.
فحين استتم حديثي، قال: وأي شيء عملت بالملاح؟ فقلت: لم أقدم أن أعمل به شيئاً، لأجل ثمل، وخشيت أن تنكر أنت ذلك.
فقال: نفاطين، نفاطين، وصاح، وتغيظ. فأحضروا.
وقال: ثلاثين راجلاً، الساعة، فأحضروا.
فقال: اعبروا إلى الزورق، فأحرقوه، بجميع ما فيه من الأمتعة، الساعة.
قال: فورد عليّ أمر عظيم، وندمت على الشكاية، فقلت: يكفي من هذا - أطال الله بقاء سيدنا - ضرب الملاح بالمقارع في السوق، وأن تضعف عليه الضريبة، وتستخرجها منه.
فقال: لا والله، إلا الإحراق.
قال: فاجتهدت به، فلم يكن في يدي منه شيء.
وتوجه النفاطون، والرجالة، إلى الزورق، فضربوه بالنار، وأقبل الملاح يلطم، ويصيح، ويقول: يا قوم، فيه أموال الناس، قد افتقروا، وافتقرت، ويستغيث بالمسلمين، ولا يقدم أحد على إغاثته.
وأحرقت قلوس الزورق، التي كانت تربطه، وتمسكه، وخرج منه الملاحون، وطرحوا أنفسهم إلى الماء.
فانحدر مع الماء لنفسه، والنار تشتعل فيه، فوقع على الجسر، فقطعه، وانحدر، حتى انتهى إلى موضع معسكر سيف الدولة، وكان نازلاً في المأصر بواسط.
والملاح " 63 " في بكائه وراءه، لا يجسر أن يطفئ النار، ولا يقدر على أكثر من أن يلطم ويصيح.
فلما رأى سيف الدولة الصورة، استهولها، مع صياح الملاح، وقوله فيه أموال، فاستدعاه، وقال: أيش فيه؟ فقال: فيه مال صاحب البريديين، أصدره إليهم صاحبهم من بغداد سراً، وجعله تحت الحديد.
قال: فأمر سيف الدولة بالزورق، فقدم إلى الشط، وأطفئت النار، وقد احترق جوانب الزورق، وظلاله، وأكثر آلته، إلا الأمتعة التي في أسفله، فإنها كالسالمة.
فرقي بها إلى الشط، فأخرج المال، فإذا هو ثمانية آلاف دينار عيناً، ونيف وستون سيفاً ومنطقةً، من فضة، وبعضها من ذهب، فأخذ ذلك.
وسلم الزورق إلى الملاح، وشد على يده، وعصمه من الكوفي، حتى نقض الملاح الزورق، وانتفع ببقية خشبه وحديده، ووصل التجار إلى ما سلم من المتاع.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
حدثني أبو الحسين، قال: سمعت أبا عيسى، أحمد بن محمد بن خالد، المعروف بأخي أبي صخرة، يحدث أبي، قال: ما رأيت أحسن رعاية من أبي القاسم، عبيد الله بن سليمان.
فمن ذلك: أن إسماعيل بن ثابت، المعروف بالرغل، كان يتقلد لأبي الصقر، إسماعيل بن بلبل، في وزارته، طساسيج بادوريا، وقطربل، ومسكن، ونهر بوق، والذنب، وكلواذى، ونهريين.
فلفق على عبيد الله بن سليمان - وهو إذ ذاك متعطل في منزله، يعقب تقضي النكبة عنه، ولزومه لبيته - ثلاثة آلاف درهم، وذكر أنها تجب عليه ببادوريا، في سنين، من مظالم باطلة، وبقايا غير لازمة، وأحضر وكيله، وطالبه بها.
فقال له: أمضي، وألتقي بصاحبي، وأواقفه على الأداء.
فوكل به عدة من رجالته، وانصرف، فصار إلى عبيد الله، فقال له: أغرم للرجالة جعلاً، ودافع بلقائه يومين، إلى أن أطرح عليه، من يسأله ترك المطالبة، بأن يقررها معه.
فخرج الوكيل، وبذل للرجالة أوفر الأجعال، فذكروا أنهم لا يقدمون على الإفراج عنه خوفاً من الزغل.
وتكرر الكلام بينهم، إلى أن وثب حاجب عبيد الله بهم، وحال بينهم وبين الوكيل، وأدخله الدار.
وانصرفوا، فشكوا " 64 " ذلك إلى الزغل، وأسرفوا، خوفاً منه، ليقوم عذرهم.
فجاء الزغل، فأسرف إسرافهم، وأضاف كل قبيح إلى عبيد الله، وشكاه إلى الوزير إسماعيل، وقال له: إنه لا يقدر على استخراج مال عليه، إلا بالمبالغة في مكروه عبيد الله، والإنكار عليه، وحبسه بنفسه في الديوان، حتى يؤدي، ولا يقتدي به المتعذر.
وكان إسماعيل، من العداوة لعبيد الله، والبغض له، والخوف منه على محله، بمنزلة عظيمة، وفيه - مع ذلك - تشدد في نصرة العمل، وجبرية في نفسه، فاغتاظ جداً.
فأحضرني، وأنا - إذ ذاك - أتولى له ديوان ضياعه، وتقدمته، وتدبير الجيش برسمه، ومنزلتي في الاختصاص به قوية.

فقال: أحضر هذا الجاهل عبيد الله بن سليمان، وعرفه ما شكا منه إسماعيل بن ثابت، وأن جزاءه عليه الإبعاد إلى طنجة، وقبض نعمته، وضياعه، وأني أعرفه بالعجب والجهل، ولولا أن الزمان، قد كفاني، بإسقاط أبيه، وأنه صار إلى منزلة، إن عاقبنه بما يستحقه، جعلت له سوقاً، لما أخرت عقوبته، ولكن قل له: والله لولا تذممي، لأمرت بالآخر أن يصفع من داره إلى ديوان إسماعيل بن ثابت، ويقام على رجله، حتى يؤدي ما عليه، ولا تدعه من الديوان، أو يحضر وكيله وحاجبه، فيسلمهما إلى إسماعيل بن ثابت، وتصرفه حينئذ، ليطالبهما إسماعيل، بما عليه.
قال: فخرجت، وكتبت إليه رقعة، أستدعيه فيها إلى الديوان، دعوت له فيها، كما يدعى من الديوان لمثله، وهي سطران دعاء، وترجمتها في ظاهرها: " لأبي فلان، من فلان " .
وكان الكاتب كتبها عني، فلما عرضها عليّ، زدت فوق الدعاء، بخطي، يا سيدي، وكتبت في داخل الرقعة، عبدك، وإنما أردت توفيته الحق بذلك، وستر الأمر عن كاتبي، لئلا يسمع أني خاطبته بتعظيم، فأقع في مكروه، مع إسماعيل.
وزدت في آخر الرقعة بخطي: أنه لا يجب أن يستوحش من شيء أتوسطه، فإني أحوطه بجهدي، وأن سبيله أن يحضر عشياً، ليكون مجلسي خالياً، فأوفيه الحق، ولا يجيء " 65 " غدوة، فإن وفيته الحق لحقني من الوزير إنكار، وإن قصرت تذممت إليه، وراعيت العواقب فيه.
فجاءني في جواب الرقعة، عشياً، فقمت إليه، وكان هذا عظيماً، محظوراً على مثلي، وخاصة في الديوان، وصدرته، وجلست بين يديه وعرفته ما جرى من الزغل، وأعدت من كلام الوزير، من الإنكار، والإيعاد، ما جمل لفظه.
وقلت: قال أشياء أخرى كثيرة، قبيحة، هائلة، لا أستحسن تلقيك بها، وأجل سمعك عن إيرادها عليك، هذا أقلها وأحسنها، ومع ذلك فإنه أمرني، أن لا تبرح، أو تحضر الوكيل والحاجب، ثم أستأذنه في انصرافك، فأجاب، إن فعلت هذا، وأن يصير لك اعتقال إن خالفت، ثم لا أدري أي شيء ينجر عليك، وأكون سببه، ولكن اجعلني على ثقة من إنفاذك الرجلين إليه، وانصرف، لأعرفه ما جرى، فإن أنكر علي انصرافك بغير إذن، جحدته أني سمعت ذلك منه، وكن على تحرز، من غير أن يشيع ذلك، إلى أن يجيئك ثقتي بجلية الصورة، فتعمل بها، وبحسبها، إما في الأمن، أو الهرب.
فشكرني، وقال: ما أطمع أن أكافيك على هذا.
وقام، وقمت بقيامه، وودعته، وقلت: يا غلمان، بأسركم، بين يديه، فخرج، وأنفذ الرجلين، وتوقى توقياً ضعيفاً، ودخلت، فعرقت الوزير الصورة، وجملت القصة، وأمرني بترك التعرض له، وتسليم الرجلين إلى الزغل.
فأحضرت الزغل، وسلمت الرجلين إليه، وقلت له: تقبل رأيي؟ فقال: قل.
فقلت: قد بلغت ما تريد، فأحسن في الأمر ما قدرت.
فقال: يا سيدي، هذا إبطال للعمل، ولا بد من تقويمهما.
فجهدت به في الإحسان، فلم يفعل، وأنفذ الرجلين، إلى باب عبيد الله، فضربهما عليه، كل واحد منهما، عشرين مقرعة، وصفع الوكيل، بعد الضرب، خمسين صفعة، واستخرج الدراهم.
ومضت السنون على هذا، وفرج الله عن عبيد الله " 66 " ، وتقلد الوزارة، فاستترت، لأجل اختصاصي بإسماعيل الوزير، وما ألتزم من جهته.
وقبض عبيد الله، على الزغل، وكان أول من صودر، من أسباب إسماعيل، وعومل من المكاره، بما لم يسمع بأعظم منه، ولم يتصرف في أيام عبيد الله، إلى أن مات وهو يتصدق.
واستترت أنا، أياماً، فلم يعرض عبيد الله لطلبي، ولا لشيء من داري، وضيعتي، ولا لأهلي، ولا معاملي، فأنست بذلك، وكتبت إليه بعد ذلك، أسأل الأمان، فأمنني.
فحضرت مجلسه، وهو حافل بالناس، وبين يديه الخلق، من أصحاب الدواوين والقواد.
فحين رآني، قام إلي قياماً تاماً.
فقبلت رجليه، وقلت: يقيلني الوزير أطال بقاءه، وليس هذا محلي.
فقال: ولم؟ ما يفي قيامي لك، بقيامك لي، لأنك قمت لي في وقت عرضت - بقيامك لي - نفسك، ودمك، ونعمتك، وحالك، لذلك العدو لله، وعاملتني، بما لا يفي به شكري، ولك عندي كلما تحبه، ولن يلحقك سوء في مالك ولا غيره.
قال: ولج به المعتضد، في مصادرتي، وهو يدفعه عني، ويقول له أشياء يدفع بها عني، لا أصل لها، منها: أنه قال له: هذا قد صادره إسماعيل، في أيام تصرفه معه، دفعات، وأفقر على سبيل القرض، وكانت له نفقات عظيمة، ومروءة، وهو مع هذا عفيف، لا يرتفق بشيء، ولا يجاوز رزقه، ولا حال له، فيصادر، ولا طريق عليه.

قال: والمعتضد يلح.
فقال لي عبيد الله: ليس لك، إلا أن تبتعد عن المعتضد حتى ينساك.
فقلت: المر للوزير.
فقلدني الخراج والضياع بقم، وكتب إلى صاحب المعونة، بخدمتي، وأخرجني على أمر يعظم.
وطالبه المعتضد، بالتزام مصادرتي، فأعاد عليه القول، وقال: احتجت إلى الاستعانة بكفايته، فأنفذته إلى قم.
فقال: لا بد من إلزامه شيئاً هناك.
فكتب بالصورة إليّ، وألزمني عشرين ألف دينار، وعدني بإخلافها عليّ، فالتزمتها، ولم يكن القول بها مؤثراً في حالي.
فلما أديت منها عشرة آلاف، أسقط الباقي، وسأل المعتضد فيه، فحطه " 67 " عني، وما عطلني، إلى أن مات.
فسلمت ونعمتي عليه، وكسبت معه نعمة ثانية، أنا فيها إلى الآن، بثمرة ذلك الإحسان.
وهلك الزغل، وبلغ إلى الصدقة، ومات في الفقر، بثمرة ذلك الشر.

آثار قديمة في سواد واسط
ومن عجائب الدنيا، وآياتها، أشياء في سواد واسط.
حدثني جماعة، منهم رجل يعرف بابن السراج، وغيره، ومنهم محمد ابن عبد الله بن محمد بن سهل بن حامد الواسطي، وجده أبو بكر محمد بن سهل، كان وجهاً من وجوه الشهود بواسط، ثم تقلد القضاء بها سنين، دفعات، فأثبت ذلك بخط محمد بن عبد الله، عقيب هذا الكلام: شاهدت على نحو من فرسخ وكسر من رصافة الميمون، قرية من قرى النبط، أو الأكاسرة، وتعرف بجيبذا، وقالوا فيها آثار قديمة، من بناء آجر وجص، وفيها قبة قائمة، كالهيكل كانت قديماً، ومثال رجل من حجر أسود أملس، عظيم الخلق، يعرف عند أهل ذلك الصقع بأبي إسحاق، لأنه يتعاطى قوم من أهل القوة شيله فيسحقهم، ويكسر عظامهم، وقد قتل وأزمن خلقاً، فيذكر أهل الموضع، أنهم سمعوا أشياخهم، يدعونه بذلك، على قديم الأيام.
وهذه القرية خراب، لا يذكر فيها عمارة.
وقد كان احتمل هذا الحجر، رجلٌ يعرف بالجلندي، كان على حماية المأمون، فعمد إليه، وشد فيه الحبال، وجره بالبقر، إلى أن بلغ موضعاً من الصحراء، فأمسى، فتركه في موضعه، فلما أصبح عاد فوجده ناحية عن الموضع الذي تركه فيه، وأن ذلك الحجر صار بالقرب من موضعه الأول، فتركه وانصرف.
ثم احتمله بعد ذلك، رجلٌ آخر، من أهل الرصافة، على خلق من الحمالين، يتناوبون عليه، حتى أدخله الرصافة، فحضر أهل ذلك الصقع الذي كان فيه، يضجون، ويقولون: إن هذا نأنس به في ذلك المكان، وإنا نأوي إليه في الليل، فنأنس به، ويمنع عنا الوحش، إذ كنا بقربه، فلا يقربون ما يأوي إليه، فحملوه ثانية، حتى ردوه إلى موضعه الأول، بعد أن بذل لهم الرجال، حمله من الرصافة.
وكان على صدره، وعلى ظهره، وكتفيه، كتابة محفورة، قديمة لا يدري بأي قلم هي " 68 " .
وفي هذه البلاد، قرية، تعرف بقصبة نهر الفضل، وهي تلهوار، وعلى نحو فرسخين منها تل يعرف بتل ريحا، من البلاد القديمة، فيها آثار، وفيه حجر عظيم مربع، له سمك كثير، وهو كالسرير، طول تسعة أذرع، في أذرع، قد غاب في الأرض أكثره، وعليه تماثيل، ونقش.
وكان صاحب تلهوار، أحمد بن خاقان، أراد إقلاب هذا الحجر، لينظر ما تحته، فاحتفر حوله، واجتهد أن يقدر على قلبه، فلم يقدر على ذلك، لأنهم كانوا كلما احتفروا تحته، ليتمكنوا من قلبه، هوى إلى الحفرة، فاستغرق فيها، فلما أعياه ذلك، تركه على حاله.
وفي موضع من ... الذي في ظهر البطائح، بين واسط والبصرة، مما يلي الطفوف، من القبة العتيقة، فيه خزانة يقال لها: القارة، يقال إنها من خزائن قارون، طولها أربعون ذراعاً، والعرض مثله، وارتفاعها أكثر من ذلك، مبنية بالقار، والحصى، والنوى، وهي مجموعة ليس لها باب ولا نقف لها على مدخل.
وكان رجل من ساكني تلهوار، يعرف بعمر النجار، أضاف رجلاً من المجتازين، وأكرمه، فأحب أن يكافيه، فأعلمه كيفية الوصول إلى هذه القارة، وكتب له بذلك كتاباً، أوقفه عليه.
وقال له: نريد أن نستعين برجل كبير، وأومأ إلى خاقان، وأبي القاسم بن حوط العبدسي، وكانا رئيسي البلد، فأعلمهما ذلك.

فأعدوا له آلة لما يحتاج إليه من الفتح، من مرور، وآلات حديد، وخشب وزبل، وسلاليم، وأجرة سفن، وحبال، وغير ذلك، ولومهما عليها - مع مؤن الرجال - ألوف دراهم كثيرة، وأثبتا رجالاً كثيرة للحماية، لأن الموضع تطرقه القرامطه والبوادي، ثم أخرجاه، ومن معه من الرجال، في سفن في البطيحة، لأن الماء إذا زاد في البطيحة يصير فيما بينه وبين هذه القارة دون الفرسخين، فمضوا إليها.
فحدثنا ابن لهذا الرجل، المعروف بعمر النجار، أنه كان مع أبيه، في الموضع، فوافى، فمسح مما يلي مطلع الشمس، من هذه القبة، أربعين ذراعاً، ثم احتفر الموضع، فظهر له حجر عظيم " 69 " لا يقله إلا الجماعة الكثيرة، فلم يزل يحلحل حوله، حتى أخرجه، وإذا أزج عظيم، كان ذلك الحجر عليه على بابه، ولحقه المساء، فعمل على المباكرة لدخول الأزج، والوصول إلى باب القبة، فبات ليلته، ومن معه، فلما كان في وجه الصباح، حين يبدو الفجر، سمعت الجماعة، تكبيراً وضجة، ونظروا إلى السيوف والخيل تبين من خلال الظلمة، فناذروها، ولم يشكوا أنها خيل القرامطة، وتوجهوا نحو البطيحة، والسفن التي لهم هناك، فلم يزالوا كذلك يتعاودون إلى أن أصبحوا، وبان ما في الصحراء، مما يحتاجون أن يروه، فلم يروا خيلاً، فظنوا أنها قد انصرفت عنهم، فعادوا راجعين إلى مواضعهم، فوجدوا عمر النجار مذبوحاً في بعض الطريق، ووافوا إلى مواضعهم، فوجدوا أمتعتهم كما هي، ما فقدوا منها شيئاً، فاحتملوها، واحتملوا عمر النجار، وانصرفوا.
وقيل لي: إنه لم يوجد الحجر، ولا أثر الموضع الذي احتفروا.
وقد يجد الناس، ممن يجتازون بذلك الموضع، أو يقصده، دراهم، وجواهر، حول تلك الخربات، والقبة.
وقد يأوي إلى تلك الخربات، النعام، وتبيض فيها، لخلوها، وانقطاع الناس، عن الاجتياز بها، إلا في الحين بعد الحين.

سيدوك الشاعر
رأيت بواسط شيخاً، ذكر لي، في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وستين وثلثمائة، أنه قد تجاوز الستين سنة، وأن مولده ومنشأه بالدحب، قرية من سواد واسط، وأن أباه كان رجلاً من أهل البصرة، من بني تميم، وفد قديماً إلة واسط، ثم استوطن " 70 " السواد، فولد هو فيه، ونشأ إلى أن بلغ، فأحب العلم، فرجع إلى البصرة، وأقام بها، وتأدب، ثم دخل البادية، فأقام بها نحو عشر سنين، ولقي الناس، ووجدته يفهم من اللغة والنحو طرفاً، وهو شاعر من شعراء واسط المشهورين، ويلقب بسيدوك.
وأخبرني هو، قال: قال لي أبو محمد المهلبي، وقد امتدحته لما وزر، لم تسميت بسيدوك؟ فقلت: لأنه اسم رئيس الجن، وأنا رئيس الشعراء.
فقال: أفتدري لم سمي سيدوك رئيس الجن بهذا الاسم؟ قلت: لا.
قال: بلغني أنه إنما سمي بذلك، لأن في الجن قبيلة يقال لها، هلوك، وهو سيدها، فاستثقلوا أن يقولوا: سيد هلوك، فخففوها، فقالوا: سيدوك.
والرجل كان يكنى أبا طاهر، واسمه عبد العزيز بن حامد بن الخضر، على ما أخبرني.
من شعر سيدوك
وحدثني، قال: كنت يوماً بحضرة بعض الرؤساء في مجلس شراب، فرماني بنارنجة نضفها أصفر، ونصفها أخضر.
وقال لي: قل في هذه شيئاً.
فقلت في الحال:
وطيبة النشر مسكية ... مرصعة بالتحايا العذاب
فأصفر في لون شمس المساء ... وأخضر في لون قوس السحاب
فلون لوجنة مرعوبة ... ولون لأثر نصول الخضاب
فهذا كمصة نحر الحبيب ... وذاك كما عل صرف الشراب
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شربت حلاوة عيش الصبا ... وذقت مرارة فقد الشباب
فلا طعم أمره مما اغتدى ... خضابك مستهتراً من خضابي
ولا شيء أعجب مما التقى ... نصول الخضابين يوم العتاب
أشارت إلى أصص محدقات ... بألوان نيلوفرات طياب
وأنشدني لنفسه " 71 " :
أرى قسمة الأرزاق أعجب قسمة ... فذو دعةٍ مثر مكد به الكد
فأحمق ذو مال، وأحمق معدوم ... وعقل بلا حظ وعقل له جد
يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجى ... ولله من قبل الأمور ومن بعد
وأنشدني لنفسه:
أظن بلية دهمت فؤادي ... وأحسبها غزال بني سليم
وإلا لم يغيب فيعتريني ... تدله ضائم من غير ضيم

ولم عيني إذا فقدته كانت ... كعين الشمس إذ غطت بغيم

محنة القرامطة
حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبيد الله، قال: كنت مع إبراهيم بن نافع العقيلي، المعروف بابن البارد الطوق، وبعض العرب تسميه بباري الطوق، وكانت العامة تسميه: ابن البارد الطوق، وخبروني أنه سمي بذلك أبوه، لأنه ضرب رجلاً في عنقه طوق، فبراها بالضربة.
قال: وكان أبو إسحاق بن البارد هذا، إذ ذاك، أمير نهر الأيسر الذي بين رستاق البصرة والأهواز، وهو إذ ذاك يليها من قبل معز الدولة. فورد عليه رجل، قد هرب من القرامطة، من بني عقيل، يعرف بمختار بن فرناس، وكان من حي إبراهيم، من بني معاوية بن حزن.
وكان في عنق المختار هذا، طوق فضة.
وكان سبب هربه، على ما سمعت خلقاً من بني عقيل، يخبرون بذلك، إذ ذاك، أنه قتل أخاه، وابن عمه، لأجل ضيف أضافه.
وذلك، أنه كان مع الضيف، مالٌ صامت، فأعمل أخوه، على الغدر بالضيف، وأخذ المال منه، وعلم المختار بذلك فمنعه، واقتتلا بالسيوف، فقتل أخاه، فجاء ابن عمه يلومه، وتخاطبا، إلى أن تجاذبا السيوف، وتخابطا بها، فقتل ابن عمه أيضاً، وسكن من نفس الضيف، حتى لا يذعر، ولم يكن له ما يطعمه تلك الليلة، فعرقب فرسه، وذبحه، واشتوى من لحمه، وأوقد حتى اصطلى به الضيف.
فلما أصبح، وارتحل الضيف، خاف أن يبلغ القرامطة خبره، فيأمر العريف بأخذه وإسلامه إلى المحنة، فهرب إلى إبراهيم.
فرأيت رسول القرامطة، قد جاء إلى إبراهيم، فأخذه على صلح وأمان، ورجع إلى حيه، ثم بلغنا أنهم محنوه بعد ذلك، تأديباً له، فما سمع برجل في زماننا من أهل البادية، أشجع، ولا أكرم، ولا آدب منه.
والمحنة عند القرامطة، أنهم إذا نقموا على رجل، استدعوه من حيه، إلى الأحساء بلدهم، فطرحوه، إما مقيداً يكدى في البلد، أو سائساً للخيل، أو راعياً للغنم والإبل أو ضربوه، وجددوا عليه في كل يوم لوناً من العقاب، ولا يزال عندهم حولاً، وأكثر.
وبما عاقبوه " 72 " بألوان أخر.
فجميع ما يعملونه من التأديب، يسمونه محنة.
من شعر أبي القاسم الصروي
أنشدني أبو القاسم لنفسه:
أصدع صدر الرمح في صدر فارس ... وأوقد ما يبقى من الرمح للضيف
وأقطع سيفي في الطلى ثم أنثني ... فأذبح عيري بالبقية من سيفي
وإني لصيفٌ في الشتاء إذا أتى ... وإني شتاء بارد الظل في الصيف
وما زلت صدر العلم صدر كتابه ... وقلب الوغى نابٍ عن الضيم والحيف
عدة جند الخلافة في أيام المقتدر
حدثني أبو الحسين علي بن هشامُ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيراز، قال: لما أخرج المقتدر هارون بن غريب الخال، مع مؤنس، ونصر، والقواد، لمحاربة القرمطي، حين وافى من زبارا، عرضنا الجيش، لأنه كان ديوان العرض إلى صاحبي ابن الخال، وكنت أكتب عليه، وعلى أمره كله، فأمره المقتدر، بعرض الجيش بزبارا، لئلا يكون قد أخل ممن جرد إلى الحرب أحد، فتقدم إليّ ابن الخال بذلك، فعرضتهم، فكانت العدة من سائر الفرسان، والرجالة، مع من جرد من الحجرية، وخدم الدار، اثنين وخمسين ألف رجل مرتزق، أو واحداً وخمسين - الشك من ابن شيراز - وهذا سوى من يتبعهم، ممن لا رزق له على السلطان، وإنما رزقه على صاحبه.
قال أبو جعفر: وكان قد تخلف ببغداد، نازوك وعسكرٌ برسمه، ورسم الشرطة، سبعة آلاف فارس، وراجل، وبقي في دار الخليفة، ممن لم يخرج، ألف غلام من الحجرية، وألف خادم - أقل أو أكثر - ممن ترك لحراسة الدار، وهذه العدة، سوى من كان في النواحي من الشحن، إلا من استدعي، ممن كان في السواد، لمعاون بغداد، مثل طريق خراسان، وطريق دجلة، وسقي الفرات، وهذه النواحي القريبة.
الشاعر البدوي عساف النميري
حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي، قال: كنت قد ركبت مع نفر من بني قشير، بالموصل، فحملوني إلى حي لهم بالبادية، على أيام منها، فأقمت في الحي شهوراً.
فكنت يوماً جالساً، فرأيت فتى بدوياً يسمى بعساف، حدث السن، " 73 " حسن الوجه، راكباً.
فقال لي صاحب البيت: هذا رجل من بني نمير، وهو جار لنا، وهو شاعر، فنحب أن تسمع من شعره.
فقلت: نعم.

فسأله النزول، فنزل، وذاكرته بالشعر، فوجدته كثير الرواية لأشعار البادية، في زمانه، فما أنشدني بيتاً أعرفه، ولا نسب شيئاً مما أنشدنيه إلى شاعرٍ أعرفه، متأخر أو متقدم، ووجدته لا يلحن البتة.
وأنشدني شيئاً كثيراً، فعلق بحفظي من ذلك، قصيدة، استعدته إياها دفعات، حتى حفظتها، وقد شذ عني منها أبيات.
قال: وكان هذا، في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، واسم الشاعر عساف النميري، قال: ولا أعرف اسم أبيه، ولا نسبه.
والقصيدة:
نظرت وأعلام السرية دوننا ... بعيني فتى صب يرى الهجر مغرما
وأشرف ركب يهلك الطرف دونه ... تظن به الحبشية الحو جثما
وأكرهت طرف العين حتى كأنما ... أرى بفضاء الأرض ستراً منمنما
إذا القوم قالوا صح شيئاً حسبته ... أصم وعن رد المشورة أعجما
دعاهن من نجد لحوران بعدما ... رمين بسهم الحب قلباً متيما
تعرضن لي يوم اللوى عن مشورةٍ ... وأودعن في ذات الوشاحين مرتما
وقلنا اقتليه يا مليح فإنه ... متى ما رمى كانت مراميه حذما
دماء الغواني عند ذا مستحلة ... فإن يرم رشقاً نلق سهماً مسمما
فأبدت على اللبات وحفاً كأنه ... عناقيد عناب تفرعن سلما
وجيداً كجمار الفسيلة بزه ... من الليف جانيه وكان مكرما
وعيني غضيض الطرف من جدل المها ... محيل المآفي، قرنه حين كمما
وأبيض براق الغروب كأنما ... حصى بردٍ ضمت به إن تبسما
وقالت: أبا سعدى تبدلت بيننا ... صدوداً ومحمود العشيرة ضيغما
فقلت: هنياً ذاك شيء يسرني ... غناها وأن تلقى من العيش أنعما
ولكني سليني عن حراجيج ضمرٍ ... سواهم يحذين السريح المخدما
وحرف كأن البق يلدغ دفها ... إذا المعجب الساري عليها ترنما
وعين فتية شعث اللمام رمى بهم ... هوى المطايا مخرماً ثم مخرما
سروا لسنا نارٍ هوياً وكلهم ... من البرد ما يبدي البنان المكمما " 74 "
فلما أتونا جانب الحي عرسوا ... غراثى وما ذاقوا من الأمس مطعما
فحييتهم قبل القرى وقريتهم ... قرى لم يكن نزراً ولم يأت مغنما
وماء قديم قد مضى دون عهده ... لوارده عشرون حولاً متمما
وعن شزب شعث النواصي كأنها ... سراحين يحملن الوشيج المقوما
عليهن منا كل أروع ماجدٍ ... كريمٍ إذا ما عارض الموت أوسما
أخو حملات يعلم القوم أنه ... ضروب بنصل السيف ضرباً غشمشما
لحقت بهم جميع القطامي بعدما ... دنا من بشير الصبح أن يتكلما
غداة التقينا لا سفيرة بيننا ... سوى مخلصات تترك الهام أقعما
تكر عليهم مخطفات كأنها ... صقور المضري كان للصيد مطعما
كأن على المشوي منها ومنهم ... عمائم تسقى حالك اللون عندما
سلوا قرن مدفوع فقد كان شاهداً ... غداة التقينا أينا كان أكرما

مناظرة بين عالمين
في مجلس القاضي أبو عمر
حدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن البختري، القاضي الداودي، وهو شيخ من خلفاء قضاة القضاة، مشهور بمدينة السلام بالعمل، والتصرف في الحكم، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد ابن محمد بن المغلس الداودي، قال: كان أبو بكر محمد بن داود، وأبو العباس بن سريج، إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر، لم يجر بين اثنين، فيما يتفاوضانه، أحسن مما يجري بينهما.

وكان ابن سريج - رضي الله عنه - كثيراً ما يتقدم أبا بكر في الحضور إلى المجلس، فتقدمه في الحضور، أبو بكر، يوماً، فسأله حدثٌ من الشافعية عن العود الموجب للكفارة ما هو؟ قال: إنه إعادة القول ثانياً، وهو مذهبه.
وحضر ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى، فشرحوه.
فقال ابن سريج، لابن داود: يا أبا بكر، أعزك الله، هذا قول من المسلمين تقدمكم؟ فاستشاط أبو بكر من ذلك، وقال: أتقدر أن من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة، إجماع عندي؟ أحسن أحوالهم أن أعده خلافاً، وهيهات أن يكون كذلك.
فغضب ابن سريج، وقال له: أنت يا أبا بكر، بكتاب الزهرة أمهر منك في هذه الطريقة.
فقال أبو بكر " 75 " : بكتاب الزهرة تعيرني؟ والله ما تحسن تستتم قراءته، قراءة من يفهم، وإنه لمن إحدى المناقب، إذ كنت أقول فيه:
أكرر في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وينطق سري عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما إن أرى حباً صحيحاً مسلما
فقال القاضي أبو العباس بن سريج: أعلي تفتخر بهذا القول، وأنا الذي أقول:
ومسامر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته
حباً بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراته
فقال ابن داود، لأبي عمر: أيد الله القاضي، قد أقر بالمبيت على الحال التي ذكرها، وادعى البراءة مما يوجبه، فعليه إقامة البينة.
فقال ابن سريج: من مذهبي، أن المقر، إذا أقر إقراراً، وناطه بصفة، كان إقراره موكولاً إلى صفته.
فقال ابن داود: للشافعي في هذه المسألة قولان.
قال ابن سريج: فهذا القول، اختياري الساعة.

إخوانيات
حدثني مبشر - مولى أبي - قال: قدمنا سوق الأهواز، من غيبة كان مولاي غابها، فكتب من المشرعة، إلى أبي أيوب داود بن علي بن أبي الجعد الكاتب، وكان بينهما أنسة ومودة، وعرفه قدومه، فالتمس منه، أن ينفذ إليه مركوباً ليركبه من المشرعة إلى داره.
فأنفذ إليه أيوب المركب، وكتب إليه:
عبدك داود به علة ... تمنعه أن يتلقاكا
والبغلة الشهباء قد أسرجت ... فاركب فديناك فديناكا
عيني إلى الباب وأذني إلى ... مبشري قد جاء مولاكا
إن كان قد أخذ طالعي
فقد أخذت غاربه
حدثني أبو علي محمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حامد، صاحب بيت المال، وكان أبوه المكنى بأبي حامد، قد تقلد القضاء، وأبو علي هذا قد خلف عدة قضاة على غير بلد، قال: حدثنا ابن جحا الأصبهاني، قال: قيل لأبي مسلم، محمد بن بحر، لما دخل أصبهان، واليها، وصارفاً لابن رستم: إن ابن رستم، قد أخذ طالعاً في دخولك، وهو يذكر " 76 " ، أنه غير جيد، فقال: إن كان قد أخذ طالعي، فقد أخذت غاربه.
الحق يوفي على الجرم
حدثني أبو الحسين، علي بن هشام، قال: كان أبو الحسن بن الفرات، لما ولي الوزارة الأولى، وجد سليمان بن الحسن، يتقلد مجلس المقابلة، في ديوان الخاصة، من قبل علي بن عيسى، وإليه - إذ ذاك - الديوان، فقلد أبو الحسن، سليمان، الديوان بأسره، فأقام يتقلده نحو سنتين.
فقام يصلي المغرب، فسقطت من كمه رقعة، بخطه، نسخة سعاية بابن الفرات، وأسبابه، وسعي لابن عبد الحميد، كاتب السيدة، بالوزارة، وأخذها بعض أسبابه، وتقرب بها إلى ابن الفرات، فقبض عليه للوقت، فأنفذه إلى واسط، في زورق مطبق، وصودر، وعذب بواسط.
ثم رجع له ابن الفرات، لما وقف من كتاب صاحب الخبر، على أن أم سليمان، ماتت ببغداد، ولم يحضرها، ولا رأته قبل موتها، فاغتم لذلك، وبدأ، فكتب إليه، بخطه، كتاباً أقرأنيه سليمان، بعد ذلك، فحفظته، ونسخته: ميزت - أكرمك الله - بين حقك وجرمك، فوجدت الحق، يوفي على الجرم.
وتفكرت في سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، فثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت.
فثق - أكرمك الله - بذلك، وأسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه.

واعلم أنني أراعي فيك، حقوق أبيك، التي تقوم بتوكيد السبب، مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها، والحافظة عليها، إن شاء الله.
وقد قلدتك أعمال دستميسان لسنة ثمان وتسعين ومائتين، وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن حبش، بحمل عشرة آلاف درهم، إليك.
فتقلد هذه الأعمال، وأظهر فيها أثراً حميداً، ينبئ عن كفايتك، ويؤدي إلى ما أحبه من زيادتك، إن شاء الله.

يحيى بن خالد البرمكي
والفضل بن الربيع
حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا عمي عن اليزيدي الأكبر، مؤدب المأمون، قال: دخل أبو العباس، الفضل بن الربيع، على أبي علي، يحيى بن خالد البرمكي، وهو جالس للحوائج، وابنه جعفر، يوقع بين يديه.
فعرض عليه رقعة، فقال: هذا لا يمكن " 77 " .
وأخرى، فقال: هذا مما قد حظره أمير المؤمنين.
وأخرى، فقال: هذا يفسد به الأولياء.
وأخرى، فقال: هذا يثلم الارتفاع.
إلى أن عرض عليه عشر رقاع، واعتل فيها لعلل مختلفة، ولم يوقع له بشيء.
فجمعها الفضل، وقال: ارجعن خائبات، ونهض وهو يقول: عسى وعسى يثني الزمان عنانه بتصريف حال والزمان عثور فتقضي لبانات وتشفى حسائك وتحدث من بعد الأمور أمور.
فسمعها يحيى، فقال: عزمت عليك يا أبا العباس، لما رجعت.
فرجع، فوقع له في الرقاع كلها.
ثمن هديتين
وثمن نفط وحب قطن
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو الحسن، علي بن عيسى، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبي، داود بن الجراح، قال: قال لي الفضل ابن مروان : كنت أعمل، في ديوان ضياع الرشيد، مجلس الحساب، فنظرت في حساب السنة التي نكب فيها البرامكة، ووجدت، قد أثبت فيه، ثمن هدية، دفعتين من مال ضياع الرشيد، أهداهما إلى جعفر بن يحيى، بضعة عشر ألف دينار.
وفيه بعد شهور من هذه الهدية، قد أثبت في الحساب لثمن نفط، وحب قطن، ابتيع، وحرق بها جثة جعفر بن يحيى، بضعة عشر قيراطاُ ذهباً.
من يشناك كان وزيرا
ً
حدثني أبو الحسين، قال: حدثنا أبو عبد الله نفطويه، قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات، قال: قال لي أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، قال: قال لي أبي : سمعت أبا الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن يوسف يقول، وهو إذ ذاك، وزير المأمون، لما قال الشاعر، بعد قتل أبي سلمة، وزير السفاح :
إن الوزير وزير آل محمدٍ ... أودى فمن يشناك كان وزيراً
كذبت، كل الوزراء من يشناك، فلا يدخل في هذا الأمر إلا منحوس.
المتنبي يعارض القرآن
حدثني أبو علي بن أبي حامد، قال: سمعت خلقاً بحلب، يحكون: أن أبا الطيب، أحمد بن الحسين، المتنبئ بها إذ ذاك، كان في بادية السماوة، ونواحيها.
إلى أن أخرج إليه لؤلؤ من حمص، من قبل الإخشيدية، فقاتله، وأسره، وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب، وغيرهما من قبائل العرب.
وحبسه في السجن دهراً طويلاً، فاعتل، وكاد أن يتلف، حتى سئل في " 87 " أمره، فاستتابه، وكتب عليه وثيقة، أشهد عليه فيها، ببطلان ما ادعاه، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائب منه، ولا يعاود مثله، وأطلقه.
قال: وكان قد تلا على البوادي، كلاماً، ذكر أنه قرآن نزل عليه، وكانوا يحكون له سوراً كثيرة، نسخت منها سورة، فضاعت، وبقي أولها في حفظي، وهو: " والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار " " امض على سبيلك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله " .
قال: وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها غير هذا.
قال: وكان المتنبئ إذا استوعب في مجلس سيف الدولة، ونحن إذ ذاك، بحلب، يذكر له هذا القرآن، وأمثاله، مما كان يحكى عنه، فينكره، ويجحده.
قال: وقال له ابن خالويه النحوي، يوماً، في مجلس سيف الدولة، لولا أن الآخر جاهل، لما رضي أن يدعى بالمتنبئ، لأن متنبئ، معناه كاذب، ومن رضي لنفسه أن يدعى بالكذب، فهو جاهل.
فقال: لست أرضى أن أدعى بذلك، وإنما يدعوني به، من يريد الغض مني، ولست أقدر على الامتناع.

فأما أنا، فإنني سألته بالأهواز، في سنة أربع وخمسين وثلثمائة، عند اجتيازه بها، إلى فارس، في حديث طويل، حدث بيننا، عن معنى المتنبئ، لأني أردت أن أسمع منه، هل تنبأ أم لا؟ فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء، كان في الحداثة، أوجبته الصبوة، فاستحيت أن أستقصي عليه، وأمسكت.
وقال لي أبو علي بن أبي حامد: قال لي أبي، ونحن بحلب، وقد سمع قوماً يحكون عن أبي الطيب المتنبئ، هذه السورة التي قدمنا ذكرها: لولا جهله، أين قوله: امض على سبيلك، إلى آخر الكلام، من قول الله عز وجل " فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين " إلى آخر السورة، وهل تتقارب الفصاحة بينهما، أو يشتبه الكلامان.

معقود العسل ودهن اللوز
حدثنا أبو الحسن محمد بن شجاع المتكلم البغدادي، قال " 79 " : حدثنا أبو سلمة العسكري، أحد غلمان أبي علي الجبائي، قال: كنت بحضرته يوماً، وهو يصلي، ونحن جلوس نتحدث، فقال رجل منا: اليوم كنت عند صديق لي، فأطعمني معقود العسل ودهن اللوز.
فقالوا: إن جبى ليس بها من يكون هذا عنده، إلا العامل، ولست ممن يأكل طعام العمال.
فمر الرجل يشوش الكلام.
وسلم أبو علي من صلاته، فقال: لا يهوسكم الرجل، لعله كان اليوم عند الصيدلاني وتناول لطريفك ؟ فقال الرجل: هكذا كان.
أندلسي تتلمذ للجاحظ
وحدثنا أبو الحسين أيضاً، قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن عمرو، قال: كنت بالأندلس، فقيل لي: إن بها تلميذاً لأبي عثمان الجاحظ، يعرف بسلام بن زيد، ويكنى أبا خلف.
فأتيته، فرأيت شيخاً هماً، فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان، ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس؟ فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا كتاب التربيع والتدوير، فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا كتاب البيان والتبيين، فبلغ الرجل الصكاك بكتابة هذين الكتابين.
قال: فخرجت، لا أعرج على شيء، حتى قصدت بغداد، فسألت عنه، فقيل لي: هو بسر من رأى.
فأصعدت إليها، فقيل: قد انحدر إلى البصرة.
فانحدرت إليه، وسألت عن منزله، فأرشدت، فدخلت إليه، وإذا هو جالس وحواليه عشرون صبياًن ليس فيهم ذو لحية غيره.
قال: فدهشت، فقلت: أيكم أبو عثمان؟ فرفع يده، وحركها في وجهي، وقال: من أين؟ فقلت: من الأندلس.
قال: طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت: سلام.
قال: اسم كلب القرد، ابن من؟ قلت: ابن زيد.
قال: بحق ما صرف، أبو من؟ قلت: أبو خلف.
قال: كنية قرد زبيدة، ما جئت تطلب.
قلت: العلم.
قال: ارجع بوقت، فإنك لا تفلح.
قلت له: ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصالٍ أربع، جفاء البلدية، وبعد الشقة، وغرة الحداثة، ودهشة الداخل.
قال: فترى حولي عشرين صبياً، ليس فيهم ذو لحية غيري، ما كان يجب أن تعرفني بها؟ قال: فأقمت عليه عشرين " 80 " سنة.
قال: وكان سلام هذا يحسن العلم.
الناس أربعة
قال : وبلغني عن أبي بكر بن مجاهد، أنه قال: الناس أربعة: مليح يتبغض لملاحته فيحتمل، وبغيض يتملح، فذاك الحمى، والداء الذي لا دواء له، وبغيض يتبغض، فيعذر لأنه طبيعة، ومليح يتملح، فتلك الحياة الطيبة.
كيفية صيد الفيل واستئناسه
حدثنا أبو الحسين، قال: كنت بتانة من بلاد الهند، فسمعتهم يتحدثون: أن ملوك الهند، يغالون في الأفيلة الحربية، على قدر عظم بطشها، فربما بلغ الفيل الفاره، المنقطع النظير، مائة ألف دينار، ودائماً يبلغ الفيل الواحد منها عشرة آلاف دينار.
قال: فإذا بلغ الملك، أن فيلاً قد تغرب، وله بطش عظيم، وأنه يصلح للحرب، أمر بصيده.
قالوا: وليس له حيلة في صيده، إلا بأن يخرج قوم من الفيالين، ومعهم فيلة أنثى، أهلية معلمة، فيها فضل خنثٍ وتأنيث، والأفيال، فيها من الفطنة أمر عظيم.
قال: فيخرج الفيالون، وهي معهم، إلى حيث قد بلغهم موضعاً يتغرب الفيل فيه، فيقاربون الموضع، ويلجأون إلى موضع يختبئون فيه، في شجرة عظيمة، لا تمكن الفيل فيها حيلة، أو شيء يحفرونه ويغطونه، ويدعون الفيلة الأنثى ترعى.
فحين يشم الفيل رائحتها، يقصدها، وتقصده، فتلاعبه، وتطاعمه بخرطومها، وتؤانسه، ولا تبرح من حيث هي، ويرعيان في موضع فيالها، والفيالون مختبئون شهراً، لا يفرقون بينهما.

فإذا كان بعد شهر - أقل أو أكثر - على حسب علمهم باستحكام الألفة، استدعوا الفيلة، في وقت تشاغل الفيل عنهم فيه، فتجيئهم فيركبونها..
فحين يراهم الفيل، ويراها، يتبعهم، فيروم أن يؤذي الفيالين، فتضع هي خرطومها عليه وتلاعبه، وتسرع، ويسرع خلفها.
فإذا رأوه قد ولى، ردوها إليه، فتلاعبه، فيرجع معها.
فلا يزالون يمشون خلفها، يومين أو ثلاثة، إلى أن يروا منه ضجراً، أو شدة في أذيتهم، فيقفون ليلة في موضع، ويتهاربون عن ظهرها إلى موضع يختبئون فيه.
فلا يقصدهم الفيل لتشاغله بها، ويحرزون أنفسهم في المختبأ، ويدعونه معها دون تلك المدة.
ثم يسيرون بها " 81 " على ذلك الوجه، فيتبعها الفيل.
فيسيرون بها يومين أو ثلاثة، أو حسب ما يمكن، إلى أن يبدو ضجره، فينزلون على رسمهم.
فلا يزالون كذلك، حتى يقربونه من البلد، في مدة على حسب بعد المسافة أو قربها.
فإذا بلغوا المدينة، أخرج ملكها جميع أهل البلد، أو أكثرهم، وجمعهم، وصعد عامتهم على السطوح، النساء، والصبيان، مزينين.
فحين يرى الفيل اجتماعهم، يستوحش، وينفر، ويولي، ويطلب الصحراء، فترجع الفيلة إليه فترده.
فإذا رأى الناس، نفر، فترجع إليه فترده، فلا تزال كذلك معه، حتى تدخله بين الناس، وتقربه منهم.
ويقيمونه الفيالون أياماً، كذلك، حتى يألف الناس، فإذا ألفهم أمر الملك بجمع أصحاب الدبادب، والطبول والصنوج.
فحين يسمع، ينفر نفوراً شديداً، أشد من ذلك، ويهرب، فتمضي الفيلة خلفه، فحين يراها، وقد بعد عن الصوت قليلاً، يقف لها، فتداعبه، وترده، وتداريه.
فحين يقرب من الصوت يهرب، ثم يرجع معها، هذا دأبه معها، تفعل به ذلك أياماً متتابعات، إلى أن يألف الصوت.
فإذا ألف المناظر والأصوات، أدخل الفيالون الفيلة إلى البلد، ويتبعهم الفيل.
فيجيئون إلى ساحة كبيرة، معدة له، فيها أربعة أوتاد ساج، أثقل ما يكون، وأعظمه، متقاربة، منصوبة على أساسات شديدة.
فتدخل الفيلة ما بين تلك الأوتاد، وتقف، فيدخل وراءها، ويقف معها، فينزل الفيالون، وفي أوصل تلك الأوتاد حلقٌ عظامٌ وثيقةٌ، في كل دقل حلقة، وفيه قيد عظيم ثقيل، فيضعون القيد في قائمة من قوائم الفيل، فيحصل مقيداً مضبوطاً بين تلك الأوتاد، لا يمكنه قلعها، ولا أن يطرح ثقله على شيء، لتساوي أجزائه في التقييد إليها.
فلا يزال على ذلك أياماً، والفيلة إلى جانبه، فإذا مسه الجوع، جاءه الفيالون بالأرز والسمن المطبوخ، فأطعموه إياه، بأن يرمون إليه من بعد، فللجوع يأكله.
ولا يزالون يدارونه، ويتقربون منه " 82 " ، على تدريج، حتى يأكله من أيديهم بعد مدة، فإذا أكل من أيديهم، فهي العلامة في استئناسه.
فحين يأكل من أيديهم مراراً كثيرةً، ويستمر على هذا، يركبونه، ويضعون الحديد في رأسه، أياماً، ويمرونها عليه، حتى يألفها، ويعلمونه، ويكلمونه.
فإذا مضت أيام على هذا، حلوا قيوده، وهم فوقه، فيمشي، ويصرفونه بحسب ما يصرفونه عليه، ويصير في حكم الأهلي.

ملك الصنف يملك ألفي فيل
قال: وسمعت أن ملك الصنف، وهو البلد الذي يجيء منه العود الصنفي، له ألفا فيل، إذا خرجت تمتد نحو فرسخ.
الفيل يقوم بعمل الجلاد
قال: وسمعت أن الملك، إذا أراد قتل إنسان، سلمه إلى الفيل، فيكلمه الفيال في أن يقتله.
قال: فيقتله بألوان من القتل، منها: أنه ربما لف خرطومه على رجل الرجل، ويضع إحدى يديه على ساق الرجل الأخرى، ثم يعتمد عليه، فإذا هو قد خرق الرجل بنصفين، من أوله إلى آخره.
وربما ترك الرجل، واستعرضه بالعرض، ثم وضع يده على بطنه، فيسحقه.
صاحب عمان يهدي فيلاً لمعز الدولة
قلت: أنا رأيت بالبصرة، في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة، فيلاً، لطيفاً، حمله صاحب عمان، إلى معز الدولة، فاجتاز بالبصرة، وحمل إلى دارنا، فأدخل إلى صحنها، فرأيناه.
وسمعت عدداً كبيراً من أهل البصرة، يخبرون - غذ ذاك - أن هذا الفيل اجتاز في سوق الجامع، فقرب منه صبي دون البالغ، فصاح فيه الفيالون ليتنحى عن طريق الفيل، فدهش الصبي، وأدركه الفيل، فلف خرطومه عليه، وشاله، فرفعه إلى الفيالين، فأخذوه منه، فصاح الصبي، وطار عقله، فما أنزلوه إلا بدراهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8