كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

الجزء الأول
لماذا لا يكذبون على الوزير أعزه الله
حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف، المعروف بابن المنجم النديم، وهو أحد بني يحيى بن أبي منصور المنجم، صاحب المأمون، ومحل أهله وسلفه وبيته في منادمة الخلفاء والوزراء والأمراء مشهور، وموضعهم من الكلام والنجوم والعلم والأدب وقول الشعر وتصنيف الكتب في أنواع ذلك المعروف، ومكانهم من المنزلة في خدمة السلطان وعظم النعمة والحال متعالم، ومحل أبي العباس في نفسه أشهر من أن يجهل في العلم والأدب وقول الشعر والمعرفة بالجدل والفقه، وغير ذلك مما يقوم به، وقد نادم أبا محمد المهلبي رحمه الله، واختص به ونفق عليه سنين كثيرة، ومن بعده من الوزراء، وغيرهم من الرؤساء، وهو أحد بقايا رجال أهل بيته، قال: كنت بحضرة أبي مخلد عبد الله بن يحيى الطبري صاحب معز الدولة فجرى ذكر الكرم والكرام، والجود والأجواد، وما كانت البرامكة وغيرها تأتيه من الأفضال على الناس، فأخذ أبو مخلد يدفع هذا ويبطله، حتى قال: هذه حيل نصبها الشحاذون على دراهم الناس، لا أصل لها.
فقلت له: أيها الشيخ إن قلت ذلك، فقد قال صاعد مثله، فأجيب.
فقال: ما قال؟ فقلت له: حكي له جود البرامكة، فقال: هذا من موضوعات الوراقين وكذبهم، وكان أبو العيناء حاضراً، فقال له: فلم لا يكذب على الوزير أعزه الله مثل هذا وهو حي يرجى ويخاف، وأولئك موتى مأيوس من خيرهم وشرهم مثل هذا الكذاب؟ قال: فخجل أبو مخلد.
الوزير ابن الزيات يذكر البرامكة وهو في التنور
وفي معنى هذا ما أذكره، وإن كان موجوداً في الكتب، ولكنه على سبيل الإستعادة، وهو حسن.
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد الأزدي، قال: بلغني أن ابن الزيات لما حصل في التنور قال له بعض خدمه: لهذا وشبهه كنا نشير عليك بفعل الإحسان، وتقليد رقاب الرجال بالأمتنان، واتخاذ الصنائع في حال القدرة لتجازي بها الآن عند الحاجة.
فقال: لو كنت فعلت هذا، ما حصلت منه على طائل، لما في نفوس الناس من ضعف الإخاء، وكثرة الغدر، وقلة الوفاء، وتراني كنت أفعل أكثر من أفعال البرامكة؟ ما نفعهم لما حصلوا في مثل حالي من إسلام الزمان وجور السلطان؟ فقال له الخادم: لو لم ينفعهم إلا ذكرك لهم في مثل هذه الحال التي أنت فيها لكان ذلك أكبر نفع.
أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكة
وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان: وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد المعروف بالأصبهاني الكاتب، قال: حدثني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي، قال: حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان إلى محسناً، وعلي مفضلاً، فجرى ذكر البرامكة، ووصف الناس لهم بالجود، وما قالوا في كرمهم وجوائزهم، فأكثروا.
فقمت في وسط المجلس، وقلت: أيها الوزير، قد حكمت في هذا الخطب حكماً نظمته في بيتي شعر، لا يقدر أحد أن يرده علي، وإنما جعلته شعراً ليبقى ويدور، أفيأذن الوزير في إنشادهما؟ فقال: قل، فرب صواب قلت، فقلت:
رأيت عبيد الله أندى أناملاً ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد
ورواه لنا مرة أخرى فقال فيه:
رأيت عبيد الله أفضل سؤددا ... وأكرم من فضل ويحيى وخالد
أولئك جادوا والزمان مساعد ... وقد جاد ذا والدهر غير مساعد
الحسن المنجم عامل معز الدولة
على الأهواز وحبه للعمارة: حضرت مجلس الحسن بن علي بن زيد المنجم، غلام أبي نافع، وهو إذ ذاك عامل معز الدولة رحمه الله على الأهواز وقطعة من كروها، ومحله عنده كمحل وزرائه، وكان قد خدم أبي رحمه الله قديماً، بعد مفارقته خدمة القاسم بن دينار عامل الأهواز، وتوكل له في داره وضيعته، وخلفه على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز، ثم خلطه بخدمة أبي عبد الله البريدي، فعلت منزلته، ثم بلغت به الحال ما ذكرته، فكنت إذا جئته، وهو إذ ذاك على غاية الجلالة، وأنا في حد الأحداث، اختصني.
وكان يعجبه أن يقرظ في وجهه، فأفاض قوم في مدحه، وذكر عمارته للوقوف، والسقايات، وإدراره الماء في ذبابة المسرقان وتفريقه مال الصدقات على أهلها، وذنبت معهم في ذلك.

فقال لي هو: يا بني، أرباب هذه الدولة إذا حدثوا عني بهذا وشبهه، قالوا: المنجم إنما يفعل هذا رياء، وما أفعله إلا لله تعالى، وإن كان رياء فهو حسن أيضاً، فلم لا يراؤون هم بمثل هذا الرياء؟ ولكن الطباع خست، حتى في الحسد أيضاً، كان الناس قديماً إذا حسدوا رجلاً على يساره، حرصوا على كسب المال حتى يصيروا مثله، وإذا حسدوا على علمه، تعلموا حتى يضاهوه، وإذا حسدوا على جوده، بذلوا حتى يقال إنهم أكرم منه، وإذا وعدد أشياء كثيرة، فالآن لما ضعفت الطبائع، وصغرت النفوس، وعجزوا أن يجعلوا أنفسهم مثل من حسدوه، في المعنى الذي حسدوه عليه، عدلوا إلى تنقص المبرز، فإن كان فقيراً شنعواً على فقره، وإن كان عالماً خطأوه، وإن كان جواداً قالوا هذا متاجر بجوده وبخلوه، وإن كان فعالاً للخير، قالوا هذا مراء.

الوزير حامد بن العباس يرى قشر باقلاء
في دهليز داره: حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله، قال: كان حامد بن العباس من أوسع من رأيناه نفساً، وأحسنهم مروءة، وأكثرهم نعمة، وأشدهم سخاء، وتفقداً لمروءته.
وكان ينصب في داره كل يوم عدة موائد، ولا يخرج من الدار أحد من الجلة والعامة والحاشية وغيرهم إذا حضر الطعام، أو يأكل، حتى غلمان الناس، فربما نصب في داره في يوم واحد أربعين مائدة.
وكان يجري على كل من يجري عليه الخبز لحماً، وكانت جراياته كلها الحواري.
فدخل يوماً إلى دهليز داره، فرأى قشر باقلاة، وأحضر وكيله، وقال: ويلك يؤكل في داري الباقلا؟ قال: هذا من فعل البوابين.
قال: أوليست لهم جرايات لحم؟ قال: بلى.
قال: فسلبهم عن السبب، فسألهم، فقالوا: لا نتهنأ بأكل اللحم دون عيالنا، فنحن ننفذه إليهم لنأكله معهم ليلاً، ونجوع بالغدوات فنأكل الباقلاً، فأمر حامد أن يجري عليهم جراية لعيالاتهم، تحمل إلى منازلهم، وأن يأكلوا جراياتهم في الدهليز، ففعل ذلك.
فلما كان بعد أيام، رأى باقلاة في الدهليز أيضاً، فاستشاط، وكان حديداً، سفيه اللسان، فشتم وكيله، وقال: ألم أضعف الجرايات، فلم في دهليزي قشور الباقلا؟ فقال: إن الجرايات لما تضاعفت، جعلوا الأولة لعيالاتهم في كل يوم، وصاروا يجمعون الثانية عند القصاب، فإذا خرجوا من النوبة ومضوا نهاراً إلى منازلهم، في نوبة استراجاتهم فيها، أخذوا ذلك مجتمعاً من القصاب فتوسعوا به.
فقال: فلتكن الجرايات بحالها، ولتتخذ مائدة في كل يوم، تنصب غدوة قبل نصب موائدنا، يطعم عليها هؤلاء، ووالله، لئن وجدت بعدما في دهليزي قشر باقلاة، لأضربنك وجميعهم بالمقارع.
ففعل ذلك، وكان ما زاد من نفقة الأموال، وأمراً عظيماً.
الوزير حامد بن العباس يخبىء
أربعمائة ألف دينار في بئر مسراح: حدثني القاضي أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث ابن عياش الجوهري البغدادي، وأبو الحسن بن المأمون الهاشمي: أنه وجد لحامد في نكبته التي قتل فيها، في بئر لمستراح له، أربعمائة ألف دينار عيناً، دل عليها لما اشتدت به المطالبة.
وأخبرني غيرهما: أن حامداً كان عمل حجرة، وجعل فيها مستراحاً، وكان يتقدم إلى وكيله أن يبتاع له الدنانير، ويجيء بها، فكلما حصل له كيس، أخذه تحت ثيابه، وقام كأنه يبول، فدخل ذلك المستراح، فألقى الكيس في البئر، وخرج من غير أن يصب فيها ماء ولا يبول، ويوهم الفراش أنه فعل ذلك، فإذا خرج أقفل المستراح، ولم يدخله غيره، على رسم مستراحات السراة التي يختصونها، وإذا أراد الدخول، فتحه له الخادم الموسوم بالوضوء، وذلك الخادم أيضاً لا يعلم السر في ذلك، فلما تكامل ذلك المال، قال: هذا المستراح ضيق البناء، قبيح، فسدوه لأغيره، فسد البئر، وعطل المستراح، فحصل ذلك المال مصوناً في الموضع، لا يعرف خبره غيره.
فلما اشتدت به المطالبة، دل عليه، فأخرج وما ذهب منه شيء ولا عرف خبره إلا من جهته.
مصادرة التاجر ابن الجصاص
في زمن المقتدر زادت على ستة ملايين دينار: وحدثني أبو الحسين بن عياش: أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب يقولون: إنهم حصلوا ما ارتفعت به مصادرة أبي عبد الله بن الجصاص في أيام المقتدر، فكانت ستة آلاف ألف دينار، سوى ما قبض من داره، وبعد الذي بقي له من ظاهره.
ابن الجصاص التاجر

يبقى له من بعد المصادرة مليون دينار: سمعت الأمير أبا محمد، جعفر بن ورقاء، بن محمد بن ورقاء الشيباني، يحدث في سنة تسع وأربعين وثلثمائة، قال: اجتزت بابن الجصاص، بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيام، وكانت بيننا مودة ومصاهرة، فرأيته على روشن داره، على دجلة، في وقت حار، من يوم شديد الحر، وهو حاف حاسر، يعدو من أول الروسن إلى آخره، كالمجنون.
فطرحت طياري إليه، وصعدت بغير إذن، فلما رآني استحيا، وعدا إلى مجلس له.
فقلت له: ويحك ما لك، ما الذي قد أصابك؟.
فدعا بطست وماء، فغسل وجهه ورجليه، ووقع ساعة كالمغشي عليه، ثم قال: أولاً يحق لي أ، أن يذهب عقلي، وقد خرج من يدي كذا، وأخذ مني كذا، وجعل يعدد أمراً عظيماً مما خرج منه، فمتى أطمع في خلفه، ولم لا يذهب عقلي أسفاً عليه؟.
فقلت له: يا هذا إن نهايات الأموال غير مدركة، وإنما يجب أن تعلم أن النفوس لا عوض لها، والعقوا والأديان، فما سلم لك ذلك، فالفضل معك، وإنما يقلق هذا القلق، من يخاف الفقر، والحاجة إلى الناس، أو فقد العادة في مأكول ومشروب وملبوس، وما جرى مجرى ذلك، أو النقصان في جاه، فاصبر، حتى أوافقك أنه ليس ببغداد اليوم، بعد ما خرج منك، أيسر منك من أصحاب الطيالس.
فقال: هات.
فقلت: أليس دارك هذه، هي التي كانت قبل مصادرتك، ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك، وإن لم تكن في ذلك الكبر المفرط؟.
فقال: بلى.
فقلت: وقد بقي لك عقارك بالكرخ، وقيمته خمسون ألف دينار.
فقال: بلى.
فقلت: ودار الحرير وقيمتها عشرة آلاف دينار.
قال: بلى.
فقلت: وعقارك بباب الطاق، وقيمته ثلاثون ألف دينار.
فقال: بلى.
قلت: وبستانك الفلاني، وضيعتك الفلانية، وقيمتها كذا وكذا.
فقال: بلى.
فقلت: وما لك بالبصرة وقيمته مائة ألف دينار.
فقال: بلى.
فجعلت أعدد عليه، من عقاراته، وضياعه، إلى أن بلغت قيمة سبعمائة ألف دينار.
فقلت: وأصدقني عما سلك لك من الجوهر والأثاثوالقماش والطيب والجواري والعبيد والدواب، وعن قيمة ذلك، وقيمة دارك؟ فأخذ يصدقني، ويقوم، وأحصي، إلى أن بلغت القيمة لذلك، ثلثمائة ألف دينار.
فقلت له: يا هذا، من ببغداد اليوم من يحتوي ملكه على ألف ألف دينار؟ وجاهك عند الناس الجاه الأول، وهم يظنون أن الذي بقي لك ضعف هذا، فلم تغنم؟.
قال: فسجد لله، وحمده، وبكى، ثم قال: والله، لقد غلب الفكر علي حتى نسيت جميع هذا أنه لي، وقل في عيني، لإضافتي إياه إلى ما أخذ مني، ولو لم تجيئني الساعة، لزاد الفكر علي حتى يبطل عقلي، ولكن الله تعالى أنقذني بك، وما عزاني أحد، بأنفع من تعزيتك، وما أكلت منذ ثلاث شيئاً، فأحب أن تقيم عندي، لنأكل ونتحدث ونتفرج.
فقلت: أفعل، فأقمت يومي عنده وأكلنا، وتحدثنا بقية يومنا.
حكاية تدل على دهاء التاجر أبي عبد الله بن الجصاص: وكنت أنا، اجتمعت ببغداد، في سنة نيف وخمسين وثلثمائة، مع أبي علي بن أبي عبد الله بن الجصاص، فرأيت شيخاً طيباً، حسن المحاضرة، فسألته عن الحكايات التي تنتسب إلى أبيه، مثل قوله خلف إمام قد قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " صدق الله العظيم " ، فقال: إي لعمري، بدلاً من آمين.
ومثل قوله للخاقاني الوزير: أسهرني البارحة صوت الكلاب في الحارة على بابي، كل كلب مثلي ومثل الوزير.
وقوله له، وأراد تقبيل رأسه، فقال: إن فيه دهناً فلا تفعل، فقال: لو كان في رأس الوزير خرا لقبلته.
ومثل قوله: قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت اتلحظ المقعدة حتى وقعت عليها.
ومثل قوله وقد وصف مصفحاً بالعتق، فقال: هو كسروي، وأمثال هذا على كثرته، وتواتر الرواية له.
فقال لي: أما أمر المقعدة، وإي لعمري، وما كان من هذا الجنس، فكذب، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا، وما كان إلا من أدهى الناس وأخبثهم، ولكنه كان يطلق بحضرة الوزراء قريباً مما حكي عنه، بسلامة طبع كانت فيه، ولأنه كان يحب أن يصور نفسه عندهم بصورة الأبلة، ليأمنه الوزراء، لكثرة خلواته بالخلفاء، فيسلم عليهم، وأنا أحدثك عنه بحديث حدثنا به، لتعلم معه إنه كان في غاية الحزم، وإن فاعله لا يجوز عليه مثل ما حكي عنه.
فقلت: أحب أن تفعل.

قال: حدثنا أبي قال: إن أبا الحسن بن الفرات، لما ولي بعض وزاراته قصدني قصداً قبيحاً، لشيء كان في نفسه علي، فأنفذ العمال إلى ضياعي، وأمر بنقص معاملاتي، وبسط لسانه بثلبي وتنقصي في مجالسه، وأدام الغض مني إذا دخلت إليه.
فوسطت بيني وبينه جماعة، وبذلت له أشياء توجب صلاح ما بيننا، فما نجعت، وأقام على قصدي، وأنا محتمل، طامع في رجوعه.
فدخلت يوماً داره، فسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه: أي بيت مال يمشي على وجه الأرض؟ ألفا ألف دينار تمشي وليس لها من يأخذها؟ فعلمت أن هذا من كلام صاحبه، وأني منكوب، وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار، عيناً وجوهراً، سوى غيرهما مما يحتوي عليه ملكي.
فضاقت علي الدنيا، وسهرت ليلتي بأسرها أفكر في أمري معه، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير، فركبت في الحال إلى داره، فوجدت الأبواب مغلقة، فطرقتها.
فقال البوابون: من هذا؟.
فقلت: ابن الجصاص.
فقالوا: ليس هذا وقت وصول، والوزير نائم.
فقلت: عرفوا الحجاب أني حضرت لمهم، فعرفوهم، فخرج إلى أحدهم، فقال: إنه إلى ساعة ينتبه، فتجلس وتنتظر.
فقلت: الأمر أهم من ذلك، فأنبهه وعرفه عني هذا.
فدخل، فأبطأ ساعة، ثم خرج، فأدخلني من دار إلى أخرى، حتى انتهيت إلى مرقده، وهو على سرير وحواليه نحو خمسين فراشاً لغلمان له، كأنه حفظه وقد قاموا، وبعض الفرش تنقل، وهو جالس في فراشه، مرتاعاً، قد ظن أن حادثة حدثت، أو أني جئته برسالة الخليفة، وهو متوقع لما أورده.
فرفعني، وقال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ فقلت: خير، ما حدثت حادثة، ولا معي رسالة، وما جئت إلا في أمر يخص الوزير ويخصني، لم تصلح مفاوضته فيه إلا على خلوة شديدة فسكن، ثم قال لمن حوله: انصرفوا، فمضوا.
وقال: هات.
فقلت: أيها الوزير إنك قد قصدتني أقبح قصد، وشرعت في هلاكي، وإزالة نعمتي، وفي إزالتها خروج نفسي، وليس من النعمة والنفس عوض، ولعمري أني قد أسأت في خدمتك، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ عندي، وقد جهدت في استصلاحك بكل ما قدرت عليه، ووسطت بيني وبينك فلاناً، وبذلت كذا، قلت كذا، فأبيت إلا الإقامة أذاي، وليس شيء أضعف من السنور، وإذا عاثت في دكان بقال فظفر بها، ولزها إلى الزاوية ليخنقها، وثبت عليه، فخدشت وجهه وبدنه، ومزقت ثيابه، وطلبت الحياة بكل ما يمكنها، وقد وجدت نفسي معك في مثل هذه الصورة، ولست أضعف بطشاً من السنور، وقد جعلت هذا الكلام عذراً بيننا، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح، وإلا فعلي وعلي، وحلفت له بأيمان عظيمة، لأقصدن الخليفة الساعة، ولأحولن إليه من خزانتي ألفي ألف دينار عيناً وورقاً، ولا أصبح إلا وهي عنده، وانت تعلم قدرتي عليها، وأقول له: خذ هذا المال، وسلم ابن الفرات إلى فلان، واستوزره، وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده، ممن له وجه مقبول، ولسان عذب، وخط حسن، ومخرقة حادة، ولا أعتمد إلا بعض كتابك، فإنه لا يفرق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضراً، فيسلمك في الحال لهم، ويراني المتقلد بعين من أخذه وهو صغير، فجعله وزيراً، وغرم عنه هذا المال الكثير، ويعتقد أني ربه وولي نعمته، فيخدمني، ويتدبر بتدبيري، في جميع أمره، فأسلمك إليه، فيفرغ عليك العذاب، حتى يأخذ منك الألفي ألف دينار بأسرها، وأنت تعلم أن حالك تفي بها، ولكنك نفتقر بعدها، ويرجع إلى المال، ولا يذهب علي منه دانق، وأكون قد أهلكت عدوي، وشفيت غيظي، واسترجعت مالي، وصنت نعمتي، وازداد محلي عظماً بصرف وزير، وتقليد وزير.
فلما سمع هذا أسقط في يده، وقال: يا عدو الله أو تستحل هذا؟.
فقلت: لست عدو الله، بل عدو الله من استحل مني ما أحوجني إلى الفكر في مثل هذا، ولم لا أستحل مكروه من يريد هلاكي وزوال نعمتي؟.
فقال: أو أيش؟.
قلت: أو أن تحلف الساعة بما أستحلفك به من الإيمان المغلظة، أنك تكون لي لا علي، في صغير أمري وكبيره، ولا تنقص لي رسماً، ولا تغير معاملة، ولا تضع مني، وتزيد في رفعتي، وذكري بالجميل، ولا تبغي لي الغوائل، ولا تدسس علي المكاره، ولا تشرع لي في سوء ولا نكبة أبداً، ظاهراً ولا باطناً، وتفعل وتفعل، فاشترطت عليه الأمن من كل ما كنت أخافه منه.
فقال: وتحلف أنت أيضاً بمثل هذه اليمين على جميل النية، وحسن الطاعة والمؤازرة.
فقلت: أفعل.

فقال: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، سحرتني والله.
واستدعى دواة، وعملنا نسخة اليمين، فأحلفته بها أولاً، ثم حلفت له.
فلما أردت القيام، قال: يا أبا عبد الله لقد عظمت في نفسي وخففت ثقلاً عني، فو الله ما كان المقتدر يفرق بيني مع كفايتي وغنائي وموقعي، وبين أخس كتابي - كما ذكرت - مع المال الحاضر، فليكن ما جرى مطوياً.
فقلت: سبحان الله.
فقال: وإذا كان غداً، فصر إلى المجلس العامي لترى ما أعاملك به.
فنهضت، فقال: يا غلمان، بأسركم بين يدي أبي عبد الله، فخرج بين يدي مائتا غلام، فعدت إلى داري وما طلع الفجر، فاسترحت.
وجئته في وقت المجلس، فرفعني فوق جميع من كان بحضرته، وقرظني التفريط التام، وعاملني بما علم منه الحاضرون، رجوعه لي، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي، بإعزاز وكلائي، وصيانة أسبابي وضياعي وتقدم إلى كتاب الدواوين بإخراج كل ما كانوا أدخلوه إليها من تغيير رسومي، والزيادة علي، وأن أجرى على الرسوم القديمة.
فشكرته، وقمت، فقال: يا غلمان بين يديه، فخرج الحجاب يجرون سيوفهم بين يدي، والناس يشاهدون ذلك، ويعجبون منه، وقد رجع جاهي، ولم يعلم أحد سبب صلاح بيننا، فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه.
ثم قال لي أبو علي ابنه: فهل كان هذا فعل ورأي من يليق به ما حكي من تلك الحكايات عنه؟ فقلت: لا.

حكاية تدل على ذكاء التاجر
أبي عبد الله بن الجصاص: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر داسة، قال: حدثني بعض شيوخنا قال: كنا بحضرة أبي عمر القاضي، فجرى ذكر ابن الجصاص وغفلته، فقال أبو عمر: معاذ الله ما هو كذلك، ولقد كنت عنده أيام مسلماً، وفي صحنه سرادق مضروب، فجلسنا بالقرب منه نتحدث، فإذا بصرير نعل من خلف السرادق فصاح: يا غلام جئني بمن مشت خلف السرادق الساعة، فأخرجت إليه جارية سوداء.
فقال: ما كنت تعلمين هاهنا.
قالت: جئت إلى الخادم أعرفه أني قد فرغت من الطبيخ، وأستأذن في تقديمه.
فقال: انصرفي لشأنك.
فعلمت أنه أراد أن يعرفني أن ذلك الوطء وطء سوداء مبذلة، وأنها ليست من حرمه ولا ممن يصونه، فيزيل عني أن أظن به مثل ذلك في حرمة، فكيف يكون هذا مغفلاً؟.
مروءة التاجر ابن الجصاص واتساع حاله: حدثني أبو العباس هبة الله بن المنجم، أن جده حدثه: أنه لما قبض المقتدر على ابن الجصاص، أنفذ إلى داره من يحصي ما فيها ويحمله.
فقال لي الذي كتب الإحصاء: إن وجدنا له في جملة قماشه سبعمائة مزملة خيازر، فما ظنك بمروءة وقماش يكون هذا في جملته؟.
ثلاثون جاماً في تركة يأنس الموفقي ثمنها ثلاثة ملايين دينار: كنت بحضرة الوزير أبي الحسن بن محمد بن هارون المهلبي رحمه الله ببغداد وقد دخل إليه أبو إسحق القراريطي بعد وروده من مصر وأبو القاسم الجهني حاضر.
فقال له: يا سيدي تسل أبا إسحق عن الحكاية التي كنت حكيتها لك في أمر الجامات البجاذي؟ فإني كنت ذكرت لك أنه كان حاضراً لأمرها وما علمت أنه قدم من مصر فأواطئه.
فقال له أبو محمد: ما بك إلى هذا حاجة.
فقال: بلى يا سيدي، ثم التفت إلى القراريطي، فقال: إني حكيت لسيدنا الوزير أن المقتدر أنفذني أيام تقلدي له المواريث لقبض تركه فلان، فذكر أميراً جليلاً، قد أنسيت اسمه على الحقيقة، وأظنه قال: يأنس الموفقي، وأنفذك مستظهراً بك لتحصي التركة، وإنها كانت هائلة عظيمة، وإنا وجدنا فيها ثلاثين جامة بجاذي، كل جامة فتحها شبر وكسر، في غلف من لب الخيازر، مبطنة بالحرير والديباج، مضربة بالنبات، محلاة بالذهب، فأثبتناها، وحملناها إلى المقتدر، فهاله حسنها، وأحضر ابن الجصاص، وأمره بتقويمها، فقال: ما أعرف لها قيمة، ولا رأيت مثلها قط، ولولا أني شاهدتها، لكذبت بوجود مثلها، ولو قلت إن قيمة كل واحدة مائة ألف دينار، ما خشيت البعد.
وإني لما حدثت سيدنا الوزير أيده الله، بهذا الحديث، كذبني جماعة من ندمائه، وكنت أنت يا سيدي بمصر، فإن رأيت أن تقيم الآن لي الشهادة.
فقال القراريطي: قد صدق - أيد الله الوزير - أبو القاسم، أنا رأيت هذه الجامات، وقبضتها للمقتدر من هذه التركة وسمعت ابن الجصاص يقول هذا، وقد نشي أبو القاسم شيئاً جرى لم يذكره.
فقال أبو محمد: ما هو؟.

فقال: سألنا خازن الرجل عن هذه الجامات وسببها، فقال: لا أعلم من أين وصلت إليه، ولكن كان عنده منها، ثمانون جامة، فأهدى إلى جماعة من الملوك منها وبقي هذه البقية.
فاستطرف أبو محمد المهلبي الحكاية واستحسنها.

مروءة الوزير حامد بن العباس
ومكارم أخلاقه: حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف بن يحيى بن علي بن يحيى ابن أبي منصور المنجم، قال: حدثني جدي، قال: وقفت امرأة لحامد بن العباس على الطريق، فشكت إليه الفقر، وطلبت منه البر، ورفعت إليه قصة كانت معها، فلما جلس، وقع لها بمائتي دينار.
فأنكر الجهبذ دفع هذا القدر إلى مثلها، فراجعه.
فقال لحامد: والله ما كان في نفسي أن أهب لها إلا مائتي درهم، ولكن الله أجرى لها على يدي مائتي دينار، فلا أرجع في ذلك، أعطها، فدفع إليها.
فلما كان بعد أيام رفع إليه رجل قصة يذكر فيها: إن امرأتي وإياي كنا فقيرين، فرفعت امرأتي قصة إلى الوزير، فوهب لها مائتي دينار، فاستطالت بها علي، وتريد الآن إعنائي لأطلقها، فإن رأى الوزير أن يوقع لي إلى من يكفها عني، فعل.
قال: فضحك حامد، ووقع له بمائتي دينار، وقال: أعطوه إياها، وقولوا له: قد صار الآن مالك مثل مالها، فهي لا تطالبك بالطلاق فقبضها الرجل وانصرف غنياً.
الوزير علي بن عيسى
وصاحب ديوان السواد: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي المعروف والده بأبي بكر الأزرق، قال: كان أبو عيسى أخو أبي صخرة جارنا ببغداد، وكان عظيم الحال، كثير المال، تام الجاه، شيخاً من شيوخ الكتاب، قد تقلد كبار الأعمال، وخلف إسماعيل بن بلبل قديماً على الوزارة، فلما ولي محمد بن عبيد الله الخاقاني الوزارة قلد ديوان السواد، فلما صرف بأبي الحسن علي ابن عيسى وورد أبو الحسن من اليمن والشام، لما كان نفي إليه عقيب قصة ابن المعتز، وتقلد الوزارة، لم يره أهلاً لديوان السواد، ولأن صنعته لم تكن بالتامة التي تفي بهذا الديون، ولم يمكنه صرفه لمكانه كانت له في الدار، فكان يقصده بالغض في المجالس، ولا يرفعه الرفعة التي يستحقها صاحب ديوان السواد، وإذا أراد عملاً من الديوان أو خراجاً أو حساباً وقع إلى كتاب الديوان، استدعاهم، وخاطبهم وهو حاضر، لا يكلمه في ذلك، فيغض منه بهذا، الغض الشديد، فإذا أراد عملاً يعلم أن صناعة أبي عيسى لا تفي به وأنه لا يمكنه الكلام عليه، خاطبه فيه على رؤوس الأشهاد، ليبين نقصة ويفتضح، وإذا أراد مهماً أحضر كتاب الديوان فخاطبهم فيه، ليكون ذلك نهاية الغض منه.
فلما طال ذلك على أبي عيسى، جلس عنده يوماً حتى لم يبق في مجلسه غيره، وغير إبراهيم بن عيسى أخي الوزير.
فقال له علي بن عيسى: هل من خاجة؟ فقال: نعم، إذا خلا مجلس الوزير.
قال: فأخبرت عن إبراهيم إنه قال: لما سمعت هذا قمت وانصرفت فلما كان من الغد جئت إلى أخي، فوجدت أبا عيسى في صدر المجلس، حيث يستحق الديوان أن يكون وهو يأمر، وينهي، وينبسط، ويتكلم، والخطاب معه في الأعمال دون الكتاب، وقد صار في السماء.
فدعتني نفسي إلى مسألة الوزير عن ذلك، فجلست إلى أن لم يبق في مجلسه غيري، فقال: شيء تقوله يا بني؟ فقلت: شيء من الفضول أريد أن أسأل الوزير عنه.
فقال: إن كان فضولاً فلا تسل عنه.
قال: قلت لا بد.
فقال: هات.
قلت: استخلاك أمس أبو عيسى فأخليته، ثم رأيت اليوم تعامله بضد ما كنت تعمله قبل هذا، فما سبب ذلك؟.

فقال: نعم، إنه خاطبني بخطاب عظم به في عيني، وكبر به في نفسي، وعلمت صدقه فيه، فرجعت له، قال لي، وقد خلا بي: أيها الوزير، أنا رجل شيخ من شيوخ الكتاب، عارف بمقدار ما أحسنه من صناعة الكتابة، وتقصيري فيها عن الغاية، وليس يخفي علي ما يعاملني به الوزير من الغض والهتك والتعريض للفضيحة في الصناعة، ومخاطبة الكتاب في الديوان إذا أراد مهماً، ومخاطبتي إذا نزل معضل، ويجب أن يعلم الوزير أيده الله، أن حالي، ومالي، وباطني، أكثر مما يقع له، ويعرفه من ظاهري على كثرته، وأني ما أتصرف طلباً للفائدة، ولا خوفاً من الفقر، وإنما أريد الزيادة في الجاه، واتصال نفوذ الأمر والنهي، وقد عشت طول هذه السنين، آمراً، ناهياً، مستوراً في صناعتي، ما تعرض لي أحد من الوزراء، ولا تعرضت لهم، وسلمت عليهم، وسلموا علي، ومهما عمله الوزير في من الغض فليس يمكنه أن يزيل من نفوس الخاصة والعامة، أني خلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة، وتقلدت كذا وكذا، وأخذ يعدد كبار الأعمال التي وليها، وأن مثل هذا لا يناط بعاجز، ولا أن يستخرج من النفوس عظم محلي فيها، مع سعة الحال، وكثرة الضياع والمال، ولا يمكنه في طمس محلي أكثر مما قد عمله، وأنا بين أمور، إما توصلت إلى إزالة ذلك عني بما لعله يثقل على الوزير، وآثرت صفاء نيته فاستعفيت من العمل، ولزمت بيتي، فلم أكن فيه خاملاً ولا ساقطاً ثم حصلت حيث أختار، من الكون في جملة أولياء الوزير أو أعدائه، فإما أعفاني مما يستعمله معي، وردي الخبر إلى العادة التي يستحقها من نصب في مثل منصبي، أو أعفاني من العمل لألزم بيتي.
فقلت له: يا أبا عيسى، لن ترى بعد هذا شيئاً تنكره، ولن أكون لك إلا على أفضل محبتك، فبكر إلى ليبين لك مصداق ذلك.
فلما جاءني اليوم، عاملته بما رأيته.

حكايات عن وقار الوزير علي بن عيسى وزماتته
ويشبه قول علي بن عيسى لأخيه: إن كان فضولاً فلا تسل عنه، ما كان يبلغنا عنه من الزماتة الشديدة، والوقار العظيم، ومطالبة نفسه بإحتشام الخلق، واستعمال ذلك مع أهله وولده.
حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: بلغني عن بعض أكابر ولده أنه دخل إليه في آخر عمره، وهو متسلق، فلما رأى ابنه جلس منتصباً.
وأخبرني أبي رحمه الله، وأبو الحسين بن عياش: أنهما كانا يشاهدان كانا أبا الحسن في آخر الأوقات في المجالس الحافلة، يجلس عند باب مفتوح، وبين البابين مسورة يستند إليها، وعلى الباب ستر قد أرخي حتى بلغ الأرض وغطى المسورة، وصار حجاباً بين الناس وبينها، وهو ملتزق بالستر احتشاماً للناس أن يستند بحضرتهم، وما زال الناس على هذا.
حكاية عن تزمت القاضي
أبي جعفر بن البهلول: حدثني أبو الحسن بن أبي طالب بن أبي جعفر بن البهلول، قال: كنت وأنا صبي، أجيء، وألعب، بحضرة جدي، فيصبح علي.
قال: ما دخلت إليه قط، وهو مكشوف الرأس، إلا أخذ القلنسوة من خلف مسورته، ولبسها، وجلس متزمتاً علي وسني إذ ذاك عشر سنين، أو حواليها، إلى أن أنصرف، فأراه إذا بعدت، وقد وضعها عن رأسه.
بين الوزير علي بن عيسى
والوزير أبي علي بن مقلة: ويشبه فعل أبي الحسين علي بن عيسى بأبي عيسى أخي صخرة، ما أخبرني به الثقة، قال: أخبرني جماعة من الكتاب، أنه بلغه أن المقتدر قد عمد على صرفه بأبي علي بن مقلة، وكان يخلفه إذ ذاك على عدة دواوين، فاستدعاه، وطالبه بأعمال يعملها له من الدواوين، فوعده بإحضارها.
فلما كان بعد أيام، خاطبه بحضرة الناس يريد الغض منه، فقال له: طلبت منك أعمالاً فما أحضرتها، وأنا أعلم تعذرها عليك، فإن كان الأمر كذلك، فأفصح عن نفسك.
فقال ابن مقلة: قد أحضرتها، ووضعها بين يديه.
فأخذ يقرؤه، ويعجب مشايخ الكتاب الحضور من خطائه فيها، ويوافقه على ضعف صناعته، ويفضحه في موضع يخرجه، ويقول له في عرض الخطاب؛ هذه حياكة: ليست كتابة، ويضرب على عمل عمل، وبرسم في أضعافه، كيف يجب أن يعمل، والكتاب الحاضرون يعجبون من حسن ما يورده أبو الحسن، وضعف ما أورده أبو علي، إلى أن ضرب على جميع أعمال، ثم قال له: قم فاعملها على هذا، وحررها، وجئني بها، فقام أبو علي يجر رجله.
فلما ولي عن حضرة أبي الحسن، قال: إن أمراً عجز عنه علي بن محمد بن الفرات، ونحن فيه مرتكبون، تقوم به أنت؟ لشيء عجيب.

قال: فلما كان في اليوم الرابع أو الخامس من هذا الحديث، قبض على علي بن عيسى، وسلم إلى أبي علي، وقلد الوزارة، فاعتمد الغض من أبي الحسن، فما قدر على ذلك بأكثر من المكاره، والمخاطبة له في وجهه بما يرتفع عنه أرباب المروءات.
فمن ذلك، إن هذا المخبر أخبرني، قال: حدثني أبو أحمد الشيرازي الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة يوماً في وزارته وقد دخل عليه علي بن عيسى فجلس بين يديه، وكان أبو عبد الله العلوي الموسوي حاضراً، وأبو علي الحسن بن هارون.
فقال أبو علي بن مقلة للحسن بن هارون: اكتب رقعة عن أبي عبد الله يصف فيها اختلال ضيعته، ويسأل فيها الاحتساب له بمظلمة، وإطلاق معونة له.
ففعل الحسن بن هارون ذلك في الحال، وعرض الرقعة، فوقع بإخراج الحال، وأنفذ إلى الكاتب بأن أخرج الحال مصدقاً لما في الرقعة.
ففعل ذلك .
فوقع تحت إخراج الحال بإطلاق عشرين كراً حنطة وعشرين كراً شعيراً معونة له، والاحتساب بما ذكر مبلغه في المظلمة، وقال لأبي علي الحسن ابن هارون: سلمه إلى أبي عبد الله.
قال، فاستحسن الحاضرون كرمه في ذلك على رجل علوي، وأخذ أبو الحسن علي بن عيسى يشكر له ذلك ويصوبه له.
فقال له مجيباً: فلم تفعل مثل هذا يا أبا الحسن في وزارتك؟.
قال، فنهض أبو الحسن، وقال: ستودع الله الوزير، ولم يجب بحرف واحد.

تزمت الوزير علي بن عيسى وتخشنه
ومن زماته أبي الحسن علي بن عيسى وتخشنه، أنه كان يجب أن يبين فضله في هذا على كل أحد، أخبرني به غير واحد: إن أبا عمر القاضي دخل يوماً في بعض وزاراته، وعلى أبي عمر قميص دبيقي سشتري فاخر، فأراد الحسن أن يخجله فقال له: يا أبا عمر بكم اشتريت شقة هذا القميص؟.
فقال: بمائتي دينار.
فقال أبو الحسن: ولكني اشتريت لي هذه الشقة التي قطعت منها هذه الدراعة وهذا القميص الذي تحتها بعشرين ديناراً.
فقال له أبو عمر مسرعاً كأنه قد أعد له الجواب: الوزير أعزه الله يجمل الثياب، ولا يحتاج إلى المبالغة فيها، ونحن نتجمل بالثياب، فنحتاج إلى المبالغةفيها لأنا نلابس العوام، ومن نحتاج إلى التفخيم عليه، وإقامة الهيبة في نفسه بها، والوزير أيده الله يخدمه الخواص، أكثر من خدمة العوام، ونعلم أنه يدع هذا عن قدرة.
قال: فكأنما ألقم أبا الحسن حجراً، وسكت عنه.
الوزير علي بن عيسى يفرض
على ملك الروم أن يحسن معاملة الأسارى المسلمين: حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن، قال حدثني مكرم ابن بكران، عن أبي يحيى بن مكرم القاضي، قال: كنت خصيصاً بأبي الحسن علي بن عيسى، وربما شاورني في شيء من أمره، قال: دخلت عليه يوماً وهو مغموم جداً، فقدرت أنه بلغه عن المقتدر أمر كرهه، فقلت هل حدث شيء؟ وأو مات إلى الخليفة.
فقال: ليس غمي من هذا الجنس، ولكن مما هو أشد منه.
فقلت: إن جاز أن أقف عليه فلعلي أقول فيه شيئاً.
فقال: نعم، كتب إلى عاملنا بالثغر، أن أسارى المسلمين في بلد الروم، كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفاً، ملك الروم، حدثان، فعسفا الأسارى، وأجاعهم، وأعرياهم، وعاقباهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في جهد جهيد، وبلاء شديد، وليس هذا مما لي فيه حيلة، لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا، والخليفة لا يطاوعني، فكنت أنفق الأموال، وأجتهد، وأجهز الجيوش حتى تطرق القسطنطينية.
فقلت أيها الوزير، هاهنا رأي أسهل مما وقع لك، يزول به هذا.
فقال: قل يا مبارك.
فقلت: إن بانطاكية عظيماً للنصارى يقال له البطرك، وببيت المقدس آخر يقال له القاثليق، وأمرهما ينفذ على ملك الروم، حتى انهما ربما حرما الملك فيحرم عندهم، ويحلانه فيحل.
وعند الروم أنه من خالف منهم هذين فقد كفر، وأنه لا يتم جلوس الملك ببلد الروم إلا برأي هذين، وأن يكون الملك قد دخل إلى بيعتهما، وتقرب بهما، والبلدان في سلطاننا، والرجلان في ذمتنا، فيأمر الوزير بأن يكتب إلى عاملي البلدين بإحضارهما، وتعريفهما ما يجري على الأسارى، وإن هذا خارج الملك، وإنهما إن لم يزيلا هذا، لم يطالب بجريرته غيرهما، وينظر ما يكون من الجواب.
قال: فاستدعي كاتباً، وأملى عليه كتابين في ذلك، وأنفذهما في الحال، وقال: سريت عني قليلاً، وافترقنا.

فلما كان بعد شهرين وأيام، وقد أنسيت الحديث، جاءني فرانق من جهته يطلبني، فركبت وأنا مشغول القلب بمعرفة السبب في ذلك، حتى وصلت إليه، فوجدته مسروراً، فحين رآني قال: يا هذا، أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني.
فقلت: ما الخبر؟.
قال: كان رأيك في أمر الأسارى أبرك رأي وأصحه، وهذا رسول العامل قد ورد بالخبر، وأومأ إلى رجل كان بحضرته، وقال له: خبرنا بما جرى.
فقال الرجل: أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق، برسالتهما إلى قسطنطينية وكتبا إلى ملكيهما: إنكما قد خرجتما عن ملة المسيح بما فعلتماه بالأسارى وليس لكما ذلك، فإنه حرام عليكما، ومخالف لما أمرنا به المسيح من كذا وكذا، وعددا أشياء في دينهما، فإما زلتما عن هذا واستأنفتما الإحسان إلى الأسارى، وتركتما مطالبتهم بالتنصر، وإلا لعناكما على هذين الكرسيين وحرمنا كما.
قال: فمضيت مع الرسول، فلما صرنا بقسطنطينية، حجيت عن الملكين أياماً، وخليا بالرسول، ثم استدعياني إليهما، فسلمت عليهما، فقال لي ترجمانهما: يقول لك الملكان، إن الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى، كذب وتشنيع، وقد أذنا في إدخالك دار البلاط لتشاهد أساراكم، فترى أحوالهم بخلاف ما بلغكم، وتسمع من شكرهم لنا، ضد ما اتصل بكم.
قال: ثم حملت إلى دار البلاط فرأيت الأسارى، وكأن وجوههم قد أخرجت من القبور، تشهد بالضر الشديد والجهد الجهيد وما كانوا فيه من العذاب إلى حين قدومنا إلا أنهم مرفهون في ذلك الوقت، وتأملت ثيابهم، فإذا جميعها جدد، فعلمت أني منعت من الوصول تلك الأيام حتى غير زي الأسارى وأصلح أمرهم.
وقال لي الأسرى: نحن للملكين شاكرين، فعل الله بهما وصنع، وأومأوا إلي: إن الأمر كان كما بلغكم، ولكنه خفف عنا، وأحسن إلينا، بعد حصولك هاهنا.
وقالوا لي كيف عرفت حالنا؟ ومن تنبه علينا، وأنفذك بسببنا؟.
فقلت لهم: ولي الوزارة علي بن عيسى فبلغه ذلك، فأنفذ من بغداد، وفعل كذا وكذا.
قال: فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول: مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل.
قال: فلما سمع ذلك علي بن عيسى أجهش بالبكاء، وسجد حمداً لله سبحانه وتعالى، وتر الرسول، وصرفه.
فقلت له: أيها الوزير، أسمعك دائماً تتبرم بالوزارة، وتتمنى الإنصراف عنها في خلوتك خوفاً من آثامها، فلو كنت في بيتك، هل كنت تقدر أن تحصل هذا الثواب ولو أنفقت فيه أكثر مالك؟ فلا تفعل، ولا تتبرم بهذا الأمر فلعل يمكنك ويجري على يديك أمثال هذا الفعل، فتفوز بثوابه في الآخرة، كما تفردت بشرف الوزارة في الدنيا.

ابن الرزق الله، التاجر البغدادي
يوقف في بلاد الروم أكسية لتدفئة أسارى المسلمين: حدثني أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن داسه البصري، قال: حدثني علي بن إبراهيم بن حمادى القاضي: إن بعض مشايخ العرب أخبره عن رجل المسلمين، أسر، ثم رجع إلى دار الإسلام، قال: لما حملنا إلى بلد الروم مرت بنا شدائد، فحصلنا عدة ليال لا ننام من البرد، وكدنا نتلف، ثم دخلنا قرية، فجاءنا راهب فيها بأكسية وقطف ثقيلة دفية، فغطى جميع الأسارى، كل واحد بواحدة، فعشنا تلك الليلة، فأقامونا في تلك القرية أياماً، فكانت سبيلنا هذه، ثم نقلونا إلى أخرى، فعادت حالنا في العري والبرد إلى الأولى.
فسألنا عن السبب في ذلك، فقالوا: إن رجلاً ببغداد من التجار يقال له ابن رزق الله، صهر ابن أبي عوف، توصل إلى أن حصلت له هذه الأكسية والقطف عند الراهب، بغرامات مال جليل، وسأله أن يغطي بها من يحصل في قريته من أسارى المسلمين، وضمن له أن ينفق على بيعة في بلد الإسلام بإزاء هذا في كل سنة شيئاً ما دامت الأكسية محفوظة للاسارى، فالراهب يفعل ذلك في هذه القرية، وما قبلها وما بعدها ليس فيها شيء من هذا.
فأقبلنا ندعو لابن رزق الله كما نفحنا البرد، ولحقتنا الشدة، ونحن لا نعرفه.
شخص متعطل زور كتاباً عن لسان
الوزير ابن الفرات، إلى عامل مصر: حدثني أبو الحسين، عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي: إن رجلاً دامت عطلته، فزور كتباً عن علي بن محمد بن الفرات، وهو وزير، إلى أبي زنبور عامل مصر، وخرج إليه ولقيه بها.
فأنكرها أبو زنبور، لإفراط التأكيد فيها، وكثرة الدعاء للرجل، وأن محله عنده لم يكن يقتضي ذلك الترتيب، واستراب بالخطاب أيضاً.

فوصل الرجل بصلة يسيرة، وأمر له بجراية، وقال: تأخذها إلى أن أنظر في أمرك.
وأنفذ الكتب في خاص كتبه إلى ابن الفرات، وشرح له الصورة، وكان فيها: إن للرجل حرمة وكيدة بالوزير، وخدمة قديمة.
قال: فوصلت الكتب إلى أبي الحسن بن الفرات، وأصحابه بين يديه فعرفهم الصورة، وعجبهم منها، وقال: ما الرأي في أمر الرجل؟ فقال: بعضهم: تقطع يده لتزويره على الوزير.
وقال بعضهم: يقطع إبهامه.
وقال بعضهم: يضرب ويحبس.
وقال بعضهم: يكشف لأبي زنبور أمره، ويتقدم بطرده، ويقتصر به على الحرمان مع بعد الشقة.
فقال ابن الفرات: ما أبعد طباعكم عن الجميل، وأنفرها من الحرية، رجل توسل بنا، وتحمل المشقة إلى مصر، وأمل بجاهنا الغنى، ولعله كان لا يصل إلينا، ولا حرمة له بنا فيأخذ كتبنا، فخفف عنا بأن كتب لنفسه ما قدر أن به صلاحه، ورحل ملتمساً للرزق، وجعلنا سببه، يكون أحسن أحواله عند أجملكم محضراً الخيبة؟.
ثم ضرب بيده إلى الدواة، وقلب الكتاب المزور، ووقع عليه بخطه: هذا كتابي ولا أعلم لأي سبب أنكرته.
ولا كيف استربت به، كأنك عارف بجميع من خدمنا في النكبة، وأوقات الاستتار، وقديم الأيام، وقد أحطت علماً بجميعهم، فأنكرت أبا فلان هذا - أعزه الله - من بينهم، وحرمته بي أوكد مما في هذا الكتاب، وسببه عندي أقوى مما تظن، فأجزل عطيته، وتابع بره ووفر حظه من التصرف فيما يصلح له، وافعل به واصنع، وأصدر الكتاب في الحال.
فلما كان بعد مدة طويلة، دخل عليه رجل جميل الهيئة، حسن الزي والغلمان، فأقبل يدعو له، ويبكي، ويقبل الأرض بين يديه، وابن الفرات لا يعرفه، ويقول: يا بارك الله عليك - وكانت هذه كلمته - ما لك؟.
فقال له: أنا صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور، الذي حققه تفضل الوزير، فعل الله به وصنع.
قال: فضحك ابن الفرات، وقال: فبكم وصلك؟.
قال: وصل إلي من ماله، قسطه لي، ويتصرف صرفني فيه، عشرون ألف دينار.
قال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا، فإننا ننفعك بأضعافها.
قال: فلزمه وفاتشه، فوجده كاتباً، فاستخدمه، وأكسبه مالاً عظيماً، وصار ذلك سبباً لحرمة الرجل به.

أبو عمر القاضي يعامل بالجميل
رجلاً زور عنه رقعة بطلب التصرف: حدثني أبو أحمد بن أبي الورد شيخ من أبناء القضاة لقيته سنة تسع وأربعين وثلثمائة ببغداد، قال حدثني أبي وكان خصيصاً بأبي عمر القاضي.
إن رجلاً زور عنه رقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري، يسأله تصريفه وكانت بينهما مودة.
وصار الرجل بالرقعة إلى أبي القاسم، فأخذت منه وحجب، فجلس يتوقع الجواب.
فاتفق أن جاء القاضي أبو عمر وأنا معه ليسلم على ابن الحواري، ودخلنا، فوجد القاضي الرقعة بحضرته مشبهة بخطه، فوجم لذلك، وتشوف لمعرفة الخبر، وكان فيه من الوقار والرصانة والفضل المشهور الذي ضرب به المثل، ما لم يتبين لابن الحواري معه ذلك عليه، وفطنت أنا لدربي بأخلاقه.
وحانت لابن الحواري التفاتة، فرأى الرقعة في يده، فقال: أيها القاضي الساعة وصلت، وأنا أفعل ما التمسه في معنى الرجل.
فشكره أبو عمر، وخاطبه بما أوهمه فيه إنها رقعته، من غير أن يطلق ذلك، وكان أفعل الناس لهذا، وأقدرهم على أن يتكلم دائماً في الأمور بما يحتمل معنيين، ويحتاج إلى تفسير للمقصد، توقياً منه، ودهاء.
وقال أبو عمر: فليطلب الرجل، إن كان حاضراً ويدخل، فطلبوه وأدخلوه، وقد امتقع لونه.
فقال له ابن الحواري: أنت الموصل لرقعة القاضي أعزه الله؟.
فقال: نعم.
فقال له أبو عمر: إنه أعزه الله قد وعد بتصريفك والإحسان إليك فالزمه.
قال: وتحدثنا ساعة، ونهض أبو عمر، وقال لي سراً: جئني به.
فتأخرت وونسته، وحملته إليه، فدخلت عليه به وهو خال ينتظرنا وحده.
فقال له: ويلك، أتزور على خطي، وأنا حاكم، وخطي ينفذ في الأموال والفروج والدماء؟ ما كان يؤمنك أن أعرفأبا القاسم أمرك فتصير نكالاً.
فبكى الرجل وقال: والله، أيها القاضي، ما حملني على ذلك إلا عدم القوت، وشدة الفقر، وأني وثقت بكرمك ففعلت ذلك، إذ كان غير متصل بحكم ولا شهادة، وقدرت أيضاً أن ذلك ينستر عنك، وأنتفع أنا من حيث لا يضرك.

فقال له أبو عمر: الله إن الفقر حملك على هذا؟ فقال: إي والله، فبكى أبو عمر، وسار خادماً له، فغاب الخادم قليلاً، ثم جاء بصرة فيها مائة دينار، ومنديل فيه دست ثياب، فسلمه إلى الرجل.
فقال له أبو عمر: اتسع بهذا، والبس هذا، والزم أبا القاسم فإني أؤكد عليه أمرك، واحلف لي أن لا تزور على خطي أبداً.
فحلف له الرجل على ذلك وانصرف.
فلما كان بعد شهور جاءنا مسلماً على أبي عمر بمركوب حسن وثياب فاخرة، فأخذ يشكر أبا عمر ويدعو له، وهو لا يعرفه، وقد ذكرته أنا.
فقال له أبو عمر: يا هذا على أي شيء تشكرني؟.
فقال: أنا صاحب الرقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري، الذي وصلني القاضي بماله، وأحياني بجاهه، وقد صرفني أبو القاسم طول هذه المدة، فبلغت حالي إلى هذا، وأنا أدعو الله للقاضي أبداً.
فقال أبو عمر: الحمد لله على حسن التوفيق.

أراد أن يزور على رجل مرتعش اليد
حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، قال: رأيت صديقاً لي على بعض زواريق الجسر ببغداد، جالساً في يوم ريح شديد، وهو يكتب.
فقلت ويحك في مثل هذا الموضع، ومثل هذا الوقت؟.
فقال: أريد أن أزور على رجل مرتعش، ويدي لا تساعدني، فتعمدت الجلوس ها هنا لتحرك الزورق بالموج في هذه الريح، فيجيء خطي مرتعشاً، فيشبه خطه.
الوزير ابن مقلة يزور عليه أخوه
حدثني أبو الحسين، قال: حضرت أبا علي بن مقلة، وقد عرضت عليه، وهو وزير، عدة تسبيبات، وتوقيعات، قد زورها عليه أخوه أبو عبد الله، وارتفق عليها، وكان أبو عبد الله حاضراً، فاستقبح أن يفضحه فيها.
فلما كثرت عليه، التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، قد خففت عنا، حتى ثقلت، وخشينا أن نثقل عليك، فأحب أن تخفف عن نفسك هذا التعب.
قال: فضحك أبو عبد الله، وقال السمع والطاعة للوزير.
عمران المملكة أساس صلاح الرعية
حدثني القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي قال: استتر في دورنا عند أبي، أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن حنزابة، وكنت حدثاً، فكان يستدعيني دائماً، ونتحدث، وألعب معه الشطرنج.
فقال لي يوماً، وقد جرى حديث نقصان دخل المقتدر عن خرجه: نظرت، فإذا دخل المملكة كذا وكذا، وخرجها كذا وكذا، وإذا دخل ضياع عمي أبي الحسن، وما قبض معها من ضياعنا، كان في وقت قبضها، كذا وكذا، وهو اليوم الثلث ذلك، ولو مكنت من ضياعها وحدها، لعمرتها، فعاد ارتفاعها إلى ما كان عليه، فوفر ما بين الإرتفاعين يعمر الدنيا كلها، وإنما أملاكنا شقص يسير من الأرض، فكيف لو كان للدنيا من يهتم بعمارة جميعها؟.
قال القاضي أبو الحسن: وما سمعت أعظم من هذا، وذلك قبل تقلد أبي الفتح الوزارة.
وكان أبو الحسن، يحفظ مبلغ المال، وأخبرني به، فذهب عني.
الوزير ابن الفرات يحسن خياط
حدثني أبي رضي الله عنه، قال: بلغني أن أبا الحسن بن الفرات، اجتاز وهو متوسط الحال، في بعض الدروب الضيقة راكباً، وبين يديه غلامان، فسال عليه ميزاب من دار فصيره آية ونكالاً.
فقال لأحد غلمانه: اطلب لي موضعاً أدخله.
فدق على قوم بابهم، وكان صاحب الدار خياطاً، فلما رأى شارة أبي الحسن، وهيأته، أعظمه وخدمه، وأدخله وأجلسه، وأخذ ثيابه فدفعها إلى زوجته لتغسلها، وجلس يحادثه، وبادر الغلام الآخر إلى دار أبي الحسن فجاءه بخلعه ثياب قبل أن يفرغ من غسل ذلك القماش، فلبسها، وأمر بترك تلك الثياب على القوم، وانصرف.
وضرب الدهر ضربه، وولي الوزارة الأولة.
فاجتاز يوماً راكباً في موكب عظيم، فقام الناس ينظرونه، وقام الخياط، فلما رآه عرفه، فقال لأهل سوقه: إن لي مع هذا الرجل قصة طريفة، وأخبرهم بها.
فقالوا له: إنه كريم، ولو قصدته لانتفعت.
فلما كان من غد قصده الخياط، فصادف مصيره إلى بابه ركوب ابن الفرات، فدعا له، وقال: لي بالوزير حرمة.
فتأمله ابن الفرات، فعرفه، وتذكر قصته، فأمر بإجلاسه.
فلما عاد استحضره وسأله عن خبره، وخبر زوجته، وأولاده.
فأخبره ووصف خلة.
فقال له: أيما أحب إليك الجائزة أو الخدمة لنا؟ فقال: بل خدمة الوزير.
فأمر بألف دينار، وأن يجعل رئيساً على الخياطين في داره، ففعل به ذلك.
فما مضت عليه مديدة حتى صار صاحب عشرات ألوف.
الوزير المهلبي يحسن إلى كواز

وقد شاهدت أنا، قريباً من هذا، من الوزير أبي محمد، الحسن بن محمد المهلبي رحمه الله، وذلك: إن أبا محمد عبد الرحمن بن نصر السكري البصري، صاحب البريديين، وتقلد شرطة البصرة دفعات، دعاة في وزارته، فجاء إليه إلى داره في شارع المربد.
فلما أراد الرجوع من داره إلى مسماران - وكان أبو محمد المهلبي رحمه الله، قد نزلها - استقبح الإجتياز بالجامع مع أنه شارب، فعدل في الأزقة إلى سيحان، ليركب منها طيارة.
فلما بلغ حيث تعمل الكيزان، حقنه بوله، فدخل دار قوم صنعاء، فبال، فدعا له صاحب الدار.
فقال له: هذه الدار لك؟ قال: لا، هي بأجرة معي.
قال:كم أجرتها؟ قال: خمسة دراهم في الشهر.
قال: وكم تساوي؟ قال خمسمائة درهم.
قال: وكم رأس مالك في عمل الكيزان؟ قال: مائة درهم.
فدفع إليه في الحال ألف درهم، وقال: اشتر منها الدار، ورد الباقي في رأس مالك، وركب.

من مكارم أخلاق الوزير أبي محمد المهلبي
وكان رحمه الله، من بقايا الكرام، ولقد شاهدت له مجلساً في شهر رمضان، سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، كأنه من المجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده، وذلك: إن كاتبه على ديوان السواد، أبو الحسن عبد العزيز بن إبراهيم، المعروف بابن حاجب النعمان، سقط من روشن في دار أبي محمد على دجلة، فمات في اليوم الثامن من السقطة.
فجزع عليه أبو محمد، وجاء من غد إلى أولاده، لأنهم كانوا دفنوه عشياً، وكنت معه وحضر، وقد أعدوا له دستاً يجلس فيه، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه، فعزاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه.
ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله: قد وليتك موضع أبيك، ووردت إليك عمله، ووليت أخاك الحسين، وكان هذا صبياً سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها كتبة حضرة ابني أبي الغنائم، وأجريت عليه كذا وكذا - رزقاً كثيراً، وقد ذهب عني - فليلزمه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلم بتعلمه، وينشأ بنشأته، فيجب حقه عليه.
ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت، خليفته على الوزارة: اكتب عهداً لأبي عبد الله، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله، مستأجراً منه شيئاً، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة، فإن أكثر نعمته، إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي، واسأله، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.
ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف الميت: إن ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم إنه يجري على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئاً كثيراً في كل شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه، فقم إلى ابنه أبي محمد المادرائي - يعني زوجة المتوفى - فعزها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهم وعلى غيرهن، من الرجال وضعفاء حاشيته.
وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة، فأطلقها عاجلاً لشهر، وتقدم بإطلاقها على الإدرار، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسراً في الشهر، وعملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد.
فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحساناً لذلك.
ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضراً المجلس، وقد أجهش بالبكاء، وأسرف في شكر أبي محمد، وتفريطه، على قلة كلامه إلا فيما يعنيه، وعلى سوء رأيه - كان - في أبي محمد،، ولكن الفضل بهره، فلم يمنعه ما بينهما، أن نطق بالحق.
وقلت أنا، لأبي محمد في ذلك اليوم: لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات، لطاب لكل ذي ذيل طويل، في أيام سيدنا الوزير أطال الله بقاءه، فإن هذا الفعل، تاريخ الكرم، وغاية تسامي الهمم وبه يتحقق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد، والماضيين من الكرماء الأفراد، وغير ذلك، مما حضرني في الحال.
ثم نهض أبو محمد رحمه الله، فارتفعت الضجة من النساء، والرجال، وأهل الدار، والشارع، بالدعاء له، والشكر.
الوزير المهلبي وأبو عبد الله الأزدي الموصلي
حدثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي:إن أبا عبد الله، والده، رحمه الله، توسط بين أبي محمد المهلبي، وناصر الدولة، في مال يحمله إلى معز الدولة، من صلح الموصل، فأنفق من المال أربعين ألف درهم، لإضافة لحقته.

وسبب عليه المهلبي بالمال كاملاً، وهو لا يعرف الخبر، وكانت بينهما مودة وأنس، فصحح أبو عبد الله الموجود، ودافع بما أنفق.
وجلس يوماً في داره ليحتال العوض ويرده، فجاءته رقعة أبي محمد يدعوه للشرب، فدافع، فركب، فأكلا، وجلسا للشراب.
فقال له أبو علي الأنباري: أرى فيك يا سيدي أبا عبد الله فتوراً، وكانت بينهما مودة، وأبو علي - إذ ذاك - يخلف الوزير أبا محمد على الوزارة وعنده ابنته، فحدثه أبو عبد الله بالحديث، وإن قلبه مشغول، إلى أن يتم له العوض ويرده، وسأله كتمان ذلك.
وتبين المهلبي في أبي عبد الله ذلك الفتور، فسأله عنه فورى عن الصدق وكبرت نفسه عن إخباره بذلك، فأمسك عنه، وقام أبو عبد الله إلى البول، فقال أبو محمد لأبي علي الأنباري: أما ترى فتور أبي عبد الله وهو صديقك، وقد رأيته يسارك، وأطنه قد خرج إليك بسبب كسله، فما هو؟.
فحدثه أبو علي بالحديث.
فلما عاد قال أبو محمد: يا أبا عبد الله، أيدك الله، ما أنصفتني في المودة، ولا أنصفت نفسك في السياسة، تهتم بسبب أربعين ألف درهم، أملك إسقاطها عنك، فتكاتمني ذلك، حتى كأنها عليك لغريب، أو بحق واجب.
وأخذ أبو عبد الله يجحد، ويقطب في وجه أبي علي، ثم أخرج سره.
فقال المهلبي، لأبي علي يجب الساعة أن ينفذ إلى الجهبذ، أن يكتب له - أيده الله - روزاً بها، وأن تجعل أنت لها وجوهاً في الخرج، وتولد بها نفقات واجبات - كما تعلم - على الأمير معز الدولة، لتسقط عن أبي عبد الله - أيده الله - ولا نغرهما نحن.
قال: فاستدعي الجهبذ وأخذ روزه، وسلمه إليه.
ثم قال له المهلبي: أي شيء ضرك أو ضرني من هذا، سقط عنك هم وثقل، وعني بقضائي بعض حقك، وخرج المال من مال الأمير، عد الآن إلى شربنا.
فما برح ليلته تلك من عنده، وسقط المال عنه.

عطايا الوزير المهلبي متواصلة
وقد أخبرني جماعة من ندماء أبي محمد: إنه فرق في ليلة من الليالي عليهم، وعلى جماعة كانوا حضوراً معهم، من مغنين وملهين وغير ذلك، من الدراهم والثياب، ما يبلغ قيمة الجميع خمسة آلاف دينار.
ورأيته أنا، غير مرة، قد وهب للجهني ولأبي الفرج الأصبهاني خمسة آلاف درهم وأربعة آلاف درهم، ولغيرهما دائماً.
الوزير القاسم بن عبيد الله
يأمر أستاذه بالارتفاق: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني أبو إسحق إبراهيم بن السري الزجاج، قال: كنت أؤدب القاسم بن عبيد الله، وأقول له: إن بلغك الله مبلغ أبيك، ووليت الوزارة، ماذا تصنع بي؟ فيقول: ما أحببت.
فأقول له: تعطيني عشرين ألف دينار، وكانت غاية أمنيتي، فيقول: نعم.
فما مضت إلا سنون، حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ملازمتي له، وقد صرت نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد، ثم هبته.
فلما كان في اليوم الثالث من وزارته، قال لي: يا أبا إسحق، لم أرك أذكرتني بالنذر؟.
فقلت: عولت على رعاية الوزير أيده الله، وأنه لا يحتاج إلى إذكار لنذر عليه، في أمر خادم واجب الحق.
فقال لي: إنه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد، ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث، فاسمح لي بأخذه متفرقاً.
فقلت: يا سيدي، أفعل.
فقال: اجلس للناس، وخذ رقاعهم، للحوائج الكبار، واستجعل عليها، ولا تمتنع عن مسألتي شيئاً تخاطب فيه، صحيحاً كان أو محالاً، إلى أن يحصل لك مال النذر.
قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه، كل يوم، رقاعاً، فيوقع فيها لي، وربما قال: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول: كذا وكذا، فيقول: غبنت، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد، فأرجع القوم، ولا أزال أماكنهم، ويزيدوني حتى أبلغ الحد الذي رسمه لي.
قال: وعرضت عليه شيئاً عظيماً، فحصلت عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها، في مديدة.
فقال لي بعد شهور: يا أبا إسحق، حصل مال النذر؟.
فقلت: لا، فسكت.
وظللت أعرض، فيسألني في كل شهر أو نحوه، هل حصل المال؟ فأقول: لا، خوفاً من انقطاع الكسب، إلى أن حصل عندي ضعف ذلك المال.
وسألني يوماً، فاستحييت من الكذب المتصل، فقلت: قد حصل ذلك ببركة الوزير.
فقال: فرجت والله عني، فقد كنت مشغول القلب، إلى أن يحصل لك.
قال: ثم أخذ الدواة، فوقع لي إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئاً، ولم أدر كيف يقع منه.

فلما كان من غد جئته، وجلست على رسمي، فأومأ إلي، أن هات ما معك، يستدعي مني الرقاع على الرسم.
فقلت: ما أخذت رقعة من أحد، لأن النذر قد وقع الوفاء به، ولم أدر كيف أقع من الوزير.
فقال: سبحان الله، أتراني كنت أقطع شيئاً قد صار لك عادة، وعلم به الناس، وصارت لك بمنزلة عندهم وجاه، وغدو ورواح إلى بابك، ولا يعلم سبب إنقطاعه، فيظن ذلك لضعف جاهك عندي، أو تغير رتبتك؟ أعرض علي على رسمك، وخذ بلا حساب.
فقبلت يده، وباكرته من غد بالرقاع، وكنت أعرض عليه كل يوم شيئاً إلى أن مات، وقد تأثلت حالي وكبرت.

الوزير عبيد الله بن سليمان
يبيح جزءاً من مال الدولة لأحد صنائعه: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني شيخ من شيوخنا، ذكره هو، وقد غاب عني إسمه، قال: حدثني أبو عبد الله بن أبي عوف، قال: استتر عندي، عبيد الله بن سليمان، فدخلت إليه يوماً، في حجرة كنت أفردتها له من داري، فقام إلي، فقلت له ممازحاً كما جرى علي لساني: يا سيدي اخبأ لي هذا، إلى وقت انتفع به فيه.
قال: فلما كان بعد مدة، انتقل من عندي، فما مضت أيام حتى ولي الوزارة.
فقال لي أهلي: لو قصدته، وكانت حالي إذ ذاك صغيرة.
فقلت لهم: لا أفعل، أنا في ستر، وقصدي له الآن كأنه اقتضاء لثمن معروف أسديته إليه، وما أرضى لنفسي بهذا، ولو كان لي عنده خير لابتدأني به، فبت ليلتي تلك مفكراً، وكان هذا يوم الخلع.
فلما كان في السحر جاءني فرانقه برقعة بخطه، يعاتبني على تأخري عنه، ويستدعيني.
فصرت إليه، فإذا هو جالس، والخلق عنده، فلما صرت مع دسته، قام إلي قياماً تاماً، وعانقني، وقال لي في أذني: هذا وقت تنتفع فيه بقيامي لك، وجلس، وأجلسني معه على طرف الدست، فقبلت يده، وهنأته ودعوت له.
ومضت ساعة، فإذا قد استدعاه المعتضد، فقام، وأمرني أن لا أبرح.
فجلست، وامتدت العيون إلي، وخوطبت في الوقت، بأجل خطاب، وعظمت.
ثم عاد عبيد الله ضاحكاً، وأخذ بيدي إلى دار الخلوة، فقال: ويحك إن الخليفة الساعة استدعاني بسببك، وذلك أنه كوتب بخبر قيامي لك في مجلس الوزارة، فلما استدعاني الآن بدأ لينكر علي وقال: تبتذل مجلس الوزارة بالقيام لتاجر؟ ولو كان هذا لصاحب طرف كان محظوراً، أو ولي عهد كان كثيراً، وأخذ يتحاور في ذلك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، لم يذهب عني حق المجلس، وتوفية الرتبة حقها، ولكن لي عذراً، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسمعه، ثم ينفذ حكمه في، وأخبرته بخبري معك وقت استتاري عندك، فقال: أما الآن، فقد عذرتك فلا تعاود، فانصرف.
ثم قال لي عبيد الله: يا أبا عبد الله إني قد شهرتك شهرة، إن لم تكن معك مائة ألف دينار معدة للنكبة، هلكت، فيجب أن نحصلها لك لهذه الحال فقط، ثم نحصل لك نعمة بعدها، تسعك وعقبك.
فقلت: أنا عبد الوزير، وخادمه، ومؤمله.
فقال: هاتم فلاناً الكاتب، فجاء.
فقال: أحضر التجار الساعة، وتقص عليهم في تسعير مائة ألف كر من غلات السلطان بالسواد بما يساوي، وعرفني.
فخرج، وعاد بعد ساعة، وقال: قد قررت ذلك معهم.
فقال له: بع على أبي عبد الله، هذه المائة ألف كر، بنقصان دينار واحد مما قررت به السعر مع التجار، وبعه له عليهم بالسعر المقرر معهم، وطالبهم بأن يعجلوا له فضل ما بين السعرين اليوم، وأخرهم بالثمن إلى أن يتسلموا الغلات، واكتب إلى النواحي بتقبيضهم إياها.
قال: ففعل ذلك، فقمت عن المجلس، وقد وصل إلى مائة ألف دينار في بعض يوم، وما عملت شيئاً.
ثم قال: اجعل هذه أصلاً لنعمتك، ومعدة للنكبة، ولا يسألنك أحد من الخلق شيئاً إلا أخذت رقعته، وواقفته على أجرة لك عليها، وخاطبتني.
قال: فكنت أعرض عليه في كل يوم ما يصل إلي فيه ألوف دنانير، وأتوسط الأمور الكبار، وأداخل في المكاسب الجليلة، حتى بلغت النعمة إلى هذا الحد.
وكنت ربما عرضت عليه رقعة، فيقول لي: كم ضمن لك على هذه؟ فأقول: كذا وكذا.
فيقول: هذا غلط، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد.
فأقول له: إني أستحي.
فيقول: عرفهم أني لا أقضي لك ذلك إلا بهذا القدر، وأني رسمت لك هذا.
قال: فأرجع، فأستزيد ما يقوله، فأزاد.
الوزير عبيد الله بن سليمان

ورقاع إسماعيل القاضي: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر، يقول: عرض إسماعيل القاضي، وأنا معه، على عبيد الله بن سليمان، رقاعاً في حوائج الناس، فوقع فيها.
فعرض أخرى، وخشي أن يكون قد ثقل عليه، فقال له: إن جاز أن يتطول الوزير أعزه الله بهذا، فوقع له.
فعرض أخرى، وقال: إن أمكن الوزير أن يجيب إلى هذا، فوقع، ثم عرض أخرى، وقال: إن سهل على الوزير أن يفعل ذلك، فوقع له، فعرض أخرى، وقال شيئاً من هذا الجنس.
فقال: له عبيد الله: يا أبا إسحق، كم تقول إن أمكن؟ وإن جاز؟ وإن سهل؟ من قال لك إنه يجلس هذا المجلس، ثم يتعذر عليه فعل شيء على وجه الأرض من الأمور، فقد كذبك، هات رقاعك كلها، في موضع واحد.
قال: فأخرجها إسماعيل من كمه، وطرحها بحضرته، فوقع فيها، وكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام نحو ثمانين رقعة.

الوزير ابن مقلة
يتبرم برقاع ذوي الحاجات: حدثني الحسين بن الحسن الواثقي، قال: كنت أرى دائماً، أبا محمد جعفر بن ورقاء، يعرض على أبي علي ابن مقلة، في وزارته، الرقاع الكثيرة، في حوائج الناس، في مجالس حفلة وخلوته، فربما تجاوز ما يعرضه في يوم، مائة رقعة.
فعرض عليه يوماً، في مجلس خال، شيئاً كثيراً، فضجر أبو علي، وقال له: إلى كم يا أبا محمد؟ فغضب جعفر، وقال: أيد الله الوزير، إن كان فيها شيء لي فخرقه، إنما أنت الدنيا ونحن طرق إليك، وعلى بابك الأرملة، والضعيف، وابن السبيل، والفقير، ومن لا يصل إليك، فإذا سألونا سألناك، فإن صعب هذا عليك، أمرنا الوزير - أيده الله - أن لا يعرض عليه شيئاً، ونعرف الناس ثقل حوائجهم عليه، وضعف جاهنا عنده، ليعذرونا.
فقال له أبو علي: لم أذهب حيث ذهبت يا أبا محمد، وإنما أردت أن تكون هذه الرقاع الكثيرة في مجلسين، أو مجلس يحضر فيه الكتاب فيخففون عني بالتوقيعات فيها، ولو كانت كلها حوائج تخصك لقضيتها، وكان سروري بذلك أعظم، هاتها.
قال: فأخذها جميعها، ووقع له فيها بما التمس أرباب الرقاع.
فشكره جعفر، وقبل يده، وانصرف.
الوزير علي بن عيسى
ورقاع أبي بكر الشافعي: حدثني الفضل بن أحمد الحياني، قال: قال لي أبو بكر الشافعي صاحب علي بن عيسى: لما أفلتنا من مصادرة المحسن بن الفرات، بعد ما جرى علي من مكروهه، ومصادرته، وإيقاعه بي بسبب صحبتي لعلي بن عيسى، وأفضى الأمر إلى أبي الحسن علي بن عيسى، أردت الانتفاع بأمور أتكلم فيها، أخلف بما أخذه منها، بعض ما صودرت عليه، فأخذت رقاعاً كثيرة للناس، وكنت أعرضها على أبي الحسين فيوقع فيها.
فعرضت عليه يوماً شيئاً كثيراً، فضجر مني، فقلت: أيها الوزير، إذا كان حظنا من أعدائك، في أيام نكبتك الصفع، ومنك، في أيام ولايتك، المنع، فمتى - ليت شعري - وقت النفع؟ قال: فضحك، ورقع لي في جميعها، وما تضجر من شيء أعرضه عليه بعد ذلك.
الوزير علي بن عيسى
ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي: حدثني أبو السري، عمر بن محمد القارىء، قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، قال: قال لي أبي: عرض علي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، في بعض وزاراتي، رقعة التمس فيها محالاً، وقبل يدي، فعملت على إجابته إليه، وتركت الرقعة بحضرتي، أتفكر كيف أعمل ذلك من غير عتب.
وعرض لي رأي الركوب، فنهضت.
فقبض محمد بن الحسن على يدي، وقال: أنا نفي من العباس إن تركت الوزير يركب، إلا بعد أن يوقع لي في رقعتي، أو يقبل يدي كما قبلت يده.
قال: فوقعت له قائماً، وعجبت من سوء أدبه، وعظم وقاحته.
الوزير أبو محمد المهلبي
ومحمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي: ولقد شاهدت أبا بكر محمد بن الحسن، هذا، في سنة خمسين وثلثمائة، وقد تقلبت الأيام به، وبأهل بيته، بحضرة أبي محمد المهلبي، وقد كان العيارون ثاروا ببغداد، وأوقعوا فتناً عظيمة، كان أصلها بنو هاشم، وغلقوا الجامع بالمدينة فلم تصل فيه تلك الجمعة.
وكان سبب ذلك، عربدة وقعت بين رجل عباسي وبين رجل علوي، على نبيذ، في خندق طاهر، فقتل العلوي، وثار أهله به، وثارت الفتنة ودخلت العامة فيها، وعظم الأمر، حتى أجلس الديلم في الأرباع، وكان شيئاً هائلاً.

ولم تسكن الفتنة، فقبض أبو محمد، على أكثر بني العباس، الوجوه والمستورين، والعيارين منهم والذعار، حتى قبض في جملتهم على عدة قضاة وشهود هاشميين وصلحاء، وكان ممن قبض عليه محمد بن الحسن ابن عبد العزيز.
وجلس لهم الوزير أبو محمد، يوماً، ليناظرهم، وسامهم أن يسموا له العيارين منهم، والأحداث وحملة السكاكين، ليقبض عليهم، ويفرج عن الباقين، وأن يكفل منه أهل الصلاح، ولأهل الطلاح، ويأخذون على أيديهم، لتطفأ نائرة الفتنة.
وكان القاضي أبو الحسن، محمد بن صالح الهاشمي، حاضراً، فأخذ يتكلم بكلام سديد، في دفع هذا، وترقيق المهلبي، ويرفق به.
فاعترض ابن عبد العزيز الخطاب، وتكلم بكلام فيه حراشة وجفاء وخشونة.
فسمعت أبو محمد يقول له: يا ماص كذا وكذا، ما تدع جهلك، والخيوط التي في رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً، وأعرف حمقك، وحمق أبيك، وتشنيعك لمجالس الوزراء، وشهوتك أن تقول: قال الوزير، فقلت له، وما تظن إلا أن المقتدر على السرير، وأنا أحد وزرائه، ولا تعلم ان صاحب السرير اليوم، هو الأمير معز الدولة الديلمي، يرى أن في سفك دمك قربة إلى الله تعالى، وأن وزنك عنده كوزن الكلب، يا غلمان جروا برجله.
فجرت رجله ونحن حاضرون، فرأيت قلنسوة كانت على رأسه، وقد سقطت.
ثم قال: طبقوا عليه زورقاً، وانفوه إلى عمان، فأجلس في الزورق، وحدر.
فقبلت الجماعة يده، وراسله الخليفة المطيع لله في أمره، ولم تزل المراسلات، إلى أن عفا عنه، وألزمه بيته، وأخذ خط أهله بجميع ما كانوا امتنعوا منه، مما سامهم إياه، وتلقط خلقاً من أحداث الهاشميين، وغيرهم من العامة، وأهل الذعارة والعصبية، فجعلهم في زواريق، وطبقها عليهم، وسمرها، وأنفذها إلى بصنى وبيروذ، فحبسهم في حبوس ضيقة هناك، ودور تجري مجرى القلاع، فكانوا فيها إلى أن مات أبو محمد، ومات منهم خلق في الحبس، ثم أطلق بقيتهم، على قلتها، بعد موته بسنين، وزالت الفتنة إلى الآن.

لو سلم من العشق أحد
لسلم منه أبو خازم القاضي: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاة من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر جيد حسن، واتساع تام في الأدب، رواية له وحفظ، وكتب مصنفة فيه، قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج، قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله يشرب، وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب.
أدل فأكرم به من مدل ... ومن ظالم لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
فأدت فيه صنعة حسنة، فطرب القاسم عليه طرباً شديداً، واستحسن الصنعة والشعر، وأفرط في وصف الشعر.
فقالت بدعة: يا مولاي، إن لهذا الشعر خبراً أحسن منه.
قال: ما هو؟ قالت: هو لأبي خازم القاضي.
قال: فعجبنا من ذلك، مع شدة تقشف أبي خازم، وبغضه وورعه، وتقبضه.
فقال لي الوزير: يا الله يا أبا إسحاق، بكر إلى أبي خازم، وسله عن هذا الشعر وسببه.
فباكرته، وجلست حتى خلا وجهه، ولم يبق إلا رجل بزي القضاة عليه قلنسوة، فقلت له: شيء أقوله على خلوة.
فقال: قل، فليس هذا ممن أكتم.
فقصصت عليه الخبر، وسألته عن الشعر والسبب.
فتبسم، وقال: هذا شيء كان في الحداثة، قلته في والدة هذا - وأومأ إلى القاضي الجالس، فإذا هو ابنه - وكنت إليها مائلاً، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، أما الآن فلا عهد لي بمثله منذ سنين، وما عملت شعراً منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى.
قام: فوجم الفتى، وخجل، حتى ارفض عرقاً.
وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الابن، وقال: لو سلم من العشق أحد، لكان أبو خازم مع بغضه.
وكنا نتعاود ذلك زماناً.
علوي يفتخر بنفسه
أنشدني أبو إسحاق، إبراهيم بن علي النصيبيني المتكلم، وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء وغيرهما، قالوا: أنشدنا أبو عبد الله ابن الأبيض العلوي بالشام، لنفسه:
وانا ابن معتلج البطاح تضمني ... كالدر في أصداف بحر زاخر
ينشق عني ركنها وحطيمها ... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها ... خلفي ومثل ظبائهن مجاوري
وذكر أبو الحسن السلامي: إن أبا الحسن الرامي مر على علي بن خلف القطان البغدادي، وأنشده هذه الأبيات لنفسه.
ابن قناش الجوهري يصف دجلة

أنشدني أبو جعفر بن عبيد الله الطائي البغدادي، المعروف بابن قناش الجوهري لنفسه:
أنا ظام فاسقينها ... إنني حلف اختيال
ما ترى دجلة كالس ... احب أذيال الدلال
وهي تزهي بقصور ... عن يمين وشمال
وبماء قد حكى المد ... به ظهر غزال

في هجاء مغن طنبوري
أنشدني أبو الحسن، محمد بن عبد الواحد، في ابن طرخان المغنى الطنبوري، لنفسه، وله اتساع في الأدب تام:
قل لابن طرخان أما تستحي ... تقرن تطفيلك بالباس
يا أخرج الناس من إيقاعه ... وأدخل الناس إلى الناس
وقال:
يا من يصيح بحلق ما له طبقه ... ولا يوافق زيراً لان أو خرقه
فارقت بينك والإيقاع في قرن ... فأنت أطفل من كلب على مرقه
فإن دعيت ففي الأحيان عن غلط ... وإن حظيت بشيء فهو من صدقه.
للكاتب بشر بن هارون
في هجاء أحد خلفاء القضاة ببغداد: أنشدني أبو نصر بشر بن هارون، الكاتب النصراني البغدادي، لنفسه، في أبي رفاعة بن كامل، أحد خلفاء القضاة ببغداد، على بعض سوادها:
قضى شعري على القاضي بحكم ... أجاب إليه مصفوعاً مذالاً
ولو لم يستجب لنتفت منه ... سبالاً إن وجدت له سبالاً
ونتف سباله شيء محال ... لأن الحلق صيره محالاً.
بشر بن هارون الكاتب
يشكو من رئيسين صرف أحدهما بالآخر: وأنشدني لنفسه في شعبان سنة تسع وخمسين وثلثمائة، في رئيسين صرف أحدهما بالآخر، وإنما كتبتهما إذ ذاك، لأنهما كانا حينئذ قد روهما في أبي الفضل الشيرازي لما صرف عن الوزارة بأبي الفرج بن فسانجس:
مضى من كان يعطينا قليلاً ... ووافى من يشح على القليل
وأحسب أن سيملكنا مكد ... متى اطرد القياس على الدليل
فقل للفاطمي لقد تمادت ... أناتك في الحلول وفي الرحيل
فحث السير عل الله يهدي ... شفاء منك للبلد العليل.
أبو نصر البنص
في مجلس سيف الدولة، يعلل سبب تسميته بالبنص: أخبرني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش، إنه كان بحضرة سيف الدولة، وقد كان من ندمائه، قال: كان يحضر معنا أبو نصر البنص، وكان هذا رجلاً من أهل نيسابور، أقام ببغداد قطعة من أيام المقتدر، وبعدها إلى أيام الراضي، وكان من أصحابنا في المذهبين، يعني في الفقه مذهب أبي حنيفة، وفي الكلام مذهب أهل العدل والتوحيد، وكان مشهوراً بالطيبة، والخلاعة، وخفة الروح، وحسن المحاضرة، مع عفة وستر، وتقلد الحكم في عدة نواح بالشام.
فقيل له يوماً بحضرة سيف الدولة، لم لقبت بالبنص؟ قال: ما هذا لقب، إنما هو اشتقاق من كنيتي، كما إننا لو أردنا أن نشتق من أبي علي مثل هذا، وأومأ إلى ابن البازيار، لقلنا ألبعل، ولو اشتققنا من أبي الحسن مثل هذا، وأومأ إلى سيف الدولة، لقلنا ألبحس.
فضحك منه، ولم ينكر عليه.
أبو نصر البنص
في مجلس أبي بكر بن دريد: وخبرني ببغداد مجلس أبي بكر بن دريد، وأبو نصر هذا يقرأ عليه قصيدته التي أولها:
أماطت لثاماً عن أقاحي الدمائث ... بمثل أساريع الحقوف العثاعث
إلى أن بلغ إلى قوله:
أنسوا ضباً بجانب كدية ... أحاطو على حافتها بالربائث
فقطع القراءة، وقال: يا أبا بكر، أعزك الله، ما الربائث؟ قال ابن دريد: العرب تسمي الحراب العراض الحدائد، ربائث.
فقال له البنص: أخطأت يا أبا بكر أعزك الله.
فعجبنا من جزأته على تخطئة أبي بكر في العلم، وتشوفنا إلى ما يجري.
فقال له أبو بكر، وكان وطيء الخلق: فما هي يا أبا نصر، أعزك الله؟ قال: جمع ربيثاء، هذه التي تقدم في السكرجات.
وعاد يقرئنا في القصيد، محتداً، فضحكنا منه.
أبو نصر البنص
وصاحب الشرطة: حدثني أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر الخراساني، القاضي الفقيه، قال: قال لي أبو نصر البنص هذا: كنت في بعض المدن، وأنا غريب، فنزلت في خان، فكان يختلف إلي أحداث ورجال، أقرئهم الفقه في غرفتي، وإذا انقضى الدرس، لعبنا ومزحنا.

فظن أهل الخان، أن اجتماعهم عندي، مع ما يسمعونه من المزح، لفساد، فاستعدوا علي إلى صاحب الشرطة، وقالوا إنني قواد.
فأحضرت، فلما وقفت بين يديه، رأيت على رأسه غلاماً أمرد حسن الوجه قائماً، فأنعظت من شهوته، فقال لي الوالي: أنت قواد؟ قال: وكنت بلا سراويل، فكشفت عن أيري، وقلت: هذا، أصلحك الله، أير قواد؟ فضحك، وقال: لا، وفرق القوم عني، وأخذني لعشرته، فكنت أختلف إليه، مدة كوني في البلد، وأعاشره.

بين الأمير معز الدولة
ووزيره أبي جعفر الصيمري: حدثني أبو حامد القاضي، قال: كنت قائماً بين يدي معز الدولة، فقال لأبي جعفر الصيمري وزيره، بالفارسية: يا أبا جعفر، أريد الساعة خمسمائة ألف دينار، لمهم لا يجوز تأخيره.
فقال له الصيمري: أيها الأمير، رد ذلك، فإني أيضاً أريد مثله فقال له: فإذا كنت أنت وزيري، فممن أريد هذا إلا منك؟ فقال له الصيمري: فإذا لم يكن في الدخل فضل لذلك عن الخرج، فمن أين أجيئك به؟ قال: فحرد عليه معز الدولة وقال: الساعة والله أحبسك في الكنيف، حتى تجيء بذلك.
فقال: إذا حبستني في الكنيف، خريت لك نقرة بهذا المال؟ فضحك منه، وأمسك عنه.
المدائني يتماجن على شيخ صوفي
حدثني أحمد بن محمد المدائني، قال: وقفت في جامع المدينة ببغداد على حلقة صوفية، يتجاورون على الخطرات والهواجس، ومسائل تشبه الوسواس، لم أفهمها.
وخطر لي أن أمجن بهم، فقلت: أيها الشيخ المصدر،مسألة.
فقال: هات.
فقلت: أخبرني إذا كنت شيخاً في معناك، حلساً في ذات نفسك، فأصاب يافوخك تقطيع بعضب خزري على سبيل العلم، وكنت تحت الإرادة، هل يضر أوصافك شيء، مع تعلقك بخبل القدرة، يا بطال؟ قال: فوقع لمن حوله إنها مسألة، وأخذوا يتعاطون الجواب.
وفطن الشيخ، فخفت أن يأمرهم بي، فانسللت.
أبو أحمد الحارثي
وصوفي يترنم بالرباعيات: حضرني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي، وعندي صوفي يترنم بشيء من الرباعيات، فلم يستطبه أبو أحمد.
فقال له على البديهة: يا أخي لا أقطع حديثك إلا بخير.
الشافعي وغلام الهراس
حدثني الفضل بن أحمد الحياني، قال: قال لي الشافعي، صاحب علي ابن عيسى: علق مرة بلجام مركوبي، غلام هراس، بيده غضارة هريسة ينادي عليها، وشالها إلى أنفي، وقال: جمع اللوز والغنم، ثم نادى يمينه.
فقلت أعزك الله، هذا وجهي إلى الوزير، أخبره بهذا الخبر، فإن رأيت أن تطلقني، فعلت.
أبو محمد الواسطي
والمغنية التي يهواها: حدثني أبو أحمد الحارثي، قال: كان عندنا بواسط، رجل متخلف موسر، يقال له: أبو محمد بن أبي أيوب، وكان يعاشرنا بمغنية يهواها، وكان من غنائها، صوت أوله:
إن الخليط أجد منتقله ... ولو شك بين حملت إبله.
وكانت تغني فيه لحناً صعباً حسناً، لا يفهمه أبو محمد لتخلفه، فاقترحه يوماً عليها، فقال: بالله يا ستي غني لي: إني خريت فجئت أنتقله.
فقالت: ويل لي، أنا أغني شيء من هذا؟ ففطنت لما يزيد، فقلت لها: إنه يريد أن تغني له: إن الخليط أجد منتقله.
فقالت له: قطع الله ظهرك، أين ذا من هذا؟ وغنت الصوت.
وكان غنائها: خليلي هيا نصطبح بسواد.
فقال لها يوماً: بالله يا ستي، غني: خليلي هيا نصطبح بسماد.
فقالت له: إذا عزمت على هذا، فوحدك.
قال: ودخلت إلينا يوماً على غفلة، ونحن نصافعه ويصافعنا بالمخاد، فاستحيا، وسألنا أن ندعه، فتركناه.
فلما، جلسا على الشرب، طلب منها صوتاً له عليها، وهو:
أبيني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تمادياً.
فأعطته مخدة.
أبو الفرج الببغاء يمدح سيف الدولة
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي النصيبيني الكاتب المعروف بالببغاء، قصيدة له في سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بني كلاب، وعفوه عنهم:
إذا استلك الجانون أغمدك الحلم ... وإن كفك الإبقاء أنهضك العزم.
وهي حقيقة بأن تورد كلها، ولكني اخترت من شعره، ما يصلح للمكاتبة في الحوادث، أو الأمتثال، أو معنى لم يسبق إليه، فتركت أكثر محاسن شعره، وحسن نظمه، وبلاغته، وعذوبة كلامه، وأكثر إحسانه، موكولاً إلى من ينظر في ديوانه.
ومن هذه القصيدة، مثل:

ومن لم يؤدبه لفرط عتوه ... إذا ما جنى الإنصاف أدبه الظلم.
ومنها:
إذا العرب لم تجز اصطناع ملوكها ... بشكر تعاوت في سياستها العجم
أعدها إلى عادات عفوك محسناً ... كما عودتها قبل آباؤك الشم
فإن ضاق عنها العذر عندك في الذي ... جنته فما ضاق التفضل والحلم.

القاضي أبو بكر بن سيار
وحساب الأصابع: حدثني القاضي أبو بكر بن سيار، قال: ضربوا مثلاً للأنسان فقالوا: ابن عشر سنين، قد دار في أهله، كما دارت هذه على هذه، وأومأ إلى إبهامه وسبابته، وعقد عشراً.
وابن عشرين، قد التصب بين أمري الكسب والعيال، كما انتصبت هذه بين هاتين، وعقد بأصابعه عشرين.
وابن ثلاثين، قد استوى، كما استوت هذه على هذه، وعقد ثلاثين بأصابعه.
وابن الأربعين، قد قام كما قامت هذه، وعقد بأصابعه.
وابن خمسين قد انحنى، كما انحنت هذه، وعقد خمسين بأصابعه.
وابن ستين، وعقدهما بأصابعه، قد انحط في عمره وقوته، كما انحطت هذه على هذه.
وابن سبعين، قد اضطجع، كما اضطجعت هذه على هذه.
وابن ثمانين، وعقدهما، قد احتاج إلى ما يتوكأ عليه، كما توكأت هذه على هذه.
وابن تسعين، قد ضاق عمره وأمعاؤه، كما ضاقت هذه.
وابن مائة، قد انتقل عن الدنيا إلى الأخرى، كما انتقل العقد من اليمين إلى الشمال.
هندي يقتل فيل بحيلته من غير سلاح
وحدثني القاضي أبو بكر بن سيار، قال: حدثني شيخ من أهل اليمن، وذكر أن أسمه نعمان، وجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر، وأنه دخل الهند والصين، قال: كنت ببعض بلدان الهند، وقد خرج على ملكها خارجي، فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان، فأمنه، فسار ليدخل، من موضعه، إلى بلد الملك، فلما قرب، أخرج الملك الجيش ليلتقيه، والآلات، وخرجت العامة، تنتظر دخوله، فخرجت معهم.
فلما بعدنا في الصحراء، وقف الناس ينتظرون طلوع الرجل، وهو راجل، في عدة الرجال، وعليه ثوب ديباج، ومئزر في وسطه، جرياً على زي القوم، فتلقوه بالإكرام، ومشوا به، حتى انتهى إلى أفيلة عظيمة، قد أخرجت للزينة، وعليها الفيالون، وفيها فيل عظيم يختصه الملك لنفسه، ويركبه في بعض الأوقات.
فقال له الفيال، لما قرب منه: تنح عن طريق الفيل، فسكت، فأعاد إليه، فسكت.
فقال له: يا هذا، احذر على نفسك، وتنح عن طريق فيل الملك.
فقال له الخارجي: قل للفيل الملك يتنحى عن طريقي.
فغضب الفيال، وأغرى الفيل به، بكلام كلمه، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجي، ولف خرطومه، وشاله الفيل شيلاً عظيماً، والناس يرونه، وأنا فيهم، ثم حبط به الأرض، فإذا هو انتصب على قدميه فوق الأرض، ولم ينح يده على الخرطوم.
فزاد غضب الفيل، وشاله أعظم من ذلك، وعدا، ثم رمى به الأرض، فإذا هو قد حصل عليها مستوياً على قدميه، منتصباً، قابضاً على الخرطوم.
قال: فشاله الفيل الثالثة، وفعل به مثل ذلك، فحصل على الأرض منتصباً، قابضاً على الخرطوم، وسقط الفيل ميتاً، لأن قبضه على الخرطوم تلك المدة، منعه من النفس، فقتله.
قال: فوكل به، وحمل إلى الملك، وحدث بالصورة، فأمر بقتله.
فاجتمع القحاب - بهذا اللفظ - وهم النساء الفواجر، يفعلن ذلك بالهند ظاهراً، عند البد، تقرباً إليه عندهم، بلا اجتعال، وهم العدول هناك، يشهدون في الحقوق، ويقمن الشهادة، فيقطع بها حاكمهم.
ويشاورن في الأمور، وفي الآراء، وعندهن، إنهن ببذلهن نفوسهن عند البد، بغير اجتعال، قد صرن في حكم الزهاد، والعباد.
قال: فقالت القحاب للملك، يجب أن تستبقي مثل هذا، لا تقتله فإن فيه جمالاً للمملكة، ويقال: إن للملك خادماً، قتل فيلاً بقوته وحيلته، ومن غير سلاح.
فعفا عنه الملك واستبقاه.
ملك الهند
يحاور الحكماء من رعيته: حدثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيار، قال: حدثني شيخ من أهل التيز ومكران، لقيته بعمان، ووجدتهم يذكرون ثقته، ومعرفته بأمر البحر، وحدثني القاضي، قال: حدثني هذا الشيخ: إن رجلاً بالهند من أهلها حدثه: أن خارجياً، خرج في بعض السنين، على ملك من ملوكهم، فأحسن التدبير، وكان الملك معجباً برأيه، مستبداً به فأنفذ إليه جيشاً، فكسره الخارجي، فزحف إليه بنفسه.

فقال له وزراؤه: لا تفعل، فإن الخوارج تضعف بتكرير الجيوش عليها، والملك لا يجب أن يغرر بنفسه، بل يطاول الخارجي، فإنه لا مادة له يقاوم بها جيشاً بعد جيش، إذا توالت عليه جيوش الملك.
فلم يقبل، وخرج بنفسه، فواقعه، فقتله الخارجي، وملك داره ومملكته، فأحسن السيرة، وسلك سبيل الملوك.
فلما طال أمره، وعز ذكره، وقوي سلطانه، جمع حكماء الهند، من سائر أعماله، وأطراف بلدانه، وكتب إلى عماله أن يجتاز أهل كل بلد، مائة منهم، من عقلائهم وحكمائهم، فينفذونهم إليه، ففعلوا.
فلما حصلوا ببابه، أمرهم باختيار عشرة منهم، فاختاروا، فأوصل العشرة، وأوصل من أهل دار المملكة عشرة، وقال لهم: يجب على العاقل، أن ينظر عيوب نفسه فيزيلها، فهل ترون في عيباً، أو في سلطاني نقصاً؟ فقالوا: لا، إلا شيئاً واحداً، إن أمنتنا قلناه.
قال: أنتم آمنون.
قالوا: نرى كل شيء لك جديداً، يعرضون إنه لا عرق له في الملك.
فقال: فما حال ملككم الذي كان قبلي؟ قالوا: كان ابن ملك.
قال: فأبوه؟ قالوا: ابن ملك.
قال: فأبوه؟ إلى أن عدد عشرة أو أكثر، وهم يقولون، ابن ملك، فانتهى إلى الأخير.
فقالوا: كان متغلباً.
قال: فأنا ذلك الملك الأخير، وإن طالت أيامي، مع إحساني السيرة، بقي هذا الملك بعدي، في ولدي وولد ولدي، فصار لأولاد أولادهم من العرق في الملك، مثل ما كان لملككم الذي كان من قبلي.
فسجدوا له، وكذا عادتهم إذا استحسنوا شيئاً، ولزمتهم حجة، وانصرفوا، فإزداد بذلك الملك توطداً له.
قلت أنا للقاضي: هذا شيء قد سبقت العرب إليه في كلمتين، استغني بهما عن هذا المثل الطويل العجمي.
فقال: ما هما؟ فقلت: روت العرب أن رجلين تفاخرا، فقال أحدهما لصاحبه: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.

الصيمري وزير معز الدولة
يرفق بأحد المصادرين: حدثني أبو القاسم أبو القاسم سعيد بن عبد الرحمن الكاتب الأصبهاني، قال: حضرت الصيمري، في وزارته لمعز الدولة، وقد أحضر رجلاً مصادراً، وقد قرر أمره على مال.
فقال له: أعطني كفيلاً، وأخرج فصحح المال.
فقال: لا كفيل لي أوثق من إحسانك إلي أيها الأستاذ.
فرق له، وخفف مصادرته، وأحسن إليه.
مهاترة بين بصري وسيرافي
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن بكر، قال: حدثني أبو بكر سعيد بن هارون الطبيب، وكان أبوه سيرافياً وجيهاً في بلده وغيرهما، موسراً، قال: خاصم أبي رجل من أهل البصرة، فقال له الرجل: تكلمني وأنت قطعة سيرافي؟ فقال له سعيد: أنا نجار في بلدي، وأنت عار في بلدك.
الوزير أبو محمد المهلبي
وحد الإقبال والإدبار: حدثني أبو الحسن بن يوسف، قال: حدثني قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد، قال: تجارينا بحضرة أبي محمد المهلبي، ذكر الأقبال والإدبار، فقال: ليس الإقبال أكثر من الحركة والتواضع، ولا الإدبار أكثر من الكسل والتكبر.
من شعر أبي الفرج الببغاء
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد النصيبيني المخزومي الكاتب، المعروف بالببغاء لنفسه قصيدة منها:
جاورت بالحب قلباً لم تذر فكري ... للحب مستمتعاً فيه ولم تدع
يصبو ولكن يكف الحلم صبوته ... وأشرف الحب أدناه من الورع
وبي أمس غرام لو أنست إلى ال ... شكوى ولكن أعد الصبر للجزع
ما بال أهل زماني من تجاهلهم ... بموضعي بين مغبون ومختدع
من لم تزد قومه أفعاله شرفاً ... بالفضل فهو لمعنى غير مخترع
عفت الموارد لما لم أجد ظمأ ... في كثرة الماء ما يغني عن الجرع.
لأبي الفرج الببغاء
في الأمير سيف الدولة: وأنشدني لنفسه في سيف الدولة رحمه الله أولها:
أفادت بك الأيام فرط تجارب ... كأنك في فرق الزمان مشيب
وكل بعد قرب الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الجياد قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها ... رياح لها في الخافقين هبوب
وتملأ ما بين عثيراً ... مثاراً بوجه الشمس منه شحوب
وما يدرك العليا إلا مهذب ... يصاب على مقداره ويصيب

فلا تصطف الإخوان قبل اختبارهم ... فما كل خل تصطفيه نجيب.

من مكارم أخلاق
أبي المنذر النعمان بن عبد الله: حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني وكيل كان لأبي المنذر النعمان بن عبد الله، قال: كان من عادة النعمان، إذا كان في انسلاخ كل شتوة، أن يعمد إلى جميع ما استعمله من خز وصوف وفرش وكوانين وآلة الشتاء، فيبيعه في النداء.
ثم ينفذ إلى حبس القاضي، فينظر من حبس بإقراره، دون قيام البينة عليه، ولا حال له، فيؤدي ما عليه من ثمن تلك الآلات، أو يصالح عنه ويخرجه، إن كان المال ثقيلاً.
ثم يعمد إلى من يبيع بيعاً يسيراً، مثل بقلي ورهدراي، ومن رأس ماله دينار، وديناران، وثلاثة، فيعطيه من عشرة دنانير إلى مائة درهم، وأقل وأكثر، ليزيد في رأس ماله.
ويعمد إلى من يبيع في الأسواق مثل طنجير، وقدر، وقميص خلق، وما يغلب على الظن أن مثله لا يباع إلا من ضر شديد، وإلى امرأة تبيع غزلها عجوز، فيعطيهم أضعاف ثمنه، ويدعه عليهم.
ويعمل ألواناً من هذا الجنس كثيرة، يأمرني بفعلها، وصرف ثمن تلك الالآت إليها.
فإذا انقضى الصيف عمد إلى ما عنده من دبيقي، وقصب، وحصر، ومزملات، وآلة الصيف، فيفعل به مثل ذلك.
فإذا جاء الشتاء والصيف ثانية، استجد جميع ما يحتاج إليه.
فلما كثر ذلك علي من فعله، قلت له: يا سيدي، إنك، هوذا، تفقر نفسك، من حيث لا تنفع غيرك، لأنك تشتري هذه الثياب، والآلات، والفرش، في وقت الحاجة إليها بضعف قيمتها، وتبيعها وقت استغناء كافة الناس عنها، فتشتري منك بنصف قيمتها، فيخرج منك في ذلك، مال عظيم، فإن أذنت لي، ناديت على كل ما يباع، فإذا استقرت العطية، وأخذت الدراهم، أخذته لك بزيادة، وعزلته إلى الصيف أو الشتاء، ودفعت مثل ثمنه، من مالك، إلى هذه الوجوه.
فقال لي: ما أحب هذا، تلك الآلات قد متعني الله بها طول شتائي أو صيفي، وبلغني وقت الغناء عنها، وما أنا على ثقة من أني أعيش إلى وقت الحاجة إليها ثانياً، ولعلي قد عصيت الله عليها، وفيها، فأنا أحب بيع أعيانها؛ وصرف الثمن بعينه، في هذه الوجوه، شكراً لله على تبليغي وقت الإستغناء عنها، وكفارة لما عصيته فيها، ثم إن أحياني الله إلى وقت الحاجة إليها، فليس ذلك بغال، ولا يتعذر شراء مثله، واستجداد خلفه، والتمتع بالجديد.
وفي بيعي إياه رخيصاً، وشراي له غالياً، فائدة أخرى، وهي أن ينتفع الضعفاء من التجار الذين أبتاع ذلك منهم، وأبيعه عليهم، بما فيه من الأرباح علي، ولا يؤثر ذلك في حالي.
من مكارم أخلاق
أبي المنذر النعمان بن عبد الله: أخبرني القاضي، وقال: أخبرني الوكيل: إن النعمان كان يعجبه، إذا قدم إليه لون من طعام طيب، أو حلو عجيب، أن لا يمعن في أكله، ويأمر بدفعه بعينه إلى السؤال.
وكان رسمه، أن يفرق في كل يوم، جميع ما يشال من مائدته، ويفضل في مطبخه، عن وظائف غلمانه، فكان يجتمع على بابه، كل يوم، منهم جمع عظيم.
قال: فأكل يوماً عنده صديق له هاشمي، فقدم إليه لون طيب، فما استتم أكله حتى أمر به للسؤال، فشيل.
وقدم جدي سمين، فما تهنأوا بأكله حتى أمر به فرفع إلى السؤال، وقدم جام لوزينج معمول بالفستق، وكان يعجب النعمان، ويلزمه على كل جام خمسون درهماً، وخمسة دنانير، واقل، وأكثر، على قدر كبر الجام، فما أكلوا منه إلا يسيراً، حتى قال: ارفعوه إلى السؤال: فقبض الهاشمي على الجام، وقال: يا هذا، أحسب أننا نحن السؤال، ودعنا نتهنأ بأكله، لم تدفع كل ما تشتهيه للسؤال؟ وما للسؤال وهذا؟ لهم في لحم البقر، وعصيدة التمر كفاية، والله لا شلته.
فقال: يا سيدي، إن عادتي ما تراه.
قال: بئست العادة، لا نصبر لك عليها، تقدم أن يعمل للسؤال إذا كان لا بد لك من ذلك، مثل هذا، ودعنا نحن نتمتع بأكله، أو ادفع إليهم مثل ثمنه.
فقال: أفعل مستأنفاً، وأتقدم بأن يصنع لهم مثله، فأما ثمنه، فإن السائل لا تسمو نفسه، ولا يتسع صدره لعمل مثل هذا، ولو دفع إليه أضعاف ثمنه مراراً، لأنه إذا حصلت عنده الدراهم، وصرفها إلى غير هذا، في أمره المختل الذي هو إلى إصلاحه أحوج، ولا يحسن أيضاً، عمل مثل هذا، وأنا أحب أن يشاركوني في الإلتذاذ بما آكل، يا غلام، تقدم الساعة بعمل جامة مثل هذه، وتفريقها على السؤال، ففعل ذلك.

وكان بعدها إذا حضر من يحتشمه، أمر بعمل مثل ما يقدم إليه، والصدقة به، ولم يأمر برفع ذلك من حضرته، إلا إذا بشمه الحاضرون.

أبو القاسم بن الحواري
وعظيم بره بأمه: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كان يألف أبا القاسم بن الحواري، رجل من أهل عكبرا يخطب بأهلها، وكان ماجناً، خفيف الروح، مليح الحديث والكلام، طيب النشوار والأدب، يكنى بأبي عصمة، وكان يؤاكله دائماً، ويختص به، وينفق عليه.
وكان أبو القاسم، شديد البر بأمه، فكان يتنغص لها بالماء فضلاً عما سواه، ولا يتهنأ بأكل شيء، إلا إذا أكلت منه، وكان من عادته إذا استطاب لوناً، أن ينفذه من مائدته إليها.
فأكل عنده أبو عصمة هذا، أول يوم، وهو لا يعرف رسمه، فقدم لوزينج طيب، فما شبع منه أبو عصمة حتى أمر به أبو القاسم فرفع إلى والدته.
وقدمت مضيرة جيدة، بفراخ مسمنة، ودجاج هندي، ودهن الجوز والخردل، فما أكلوا منها حسباً حتى أمر ابن الحواري، برفعها إلى والدته، فأخذ أبو عصمة رغيفاً، وقام يمشي مع الغضارة.
فقال له ابن الحواري: إلى أين يا أبا عصمة؟ قال: إلى الوالدة يا سيدي، آكل معها هذه المضيرة، فإن هذه المائدة خراب، والخصب عندها.
فضحك ابن الحواري، وتقدم برد اللون إليه.
أبو عصمة الخطيب وأهل عكبرا
قال، وكان عصمة هذا لي صديقاً، وبي آنساً، فقال لي يوماً: إن أهل عكبرا سفل، وأنا مبتلى بالخطبة بهم، فإذا صعدت المنبر، أومأت إليهم بيدي، إيماء السلام، فيؤذن المؤذن، ويحبسون أني قد سلمت عليهم، وإنما أقول: لحاكم كلكم في استي.
أصل نعمة سليمان الثلاج في بغداد
حدثنا أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: حدثني ابن سليمان الثلاج قال: قال لي أبي: كان أصل نعمتي من ثمن خمسة أرطال ثلجاً، وذلك أنه عز الثلج في بعض السنين ببغداد، وقل، وكان عندي منه شيء بعته، وبقي منه خمسة أرطال.
فاعتلت شاجي جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وهو إذ ذاك أمير بغداد، فطلبت منه ثلجاً، فلم يوجد إلا عندي.
فجاؤوني، فقلت: ما عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بخمسة آلاف درهم، وكنت قد عرفت الصورة.
فلم يجسر الوكيل على شراء ذلك، ورجع يستأذن عبيد الله، وكانت شاجي بمنزلة روحه، وهي تتضور على الثلج، وتلح في طلبه.
فشتمه عبيد الله، وقال: امض واشتره بأي ثمن كان ولا تراجعني.
فجاءني، فقال: خذ خمسة آلاف درهم، وهات الرطل.
فقلت: لا أبيعك إياه إلا بعشرة آلاف درهم، فلم يجسر على الرجوع للاستئذان، فأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ الرطل.
وشقت العليلة منه، فقويت نفسها، وقالت: أريد رطلاً آخر.
فجاءني الوكيل بعشرة آلاف درهم، وقال: هات رطلاً آخر، إن كان عندك، فبعت ذلك عليه.
فلما شربته العليلة، تماثلت، وجلست، وطلبت زيادة، فجاؤوني يلتمسون ذلك.
فقلت: ما بقي عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بزيادة، فداراني، وأعطاني عشرة آلاف درهم، وأخذ رطلاً.
وداخلتني رغبة في أن أشرب أنا شيئاً من الثلج، لأقول إني شربت ثلجاً سعر الرطل منه عشرة آلاف درهم.
قال: فشربت منه رطلاً.
وجاءني الوكيل قرب السحر، وقال: ألله، ألله، قد والله صلحت العليلة، وإن شربت شربة أخرى برأت، فإن كان عندك منه شيء، فاحتكم في سعره.
فقلت له: والله، ما عندي إلا رطل واحد، ولا أبيعه إلا بثلثين ألفاً.
فقال: خذ.
فاستحييت من الله أن أبيع رطل ثلج بثلثين ألفاً، فقلت: هات عشرين ألفاً، واعلم أنك إن جئتني بعدها بملء الأرض ذهباً، لم نجد عندي شيئاً، فقد فني.
فأعطاني العشرين ألف، وأخذ الرطل.
فلما شربته شاجي، أفاقت، واستدعت الطعام، فأكلت، وتصدق عبيد الله بمال.
ودعاني من غد، فقال: أنت - بعد الله - رددت حياتي بحياة جاريتي، فاحتكم.
فقلت: أنا خادم الأمير وعبده.
قال: فاستخدمني في ثلجه وشرابه، وكثير من أمر داره.
فكانت تلك الدراهم التي جاءتني جملة، أصل نعمتي، وقوبت بما انضاف إليها من الكسب مع عبيد الله، طول أيامي معه.
بغداد في أيام المقتدر

تجارينا عند القاضي أبي الحسن محمد بن صالح بن علي الهاشمي ابن أم شيبان في سنة ستين وثلثمائة، عظم بغداد، وكثرة أهلها، في أيام المقتدر، وما كان فيها من الأبنية، والشوارع، والدروب، وكبر البلد، وكثرة أهله، في سائر أنواع الناس.
وذكرت أنا كتاباً رأيته، لرجل يعرف ببزدجرد بن مهبنذان الكسروي، كان على عهد المقتدر، بحضرة أبي محمد المهلبي، كان سلم إلي وإلى جماعة ممن حضر، كراريس منه، لننسخه، وننفذه إلى الأمير ركن الدولة، لأنه التمس كتاباً في وصف بغداد، وإحصاء ما فيها من الحمامات، وإنها كانت عشرة آلاف، ذكر في الكتاب مبلغها وعدد من يحتوي عليه من البلد من الناس، والسفن، والملاحين، وما يحتاج إليه في كل يوم من الحنطة، والشعير، والأقوات، وإنه حصل ما يصل إلى أصحاب المعابر من الملاحين فكان في كل يوم، أربعين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً.
وذكر غيري كتاباً ألفه أحمد ابن الطيب، في مثل هذا.
فقال لي القاضي أبو الحسن: أما ذاك، فعظيم لا نعمله، وقد شاهدنا منه ما لا يستعبد معه أن يكون كما أخبر يزدجرد، وأحمد بن الطيب، إلا إنا لن نحصه فنقطع العلم به، ولكن بالأمس، في سنة خمس وأربعين وثلثمائة، لما ضمن محمد بن أحمد المعروف بترة، بادوريا، عمرها، وتناهى في ذلك، فأحصينا وحصلنا ما زرع فيها من جربان الخس، في هذه السنة، وقدرنا بكلوذاي وقطربل وقرب بغداد، ما يحمل إليها من الخس على تقريب، فكان الجميع ألفي جريب، ووجدنا كل جريب خس يزرع فيه ستة أبواب، يقلع من كل باب من الأصول، كذا وكذا، ولم أحفظه، يكون للجريب كذا وكذا أصلاً، وسعر الخس إذ ذاك، على أوسط الأسعار كل عشرين خسة بدرهم واحد، فحصل لنا أن ارتفاع الجريب، على أوسط الريع والسعر، ثلثمائة وخمسون درهماً، قيمتها خمسة وعشرون ديناراً، يكون لألفي جريب، خمسون ألف دينار، وكل ذلك يؤكل ببغداد، فما ظنك ببلد يؤكل فيه في فصل من فصول السنة، صنف واحد من صنوف البقل، بخمسين ألف دينار.
ثم قال لنا القاضي، ولقد أخبرني رجل يبيع سويق الحمص، دون غيره من الأسوقة، أسماه وأنسيته، إنه أحصى ما يتخذ في سوقه من سويق الحمص في كل سنة، فكان مبلغه مائة وأربعون كراً، وأنه يخرج في كل سنة منه، حتى لا يبقى منه شيء، فإذا حال الحول، طحنوا مثل ذلك.
هذا وسويق الحمص، غير طيب، وإنما يأكله الضعفاء والمتجملون، شهرين أو ثلاثة من السنة، عند عدم الفواكه، وأضعافهم مراراً من الناس، من لا يأكل ذلك أصلاً.
ثم قال: قال لي بعض مشايخ الحضرة: عمارة بغداد، في سنة خمس وأربعين، عشر ما كانت عليه أيام المقتدر، على تحصيل وضبط، يعني في الأبنية والناس.

أحاديث في احتباس الحمل
جرى بحضرة القاضي أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي احتباس الحمل، وقول الشافعي ومالك فيه ما قالاه.
فحكيت أنا فيه، ما روي من أن محمد بن عجلان، ولد لأربع سنين، وأن أسنانه كانت تطحن.
فقال لي القاضي أبو الحسن: كان لأبي، زوجة من ولد الأشعث بن قيس، كوفيه، فحملت منه أحد عشر شهراً بحساب صحيح ضبطناه وأعلمناه، مع شدة الإستظهار والتحصيل، فيما يجب تحصيله والاستظهار به في مثل ذلك، فولدت بعد أحد عشر شهراً بنتاً، فعاشت البنت سنين، ولها أولاد.
قال: وحدثني أبي عن جدي: إنه شاهد بالكوفة، أربعة إخوة ولدوا في بطن واحد، وعاشوا كلهم، وأسنوا، ومنهم من أعقب.
قال لنا القاضي: إن إسماعيل بن أبي خالد المحدث، له ثلاثة إخوة ولدوا في بطن واحد، وكلهم عاشوا وأسنوا.
قد ينال الإنسان باللين
ما لا ينال بالشدة: حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن المنجم، عن أسلافه: إن المأمون نكب عاملاً له، يقال: عمرو بن نهيوي، صهر موسى بن أبي الفرج بن الضحاك، من أهل السواد، موسراً، فأمر محمد ابن يزداد أن يتسلمه إليه، ويعذبه، ويعاقبه، حتى يأخذ خطه بعشرة آلاف ألف درهم، ويستخرجها منه.
فسلم عمرو إلى محمد، فأكرمه، وألطفه، وأمر بخدمته وترفيهه، وأفرده في حجرة سرية من داره، وأخدمه فيها من الفرش والغلمان بما يليق به، ولم يكلمه ثلاثة أيام، والمأمون يسأل عن الخبر، فيبلغه ترفيهه له، فيغتاظ، ويسأله، فيقول: هو مطالب.
فلما كان في اليوم الرابع، استدعى عمرو محمداً، فدخل إليه.

قال محمد بن يزداد: فقال لي: يا هذا، قد عرفت ما تقدم به إليك الخليفة في أمري، ووالله ما رأيت هذا المال، ولا نصفه، ولا ثلثه قط، ولا يحتوي عليه ملكي، ولعل الخليفة يريد دمي، وقد جعل هذا إليه طريقاً، وقد تفضلت علي لا يسعني معه أن أدخر جهداً في تجميلك عند صاحبك، وقد كتبت تذكرة بجميع ما يحتويه ملكي، ظاهراً وباطناً، وهي هذه، وسلمها إلي، وإذا هي تشتمل على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعلي، وعلي، وحلف بالطلاق والعتاق، والإيمان المغلظة، ما تركت لنفسي بعد ذلك، إلا ما علي من كسوة تستر عورتي، وهذا وسعي، وجهدي، فإن رأيت أن تأخذه، وتسأل الخليفة الرضا به مني، فإن فعل فقد خلصني الله بك، ونجاني من القتل على يدك، وإن أبى، فإنه يسلمني إلى عدوي الفضل بن مروان، وهو القتل، ووالله، لا أعطيت على هذا الوجه، درهماً واحداً، ولا كنت ممن يجيء على الهوان، دون الإكرام، وسأتلف، ولا يصل الخليفة إلى حبة من مالي، ولكن المنة لك علي حاصلة، فإن عشت شكرتها، وإن مت فالله مجازيك عني.
قال: فأخذت التذكرة، ورحت إلى المأمون.
فقال: ما عملت في أمر عمرو بن نهيوي؟ فقلت: إنه قد بذل ألفي ألف درهم، وليس عنده أكثر من ذلك.
فاستشاط، وقال: لا، وكرامة له، ولا أربعة آلاف ألف، ولا ثمانية آلاف ألف.
وقال لي الفضل: ما دمت ترفهه، وتكرمه، وتجلسه على الدسوت، وتخدمه بنفسك وغلمانك، كيف لا يتقاعد؟ فقلت له: فتسلمه أنت إن شئت.
فقال الخليفة: خذه إليك.
فأخذه، وأرهقه، وطالبه بعشرة آلاف ألف، ودهقه، وضربه، وهو لا ينحل بشيء.
فنزل معه إلى خمسة آلاف ألف، فلم يستجب.
فقنع منه بثلاثة آلاف ألف، فلم يجب.
فلما زاد عليه المكروه، وخاف الفضل أن يتلف في العذاب، فيجب المال عليه في نفسه بإتلافه إياه، رفق به، وداراه، وخلع عليه، ورفهه أياماً.
وقال له: كان محمد بن يزداد بذل عنك ألفي ألف درهم، وقد قنعت بها منك، فهاتها.
فقال: ما ملكتها قط، ولا بذلتها لمحمد.
فجاء الفضل إلى المأمون، فاقتص عليه خبره معه، في معاقبته، ومطالبته أولاً، بالكل، واقتصاره ثانياً، وترفيهه له، وإكرامه، وقناعته منه بألفي ألف درهم، وإقامته على انه لا مال له، وإنكاره أن يكون بذل ذلك، وكنت حاضراً.
فانقطع الحبل في يد المأمون، وكاد يهم بالفضل.
فقلت: يا أمير المؤمنين الرجال لا يكالون، وليس كل أحد يجيء على الهوان، وإن الفضل استخطأ رأيي فيما عاملت عمرواً به، فصار إليه، وعامله بمثله حيث لم ينفع ذلك، ولو تركني معه في الأول، لا ستخرجت منه ثلاثة آلاف ألف عفواً، وهذه تذكرة بخط عمرو تحتوي على ثلاثة آلاف ألف فأخرجها، وطرحتها بين يديه.
وقلت: لو كنت علمت أن أمير المؤمنين يجيبني في ذلك الوقت، إلى ثلاثة آلاف ألف، عنه، لبذلتها، فبذلت ألفي ألف، حتى إن لم يقنع، زدت ألف ألف، والآن فقد فسد هذا، ووالله، لا أعطى عمرو، مع ما جرى عليه، حبة، فإن استحل أمير المؤمنين دمه، فذاك إليه، وإلا فليس إلى استخراج شيء منه سبيل.
قال: فاستحيا المأمون، وأطرق مفكراً ملياً، ثم رفع رأسه، وقال: والله لا كان كاتب من كتابي، ولا نبطي من عمالي، أكرم، وأوفى، وأصح تدبيراً مني، قد وهبت لك يا محمد، عمرواً وما عليه، فخذه، واصنع به ما شئت.
فتسلمته من الفضل بن مروان، وأطلقته مكرماً إلى بيته.

الحجاج بن يوسف الثقفي
يأمر بتعذيب آزادمرد: ويشبه هذا الحديث، حديثاً، وجدته بخط القاضي أبي جعفر بن البهلول، ذكر أن محمد بن أحمد الحشمي، أخبر، قال: قال الحجاج بن يوسف، لمحمد بن المنتشر: خذ إليك آزادمرد ابن الفرند، فدق يده على رجله، حتى تستخرج منه المال الذي عليه.
قال محمد: فاستخرجت منه بالرفق، ثلثمائة ألف درهم، في جمعة، فلم يرض ذلك الحجاج، فأخذه مني، ودفعه إلى معد، صاحب عذابه، فدق يده، ودهقه، ودق ساقه.
فمر به علي، وأنا في السوق، معترضاً على بغل، فقال: يا محمد ادن، فدنوت منه.
فقال: إنك وليت مني مثل هذا، فأحسنت إلي، فأديت ما أديت عفواً، ووالله لا يؤخذ مني درهم واحداً كرهاً، ولي عند فلان ثلاثون ألفاً، فخذها جزاء لما صنعت.
فقلت: وال، لا أخذت منك، وأنت على هذه الحال، شيئاً.
قال: أتدري ما سمعت من أهل دينكم، يحكون عن نبيكم؟ قلت: لا.

قال: سمعتهم يقولون ويحكون عنه، إنه قال: إذا أراد الله بقوم خيراً ولى عليهم خيارهم، وأمطرهم المطر في أوانه، وإذا أراد بقوم سوءاً، ولى عليهم شرارهم، وأمطرهم المطر في غير أوانه، ثم أمر قائد البغل، أن يقوده.
فلم أر من مكاني، حتى جاءني رسول الحجاج، وقال: أجب، فمضيت إليه، فوجدته متنمراً، والسيف منتضى في حجره.
فقال: ادن.
فقلت: لا والله، لا أدنو وهذا في حجرك.
فأضحكه الله، وأغمد السيف، وقال: ما خاطبك به المجوسي؟ قلت: والله، ما غششتك منذ ائتمنتني، ولا كذبتك منذ صدقتني، فقصصت عليه القصة.
فلما أردت أن أذكر الرجل الذي عنده الثلاثون ألف، أعرض، وقال: لا تذكره، أما إن الكافر عالم بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمير معز الدولة البويهي
ووزيره أبو محمد المهلبي: كان معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه، لما ابتنى قصره بباب الشماسية، والإصطبلات المتصلة بآخره من أحد جرانبه، التي لم يسبق إلى حسنها، وعمل الميدان على دجلة متصلاً بين القصر والبستان الشارع على دجلة، الذي يلازق دار صاعد بن مخلد، الذي كان منزلاً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد ثم صيره أبو جعفر الصيمري بستاناً، والجميع الآن داخل في جملة قصر معز الدولة.
أول ما بدأ بأن السور المحيط بالقصر والميدان، والمسناة العظيمة التي من حد رقة الشماسية إلى بعض الميدان، وطول ما بناه منها ألف وخمسمائة ذراع، وعرضها نيف وسبعون آجرة كباراً، سوى الدستاهيجات التي تخرج منها إلى داخلها لضبطها.
وكان العمل في ذلك متصلاً، والصناع فيه متفرقين.
وهذا بعد أن كان عمل على بناء مدينة لنفسه، وخرج إلى كلواذى ليتخذها هناك، ثم أراد اتخاذها حيال كلواذى، ثم رحل إلى قطربل، فأراد أن يبنيها عندها، ثم تقرر رأيه على بناء دار بباب الشماسية، حصينة، يستغني بها عن المدينة، وتخف عليه نفقتها.
وقدر لذلك ألوف ألوف الدراهم، وزادت النفقة على التقدير أضعافاً.
وكان يطالب وزيره أبا محمد المهلبي بتوجيه وجوه الأموال لذلك، مع قصور الدخل عن الخرج، فيلقى منه عنتاً.
ثم كلفه تولي البناء بنفسه وكتابة، فكان، وهم، يتولون ذلك.
فسعى بعض أصحاب معز الدولة إليه، أنهم بسنفون البناء في السور، ليتعجل بنفقة خفيفة، ويسرقون الباقي.
وأوقفه على موضع منه، كان فيه ساف لبن لم يحكمه الصناع، ومشى عليه بحضرة معز الدولة - لأنه ركب إليه - فانقلعت منه لبنة.
فحمي طبعه، وكان حديداً جداً، سليم الباطن مع ذلك، وإذا أخرج حدته، وانقضت سورة غضبه، يندم على فعله، ولكن من يقوم على تلك الحدة.
فأحضر المهلبي، وواقفه على ما رآه، فأخذ يحتج عليه.
فحمي، وأمر به، فبطح، وضرب مقارع كثيرة.
ثم قال: اختفوه، فجعل في عنقه حبل، وأمسكه ركابيون فوق السور، ليشيلوه، فيخنق.
وبلغ خبره القواد، والأتراك، وخواصه، فبادروا إلى تقبيل الأرض بين يديه، ومسألته الصفح عنه، فأنزله، وأطلقه.
فمضى إلى داره كالميت، وأظهر قلة حفل بذلك، لئلا يشمت أعداؤه، ويطمعوا في صرفه، ويتقولون عليه بانكسار إن بان منه، ولئلا يبلغ صاحبه أنه مستوحش من ذلك، فيستوحش منه.
وكانت عادته أن يشرب في تلك الليلة النبيذ، ويدعو الغناء، فجمع الندماء، ليري قلة الإكتراث بما جرى عليه.
وعاد إلى داره وقد قرب المساء، فدعا بما يأكله، فأكل، وندماؤه معه، وليس فيه فضل لشدة الألم، وهو يتجلد، ويتحدث.
ثم دعا بنبيذ، فقالوا له: أيها الوزير، لو استرحت، وطرحت نفسك، كان أولى من النبيذ، فليس هذا وقته، وذنبوا له في هذا.
فأخذ هو يعزيهم عما جرى عليه، ويسلبهم، وتمثل في كلامه بهذا البيت:
فإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما صنع الدهر.
ثم شرب أقداحاً، وقام.
أخبرني، من حدثه به، من ندماء أبي محمد، عن مشاهدة.
الأمير معز الدولة وحدة طبعه
وكانت عادة الأمير معز الدولة، إذا حمي جداً، أن يأمر بالقتل، ويكره أن يتم ذلك، ويعجبه أن يسأل العفو.
وقد فعل هذا، كثيراً جداً، بخلق من جملة أصحابه.

وأول ما عرف ذلك منه، وأقدم لأجله على مساءلته العفو، إذا أمر بقتل صاحب له، أنه أنكر على رجل بالأهواز، وهو إذ ذاك مقيم بها، وكان الرجل ضراباً يعرف بابن كردم، أهوازي، ضمن منه عمالة دار الضرب بسوق الأهواز، فضرب دنانير رديئة، ولم يعلم بها الأمير بها، فأنفذها إلى البصرة ليشتري بها الدواب، والبريديون إذ ذاك بها، فلم تؤخذ لشدة فسادها، فردت، وعاد الراضة الذين كان أنفذهم لذلك، فعرفوه الخبر، فحمي، وأحضر ابن كردم هذا، وخاطبه، وازداد طبعه حمياً، إلى أن أمر بأن يخنق على قنطرة الهندوان، بالأهواز.
فأخرج من بين يديه، وخنق، ومات، وعاد من كان أمره بذلك، فوقف بحضرته.
فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: خنقناه ومات.
فكاد أن يطير غضباً، وشتمه، وشم الحاضرين، وقال: ما كان فيكم من يسألني أن لا أقتله؟ وأخذ يبكي، وكان فيه تحرج من القتل.
فقالوا: ما عملنا، وخفناك.
فكان بعد ذلك إذا أمر بقتل إنسان، سئل، وروجع، فيعفو.

من مكارم أخلاق الأمير سيف الدولة
أخبرني طلحة بن عبيد الله بن قناش، قال: كنت يوماً في مجلس حديث وأنس، بحضرة سيف الدولة، أنا وجماعة من ندمائه، فأدخل إليه رجل، وخاطبه، ثم أمر بقتله، فقتل في الحال.
فالتفت إلينا، وقال: ما هذا الأدب الشيء، وما هذه المعاشرة القبيحة التي نعاشر ونجالس بها؟ كأنكم ما رأيتم الناس، ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا عشتم في الدنيا، ولا تأدبتم بأدب دين ولا مروءة.
قال: فتوهمنا أنه قد شاهد من بعضنا حالاً يوجب هذا، فقلنا: كل الأدب إنما يستفاد من مولانا أطال الله بقاءه - وهكذا كان يخاطب في وجهه - وما عملنا ما يوجب هذا، فإن رأى أن ينعم بتنبيهنا، فعل.
فقال: أما رأيتموني، وقد أمرت بقتل رجل مسلم لا يجب عليه القتل، وإنما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكدة، على الأمر به، طمعاً في أن يكون فيكم رجل رشيد فيسألني العفو عنه، فأعفو، وتقوم الهيبة عنده وعند غيره، فأمسكتم حتى أريق دم الرجل، وذهب هدراً.
قال: فأخذنا نعتذر إليه، وقلنا: لم نتجاسر على ذلك.
فقال: ولا في الدماء؟ ليس هذا بعذر.
فقلنا: لا نعاود.
واعتذرنا حتى أمسك.
الخليفة المعتضد يعذب شخصا
ً
حاول الخروج عليه: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني أبي قال: كنت أكتب لبدر اللاني في أيام الموفق، والمعتضد، وأدخل الدار معه، أليه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة، وقد جعله كرنادكاً.
قال: فقلت له: كيف يفعل ذلك؟ وما كان سببه؟ فقال: إن رجلاً من أولاد الواثق، كان يسكن مدينة المنصور، سعى في طلب الخلافة، واستوزر شيلمة، فأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة، من الهاشميين، والقضاة، والقواد، والجيش، وأهل بغداد الأحداث، وأهل العصبية، وقوي أمره، وانتشر خبره، وهم بالظهور في المدينة، والإعتصام بها، والتحصن، حتى إذا أخذ المعتضد، صار إلى دار الخلافة.
فبلغ المعتضد الخبر على شرحه، إلا اسم المستخلف.
فكبس شيلمة وأخذه، فوجد في داره جرائد بأسماء من بايع، وبلغ الهاشمي الخبر، فهرب.
وأمر المعتضد بالجرائد، فأحرقت ظاهراً، لئلا يعلم الجيش بوقوفه عليها فتفسد نياتهم له، بما يعتقدون من فساد نيته عليهم.
وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر، فصدقه عن جميع ما جرى، إلا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه، فلم يفعل.
وطال الكلام بينهما فتوعده، فقال له: والله، لو جعلتني كردناكاً، ما أخبرتك باسمه.
فقال المعتضد للفراشيين: هاتم أعمده الخيم الكبار الثقال، فجاءوه بها وأمر أن يشد عليها شداً وثيقاً فشد، وأحضروا فحماً عظيماً، وفرش على الطوابيق بحضرته، وأحجبوا ناراً، وجعل الفراشون يقلبون شيلمة على تلك النار، وهو مشدود على الأعمدة، إلى أن مات وانشوى.
وأخرج من بين يديه ليدفن ، فرأيته على هذه الصورة.
قال: وأمر المعتضد بهدم السور المحيط بالمدينة، فهدم منه شيء يسير، فاجتمع إليه الهاشميون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، فخرنا، وذكرنا، ومأثرتنا فأمر بقطع الهدم، وصرف حفظة كانوا عليه متوكلين برعيه، ورخص فيه، وتركه وأهمله، وخلى بينه وبين الناس.

فمل مضت إلا سنيات، حتى هدم الناس أكثره، أولا فأولاً، ووسعوا به ما يجاروهم من دورهم، واستضافوا مكانه إليها، حتى إن ذلك اتسع، فجعل وزير المقتدر، على كل دار هذا حكمها، أجرة العرضة بحسب ذلك، وكان لها ارتفاع كثير.
ثم تبع ذلك بسنين، خراب المدينة، أولاً فأولاً، حتى بلغت إلى ما هي عليه.

بابك الخرمي
وجلده وصبره على العذاب: ومن عجيب أخبار قوة النفس: إن أخل بابك الخرمي، المازيار، قال له لما أدخلا على المعتصم: يا بابك إنك قد عملت ما لم يعمله أحد، فاصبر الآن صبراً لم يصبره أحد.
فقال له: سترى صبري.
فلما صار بحضرة المعتصم، أمر بقطع أيديهما وأرجلهما بحضرته.
فبدىء ببابك، فقطعت يمناه، فلما جرى دمها، مسح به وجهه كله، حتى لم يبق من حلية وجهه، وصورة سحنته، شيء.
فقال المعتصم: سلوه لم فعل هذا؟ فسئل، فقال: قولوا للخليفة، إنك أمرت بقطع أربعتي، وفي نفسك قتلي، فلا شك أنك لا تكوينها، وتدع دمي ينزف إلى أن تضرب عنقي، فخشيت أن يخرج الدم مني، فتبين في وجهي صفرة يقدر لأجلها من حضر، أني قد فزعت من الموت، وإنها لذلك، لا من خروج الدم، فغطيت وجهي بما مسحته عليه من الدم حتى لا تبين الصفرة.
فقال المعتصم: لولا أن أفعاله لا توجب العفو عنه، لكان حقيقاً بالاستبقاء لهذا الفضل، وأمر بإمضاء أمره فيه.
فقطعت أربعته، ثم ضرب عنقه، وجعل لجميع على بطنه، وصب عليه النفط، وضرب بالنار.
وفعل مثل ذلك بأخيه، فما كان فيهما من صاح وتأوه.
عافية الباقلاني وخالد الحذاء
يسيران حافيين على باب حديد محمي: وقد حكي: أن عافية الباقلاني، وخالد الحذاء، رئيسي أصحاب العصبية في زمانهما، بايعا على أن يحمى لهما باب حديد، ويمشيان عليه، ففعلا ذلك.
فلما حصلا فوقه، حل أحدهما مئزره، ثم ضرب يده إلى الآخر، وضبطه، وقال: انظرني أتوزرهما عطفيين، أي انتظر حتى أتزر.
قال: فما فارقه، حتى شد مئزره، وهما فوق الباب المحمي، ثم تمم مشيه، حتى خرج منه، وقد غلب بتلك الساعة، وإن لم يكن في الباب الحديد حيلة، أو عادة، مثلما يكون أسفل القدر، كالنار إذا دام الوقود عليها، فيأخذها الإنسان لساعته على راحته، لأن البخار يتصاعد، ثم يدعها قبل أن ينعكس البخار إلى أسفلها.
وقد شاهدت أنا، أبا الأغر بن أبي شهاب التيمي بالبصرة، فعل ذلك، وإلا، فلا أدري ما هو.
وقد أخبرني غير واحد، أن القطعة الحديد، إذا أدخلت الكور، وأحميت حتى تبيض بياضاً شديداً، فأخذها الإنسان، فلطعها مرتين، أو ثلاثة، قبل أن يرجع فيها الحمي، لم تضر لسانه.
وقد شاهدت أنا، أبا الحسن علي بن محمد بن أحمد التنوخي، وقد أدخل إلى فيه، غير مرة، شمعة مشعلة فيها رطل، وعض عليها، وكشر شفتيه لي، حتى تبينت اتقاد الشمعة في فيه، ساعة، ثم أخرجها غير مطفئة.
وسألته عن علة ذلك، فقال: يحتاج إلى حذق في سرعة الإدخال، حتى لا تحرق الشفتين، فإذا حصلت في داخل الفم، لم تضر، لأن ما يتصاعد من حمي الجوف، يغلب على حماها، فلا تضر.
كيف قتل الخليفة المعتضد
وزيره إسماعيل بن بلبل: ومن طريف عقوبات المعتضد، قتله إسماعيل بن بلبل، حدثني أبي، قال: أخبرني جماعة من أهل الحضرة، يعرفون ويحصلون: إن المعتضد أمر بإسماعيل بن بلبل، فاتخذ له تغار كبير، ومليء إسفيداجاً حياً، وبله، ثم جعل العجل رأس إسماعيل فيه، إلى آخر عنقه، وشيء من صدره، وأمسك حتى جمد الإسفيداج، فلم تزل روحه تخرج بالضراط، إلى أن مات.
الخليفة المعتضد يقتل آخر بسد جميع منافذه
وأخبرني أيضاً رحمه الله: إن المعتضد، أمر برجل فسد بالقطن أنفه، سداً شديداً، وفمه، وعيناه، وأذناه، ومنخراه، وذكره، وسوءته، ثم كتف وترك، فلم يزل ينتفخ، ويزيد، إلى أن طار قحف رأسه ومات.
قرطاس الرومي وكيف عاقبه المعتضد
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي، قال: قال أبي: كنت مع صاحبي الذي كنت أكتب له، بدر اللاني، في عسكر الموفق، وهو يقاتل صاحب الزنج.
فرمى زنجي من أصحاب الخائن، يقال له: قرطاس، الموفق، بسهم، فأصاب ثندوءته، وصاح: خذها مني وأنا قرطاس، فصارت مثلاً للرماة إلى الآن.
فحمل الموفق صريعاً في حد التلف، ونزع السهم وكان مقطناً، فبقي الزج مكانه، وجمع، وانتفخ، وأمد، وأشرف على الموت.

واستخبر بذلك أهل عسكر الخائن، وكانوا يصيحون بنا كل يوم: ملحوه، أي: قد مات الموفق، فاجعلوه مكسوداً.
فأجمع رأي الطب على بطه، فلم يمكنهم الموفق من ذلك.
فقالوا للمعتضد: إنه إن لم يبط، عمل إلى داخل، فأتلفه.
فقال: احتالوا عليه وبطوه، وأنا أمنعكم منه.
فطول أحد الطب، ظفر إبهامه اليمين، وجعل تحته حديدة مبضع، وجاء إلى الموفق، فقال: أيها الأمير، دعني أحبسه، وأنظر كيف هو.
فقال: لعلك تبطه؟ فأراه يده، وقال: كيف أبطه، وليس في يدي حديد، فمكنه منه، فجسه وخرقه بالمبضع من أوله إلى آخره مستعجلاً، فنذر الزج وخرج، وتبعته مدة عظيمة وقيح.
ففزع الموفق في حال البط، لمجيئه على غفلة، فلكم الطبيب، فقبله عن مكانه، فلما استراح بما خرج من الموضع، ووجد خفه، خلع على الطبيب، وأجازه، وعولج إلى أن برىء.
وجعل أبو العباس وكده طلب قرطاس، وكان إذا رآه في الحرب، طرح نفسه لأخذه، فيحاربه قرطاس أشد حرب، ويقول له بعجمته: يا بلئباس، يريد يا أيا العباس، إن وقعت في يدك، قد مني أوتاراً.
قال: فلم يزل المعتضد يجهد نفسه في أمره، حتى أخذه أسيراً، وقد وقعت به جراحات، فجاء به إلى الموفق، فأمر بضرب عنقه.
فقال له المعتضد: تهب لي قتله، حتى أعمل به ما أريد.
فقال: أنت أحق به، فخذه، فأخذه، فقد من أصابعه الخمس أوتاراً.
قال: فقلت لأبي: كيف فعل ذلك؟ فقال: قلع أظفاره، وسلخ جلد أصابع كفه من رؤوسها، إلى أكتافه، وعبر بها صلبه وكتفيه إلى آخر أصابعه الأخرى، وجلد بني آدم غليظ، فخرج له ذلك، فأمر أن تفتل له أوتاراً، ففعل، وصلب بها قرطاس.

من طريف حيل اللصوص - 1
ومن طريف حيل اللصوص، الواقعة في عهدنا، أن أبا القاسم عبيد الله بن محمد الخفاف، حدثني: إنه شاهد لصاً قد أخذ، وتشاهدوا عليه، إنه يفش الأقفال في الدور اللطاف التي يخمن على أنها لعزب.
فإذا دخل، حفر في الدار حفرة لطيفة، كأنها بئر النرد، وطرح فيها جوزات، كأن إنساناً كان يلاعبه، وأخرج منديلاً فيه مقدار مائتي جوزة، فتركه إلى جانبها، ثم دار فكور كل ما في الدار، مما يطبق حمله.
فإن لم يفطن به أحد، خرج من الدار، وحمل ذلك كله.
وإن جاء صاحب الدار، ترك عليه قماشه، وطلب المفالتة والخروج.
فإن كان صاحب الدار جلداً، فوائبه ومنعه، وهم بأخذه وصاح: اللصوص، واجتمع الجيران، أقبل عليه، وقال: ما أبردك، أنا أقامرك بالجوز منذ شهور وقد أفقرتني، وأخذت مني كل ما أملكه، وأهلكتني ما صحت، ولا فضحتك بين جيرانك، أنت لما قمرتك الآن قماشك، أخذت تدعي علي اللصوصية؟ يا غث، يا بارد، بيني وبينك دار القمار، الموضع الذي تعارفنا فيه، قل بحذائهم، وبحذاء هؤلاء الحاضرين، قد ضغيت حتى أدع عليك قماشك.
فكلما قال الرجل: هذا لص، فيقول الجيران: إنما يريد أن لا يفضح نفسه بالقمار، فقد أدعى عليه اللصوصية، ولا يشكون أنه مقامر، وأن الرجل صادق، ويخلصون بينهما، ثم يأخذ الجوز وينصرف، ويفتضح الرجل بين جيرانه.
من طريف حيل اللصوص - 2
وأخبرني أيضاً: إنه شاهد آخر، كان يدخل الدار الآهلة نهاراً، ويعتمد التي فيها النساء، ورجالهم خارجون.
فإن تمت له الحيلة، وأخذ منها شيئاً، انصرف.
وإن فطن له، وجاء صاحب الدار، أوهمه أنه صديق زوجته، وإنه بعض من غلمان القواد، ويقول له: استر علي هذا عند صاحبي، وعلى نفسك، ويتزيا بالأقبية، يوهم الرجل أنه لا يمكنه رفعه إلى السلطان في الزنا، إن اختار فضيحة نفسه.
وكلما ادعى عليه اللصوصية، صاح بهذا الحديث، فيجتمع الجيران، فيشيرون على الرجل بالستر على نفسه.
وكلما أنكر ذلك، قالوا: هذا محبة بزوجته، ويخلصون اللص من يده، حتى ربما أجبروه على صرفه.
وكلما جحدت المرأة، وحلفت، وبكت، وأقسمت إنه لص، كان ذلك أدعى لهم إلى تخليته.
فيتخلص، ويعود الرجل، ويطلق زوجته، ويفارق أم ولده، فأخرب غير منزل، وأفقر آخرين، بهذا.
إلى أن دخل داراً فيها عجوز، لها أكثر من تسعين سنة، ولم يعلم، وأدركه رب البيت، فأخذ يوهمه ذلك، فقال: يا كشخان ليس في الدار إلا أمي، ولها تسعون سنة، وهي منذ أكثر من خمسين سنة، قائمة الليل، صائمة النهار، طول الدهر، أفتراها هي عشقتك، أم أنت عشقتها؟ وضرب فكيه.

واجتمع الجيران، فقال اللص ذلك، فكذبوه، لما يعرفون به المرأة من الدين والصلاح، فضرب، وأقر الصورة فحمل إلى السلطان.

القصري غلام الحلاج
كان يصبر على الجوع خمسة عشر يوماً: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: بلغني أن الحسين بن منصور الحلاج كان لا يأكل شيئاً شهراً أو نحو شهر، على تحصيل ورصد.
قال: فهالني هذا، وكانت بيني وبين أبي الفرج بن روحان الصوفي مودة، وكان صالحاً من أصحاب الحديث، ديناً، وكان القصري، غلام الحلاج، زوج أخته، فسألته عن ذلك.
فقال: أما ما كان الحلاج يفعله، فلا أعلم كيف كان يتم له، ولكن صهري القصري غلامه، قد أخذ نفسه سنين، بقلة الزاد، ودرجها على ذلك، حتى تمكن بعد مدة، أن يصبر عن الأكل خمسة عشر يوماً، ونحو ذلك، أقل أو أكثر.
وكان يتم له ذلك بحيلة كانت تخفي علي، فلما حبس في جملة الحلاجية، كشفها لي، وقال: إن الرصد، إذا وقع بالإنسان شديداً، وطال فلم تنكشف معه حيلة، ضعف عنه الرصد ثم لا يزال يضعف، كلما لم تنكشف حيلته، حتى يبطل أصلاً، فيتمكن حينئذ، من فعل ما يريد.
وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوماً، فما رأوني آكل شيئاً بتة، وهذا نهاية صبري عن فقد الغذاء، وإن لم آكل بعده بيوم، تلفت، فخذ رطلاً من الزبيب الخراساني، ورطلاً من اللوز السمين.
ودقهما، واجعلهما مثل الكسب وأصلحهما صفيحة رقيقة، فإذا جئتني غداً، فاجعلها بين ورقتين من دفتر، وخذ الدفتر في يدك مكشوفاً، مطوياً في كفك طياً مدوراً من غير انتشار، ليخفى ما فيه، فإذا خلوت بي، ولم تر من يلاحظني، فاجعل ذلك تحت ذيلي، وانصرف، فإنني آكله سراً، وأشرب الماء إذا تمضمضت للطهور، فيكفيني خمسة عشر يوماً أخرى، إلى أن تجيئني ثانياً، على هذا السبيل.
ومتى رصدني هؤلاء في هذه الخمسة عشر يوماً الثانية، لم يجدوني آكل شيئاً على الحقيقة، إلى أن تعود أنت بعد هذه المدة بالقوت، فأغتفلهم في أكله أيضاً، فيقوم بي.
قال: فكنت أعمل ذلك معه، طول حبسه.
ما اشترطه أبو سهل بن نوبخت
لكي يؤمن بدعوة الحلاج: حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: لما قدم الحلاج بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس، والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم.
فراسل أبا سهل بن نوبخت، ليستغويه، وكان أبو سهل من بينهم مثقفاً، فهماً، فطناً.
فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها، قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذة لي أكثر من النساء وخلوتي بهن، وأنا مبتلي بالصلع، حتى إني أطول شعر قحفي، وأجذبه إلى جبيني، وأشده بالعمامة، وأحتاله فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب، لستر المشيب.
فإن جعل لي شعراً، ورد لحيتي سوداء بلا خضاب، أمنت بما يدعوني إليه، كائناً ما كان، إن شاء قلت إنه باب الإمام، وإن شاء الإمام، وإن شاء قلت إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله تعالى.
قال: فلما سمع الحلاج جوابه أيس منه، وكف عنه.
وقال لي أبو الحسن: وكان الحلاج، يدعو كل قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستبله طائفة طائفة.
الحلاج في مجلس الوزير حامد بن العباس
أخبرني أبو الحسين بن عياش القاضي، عمن أخبره: إنه كان بحضرة حامد بن العباس، لما قبض على الحلاج، وقد جيء بكتب وجدت في داره، من قوم تدل مخاطبتهم، إنهم دعاته في الأطراف، يقولون فيها: وقد بذرنا لك في كل أرض ما يزكو فيها، وأجاب قوم إلى أنك الباب - يعنون الإمام - وآخرون أنك صاحب الزمان - يعنون الإمام الذي تنتظره الأمامية - وقوم إلى أنك صاحب الناموس الأكبر - يعنون النبي صلى الله عليه وسلم - وقوم إلى أنك أنت هوهو - يعنون الله عز وجل - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال: فسئل الحلاج عن تفسير هذا الرمز، فأخذ يدفعه، ويقول: لا أعرف هذه الكتب، هذه مدسوسة علي، لا أعلم ما فيها، ولا معنى لهذا الكلام.

وحدثني أبو الحسين بن عياش، عمن حضر مجلس حامد ابن العباس الوزير، وقد جاءوا بدفاتر وجدت للحلاج، فيها: إن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يستغني عنه، بأن يعمد إلى بيت داره، فيعمل فيه محراباً ذكره، ويغتسل، ويحرم، ويقول كذا، ويفعل كذا، ويصلي كذا، ويطوف بهذا البيت كذا، ويسبح كذا، ويصنع كذا، أشياء قد رتبها وذكرها من كلام نفسه، قال: فإذا فرغ من ذلك، فقد سقط عنه الحج إلى بيت الله الحرام.
وهذا شيء معروف عند الحلاجية، وقد اعترف لي رجل منهم، يقال إنه عالم لهم، ولكن ذكر أن هذا رواه الحلاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم، وقال ليس عندنا إنه يستغني به عن الحج، ولكنه يقوم مقامه، إن لم يقدر على الخروج، بإضافة، أو منع، أو علة، فأعطاني المعنى، وخالف في العبارة.
قال لي أبو الحسين: فسئل الحلاج عن هذا، وكان عنده إنه لا يوجب عليه شيئاً، فأقر به، وقال: هذا شيء رويته كما سمعته، فتعلق بذلك عليه.
واستفتى حامد، القاضيين أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي الأنباري، وأبا عمر محمد بن يوسف، وهما إذ ذاك، قاضياً بغداد.
فقال أبو عمر: هذه زندقة، يجب عليه القتل بها، لأن الزنديق لا يستتاب.
وقال أبو جعفر: لا يجب عليه القتل، إلا أن يقر بأنه يعتقد هذا، لأن الناس قد يروون الكفر ولا يعتقدونه، فإن أخبر أن هذا شيء رواه وهو يكذب به، فلا شيء عليه، وإن أخبر إنه يعتقد، استتيب منه، فإن تاب، فلا شيء عليه، وإن لم يتب، وجب عليه القتل.
قال: فعمل في أمره على فتوى أبي عمر، وعلى ما شاع وذاع من أمره، وظهر من إلحاده وكفره، واستغوائه الناس، وإفساده أديانهم، فاستؤذن المقتدر في قتله، وكان قد استغوى نصراً القشوري، من طريق الصلاح والدين، لا مما كان يدعو إليه، فخوف نصر السيدة أم المقتدر.
من قتله، وقال: لا آمن أن يلحق ابنك - يعني المقتدر - عقوبة هذا الشيخ الصالح، فمنعت المقتدر من قتله، فلم يقبل، وأمر حامداً بأن يقتله، فحم المقتدر يومه ذاك، فازداد نصر والسيدرة افتتاناً، وتشكك المقتدر فيه، فأنفذ إلى حامد من بادره بمنعه من قتله، فتأخر ذلك أياماً، إلى أن زال عن المقتدر ما كان يجد من العلة، فاستأذن حامد في قتله، فضعف الكلام فيه، فقال له حامد: يا أمير المؤمنين، إن بقي، قلب الشريعة، وارتد خلق على يده، وأدى ذلك إلى زوال سلطانك، فدعني أقتله، وإن أصابك شيء، فاقتلني، فأذن له في قتله، فعاد، فقتله من يومه، لئلا يتلون المقتدر.
فلما قتل، قال أصحابه: ما قتل هو، وإنما قتل برذون كان لفلان الكاتب، اتفق إنه نفق ذلك اليوم.
وهو يعود إلينا بعد مدة، فصارت هذه الجهالة، مقالاً لطائفة منهم.

طرائف من مخاريق الحلاج
وكانت أكثر مخاريق الحسين بن منصور الحلاج، هذا، التي يظهرها كالمعجزات، ويستغوي بها جهلة الناس، إظهار المآكل في غير أوانها، بحيل بقيمها، فمن لا تنكشف له، يتهوس بها، ومن كان فطناً، لم تخف عليه.
فمن طريف ذلك، ما أخبرني بها أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد الأهوازي، قال: أخبرني فلان المنجم، وأسماه، ووصفه بالحذق والفراهة، قال: بلغني خبر الحلاج، وما كان يفعله من إظهار تلك العجائب والمخرقات التي يدعي أنها معجزات، فقلت أمضي وانظر من أي جنس هي من المخاريق.
فجئته، كأني مسترشد في الدين، فخاطبني وخاطبته، ثم قال: تشه الساعة ما شئت، حتى أجيئك به.
وكنا في بعض بلدان الجبل التي لا تكون فيها الأنهار، فقلت له: أريد سمكاً طرياً في الحياة الساعة.
فقال: أفعل، اجلس مكانك.
فجلست، وقام ، وقال: أدخل البيت، وأدعو الله تعالى أن يبعث لك به.
قال: فدخل بيتاً حيالي وأغلق بابه، وأبطأ ساعة طويلة، ثمجاءني وقد خاض وحلاً إلى ركبته، وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة.
فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعوت الله تعالى، فأمرني أن أقصد البطائح فأجيئك بهذه، فمضيت إلى البطائح فخضت الأهوار، وهذا الطين منها، حتى أخذت هذه.
فعلمت أن هذه حيلة، فقلت له: تدعني أدخل البيت، فإن لم تنكشف لي حيلة فيه آمنت بك.
فقال: شأنك.
ودخلت البيت، وأغلقته على نفسي، فلم أجد فيه طريقاً ولا حيلة.

فندمت، وقلت: إن أنا وجدت فيه حيلة وكشفتها له، لم آمن أن يقتلني في الدار، وإن لم أجد، طالبني بتصديقه، فكيف أعمل؟ قال: وفكرت في البيت، فدققت تأزيره، وكان مؤزراً بإزار ساج، فإذا بعض التأزير فارغ، فحركت منه جسرية خمنت عليها، فإذا هي قد انقلعت، فدخلت فيها، فإذا ثم باب مسمر، فولجت منه إلى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار، والثمار، والنوار، والريحان، التي هي في وقتها، وما ليس هو في وقته، مما قد عتق، وغطي، واحتيل في بقائه، وإذا بخزائن مليحة، فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها، والحوائج لما يعمل في الحال، إذ طلب، وإذا بركة كبيرة في الدار، فخضتها، فإذا هي مملوءة سمكاً، كباراً وصغاراً، فاصطدمت واحدة كبيرة، وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل والماء إلى حد ما رأيت رجله.
فقلت: الآن إن خرجت، ورأى هذا معي، فقتلني، فقلت: أحيال عليه في الخروج.
فلما رجعت إلى البيت، أقبلت أقول: آمنت، وصدقت.
فقال لي: ما لك؟ قلت: ما هاهنا حيلة، وليس إلا التصديق بك.
قال: فاخرج.
فخرجت، وقد بعد عن الباب، وتموه عليه قولي، فحين خرجت، أقبلت أعدو إلى باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني، وعلم أني قد عرفت حيلته، فأقبل يعدو خلفي، فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، وقلت له: أتعبتني، حتى مضيت إلى اليم، فاستخرجت لك هذه منه.
قال: فاشتغل عني بصدره وبعينيه، وما أصابه من السمكة، وخرجت.
فلما صرت خارج الدار، طرحت نفسي مستلقياً، لما لحقني من الجزع والفزع.
فخرج إلي، وصاح بي، وقال: ادخل.
فقلت: هيهات، والله لئن دخلت، لا تركتني أخرج أبداً.
فقال: اسمع، والله لئن شئت قتلك على فراشك، لأفعلن، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك، ولو كنت في تخوم الأرض، وما دام خبرها مستوراً، فأنت آمن على نفسك، امض الآن حيث شئت، وتركني، ودخل.
فعلمت أنه يقدر على ذلك، بأن يدس أحد من يطيعه ويعتقد فيه ما يعتقد، فيقتلني.
فما حكيت الحكاية، إلى أن قتل.
؟من أقوال الحلاج وتواقيعه وكان الحلاج، له الكتب المصنفة في مذاهبه، يسلك في كلامه فيها، مذاهب الصوفية، في الهوس، ويكثر من ذكر النور الشعشعاني، وإذا أفصح بكلام مفهوم، كان ترسله حسناً، وتلفظه به مليحاً.
أخبرني بعض أصحابه من الكتاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه علي، فحفظت منه قوله فيه: وقد الآن أوانك، للدولة الغراء، الفاطمية الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحق قناعه، ويبسط العدل باعه.
وأخبرني هذا الرجل، عمن حدثه من أصحابه، قال: كنا معه في بعض طرقات بغداد، فسمعنا زمراً طيباً شجياً.
فقال بعضنا: ما هذا؟ فقال لنا هو: هذا نوح إبليس على الدنيا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ضرب العود
يماثل صوت الهيب في أصول النخل: حدثني أبو محمد بن محمد اليومني البصري، وكان علامة لهم حسن النشوار، رواية للأخبار، ثقة، قال: اجتاز بعض البصريين، ومعه ابن له حدث، في طريق، فسمعا صوت ضرب عود، فاستطابه الفتى.
فقال لأبيه: يا أبت ما هذا؟ قال: يا بني، هذا صوت الهيب في أصول النخل.
والهيب: حديدة عظيمة كالبيرم يقلع بها أصول النخل، لا تنقلع إلا بها وهي تسمى ببغداد العتلة فمنها منبسط كالأسطام محدد، وتكون ثقيلة، لعل فيها نحو العشرة أمناء.
أبو جعفر الصيمري
وزيره معز الدولة يسخف في مجلس العمل: وكان هذا البومني حسن البلاغة، طويل اللسان، يتكلم في أمور الكافة بالبصرة، إذا عرضت المهمات العظام، ويناظر السلطان.
فلما جاء أبو جعفر الصيمري إلى هناك، وطالب الناس بالمعطل - ولهذه المطالبة شرح طويل - ناظره البومني في أنها غير واجبة، فلم ينزل تحت الحجة، وأخلد إلى القدرة.
فوعظه البومني، وقال: أيها الإستاذ، إن بلدنا، بلد كثير الصالحين، ضعيف الأهل، ما خير قط لمن ظلمهم، وإن أهله يكلونك إلى الله تعالى، ويومونك بسهام الأسحار، يعني الدعاء.
فقلب الصيمري الكلام إلى السخف، وكان شديد الإستعمال له ظاهراً في مجلس الحفل والعمل، فقال: يا شيخ، سهام الأسحار لحيتك، يعني الضراط.
أبو علي الجبائي والحلاج

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: أخبرني جماعة من أصحابنا: إنه لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلاج، وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة، في غير حينه، والدراهم التي سماها دراهم القدرة، حدث أبو علي الجبائي بذلك، فقال: إن هذه الأشياء محفوظة في منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتاً من بيوتكم، لا منزله هو، وكلفوه أن يخرج منه خرزتين سوداء وحمراء، فإن فعل فصدقوه.
فبلغ الحلاج قوله، وإن قوماً قد عملوا على ذلك، فخرج عن الأهواز.

بعض اعتقادات أصحاب الحلاج
وأهل مقالته الآن، يعتقدون أن اللاهوت الذي كان حالاً فيه، حل في ابن له بتستر: وأن رجلاً بها هاشمياً ربعياً، يقال له: محمد بن عبد الله، ويكنى بأبي عمارة، قد حلت فيه روح محمد بن عبد الله النبي صلوات الله عليه، وهو يخاطب فيهم بسيدنا، وهي من أعلى المنازل عندهم.
وأخبرني، من استدعاه بعض الحلاجية، إلى أبي عمارة هذا، بالبصرة، وله مجلس يتكلم فيه على مذاهب الحلاج، ويدعو إليه.
قال: فدخلته، وظنوا أني مسترشد، فتكلم بحضرتي، والرجل أحول، فكان يقلب عينيه في سقف البيت، فيجيش خاطره بذلك الهوس.
فلما خرجنا، قال لي الرجل: آمنت؟ فقلت: أشد ما كنت تكذيباً بقولكم الآن، هذا عندكم الآن بمنزلة النبي، لم لا يجعل نفسه غير أحول؟ فقال: يا أبله، كأنه أحول؟ إنما هو يقلب عينيه في الملكوت.
خال المؤمنين عند الحلاجية - 1
وأبو عمارة هذا، متزوج بامرأة من الأهوازيين، يقال لها بنت ابن جان بخش، ولها أخ فاجر يغني بالطنبور، وكان أبوه شاهداً جليلاً تانئاً موسراً، والحلاجية تعتقد أنه بمنزلة محمد بن أبي بكر، خال المؤمنين.
فحدثني عبيد الله بن محمد، قال: كنا نسير بالأهواز يوماً، ومعنا كاتب ظريف من أهل سيراف يقال له المبارك بن أحمد، فاجتزنا بالرجل، فقام، وسلم علينا.
فقال لي الكاتب: من هذا؟ فقصصت عليه قصته بأشرح من هذا، فقلب رأس بغله ورجع.
فقلت له: إلى أين يا أبا سعيد؟ قال: ألحقه، فأسأله عما سارته به أخته عائشة أم المؤمنين، يوم الجمل، لما أفضى إليها بيده ليخرجها من الهودج.
فضحكت من ذلك، ورددته.
خال المؤمنين عند الحلاجية - 2
وكان هذا الفتي، ابن جان بخش، قد ورث مالاً جليلاً، ودخل الديلم الأهواز عقيب ذلك، فتقاين بالمال، وعاشر الديلم، فأنفق أكثره عليهم، فتعلم الكلام بالديلمية، حتى صار إذا تكلم بها، كأنه من بلد الديلم، وهو أسماء قراهم، وعلامات بلدانهم.
فلما خف ماله، اشترى بغلين، ودابتين، وزوبينات، وسلاحاً وآلة الجند، وجعل لرأسه شعراً مثل شعور الجيل والديلم، وسمى نفسه حلوز بن يا علي، وكان أبوه في الأصل يكنى بأبي علي، وهذا الاسم من أسماء الجيل.
وجاء إلى أبي القاسم البريدي، وهو بالبصرة يحارب الأمير أحمد ابن بويه، فاستأمن إليه ومن الديلم والجيل خمسمائة، وقصته مشهورة.
قال: فأخبرني هو، قال: كنت، أداخل وأدعوهم، ولا يشكون أني ديليمي، وأعطيهم علامات بلدانهم، فإذا وقع من يفطن بي، أعطيته شطر الرزق.
قال: وكنت آكل الثوم، ولا أتعالج للصنان، وأصبر جيفة على مذاهب الديلم، وأجيء، فأرتفع في القيام، حتى ألزق بأبي القاسم، مما يلي رأسه، فيموت من بغض رائحتي.
قال: وعلت حالي عنده، فكان يطرح لي كرسياً برسم الخاصة، فإذا جلست، اصطدمت الذباب، وقتلته بحضرته، كأني ديلمي فج، فكان يضج مني، ويقول: يا قوم، أعفوني من هذا الديلمي الفج، البغيض، المتن، وخذوا مني أضعاف رزقه.
فأقمت عنده سنين، إلى أن انكشف خبري، فهربت من يده.
وهذا من طيب أخبار المورثين المتخلفين، فأفردته.
من أخبار متخلفي المورثين - 1
ومن طيب أخبار متخلفي المورثين، ما أخبرت به: من أن أحدهم ورث مالاً جليلاً جسيماً، فتقاين، وعمل كل ما اشتهى، فبلغني إنه قال: أريد أن تفتحوا لي صناعة لا تعود علي بشيء، أتلف بها هذا المال.
فقال له أحد جلسائه: اشتر التمر من الموصل واحمله إلى البصرة، فإنك تهلك المال.
فقال: هذا إذا فعل، عاد منه، ولو اثنان في العشرة، تبقى من أصل المال.
فقال له آخر: اشتر هذه الإبر الخياطية، التي تكون ثلاثاً بدرهم، وأربعاً، وتتبعها، فإذا اجتمع لك عشرة آلاف إبرة بجملة الدراهم، فاسبكها نقرة، وبعها بدرهمين.

فقال: أليس يرجع من ثمنها درهمان؟ فقال له أحدهم: كأنك تريد ما لا يرجع شيء منه البتة؟ فقال: نعم.
فقال: تشتري ما شئت من الأمتعة، وتخرج به إلى الأعراب، فتبيعه عليهم، وتأخذ سفاتجهم إلى الأكراد، وتأخذ سفاتجهم إلى الأعراب.
قال: وكان يعمل هذا، حتى فني ماله.

من أخبار متخلفي المورثين - 2
وبلغني أن آخر، أسرع في ماله، فبقيت منه نحو خمسة آلاف دينار، فقال: أريد أن تفنى بسرعة، حتى انظر أي شيء أعمل بعدها.
فعرضت عليه أشياء من هذا الجنس، فلم يردها.
فقال له بعض أصحابه: تبتاع زجاجاً مخروطاً بالمال كله، إلا خمسمائة دينار، وتعبيه، ويكون في نهاية الحسن، وتنفق الخمسمائة دينار في يوم واحد، في جذور المغنيات، والفاكهة، والطيب، والشراب، والثلج، والطعام، فإذا قارب الشراب أن يفنى، أطلقت فارتين في الزجاج، وأطلقت خلفهما سنوراً، فيتعادى الفار والسنور في الزجاج، فيتكسر جميعه، وتنهب الباقي.
فقال: هذا طيب.
فعمل ذلك، وجلس يشرب، فحين سكر، قال: هي، وأطلق الرجل الفارتين والسنور، وتكسر الزجاج، وهو يضحك، ونام.
وقام الرجل ورفقاؤه، فجمعوا ذلك الزجاج، وعملوا من قنينة قد تشعثت قدحاً، ومن قدح قد تكسر برنية غالية، ولزقوا ما تصدع، وباعوه بينهم، فرجع عليهم منه دراهم صالحة اقتسموها، وانصرفوا عن الرجل، فلم يعرفوا خبره.
فلما كان بعد سنة، قال صاحب المشورة، بالزجاج والفار والسنور، لو مضيت إلى ذلك المدبر، فعرفت خبره.
فجاء، فإذا هو قد باع قماش بيته، وأنفقه، ونقص داره، وباعها، وسقوفها، حتى لم يبق إلا الدهليز، وهو نائم فيه، على قطن، متغط بقطن قد فتق من لحف وفرش، بيعت وبقي القطن، فهو يتوطاه، ويتغطى به من البرد.
قال: فرأيته، وكأنه سفرجل بين القطنين.
فقلت: يا ميشوم، ما هذا؟ قال: ما تراه.
فقلت: في نفسك حسرة؟ قال: نعم.
قلت: ما هي؟ قال: أشتهي أن أرى فلانة، مغنية كان يعشقها، واتلف أكثر المال عليها.
قال: وبكى، فرققت له، وأعطيته من منزلي ثياباً، فلبسها، وجئنا إلى بيت المغنية، فقدرت أن حاله قد ثابت، فدخلنا إليها، فحين رأته، أكرمته، وبشت به، وسألته عن خبره، فصدقها عن الصورة.
فقالت له في الحال: قم ، قم.
قال: لم؟ قالت: لئلا تجيء ستي وتراك وليس معك شيء فحرد علي لم أدخلتك، فاخرج إلى برا حتى أصعد أكلمك من فوق.
فخرج، وجلس ينتظر أن تخاطبه من روزنة في الدار إلى الشارع، وهو جالس.
فقلبت عليه مرقة من قدر سكباج، وصيرته آية ونكالاً، وضحكت.
فبكى، وقال: يا أبا فلان، بلغ أمري إلى هذا؟ أشهد الله، وأشهدك أني تائب.
قال: فأخذت أطنز به، وقلت: أيش تنفعك التوبة الآن؟ قال: ورددته إلى بيته، ونزعت ثيابي عنه، وتركته بين القطن، كما كان أولاً، وحملت ثيابي، فغسلتها، وأيست منه، فما عرفت له خبراً، نحو ثلاث سنين.
فأنا ذات يوم، في باب الطاق فإذا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي إليه، فإذا به على برذون فاره، بمركب خفيف مليح فضة، وثياب حسنة، ودراريع فاخرة، وطيب طيب، وكان من أولاد الكتاب، وكان قديماً أيام يساره يركب الدواب من الدواب أفرهها، ومن المراكب أفخرها، وآلته وثيابه، وقماشه أفخر شيء مما كان يقدر عليه، أو ورثه عن والديه.
فحين رآني، قال: فلان، فعلمت أن حاله قد صلحت، فقبلت فخذه، وقلت: يا سيدي أبو فلان.
فقال: نعم.
قلت: إيش هذا؟ قال: صنع الله، والحمد له، البيت، البيت، فتبعته، حتى انتهى إلى بابه، فإذا بالدار الأولة، قد رمها، وجعلها صحناً واحداً، فيه بستان، وجصصها من غير بياض وطبقها، وترك فيها مجلساً واحداً، حسناً، عامراً، وجعل باقي المجالس صحناً، وقد صارت طيبة، إلا أنها ليست بذلك السرو الأول.
وأدخلني إلى حجرة كانت له قديماً، يخلو فيها، وقد أعادها إلى أحسن ما كانت عليه، وفيها فرش حسن ليس من ذلك الجنس، وفي داره أربعة غلمان، قد جعل كل خدمتين إلى واحد منهم، وخادم شيخ، كنت أعرفه له، قد رده، وجعله بواباً، وشاكري، وهو سائسه.
وجلس، فجاؤوه بآلة مقتصدة نظيفة، فخدم بها، وبفاكهة مختصرة متوسطة، وطعام نظيف كاف، إلا أنه قليل، فأكلنا، وبنبيذ تمر جيد، فجعلوه بين يدي، وبمطبوخ جيد بين يديه.
ومدت ستارة، فإذا بغناء طيب، وبخر بعود طري وند جميعاً، وأنا متشوف إلى علم السبب.

فلما طابت نفسه، قال: يا فلان، تذكر أيامنا الأولة؟ قلت: نعم.
قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد أفدته من العقل، والعلم بالزمان، أحب إلي من تلك النعمة، هو ذا ترى فرشي؟ قلت: نعم.
قال: إن لم تكن بذلك العظم، فهو مما يحتمل به أوساط الناس.
قلت: نعم.
قال: وكذلك آلتي، وثيابي، ومركوبي، وطعامي، وفاكهتي، وشرابي، فأخذ يعدد ويقول في كل فصل: إن لم يكن ذلك المفرط، ففيه جمال، وبلاغ، وكفاية.
إلى أن ذكر كل ما عنده، ويضيف ذلك أمره الأول، ويقول: هذا يغني عن ذلك، قد تخلصت من تلك الشدة الشديدة، تذكر يوم عاملتني المغنية لعنها الله بما عاملتني به؟ وما عاملتني به أنت ذلك اليوم، وقلته في كل يوم، وفي يوم الزجاج؟ فقلت: هذا قد مضى، والحمد لله الذي أخلف عليك، وخلصك مما كنت فيه، فمن أين لك هذه النعمة، والجارية التي نغنينا الآن؟ فقال: اشتريها بألف دينار، وربحت جذور القيان، وآمري الآن على غاية الإنتظام والإستقامة.
فقلت: من أين هذا؟ قال: مات خادم لأبي، وابن عم لنا بمصر، في يوم واحد، فخلفا ثلاثين ألف دينار، فحملت إلي بأسرها، فوصلت في وقت واحد، وأنا بين القطن، كما رأيت، فحمدت الله، وأعتقدت أن لا أبذر، وأن أدبر، وأعيش بها إلى أن أموت، وأنفقها على اقتصاد.
فعمرت هذا الدار، واشتريت جميع ما فيها من فرش وآلة وثياب ومركوب وجواري وغلمان، بخمسة آلاف دينار، وجعلت تحت الأرض خمسة آلاف دينار، عدة للحوادث، وابتعت ضياعاً ومستغلات بعشرة آلاف دينار، تغل لي في كل سنة، مقدار نفقي، على هذا المقدار الذي تراه من النفقة، ويفضل لي في كل سنة إلى وقت ورود الغلات، شيء آخر، حتى لا أحتاج أن أقترض ولا أن أستدين، وأمري يمشي على هذا.
وأنا في طلبك منذ سنة، ما عرفت لك خبراً، فإني أحببت أن ترى رجوع حالي، ومن دوام صلاحها، واستقامها، أن لا أعاشرك، يا عاض بظر أمه، أبداً، خذوا يا غلمان برجله.
فجروا والله برجلي، وأخرجوني، ولم يدعوني أتمم شربي عنده ذلك اليوم.
وكنت ألقاه بعد ذلك على الطريق راكباً.
فيضحك إذا رآني، ولا يعاشرني، ولا أحداً من تلك الطبقة.
ويبعد في نفسي، ما حكي من أمر سفاتج الأعراب والأكراد، والزجاج، فإن هذا عندي، لا تسمح به نفس مجنون.

ابن الدكيني يرث عن والده
خمسمائة ألف دينار: ولكن قد حكي: أن رجلاً من أولاد التجار ببغداد، يقال له: ابن الدكيني، وخبره مشهور ببغداد، مات أبوه، فخلف عليه خمسمائة ألف دينار، فلعب بها لعباً لم يسمع قط بأعظم منه.
وكان يضاهي المقتدر، وإذا بلغه أنه عمل شيئاً من ألوان اللذة والطيب واللعب، عمل ما يقاربه من جنسه.
وإنه كان يجذر دائماً بمائتي دينار في يوم، وينثر على المغنيات خمسة آلاف درهم، وعشرة آلاف درهم، غير دفعة، ويهب لهم الخلع، كل خلعة بثلاثة آلاف درهم، وألفي درهم، ومائة دينار.
ويهب منها في مجلس، عشر خلع، وخمس عشرة خلعة، يخرجها من دكان أبيه من التخوت، فيهبها.
وأنه كان إذا أصبح مخموراً، أحضر الثياب الدبيقي، فتخرق بحضرته باليد، عصائب للفصد، ويقول: لا يزيل خماري غير سماع أصواتها.
وإنه أنفق في فصاد فصدته عشيقته، ثلاث آلاف دينار.
وأشياء من هذا السرف.
وإنه لما لم يبق إلا نحو خمسين ألف دينار من ماله، تاب من هذا كله، ولزم يده، وتجهز للحج.
فأنفق فيه، وفي أبواب الثواب عشرة آلاف دينار.
فلما قضى حجه، وعاد يريد بغداد، مات في طريقه وهو شاب، فورث ورثته باقي ذلك المال.
وآخر في بالبصرة ورث عن والده
مائة ألف دينار: وسمعت بعض الطياب، يقول، وقد جرى ذكر رجل عندنا بالبصرة، ورث مقدار مائة ألف دينا، فتقاين بها في سنين قريبة، وعاد فقيراً.
فقال له ذلك الرجل: يا أخي فرسخ قراصنة في هذا العمل بضاعة.
تاجر من العسكر يحاسب ولده
على ما أتلف من المال: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كان بالعسكر رجل تاجر، موسر من التجار، يقال له أحمد بن عمر بن حفص، فخرج إلى أصفهان، فأنفق ابن له من ماله في القيان، ثلاثة آلاف دينار، وكوتب بذلك، فعاد.
فلما اجتمعا، طالبه بالحساب، فدافع.

فقال له أبوه يوماً: إلى كم تدافع بالحساب، وقد بلغني خبر ما أتلفت فيه المال؟ فإن كنت استفدت بذلك عقلاً، وعلماً بالزمان، وحنكتك الشدائد والأمور، وأدبتك، فليس هذا بغال، بهذا القدر من مالي، فإنه مالك، وإن لم تكن أفدت ذلك، فإن المصيبة فيك عندي، أعظم من المصيبة بذهاب المال.

أحمد الخراساني صاحب ابن ياقوت
وحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: كان أحمد بن محمد الخراساني، الذي صار بعد ذلك، صاحباً لابن ياقوت، جاءني وقد ورث خمسين ألف درهم، في أول عمره، فدخل دار الزكروية المغنية، وتعشق جارية لها، كانت مشهورة ببغداد، بالحسن والظرف، وطيب الغناء، يقال لها زهرة، كان الأحداث ببغداد قد استهتروا بها.
فقالت الزكروية: أراك قد عشقت جاريتي هذه، فكم هذه؟ قال: خمسين ألف درهم.
قالت: هذه دور بلا نحبة.
فما مضت إلا أيام، حتى أتلفها، فرأيته بجبة لا قميص تحتها ولا فوقها، يمشي حافياً، ثم صنع الله له بعد ذلك، وخدم ابن ياقوت، فأثرى وعقل.
أبو وسنا الخزاعي
والكلام الذي يطر الآجر: وحدثني قال: كان رجل من الرجالة، يقال له ابن وسنا الخزاعي، يتعشق حدثاً ببغداد، يقال له الحسين بن غريب البقال، حسن الوجه، رائعاً، خفيف الروح حسن الالتقاء، فأنفق عليه مالاً، وباع عقاراً كان له، ثم خف ماله، فأمسك يده عنه، وقطعه.
فقيل له بعد ذلك: لم تركت ابن غريب، وحلفت أن لا تكلمه؟ فقال: كلا حسين بن غريب يطير الآجر.
درة الرقاص الصوفي وأبو غالب بن الآجري
سمعت درة، الرقاص الصوفي، يقول: استترت مع أبي غالب بن الآجري، كاتب صافي، أحد الساجية، شهراً، فضاف صدري، فتركته وهربت منه، وغبت أياماً عند أخواتي، ثم جئته، فعاقبني.
فقلت: يا هذا ضاق صدري.
فقال لي: استر معي أيام استتاري، فإذا خلصني الله، دوعتك أياماً متتابعة، بعدد أيام استتارك عندي، أجذر لك في كل يوم غناء بمائة دينار.
فاستترت معه بعد هذا نحو شهر، ثم فرج الله عنه، وظهر، وعادت حاله.
فلما التقينا، قلت: النذر.
قال: نعم، إجلس، لنجعل اليوم أوله، فجذر ذلك اليوم، وتلك الليلة، قياناً بمائة دينار، وأنفق قريباً منها، ثم لم يدع القيان يخرجن، إلا أن يملهن، فيحضر بدلهن.
وجلسنا على تلك الحال، يجذر في كل يوم وليلة بمائة دينار قياناً، وينفق في طعام وشراب وفاكهة وطيب، مثلها.
وكان ربما احتاج إلى لقاء صاحبه، والتصرف في شغله، فيخرج، ويركب، ويتصرف، ويعود ليلاً، أو عشياً، وكما يستوي له، والغناء جالس، والمطبخ قائم، ونحن نأكل ونسمع، وهو غائب عن داره، حتى وفى لي أياماً بعدد أيام استتاري معه، وكانت أكثر من ثلاثين يوماً.
آخر أبي غالب بن الآجري
ولقد رأينا أنا، أبا غالب الآجري هذا، وقد ورد البصرة في أيام أبي القاسم البريدي، فاستشفع على أبي بغلامه مبشر، لأنه كان قد ملكه في أيام نعمته.
وكنت أرى مبشراً غلامنا، يبره في الأوقات، من ماله، بعشرين درهماً، وثلاثين درهماً، ويأخذ له من أبي سبعين درهماً، ومائة درهم، في أوقات، وهو يجيء إلى مبشر، فيواكله، ويشاربه، ويعاشره، وكأنه نديم له، بدالة ملكه إياه، ورأى عليه قميصاً مخرقاً، ودراعة مرقوعة، ونعلين كنباتي في رجله يمشي بهما في الطرق، وغلامه خلفه، ومعه خف منعل، فإذا حصل في دهليزنا لبسه، ودخل إلى أبي.
ولزمنا مدة، إلى أن خاطب أبيبعض العمال في تصريفه بعشرة دنانير في الشهر، فصرف فيما هذا مقداره.
درة الصوفي يتحدث عن المورثين
وقال لي درة الصوفي: كان المورث، إذا اجتذبنا إلى اللعب معه، ومعه عشرة آلاف دينار، أو مائتا ألف درهم، سميناه: المعجل.
فقلت له: ما معنى هذا؟ فقال:: النساء، إذا مات لهن ابن له شهور دون السنة، أو سنة إلى حد الفطام، سمينه المعجل.
وكنا نحن نسمي هذا بالمعجل، بمعنى أن ماله، لا يبلغ به في هذا العمل، إلا إلى حد الطفل الذي يموت في شهور، أو سنة وأشهر للنساء، فيسمونه المعجل.
ونعوذ بالله من الإدبار، وتغير النعم، وإيحاشها بقلة الشكر.
فصل من كتاب كتبه القاضي التنوخي

إلى رئيس: ولقد كتبت، في محنة لحقتني، إلى رئيس، كتاباً فيه فصل يتعلق بما ذكرته، من منادمة أبي غالب الكاتب، لمبشر مولانا، بدالة ملكه له، وقبوله بره بتلك الحجة، استحسنته، فأوردته هاهنا وهو: لا أحوجك الله إلى اقتضاء ثمن معروف أسديته، ولا ألجأك إلى قبض عوض عن جميل أوليته، ولا جعل يدك السفلى لمن كانت عليه هي العليا، وأعاذك من عز مفقود، وعيش مجهود، وأحياك ما كانت الحياة أجمل بك، وتوفاك إذا كانت الوفاة أصلح لك، بعد عمر مديد، وسمو بعيد، وختم بالحسنى عملك، وبلغك في الأولى أملك، وسدد فيها مضطربك، وأحسن في الأخرى منقلبك، إنه سميع مجيب، جواد قريب.

أبو الحسن الموصلي كاتب أبي تغلب
والسيدة جميلة ابنة ناصر الدولة: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: رأيت أبا الحسن علي بن عمرو الموصلي يكتب إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة، وكتب في موضع من الكتاب أمور حميدة.
فقلت له: هذا الموضع يصلح أن يكون فيه أمور جميلة فأما حميدة، فهي لفظة مستكرهة.
فقال: صدقت، ولكني كتبت، وأنا الموصل، رقعة إلى أبي تغلب، فيها أمور جميلة فوصلت إليه، وهو عند أخته جميلة، وهي غالبة عليه، محتوية على أمره، لا يقطع شيئاً من دونها، ولا يفصل رأياً إلا عن مشورتها، وكانت الرقعة مما احتاج إلى مطالعتها بما فيها فقرأها عليها فأنكرت علي قولي جميلة، لأنه اسمها، إنكاراً شديداً، احتجت معه إلى الإعتذار مما كتبت، فما كتبت بعدها الآن، جميلة في شيء من مكاتباتي إلى أحد، وصار تركها لي طبعاً.
علية بنت المهدي تتحامى اسم طل
ويشبه هذا، قول علية بنت المهدي، لما قرأت القرآن فبلغت إلى قوله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإن لم يصبها وابل فطل " صدق الله العظيم " ، فقالت: فإن لم يصبها وابل فما نهى أمير المؤمنين عن ذكره، ولم تقل طل، لأنه كان اسم خادم تعشقته، فبلغ الرشيد أخاها خبرها معه، فجرى عليها منه مكروه غليظ، وأحلفها على أشياء منها أنها لا تذكره.
امرأة بغدادية تتظرف فتحرف القرآن
وقد حكي: أن بعض النساء الظراف، قرأت: تعلم ما في روحي ولا أعلم ما في روحك، ولم تقل نفسي لأن الظراف، لا يقولون ذلك فقال لها بعض من سمعها: ويحك، فأنت أظرف من الله؟ قولي كما قال.
بحكم أمير الأمراء
وفتوة جارية الهاشمية: أخبرني غير واحد: إن بحكم الماكاني أمير الأمراء ببغداد، عشق جارية من القيان بها، يقال لها فتوة جارية الهاشمية، وكان يتكبر عن شرائها، ويرفع نفسه أن يبوح بمحبتها، ويحضرها، فيعطيها كل شيء.
وكان قد استعمل لها عوداً، من عود هندي، قام عليه بمال، وكانت تغني به.
فسكر يوماً، فخسف وجه العود، وقلعه، وملأه لها دراهم، فوسع نيفاً وعشرين ألف درهم.
أبو العباس البغدادي
وإنفاقه ماله في الفساد: وكان عندنا بالبصرة، دلال من أهلها يعرف بأبي العباس البغدادي ورث في حداثته مالاً جليلاً، فتقاين بجميعه، فلما افتقر، صار دلالاً، فكسب أيضاً كسباً ثانياً كبيراً، فما كان يبقى منه شيئاً، بل ينفقه كله في الفساد.
فأخبرني بعض الشيوخ البصرة، قال: رأيته، وهو حدث، في ليلة شهر رمضان، مملوء الكم، يريد دار بدعة الدرونية، وكانت إذ ذاك مغنية البلد، المشهورة فيه، بالنبل، والحذاقة، والطيب، والحسن، ولها أخبار كثيرة طريفة.
فقلت: إيش في كمك يا أبا العباس.
فقال: مخلط خراسان أتصدق به على بدعة، صدقة شهر رمضان.
فلم أشك في أنه كذلك.
فقلت: فأطعمني منه، فطرح في كمي منه شيئاً ثقل به كمي، وافترقنا.
فلما بلغت بيتي أردت أن أطعم عيالي منه، فنظرت فإذا هو لوز ذهب، وسكر فضة، وفستق وبندق عنبر، وزبيب ند، فخبيته.
فلما كان من غد، نظرت فإذا قيمته مال، فجئت إليه، ورددته عليه.
فقال: يا بارد، أيش هذا حتى ترده؟ جميع ما كان في كمي البارحة، كذا، فرقته على بدعة وجواريها.
فقلت: لو عملت هذا ما طلبته منك.
قال: فظننت أني على الحقيقة أحمل لوزاً وسكراً وزبيباً وفستقاً؟.
كل نفس آتيناها هداها
حدثني أحمد بن عبد الله بن بكر البصري، قال: حدثني عروة الزبيري: إنه حج في سنة الهبير، فاشترى من مكة قرداً، وكان مع عديله كلب، فألف القرد الكلب، فكانا يأكلان في موضع واحد.

قال: فقطع علينا القرمطي، وأخذنا السيف، وتفرق الناس، وحيل بينهم، وبين أمتعتهم ورحالاتهم، ومشيت أنا، فأفلت فيمن أفلت، وجئت إلى الكوفة، وما أملك درهماً واحداً.
فبينا أنا جالس يوماً أفكر، لمن أسأل، وكيف أعمل، إذ سمعت جلبة وضوضاء.
فخرجت أبصر ما هي؟ فإذا القرد قد ركب الكلب، وجاءا كذلك، فدخلا الكوفة، والناس يضحكون منهما.
وإذا القرد كان يطعم الكلب، ويريد منه الركوب، واحتال لنفسه بذلك، طول الطريق.
فلما رأيت القرد والكلب استدعيتهما فجاءا إلي.
فقال الناس: ما هذا؟ فقلت: هما لي، فأخذتهما.
وبلغ أمير الكوفة الخبر، فراسلني في بيعهما عليه.
فبعتهما عليه بثلثمائة درهم، فكانت سبب صلاح حالي في الوقت، وخرجت البلد.

ما للماء للماء وما للخمر للخمر
وروي عن وهب بن منبه: أنه كان في عهد بن بني إسرائيل، خمار، فسافر بخمر له ومعه قرد، وكان يمزح الخمر بالماء نصفين، ويبيعه بسعر الخمر، والقرد يشير إليه أن لا تفعل، فيضربه.
فلما فرغ من بيع الخمر، وأراد الرجوع إلى بلده، ركب البحر، وقرده معه، وخرج فيه ثيابه، والكيس الذي جمعه من ثمن الخمر.
فلما سار في البحر، استخرج القرد الكيس من موضعه، ورقى الدقل وهو معه، حتى صار في أعلاه، ورمى إلى المركب بدرهم، وإلى البحر بدرهم.
فلم يزل ذلك دأبه، حتى قسم الدراهم نصفين، فما كان بحصة الخمر، رمى به إلى المركب، فجمعه صاحبه، وما كان بحصة الماء رمى به إلى البحر فهلك، ثم نزل عن الدقل حتى حصل في المركب.
قرود اليمن ترجم الزاني والزانية
حدثني أبو عمر أحمد بن عبد الله أحمد بن بكر البصري، قال: حدثني النعمان الواسطي المحدث إنه كان باليمن، فحدثه بعض من يثق به من الرعاة هناك، قال: كنت أرعى غنماً لي في بعض الأودية، فرأيت قردين، ذكراً وأنثى، وهما نائمان في مكان من الجبل.
فجاء قرد ذكر، يخفي مشيه، حتى حرك الأنثى، وهي إلى جنب الذكر، فانتبهت، ومضت معه، وافترشها، وأنا أراهما.
فانتبه ذكرها، فرآها، فزعق زعقة عظيمة، فاجتمع إليه من القرود عدد كثير، هالني.
فصاح بين أيديهم، فأقبلوا يتشممون الأنثى، حتى فرغوا كلهم من تشممها.
ثم نزلوا بها، وبالذكر الذي وطئها، تخفياً من ذكرها، إلى وهدة بعيدة، فدحرجوها فيها قهراً، ثم رجموهما بالحجارة، حتى ماتا.
دب في شيراز ينفخ في زق حداد
قال: حدثني أبو الحسن الزجاج، صديق - كان لي - ثقة: إنه شاهد بشيراز، دباً، ينفخ في زق حداد، كأنه أقامة مقام الأجير.
دب يضرب بمطرقة حداد
قال: شاهدت أيضاً دباً يضرب بالمطرقة، على حداد، فغلط يوماً، فضرب دماغ الحداد فقتله.
خاقان المفلحي يستطيب لحم الدب والضبع
حدثني أبو محمد الصلحي الكاتب، قال: حدثني أبي، وكان يكتب لخاقان المفلحي، قال: شربت معه يوماً، فنقلني بقديد، فلم حصل في فمي، لم أستطبه.
فقلت: أيها الأمير، ما هذا؟ فقال: هذا قديد الدب.
فرميت به، وقذفت، وثارت بي أخلاط، وصارت علة، فأقمت أربعة أشهر عليلاً في بيتي.
قال: وكان خاقان، يأكل لحم السباع، والضباع، ويستطيبها، ولحم كل شيء له لحم.
وصف له الطبيب فروجاً، فأكل مهراً
وأخبرني وهب بن يوسف، اليهودي، الطبيب، عن داود اليهودي، الشامي، قال: كنت أخدم خاقان، فاعتل، فحميته، فاحتمى، وصلح، وأقبلت العافية.
فقال لي: لا أقدر أحتمي أكثر من هذا.
فقلت له: كل فروجاً.
فلما كان من غد، جئته، فوجدت الحمى، قد عادت أعظم مما كانت، وهي في طريق البرسام.
فقلت له: ما عمل الأمير أمس؟ فقال: أكلت فروجاً.
فقلت: ليس هذا من فعل الفروج، أي فروج هذا، حتى فعل هذا؟ فقال لي بعض غلمانه: إنه ذبح مهراً، وأكل منه أطايبه.
فقلت: أيها الأمير، أصف لك فروجاً، فتأكل لحم دابة؟ فقال: بابا، إنما أكلت فروج الدابة.
فقلت في نفسي: خذ الآن فروج الموت.
ومازلت أعالجه شهوراً كثيرة، حتى برىء.
وظيفة خاقان المفلحي في كل يوم
من اللحم ألف مائتا رطل: قال أبو محمد الصلحي، عن أبيه: كانت وظيفة خاقان المفلحي، في كل يوم، ألف رطل ومائتي رطل لحماً، له، ولغلمانه، وخدمه، وكل ما يتخذ في داره، إذا كان في أعماله.
فإذا كان ببغداد، اقتصر على النصف من ذلك، وهو ستمائة رطل لحماً، سوى الحيوان الذي يذبح في المطبخ.

وظيفة الوزير أبي الفرج بن فسانجس
من اللحم في كل يوم: وأخبرني بعض وكلائه وزراء هذا الزمان، وهو أبي الفرج بن فسانجس: إن وظيفة كانت، في أيام وزارته، في كل يوم، نيف وستين رطلاً لحماً، له، ولنسائه وغلمانه، وجميع ما يتخذ في دوره، وثلاثة جدي، وعشر دجاجات، وأربعة أو خمسة أفرخ، وثلاث جامات حلوى من السوق، وليست من فاخره، وإنما هي زلابية دقيقة، أو فالوذج، أو ما يجري مجرى ذلك.
كفى بالأجل حارسا
ً
سمعت قاضي القضاة، أبا السائب، يحكي: إن رجلاً كان له على رجل دين، فهرب منه، فلقيه صاحب الدين في صحراء فقبض عليه، وأخرج قيداً كان معه، فقيده ونفسه به، وجعل إحدى الحلقتين في رجل غريمه، والأخرى في رجل نفسه، ومشيا إلى قرية تقرب من الموضع، فجاءاها، وقد أدركهما المساء، وأغلق أهل القرية باب سورها، فاجتهدا في فتحها لهما، فأبى أهل القرية، فباتا في مسجد خراب على باب القرية، فجاء السبع وهما نائمان، فقبض على صاحب الدين فافترسه، وجره، فانجر الغريم معه، فلم تزل تلك حاله إلى أن فرغ السبع من أكل صاحب الدين، وشبع، وانصرف، وترك المديون وقد تجرح من جره وسحبه عليه، وبقيت ركبة الغريم في القيد، فحملها الرجل مع قيده، وجاء إلى القرية، فأخبرهم الخبر، حتى حلوا قيده، وسار لوجهه ذلك.
عريان أعزل يصيد الأسد
حدثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيار: إن رجلاً أجنة الليل في بعض أسفاره، فبات في خان خراب، بقرب أجمة، وماء مستنقع، وكانت ليلة قمراء، وكان الموضع مسبعاً، والرجل عارف بذلك، فرقي سطح الخان، وطلب لبناً فشرجه على باب الدرجة، وجلس يترقب، فإذا رجل عريان، قد جاء حتى جلس على الماء.
قال: فقلت له: ما تصنع؟ قال: جئت لأصطاد السباع.
فقلت: يا هذا اتق الله في نفسك.
فقال: الساعة ترى.
فلم يلبث هنيهة، أن طلع سبع، فتراءى له الرجل، فصاح به، فقصده: فلما قرب منه، طرح الرجل نفسه في الماء، فرمى السبع بنفسه خلفه في الماء، فغاصا، فإذا الرجل قد خرج من وراء السبع، وعلق خصييه بيده، ثم أخرج من منديل على رأسه، قصبة مقدار ذراع، مجوفة، فارسية، وثيقة، نافذة، فدسها في جاعرة السبع، وأقبل يدخل فيها الماء بإحدى يديه، وكلما دخل جوف الأسد الماء ثقل، وضعف بطشه، وهو يمرس مع ذلك خصاه، إلى أن غرقه، وقتله.
ثم جره في الماء فأخرجه إلى الشط، وسلخ جلده، وأخذ جبهته، وكفه، وشحمه، ومواضع يعرفها منه لها ثمن.
ثم صاح بي: يا شيخ، كذا أصطاد السباع.
وتركني ومضى.
لئيم يفخر بلؤمه
حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه، بن أبي علان الأهوازي الكاتب، خال والدي، قال: كانت بيني وبين أبي جعفر بن قديدة، عداوة، وكنت قد تبت من التصرف مع السلطان.
فتقلد ضياع السيدة أم المقتدر، وفيها ما يجاوز ضيعتي، فآذاني أذى شديداً، في الشرب، والأكرة، وقصد إخراب ضيعتي، وإبطال جاهي فصبرت عليه.
فقبض يوماً على أكار لي، فصفعه صفعاً عظيماً، فأنفذت إليه كاتباً كان يكتب لي على ضيعتي، يعرف بأبي القاسم على بن محمد بن خربان، ليعاتبه، ويستكفه، ويأخذ الأكار، فتلقى الرجل بكلام غليظ.
فعاد إلي، فقال: إن هذا قد جدبك، فخذ حذرك، ودبر أمرك بغير ما أنت فيه.
فقلت: ما الخبر؟ فعرفني ما جرى عليه.
ففكرت، فلم أر لحسم مادته، وأذيته في نفسه، غير ضمان ضياع السيدة، وتسلمه، ومطالبته بالحساب، وإيقاعه في المكاره.
فكتبت إلى كاتب السيدة، وخطبت ضمان النواحي، بزيادة ثلاثين ألف دينار في ثلاث سنين، عما رفعها ابن قديدة، على أن تسلم إلي، لأحاسبه وأطالبه، بما يخرجه الحساب عليه، وأوفره، مضافاً إلى هذه الزيادة.
وأنفذت الكتاب مع فيج قاصد.
فحين نفذ، اغتممت، وقلت: ضياع لا أعرف حاصلها على الحقيقة، لم حملت نفسي على هذا؟ وكان احتمال عداوة الرجل، أيسر من هذا.
وطرحت نفسي مفكراً، وأنا بين النائم واليقظان، حتى رأيت، كأن رجلاً شيخاً، أبيض الرأس واللحية، بزي القضاة، قد دخل إلي وعليه طيلسان أزرق، وقلنسوة، وخف أحمر.
فقال: ما الذي يغمك من هذا الأمر؟ ستربح في أول سنة من هذا الضمان، على ما زدته، عشرة آلاف دينار، وتخسر في الثانية، عشرة، وتخرج في الثالثة بغير ربح ولا خسران، ويكون تعبك بإزاء اشتفائك من عدوك.

فانتبهت متعجباً، وسألت: هل دخل إلي أحد؟ فقالوا: لا، فقويت نفسي قليلاً.
فلما كان في اليوم الثاني والعشرين، ورد رسول من بغداد، بكتب إلي قد أجبت فيها إلى ملتمسي، وكوتب في طيها، عامل كان لهم بالطيب مقيماً، يشرف على جميع عمالهم بكور الأهواز يؤمر بقدومها وتسليم ابن قديدة إلي، وعقد الضمان علي.
فأنفذت إلى العامل سفتجة بألف دينار مرفقاً، وكتبت إليه، وسألته الحضور، وأنفذت إليه الكتب الواردة.
فلما كان بعد أيام، كنت جالساً مع عامل الأهواز، على داره بشاطىء دجيل فإذا عسكر عظيم قد طلع من جانب المأمونية.
فارتاع، وظن أن صارفاً قد ورد، وأنفذ من سأل عن الخبر، فعاد، وقال: فلان، عامل السيدة، فعبر في طياره، وأنا معه، لتلقيه.
فحين اجتمعا، قال له: يا سيدي، أريد ابن أبي علان.
فقلت: أنا هو يا سيدي.
قال: ولم يكن يعرفني، ولا أعرفه إلا بالوجوه فأقامني من موضعي، ورفعني فوق الجماعة، وتحير العامل، ومن حضر.
وقال له: أريد ابن قديدة، فأنفذ إليه، فاستدعاه.
فحين حضر قيده، وقال لي: يا أبا القاسم تسلمه.
فقال العامل: أيش هذا التعب؟ وأقبلت الجماعة تمازحني.
فقلت: هو أحوجني إلى هذا.
قال: فتسلمه، وقمت إلى داري.
وعبر عامل السيدة، فحملت إليه من الألطاف، والأنزال، والهدايا، ما صلح، وعقد علي الضمان من غد، وانصرف في اليوم الثالث.
وحملت إليه ألف دينار أخرى مرفقاً.
وحصلت ابن قديدة معي في المكاره متردداً، ووفرت من جهته مالاً على السيدة، وكاتبها، وكذا العامل، وارتجعت ما لزمني على مؤونة العامل ومرفقة.
وأطلقته بعد شهور إلى داره، وقد ركبه دين ثقيل، وباع شيئاً من ضيعته، وانكسر جاهه، وانخزلت نفسه.
ونظرت في الضمان، وتصرمت السنة، فربحت عشرة آلاف دينار.
فقلت: قد جاء ما قال الشيخ في المنام، فأثبتها عند الصارف، ولم أدخلها في دخلي، ولا في خرجي.
فلما كانت السنة الثانية، قعدت بي الأسعار، فخسرت ذلك القدر، فأديته بعينه في الخسران.
فلما كانت السنة الثالثة، خرجت رأساً برأس، ما خسرت ولا ربحت شيئاً.
فصححت مال الضمان، وكتبت أستعفي، وقد علمت أن النكبة قد بلغت بابن قديدة إلى حد لا يجسر أن يتقلد معها، ولا أن يقلد أيضاً.
فلم يعفني كاتب السيدة، وطالبني بتجديد الضمان على الزيادة، وعمل على التأول عليها من ابن قديدة.
وأنفذ في إشخاصي، خادماً من كبار خدم السيدة، فجاء في طيار، وأمر هائل، فتخوفت من الشخوص معه، فأحصل في الحبس، وتستمر علي المكارة، وأنقطع عن الشروع في الخلاص.
فأنزلت الخادم، وهاديته، ولاطفته، وحملت إليه خمسة آلاف درهم فاستعظمها، وعبدني.
فقلت له: إن ذيلي طويل، وأريد أن أصلح أمري، ثم أخرج، فتمهلني أسبوعاً، وتدعني أخلو في منزلي، وأصلح ما أحتاج إليه، ثم أخرج معك، فمكنني من ذلك.
فقلت لإخوتي، وأصهاري، وكتابي: ليدعه كل واحد منكم يوماً، له، ولغلمانه، وأسبابه، وامنعوهم من معرفة خبري، وشاغلوهم بالنبيذ، والشطرنج، والمغنيات، ففعلوا ذلك.
وخرجت أنا تحت الليل بمرقعة، راكباً حماراً، ومعي غلامان من غلماني، ودليل، وليس معي شيء من الدنيا، إلا سفاتج بخمسة آلاف دينار.
وسرت واشتغل الخادم بالدعوات، فما عرف خبري إلا وأنا بواسط، فقامت قيامته، وانحدر في طريق الماء، فوصل إلى الأبلة، وقد قاربت أنا بغداد، ثم دخلتها متخفياً، وطرحت نفسي على أبي المنذر النعمان ابن عبد الله، وكانت لي به حرمة وصحبة، أيام تقلده الأهواز، وتصرفي معه، فلقي بي أبا الحسن، علي بن عيسى، وهو إذا ذاك الوزير، وعرفه محلي.
فقال لي: قد كنت أحب أن أراك، لما يبلغني من حسن صناعتك، وطرح إلي أعمالاً، فعملتها بحضرته، وأعجبته صناعتي، وقرظني.
ولزمته أياماً، وخبري منستر عن كاتب السيدة، ثم خاطب الوزير في أمري، وخوطبت السيدة.
فقالت: لا أقرر أمره، أو يصير إلى ديواني.
فقال لي: امض وأنا من ورائك، ولا تخف.
فمضيت، فاغتفلوني، فراسلتهم في أمري.
وحضر أبو المنذر، ديوان السيدة، فتوسط ما بيني وبينهم، وقرر الأمر على صلح ثلاثة آلاف دينار، آو نحوها - الشك مني - وضمنها عني، وأخذني إلى داره، فأديتها إليه من جملة السفاتج.

وطالبني علي بن عيسى، بالتصرف معه، فعرفته توبتي منه، وإني إنما ضمنت هذا الضمان، لضرورة، وشرحت له الخبر، فأعفاني.
فرجعت إلى الأهواز، وقد مضت السنون على العداوة بيني وبين ابن قديدة، إلا أنه منهزم.
وكتب السلطان ببيع ضياعه بالأهواز، وكان الناس يشترون ما يغل في سنة وأكثر، بنصف ثمنه، فاشتريت ما كان فيه غناي، وخرقت فيه الحكم.
واشترى أبو عبد الله البريدي لنفسه، بأسماء قوم، أمراً عظيماً، برأيي واختياري له، وكان سره عندي، وكان في ذلك الوقت لا يتقضى علي.
واشترى ابن قديدة، فيمن اشترى، وتصرفنا في الضياع.
فكتب السلطان بإلزامنا زيادة عظيمة، أظنه قال: مائة ألف دينار.
فقال لي البريدي: كيف أعمل في الزيادة؟ قلت: لا يلزمها الناس لك، وواضعت أهل البلد على الإمتناع، فجمعهم، وخاطبهم، فامتنعوا، واحتاج إلى أن خبطهم.
فخلا بي، فقال: ما أعرف في هذا غيرك، فدبره لي، وألزمني ذلك، فقلت: مكني من العمل بما أريد، وعلي المال.
فقال: أنت ممكن.
فجلست أنا وغلام جوذاب، فقسطنا المال على أهل البلد، وأخرجنا أنفسنا، فما ألزمناها شيئاً، ونقصنا من عنينا به، وزدنا بإزاء ذلك على غيره.
قال: واعتمدت أن قسطت على ابن قديدة ضعف ما يلزمه، وعملنا بذلك جرائد.
وناظرنا الناس على الإلتزام بما قسطناه، فامتنعوا، وقالوا: على أي حساب هذا؟ وحاسبونا، وناظرونا.
فقلت للجماعة: من صلح له أن يلتزم هذا التقسيط، وإلا فليحاسبنا على ما قبضه من غلات الضياع التي اشتراها، وأنا أرد عليه ما يبقى له من الثمن بعد ذلك، وآخذ ما اشتراه، وألتزم هذه الزيادة.
وكان كل إنسان قد اشترى ما في شركته، وما في جواره، مما كان يتأذى به هو وأسلافه، منذ مائة سنة، وما كان يتمناه ويشتهيه منذ ذلك العهد، وما قد ارتخصه، واستصلحه.
فقامت قيامة أهل البلد، والتزموا عن أخرهم التقسيط، على ما فصلته عليهم، من غير محاسبة.
ووركت على ابن قديدة مالاً عظيماً، فلم يكن له فيه وجه.
فأنا جالس في بيتي ليلة، إذ جاءني فدخل إلي.
فقلت: ما هذا يا أبا جعفر؟ وقمت إليه، وسلمت عليه، فعاتبني، وخضع لي.
فقلت: ما تريد؟ فقال: تخفف عني من التقسيط، وتعاونني بمالك، فو الله، ما معي ما أؤديه.
فخففت عنه منه شيئاً يسيراً، وأقرضته ثلاثين ألف درهم، وكتبت بها عليه قبالة، وأشهدت فيها حماعة عدول البلد، وتركتها في بيتي، فلم أفكر في المال سنين.
ورجعت أدس المكاره، والمغارم، والمحن عليه، وهو يذوب، وينقص في كل يوم.
فلما علمت أنه قد بلغ آخر أمره، طالبته بالدين، فاستتر عني في منزله.
فاستعديت عليه إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، فكتب لي عدوى إلى صاحب المعونة.
فهرب من داره، فنادى القاضي على بابه بالحضور، فلم ينجع ذلك.
فسألت البريدي إخراجه، فكبس عليه وأخرجه، وأحضره معي إلى القاضي، فقامت البينة عليه بالمال.
فسألت القاضي حبسه.
فقال لي القاضي علي بن محمد: الحبس في الأصل غير واجب، وذوو المروءات لا يحبسون مع أصاغر الناسفي حبس واحد، ولكن أمكنك من أن تلازمه بنفسك أو أصحابك، كيف شئت.
فلازمته في مسجد على باب القاضي بأصحابي ومضيت إلى البريدي، فقلت: قد لحقت خصمي عناية القاضي، فالله الله في، فإني لا آمن أن يدس ابن قديدة إلى أكرته، أو إلى قوم من الجيش، فيؤخذ من يدي، ويخرج إلى بغداد، فيبطل المال علي، ويحصل هناك يسعى بي، ويعرض نعمتي للزوال.
قال: فخاطب البريدي القاضي في ذلك، فتقرر الأمر بينهما على أني اكتريت داراً قريبة من حبس القاضي، أؤدي أنا أجرتها، وأجلس ابن قديدة فيها، وألازمه بأصحابي، وأوكل بها رجالة أعطيهم من مالي أجرتهم يحفظونه.
فنقلته إليها، فأقام فيها سنة وكسراً، وهو لا يؤدي المال، ويكايدني عند نفسه، وأنا قد رضيت أنا يتأخر المال، ويبقى هو محبوساً.
واعتل علة صعبة، فجاءتني أمه، وكانت بيني وبينها قرابة، فسألتني إطلاقه، وبكت، فلم أفعل.
إلى أن بلغني أنه في النزع، وجاءتني تبكي، فرحمتها، فأطلقته لها، بعد أن كفلته منها.
فمات بعد ثلاثة أيام، وابتعت بالمال ضياعاً من ضياعه.

كيف تاب بن أبي علان من التصرف

قلت لأبي القاسم ابن أبي علان: كيف كانت توبتك من التصرف؟ وما سببها؟ قال: كان سبب ذلك، أن أبا علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رحمه الله، كان يجيء إلى الأهواز فينزل علي، لأني كنت كاتب ديوان الأهواز، وخليفة أبي أحمد بن الحسين بن يوسف على العمالة، والأمر كله إلى أدبره.
وكان أبو علي يقدم الأهواز في كل سنة دفعة، وقت افتتاح الخراج، ويستضيف إلى خراج ضيعته بجبي، خراج قوم كان رسمهم أن يكونوا في أثره على مرور السنين.
فإذا قدم البلد، أعظمه الناس وأكرموه، ولا ينزل إلا علي في أكثر الأوقات، فأقرر أمره مع العامل.
وربما كان العامل غير صاحبي، أو من لا يعرف محل أبي علي، فيكون ما يقرر عليه أمره أقل من ذلك، إلا أنه كان لا يخلو من أن يسقط عنه نصف الخراج أو ثلثه.
فإذا عاد جبي، لم يلزم نفسه من خراج ضيعته شيئاً البتة، ونظر إلى ما بقي، بعد إسقاط خراجه من النظر، ففضه على القوم الذي في أثره، وألزمهم بإزاء ذلك، أن يضيف كل واحد منهم، رجلاً من الفقراء الذين يتعلمون منه العلم طول السنة، فيكون ما يلزم الواحد، على الواحد منهم، شيئاً يسيراً لا يبلغ خمس ما أسقطه عنه من الخراج بجاهه.
ويعود هو فيخرج من ضيعته العشر الصحيح، فيتصدق به على الفقراء من أهل الحوز، قريته التي هو مقيم فيها، وعلى أهل محلته، وكان هذا دأبه في كل سنة.
فنزل علي في بعض قدماته، فبلغت له مراده في أمر الخراج، وجلسنا ليلة نتحدث.
فقلت له: يا أبا علي أتخاف مما أنا فيه شيئاً؟ فقال: يا أبا القاسم، وكيف لا أخاف عليك، والله، لئن مت على هذه الحال، لا رحت رائحة الجنة.
فقلت: ولم؟ ولأي شيء؟ وإنما أنا أعمل الحساب، وأجري مجرى ناسخ، وآخذ أجري من بيت المال، أو يجيئني رجل مظلوم، قد لزمته زيادة باطلة في خراجه، فأسقطها عنه، وأصلحها له في الحساب، فيهدي إلي بطيب قلبه، أو أرتفق من مال السلطان بشيء، ولي في فيء المسلمين قسط يكون هذا بإزائه.
فقال: يا أبا القاسم، إن الله لا يخادع، أخبرني، ألسن أنت تختار المساح، وتنفذهم إلى المساحة، وتوصيهم بالتقصي، فيخرجون، فيزيدون بالقلم واحداً أو اثنين في العشرة، ويجونك بالتزاوير، فتسقطها أنت، وتعمل الجرائد، وتسلمها إلى المستخرج، وتقول له: أريد أن يصح المال في كذا وكذا يوماً عند الجهبذ، وإلا دققت يديك على رجليك؟ قلت: نعم.
قال: فيخرج المستخرج فيبث الفرسان، والرجالة، والرسل، والمستحثين، ويضرب، ويصفع، ويقيد، وأنت تأمره وتنهاه، وإذا قلت له: أطلق رجلاً، أو أخره بما عليه قبل أمرك، وإذا لم تأذن له طالبه حتى يؤدي؟ قلت: نعم.
قال: فيحصل المال عند الجهبذ، فتخرج إليه الصكاك من يدوانك وبعلاماتك؟ فقلت: نعم.
قال: فأي شيء بقي من العمل لم تتول وزره، وتضمن غرمه، وتتحمل إثمه؟ تب إلى الله، وإلا فأنت هالك، ودع التصرف، وأصلح أمر آخرتك.
قال: وأخذ يغظني، ويخطب علي، حتى بكيت.
ثم قال لي: لست بأعظم نعمة ولا أكبر منزلة من جعفر بن حرب، فإنه كان يتقلد كبار أعمال السلطان، وكانت نعمته تقارب نعمة الوزراء، وكان يعتقد الحق ومنزلته في العلم المنزلة المشهورة، وصنف غير كتاب من كتبه الباقية إلى الآن في أيدي الناس، وهو يتصرف مع السلطان.
فاجتاز يوماً راكباً في موكب له عظيم، ونعمته على غاية الوفور، ومنزلته بحالها من الجلالة، فسمع رجلاً يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما أنزل من الحق " صدق الله العظيم " فقال: اللهم بلى، وكررها دفعات، وبكى، ثم نزل عن دابته، ونزع ثيابه، ودخل إلى دجلة، فاستتر بالماء إلى حلقه، ولم يخرج حتى فرق جميع ماله في المظالم التي كانت عليه ، وردها، ووصى فيها، وتصدق بالباقي، وعمل ما اقتضاه مذهبه، ووجب عليه عنده.
فاجتاز رجل، فرآه في الماء قائماً، وسمع بخبره، فوهب له قميصاً ومئزراً فاستتر بهما، وخرج فلبسهما، وانقطع إلى العلم والعبادة، حتى مات.
ثم قال لي أبو علي: فافعل أنت أبا القاسم مثل هذا، فإن لم تطب نفسك به كله، فتب.
قال: فأثر كلامه في، وعملت على التوبة، وترك التصرف، ولم أزل أصلح أمري لذلك مدة، حتى استوى لي التخلص من السلطان، فتبت، وتركت معاودة التصرف.

أبو فراس الحمداني

من مناجيب بني حمدان: من مناجيب أبو حمدان، أبو فراس، الحارث بن أبي العلاء بن حمدان، فإنه برع في كل فضل، على ما أخبرني جماعة شهدوه، وأوثق بهم، حسن خلق لم ير في عصره - بالشام أحسن منه، مع خلق طاهر، وحسن باطن وظاهر، وفروسية تامة، وشجاعة كاملة، وكرم مستفيض، لأنه نشأ في تربية سيف الدولة رضي الله عنه، وحجره، وأخذ أخلاقه، وتأدب بآدابه، مع ملاحة خط، وترسل، وشعر في غاية الجودة، وديوانه كبير، إلا أنه كان قبيل موته اختاره، على ما أخبرني به أبو الفرج الببغاء، فنفى منه شيئاً كثيراً.
قال: واقفني على نفيه، لأنه عرضه علي، فكل ما استضعفناه نفاه، وما اجتمعنا على استجادته أقره، وحرره في نسخة تداولها الناس ومات وما بلغ الأربعين، مقتولاً.
قال: وأظن مبلغ سنه كانت سبعاً وثلاثين سنة، أو نحوها، لما قتل.
وكان قرغويه غلام أبي الهيجاء الذي كان أحد قواد سيف الدولة، وحاجبه، احتال عليه، حتى قتله في سنة سبع وخمسين وثلثمائة.
قال: وذلك أن الجيوش السيفية افترقت بعد وفاة صاحبها، فكل قطعة حوت بلداً، وصار معظمهم مع قرغويه بحلب، واحتوى عليها وانضمت قطعة إلى أبي فراس، فغلب بها على حمص.
فلما استقام الأمر لقرغويه، رحل بالأمير أبي المعالي شريف بن سيف الدولة، وهو ذاك صبي، وأبو فراس خاله، لقتال أبي فراس، ثم جرت بينهما مراسلة، واصطلحوا.
وجاء أبو فراس، وهو لا تحدثه نفسه أن قرغويه يجسر عليه، ولا أنه يخاف أبا المعالي وهو ابن أخته، فدخل إلى أبي المعالي وخرج، وما أحب الأمير أبو المعالي به سوءاً.
إلا أن قرغويه خاف أن يتمكن من ابن أخته، فيحمله على قتله، فنصب له قوماً اغتالوه في العسكر، وهم عقيب حرب لم تهدأ، وتخليط لم يسكن.
وأراد الأمير أبو المعالي إنكار ذلك، فمنعه قرغويه، وطاح دم الرجل، رحمه الله.
وحدثني أبو الحسن، أن أبا محمد الصلحي، وكان أبوه يكتب لأبي فراس أيام ملكه، حدثه بمثله، على غير هذا، وجملته: أنه أسر، فجاء وهو أسير، راكباً، فما شاهدته طائفة من غلمان سيف الدولة، إلا ترجلت له، وقبلت فخذه، فلما رأى ذلك قرغويه قتله في الحال.

كيف أسر أبو فراس الحمداني
قال: وكان سيف الدولة، قلده منبج وحران وأعمالهما، فجاءه خلق من الروم، فخرج إليهم في سبعين نفساً من غلمانه وأصحابه، يقاتلهم، فنكأ فيهم، وقتل، وقدر أن الناس يلحقونه، فما اتبعوه، وحملت الروم بعددها عليه، فأسر.
فأقام في أيديهم أسيراً سنين، يكاتب سيف الدولة أن يفتديه بقوم كانوا عنده من عظماء الروم، منهم البطريق المعروف بأغورج، وابن أخت الملك، وغيرهما، فيأبى سيف الدولة ذلك، مع وجده عليه، ومكانه من قلبه، ويقول: لا أفدي ابن عمي خصوصاً، وأدع باقي المسلمين،ولا يكون الفداء إلا عاماً للكافة، والأيام تتدافع.
إلى أن وقع الفداء قبيل موت سيف الدولة، في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فخرج فيه أبو فراس، ومحمد بن ناصر الدولة، لأنه كان أسيراً في أيديهم، والقاضي أبو الهيثم عبد الرحمن بن القاضي أبي الحصين علي بن عبد الملك، لأنهم كانوا أسروه أيضاً في حران، قبل ذلك بسنين، وخرج من المسلمين عدد عظيم.
قال: ولأبي فراس كل شيء حسن من الشعر، في معنى أسره.
فمن ذلك، أن كتب سيف الدولة تأخرت عنه، وبلغه إن بعض الأسراء قال: إن ثقل هذا المال على الأمير سيف الدولة، كاتبنا فيه صاحب خراسان، فاتهم أبا فراس بهذا القول، لأنه كان ضمن للروم وقوع الفداء، وأداء ذلك المال العظيم، فقال سيف الدولة: ومن أين يعرفه أهل خراسان؟ فكتب إليه قصيدة أولها:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلى م الجفاء وفيم الغضب
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكبني مع هذي النكب
وإنك للجبل المشمخر ... لي ولقومك بل للعرب
علي تستفاد وعاف يفاد ... وعز يشاد ونعمي ترب
وما غض مني هذا الأسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرعني بالخمول ... مولى به نلت أعلى الرتب
أتنكر أني شكوت الزمان ... وأني عتبتك فيمن عتب
فالا رجعت فأعتبني ... وصيرت لي ولقولي الغلب
ولا تنسين إلي الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب

وأصحبت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن أنكرت ... علاي فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جد أمن نقص أب
ألست وإياك من أسرة ... وبيني وبينك فوق النسب
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحل أشب
فلا تعدلن فداك ابن عمك ... لا بل غلامك عما يجب
أكنت الحبيب وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب
فلما بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وما شككتني فيك الخطوب ... ولا غيرتني عليك النوب
وأشكر ما كنت في صحبتي ... وأحلم ما كنت عند الغضب.
قال الببغاء: وله في صفة أسره، وعلل لحقته هناك، ومراث لنفسه في الأسر، وتعطف لسيف الدولة، وصفة الأسر، وما لحقه فيه، شعر كثير، حسن أكثره، بمعان مخترعة، لم يسبق إليها.
ونحن نوردها ما نختاره من ذلك، بعد هذا إن شاء الله تعالى.

إذا اختال أمر القضاء بالدولة
اختل حالها: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كان أول ما انحل من نظام سياسة الملك، فيما شاهدناه من أيام بني العباس، القضاء، فإن ابن الفرات، وضع منه، وأدخل فيه قوماً بالذمامات، لا علم لهم، ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات، حتى ابتدأت الوزارة تتضع، ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلثمائة، أن تقلد وزارة المتقي أبو العباس الأصبهاني الكاتب، وكان غاية في سقوط المروءة، والرقاعة.
ولقد استأذنت عليه يوماً، فجاء البواب، فقال: ابن عياش بالباب، فسمعته يقول له من وراء الستر: يدخل.
فقلت في نفسي: لا إله إلا الله، تبلغ الوزارة إلى هذا الحد في السقوط؟ وحتى كان يركب وليس بين يديه إلا ابن حدبنا صاحب الربع، وحتى رأيت في شارع الخلد قرداً معلماً، يجتمع الناس عليه.
فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومىء برأسه.
فيقول: تشتهي تكون عطاراً؟ فيقول: نعم برأسه.
فيعدد الصنائع عليه، فيومىء برأسه.
فيقول له في آخرها: تشتهي تكون وزيراً؟ فيومىء برأسه: لا، ويصيح، ويعدو من بين يدي القراد، فيضحك الناس.
قال: وتلى سقوط الوزراة، اتضاع الخلافة، وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس، بانحلال أمر القضاء.
وكان أول وضع الفرات من القضاء، تقليده إياه، أبا أمية الأحوص الغلابي البصري، فإنه كان بزازاً، فاستتر عنده ابن الفرات، وخرج من داره إلى الوزارة.
فقال له في حال الاستتار: إن وليت الوزارة، فأي شيء تحب أن أعمل بك؟ قال: تقلدني شيئاً من أعمال السلطان.
قال: ويحك، لا يجيء منك عامل، ولا أمير، ولا صاحب شرطة، ولا كاتب، ولا قائد، فأي شيء أقلدك؟ قال: لا أدري، ما شئت.
قال: أقلدك القضاء.
قال: قد رضيت.
فلما خرج، وولي الوزارة، وهب له، وأحسن إليه، وقلده قضاء البصرة، وواسط، وسبع كور الأهواز.
وكان يداعبه، ويتلهى به، ويسخر منه أوقات استتاره عنده، وقبلها، ويمد يده إليه، فلما ولاه القضاء، وقره عن ذلك.
ثم انحدر أبو أمية إلى أعماله، فأراد أن يغطي نقصه في نفسه، وقلة عمله، ويصل ذلك بشيء يتجمل به، فعف عن الأموال، فما أخذ شيئاً، وتصون وتوقر، واقتصر على الأرزاق، وصلات ابن الفرات الدارة، فستر ذلك جميع عيوبه.
وتناول الشعراء، فقال فيه القطراني البصري:
عبث الدهر بنا وال ... دهر بالأحرار يعبث
من عذيري من زمان ... كل يوم هو أنكث
ما ظننا أننا نبقى ... وأن نحيا ونلبث
فنرى الأحوص يقضي ... وأبا عيسى يحدث.
من محاسن الأحوص الغلابي القاضي بالبصرة
حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله بن محمد القاضي، المعروف بابن نصرويه، قال: كنت أيام أبي أمية الغلابي، وتقلده القضاء بالبصرة، حدثاً، وكنت أجيئه مع خالي، وكان الحر عندنا بالبصرة إذ ذاك، شديداً مفرطاً، أكثر من شدته الآن.

وكان أبو أمية يخرج في كل عشية من داره في مربعة الأحنف، وعليه مئزر، وعلى ظهره رداء خفيف، وفي رجليه نعلان كنباتي ثخان، ، وبيده مروحة، وهو قاضي البصرة، والأبلة، وكور دجلة، وكور الأهواز، وواسط، وأعمال ذلك، فيمشي حوله من يتفق أن يكون في الوقت من غير تعمل، حتى ينتهي إلى موضع حلقة أبي يحيى زكريا الساجي، فيجلس إليه، وربما سبقه، وجاء أبو يحيى، وجلسا يتحدثان، ويجتمع إليهما أترابهما، وإخوانهما القدماء، فيستعملون من التخالع والانبساط في الحديث، والمزح، وما ليس بقليل.
ويجيء سعيد الصفار، وكان يخلف أبا أمية على البصرة، بقلنسوة عظيمة، وقميص، وخف، وطيلسان، فيسلم عليه بالقضاء، ويشاوره في الأمور، فيقول له: قم عني، لا يجتمع علي الناس، لا تقطعني عن لذتي بمحادثة إخواني القدماء، قم إلى مجلسك.
فيقوم سعيد، فيجلس بالبعد منه في الجامع، في موضع برسمه، ينظر بين الناس.
وما كان ذاك يغض من قدره عند الناس، وكانت سيرته أحسن سيرة، واستعمل من العفة عن الأموال، ما لم يعهد مثله.
وكان ديوان وقوف البصرة إذ ذاك ببغداد، فإذا أراد أحد أربابها شيئاً، خرجوا إلى بغداد حتى يوردوا الأمر فيه من الحضرة، فلحق الناس مشقة، فنقل أبو أمية ديوانها إلى البصرة، فكثر الدعاء له، وصارت سنة، وبقي الديوان بالبصرة.
وكان - مع هذا - يتيه على ابن كنداج، وهو أمير البصرة، ولا يركب إليه مرة، إلا إذا جاء ابن كنداج مرة، ويعترض على ابن كنداج.
في الأمور، ويسمع الظلامات فيه، وينفذ إليه في إنصاف المتظلم، فيضج ابن كنداج من يده، ويكتب إلى ابن الفرات في أمره، فترد عليه الأجوبة بالصواعق، ويأمره بالسمع والطاعة، فيضطر إلى مداراته، والركوب إليه، وتلافيه.
فقبض على ابن الفرات، وأبو أمية لا يعلم، وورد كتاب على الطائر - بذلك - إلى ابن كنداج، فركب بنفسه في عسكره إلى أبي أمية، فقدر أنه قد جاء مسلماً، فخرج إليه، فقبض عليه، ومشاه بين يديه، طول الطريق، إلى داره ببني نمير، حتى أدخله السجن، من تحت الخشبة فأقام فيه مدة، ثم مات.
ولم يسمع بقاض أدخل السجن من تحت الخشبة غيره، ولا بقاض مات في السجن سواه.
ثم ولي ابن الفرات الوزارة أيضاً، فحين جلس، سأل عن أصحابه، وصنائعه، وسأل عن أبي أمية، فعرف ما جرى عليه، ووفاته، فاغتم لذلك.
وقال: فاتني بنفسه، فهل له ولد أقضي فيه حقه؟ فقالوا: ابن رجل.
فكتب بحملة إليه مكرماً، فحمل.
فلما دخل عليه، وجد سلامه سلام متخلف، فقال له: ما اسمك؟ قال أبو غشان، وكانت لثغته كذا، ولم يفرق لتخلفه بين الاسم والكنية.
فقال ابن الفرات: عزيز علي أن لا أقضي حق أبي أمية، في نفسه، ولا في ولده، وكيف أقلد هذا القضاء؟ فوصله بمال جزيل، وأمر بإجراء أرزاق عظيمة عليه، وصرفه إلى بلده، وكان يأخذها إلى أن زال أمر ابن الفرات.
أبو عمر القاضي يقلد ابناً لأحمد بن حنبل
القضاء ثم يصرفه: حدثني أبو نصر أحمد بن عمرو البخاري القاضي، قال: حدثني جماعة من ثقات أهل بغداد.
إن أبا عمر القاضي قلد ابناً لأحمد بن حنبل القضاء.
فتظلم إليه منه، وذكر عنده بشناعات لا يليق مثلها بالقضاة، فأراد صرفه.
فعوتب على ذلك، وقيل: إن مثل هذا الرجل لا يجوز أن يكون ما رمي به صحيحاً، فإن كان صح عندك، وإلا فلا تصرفه.
فقال: ما صح عندي، ولا بد من صرفه.
فقيل: ولم؟ قال: أليس قد احتمل عرضه، أن يقال فيه مثل هذا، وتشبهت صورته بصورة من إذا رمي بهذا جاز أن يتشكك فيه؟ والقضاء أرق من هذا فصرفه.

أبو خازم القاضي يغضب
إذا سمع مدحاً للقاضي بأنه عفيف حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، عمن حدثه: إنه كان يساير أبا خازم القاضي في طريق، فقام إليه رجل، فقال: أحسن الله جزاءك أيها القاضي، في تقليدك فلاناً القضاء ببلدنا، فإنه عفيف.
فصاح عليه أو خازم، وقال: اسكت عافاك الله، وتقول في قاض إنه عفيف، هذه من صفات أصحاب الشرط، والقضاة فوقها.
قال: ثم سرنا، وهو واجم ساعة.
فقلت: ما لك أيها القاضي؟ قال: ما ظننت أني أعيش حتى اسمع هذا، ولكن فسد الزمان، وبطلت هذه الصناعة، ولعمري إنه قد دخل فيها من يحتاج القاضي معه إلى التقريظ، وما كان الناس يحتاجون أن يقولوا: فلان القاضي عفيف، حتى تقلد فلان، وذكر رجلاً لا أحب أن أسميه.
فقلت: من الرجل؟ فامتنع.

فألححت عليه، فأومأ إلى أبي عمر.

إسراع الناس إلى العجب مما لم يألفوه
وحدثني أبو الحسين، قال: لما قلد المقتدر أبا الحسين بن أبي عمر القاضي، المدينة رئاسة، في حياة أبيه أبي عمر، خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف، والقضاة، والشهود، والجند، والتجار، وغيرهم على باب الخليفة، حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه.
قال: وكنت فيهم مع عمي، للصهر الذي كان بينه وبينهم، ولأنه كان أحد شهودهم.
فسار عمي، وأنا معه، في أخريات الموكب، خوفاً من الزحام، ومعنا شيخ من الشهود كبير السن، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا.
فكنا لا نجتاز بموضع، إلا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين، وتعجبهم من تقلده رئاسة.
فقال عمي الشيخ: يا أبا فلان ما ترى ازورار الناس من تقلد هذا الفتى، مع فضله، ونفاسته، وعلمه، وجلالة سلفه؟ فقال له الشيخ: يا أبا محمد، لا تعجب من هذا، فلعهدي، وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة، وقد اجتزنا بالناس، وهم يعجبون من تقلده، أضعاف هذا العجب، حتى خفت أن يثبوا بنا، وهذا أبو عمر الآن قدوة في الفضل، ومثال في العقل والنبل، ولكن الناس يسرعون إلى العجب مما لم يألفوه.
من قدم أمر الله على أمر المخلوقين
كفاه الله شرهم: حدثني أبو الحسن علي بن القاضي أبي طالب محمد بن القاضي أبي جعفر ابن البهلول، قال: طلبت السيدة أم المقتدر، من جدي، كتاب وقف لضيعة كانت ابتاعتها، وكان الكتاب في ديوان القضاء، فأرادت أخذه لتخرقه، وتبطل الوقف، ولم يعلم جدي بذلك.
فحمله إلى الدار، وقال للقهرمانة: قد أحضرت الكتاب كما رسمت فأيش تريد؟ فقالوا: نريد أن يكون عندنا.
فأحس بالأمر، فقال لأم موسي القهرمانة: تقولين للسيدة أعزها الله، هذا والله ما لا طريق إليه أبداً، أنا خازن المسلمين على ديوان الحكم فإما مكنتموني من خزنة كما يجب، وإلا فاصرفوني وتسلموا الديوان دفعة، فاعملوا به ما شئتم، وخذوا منه ما أردتم، ودعوا ما أردتم، أما أن يفعل شيء منه على يدي، فو الله لا كان هذا ولو عرضت على السيف.
ونهض والكتاب معه، وجاء إلى طياره، وهو لا يشك في الصرف، فصعد إلى ابن الفرات، فحدثه بالحديث، وهو وزير.
فقال: ألا دافعت عن الجواب، وعرفتني حتى كنت أتلافى ذلك، الآن أنت مصروف، ولا حيلة لي مع السيدة في أمرك.
قال: أودت القهرمانة الرسالة إلى السيدة، فشكته إلى المقتدر.
فلما كان في يوم الموكب، خاطبه المقتدر شفاهاً في ذلك، فكشف له الصورة، وقال مثل ذلك القول في الإستغفاء.
فقال له المقتدر: مثلك يا أحمد يقلد القضاء، أقم على ما أنت عليه، بارك الله فيك، ولا تخف أن يثلم ذلك عرضك عندنا.
قال: فلما عاودته السيدة، بلغنا أنه قال لها: الأحكام ما لا طريق إلى اللعب به، وابن البهلول مأمون علينا، محب لدولتنا، وهو شيخ دين، مستجاب الدعوة، ولو كان هذا شيء يجوز، ما منعك إياه.
فسألت السيدة كاتبها ابن عبد الحميد عن ذلك، وشرحت له الأمر.
فلما سمع ما قاله جدي، بكى بكاء شديداً - وكان شيخاً صالحاً من شيوخ الكتاب - وقال: الآن علمت أن دولة السيدة وأمير المؤمنين تبقى، وتثبت أركانها، إذ كان فيها مثل هذا الشيخ الصالح الذي يقيم الحق على السيدة، ولا يخاف في الله لومة لائم.
فأي شيء يساوي شراؤكم لوقف؟ وإن أخذتم كتابه خرقتموه، فأمره شائع ذائع، والله فوق كل شيء، وبه عالم.
فقالت السيدة: وكأن هذا لا يجوز؟ فقال لها: لا، هذه حيلة من أرباب الوقف على مال الله، واعلمها أن الشراء لا يصح بتخريق كتاب الوقف، وهذا لا يحل.
فارتجعت المال، وفسخت الشراء، وعادت تشكر جدي، وانقلب ذلك أثراً جميلاً عندهم.
فقال لنا جدي بعد ذلك: من قدم أمر الله تعالى على أمر المخلوقين كفاه الله شرهم.
القاضي أبو محمد البصري والد القاضي أبي عمر
يؤدب مملوكاً من وجوه مماليك الخليفة المعتضد: حدثني أبي رضي الله عنه، قال: سمعت القاضي أبا عمر يقول: قدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله، إلى أبي في حكم، فجاء فارتفع في المجلس.
فأمره الحاجب بموازاة خصمه، فلم يفعل إدلالاً بعظم محله في الدولة.
فصاح أبي عليه، وقال: هاه، تؤمر بموازاة خصمك، فتمتنع؟ يا غلام، عمرو بن أبي عمرو النخاس الساعة، لأتقدم إليه ببيع هذا العبد، وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين.

ثم قال لحاجبه: خذ بيده، وسار بينه وبين خصمه.
فأخذ كرهاً وأجلس مع خصمه.
فلما انقضى الحكم، انصرف الخادم، فحدث المعتضد بالحديث، وبكى بين يديه.
فصاح عليه المعتضد، وقال: لو باعك لأجزت بيعه، ولما رددتك إلى ملكي أبداً، وليس خصوصك بي، يزيل مرتبة الحكم، فإنه عمود السلطان، وقوام الأديان.

قاضي همذان
يمتنع عن قبول شهادة رجل مستور: سمعت قاضي القضاة، أبا السائب عتبة بن عبيد الله، يقول: كان في بلدنا، يعني همذان، رجل مستور، فأحب القاضي قبوله فسأل عنه، فزكي له سراً وجهراً.
فراسله في حضور المجلس، ليقبله، وأمر فأخذ في كتب ليحضر فيقيم الشهادة فيهم.
وجلس القاضي، وحضر الرجل مع الشهود، ونودي به، فجاء مع شاهد آخر، فلما جلسا ليشهدا، أمرهما القاضي بالقيام، فقاما، ونظر بين الخصوم، وتقوض المجلس، ولم يقبله.
فورد على الرجل أمر عظيم، ودس إلى القاضي من يسأله عن سبب ذلك.
فقال القاضي: إني أردت قبوله لستره ودينه، ثم انكشف لي أنه مراء، فلم يسعني قبوله.
فقيل له: كيف انكشف هذا القاضي، بعد أن دعاه للقبول؟ قال: كان يدخل إلي في كل يوم، فأعد خطاه، من حيث تقع عيني عليه من داري إلى مجلسي، فلما دعوته اليوم للشهادة، جاء، فعددت خطاه من ذلك المكان، فإذا هي قد زادت خطوتين أو ثلاث، فعلمت أنه متصنع لهذا الأمر، مراء، فلم أقبله.
الصفح الجميل عفو بلا تقريع
حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن أبي عمرو الشرابي حاجب أمير المؤمنين المطيع لله قال: دخلت في حداثتي يوماً على أبي السائب القاضي، فقصر في القيام، وأظهر ضعفاً عنه للسن، والعلل المتصلة به، وتطاول لي، فجذبت يديه بيدي، حتى أقمته القيام التام.
وقلت له: أعين قاضي القضاة - أيده الله - على إكمال البر، وتوفيه الإخوان الحق.
قال: وقد كنت عاتباً عليه في أشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأصل الكلام.
فحين رأى الشر في وجهي، قال: تتفضل باستماع كلمتين ثم تقول ما شئت.
فقلت له: قل.
فقال: روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " فاصفح الصفح الجميل " صدق الله العظيم " قال: عفو بلا تقريع، فإن رأيت أن تفعل ذلك، فعلت.
فاستحيت من الإستقصاء عليه.
بين الأصبهاني الكاتب
والخوميني عامل سوق الأهواز: حضرت أبا عبد الله الخوميني عامل سوق الأهواز، وقد جعل إليه أبو بكر أحمد بن عبد الله، المعروف بأبي بكر بن عبد الله أبي سعيد الأصبهاني الكاتب.
فأخذ يريه أنه يريد القيام، ويتثاقل فيه، حتى يسبقه أبو بكر ابن أبي سعيد بالجلوس، إلى قيامه له.
ففطن أبو بكر، فوقف من بعيد، وقال: هي، قم قائماً حتى أجيء، وإلا انصرفت من موضعي.
فضحك الخوميني، وقال: والله يا سيدي، ما أردت هذا.
وقام له القيام التام.
شيخ من الكتاب
ينصح أبا الحسين بن عياش: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: تقلد سليمان بن الحسن الوزارة الأولى عقيب به وأنسي، فكنت أجيئه على ذلك الأنس، ما تغير علي، ولا أنكرت منه شيئاً.
وكنت شاباً، ولم تكن لي مداخلة بالملوك، وكنت أجيئه والناس محجوبون فأدخل على الرسم، وهو خال.
فاتفق أني بت ليلة موكب عند أبيه، أبي محمد، فبكرت من غد لأراه، ثم أنصرف.
فجئت، والقاضي أبو عمر، وابنه أبو الحسين، والقاضي ابن أبي الشوارب، وابنه، والقاضي ابن البهلول، والناس من الأشراف، والكتاب، ووجوه القواد، وأهل الحضرة، محجوبون، وهم جلوس في الرواق، والحاجب واقف على باب السلم، وكان ينفذ إلى حجرة خلوة له، هو فيها.
فلما رآني الحاجب، أمر فرفع لي الستر، فدخلت إليه، وهو يتبخر وعليه سواده، يريد الركوب إلى المقتدر، وليس بين يديه أحد.
فطاولني في الحديث، إلى أن فرغ، وشد سيفه ومنطقته، وخرج، وأنا خلفه.
فتلقاه الناس بالسلام، وتقبيل اليد، فخرجوا خلفه، فاختلطت بهم.
فإذا بإنسان يجذب طيلساني، فالتفت، فإذا هو فلان، شيخ من شيوخ الكتاب، أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، وذكر أنه كان صديقاً لأبي، ولأبيه من قبله.
فقال لي: يا أبا الحسين، فداك عمك، في بيتك خمسون ألف دينار؟ فقلت: لا والله.
قال: فتقوى الله على خمسين ألف مقرعة وصفعة؟ قلت: لا والله.

قال: فلم تدخل إلى الوزير، وفلان، وفلان - وعدد من حضر - محجوبون، يتمنون الوصول، ولا يقدرون، ثم لا ترضى، حتى تطيل عنده، وتخرج في يوم موكب، وراءه، وليس معه غيرك، ولا خمسون ألف دينار معدة عندك، تؤديها إذا نكب هذا، فأخذت بتبعة الإختصاص به، وأنت لا تقوى على ما يولد هذا.
فقلت: يا عم لم أعلم، وأنا رجل فقيه، ومن أولاد التجار، ولا عادة لي بخدمة هؤلاء.
فقال: يا بني لا تعاود، فإن هذا يولد لك اسماً، ويجر عليك تبعة.
قال: فتجنبت بعد ذلك الدخول إلى سليمان في أوقات مجالسه العامة، وأيام المواكب خاصة.

أبو يوسف القاضي واللوزينج بالفستق المقشور
حدثني أبي، قال: بلغني من غير واحد: إن أبا يوسف صحب أبا حنيفة، لتعلم العلم، على فقر شديد، فكان ينقطع بملازمته عن طلب المعاش، فيعود إلى منزل مختل، وأمر قل.
فطال ذلك، وكانت امرأته تحتال له ما يقتاته يوماً بيوم.
فلما طال ذلك عليهما، خرج إلى المجلس، وأقام فيه يومه، وعاد ليلاً فطلب ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطاة، فكشفها، فإذا فيها دفاتر.
فقال: ما هذا؟ قالت: هذا ما أنت مشغول به نهارك أجمع، فكل منه ليلاً، قال: فبكى، وبات جائعاً، وتأخر من غد عن المجلس، حتى احتال ما أكلوه.
فلما جاء إلى أبي حنيفة، سأله عن سبب تأخره، فصدقه.
فقال: ألا عرفتني، فكنت أمدك؟ ولا يجب أن تغنم، فإنه إن طال عمرك فستأكل بالفقه، واللوزينج بالفستق المقشور.
قال أبو يوسف: فلما خدمت الرشيد، واختصصت به، قدمت بحضرته يوماً جامة لوزينج بفستق، فحين أكلت منها، بكيت، وذكرت أبا حنيفة.
فسألني الرشيد عن السبب في ذلك، فأخبرته.
سبب اتصال أبي يوسف القاضي بالرشيد
وحدثني أبي، قال: كان سبب اتصاله بالرشيد إنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب منه، واتصل به.
فدخل القائد يوماً إلى الرشيد، فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزبني، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممر بين الدور، رأيت فتى حسناً، أثر الملك عليه، وهو في حجرة في الممر محبوس، فأومأ إلي بإصبعه مستغيثاً، فلم أفهم عنه أرادته، وأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه، سلمت، ووقفت.
فقال لي: ما اسمك؟ قلت: يعقوب.
أصلح الله أمير المؤمنين.
قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحده؟ قلت: لا يجب ذلك.
قال: فحين قتلها سجد الرشيد، فوقع لي إنه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك، وإن الذي أشار إلي بالاستغاثة، هو الابن الزاني.
قال: ثم رفع رأسه، فقال: ومن أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة يسقط الحد معها.
فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟ قلت ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.
قال: ولم؟ قلت: لأن الحد حق الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحد، فكأنه قد صار حقاً له، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمين على وقوع الحد بالإقرار والبينة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم.
قال: فسجد مرة أخرى، وأمر لي بمال جليل، ورزق في الفقهاء في كل شهر، وأن ألزم الدار.
قال: فما خرجت، حتى جاءتني هدية الفتى، وهدية أمه، وأسبابه، فحصل لي من ذلك، ما صار أصلاً للنعمة، وانضاف رزق الخليفة، إلى ما كان يجريه علي ذلك القائد.
ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتى وأشير، فصارت لي مكنة فيهم، وحرمة بهم، وصلاتهم تصل إلي، وحالتي تقوى.
ثم استدعاني الخليفة، وطاولني، واستفتاني في خواص أمره وأنس بي.
فلم تزل حالي تقوى معه، حتى قلدني قضاء القضاة.
أنس الرشيد بأبي يوسف القاضي
قال لي أبي: بلغني أن أبا يوسف، لما مات، خلف في جملة، كسوته، مائتي سراويل خز، دون غيرها من أصناف السراويلات.
وأن جميع سراويلاته كانت مختصة كل سراويل بتكة أرمني نساوي ديناراً، وبلغ من محله عنده، أن طلبه الرشيد يوماً، فجاء وعليه بردة، أنساً به، فحين رآه الرشيد، قال لمن بحضرته:

جاءت به متعجراً ببردة ... سفواء ترمي بنسيج وحده.

كيف نصب أبو جعفر بن البهلول قاضيا
ً
حدثني القاضي أبو الحسن علي بن أبي طالب بن القاضي أبي جعفر بن البهلول قال: حدثني أبي، عن أبيه، وحدثي أيضاً، أبو الحسن أحمد ابن يوسف الأزرق عن أبي جعفر بن البهلول القاضي، قال: لما استقرت الأمور للناصر لدين الله، بعد فراغه من أمر الزنج، نظر في البلدان ومصالحها، وأمر بارتياد قضاة من أهل البلدان لها.
فسأل عن الأنبار، ومن فيها يصلح لتقلد القضاء، فأسميت له.
وكان عارفاً بأبي، إسحاق بن البهلول، حين استقدمه المتوكل إلى سر من رأى حتى حدثه، ولم أكن تقلدت شيئاً من ذلك.
قال: فأمر بإحضاري وتقليدي.
فتقدم إسماعيل بن بلبل، إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي في ذلك، وكاتبني بالحضور، فحضرت، فعرفني الصورة، وحملني إلى إسماعيل.
فقلت لهما: أنا في كفاية وغناء، ولا حاجة بي إلى تقلد القضاء.
فأمسكا عني، فعدت إلى منزلي ببغداد لأصلح أمري وأرجع.
فجاءني جعفر بن إبراهيم الحصيني الأنباري، وكان من عقلاء العجم بالأنبار، ولي صديقاً، فقال لي: لأي شيء استدعيت؟ فحدثته.
فقال: اتق الله في نفسك، إن الذي جرى بينك وبينهما خاف عن الناس، وإنك تعود إلى بلدك، فيقول أعداؤك: طلب القضاء، فلما شوهد، وجد لا يصلح، فرد.
فقلت: ما أصنع، وقد قلت ما قلت؟ قال: ترجع إلى إسماعيل فتصدقه عما جرى بيننا.
قال: فباكرت إسماعيل، فحين رآني، قال: هذا وجه غير وجه الأمسي.
قلت: هو كذلك.
قال: هي.
قلت: كان كذا وكذا، فأخبرته بما جرى بيني وبين جعفر بن إبراهيم.
فقال: نصحك والله هذا الصديق، والأمر على ما قاله، قم بنا إلى الوزير.
قال: فحملني إليه، فلما رآنا إسماعيل تبسم، وقال: كيف عاد أبو جعفر؟ قال: فقص عليه إسماعيل القاضي الخبر.
فقال: جزي الله هذا الصديق عنك خبراً، فقد أشار عليك بالرأي الصحيح، اكتبوا عهده.
قال: فكتب عهدي عن الناصر، على الأنبار، وهيت وعانات، والرحبة، وقرقيسيا، وأعمال ذلك، وعدت إلى بلدي.
قلت أنا: ولم يزل محل أبي جعفر ينمى ويزيد، حتى قلد مدينة أبي جعفر المنصور عند صرف أبي عمر في قصة ابن المعتز، فظهر من فضله ما اشتهر.
ارتفاع محل القاضي ابن البهلول
في دولة المقتدر: وكان عند المقتدر ووزرائه، بصورة الناسك الزاهد، من ذلك ما حدثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: حدثني أبو علي أحمد بن جعفر بن إبراهيم الحصيني الأنباري الكاتب، قال: مات واثق مولى المعتضد، فأوصى أن يصلي عليه أبو الحسن علي بن عيسى، فحضر الحق وجوه الدولة، من القواد، والكتاب، والأشراف، والقضاة، وغيرهم.
فكان فيمن حضر، القاضيان أبو جعفر، وأبو عمر، وكنت حاضراً.
قال: فوضعت الجنازة، وقيل لأبي الحسين علي بن عيسى تقدم، فجاء ليتقدم، فوقعت عينه على أبي جعفر، فجذبه، وقدمه، وتأخر هو.
قال: فلما انقضت الصلاة، طلبت أبا عمر، لأنظر كيف هو، فوجدته قد اسود وجهه غماً، بتقديمهم أبا جعفر عليه.
فجئت إلى أبي جعفر، وهنأته بذلك، وأخبرته بخبر أبي عمر، فاستسر بذلك، وسر بعلمي أنا بالأمر، ومشاهدتي له، لأجل البلدية.
قال لي أبو الحسن: هذا، مع نفرة كانت بينهما، ولكن أبا الحسن لفضله، لم يكن يدفع أهل الفضل عنه، وإن لم يكن ما بينه وبينهم مستقيماً.
الحسين بن القاسم بن عبيد الله
يتصرف تصرفاً يكون أوكد الأسباب في عزله عن الوزارة: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول، قال: كان قد ارتكب الحسين بن القاسم بن عبيد الله دين عظيم، عشرات ألوف دنانير، فدعاه غرماؤه إلى القاضي، فخافهم، واستتر.
وجاء إلى جدي فشاوره في أمره، وقال: إن بعت ملكي، كان بإزاء ديني، وحصلت فقيراً، وقد رضيت أن أجوع، وأعطي غلتي بأسرها الغرماء، وليس يقنعون بذلك، فكيف أعمل؟ يحتال لي القاضي في ذلك! وكان منزل الحسين في الجانب الشرقي، والحكم فيه إلى أبي عمر.
فقال له جدي: إن من مذهب مالك، الحجر على الرجال إذا بان سفههم في الأموال، وإن عني بك أبو عمر، جعل استدانتك من غير حاجة كانت بها إليها، وإنما بذرت المال، وتخرقت في النفقة، دليلاً على سفهك في مالك.

ولو صار أن يسمع في ذلك شهادة من يعرفه عن حالك، فيثبت حينئذ السفه عنده، فيحجر عليك، ويمنعك من التصرف في مالك، ويدخل فيه أيدي أمنائه، ويحول بينك وبينه.
فإذا أثبت عنده الغرماء عليك الدين، أمرهم، يعني أمناءه، بأن يصرفوا الغلات إليهم، قضاء للدين، وبقيت عليك الأصول.
قال: فطرح الحسين نفسه على أبي عمر، ففعل به ذلك، فظهر وصلحت حاله، وجرى أمره مع الغرماء.
على ذلك.
قال: ولما ولي الحسين الوزارة، وفسد عليه مؤنس، فسعى في صرفه، وقال للمقتدر: يا أمير المؤمنين، هذا لم يكن موضعاً لحفظ ماله، حتى حجر عليه القضاة لسفهه وتبذيره فيه، كيف يحمد حتى يرد إليه مال الدنيا وتدبيرها، وسياسة العالم، وهو عجز عن تدبير داره ونفقته؟ وكان ذلك أوكد الأسباب في صرفه.

عدد الشهود الذي قبلهم القاضي التيمي بالبصرة
حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الله المعروف بابن نصرويه، قال: قبل التيمي، القاضي كان قديماً عندنا بالبصرة، ستة وثلاثين ألف شاهد، قي مدة ولايته.
فقلت له: هذا عظيم، فكيف كان ذلك؟ فقال لي: كان القضاة على مذهب أبي حنيفة، وغيره من الفقهاء، في أن الناس كلهم عدول، على الشرائط التي تعرفها، وكان يشهد الناس عند التيمي بأسرهم، فإذا سمع شهاداتهم، سأل عنهم، فيزكون، فيقبلهم، وكان الناس يشهد بعضهم لبعض، من الجيران، وأهل السوق، ولانعرف ترتيب قوم مخصوصين للشهادة، إلى أن ولي إسماعيل.
قال: وكان مبلغ من قبله التيمي، ستة وثلاثون ألف شاهد، منهم عشرون ألفاً لم يشهدوا عنده إلا شهادة واحدة.
أسد بن جهور وما فيه من سوداء ونسيان
أخبرني أبو القاسم الجهني، قال: كانت في أسد بن جهور سوداء ونسيان.
فحضرته يوماً، وهو في دار بعض الوزارء، وقد جلس يتحدث، ومعنا بعض القضاة، وكان اليوم حاراً، فوضعنا عمائمنا، ووضع القاضي قلنسوته.
فطلب الوزير أسداً، فقام مستعجلاً، فأخذ قلنسوة القاضي، فلبسها ودخل على الوزير.
فصاح القاضي به، وجماعتنا، فما سمع، حتى دخل كذلك على الوزير، فضحك منه.
وخجل أسد وعاد إلينا راجعاً عنه.
المتوكل يختار فتى لمنادمته
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبو جعفر بن حمدون، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدون، قال: كنت مع أبي، وأنا صبي، بسر من رأى، وهو ينادم المتوكل على الله، فخرج إلى الصيد، وهو معه، وأنا مع أبي.
فانفرد أبي في يوم من الأيام، وأنا معه، فأعطاني دابته، فأمسكتها وحولت وجهي عنه، وجلس يبول، إذ جاء المتوكل يحرك وحده، ويقصده، وقد انفرد عن الجيش، ليولع به.
فلما قرب منه، قال له: من هذا الصبي الذي يمسك دابتك؟ قال: عبد أمير المؤمنين، ابني.
قال: فلم قد حول وجهه عنك؟ قال: فعن لأبي أن يتنادر، ولم يراع كون النادرة علي وعلى أمي، فقال: حول وجهه عني استحياء من كبر أيري.
قال: فقلت أنا للخليفة: والله يا أمير المؤمنين، لو رأيت أير جدي، لعلمت أن أيره عنده زر.
فضحك المتوكل، وقال: يا أحمد، ابنك والله أطيب منك، فأحضره معك للندام.
فحضرت منذ ذلك اليوم، وصرت من الندماء.
المعتضد يلاعب ابن حمدون بالنرد
وحدثني، وقال: حدثني أبو جعفر، قال: حدثني أبو محمد، قال: كنت قد حلفت، وعاهدت الله تعالى، ان لا أعتقد مالاً من القمار، وأنه لا يقع في يدي شيء منه، إلا صرفته في ثمن شمع يحرق، أو نبيذ يشرب، أو جذر مغنية تسمع.
قال: فجلست يوماً ألاعب المعتضد بالنرد، فقمرته سبعين ألف درهم.
فنهض المعتضد يصلي العصر، من قبل أن يأمر لي بها، وكان له ركوع طويل قبلها، فتشاغل به.
وصليت أنا العصر فقط، فجلست أفكر، وأندم على ما حلفت عليه، وقلت: كم عساي أشتري من هذه السبعين ألفاً، شمعاً، وشراباً، وكم أجذر؟ وما كنت هذه العجلة في اليمن، ولو لم أكن حلفت، كنت الآن قد اشتريت بها ضيعة.
قال: وكانت اليمن بالطلاق، والعتاق، وصدقة الملك، والضيعة.
وأغرقت في الفكر، والمعتضد يراني، وأنا لا أعلم.
فلما سلم من الركوع، سبح، وقال لي: يا أبا عبد الله في أي شيء فكرت؟ فقلت: خيراً يا مولاي.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقته.
فقال: وعندك أني أريد أعطيك سبعين ألفاً من القمار؟ فقلت له: أفتضغو؟ قال: نعم، ضغوت، قم ولا تفكر في هذا.
قال: ودخل في صلاة العصر الفرض.

قال: فلحقني غم أعظم من الأول، وفكر أشد منه، وندم على فوت المال، وقلت لم صدقته، وأخذت ألوم نفسي.
قال: فلما فرغ من صلاته، وجلس، قال لي: يا أبا عبد الله، بحياتي أصدقني عن هذا الفكر الثاني.
فلم أجد بداً، فصدقته.
فقال: أما القمار فقد فاتك، لأني قد صغوت بك، ولكني أهب لك سبعين ألف درهم غير تلك، من مالي، فلا يكون علي إثم في دفعها، ولا عليك إثم في أخذها، وتخرج من يمينك، فتأخذها وتشتري بها ضيعة حلالاً.
فقبلت يده، فأحضر المال، وأعطانيه، فأخذته، واعتقدت به ضيعة.

المعتضد يسدد دين نديمه مرتين
وحدثني أبو محمد قال: حدثني أبو جعفر، قال: حدثني أبو محمد ابن حمدون، قال: كان علي دين ثقيل، مبلغه خمسة آلاف دينار، ولم يكن لي وجه قضائه، ولك تكن القضاة تعدي علي، لملازمتي المعتضد.
فجلس المعتضد للمظالم بنفسه مجالس عدة، فتظلم إليه مني غرمائي.
فأحضرني، وسألني عن الدين، فأقررت به عنده للقوم.
ففكر المعتضد في حبسي به لهم، فيبطل أنسه بي، ويتحدث عنه إنه بخل بقضاء دين نديم له، ورأى أن يلتزم المال.
ثم قال للغرماء: المال علي، ووقع لهم به في الحال.
فأخذوه، وانصرفوا.
فلما خلونا، قال: يا عاض كذا، أي شيء كانت هذه المبادرة إلى الإقرار، ما قدرت أن تجحد، ولا أغرم أنا المال، ولا تحبس أنت؟ فقلت: لم أستحل ذلك، وكيف أجحد قوماً في وجوههم، وقد أعطوني أموالهم؟ قال: ومضت على هذه مديدة، فأضقت، فاستدنت ألوفاً أخرى دنانير، أقل من تلك، وطولبت بها، فدافعت، لأن دخلي لم يكن يفي بنفقتي، وما أقيم من المروءة، أكثر من قدر حالي، فما كان لي وجه أقضى منه الدين.
وجلس المعتضد للمطالم، فرفع إليه القوم، فأحضرني، وسألني، فأقررت، فوزن المال عني.
ثم قال للقاضي الذي يلي حضرته: خذ هذا، فناد عليه في البلد بسفهه في ماله، وعدمه، وإنه لا يملك ما يباع عليه فيقضي به دينه، وإن من عامله بعد هذا فقد طوح بماله.
فاضطربت من ذلك.
فقال: لا والله، لا جعلت أنت غرماءك كل يوم، حيلة على مالي.
قال: فما نفعني معه شيء، حتى مضيت إلى دار القاضي وجلست معه في مجلسه، وهو يشيع في الناس ذلك، ويجربه في وجهي، ولم يناد علي.
بين ابن المدبر وعريب
حدثني أبو محمد، قال: حدثني أبو احمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي الكاتب، قال: أخبرني من أثق به، أن إبراهيم بن المدبر قال: كنت أتعشق عريب، دهراً طويلاً، وأنفقت عليها مالاً جليلاً.
فلما قصدني الزمان، وتركت التصرف، ولزمت البيت، كانت هي أيضاً، قد أسنت، وتابت من الغناء، وزمنت.
فكنت جالساً يوماً، إذ جاءني بوابي، وقال: طيار عريب بالباب، وهي فيه تستأذن.
فعجبت من ذلك، وارتاح قلبي إليها، فقمت حتى نزلت إلى الشط، فإذا هي جالسة في طيارها.
فقلت: يا ستي، كيف كان هذا.
قالت: اشتقت إليك، وطال العهد، فأحببت أن أجدده، وأشرب عندك اليوم.
قلت: فاصعدي.
قالت: حتى تجيء محفتي.
قال: فإذا بطيار لطيف، قد جاء وفيه المحفة، فأجلست فيها، وأصعد بها الخدم.
وتحدثنا ساعة، ثم قدم الطعام، فأكلنا، وأحضر النبيذ، فشربت وسقيتها فشربت، وأمرت جواريها بالغناء، وكان ومعها منهن عدة، وحسنات، طياب، حذاق، فتغنين أحسن غناء وأطيبه، فطربت وسررت.
وقد كنت، قبل ذلك بأيام، عملت شعراً، وأنا مولع في أكثر الأوقات بترديده، وإنشاده، وهو:
إن كان ليلك نوماً لا انقضاء له ... فإن جفني لا يثنى لتغميض
كأن جنبي في الظلماء تقرضه ... على الحشية أطراف المقاريص
أستودع الله من لا أستطيع له ... شكوى المحبة إلا بالمعاريض.
فقلت لها: يا ستي، إني قد عملت أبياتاً، أشتهي أن تصنعي فيها لحناً.
فقالت: يا أبا إسحاق مع التوبة؟ قلت لها: فاحتالي في ذلك كيف شئت.
فقالت: رو هاتين الصبيتين الشعر، وأومأت إلى بدعة وتحفة جاريتيها.
فحفظتهما الشعر، وفكرت ساعة، ووقعت بالمروحة على الأرض، وزمزمت مع نفسها، ثم قالت لهما: أصلحا الوتر الفلاني على الطريقة الفلانية، وأضربا بالإصبع الفلانية، وافعلا كذا وكذا، إلى أن فتح لهما الضرب، ثم قالت غنياه على الطريقة الفلانية، وأجعلا في الموضع الفلاني كذا.

فغناه، كأنهما قد سمعناه قبل ذلك دفعات، وما خرج الغناء من بين شفتيها.
فطربت وقلت في نفسي: عريب تزورني وتلحن شعري، وهي على كل حال مغنية، وتنصرف من عندي صفراً؟ والله، لا كان هذا، ولو أني مت ضراً وجوعاً وفقراً.
فقمت إلى جواري، وشرحت الحال لهن، وقلت: عاونني بما يحضركن، فدفعت إلى هذه خلخالاً، وهذه سواراً، وهذه عقد حب، وهذه جان، إلى أن اجتمع لي من حيلهن ما قيمته ألف دينار.
قال: واستدعيت زنبيلاً مشبكاً ذهباً كان عندي، فيه مائة مثقال، فجعلت ذلك فيه، وخرجت به إليها، وقلت: يا سيدتي، هذه طرف، أحببت إتحاف هاتين الصبيتين بها، فأحب أن تأمريهما بأخذها.
فامتنعت امتناعاً ضعيفاً، وقالت: يا أبا إسحاق، بيننا اليوم هذا، أو فضل فضل له؟ فقلت: لا بد.
فقالت لهما: خذاه، فأخذتاه، وجلست إلى وقت المغرب.
ثم قامت لتنصرف، فشيعتها إلى دجلة.
فلما أرادت الجلوس في طيارها، قالت: يا أبا إسحاق لي حاجة.
قلت: مري بأمرك.
قالت: قد ابتاعت فلانة، أم ولدك، ضيعة يقال لها كذا، وهي تحاورني، وأنا شفيعتها، وأريد أن تأمرها بأخذ المال مني والنزول عنها لي.
فعلمت أنها إنما جاءت لهذا السبب.
فقلت: مكانك، فتوقفت في الطيار.
فدخلت إلى أم ولدي وضمنت لها المال، وأخذت العهدة بالضيعة، فجئت بها إليها.
وقلت: قد وهبتها لك، وضمنت المال لها، وفي غد أتقدم بالإشهاد لك في ظهر الكتاب.
فخذيه معك عاجلاً.
فشكرتني ومضت.
وكان شراء الضيعة ألف دينار.
فقام علي يومها، وتلحينها هذا الشعر بألفي دينار ومائة دينار.

الزجاج يدرس النحو على المبرد
حدثني أبو الحسن بن الأزرق قال: حدثني أبو محمد بن درستويه النحوي قال: حدثني الزجاج، قال: كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرد لتعلمه، وكان لا يعلم مجاناً، ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها.
فقال لي: أي شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك في كل يوم درهماً، وأشرط لك أني أعطيك إياه أبداً، إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه.
قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذاك أعطيه الدرهم، فنصحني في التعليم، جتى استقللت.
فجاءه كتاب من بني مارية، من الصراة، يلتمسون معلماً نحوياً لأولادهم، فقلت له: أسمني لهم، فأسماني، فخرجت إليهم، فكنت أعلمهم، وانفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهماً، وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عليه.
ومضت على ذلك مدة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان، مؤدباً لابنه القاسم.
فقال له: لا أعرف لك إلا رجلاً زجاجاً بالصراة مع بني مارية.
قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عني، فنزلوا له.
فأحضرني وأسلم القاسم إلي، فكان ذلك، سبب غناي.
وكنت أعطي المبرد ذلك الدرهم في كل يوم، إلى أن مات، ولا أخليه من التفقد معه بحسب طاقتي.
بيتان من نظم أبي محمد الشامي
كاتب الأمير سيف الدولة: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد، وأبو الفرج الببغاء، قالا: أنشدنا أبو محمد عبد الله بن محمد الشامي، كاتب سيف الدولة لنفسه.
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار وسدت مشارع
فقلت إلى أن يرجع جارياً ... ويعشب جنباه تموت الضفادع.
ليحيى بن محمد في مواهب المغنية
وأنشدني أبو محمد لنفسه في قنية بغداد، مشهورة بالإحسان، تسمى مواهب، كانت جارية لأبي الحسن بن هارون الكاتب، باعها، فاشتراها أبو الفضل العباس بن الحسين الوزير الآن فلما تزوج ابنة الوزير أبي محمد المهلبي، زينة بني الحسن، دفعها إلى أبي محمد، فأعتقها، وزوجها غلاماً من غلمانه يسمى غالب، ويعرف بالشار زادي، وهي الآن تخدم الأمير عز الدولة بصناعتها:
تمام الحج أن تقف الركائب ... على دار تحل بها مواهب
ولولا أن يقال صبا لقلنا ... عجائب دون أيسرها عجائب.
لأبي الفرج الببغاء
في الأمير سيف الدولة: أنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه، قصيدة له في سيف الدولة: أولها:
سقت العهاد خليط ذلك المعهد ... رياً وحياً البرق برقة تهمد.
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد

فكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الأثمد
ووصف فيها اللواء فقال:
ومملك رق القنا مستخرج ... باللطف أسرار الرياح الركد
خرس يناجيها فتفهم نطقه ... وتجيبه أنفاسها بتصعد
قلق كأن الجو ضاق به فما ... ينفك بين توثب وتهدد
وفيها يقول:
إن المحامد رتبة لا يبلغ ال ... إنسان راحتها إذا لم يجهد
من لم تبلغه السيادة نفسه ... دون الأبوة لم يكن بمسود
يقول في آخرها يصف القصيدة:
حلل من المدح ارتضى لك لبسها ... شكري فأغرب مفرد في مفرد
لما نشرب عليك فاخر وشيها ... قالت لك العلياء أبل وجدد.

لأبي الفرج الببغاء يعزي الأمير سيف الدولة
بولده أبي مكارم: وأنشدني لنفسه يعزي سيف الدولة بابنه أبي مكارم من قصيدة أولها:
سرورنا بك فوق الهم بالنوب ... فما يغالبنا حزن على طرب
إذا تجاوزت الأقدار عنك فهل ... من واجب الشكر أن يرتاع من سبب
حتام تخدعنا الدنيا بزخرفها ... ولا تحصلنا منه على أرب
نسر منها بما تجني عواقبه ... هماً ونهرب والآجال في الطلب.
سيف الدولة يقيم الفداء مع الروم
على شاطىء الفرات: قال: وكان سيف الدولة أقام الفداء بشاطىء الفرات في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وأخرج كل من قدر على إخراجه من أسارى المسلمين من بلد الروم، واشترى كل أسير بثلاثة وثمانين ديناراً وثلث رومية، من ضعاف الناس، فأما الجلة ممن كان أسيراً، ففادى بهم رؤساء كانوا عنده أسرى من الروم.
وكانت الحال هائلة فيما أخبرني جماعة حضروا، يبقى فخرها وثوابها له.
فقال أبو الفرج قصيدة في ذلك، أنشدنيها، أولها:
ما المال إلا ما أفاد ثناء ... ما العز إلا ما حمى الأعداء
فقال فيها، في ذكر الفداء
وفديت من أسر العدو معاشراً ... لولاك ما عرفوا الزمان فداء
كانوا عبيد نداك ثم شريتهم ... فغدوا عبيدك نعمة وشراء
والأسر إحدى الميتتين وطالما ... خلدوا به فأعدتهم أحياء
وضمنت نفس أبي فراس للعلا ... إذ منه أصبحت النفوس براء
ما كان إلا البدر طال سراره ... ثم انجلى وقد استتم بهاء
يوم غدا فيه سماحك يعتق ... أسراء منك ويأسر الأمراء.
رأي أحد القضاة في الخليفة المقتدر
جرى في مجلس أبي يوماً ذكر المقتدر بالله وأفعاله، فقال بعض الحضار: كان جاهلاً.
فقال أبي: فإنه لم يكن كذلك، وما كان إلا جيد العقل، صحيح الرأي، لكنه كان مؤثراً للشهوات.
ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يقول، وقد جرى ذكره بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة، حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلاً ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، وأعرف بالأمور، وأسد في التدبير، ولو قلت إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة، في أصالة الرأي، وصحة العقل كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء، ما خشيت أن أقع بعيداً، وما يفسده غير متابعة الشرب، ولا يخبله سواها.
المؤتمن أبو القاسم سلامة
يتحدث عن صحة تفكير الخليفة المقتدر: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: سمعت المؤتمن أبا القاسم سلامة، أخا نجح الطولوني، يقول: اجتمع علي بن عيسى وعلي بن محمد الحواري، ونصر القشوري، وأنا معهم، على رأي عقدناه في بعض الأمور الكبار، التي حدثت في أيام المقتدر.
فلما صح الرأي عندنا، وتقرر في أنفسنا دخلنا على المقتدر فعرضناه عليه، واستأذناه في إمضائه.
فقال لنا: هذا خطأ في الرأي، والصواب كيت وكيت.
ففكرنا فيما قال، فوجدنا الصواب معه، وقد خفي علينا، فرجعنا عن رأينا لرأيه، وعملنا عليه.
حديث القاضي أبي طالب ابن البهلول

مع الخليفة المقتدر: حدثني أبو الحسن، قال حدثني القاضي أبو طالب ابن البهلول، قال: حضرت في بعض أيام المواكب، باب دار الخلافة، فوقفت في طياري، والقضاة في طياراتهم، والقواد، والكتاب، نتوقع الإذن.
فاستدعيت وحدي من بين القضاة، فدخلت على المقتدر، فوجدت أبا علي بن مقلة، قائماً بين يديه، وهو الوزير إذ ذاك.
فقال لي المقتدر بهذا اللفظ والإعراب: قد كان أبوك عضداً، وأنت بحمد الله، خلف منه، وقد ترى كلب غلماني هؤلاء علي، ومطالبتهم إياي بالأموال، ولو قد فقدوني لتمنوا أيامي، وقد عزمت على بيع ضياعي النمروديات بالأهواز، فتكتب إلى خليفتك على القضاء بها، في الاجتماع مع أحمد بن محمد البريدي على بيع ذلك، والمعاونة فيه.
فقلت: إذا كان الأمر من أمير المؤمنين أطال بقاءه، بهذا الموضع من العناية، خرجت أنا فيه.
فقال: لسنا نكلفك ذلك، ولكن اكتب إلى خليفتك فيه.
قال: فخرجت، وامتثلت أمره، وكاتبت أبا القاسم علي بن محمد التنوخي، وكان يخلفني إذ ذاك، على كور الأهواز، وقصصت عليه ما جرى.
ومضت الأيام، وصرف ابن مقلة، بأبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد فأنفذ أبا الحسن بن الحرث صاحبه إلى الأهواز، صارفاً للبريدي، فزاد على من كان اشترى الضياع مالاً عظيماً.
وكتب إلي أبو القاسم التنوخي، إنه قد استثنى من المال بجملة عظيمة لنفسه، وخنسها.
وكانت في نفسي على ابن الحرث موجدة، فأسررت ذلك في نفسي.
وانحدرت في يوم موكب على رسمي، وكنا في طياراتنا، إذ خرج خلفاء الحجاب يطلبوني وحدي.
فصعدت، والقضاة كلهم محجوبون، فدخلت على المقتدر، وبحضرته سليمان، وعلي بن عيسى، وكان يسدده، ويصل معه، ويخاطب ويتخاطب على الأمور.
فقال لي المقتدر: قد أحمدنا ما كان من خليفتك على القضاء بالأهواز، فيما كنا تقدمنا به من أمر النيرمذيات، وقد كاتب ابن الحرث إنه قد زاد على المبتاعين زيادة قبلوها، وامتنعوا عن أدائها إلا بعد أن أقول بلساني إني قد أمضيت البيع، وإني لا أقبل بعدها زيادة، ولا أفعل هذا، فاكتب إلى خليفتك بأني قد قلت ذلك، وأن يسجل لهم بما ابتاعوه.
فأردت أذية ابن الحرث فقلت يحتاج في المكاتبة إلى ذكر مبلغ الزيادة.
فالتفت، فنظر إلى علي بن عيسى نظر منكر، فرأيته يرتعد، وقال له: مبلغ الزيادة كذا وكذا.
فقال لي: اكتب إلى خليفتك، بأنها كذا وكذا.
فدعوت له، وانصرف.
فلما وليت، ثقلت في مشيتي لأسمع ما يجري، فسمعته يقول لعلي بن عيسى: أي شيء أقبح من هذا؟ كأنه أنكر لم لم يعرف مبلغ الزيادة أولاً، فيذكرها لي من غير أن أحتاج إلى استدعاء علمها منه.
قال: وكرر الإنكار، قال: أي شيء أقبح من هذا؟ وأخرج عن الأدب فيه؟ تحققاً برسم الملوك في أن يتكلموا هم بجميع ما يحتاجه إليه، في جميع الأمور، من غير تقصير يحوج المخاطب إلى مطالبتهم بالزيادة في البيان.
وأومأ في آخر كلامه، إلى أني إن ذكرت ذلك عنه للناس، غض منه، ومن الملك.
فسمعت علي بن عيسى، يقول له: يا أمير المؤمنين، هذا خادمك، وابن خادمك، وغذي نعمتك، ونشو دولتك، ليس مثله من ظن به هذا.

الخليفة المعتضد يتنبأ بأن ضياع الدولة
يجري على يد ولده المقتدر: حدثني أبو علي الحسين بن محمد الأنباري الكاتب قال: سمعت دلوية الكاتب، يحكي عن صافي الحرمي الخادم، مولى المعتضد، إنه قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إلى باب دار شغب أم المقتدر، وقف يتسمع ويطلع من خلل الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة، فيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل عنبة واحدة، ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة، على الدور إليه أكل واحدة مثلما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزق غيظاً.
قال: فرجع، ولم يدخل الدار، ورأيته مهموماً.
فقلت: يا مولاي، ما سبب ما فعلته؟ وما قد بان عليك؟ فقال: يا صافي، والله لولا النار والعار، لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة.
فقلت: يا مولاي، حاشاه، أي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي، إلعن إبليس.

فقال: ويحك، أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعد موتي لا يختارون إلا ولدي، وأنهم سيجلسون ابن علياً - يعني المكتفي - وما أظن عمره يطول، للعلة التي به، قال صافي: يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده منهم أكبر من جعفر، فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء، هذا الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم، في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فتحتوي عليه النساء، لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال، كما قسم العنب، ويبذر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلاً.
فقلت: يا مولاي بل يبقيك الله، حتى ينشأ في حياتك، ويصير كهلاً في أيامك، ويتأدب بآدابك، ويتخلق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت.
فقال: احفظ عني ما أقوله، فإنه كما قلت.
قال: ومكث يومه مهموماً.
وضرب الدهر ضربه، ومات المعتضد، وولي المكتفي، فلم يطل عمره، ومات، وولي المقتدر، فكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها.
فكنت كلما وقفت على رأس المقتدر وهو يشرب، ورأيته قد سكر ودعا بالأموال، فأخرجت إليه، وحلت البدر، وجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها، ويمحقها، ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد، وبكيت.
قال: وقال صافي: كنت يوماً واقفاً على رأس المعتضد، فأراد أن يتطيب، فقال: هاتم فلاناً الطيبي، - خادم يلي خزانة الطيب - فأحضر.
فقال له: كم عندك من الغالية؟ فقال: نيف وثلاثون حباً صينياً، مما عمله عدة من الخلفاء.
فقال: فأيها الطيب؟ قال: ما عمله الواثق.
قال: أحضرنيه.
فأحضره حباً عظيماً، يحمله خدم عدة، بدهق ومصقلة، ففتح، فإذا الغالية قد ابيضت من التعشيب، وجمدت من العتق، في نهاية الذكاء.
فأعجبت المعتضد، وأهوى بيده إلى حوالي عنق الحب، فأخذ من لطاخته شيئاً يسيراً، من غير أن يشعث رأس الحب، وجعله في لحيته، وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيث على هذا الحب، شيلوه، فرفع.
ومضت الأيام، فجلس المكتفي للشرب يوماً، وهو خليفة، وأنا قائم على رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم، وسأله عن الغوالي، فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه.
فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحب بعينه، ففتح، فاستطابه، وقال: أخرجوا منه قليلاً، فأخرج منه مقدار ثلاثين أو أربعين مثقالاً، فاستعمل منه في الحال ما أراده، ودعا بعتيدة له، فجعل الباقي فيها، ليستعمله على الأيام.
وولي المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوماً وكنت على رأسه، فأراد أن يتطيب، فاستدعى الخادم، وسأله، فأخبره بمثل ما أخبر به أباه وأخاه.
فقال: هات الغوالي كلها، فأحضرت الحباب كلها، فجعل يخرج من كل حب، مائة مثقال، وخمسين، وأقل، وأكثر، فيشمه ويفرقه على من بحضرته، حتى انتهى إلى حب الواثق، فاستطابه.
فقال: هاتم عتيدة.
فجاءوه بعتيدة، وكانت عتيدة المكتفي بعينها، ورأى الحب ناقصاً، والعتيدة فيها قدح الغالية، ما استعمل منه كثير شيء.
فقال: ما السبب في هذا؟ فأخبرته بالخبر على شرحه، فأخذ يعجب من بخل الرجلين، ويضع منهما بذلك.
ثم قال: فرقوا الحب بأسره على الجواري، فما زال يخرج منها أرطالاً، وأنا أتمزق غيظاً، وأذكر حديث العنب، وكلام مولاي المعتضد، إلى أن مضى قريب من نصف الحب.
فقلت له: يا مولاي، إن الغالية أطيب الغوالي وأعتقها، ولا يعتاض منها، فلو تركت منها لنفسك، وفرقت الباقي من غيرها كان أولى.
قال: وجرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد، فاستحى مني، ورفع الحب.
فما مضت إلا سنتين من خلافته، حتى فنيت تلك الغوالي، واحتاج إلى أن عجن غالية بمال عظيم.

يقال إن جميع الغوالي استعملت في الوحل
الذي عملته السيدة أم المقتدر: أخبرني غير أبي علي: إن تلك الغوالي كلها، وما كان في الخزائن من المسوك والعنابر، استعمل كله في الوحل الذي كانت السيدة عملته.
وخبر الوحل مستفيض على ألسنة العوام، فلا وجه للإطالة بذكره.
ورأيت، أهل العلم والخبرة بأمور الخلافة وأخبارها، يكذبون بذلك تكذيباً شديداً، فلم أورده لهذا السبب.

أنموذج من إسراف السيدة أم المقتدر
حدثني أبو الحسن البرسي، العامل بالبصرة، إن بعض بني إسحاق الشيرازي المعروف بالخرقي، ممن كان يعامل أم المقتدر، أسماه هو وأنسيته أنا، حدثه: إنها طلبت منه في يوم يقرب من نيروز المعتضد، ألف شقة زهرية خفاقاً جداً.
قال: فبعثت في جمعها، الرسل تكدني بالاستعجال، والقهارمة يستبطؤوني، حتى تكاملت، وصرت بها إلى الدار.
فخرجت القهرمانة، فقالت: اجلس في الحجرة التي برسمك، واستدع الخياطين، وتقدم أن يقطعوا ذلك أزراراً على قدر حب القطن، ويحشونها من الخرق، ويخيطونها، ليجعل بدل الحب القطن ويشرب دهن البلسان، وغيره من الأدهان الطيبة الفاخرة، وتوقد في المجامر البرام على رؤوس الحيطان ليلة النيروز بدلاً من حب القطن والنفط والمجامر الطين.
ففلت ذلك، ومضت تلك الثياب الكثيرة الأثمان في هذا.
قال، وقال لي: كنت أشتري لها ثياباً دبيقية، يسمونها ثياب النعال.
وذلك إنها كانت صفاقاً، تقطع على مقدار النعال المحذوة، وتطلي بالمسك والعنبر المذاب، وتجمد، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب، من ذلك الطيب ما له قوام، ونحن نفعل بطاقات كثيرة كذا، وتلف بعضها على بعض، ثم تصمغ حواليها بشيء من العنبر، وتلزق حتى تصير كأنها قطعة واحدة، وتجعل الطبقة الأولى بيضاء مصقولة، وتخرز حواليها بالإبريسم، ونجعل لها شركاً، من إبريسم كلها، كالشرك المضفورة من الجلود، وتلبس.
قال: وكانت نعال السيدة من هذا المتاع، لا تلبس النعل إلا عشرة أيام، أو حواليها، حتى تخلق، وتتفتت، وتذهب جملة دنانير في ثمنها، وترمى.
فيأخذون الخزان، أو غيرهم، فيستخرجون من ذلك العنبر والمسك فيأخذونه.
وهو يساوي جملة الدنانير.
أنموذج من إسراف الخليفة المقتدر
أخبرني أبو القاسم الجهني: إن المقتدر أراد الشرب على نرجس في بستان لطيف، في صحن دار من صغار صحونه.
فقال بعض من يلي أمر البستان: سبيل هذا النرجس أن يسمد قبل شرب الخليفة عليه بأيام، فيحسن ويقوى.
فقال هو، ويلك، يستعمل الخرء في شيء بحضرتي وأريد أن أشمه؟ قال: بهذا جرت العادة في كل ما يراد تقويته من الزروع.
فقال: وما العلة في ذلك؟ قال: لأن السماد يحميه، فيعنيه على النبات والخروج.
قال: فنحن نحميه بغير السماد، وتقدم، فسحق من المسك بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد، وسمد به.
وجلس يشرب عليه يومه وليلته، واصطبح من غده عليه، فلما قام، أمر بنهبه.
فانتهب البستانبانون والخدم، ذلك المسك كله من أصول النرجس، واقتلعوه مع طينة، حتى خلصوا المسك، فصار البستان قاعاً صفصقاً.
وخرج من المال شيء عظيم في ثمن ذلك المسك.
أنموذج من إسراف الخليفة الراضي
حدثني أبو إسحاق الطبري، غلام أبي عمر الزاهد، غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدون، قال: حدثني أبو جعفر بن حمدون، قال: كنا نشرب مع الراضي بالله يوماً، في مجلس مغمى بالفاكهة الحسنة الفاخرة.
فغرض من الجلوس فيه، فقال: افرشوا لنا المجلس الفلاني، واطرحوا فيه ريحاناً ونيلوفر فقط، طرحاً فوق الحصر، بلا أطباق، ولا تعبية في مشام، كما تفعل العامة، وعجلوا ذلك الساعة، لننتقل إليه.
قال: فلم تكن إلا لحظة، حتى قالوا له: قد فرغنا من ذلك.
فقال لنا: قوموا، فقمنا معه.
فلما رأى المجلس، قال للشرابية: غيروا لون هذا الريحان بشيء من الكافور يسحق ويطرح فوقه، فليس هو مليح هكذا.
قال: فأقبلوا يجيئون بصواني الذهب، وفيها الكافور الرباحي المسحوق أرطالاً، ويطرح فوق الريحان، وهو يستزيدهم، إلى إن صار الريحان كالمغطى ببياض الكافور، وكأنه ثوب أخضر، قد ندف عليه قطن رقيق، أو روضة عليها ضرائب الثلج.
فقال حينئذ: حسبكم.
قال: فقدرت ما استعمل من الكافور، كان أكثر من ألف مثقال بشيء كثير.
فشربنا عليه معه، فلما قام، أمر بنهبه.
فأخذ غلماني منه مثاقيل كثيرة، لأنهم كانوا في جملة الخدم والفراشين الغلمان الذي نهبوا ذلك.
الراضي يأمر لكل واحد من ندمائه
بوزن الآجرة دراهم: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي، وأنا إذ ذاك في حد الصبيان، يحكي لأبي، حكاية طويلة عن الراضي، فيها شعر له، وقصة، لم تعلق بذهني كلها في الحال، لصغري عن ذلك.

فسأله أبي أن يمليها، فأملاها على صاحب لأبي كان جالساً بحضرته، وكتبها على ظهر جزء كان قد قرأه عليه، فيه أشعار وأخبار غير ذلك.
هو باق عندي، وحصلت منها ما بقي في حفظي: إنه دخل إلى الراضي، وهو يبني شيئاً، أو يهدم شيئاً - أنا الشاك - فأنشده أبياتاً، وكان الراضي جالساً على آجرة حيال الصناع.
قال: كنت أنا وجماعة من الندماء قيام، فأمر بالجلوس بحضرته، فأخذ كل واحد منا آجرة، فجلس عليها.
واتفق أني أخذت آجرتين ملتزقتين بشيء من اسفيداج، فجلست عليهما فلما قمنا، أمر بأن توزن جرة كل واحد منا، ويدفع إليه بوزنها دراهم، أو دنانير - الشك مني - .
قال: فتضاعفت جائزتي على جوائز الحاضرين، بتضاعف وزن آجرتي على آجرهم.
حدثني علي بن الحسن الحاجي، قال: حدثنا أبو الحسن العروضي، معلم الراضي ونديمه بهذا الحديث، فذكر مثله، ولم يذكر تضاعف جائزة الصولي، إلا أنه قال: كنت أنا وجماعة من الندماء.

ختم الراضي الخلفاء في أمور عدة
وللراضي فضائل كثيرة، وقد ختم الخلفاء في أمور عدة، منها: إنه آخر خليفة له شعر.
وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش، والأموال.
وآخر خليفة بني.
وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة.
وآخر خليفة جالس الجلساء، ووصل إليه الندماء.
وآخر خليفة كانت نفقته، وجوائزه، وعطاياه، وخدمته، وجراياته، وخزائنه، ومطابخه، وشرابه، ومجالسه، وخدمه، وحجابه، وأموره، جارية على ترتيب الخلافة الأولى.
وآخر خليفة سافر بزي الخلفاء القدماء.
وآخر خليفة بعده المتقي، وسافر المطيع غير سفر، ولكن ليس كذلك.
أنموذج من إسراف المتوكل
حدثني أبو القاسم الجهني، قال: حدثني أبو محمد بن حمدون، عن أبيه: إن المتوكل اشتهى أن يجعل كل ما تقع عليه عينه، في يوم من أسام شربه، أصفر.
فنصبت له قبة صندل مذهبة، مجللة بديباج أصفر، مفروشة بديباج أصفر.
وجعل بين يديه الدستنبو والأترج الأصفر، وشراب أصفر في صواني ذهب.
ولم يحضر من جواريه إلا الصفر، عليهن ثياب قصب صفر.
وكانت القبة منصوبة على بركة مرصصة يجري فيها الماء، فأمر أن يجعل في مجاري الماء إليها الزعفران على قدر ليصفر الماء ويجري من البركة، ففعل ذلك.
وطال جلوسه وشربه، فنفد ما كان عندهم من الزعفران، فاستعملوا العصفر، ولم يقدروا أنه ينفذ قبل سكره، فيشترون منه، فنفد.
فلما لم يبق إلا قليل، عرفوه، وخافوا أن يغضب إن انقطع، ولا يمكنهم قصر الوقت من شري ذلك من السوق.
فلما أخبروه أنكر لم لم يشتروا أمراً عظيماً، وقال: الآن إن انقطع هذا تنغص يومي فخذوا الثياب المصفرة المعصفرة القصب، فانقعوها في مجرى الماء ليصبغ لونه بما فيها من الصبغ، ففعل ذلك.
ووافق سكره مع نفاد كل ما كان في الخزائن من هذه الثياب.
فحسب ما لزم على ذلك الزعفران والعصفر، وثمن الثياب التي هلكت، فكان قدر جميعه خمسين ألف دينار.
ويشبه هذا ما اخبرنا به الجم الغفير: إن الحسن بن سهل، لما زف ابنته بوران إلى المأمون، بفم الصلح، انقطع بهم الحطب في المطبخ يوم العرس، أحوج ما كانوا إليه، فعرفوه ذلك.
فأمر الجيش، فصب عليها الزيت وغيره من الأدهان حتى تشربها وأمر بإيقاده تحت القدور، وبث الرسل في طلب الحطب.
فاستعمل من ذلك الجيش شيء كثير إلى أن حمل الحطب.
الوزير المهلبي يشتري لمجلس شرابه
ورداً بألف دينار: وشاهدنا نحن، أبا محمد المهلبي في وزارته، وقد اشترى في ثلاثة أيام متتابعة، ورداً بألف دينار، فطرح في بركة عظيمة كانت له في دار كبيرة، تعرف بدار البركة، وشرب عليه، ونهب.
وكان في البركة فواره حسنة، فطرح الورد فيها، وفرشه في مجالسه.
وكان لذلك شرح طويل.
أبو القاسم البريدي يشرب على ورد
بعشرين ألف درهم: وشرب أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي، بالبصرة، على ورد بعشرين ألف درهم، في يوم واحد، على رخصه هناك، واسترخاص السلطان لما يشتهيه، وطرح فيه عشرين ألف درهم خفافاً، وزنها عشرة آلاف درهم، وشيئاً كثيراً من قطع الند المثاقيل اللطاف، وقطع الكافور اللطاف، والتماثيل، ولعب به شاذكلى، وانتهب الفراشون الورد، مع ما فيه من الدراهم والطيب.

وقيل إن ذلك المجلس قام عليه بثلاثة آلاف دينار مع جذور المغنيات، وثمن الطيب، وما أنفق على المائدة، والشراب، والثلج، ذلك اليوم.
أخبر بهذا أبو العباس النخاس المعروف بالشامي، في الوقت، وأنا أسمع، وأرانا من الدراهم شيئاً، وذكر إنه انتهبها مع الغلمان.

كان أبو العباس الشامي نخاسا
ً
فأصبح قواداً: وكان هذا الشامي أمة وحدة في مذهبه، فإنه كان يصحب أبا عبد الله البريدي، على طريق التنخس، ويشتري الجواري السوذاج والمغنيات فيبيعهن عليه.
فربما كره جارية فردها عليه، وما دار بينهما ميزان.
ثم اتسع ذلك البابا لأبي العباس، فصار يستعمله مع الكافة، ثم تجاوزه إلى بذل قيان له، وإخراجهن بحضرته، وأن يمازحهن، ويلاعبهن الرجال، ولا ينكر ذلك.
وربما تجاوزا هذا إلى غيره، ولا ينكر، ويجتعل عليه - فيما بلغني - من وجوه كثيرة.
أبو العباس الشامي النخاس
كان صفعاناً طيباً: وكان، مع هذا، صفعاناً طيباً.
فمن ذلك: إنه دخل يوماً على أبي يوسف البريدي، فصفعه بمخده ديباج حسنة مثمنة.
فأخذها الشامي، وعدا، ليسلمها إلى غلامه، فيحملها إلى بيته.
فقال له أبو يوسف: قد أخذتها! ويلك.
قال: فأراد أطال الله بقاء سيدنا من حيث جاءت، ولا آخذها؟ فقال: لا يا ماص كذا، خذها، لا بورك لك فيها.
فدفعها إلى غلامه.
أبو العباس الشامي النخاس
يطلب من القاضي قبوله للشهادة: ومنها: إنه كان مشهوراً بالقيادة، وكان يعادي بزازاً بالبصرة، يعرف بالآدمي.
فبلغه أن القاضي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، عمل على قبوله، وما كان لذلك أصل، وإنما كان إرجافاً.
فجاء إليه، وكان منبسطاً عليه بالمزاح، لمعرفته به.
فقال له: أيها القاضي، إن رأيت أن تقبل شهادتي.
فقال له القاضي: ما بلغ الأمر إلى قبول مثلك، فأي شيء دعاك إلى هذا، يا أبا العباس؟ ومازحه.
قال: بلغني أنك تريد أن تقبل الآدمي، وأنا وهو جميعاً: كنا نقود على البريدي، فاقبلني أنا أيضاً.
فضحك وقال: لا لك أقبل، ولا له.
الوزير المهلبي والشامي النخاس
وجاء إلى الأهواز، بجارية له مغنية، إلى أبي محمد المهلبي، وكنت بالأهواز.
وحدثني بهذا الخبر جماعة مما شاهدوه من ندمائه.
فغنت له، وكانت تجلس عنده للغناء، وهو غير حاضر، دفعات كثيرة.
فقال له المهلبي يوماً، وقد جرى بحضرته ذكر الجماع، فأخذ الشامي يخبر عن نفسه، بالعجز عنه، لأنه كان قد نيف على الثمانين.
فقال له المهلبي: فجاريتك يا أبا العباس حبلى، فمن أين هذا الحبل؟ فقال: يا سيدي إذا ولدت، سميت ابنها العباس بن الحسن، يعرض بأنه ابن الوزير، يصلح للوزارة، وإنه ابنك.
فضحك والجماعة منه.
أبو مخلد يستولي على دست
مجلس معز الدولة: أخبرنا أبو علي أحمد بن موسى حمولي، صاحب معز الدولة، قال: كنا يوماً قياماً، بحضرة مولانا الأمير - يعني معز الدولة - فدخل إليه أبو مخلد، فرأى تحته دست ديباج جديد، حسن جداً، قد استعمله بتستر، وقام عليه بألفي دينار.
فقال له: أيها الأمير، تنح عن الدست، فإن عليه شيئاً.
فلم يفهم الأمير مراده، وتزحزح عن دسته، فجذبه، وحمل جزءاً منه على كتفه، وقام.
فقال له الأمير: يا بغاء - بكلام الديلم - إلى أين؟ قال: إلى طياري أنقل هذا الدست إليه أولاً أولاً كما ترى، ومن يعارضني؟ أو يجسر على ذلك؟ قال: فضحك الأمير، وقال: ما يعارضك أحد.
قال: فنقل، يشهد الله، الدست بآلته كاملاً، على ظهره، إلى طياره وأنا أراه، حتى أخذه جميعه.
أبو مخلد يستولي على طنفسة
رآها في مجلس الخليفة المطيع: وكانت لأبي مخلد، مروءة عظيمة، وشهود للفرش خاصة.
فدخل يوماً إلى أمير المؤمنين، المطيع لله، فرأى في المجلس طنفسة عظيمة خليفية من ورقم أصفر، فلما رآها تحير.
فقال لأبي أحمد الشيرازي، كاتبه: أريد أن أعمل بهذه، كما عملت بدست معز الدولة، وكان قد اشتهر خبره في نقل الدست على ظهره.
فقال له أبو أحمد: مثل هذا لا يجوز أن يفعل بحضرة الخليفة، لأن الهزل لا يستعمل مع هؤلاء، وخاصة هذا مجلس عام، ولكن أنا أعيد استحسانك لها، وأستوهبها لك منه.
فلما تفوض الموكب، خرج أبو أحمد، فوجده جالساً في الدهليز.

فقال: ما هذا أيها الشيخ؟ قال: ترجع، وتعرف مولانا، أني لا أبرح، والله، إلا بالطنفسة، وإنما قبلت رأيك فوقرته، وإلا كنت قد أخذتها كما أخذت الدست.
فرجع أبو أحمد، وأخبره، الخبر على شرحه، فأمر بحملها إلى طياره فحملت معه، ثم انصرف.
أخبرني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي بذلك.

ابن دية الأنماطي يقوم ثمن قسم من فرش
أبي مخلد بمائتي ألف دينار: وسمعت ابن دية الأنماطي، وهو رئيس هذه الصناعة ببغداد، ومن لم يشاهد أحد بها من المتاع ما شاهده، يخبر في مجلس حافل، إنه شاهد لأبي مخلدفرشاً أخرجه إليه ليقومه له.
قال: فقومته له، قيماً استرخصتها جداً، فبلغت القيمة مائتي ألف دينار، ولا أدري ذلك فرشه كله، أو له شيء آخر من الفرش سواه.
الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذان
حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي القاضي: إن شيخاً من التجار، كان له على بعض القواد مال جليل، يماطله به.
قال: فعلمت على الظلامة إلى المعتضد، لأني كنت إذا جئت إلى القائد حجبني، واستخف بي غلمانه.
وكنت إذا تحملت عليه، فاستشفعت، لم ينجع فيه.
وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان منه، فما نفعني.
فقال لي بعض إخواني: علي أن آخذ لك المال، ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة ولا إلى غيره، فقم معي الساعة.
قال: فقمت معه، فجاء بي إلى خياط في سوق الثلاثاء، شيخ، وهو جالس يخيط، ويقرىء في المسجد، فقص عليه قصتي، وسأله أن يقصد القائد فيسأله إزاحة علتي، وكانت داره قريبة من موضع الخياط، فقام معنا.
فلما مشينا تأخرت، وقلت لصديقي: إنك قد عرضت هذا الشيخ، ونفسك، وإياي، إلى مكروه غليظ، هذا إذا حصل على باب الرجل، صفع، وصفعنا معه، فإنه لم يلتفت لشفاعة فلان وفلان، ولم يفكر في الوزير، يفكر في هذا؟ فضحك الرجل، وقال: لا عليك، امش واسكت.
فجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخياط أعظموه، وأهووا ليقبلوا يده، فمنعهم.
وقالوا: ما جاء بك يا شيخ؟ فإن صاحبنا راكب، فإن كان أمر نعمله نحن بادرنا إليه، وإلا فادخل واجلس حتى يجيء.
فقويت نفسي، فدخلنا، وجلسنا.
وجاء الرجل، فلما رأى الخياط، أعظمه إعظاماً تاماً، وقال: لست أنزع ثيابي، أو تأمر بأمرك.
فخاطبه في أمري.
فقال: والله، ما عندي إلا خمسة آلاف درهم، فسله أن يأخذها، ورهناً من مراكبي الفضة والذهب، إلى شهر، لأعطيه.
فبادرت أنا إلى الأجابة، فأحضر الدراهم، والمراكب بقيمة الباقي، فقبضت ذلك.
وأشهدت الخياط وصديقي عليه، بأن الرهن عندي، إلى شهر على البقية، فإن جاز الأجل، فأنا وكيل ببيعه، وأخذ مالي من ثمنه، فأشهدتهما على ذلك، وخرجنا.
فلما بلغنا إلى موضع الخياط، طرحت المال بين يديه، وقلت: يا شيخ، إن الله قد رد علي هذا بك، فأحب أن تأخذ ربعه، أو ثلثه، أو نصفه، بطيب من قلبي.
فقال: يا هذا، ما أسرع ما كافأتني على فعل الجميل بالقبيح، انصرف بمالك، بارك الله لك فيه.
فقلت: قد بقيت لي حاجة.
فقال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعة هذا لك، مع تهاونه بأكابر أهل الدولة.
فقال: يا هذا قد بلغت مرادك، وأخذت مالك فلا تقطعني عن شغلي، وما أعيش منه.
فألححت عليه.
فقال: أنا رجل أؤم، وأقرىء في هذا المسجد، منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، لا أعرف غير هذا.
وكنت منذ دهر، قد صليت المغرب، فأخرجت أريد منزلي، فاجتزت بتركي كان في هذه الدار، فإذا قد اجتازت امرأة جميلة الوجه عليه، فتعلق بها وهو سكران، ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتصيح، ولا يمنعها منه أحد، وتقول في جملة كلامها: إن زوجي قد حلف بطلاقي أن لا أبيت عنه، فإن بيتني هذا، أخرب بيي، مع ما يرتكبه مني من المعصية، ويلحقه بي من العار.
قال: فجئت إلى التركي، ورفقت به، وسألته تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده.
فشجني، وآلمني، وأدخل المرأة.
فصرت إلى منزلي فغسلت الدم، وشددت الشجة، واسترحت.
وخرجت أصلي العشاء، فلما فرغنا منها، قلت لمن حضر: قوموا معي إلى عدو الله، هذا التركي، ننكر عليه، ولا نبرح، حتى نخرج المرأة.

فقاموا، وجئنا، فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة من غلمانه، فأوقع بنا الضرب، وقصدني من بين الجماعة، فضربني ضرباً عظيماً، كدت أتلف منه، فشالني الجيران إلى منزلي كالتالف.
فعالجني أهلي، ونمت نوماً قليلاً للوجع، وأفقت نصف الليل، فما حملني النوم فكراً في القصة.
فقلت: هذا قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذنت، وقع له إن الفجر قد طلع، فأطلق المرأة، فلحقت بيتها قبل الفجر، فتسلم من أحد المكروهين، ولا يخرب بيتها، مع ما قد جرى عليها.
فخرجت إلى المسجد متحاملاً، وصعدت المنارة، فأذنت، وجلست أطلع منها على الطريق، أترقب منها خروج المرأة، فإن خرجت، وإلا أقمت الصلاة، لئلا يشك في الصباح، فيخرجها.
فما مضت إلا ساعة، والمرأة عنده، فإذا الشارع قد امتلأ خيلاً ورجلاً ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذن الساعة؟ أين هو؟ ففزعت وسكت، ثم قلت أخاطبهم، لعلي أستعين بهم على إخراج المرأة.
فصحت من المنارة: أنا أذنت.
فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين.
فقلت: دنا الفرج، ونزلت، فمضيت معهم، فإذا هم غلمان مع بدر.
فأدخلني على المعتضد، فلما رأيته هبته، وارتعدت، فسكن مني.
وقال: ما حملك على أن تغر المسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج ذو الحاجة في غير حينها، ويمسك المريد للصوم، في وقت أبيح له فيه الأفطار؟ فقلت: يؤمني أمير المؤمنين، لأصدق؟ فقال: أنت آمن على نفسك.
فقصصت عليه قصة التركي، وأريته الآثار التي بي.
فقال: يا بدر، علي بالغلام والمرأة، الساعة، وعزلت في موضع.
فلما كان بعد ساعة قليلة، أحضر الغلام والمرأة، فسألها المعتضد عن الصورة، فأخبرته بمثل ما قلته.
فقال لبدر: بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره عني بالتمسك بها، والإحسان إليها.
ثم استدعاني، فوقفت، فجعل يخاطب الغلام، وأنا قائم أسمع.
فقال له: يا فلان، كم رزقك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم أعطاؤك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم وظائفك؟ قال: كذا وكذا.
قال: وجعل يعدد عليه ما يصل إليه، والتركي يقر بشيء عظيم.
قال: فقال له: كم لك جارية؟ قال: كذا وكذا.
قال: فما كان لك فيهن، وفي هذه النعمة العريضة، كفاية عن ارتكاب معاصي الله عز وجل، وخرق هيبة السلطان؟ حتى استعملت ذلك، وتجاوزته إلى الوثوب بمن أمرك بالمعروف؟ فأسقط الغلام في يده، ولم يحر جواباً.
فقال: هاتم جوالق، ومداق الجص، وقيوداً، وغلاً، فأحضر ذلك.
فقيده، وغله، وأدخله الجوالق، وأمر الفراشين، فدقوه بمداق الجص.
وأنا أرى ذلك، وهو يصيح، ثم انقطع صوته، ومات.
فأمر به، فغرق في دجلة، وتقدم إلى بدر بحمل ما في داره.
ثم قال لي: يا شيخ أي شيء رأيت من أجناس المنكر، كبيراً كان أو صغيراً، أو أي أمر، صغيراً كان أو كبيراً، فمر به وأنكره، ولو على هذا، وأومأ بيده إلى بدر.
فإن جرى عليك شيء، أو لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل هذا الوقت، فإني أسمع صوتك فأستدعيك، وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك، أو بمن يؤذيك.
قال: فدعوت له وانصرف.
وانتشر الخبر في الأولياء والغلمان، فما سألت أحداً منهم بعدها إنصافاً لأحد، أو كفاً عن قبيح إلا أطاعني، كما رأيت، خوفاً من المعتضد.
وما حتجت أن أؤذن إلى الآن، في غير وقت الآذان.

مثل على تيقظ المعتضد وعلو عمته
حدثني أبي، عن أبي محمد ابن حمدون، قال: كنت بحضرة المعتضد ليلة شرب، إذ جاءه كتاب، فقرأه وقطع الشرب، وتنغص به.
واستدعى عبيد الله بن سليمان، فأحضر للوقت، وقد كاد يتلف، وظن أنه قد قبض عليه.
فرمى بالكتاب إليه، فإذا هو كتاب صاحب خبر السر بقزوين إليه، يقول: إن رجلاً من الديلم، وجد بقزوين، وقد دخلها متنكراً.
فقال لعبيد الله: اكتب الساعة، إلى صاحبي الحرب والخراج، وأقم قيامتهما، وتهددهما عني بالقتل، لم تم هذا، وتشدد في الإنكار، وطالبهما بتحصيل الرجل، ولو من تخوم الديلم، وأعلمهما إن دمهما مرتهن به، حتى يحضرانه.
وأرسم لهما أن لا يدخل البلد مستأنفاً أحد، ولا يخرج إلا بجواز، حتى لا تتم حيلة لأحد من الديلم في الدخول سراً، وأن يزيدا في الحذر والتيقظ، ونفذنا الناس إليهم، وأفرط في التأكيد.
فقال عبيد الله: السمع والطاعة، أمضي إلى داري، فأكتب.

فقال: لا، إجلس بمكانك، واكتب بخطك، واعرض علي.
قال: فأجلسه، وعقله ذاهل، فكتب ذلك، وعرضه عليه، فلما ارتضاه، دعا بخريطة إلى حضرته، فجعلت الكتب فيها، وأنفذها.
وقال لعبيد الله: أنفذ معها من يأتيك بخبر وصولها النهروان، وسيرها عن، وانصرف.
فنهض عبيد الله، وعاد المعتضد إلى مجلس شربه، وكان قد لحقه تعب عظيم، فاستلقى ساعة، ثم عاد يشرب.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن في الكلام؟ فقال: نعم.
فقلت: كنت على سرور، وطيب نفس، فورد خبر قد كان يجوز أن تأمر فيه غداً بما أمرت به الساعة، فضيقت صدرك، وقطعت شربك، وتغصت على نفسك، وروعت وزيرك، وأطرت عقول عياله وأصحابه، باستدعائه في هذا الوقت المنكر، حتى أمرته بهذا الذي لو أخرته إلى غد، لكن جائزاً.
فقال: ابن حمدون، ليست هذه من مسائلك، ولكنا أذنا لك في الكلام.
إن الديلم شر أمة في الدنيا، وأتهمهم مكراً، وأشدهم بأساً، وأقواهم قلوباً، ووالله، لقد طار عقلي فزعاً على الدولة من أن تطرق إليهم دخول قزوين سراً، فيجتمع فيها منهم عدة، يوقعون بمن فيها ويملكونها، وهي الثغر بيننا وبينهم، فيطول أمد ارتجاعها منهم، ويلحق الملك من الضعف والوهن بذلك أمر عظيم، يكون سبباً لبطلان الدولة، وتخيلت أني إن أمسكت عن التدبير ساعة، إنه يفوت، وإنهم يحتوون على قزوين، ووالله لو ملكوها، لنبعوا علي من تحت سريري هذا، واحتووا على دار المملكة، فما هنأني الشرب، ولا طابت نفسي بمضي ساعة من زماني فارغة من تدبير عليهم.
فعملت ما رأيت.

التفريط في حفظ حدود أذربيجان
أدى إلى فساد المملكة: وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كنت حدثاً في الديوان في سنة سبع عشرة وثلثمائة، والوزير إذ ذاك أحمد بن عبيد الله الخصيبي.
فأنشأنا من الديوان، كتباً إلى ابن أبي الساج، عن السلطان، يأمره فيها بالمسير إلى الحضرة، لقتال القرمطي.
فوردت الأجوبة للخليفة، لا للديوان.
فسمعت مشايخ الكتاب، يتحدثون عنه، إنه كتب يقول: أنا في ثغر الروم، وبإزاء سد أحصن من سد يأجوج ومأجوج، وإن أخللت به، انفتح منه أعظم من أمر القرمطي، ولم يؤمن أن يكون سبباً لزوال المملكة في سائر النواحي.
قال: فأخذ الكتاب يتطانزون بذلك، وقالوا: في أي ثغر هو؟ ومن بإزائه إلا الديلم، وإنما هم أكرة، ولكنه يريد ترفيه نفسه، والخلاف على السلطان.
قال: وأنشئت كتب أخر، يؤمر فيها بترك ما هو بسبيله، والقدوم، فقدم وخرج إلى القرمطي، فقتله القرمطي.
فما مضت إلا مديدة يسيرة، على قتله، حتى سار القاسم بن الحسن الداعي العلوي، وما كان الديلمي صاحب جيشه، من طبرستان إلى الري، فأخذاها من يد أصحاب السلطان.
وخرج أسفار بن شيرويه الديلمي فسار إلى طبرستان، فأخذها منهما.
فرجع الداعي إليه، فقاتله، فقتله أسفار، وتوطأ له الأمر، وسار إلى الري، فقاتله ماكان.
وثار مرداويج، وكان أحد أصحاب أسفار، به، فقتله، واحتوى على عسكره، وتملك أعماله، وأخذ الري، والجبل، والأعمال.
وتفرقت أعمال ابن أبي الساج على جماعة أهملوا سياستها.
واستفحل أمر الديلم، وتزايد على الأوقات، وضعف السلطان، وانفتقت الفتوق عليه، وكثرت الفتن، وقتل المقتدر.
وجاء مرداويج إلى أصبهان ليسير إلى بغداد.
وقدم شيرج بن ليلى إلى الأهواز، فتملكها.
وكان الأمير عماد الدولة علي بن بويه يخلفه على الكرج حينئذ، فاستغوى من معه، وسار بهم فملك أرجان لنفسه.
وهدده مرداويج بالمسير إليه، فداراه، ووعده أن يكون من قبله، وأنفذ الأمير ركن للدولة، أخاه، رهينة إليه.
وسار فأوقع بياقوت، وهو في سبعمائة نفر من الديلم، وياقوت في الطم والرم، وملك فارس، وظفر بأموالها، وكنوزها، فقوي، وعمل مرداويج على إنفاذ عسكر إليه، ليأخذه، ثم يسير إلى بغداد، فوثب غلمانه الأتراك به، فقتلوه، وجاء رجاله إلى الأمير عماد الدولة، وقد كان ملك فارس، وطرد ياقوت عنها، فقوي أمره، وعظم شأنه.
ومرت على ذلك سنيات، فأنفذ أخاه الأمير معز الدولة إلى الأهواز، ولم يزل أمره يقوى، حتى ملك بغداد.
وحصل الأمر على ما قاله المعتضد، وابن أبي الساج، وصاروا ملوك الأرض.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8