كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

قال: فقلت: نعم، جعلت فداك، مريض منذ شهرين ما خرجت.
قال: فغضب سالم وخرج.
قال: فقال لي عبد الله بن عمرو، ويلك يا أشعب، ما غضب خالي إلا من شيء.
قال: فقلت: نعم حعلت فداك، غضب من أني أكلت اليوم عنده جفنة هريسة.
قال: فضحك عبد الله وجلساؤه، وأعطاني، ووهب لي.
قال: فخرجت، فإذا سالم بالباب، فلما رآني، قال: ويحك يا أشعب ألم تأكل عندي؟ قلت: بلى جعلت فداك.
فقال سالم: والله لقد شككتني.

سالم بن عبد الله يقسم تمرا
ً
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا أبو داود السنجي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: مر أشعب فجعل الصبيان يعبثون به حتى آذوه، فقال لهم: ويحكم سالم بن عبد الله يقسم تمراً.
فصدقه الصبيان، ومروا يعدون إلى دار سالم، فعدا أشعب معهم، وقال: ما يدريني والله، لعله حق.
الحد الذي بلغه طمع أشعب
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: اخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الأعشى، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخذ بيدي ابن جريج، و أوقفني على أشعب الطامع، فقال له: حدثه ما بلغ من طمعك؟ قال: بلغ من طمعي أنه ما زفت امرأة بالمدينة، إلا كنست بيتي رجاء أن تهدى إلي.
القاضي أبو الوليد الكندي
يأبى أن ينفذ قضاء يحيى بن أكثم أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما عزل المأمون إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، استقضى على مدينة المنصور أبا الوليد بشر بن الوليد الكندي.
وكان بشر علماً من أعلام المسلمين، وكان عالماً، ديناً، خشناً في باب الحكم، واسع الفقه، وهو صاحب ابي يوسف، ومن المقدمين عنده، وحمل الناس عنه من الفقه والمسائل ما لايمكن جمعه.
وقال طلحة: حدثني عبد الباقي بن قانع، عن بعض شيوخه: أن يحيى بن أكثم شكى بشر بن الوليد إلى المأمون، وقال: إنه لا نفذ قضائي، وكان يحيى قد غلب على المأمون، حتى كان عنده أكبر من ولده، فأقعده المأمون معه على سريره، ودعا بشر بن الوليد.
فقال له: ما ليحيى يشكوك، ويقول إنك لا تنفذ أحكامه؟ قال: يا أمير المؤمنين، سألت عنه بخراسان، فلم يحمد في بلده ولا في جواره.
فصاح به المامون، اخرج، فخرج بشر.
فقال يحيى: ي ا أمير المؤمنين، قد سمعت، فاصرفه.
فقال: ويحك، هذا لم يراقبني فيك، كيف أصرفه؟ ولم يفعل.
التسليم لفقهاء، سلامة في الدين
أخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الصباح النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال سمعت بشر بن الوليد القاضي، يقول: كنا نكون عند ابن عيينة، فكان إذا وردت عليه مسألة مشكلة يقول: هاهنا أحد من أصحاب أبي حنيفة؟ فيقال: بشر.
فيقول: أجب فيها، فأجيب.
فيقول: التسليم للفقهاء، سلامة في الدين.
نسب أبي الهيثم التنوخي
سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يقول: البهلول بن حسان بن سنان بن أوفي بن عوف بن أو فى بن سرح بن أو فى بن خزيمة بن أسد بن مالك - أحد ملوك تنوخ - بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن عمران بن الحاف بن قضاعة - وقضاعة لقب - واسمه عمرو بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، ويقال: هو هود النبي صلى الله عليه وسلم.
القاضي البهلول بن إسحاق الأنباري
حدثني علي بن أبي علي، عن أحمد بن يوسف الأزرق، عن عمه إسماعيل بن يعقوب: أن البهلول بن إسحاق، أنباري، ولد بها سنة أربع ومائتين، ومات بها في شوال من سنة ثمان وتسعين ومائتين.
قال: وكان قد تقلد القضاء والخطبة على المنابر بالأنبار وأعمالها مدة طويلة، قبل سنة سبعين ومائتين.
وكان حسن البلاغة، مصقعاً في خطبه، كثير الحديث، ثقة فيه، ضابطاً لما يرويه، وحدث بالأنبار.
لماذا سمي بشار بالمرعث
أخبرني علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين القطعي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثنا أبو الصلت العنزي، قال: سمي بشار بن برد المرعث بشعره:

من لظبي مرعث ... فاتن العين والنظر
قال لي: لست نائلي ... قلت: أو يغلب القدر

لماذا سمي بشار بالمرعث
أخبرني علي بن ابي علي، قال: أخبرنا القطيعي، قال: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثني ابن أبي طاهر، عن محمد بن سلام، قال: إنما سمي بشار المرعث، لأنه كان لقميصه جيبان، يخرج رأسه مرة من هذا، ومرة من هذا، وكان يضم القميص عليه من غير أن يدخله في رأسه.
قال: والرعث، عند العرب، الاسترخاء والاسترسال، والرعثة: القرط، وكذلك الرعث والرعاث.
ارحمهم رحمك الله
عن التنوخي، عن أبي دهمان الغلابي، قال: حضرت بشار بن برد، وعقبة بن رؤية، وابن المقفع، فعوداً، يتناشدون، ويتحدثون، ويتذاكرون، حتى أنشد بشار أرجوزته الدالية:
يا طلل الحي بذات الصمد
ومضى فيها.
فاغتاظ عقبة بن رؤية لما سمع فيها من الغريب، وقال: أنا وأبي فتحنا الغريب للناس، وأوشك - والله - أن أغلقه.
فقال له بشار: ارحمهم رحمك الله.
قال: يا أبا معاذ، أتستصغرني وأنا شاعر بن شاعر بن شاعر؟ قال: فأنت إذن من القوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
بين جعفر البرمكي
وعبد الملك بن صالح الهاشمي أخبرنا علي بن ابي علي، قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى الماتب، قال: حدثنا علي بن سليمان الخفش، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: خرج عبد الملك بن صالح مشيعاً لحعفر بن يحيى البرمكي، فعرض عليه حاجاته.
فقال له: قصارى كل مشيع الرجوع، وأريد - أعز الله المير - ان يكون لي، كما قال بطحاء العذري: وكوني علي الواشين لداء شغبة فإني على الواشي ألد شغوب فقال جعفر: بل أكون لك كما قال جميل:
وإذا الواشي وشى يوماً بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
القاضي جعفر بن محمد بن عمار
اخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري - لفظاً - قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، بالبصرة، قال: أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة النميري، قال: كان أيوزب بن حسن بن موسى بن جعفر بن سليم، عاملاً على الصلاة بالكوفة وأحداثها للمتوكل، وجعفر بن محمد بن عمار على قضائها، فكان ربما أمره بالصلاة بهم إذا اعتل، وكان كثير العلل، من نقرس كان به، فكان جعفر يصلي بهم، ويدعو لأيوب على المنبر، بالتأمير له، فقال محمد بن نوفل التميمي:
فما عجب أن تطلع الشمس بكرة ... من الغرب إذ تعلو على ظهر منبر
ولولا أناة الله جل ثناؤه ... لصبحت الدنيا بخزي مدمر
إذا جعفر رام الفخار فقل له ... عليك ابن ذي موسى بموساك فافخر
فقد كان عمار إذا ما نسبته ... إلى جده الحجام لم يتكبر
ثم عزل جعفر بن محمد عن قضاء الكوفة، وحمل إلى سر من رأى، فولي قضاء القضاة، إلى أن مات بسر من رأى.
وقف بعرفة ستاً وخمسين وقفة على المذهب
أخبرنا علي بن المحسن القاضي - عير مرة - ، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري، قال: قال لي جعفر الخلدي: وقفت بعرفة ستاً وخمسين وقفة، منها إحدى وعشرون على المذهب. فقلت بعرفة ستاً وخمسين وقفة، منها إحدى وعشرون على المذهب.
فقلت لأبي إسحاق: أي شيءٍ أراد بقوله على المذهب؟ فقال: يصعد إلى قنطرة الياسرية، فينفض كميه، حتى يعلم أن ليس معه زاد ولا ماء، ويلبي ويسير.
أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد التنوخي
ذكر لي أبو اقاسم التنوخي: أن أبا محمد التنوخي، جعفر بن محمد بن احمد بن إسحاق بن البهلول ابن حسان، أصله من الأنبار، وانه ولد ببغداد في ذي القعدة في سنة ثلاث وثلثمائة، وكان أحد القراء للقرآن بحرف عاصم، وحمزة، والكسائي.
وكتب هو وأخوه علي، الحديث في موضع واحد، وأصل كل واحد منهما أصل الآخر، وشيوخ كل واحد منهما شيوخ الآخر.
وحدث عن عبد الله بن محمد البغوي، وأبي بكر بن أبي داود، وأبي الليث الفرائضي، وأحمد بن القاسم أخي أبي الليث، وأحمد بن عبيد الله ابن عمار، وجده احمد بن إسحاق البهلول، وأبي عمر محمد بن يوسف القاضي، ومحمد بن هارون بن المجدر، وعبد الوهاب بن أبي حية، وأحمد بن سليمان الطوسي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وغيرهم.

وعرض عليه القضاء والشهادة، فأباهما تورعاً، وتقللاً، وصلاحاً.
قال لي علي بن المحسن: مات جعفر بن أبي طالب بن البهلول بغداد، ليلة الأربعاء لثمان وعشرين ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وثلثمائة، ودفن من الغد إلى جانب داره، بسكة أبي العباس الطوسي.

مالي وللعيد
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أنشدني أبو عبد الله بن حجاج لنفسه:
قالوا غدا العيد فاستبشر به فرحاً ... فقلت: ما لي وما للعيد والفرح
قد كان ذا والنوى لم تضح نازلة ... بعقوتي وغراب البن لم يصح
أيام لم يخترم قربي البعاد ولم ... يغد الشتات على شملي ولم يرح
وطائر طار في خضراء مورقة ... على شفا جدول بالروض متشح
بكى وناح ولولا أنه سبب ... لشجو قلبي المعنى فيك لم ينح
فما ذكرتك والأقداح دائرة ... إلا مزجت بدمعي باكياً قدحي
ولاسمعت بصوت فيه ذكر نوى ... إلا عصيت عليه كل مقترح
أبو العيناء يرثي الحسن بن سهل
أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قا: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكي، قال حدثنا جعفر بن أبي العيناء، قال: لما مات الحسن بن سهل، قال أبي: والله لئن أتعب المادحين، لقد أطال بكاء الباكين، ولقد أصيبت به الأيام، وخرست بموته الأقلام، ولقد كان بقية وفي الناس بقية، فكيف اليوم، وقد بادت البرية.
القاضي أبو محمد الحسن ابن أبي الشوارب
أخبرنا علي بن المسحن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: بعد الثلاثة أيام التي تقلد فيها ابن الأشناني، مدينة المنصور، استقضى المقتدر على مدينة المنصور أبا محمد الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن عيد الملك بن أبي الشوارب، في يوم الاثنين لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وهذا رجل، حسن السيرة، جميل الطريقة، قريب الشبه من أبيه وجده، على طريقتهم في باب الحكم والسداد.
ولم يزل والياً على المدينة إلى يوم النصف من شهر رمضان سنة عشرين وثلثمائة، ثم صرفه المقتدر.
المنصور ينصح ولده المهدي
بالإقبال على الفقه والغازي أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان الحسن بن عمارة على الحكم - يعني ببغداد - ثم بعث المنصور إلى عبيد الله بن محمد بن صفوان إلى مكة، من يقدم به عليه.
فلما قدم ولاه القضاء، وضم الحسن بن عمارة إلى المهدي.
وكان أبو جعفر، يبعث بأسلم إلى المهدي ليعرف حاله، وكيف هو في مجلسه، وربما وجه إليه في السر.
فرآه أسلم مقبلاً على مقاتل بن سليمان فأخبر المنصور بذلك.
فقال له المنصور: يا بني، بلغني إقبالك على مقاتل، فسرني ذلك، وإنك إنما تعمل غداً بما تسمع اليوم، فلا تقبل على مقاتل، وأقبل على الحسن ابن عمارة للفقه، وعلى محمد بن إسحاق للمغازي، وما جرى فيها.
الحسن بن عمارة
يكرم أحد طلاب الحديث أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني أبي، قال: كان بالكوفة رجل غريب، يكتب الحديث، وكان يختلف إلى الحسن بن عمارة، يكتب عنه.
فجاءه، فودعه، ليخرج إلى بلاده، وقال له: إن في نفقتي قلة.
فكتب له الحسن رقعة، وقال: اذهب بها إلى الفرات، إلى وكيل لنا هناك، يبيع القار، فادفعها إليه.
فظن الرجل، أنه قد كتب له بدريهمات، فإذا هو قد كتب له بخمسمائة درهم.
عبيد الله بن محمد بن صفوان
يتقلد للمهدي قضاء المدينة حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عبيد الله بن محمد صفوان الجمحي، أقدمه المنصور من مكة، فقلده القضاء بمدينة السلام، وكان هالماً أديباً.
ومازال على الحكم حتى مات المنصور، فقلده المهدي قضاء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحرب، والصلاة، وعزله عن قضاء بغداد.
قلت: كان المنصور قد جعل الحسن بن عمارة على المظالم ببغداد، ثم استقضاه، فلم يلبث إلا أياماً، حتى صرفه، وولى مكانه القضاء ابن صفوان
القاضي أبو حسان الزيادي

يضرب رجلاً ألف سوط ويتركه في الشمس حتى يموت أخبرنا علي، قال: أخبرنا طلحة، قال: حدثني أبو الحسين عمر ابن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: كنت في الجسر واقفاً، وقد حضر أبو حسان الزيادي القاضي،وقد وجه إليه المتوكل من سر من رأى، بسياط جدد في منديل دبيقي، مختومة، وأمره أن يضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم - وقيل احمد بن محمد ابن عاصم - صاحب خان عاصم، ألف سوط، لأنه شهد عليه الثقات، وأهل الستر، أنه شتم أبا بكر وعمر،، وقدف عائشة، فلم ينكر ذلك، ولم يتب منه، وكانت السياط بثمارها.
فجعل يضرب بحضرة القاضي، وأصحاب الشرط قيام.
فقال: أيها القاضي، قتلتني.
فقال له أبو حسان: قتلك الحق، لقذفك زوجة الرسول، ولشتمك الخلفاء الراشدين المهديين.
قال طلحة: وقيل: لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.

الخليفة الواثق
يستقضي الحسن بن علي بن الجعد أخبرنا علي بن المحسن، قال: اخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل الواثق عبد الرحمن بن إسحاق سنة ثمان وعشرين ومائتين، واستقضى الحسن بن علي بن الجعد وكان سرياً، ذا مروءة، وكان من العلماء بمذهب أهل العراق، أخذ عن أبيه، وولي القضاء في حياة أبيه.
أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: توفي الحسن بن علي بن الجعد، وأبو حسان الزيادي في وقت واحد، وكل واحد منهما قاضٍ، كان أحدهما على المدينة، والآخر على الشرقية، في سنة ثلاث وأربعين ومائتين، في أيام المتوكل.
جريت مع الصبا طلق الجموح
أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن محمد السوسنجردي العسكري قال: حدثنا ابن أبي الذيال المحدث - بسر من رأى - قال: حضرت وليمة حضرها الجاحظ، فسمعته يقول: حضرت وليمة حضرها أبو نواس، وعبد الصمد بن المعذل، فسمعت عبد الصمد، يقول لأبي نواس: لقد أبدعت في قولك.
جريت مع الصبا طلق الجموح وهان علي مأثور القبيح قال أبو بكر الأنباري، أنشدني لأبي نواس:
رأيت ألذ عافية الليالي ... قران العود بالنغم الفصيح
ومسمعة إذا ما شئت غنت ... متى كان الخيام بذي طلوح
تزود من شباب ليس يبقى ... وصلى بعرى الغبوق عرى الصبوح
وخذها من مشعشعة كميت ... تنزل درة الرجل الشحيح
تخيرها لكسرى رائداه ... لها حظان من طعم وريح
ألم ترني أبحت اللهو عيني ... وعض مراشف الظبي المليح
وأيقن رائدي أن سوف تنأى ... مسافة بين جثماني وروحي
من شعر أبي عبد الله بن الحجاج
أنشدنا علي بن الحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج الكاتب لنفسه:
نمت بسري في الهوى أدمعي ... ودلت الواشي على موضعي
يا معشر العشاق إن كنتم ... مثلي وفي حالي فموتوا معي
وأنشدنا التنزخي أيضاً، قال: أنشدنا أبو عبد الله بن الحجاج لنفسه:
يا من إليها من ظلمها الهرب ... رد فؤادي أقل ما يجب
ردي حياتي إن كنت منصفة ... ثم إليك الرضاء والغضب
ملكت قلبي فلم أفتك به ... سبحان من لا يفوته طلب
لحية القاضي العوفي تبلغ إلى ركبته
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد المعدل، قال: حدثني أحمد بن كامل، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: كانت لحية العوفي تبلغ إلى ركبته.
لحية القاضي العوفي تعدت كل قدر
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قا: أنشدني أبو عبد الله التميمي، لبعضهم:
لحية العوفي أبدت ... ما اختفى من محسن شعري
هي لو كانت شراعاً ... لذوي متجر بحر
جعل السبر من الصي ... ن إلينا نصف شهر
هي في الطول وفي الع ... رض تعدت كل قدر
القاضي العوفي
يلقي مسائله في المناظرة من الدفتر

أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: الحسين بن الحسن العوفي، رجل جليل من أصحاب أبي حنيفة، وكان سليماً مغفلاً، ولا ه الرشيد أياماً ثم صرفه.
وكان يجتمع في مجلسه قوم فيتناظرون، فيدعو بدفتر، فينظر فيه، ثم يلقي من المسائل، ويقول لمن يلقي عليه، أخطأت، أو أصبت، من الدفتر.
وتوفي سنة إحدى ومائتين.

الحسين بن الضحاك الشاعر
حدثني علي بن أبي علي، عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الخليع الباهلي البصري، مولى لولد سليمان بن ربيعة الباهلي، وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتنان في ضروب الشعر وأنواعه، وبلغ سناً عالية.
يقال إنه ولد في سنة اثنتين وستين ومائة، ومات في سنة خمسين ومائتين.
واتصل له من مجالسة الخلفاء ما لم يتصل لأحد، إلا لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك، أو ساواه.
صحب الحسين الأمين في سنة ثمان وثمانين ومائة، ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيام المستعين.
الراضني يستقضي أبا محمد الحسين بن عمر
أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى الراضي، أبا محمد الحسين بن أبي الحسين عمر بن محمد ابن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم.
وهو أصغر من أبي نصر بقليل، وهو فتى جميل الأمر، متوسط في مذهبه، وسداده، سليم الصدر، قريب من الناس، وكان محبوباً إلى الناس لأنه يشبه أباه في الصورة والخلق.
ثم مات الراضي، واستخلف المتقي لله، فأقره على مدينة المنصور إلى جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلثمائة، ثم صرفه.
أبو علي التنوخي ينيب عنه
أبا القاسم الكوفي في القضاء بالكوفة حدثني علي بن المحسن التنوخي، عن أبي القاسم الكوفي، وذكر لي أنه سمع منه ببغداد في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
قال: وسألته عن مولده، فقال: ولدت يوم السبت الثلاث بقين من المحرم سنة سبع وعشرين وثلثمائة.
قال التنوخي: وكان ثقة، كثير الحديث، جيد المعرفة به، وولي القضاء بالكوفة من قبل أبي، وكان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وكان يحفظ القرآن ويحس قطعة من الفرائض وعلم القضاء، قيماً بذلك، وكان زاهداً عفيفاً.
من مخاريق الحلاج
أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني غير واحد من الثقات من أصحابنا: أن الحسين بن منصور الحلاج، كان قد أنفذ أحد أصحابه، إلى بلد من بلدان الجبل، ووافقه على حيلة يعملها.
فخرج الرجل، فأقام عندهم سنين يظهر النسك والعبادة، ويقرأ القرآن ويصوم، فغلب على البلد.
حتى إذا علم أنه قد تمكن، أظهر أنه قد عمي، فكان يقاد إلى مسجده، وتعامى على كل أحد شهوراً.
ثم أظهر أنه قد زمن، فكان يحبو، ويحمل إلى المسجد، حتى مضت سنة على ذلك، وتقرر في النفوس زمانته وعماه.
فقال لهم بعد ذلك: إني رأيت في النوم، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لي: إنه يطرق هذا البلد عبد لله صالح مجاب الدعوة، تكون عافيتك على يده، وبدعائه، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء، أو من الصوفية فلعل الله أن يفرج عني على يد ذلك العبد، وبدعائه، كما وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلقت النفوس إلى ورود العبد الصالح، وتطلعته القلوب.
ومضى الأجل الذي كان بينه وبين الحلاج، فقدم البلد، فليس الثياب الصوف الرقاق، وتفرد في الجامع بالدعاء والصلاة.
وتنبهوا على خبره، فقالوا للأعمى.
فقال: احملوني إليه، فلما حصل عنده، وعلم أنه الحلاج، قال له: يا عبد الله، إني رأيت في المنام، كيت وكيت، فتدعو الله لي.
فقال: ومن أنا؟ وما محلي؟ فما زال به، حتى دعي له، ثم مسح يده عليه، فقام المنزامن صحيحاً مبصراً.
فانقلب البلد، وكثر الناس على الحلاج، فتركهم، وخرج من البلد.
وأقام المتعامي المتزامن فيه شهوراً، ثم قال لهم: إن من حق نعمة الله عندي، وردة جوارحي علي، ان أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا، وأن يكون مقامي في الثغر، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، من كانت له حاجة تحملتها، وإلا فأنا استودعكم الله.
قال: فأخرج هذا ألف درهم، وقال: اغز بها عني، وأعطاه هذا مائة دينار، وقال: أخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه هذا مالاً، وهذا مالاً، حتى اجتمع ألوف دنانير ودراهم.

فلحق بالحلاج، فقاسمه عليها.

محاكمة الحلاج
وتنفيذ حكم الاعدام فيه حدثنا علي بن المحسن القاضي، عن أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن زنجي الكاتب عن أبيه - وهو المعروف بزنجي - بما أسوقه من أخبار الحلاج. إلى حين مقتله، وكان زنجي يلازم مجلس حامد بن العباس، ويرى الحلاج، ويسمع مناظرات أصحابه.
قال زنجي: أول ما انكشف من أمره في أيام وزارة حامد بن العباس، أن رجلاً شيخاً، حسن السمة، يعرف بالدباس، تنصح فيه، وذكر انتشار أصحابه، وتفرق دعاته في النواحي، وأنه كان ممن استجاب له، ثم تبين له مخرقته، ففارقه، وخرج عن جملته، وتقرب إلىالله بكشف أمره.
واجتمع معه على هذه الحال، أو علي هارون بن عبد العزيز الوارجي، الكاتب الأنباري، وكان قد عمل كتاباً، ذر فيه مخاريق الحلاج، والحيلةفيها.
والحلاج يومئذ، مقيم عند نصر القشوري، من بعض حجره، موسع عليه، مأذن لمن يدخل إليه.
وللحلاج إسمان، أحدهما الحسين بن منصور، والاخر محمد بن أحمد الفارسي.
وكان قد استغوى نصراً، وجاز تمويهه عليه، حتى كان يسميه: العبد الصالح.
وتحدث الناس، ان علة عرضت للمقتدر بالله في جوفه، وقف نصر على خبرها، فوصفه له، واستأذنه في إدخاله إليه، فأذن له، فوضع يده على الموضع الذي كانت فيه العلة، وقرأ عليه، فاتفق أن زالت العلة.
ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة، وفعل بها مثل ذلك، فزال ما وجدته.
فقام للحلاج بذلك، سوق في الدار، وعند والدة المقتدر، والخدم، والحاشية، وأسباب نصر خاصة.
ولما انتشر كلام الباس، وأبي علي الأوراجي في الحلاج، بعث به المقتدر بالله، إلى أبي الحسن علي بن عيسى، ليناظره، فأحضره مجلسه، وخاطبه خطاباً فيه غلظة.
فحكي في ذلك الوقت، أنه تقدم غليه، وقال له - فيما بينه وبينه - : قف حيث انتهيت، ولا تزد عليه شيئاً، وإلا قلبت الأرض عليك. أو كلاما في هذا المعنى.
فتهيب علي بن عيسى مناظرته، واستعفى منه، ونقل حينئذ، إلى حامد.
وكانت بنت السمري، صاحب الحلاج، قد أدخلت إليه، وأقامت عنده في دار السلطان مدة، وبعث بها إلى حامد ليسألها عما وقفت عليه، وشاهدته في أحواله.
فدخلت إلى حامد، في يوم شاتٍ بارد، وهذه المرأة بحضرته، وكانت حسنة العبارة، عذبة الأفاظ، مقبولة الصورة.
فسألها عن أمره، فذكرت أن أباها السمري، حملها إليه، وأنها لما دخلت عليه، وهب لها أشياء كثيرة، عددت أصنافها، منها ريطة خضراء وقال لها؛ قد زوجتك ابني سليمان، وهو أعز ولدي علي، وهو مقيم بنيسابور - في موضع قد ذكرته، وأنسيته - وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، او تنكر منه حالاً من الأحوال، وقد أوصيته بك، فمتى حرى شيئ تنكرينه من جهته، فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد، واجعلي فطرك عليه، وعلى ملح جريش، واستقبليني بوجهك، واذكري لي ما أنكرتيه منه، فإني أسمع وأرى، قالت: وكنت ليلة نائمة في السطح، وابنة الحلاج معي، في دار السلطان وهو معنا، فلما كان في الليل، أحسست به وقد غشيني، فانتبهت مذعورة منكرة لما كان منه، فقال: إنما جئت لأوقظك للصلاة.
ولما أصبحنا، نزلت إلى الدار، ومعي بنته، ونزل هو، فلما صار على الدرجة، بحيث يرانا ونراه، قالت بنته: اسجدي له.
فقلت لها: أو يسجد أحد لغير الله؟ وسمع كلامي لها، فقال: نعم، إله في السماء، وغله في الأرض، قال: ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه، وأخرجها مملوءة مسكاً، فدفعه إلي، وفعل هذا مرات، ثم قال: اجعلي هذا في طيبك، فإن المرأة، إذا حصلت عند الرجل، احتاجت إلى الطيب.
قالت: ثم دعاني، وهو جالس في بيت البوراي، فقال: ارفعي جانب البارية، وخذي من تحته ما تريدين، وأومأ إلى زاوية البيت، فجئت إليها، ورفعت البارية، فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك.
قال زنجي: وأقامت هذه المرأة، معتقلة في ار حامد، إلى أن قتل الحلاج.
ولما حصل الحلاج في يد حامد، جد في طلب أصحابه، وأذكى العيون عليهم، وحصل في يده منهم، حيدرة، والسمري، ومحمد بن علي القنائي، والمعروف بأبي الهاشمي، واستتر المعروف بان حماد، وكبس منزله، وأخذت منه دفاتر كثيرة، وكذلك من منزل محمد بن علي القنائي، في ورق صيني، وبعضها مكتوب بماء الذهب، مبطنة بالديباج والحرير، مجلدة بالأديم الجيد.

وكان فيما خاطبه به حامد، أول ما حمل إليه: ألست تعلم أني قبضت عليك بدور الراسبي، وأحضرتك إلى واسط، فذكرت في دفعة أنك المهدي، وذكرت في دفعة أخرى أنك رجل صالح تدعو إلى عبادة الله، والأمر بالمعروف، فكيف ادعيت بعد الألوهية؟ وكان في الكتب الموجودة، عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إلى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه، وما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى أخرى، ومرتبة إلى مرتبة، حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم، على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة، لا يعرفها إلا من كتبها، ومن كتبت إليه، ومدارج فيها ما يجري هذا المجرى، وفي بعضها صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج، مكتوب: علي عليه السلام، كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها.
وحضرت مجلس حامد، وقد أحضر السمري صاحب الحلاج، وسأله عن أشياء من أمر الحلاج، وقال له: حدثني بما شاهدته منه.
فقال له: إن رأى الوزير أن يعفيني، فعل.
فأعلمه أنه لا يعفيه، وعاود مسألته عما شاهده، فعاود استعفاءه. وألح عليه في السؤال.
فلما تردد القول بينهما، قال: أعلم أني إن حدثتك كذبتني، ولم آمن مكروهاً يلحقني، فوعده أن لا يلحقه مكروه.
فقال: كنت معه بفارس، فخرجنا نريد اصطخر في زمان شاتٍ، فلما صرنا في بعض الطريق، أعلمته بأني قد اشتهيت خياراً.
فقال لي: في هذا المكان؟ وفي مثل هذا الوقت من الزمان؟ فقلت: هو شيء عرض لي.
ولما كان بعد ساعات، قال لي: انت على تلك الشهوة؟ فقلت: نعم.
قال: وسرنا إلى سفح جبل ثلج، فأدخل يده فيه، وأخرج إلي منه خيارة خضراء، ودفعها إلي.
فقال له حامد: فأكلتها؟ قال: نعم.
فقال له: كذبت يا ابن مائة ألف زانية في مائة ألف زانية، أو جعوا فكه.
فأسرع الغلمان إليه، فامتثلوا ما أمرهم به، وهو يصيح: أليس من هذا خفنا؟ ثم أمر به، فأقيم من المجلس.
وأقبل حامد يتحدث عن قوم من أصحاب النيرنجيات، كانوا يعدون بإخراج التين، وما يجري مجراه من الفواكه، فإذا حصل ذلك في يد الإنسان، وأراد أن يأكله، صار بعراً.
وحضرت مجلس حامد، وقد أحضر سفط خيازر لطيف، حمل من دار محمد بن علي القنائي - أكبر ظني - فتقدم بفتحه، فإذا فيه قدر جافة خضراء، وقوارير فيها شيء يشبه لون الزئبق، وكسر خبز جافة، وكان السمري حاضراً، جالساً بالقرب من أبي، فعجب من تلك القدر وتصييرها في سفط مختوم، ومن تلك القوارير - وعندنا أنها أدهان - ومن كسر الخبز.
وسأل حامد السمري عن ذلك، فدافعه في الجواب، واستعفاه منه. وألح عليه في السؤال، فعرفه أن في ذلك القدر رجيع الحلاج، وأنه يستشفى به، وأن الذي في القوارير بوله.
فعرف حامد، ما قاله، فعجب منه من كان في المجلس، واتصل القول في الطعن على الحلاج.
وأقبل أبي يعيد ذكر تلك الكسر، ويتعجب منها، ومن احتفاظهم بها، حتى غاظ السمري ذلك، فقال له: هوذا أسمع ما تقول، وأرى تعجبك من هذه الكسر، وهي بين يديك فكل منها ما شئت، ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج بعد أكلك ما تأكله منها.
فتهيب أبي أن يأكلها، وتخوف أن يكون فيها سم.
وأحضر حامد الحلاج، وسأله عما كان في السفط، وعن احتفاظ أصحابه برجيعه وبوله؟ فذكر أنه شيء ما علم به، ولا عرفه.
وكان يتفق في كثير من الأيام، جلوس الحلاج في مجلس حامد، إلى جنبي، فأسمعه يقول دائماً: سبحانك، لا إله إلا أنت، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وكانت عليه مدرعة سوداء من صوف.
وكنت يوماً، وأبي، بين يدي حامد، ثم نهض عن مجلسه، وخرجنا إلى دار العامة، وجلسنا في رواقها، وحضر هارون بن عمران الجهبذ، فجلس بين يدي أبي، ولم يحادثه، فهو في ذاك، إذ جاء غلام حامد الذي كان موكلاً بالحلاج، وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه، فنهض عن المجلس مسرعاً، ونحن لا ندري ما السبب.
فغاب عنا قليلاً، ثم عاد وهو متغير اللون جداً. فأنكر أبي ما رآه منه، وسأله عنه.

فقال: دعاني الغلام الموكل بالحلاج، فخرجت إليه، فأعلمني أنه دخل إليه، ومعه الطبق الذي رسم أن يقدمه إليه في كل يوم، فوجده ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، وملأ جوانبه، فهاله ما رأى من ذلك، ورمى الطبق من يده، وخرج من البيت مسرعاً، وأن الغلام ارتعد، وانتفض وحم وبقي هارون يتعجب من ذلك.
وبلغ حامداً عن بعض أصحاب الحلاج، إنه ذكر أنه دخل إليه، إلى الموضع الذي هو فيه، وخاطبه بما أراده، فأنكر ذلك كل الإنكار، وتقدم بمساءلة الحجاب والبوابين عنه، وقد كان رسم أن لا يدخل إليه أحد، وضرب بعض البوابين، فحلفوا بالإيمان المغلظة، انهم ما أدخلوا أحداً من أصحاب الحلاج إليه، ولا اجتاز بهم، وتقدم بافتقاد السطوح، وجوانب الحيطان، فافتقدوا ذلك أجمع، ولم يوجد له أثر ولا خلل.
فسئل الحلاج، عن دخول من دخل إليه، فقال: من القدرة نزل، ومن الموضع الذي وصل إلي منه خرج.
وكان يخرج إلى حامد، في كل يوم، دفاتر، مما حمل من دور أصحاب الحلاج، وتجعل بين يديه، فيدفعها إلى أبي، ويتقدم إليه، بأن يقرأها عليه، فكان يفعل ذلك دائماً.
فقرأ عليه في بعض الأيام، من كتب الحلاج، والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين ابن الأشناني، كتاباً حكى فيه، أن الإنسان إذا أراد الحج، ولم يمكنه، أفرد في داره بيتاً، لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه، فإذا حضرت أيام الحج، طاف حوله، طوافه حول البيت الحرام، فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيماً وهمل لهم أمر أما يمكنه من الطعام، وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدم إليهم ذلك الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم، وغسل أيديهم، كسا كل واحد منهم قميصاً، ودفع إليه سبعة دراهم، أو ثلاثة - الشك مني - فإذا فعل ذلك، قام له مقام الحج.
فلما قرأ أبي هذا الفصل، التفت أبو عمر القاضي إلى الحلاج، وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري.
فقال له أبو عمر: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة، وليس فيه شيء مما ذكرته.
فلما قال أبو عمر: كذبت يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا.
فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فأقبل حامد، يطالبه بالكتاب بما قاله، وهو يدافع، ويتشاغل، إلى أن مد حامد الدواة من بين يديه إلى أبي عمر ودعا بدرج، فدفعه إليه.
وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتاب، إلحاحاً لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولما تبين الحلاج الصورة، قال: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجوة في الوارقين، فالله الله من دمي.
ولم يزل يردد هذا القول، والقوم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكموا ما احتاجوا إليه، ونهضوا عن المجلس، ورد الحلاج إلى موضعه الذي كان فيه.
ودفع حامد ذلك المحضر إلى والدي، وتقدم إليه أن يكتب إلى المقتدر بالله، بخبر المجلس، وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها.
فكتب الرقعتين، وأنفذ الفتوى درج الرقعة إلى المقتدر بالله.
وأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد، ولحقه ندم على ما كتب به، وتخوف أن يكون قد وقع غير موقعه، ولم يجد بداً من نصرة ما عمله.
فكتب بخط والدي، رقعة إلى المقتدر بالله، في اليوم الثالث، يقتضي فيها ما تضمنته الولى، ويقول: عن ما جرى في المجلس، قد شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج، افتن الناس به، ولم يختلف عليه اثنان، ويستأذن في ذلك، وانفذ الرقعة إلى مفلح، وسأله إيصالها، وتنجيز الجواب عنها، وإنفاذه إليه.
فعاد الجواب من المقتدر بالله في غد ذلك اليوم، من جهة مفلح، بأن القضاة، إذا كانوا قد أفتوا بقتله، وأباحوا دمه، فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، ويتقدم إليه بتسلمه، وضربه ألف سوط، فإن تلف تحت الضرب، وإلا ضرب عنقه.
فسر حامد بهذا الجواب، وزال ما كان عليه من الاضراب، واحضر محمد بن عبد الصمد، وأقرأه إياه، وتقدم إليه بتسلم الحلاج، فامتنع من ذلك، وذكر أنه يتخوف أن ينتزع.
فأعلمه حامد، أنه يبعث معه غلمانه، حتى يصيروا به إلى مجلس الشرطة في الجانب الغربي.

ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه، وقوم على بغال مؤكفة، يجرون مجرى الساسه، ليجعل على واحد منها، ويدخل في غمار القوم.
وأوصاه بأن يضربه ألف سوط ، فإن تلف، حز رأسه، واحتفظ به، وأحرق جثته.
وقال له حامد: إن قال ذلك: أجري لك الفرات ذهباً وفضة، فلا تقبل منه، ولا ترفع الضرب عنه.
فلما كان بعد عشاء الآخرة، وافى محمد بن عبد الصمد، إلى حامد، ومعه رجاله، والبغال المؤكفة، فتقدم إلى غلمانه، بالركوب معه، حتى يصل إلى مجلس الشرطة، وتقدم إلى الغلام الموكل به، بإخراجه من الموضع الذي هو فيه، وتسليمه إلى أصحاب محمد بن عبد الصمد.
فحكى الغلام: أنه لما فتح الباب عنه، وأمره بالخروج، وهو وقت لم يكن يفتح عنه في مثله، قال له: من عند الوزير؟ فقال: محمد بن عبد الصمد.
فقال: ذهبنا واله.
وأخرج، وأركب بعض تلك البغال المؤكفة، واختلط بجمله الساسة، وركب غلمان حامد معه، حتى أوصلوه إلى الجسر، ثم انصرفوا.
وبات هناك محمد بن عبد الصمد، ورجاله مجتمعون حول المجلس.
فلما أصبح يوم الثلاثاء، لست بقين من ذي القعدة، أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس، وأمر الجلاد بضربه بالسوط، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، فضرب إلى تمام الألف سوط، وما استعفى، ولا تأوه.
بل لما بلغ إلى ستمائة سوط، قال لمحمد بن عبد الصمد: ادع بي إليك، فإن عندي نصيحة، تعدل فتح القسطنطينية.
فقال له محمد: قد قيل لي إنك ستقول هذا، وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.
ولما بلغ ألف سوط، قطعت يده، ثم رجله، ثم يده، ثم رجله، وحز رأسه، وأحرقت جثته.
وحضرت في هذا الوقت، وكنت واقفاً على ظهر دابتي، خارج المجلس، والجثة تقلب على الجمر، والنيران تتوقد، ولما صارت رماداً، ألقيت في دجلة.
ونصب الرأس يومين ببغداد، على الجسر، ثم حمل إلى خراسان، وطيف به في النواحي، وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً.
واتفق أن زادت دجلة في تلك السنة، زيادة فيها فضل، فادعى أصحابه، أن ذلك بسببه، ولأن الرماد خالط الماء.
وزعم بعض أصحاب الحلاج، أن المضروب، عدو الحلاج، ألقي شبهه عليه.
وادعى بعضهم، أنهم رأوه في ذلك اليوم، بعد الذي عاينوه من أمره، والحال التي جرت عليه، وهو راكب حماراً، في طريق النهروان، ففرحوا به، وقال: لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا المضروب والمقتول.
وزعم بعضهم: أن دابة حولت في صورته.
وكان نصر الحاجب بعد ذلك، يظهر الترثي له، ويقول: إنه مظلوم، وإنه رجل من العباد.
وأحضر جماعة من الوراقين، وأحلفوا على أن لا يبيعوا شيئاً من كتب الحلاج ولا يشتروها.

الخليفة يدعو القاضي حفص بن غياث
فيستمهله حتى يفرغ من أمر الخصوم أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني عمر بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور، عن أبي هشام الرفاعي: أن حفص بن غياث كان جالساً في الشرقية للقضاء، فأرسل إليه الخليفة يدعوه.
فقال له: حتى أفرغ من أمر الخصوم، إذ كنت أجيراً لهم، وأصير إلى أمير المؤمنين.
ولم يقم حتى تفرق الخصوم.
القاضي حفص بن غياث
تمر أحكامه وقضاياه كالقدح أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن رزق، قال: لما ولي حفص بن غياث القضاء بالكوفة، قال لهم أبو يوسف: اكسروا دفتراً لتكتبوا فيه نوادر قضاياه، فمرت قضاياه وأحكامه كالقدح.
فقالوا لأبي يوسف: أنا ترى؟ قال: ما أصنع بقيام الليل.
يريد أن الله وفقه - بصلاة الليل - في الحكم.
الحسن بن وهب يرثي أبا تمام الطائي
أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: قال الحسن بن وهب، يرثي أبا تمام الطائي.
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معاً فتجاورا في حفرةٍ ... وكذلك كانا قبل في الأحياء
مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر

أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، إملاء من حفظه، قال: حدثنا أبي، ابو بكر يوسف بن يعقوب، وعم أبي، القاضي أو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، قال: سمعت جدي حسان بن سنان، يقول: قدمت إلى واسط متظلماً من عاملنا بالأنبار، فرأيت أنس بن مالك، في ديوان الحجاج بن يوسف، وسمعته يقولك مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر.
قال إسحاق بن البهلول: قد دخلت في الدعوة التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: طوبى لمن رآني، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني.

حسان بن سنان التنوخي
أدركته بركة دعاء أنس بن مالك أنبأنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو غانم محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا جدي إسحاق، قال: حدثني جدي حسان، قال: خرجت في وفد من أهل الأنبار، إلى الحجاج، إلى واسط، نتظلم إليه من عامله علينا ابن الرفيل.
فدخلت ديوانه، فرأيت شيخاً، والناس يكتبون عنه، فسألت عنه، فقيل لي: أنس بن مالك، فوقفت عليه.
فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من الأنبار، جئنا إلى الأمير نتظلم إليه.
فقال: بارك الله فيك.
فقلت: حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا خادم رسول الله.
فقال سمعته صلى اله عليه وسلم، يقول: مر بالمعروف، وانه عن المنكر، ما استطعت.
وأعجلني أصحابي، فلم أسمع منه غير هذا الحديث.
قال أبو غانم: قال أبي: كان جدي إسحاق يقول: أرجو أن اكون ممن سبقت فيه، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله (طوبى لمن رآني، ولمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني).
قال أبو غانم: وكان من بركة دعاء أنس لحسان، أنه عاش مائة وعشرين سنة، وخرج من أولاده جماعة فقهاء، وقضاة، ورؤساء، وصلحاء، وكتاب، وزهاد.
ولد حسان سنة ستين للهجرة، ووفاته في سنة ثمانين ومائة.
حسان بن سنان التنوخي
كان نصرانياً، وأسلم حدثني علي بن المحسن القاضي، عن أحمد بن يوسف الأزرق، عن مشايخ أهله، قال: كان جدنا حسان بن سنان، يكنى أبا العلاء، وولد بالأنبار في سنة ستين من الهجرة على النصرانية، وكانت دينه، ودين آبائه، ثم أسلم، وحسن إسلامه.
وكانت له حين أسلم ابنة بالغ، فأقامت على النصرانية، فلما حضرتها الوفاة، وصت بمالها لديرة تنوخ بالأنبار.
وكان حسان، يتكلم ويقرأ ويكتب، بالعربية، والفارسية، والسريانية، ولحق الدولتين.
فلما قلد أبو العباس السفاح، ربيعة الرأي، القضاء بالأنبار، وهي إذ ذاك حضرته، أتي بكتب مكتوبة بالفارسية، فلم يحسن أن يقرأها، فطلب رجلاً ديناً، ثقةً، يحسن قراءتها، فدل على حسان بن سنان، فجاء به، فكان يقرأ له الكتب بالفارسية.
فلما اختبره، ورضي مذاهبه، استكتبه على جميع أمره.
وكان حسان قبل ذلك، رأى أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، ولا يعلم هل رأى غيره من الصحابة أم لا.
ومات جدنا حسان، وله مائة وعشرون سنة.
افتتح القضاء بأعورين
أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني محمد بن جرير الطبري إجازة الطبري إجازة: أن المتوكل أشخص يحيى بن أكثم من بغداد إلى سر من رأى، بعد القبض على ابن أبي دؤاد فولاه قضاء القضاة في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وعزل عبد السلام - يعني الوابصي - وولي مكانه سوار بن عبد الله بن سوار العنبري، ويكنى أبا عبد الله، على الجانب الشرقي، وقلد حبان بن بشر، الأسدي، الشرقية، وخلع عليها في يوم واحد، وكانا أعورين، فأنشدني عبيد الله بن محمد الكاتب، لدعبل:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
قد اقتسما العمى نصفين قداً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد جعلت عليه دناً ... فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
من شعر خالد الكاتب
أنبأنا علي بن أبي علي، قال: أنشدنا محمد بن العباس الخزاز، وقال: أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري، لخالد الكاتب:

قد القضيب حكى رشاقة قده ... والورد يحسد ورده في خده
والشمس جوهر نورها من نوره ... والبدر أسعد سعده من سعده
خشف أرق من البهاء بهاؤه ... ومن الفرند المحض في إفرنده
لو مكنت عيناك من وجناته ... لرأيت وجهك في صفيحة خده
قال: وله أيضاً:
الله جارك يا سمعي ويا بصري ... من العيون التي ترمك بالنظر
ومن نفاسة خديك اللذين لك ال ... معنى وقد وسما بالشمس والقمر
فحاسناك، فما فازا بحسنهما ... وخاطراك، فما فاتاك بالخطر
من كان فيك إلى العذال معتذراً ... من الأنام فإني غير معتذر

أبو سعد دواد بن الهيثم
ابن إسحاق بن البهلول التنوخي الأنباري حدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: قال لنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول: كان أبو سعد داود بن الهيثم أسن من القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول، ومن أبي.
ولد أبو سعد في سنة تسع وعشرين ومائتين، وولد القاضي أبو جعفر في المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وولد أبي في سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
وكان أبي، والقاضي أبو جعفر، يريان فضل أبي سعد، وضبطه، ويقدمانه عليهما.
وكان أبي يقول: أبو سعد، أدبني، وعلمني.
وكان أخذ بيد إسحاق بن البهلول، حين أدخله على المتوكل، لما استحضره للسماع، فلما أراد إسحاق أن يقرأ على المتوكل، فضائل العباس، تقدم إلى أبي سعد، فقرأها عليه، والمتوكل يسمع.
قال علي بن المحسن: وكان فصيحاً، نحوياً، لغوياً، حسن العلم بالعروض، واستخراج المعمى، وصنف كتباً في اللغة والنحو على مذهب الكوفيين، وله كتاب كبير في خلق الإنسان، متداول.
وكان أخذ عن يعقوب بن السكيت، ولقي ثعلباً، فحمل عنه، وكان يقول الشعر الجيد، ولقي من الأخباريين جماعة، منهم حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
حدثني علي بن المحسن، عن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: كان أبو سعد داود بن الهيثم، كثير الحديث، كير الحفظ للأخبار، والآداب، والنحو، واللغة، والأشعار، ولد بالأنبار، ومات بها في سنة ست عشرة وثلثمائة.
قال علي بن المحسن: وقال لنا أبو الحسن بن الأزرق: مات أبو سعد، دواد بن الهيثم وله ثمان وثمانون سنة.
لماذا عرف بالثلاج
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني التنوخي، قال: قال لنا ابن الثلاج: ما باع أحد من سلفنا ثلجاً قط، وإنما كانوا بحلوان، وكان جدي مترفاً، فكان يجمع له في كل سنة ثلج كثير لنفسه.
فاجتاز الموفق، أو غيره من الخلفاء، فطلب ثلجاً، فلم يوجد إلا عند جدي، وأهدى إليه منه، فوقع منه موقعاً لطيفاً، وطلبه منه أياماً كثيرة، طول مقامه، وكان يحمله إليه.
فقال: اطلبوا عبد الله الثلاج، واطلبوا ثلجاً من عند عبد الله الثلاج فعرف بالثلاج، وغلب عليه.
ترفق بأهل الجهل إن كنت ساقيا
حدثني علي بن المحسن، عن أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: زراع بن عروة الحنفي، شاعر محدث من أهل اليمامة ورد بغداد، ومات بها، وهو القائل:
فقد قال زراع، فكن عند قوله ... ترفق بأهل الجهل إن كنت ساقيا
وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا
يزيد حسى الكأس السفيه سفاهةً ... ويترك أحلام الرجال كما هيا
ضم يا ضمام، واحذر لا تنام
حدثنا التنوخي قال: سرق أصحاب الحديث نعل أبي زيد، فكان إذا جاء أصحاب الشعر والعربية والأخبار، رمى بثيابه، ولم يتفقدها، وإذا جاء أصحاب الحديث، جمعها كلها، وجعلها بين يديه، وقال: ضم يا ضمام، واحذر لا تنام.
رأي أبي زيد الأنصاري
في أبي عبيدة والأصمعي أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: سئل أو زيد الأنصاري عن ابي عبيدة والأصمعي، فقال: كذابان.
وسئلا عنه، فقالا: ما شئت من عفاف، وتقوى، وإسلام.
السري الرفاء يستهدي قدحا
ً

أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنشدنا أحمد بن علي، المعروف بالهائم، قال: أنشدنا السري بن أحمد الرفاء - لنفسه - وكتب بها إلى صديق له، كان أهدى إليه قدحاً حسناً، فسقط من يده فانكسر:
يا من لديه العفاف والورع ... وشيمتاه العلاء والرفع
كأسك قد فرقت مفاصله ... بين الندامى فليس تجتمع
كأنما الشمس بينهم سقطت ... فجسمها في أكفهم قطع
لو لم أكن واثقاً بمشبهه ... منك لكاد الفؤاد ينصدع
فجد به بدعة فعندي من ... جودك أشياء كلها بدع
أعجمي يتنقص الإمام علياً فيضرب ويطرد
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أحمد بن يوسف ابن يعقو بن إسحاق بن البهلول، قال: أخبرني أبي وعمي، انه كان بالأنبار قوم لا يرتقون في الخلافة والفضل بعلي بن أبي طالب، منهم الوضاح بن حسان - رجل من الأعاجم - وكان إسحاق بن البهلول، يحضر مجلسه، والناس متوافرون عليه، لعلو إسناده.
فصار إسحاق إليه يوماً، وهو يحدث في مسجده، وحو اليه زهاء ألف إنسان، فسأله عن علي بن أبي طالب، فلم يلحقه بأبي بكر وعمر وعثمان.
فخرق إسحاق دفتراً كان بيده، فيه سماع منه له، وضرب به رأسه.
فانفض الناس عن الوضاح، وأقعد إسحاق في مكانه رجلاً، كان أقام بالأنبار، ثم خرج إلى الثغر، يعرف بسمرة بن حجر الخراساني، صاحب سنة، فحدث بفضائل الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب عنه إسحاق، فكتب الناس عنه.

شبيب بن شيبة
يفزع إليه أهل البصرة في قضاء حوائجها أخبرنا علي بن علي المعدل، قال: اخبرنا أحمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الرحمن بن العباس، قالا: حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري، قال: حدثنا أبو يعلى زكريا بن يحيى المنقري، قال: حدثنا الأصمعي، قال: كان شبيب بن شيبة، رجلاً شريفاً، يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، فكان يغدو في كل يوم ويركب.
فإذا أراد أن يغدو، أكل من الطعام شيئاً قد عرفه، فنال منه، ثم ركب .
فقيل له: إنك تباكر الغداء.
فقال: أجل، أطفي به فورة جوعي، وأقطع به خلوف فمي، وأبلغ به في قضاء حوائجي، فإني وجدت خلاء الجوف، وشهوة الطعام، يقطعان الحكيم عن بلوغه في حاجته، ويحمله ذلك على التقصير فيما به إليه الحاجة، وإني رأيت النهم لا مروءة له، ورأيت الجوع داء من الداء، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النهم، وتداوي به داء الجوع.
من حكم شبيب بن شيبة
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا أبو العاس بن محمد، قال: سمعت أبا العباس المبرد يقول: قال شبيب بن شيبة: من سمع كلمة يكرهها، فسكت، انقطع عنه ما يكرهه، وإن أجاب، سمع أكثر مما يكره.
علام يؤتي المرء
أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا علي بن الحسن الجراحي قال: حدثني سهل بن إسماعيل الجوهري، قال: حدثنا محمد بن عبد الله ابن الضريس النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن الحكم الحربي، قال: حدثنا محمد بن شبيب النحوي، قال: حدثنا الشرقي بن القطامي، قال: دخلت على المنصور، فقال: يا شرقي، علام يؤتي المرء؟ فقلت: أصلح الله الخليفة، على معروف قد سلف، ومثله يؤتنف، أو قديم شرف، أو علم مطرف.
العباس الخياط لا يثمر فيه الإحسان
أخبرناعلي بن أبي علي، قال: أنشدنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشد أبو القاسم التوزي، أبي، وأنا أسمع، للعباس الخياط في صالح بن أحمد بن حنبل:
جاد بدينارين لي صالح ... أصلحه الله وأخزاهما
فواحد تحمله ذرة ... زيلعب الريح بأقواهما
بل لو وزنا لك ظليهما ... ثم عمدنا فوزناهما
لكان لا كانا ولا افلحاعليهما يرجح ظلاهما
من شعر ابن الأعرابي
أخبرنا علي بن المحسن المعدل، حدثنا أحمد بن محمد بن يعقوب الكاغدي، قال: حدثنا محمد بن أحمد الحكمي، قالك حدثنا أبو توبة، صالح بن محمد بن دراج الكاتب، قال: أنشدنا ابن الأعرابي:
كانت سليمى إذا ما جئت طارقها ... وأخمد الليل نار الموقد الصالي
قارورة من عبير عند ذي لطف ... من الدنانير كالوه بمثقال
القاضي التنوخي بنيب عنه

صدقة بن علي الموصلي على قضاء نصيبين وأعمالها أخبرنا التنوخي عن أبيه، قال: حدثنا صدقة بن علي الموصلي - وكان خليفة أبي، على قضاء نصيبين وأعمالها - قرأ علينا من لفظه، في منزلنا ببغداد، في ذي القعدة من سنة سبعين وثلثمائة، بعد أن كتبه لنا من حفظه: حدثنا إبراهيم بن ثمامة الحنفي، بمصر، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن.
قال التنوخي: ذكر لنا صدقة، أنه ولد في سنة سبع وثلثمائة.

لا عار في الصرف إذا بقيت المحاسن محروسة
حدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: لما عزل صاعد بن محمد عن قضاء نيسابور بأستاذه أبي الهيثم عتبة بن خيثمة، كتب إليه أبو بكر محمد ابن موسى الخوارزمي، هذين البيتين، وأنشدهما لنفسه:
وإذا لم يكن من الصرف بد ... فليكن بالكبار لا بالصغار
وإذا كانت المحاسن بعد ال ... صرف محروسة فليس بعار
المنصور العباسي
يضرب أسوأ المثال في القسوة أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي علي ابن محمد بن أبي الفهم قال: حدثني أحمد بن أبي العلاء المعروف بحرمي، قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن محمد بن أبان، قال: حدثني أبو معقل، وهو ابن إبراهيم بن داحة، قال: حدثني أبي، قال: أخذ أبو جعفر، أمير المؤمنين، عبد الله بن حسن بن حسن، فقيده، وحبسه في داره.
فلما أراد أبو جعفر الخروج إلى الحج، جلست له لعبد الله بن حسن، يقال لها: فاطمة، فلما أن مر بها أنشأت تقول:
ارحم كبيراً سنه متهدماً ... في السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقد يزيد
أرجوك بالرحم القريبة بيننا ... ماجدنا من جدكم ببعيد
فقال أبو جعفر: اذكرتنيه، ثم أمر به فحدر إلى المطبق، وكان آخر العهد به.
قال ابن داحة: يزيد هذا أخ لعبد الله بن حسن.
قال إسحاق بن محمد: فسألت زيد بن علي بن حسين بن زبد بن علي، وهو عند الزينبي محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، عن هذا الحديث، وأخبرته بقول إبراهيم بن داحة، في يزيد هذا.
فقال: لم يقل شيئاً، ليس في ولد علي بن أبي طالب يزيد، وإنما هذا شيء تمثلت به، ويزيد هو ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
القاضي عبد الله بن أبي الشوارب
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عبد الله بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، من سروات الرجال، وله قدر وجلالة.
استقضاه المكتفي بالله على مدينة المنصور، في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وما زال على قضاء المدينة إلى سنة ست وتسعين ومائتين، فإن المقتدر نقله إلى القضاء بالجانب الشرقي.
المنصور يضرب قهرمانه سبع درر
قرأت على علي بن أبي علي البصري، عن إبراهيم بن محمد الطبري، قال: أخبرنا إبراهيم بن علي الهجيمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: دخل المنصور من باب الذهب، فإذا بثلاثة قناديل مصطفة.
فقال: ما هذا، أما واحد من هذا كان كافياً؟ يقتصر من هذا على واحد.
قال: فلما أصبح، أشرف على الماس وهم يتغدون، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم، قبل أن يشبعوا.
فقال: يا غلام، علي بالقهرمان.
قال: ما لي رأيت الطعام قد خف من بين أيدي الناس قبل أن يشبعوا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيتك، قد قدرت الزيت، فقدرت الطعام.
فقال له: وأنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله، وهذا طعام إذا فضل وجدت له آكلاً؟ ابطحوه.
قال: فبطحوه، فضربه سبع درر.
قطن بن معاوية الغلابي يستلم للمنصور
أخبرنا التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أيوب بن عمرو بن أبي عمرو - أبو سلمة الغفاري - قال: حدثني قطن ابن معاوية الغلابي، قال: كنت ممن سارع إلى إبراهيم، واجتهد معه.
فلما قتل، طلبني أبو جعفر، واستخفيت، فقبض أموالي ودوري. ولحقت بالبادية، فجاورت في بني نصر بن معاوية، ثم في بني كلاب، ثم في بني فزارة، ثم في بني سليم، ثم تنقلت في بلاد قيس أجاورهم.

حتى ضقت ذراعاً بالاستخفاء، فأزمعت على القدوم على أبي جعفر، والاعتراض له.
فقدمت البصرة، فنزلت في طرف منها، ثم أرسلت إلى أبي عمرو بن العلاء، وكان لي وداً، فشاورته في الذي أزمعت عليه.
ففيل رأيي، وقال: والله إذن لقتلنك، وإنك لتعين على نفسك.
فلم ألتفت إليه، وشخصت، حتى قدمت بغداد، وقد بنى أبو جعفر مدينته ونزلها، وليس من الناس أحد يركب فيها، ما خلا المهدي.
فنزلت الخان، ثم قلت لغلماني: أنا ذاهب إلى أمير المؤمنين، فأمهلوا ثلاثاً، فإن جئتكم، وإلا فانصرفوا.
ومضيت حتى دخلت المدينة، فجئت دار الربيع، وهو يومئذ داخل المدينة، في الشارعة على قصر الذهب.
فلم يلبث أن خرج بمشي، فقام إليه الناس، وقمت معهم، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: من أنت؟ قلت: قطن بن معاوية.
قال: أنظر ما تقول؟ قلت: أنا هو.
فأقبل على مسودة معه، فقال: احتفظوا بهذا.
قال: فلما حرست، لحقتني ندامة، وتذكرت رأي أبي عمرو، فتأسفت عليه.
ودخل الربيع، فلم يطل، حتى خرج بخصي، فأخذ بيدي، فأدخلني قصر الذهب، ثم أتى بيتاً حصيناً، فأدخلني فيه، ثم أغلق بابه وانطلق.
فاشتدت ندامتي، وأيقنت بالبلاء، وخلوت بنفسي أومها.
فلما كانت الظهر، أتاني الخصي بماء، فتوضأت وصليت، واتاني بطعام، فاخبرته بأني صائم.
لما كانت المغرب، أتاني بماء، فتوضأت وصليت، وأرخى علي الليل سدوله، فيئست من الحياة.
وسمعت أبواب المدينة تغلق، وأقفالها تشدد، فامتنع عني النوم.
فلما ذهب صدر الليل، أتاني الخصي، ففتح عني، ومضى بي، فأدخلني صحن دار، ثم أدناني من ستر مسدول، فخرج علينا خادم، فأدخلنا، فإذا أبو جعفر وحده، والربيع قائم في ناحية.
فأكب أبو جعفر هنيهة مطرقاً، ثم رفع رأسه، فقال: هيه.
قلت: يا أمير المؤمنين، قد والله جهدت عليك جهدي، فعصيت أمرك، وواليت عدوك، وحرصت على أن أسلبك ملكك، فإن عفوت فأنت أهل لذاك، وإن عاقبت فبأصغر ذنوبي تقتلني.
قال: فسكت هنيهة، ثم قال: هيه.
فأعدت مقالتي.
فقال: فإن أمير المؤمنين قد عفا عنك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، فإني أصير من وراء بابك، فلا أصل إليك، وضياعي ودوري، فهي مقبوضة، فإن رأى أمير المؤمنين، ان يردها، فعل.
فدعا بالدواة، ثم أمر خادماً، فكتب بإملائه، إلى عبد الملك بن أيوب النميري، وهو يومئذ على البصرة: ان أمير المؤمنين، قد رضي عن قطن ابن معاوية ورد عليه ضياعه ودوره، وجميع ما قبض له، فاعلم ذلك، وأنفذه له إن شاء الله.
قال: ثم ختم الكتاب، ودفعه إلي.
فخرجت من ساعتي، لا أدري أين أذهب، فإذا الحرس بالباب، فجلست بجانب أحدهم أحدثه.
فلم ألبث أن خرج علينا الربيع، فقال: أين الرجل الذي خرج آنفاً؟ فقمت أليه.
فقال: انطلق أيها الرجل، فقد والله سلمت.
فانطلق بي إلى منزله، فعشاني، وأفرشني.
فلما أصبحت، ودعته، واتيت غلماني، فأرسلتهم يكترون لي، فوجدوا صديقاً لي من الدهاقين، من أهل ميسان، قد اكترى سفينة لنفسه، فحملني معه.
فقدمت على عبد الملك بن أيوب، بكتاب أبي جعفر، فأقعدني عنده، فلم أقم حتى رد علي جميع ما اصطفي لي.

القاضي عبد الله بن محمد
رافق الرشيد وهلك بطوس أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عبد الله بن محمد عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، ولاه أمير المؤمنين الرشيد قضاء المدينة، وكان معه حتى هلك بطوس، مخرج أمير المؤمنين الرشيد إلى خراسان، الذي هلك فيه الرشيد.
القاضي عبد الله بن محمد الخلنجي
وعفته وديانته حدثنا علي بن المحسن، أن طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل الواثق، عبد الرحمن بن إسحاق واستقضى عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي يزيد الخلنجي، وكان من أصحاب أبي عبد الله بن أبي دؤاد، حاذقاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، واسع العلم، ضابطاً، وكان يصحب ابن سماعة، وتقلد المظالم بالجبل.
فأخبرنا ابن أبي دؤاد أنه مستقل عالم بالقضاء ووجوهه، فسأل عنه ابن سماعة، فشهد له، فكلم ابن أبي دؤاد المعتصم، فولاه قضاء همذان، فأقام نحواً من عشرين سنة لا يشكى، وتلطف له محمد بن الجهم في مال عظيم فلم يقبله.

ولما ولي الشرقية، ظهرت عفته، وديانته، لأهل بغداد، وكان فيه كبر شديد.
وكتب إليه المعتصم في أن يمتحن الناس، وكان يضبط نفسه، فتقدمت إليه امرأة فقالت: إن زوجي لا يقول بقول أمير المؤمنين في القرآن، ففرق بيني وبينه، فصاح عليها.
فلما كان في سنة سبع وثلاثين، في جمادى، عزله المتوكل، وأمر أن يكشف، لفضحه، بسبب ما امتحن الناس في خلق القرآن.
فأخبرني الطبري محمد بن جرير، قال: أقيم الخلنجي للناس سنة سبع وثلاثين ومائتين.
قال طلحة: وأخبرني عمر بن الحسن، قال: كشف الخلنجي، فما انكشف عليه أنه أخذ حبة واحدة.
يانفس صبراً لعل الخير عقباك
أخبرنا علي بن المحسن المعدل، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أبو بكر الصولي، قال: كان القاسم بن عبيد الله الوزير، قد تقدم عند وفاة المعتضد بالله، إلى صاحب الشرطة، مؤنس الخادم، أن يوجه إلى عبد الله بن المعتز، وقصي ابن المؤيد، وعبد العزيز بن المعتمد، فيحسبهم في دار، ففعل ذلك.
فكانوا محبسين خائفين، إلى أن قدم المكتفي بالله بغداد، فعرف خبرهم، فأمر باطلاقهم، ووصل كل واحد منهم بألف دينار.
قال: فحدثنا ابن المعتز، قال: سهرت ليلة دخل في صبيحتها المكتفي إلى بغداد، فلم أنم خوفاً على نفسي، وقلقاً بوروده.
فمرت بي في السحر طير فصاحت، فتمنيت أن أكون مخلى مثلها، لما يجري علي من النكبات.
ثم فكرت في نعم الله علي، وما خاره لي من الإسلام، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أؤمله من البقاء الدائم في الآخرة، فقلت في الحال:
يانفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك من بعد طول المن دنياك
مرت بنا سحراً طير فقلت لها ... طوباك ياليتني إياك طوباك
لكن هو الدهر فالقيه على حذر ... فرب مثلك تنزو بين إشراك

أبو القاسم بن بنت منيع يفيد مائتي دينار
من نسخ مغازي ابن إسحاق حدثنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن بن جعفر البزاز، قال: حدثني أبو القاسم بن بنت منيع، قال: كنت أورق، فسألت جدي أحمد بن منيع أن يمضي معي إلى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، يسأله أن يعطني الجزء الأول من المغازي عن أبيه، عن ابن إسحاق، حتى أورقه عليه.
فجاء معي، وسأله، فأعطاني الجزء الأول، فأخذته وطفت به.
فأول ما بدأت بأبي عبد الله بن المغلس، وأريته الكتاب، وأعلمته أني أريد أن أقرأ المغازي على سعيد الأموي، فدفع إلي عشرين ديناراً، قال: اكتب لي منه نسخة.
ثم طفت بعده بقية يومي، فلم أزل آخذ من عشرين ديناراً إلى عشرة دنانير، وأكثر وأقل، إلى أن حصل معي في ذلك اليوم مائتا دينار.
فكتبت نسخاً لأصحابها بشيء يسير من ذلك وقرأتها لهم، واستفضلت الباقي.
ثلاثة يسلمن إلى الأجل
أنشدني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنشدني أبو محمد عبد الله ابن محمد الباقي، لنفسه:
ثلاثة ما اجتمعن في رجل ... إلا وأسلمنه إلى الأجل
ذل اغتراب، وفاقة، وهوى ... وكلها سائق على عجل
يا عاذل العاشقين إنك لو ... أنصفت رفهتهم عن العذل
فإنهم لو عرفت صورتهمعن عذل العاذلين في شغل
رأي ابن مهدي في سفيان
ومالك وشعبه وابن المبارك أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم الصفار، قال: حدثنا أبو علي أحمد بن علي بن شعيب المدائني بمصر، قال: حدثنا محمد بن عمر، وهو ابن نافع المعدل، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه، قال: حدثنا الثقة عن ابن مهدي قال: ما رأيت رجلاً أعلم بالحديث من سفيان الثوري، ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبه، ولا أنفع لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
عبد الله بن صعب
يتكلم في أمر المدينة في العطاء والقسم أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن العباس وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن مسلمة المخزومي قال: كان مالك بن أنس، إذا ذكر عبد الله بن مصعب، قال: المبارك.
وكان يتكلم في أمر المدينة في العطاء والقسم، وكان في صحابة أمير المؤمنين المهدي، وولاه اليمامة.

فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أقدم بلداً أنا جاهل بأهله، فأعني برجلين من أهل المدينة، لهما فضل وعلم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الله بن محمد بن عجلان، فأعانه بهما، وكتب في إشخاصهما إليه.
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: كان سبب اتصال عبد الله بن مصعب بأمير المؤمنين المهدي، أن أمير المؤمنين المهدي، قدم المدينة سنة ستين ومائة، فدق المقصورة وجلس للناس في المسجد، فجعلوا يدخلون عليه، ويأمرلهم بالجوائز، ويحضرهم الشفعاء من وزرائه.
وكان رجال قد أحسوا بجلوس أمير المؤمنين المهدي، وما يزيد في الناس، وطلبوا الشافاعات.
ودخل عليه عبد الله بن مصعب بغير شفيع، وكان وسيماً جميلاً، ومفوهاً فصيحاً، وقد عرفت له مروءته وقدره بالبلد، قبل ذلك.
فتكلم بين يدي أمير المؤمنين المهدي، فأعجب به، وأحق جائزته بأفضل جوائزهم، وكساه كسوة خاصة، وأدخله في صحابته، وخرج به معه إلى بغداد.
فقال عبد الله بن مصعب:
ولما وجه الشفعاء قوماً ... علا خطبي فجل عن الشفيع
وجاء يدافع الأركان عني ... أب لي في ذرى ركن منيع
أب يترنح الأنباء منه ... إذا انتسبوا إلى الشرف الرفيع
سعى فحوى المكارم ثم ألقى ... مساعيه إلى غير المضيع
فورثني على رغم العادي ... مساعي لا ألف ولا وضيع
فقمت بلا تنحل خارجي ... إذا عد الفعال ولا بديع
فإن يك قد تقدمني صنيع ... يشرفني فما وفى صنيعي
وكانت له من أمير المؤمنين المهدي، ومن أمير المؤمنين موسى، ومن أمير المؤمنين هارون الرشيد، خاصة ومنزلة.

مد لك الله الحياة مدا
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: لما ولد جعفر بن المأمون، المعروف بابن بخة، دخل المهنئون على المأمون، فهنأوه بصنوف من التهاني.
وكان فيمن دخل العباس بن الأحنف، فمثل بين يديه قائماً، ثم أنشأ يقول:
مد لك الله الحياة مدا ... حتى يريك ابنك هذا جدا
ثم يفدي مقلما تفدي ... كأنه أنت إذا تبدا
أشبه منك قامةً وقدا ... موزراً بمجده مردى
فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم.
القاضي عبد الرحمن بن إسحاق
يحل محل إسماعيل بن حماد وبشر بن الوليد أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، فاستقضي مكانه عبد الرحمن ابن إسحاق بن إبراهيم بن سلمة، مولى بني ضبة، وجده من أصحاب الدولة، وكان من أصحاب أبي حنيفة، حسن الفقه، وتقلد الحكم في أيام المأمون، وما زال إلى آخر أيام المعتصم.
ولما عزل المأمون بشر بن الوليد، ضم عمله إلى عبد الرحمن بن إسحاق، وكان على قضاء الشرقية، فصار على الحكم بالجانب الغربي بأسره.
أبو عبد الله الختلي
يحدث في البصرة بخمسين ألف حديث من حفظه أخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرني أبي، قال: دخل إلينا أبو عبد الله الختلي إلى البصرة، وهو صاحب حديث جلد، وكان مشهوراً بالحفظ.
فجاء وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهوراً، إلى أن لحقته كتبه.
فسمعته يقول: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي، إلى أن لحقتني كتبي.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري
أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: أنبأنا عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، قال: أنشدني البحتري:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
فما أبصرت عيناي بعدك منظراً ... يسوءك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من في بعدك مزحة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني
إذ ما تسلى العاذرون عن الهوى ... بشرب مدام أو سماع قيان
وجدت الذي يسلي سواي يشوقني ... إلى قربكم حتى أمل مكاني
وفتيان صدق قد سئمت لقاءهم ... وعففت طرفي عنهم ولساني

وما الدهر أسلى عنهم غير أنني ... أراك على كل الجهات تراني

عبيد الله بن أحمد بن غالب
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان عبيد الله بن احمد بن غالب، فقيهاً، عالماً، على مذهب أهل العراق، وكان من أصحاب ابن ابي دؤاد، وهو خال عمر بن غالب.
وكان مولده سنة ثمانين ومائة، ولم حدث بشيء فيما أعلمه.
لا تهجرني فإني لست ذا جلد
أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو طالب عبد العزيز بن أحمد الدنقشي، قال: قال لي أبو عبد الله الحسن بن علي بن سلمة: أنشدت أبا الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي:
ما إن ذكرتك في قوم أحدثهم ... إلا وجدت فتوراً بيت أحشائي
فأنشدني لنفسه، يريد تضمين هذا البيت:
كم لوعة في الحشا أبقت به سقماً ... خوفاً لهجرك أو خوفاً من النائي
لا تهجرني فإني لست ذا جلدٍ ... ولا اصطبار على هجر الأخلاء
الله يعلم ما حملت من سقمٍ ... وما تضمنته من شدة الداء
لو أن أعضاء صب خاطبت بشراً ... لخاطبتك بوجدي كل أعضائي
فارعي حقوق فتى لا يبتغي شططاً ... إلا السلام بإيجاء وإيماء
هذا على وزن بين كنت منشده ... عارٍ إذا كان من لحن وإقواء
ما إن ذكرتك في قومٍ أحدثهم ... إلا وجدت فتوراً بين أحشائي
ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالاً منك في الماء
من شعر أبي الحسن الكرخي
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو طالب الدنقشي، قال: قال لي أبو عبد الله الحسن بن علي بن سلمة، قال: أنشدني أبو الحسن الكرخي لنفسه:
حسبي سمواً في الهوى أن تعلما ... أن ليس حق مودتي أن أظلما
ثم امض في ظلمي على علمٍ به ... لا مقصراً عنه ولا متلوما
فوحق ما أخذ الهوى من مقلي ... وأذاب من جسمي عليك وأسقما
لجفاك عن علم بما ألقى به ... أحظى لدي من الرضا متجهما
العالم العاقل ابن نفسه
قال لي التنوخي: بلغني أن أبا محمد بن معروف، جلس يوماً للحكم في جامع الرصافة، فستدعى أصحاب القصص إليه، فتتبعها، ووقع على أكثرها.
ثم نظر في بعضها، فإذا فيها ذكر له بالقبيح، وموافقته على وضاعته، وسقوط أصله، ثم تنبيهه وتذكيره بأحوال غير جميلة، وتعديد ذلك عليه.
فقلب الرقعة، وكتب على ظهرها:
العالم العاقل إبن نفسه ... أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت ولكن كيساً ... فإنما المرء بفضل كيسه
كم بين من تكرمه لغيره ... وبين من تكرمه لنفسه
من إنما حياته لغيره ... فيومه أولى به من أمسه
لا رد الله غربتك
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا جماعة من أصدقائنا عن أبي عبد الله بن بطة العكبري، قال: انحدرت لأقرأ على أبي بكر بن مجاهد، فوافيت إلى مسجده، فجلست فيه بالقرب منه.
فلما قرأ الجماعة، نظرت فإذا سبقي بعيد، فدنوت منه، وقلت: يا أستاذ، خذ علي.
فقال: ليس السبق لك.
فقلت له: أنا غريب، وينبغي أن تقدمني.
فقال: إي لعمري، من أي بلد أنت؟ فقلت: من بلد يقال له عكبرا.
فقال لأصحابه: بلد غريب، ما سمعنا به، ومسافة شاسعة.
ثم ضحك والتفت إلي، وقال لي: لا رد الله غربتك، مع أمك تغديت، وجئت إلي.
أكني بغيرك
أخبرنا التنوخي، قال: نقلت من خط أبي إسحاق الصابي:
أكني بغيرك في شعري وأعنيك ... تقيةً وحذراً من أعاديك
فإن سمعت بإنسانٍ شغفت به ... فإنما هو ستر دون حبيك
غالطتهم دون شخصٍ لا وجود له ... معناه أنت ولكن لا أسميك
أخاف من مسعدي في الحب زلته ... وكيف آمن فيه كيد واشيك
ولو كشفت لهم ما بي وبحت به ... لاستعبروا رحمة من محنتي فيك
وظريف زوال وجد بوجد
قال التنوخي: أنشدني أبو العباس الزراري لنفسه:
لي صديق قد صيغ من سوء عهد ... ورماني الزمان فيه بصد

كان وجدي به فصار عليه ... وظريف زوال وجدٍ بوجد

القاضي عبد الملك بن حزم
توفي، فصلى عليه الرشيد أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:استقضى الرشيد عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أياماً، ومات، فصلى عليه هارون الرشيد، ودفن في مقابر العابسة بنت المهدي، وذلك في سنة ثمان وسبعين ومائة.
وكان جليلاً من أهل بين العلم والسير والحديث.
المنصور بعفو عن أحد الثائرين عليه
أخبرنا علي بن أبي علي، فال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عثمان، ومحمد بن الضحاك الحزامي، ومحمد بن الحسن المخرمي، وغيرهم: أن عبد لعزيز بن عبد الله، كان ممن أسر مع محمد بن عبد الله بن حسن، فلما قتل محمد، حمل عبد العزيز إلى أمير المؤمنين المنصور في حديد.
فلما أدخل عليه، قال له: ما رضيت أن خرجت علي، حتى خرجت معك بثلاثة أسيافٍ من ولدك؟ فقال له عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، صل رحمي، واعف عني، واحفظ في عمر بن الخطاب.
فقال: افعل، فعفا عنه.
فقال له عبد الله بن الربيع المداني: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه، لا يطمع فيك فتيان قريش.
فقال له أمير المؤمنين المنصور: إذا قتلت هذا فعلى من أحب أن أتأمر؟.
قرشية اختارت لنفسها
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا المخلص محمد بن عبد الرحمن، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيزالزهري، عن أبي هريرة بن جعفر المحرري، مولى أبي هريرة.
أن الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، خطبا امرأة من قريش، فاختلفا عليها في جمالها، فجعلت تسأل وتستبحث.
إلى أن خرجت تريد صلاة العتمة في المسجد، فرأتهما قائمين في القمر، يتعاتبان في أمرها، ووجه عبد العزيز إليها، وظهر محمد إليها.
فنظرت إلى بياض عبد العزيز، وطوله، فقالت: ما يسأل عن هذين، وتزوجت عبد العزيز.
فجمع الناس، وأولم لدخولها، فبعث إلى محمد بن عبد الله بن عمرو، فدعاه فيمن دعا، فأكرمه، وأجلسه في مجلس شريف.
فلما فرغ الناس، برك له محمد، وخرج وهو يقول:
وبينا أرجي أن أكون وليها ... رميت بعرقٍ من وليمتها سخن
عبد العزيز الأعرج
لا يمسك شيئاً لفرط سخائه أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الذي يقال له الأعرج، كان يحيى بن خالد بن برمك قد أصحبه، فقدم عليه، ووصله يحيى بأمواٍ كثيرة، وكان رجلاً لا يمسك شيئاً، ينفق المال ويتوسع فيه، فلم يدع من ذلك المال كثير شيء، حتى هلك.
وأمه، أمة الرحمن بنت حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف.
ابن البقال أحد المتكلمين الشيعة الزيدية
قال لي أبو القاسم التنوخي: كان ابن البقال أحد المتكلمين من الشيعة، وله كتب مصنفة على مذهب الزيدية، تجمع حديثاً كثيراً.
وله أخ شاعر مشهور.
عبد العزيز بن حماد الدنقشي
قاضي رامهرمز أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو طالب عبد العزيز بن أحمد بن محمد ابن افضل بن أحمد بن محمد بن حماد الدنقشي، قاضي رامهرمز ببغداد في سنة إحدى وسبعين وثلثمائة، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن عبيد،عن الحسن عن عمران بن حصين، وأبي بكرة ومعقل بن يسار وأبي برزة الأسلمي وأنس بن مالك، قالوا جميعاً: ما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط قام فينا خطيباً إلا وهو ينهانا عن المثلة، ويأمرنا بالصدقة.
قال لنا التنوخي: قال لنا أبو طالب الدنقشي، ولدت ببغداد، في مدينة المنصور سنة اثنتين وثلثمائة.
قال: وكان حماد يلقب بدنقش، وهو مولى المنصور، وصاحب حرسه.
وكان محمد بن حماد، أحد القواد بسر من رأى مع صالح بن وصيف ثم ولي الشرطة بها للمهتدي بالله.
وكان أبو عيسى أحمد بن محمد أميناً من أماء القضاة.

وتأخذ من جوانبنا الليالي
أنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو نصر بن نباتة لنفسه:
وتأخذ من جوانبنا الليالي ... كما اخذ المساء من الصباح
أما في أهلها رجل لبيب ... يحس فيشتكي ألم الجراح
أرى التشمير فيها كالتواني ... وحرمان العطية كالنجاح
ومن تحت التراب كمن علاه ... يرى الأرزاق في ضرب القداح
كيف الظن بمن هو أرحم الراحمين
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله الشاهد، قال: كنت أمشي يوماً مع أبي طاهر بن أبي هاشم المقرى، وكان أستاذي، فاجتزنا بمقابر الخيزران، فوقف عليها ساعة.
ثم التفت إلي، فقال لي: يا أبا القاسم، ترى لو وقف هؤلاء هذه المدة الطويلة على باب ملك الروم، ما رحمهم؟ فكيف تظن بمن هو أرحم الراحمين؟ وبكى.
تشابهت الطباع
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو الفرج الببغاء لنفسه:
أكل وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب
تشابهت الطباع فلا دنيء ... يحين إلى الثناء ولا حسيب
وشاع البخل في الأشياء حتى ... يكاد يشح بالريح الهبوب
فكيف أخص باسم العيب شيئاً ... وأكثر ما نشاهده معيب
سقطت على الخبير
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي، قال: حدثنا أبو عمر بن حيوية، قراءة عليه، قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، إجازة، قال: أنشدني منشد للحسن بن وهب:
جس عرقي، فقال: حب طبيبي ... ما له في علاجه من نصيب
فغمزت الطبيب سراً بعيني ... ثم حلفته بحق الصليب
لا تقل لوعة الهوى أسقمتهفينالوا بدعوة من حبيبي
أنشد:
دواعي السقم تخبر عن ضميري ... وتخبر عن مفارقتي سروري
ألا يا سائلي عن سوء حالي ... وعن شأني سقطت على الخبير
شربت من الصبابة كأس سقم ... بعيني شادن ظبي غرير
فمن ذا يداوي جوى باطنا
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: قال عمر بن أبي ربيعة:
طبيبي دوايتما ظاهراً ... فمن يداوي جوى باطنا
فعوجا على منزل بالغميم ... فإني هويت به شادنا
المتوكل يخبر أهل بغداد
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: عزل المتوكل عبيد الله بن أحمد بن غالب، في سنة أربع وثلاثين ومائتين واستقضى عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر، يعرف بالوابصي، وكان قبل ذلك، على قضاء الرقة.
وبعد أن صرف عن بغداد، ولي قضاء الرقة أيضاً، وكان رجلاً جميل الطريقة.
وكان أهل بغداد قد ضجوا من أصحاب أحمد بن أبي دؤاد، وقالوا بعد أن عزل عبيد الله بن أحمد بن غالب: لا يلي علينا إلا من نرضى به.
فكتب المتوكل العهد مطلقاً، ليس عليه اسم واحد، وأنفذه من سر من رأى مع يعقوب قوصرة، أحد الحجاب الكبار، وقال: أحضر عبد السلام والشيوخ، واقرإ العهد، فإن رضوا به قاضياً، فوقع على العهد اسمه.
فقدم قوصرة، ففعل ذلك، فصاح الناس: ما نريد غير الوابصي.
فوقع في الكتاب اسمه وحكم من وقته في الرصافة.
الصاحي بموضع رجلي السكران
أعرف من السكران بموضع رجلي نفسه أخبرنا التنوخي، قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، يقول: سمعت أبا هاشم الجبائي يقول: سألني بعض أصحابنا عن مسألة، فأجبته عنها، فقال لي: يا أبا هاشم لا تظنني لم أكن أعرف هذا.
فقلت له: الصاحي بموضع رجلي السكران، اعرف من السكران بموضع رجلي نفسه.
يعني: أن العالم أعلم بمقدار ما يحسنه الجاهل، من الجاهل بقدر ما يحسن.
المعتضد يستقضي أبا خازم القاضي

أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى المعتضد بالله على الشرقية، سنة ثلاث وثمانين ومائتين، أبا خازم، عبد الحميد بن عبد العزيز، وكان رجلاً ديناً، ورعاً، عالماً بمذهب أهل العراق، والفرائض والحساب، والذرع والقسمة، حسن العلم بالجبر والمقابلة، وحساب الدور، وغامَض الوصايا، والمناسخات، قدوة في العلم بصناعة الحكم، ومباشرة الخصوم، واحذق الناس بعمل المحاضر والسجلات، والإقرارات.
أخذ العلم عن هلال بن يحيى الرازي، وكان هذا أحد فقهاء الدنيا من أهل العراق، وأخذ عن بكر العمي، ومحمود الأنصاري، ثم صحب عبد الرحمن بن نائل بن نجيح، ومحمد بن شجاع، حتى كان جماعة يفضلونه على هؤلاء.
فأما علقله فلا نعلم أحداً رآه، فقال: إنه رأى أعقل منه.
ولقد حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن مانيداذ عن حامد بن العباس عن بيد الله بن سليمان بن وهب، أنه قال: ما رأيت رجلاً أعقل من الموفق، وأبي خازم القاضي.
وأما الحساب، فإن أبا الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، أخبرني، قال: قال لي أبو برزة الحاسب: لا أعرف في الدنيا أحسب من أبي خازم.
قال: وقال ابن حبيب الذراع: كنا ونحن أحداث مع أبي خازم، فكنا نقعده قاضياً، ونتقدم إليه في الخصومات، فما مضت الأيام والليالي حتى صار قاضياً، وصرنا ذراعهز قال أبو الحسين: وبلغ من شدته في الحكم، أن المعتضد، وجه إليه بطريف المخلدي فقال له: إن لنا على الضبعي - بيع كان للمعتضد ولغيره - مال، وقد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله، فاجعلنا كأحدهم.
فقال له أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت قلدني، إنه قد أخرج الأمر من عنقه، وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل ، لمدع إلا ببينة.
فرجع إليه طريف، فأخبره.
فقال: قل له: فلان وفلان يشهدان، يعني لرجلين جليلين كانا في ذلك الوقت.
فقال: يشهدان عندي، وأسأل عنهما، فإن زكيا قبلت شهادتهما، وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي.
فامتنع أولئك من الشهادة فزعاً، ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.

القاضي يحيى بن أكثم
يستخلف على الجانب الشرقي عيسى بن أبان أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما خرج المأمون إلى فم الصلح بسبب بوران، أخرج معه يحيى ابن أكثم، فاستخلف على الجانب الشرقي عيسى بن أبان، أحد الفقهاء في العراق، وله مسائل كثيرة، واحتجاج لمذهب أبي حنيفة، وكان خيراً فاضلاً.
بحق من أغراك بي زيدي
أنشدنا التنوخي قال: أنشدنا عيسى بن علي بن عيسى الوزير، لنفسه:
قد فات ما ألقاه تحديدي ... وجل عن وصفي وتعديدي
وقلت للأيام هزءاً بها ... بحق من أغراك بي زيدي
القاضي عمر بن حبيب العدوي
لم ير قاض أهيب منه أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: كان لمحمد بن عبد الله بن علاثة أخ يسمى زياد بن عبد الله، يخلف أخاه على القضاء بعسكر المهدي.
فاستعان بعمر بن حبيب العدوي، ينظر في أمور الناس بالشرقية، فولاه المهدي، الشرقية رياسة، وقيل ولاه من قبل أبي يوسف، ثم ولاه الرشيد قضاء البصرة، فقال ليحيى بن خالد: إنكم تبعثوني إلى ملك جبار، لا آمنه - يعني محمد بن سليمان - فبعث معه يحيى قائداً في مائة، فكان إذا جلس للقضاء، أقام الجند عن يمينه وعن يساره سماطين.
فلم يكن قاض أهيب منه، وكان لا يكلم في طريق.
القاضي عمر بن حبيب العدوي
ينصبه المأمون قاضياً بالبصرة أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس الكديمي، قال: حدثنا عمر بن حبيب العدوي القاضي، قال: وفدت مع وفد من أهل البصرة، حتى دخلنا على أمير المؤمنين المأمون فجلسنا، وكنت أصغرهم سناً.
فطلب قاضيا يولى علينا بالبصرة، فبينا نحن كذلك، إذ جيء برجل مقيد بالحديد، مغلولة يده إلى عنقه، فحلت يده من عنقه، ثم جيء بنطع فوضع في وسطه، ومدت عنقه، وقام السياف شاهر السيف، واستأذن أمير المؤمنين في ضرب عنقه، فأذن له، فرأيت أمراً فظيعاً.
فقلت في نفسي: والله لأتكلمن، فلعله أن ينجو.
فقلت: ياأمير المؤمنين اسمع مقالتي.
فقال لي: قل.

فقلت إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انه قال: إذا كان يوم القايمة، ينادي منادٍ من بطنان العرش: ليقم من عظم الله أجره، فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب أخيه فاعف عنه يا أمير المؤمنين عفا الله عنك.
فقال لي: آلله، إن أبي حدثك عن جدي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: آلله، إن أباك حدثني عن جدك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، يا غلام، أطلق سبيله.
فأطلق سبيله، وأمر أن أولى القضاء.
ثم قال لي: عمن كتبت؟ قلت: أقدم من كتبت عنه داود بن أبي هند.
فقال: تحدث؟ قلت: لا.
قال: بلى، فحدث، فإن نفسي ما طلبت مني شيئاً إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث، فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي، ويقال لي من حدثك؟ فأقول: حدثني فلان.
قال: فقلت يا أمير المؤمنين، فلم لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث للناس.

القاضي أبو الحسين بن أبي عمر
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضي المقتدر بالله، في يوم النصف من سنة عشر وثلثمائة، أبا الحسين عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد ابن زيد، وكان قبل هذا يخلف أباه على القضاء بالجانب الشرقي، والشرقية وسائر ما كان إلى قاضي القضاة أبي عمر، وذلك أنه استخلفه وله عشرون سنة.
ثم استقضي بعد استخلاف أبيه له على أعمال كثيرة من غير الحضرة، رياسة، ثم قلد مدينة السلام، في حياة أبيه أبي عمر.
وهذا رجل يستغني باشتهار فضله، عن الإطناب في وصفه، لأنا وجدنا البلغاء قد وصفوه فقصروا، والشعراء قد مدحوه فأكثروا، وكل يطلبون أمده فيعجزون، إذ كان الله تعالى جعله نسج وحده، ومفرداً في عصره ووقته، في حفظ القرآن، والعلم بالحلال والحرام، والفائض، والكتاب، والحساب، والعلم واللغة، والنحو، والشعر، والحديث، والأخبار، ولنسب، وأكثر ما يتعاطاه الناس من العلوم، وأعطاه من شرف الأخلاق، وكرم الأعراق، والمجد المؤثل، والرأي المحصل، والفضل والنجابة، والفهم والإصابة، والقريحة الصافية، والمعرفة الثاقبة، والتفرد بكل فضل وفضيلة، والسمو إلى كل درجة رفيعة نبيلة، ومن محمود الخصال، والفضل والكلام، ما يطول شرحه.
وكان فقيهاً على مذهب مالك وأهل المدينة، مع معرفته بكثير من الاختلاف في الفقه، وكان صنف مسنداً، ورأيت بعضه، وكان في نهاية الحسن، وكان يذاكر به، وكان يحفظ عن جده يوسف، أحاديث.
ولم يزل على قضاء إلى يوم توفي، رحمه الله.
ما مات من بقيت له بعد موته
أخبرني علي بن أبي علي، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد، قال: دخلت على أبي الحسين بن أبي عمر القاضي معزياً له عن أبيه، فلما وقع طرفي عليه، قلت:
وما مات من تبقى له بعد موته ... ولا غاب من أمسى له منك شاهد
قال: فكتبه في الوقت، ولم يشغله الحال.
غلبتني على الفؤاد الهموم
أخبرنا القاضي أبو القاسم عليبن المحسن التنوخي، أخبرنا أبو عمر ابن حيويه، أنبأنا أبو بكر ابن الأنباري، أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية:
شغلتني بها ولم ترع عهدي ... ثم منت وعهدها لا يدوم
ورأتني أبكي إليها فقالت: ... يتباكى كأنه مظلوم
علم الله أني مظلوم ... وحبيبي بما أقول عليم
ليس لي في الفؤاد حظ فأشكو ... غلبتني على الفؤاد الهموم
القاضي عثمان بن طلحة
كان لا يرتزق على القضاء أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي، وأحمد بن عبد الله الوراق، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: عثمان بن طلحة كان من اهل الهيأة والنعمة والقدر، ولاه أمير المؤمنين المهدي قضاء المدينة، فلم يكن يأخذ عليه رزقاً.
فقيل له في ذلك، فقال: أكره أن أرتزق، فيضريني ذلك بولاية القضاء، ثم استعفى أمير المؤمنين من القضاء فأعفاه.
قال الزبير: وحدثنا عثمان بن عبد الرحمن، قال:

جلس يوماً عثمان بن طلحة مع العباس بن محمد ببغداد، فقال له العباس: دلني على خفيف بنخلة، أشتريه وأعتلمه.
قالك قد وقعت عليه.
قالك عند من؟ قال: عندي.
قال: بكم هو؟ قال: بخمسة آلاف دينار.
فاشتراه منه، وما سأل عنه غيره، وأعطاه الثمن على ما قال.

الفراء يقر للكسائي بالرئاسة
أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، وعلي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا الصولي، قال: أخبرنا الحزنبل، قال: حدثنا سلمة بن عاصم، قال: حدثني الفراء، قال: قال لي قوم: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في العلم؟ فأعجبتني نفسي، فناظرته، وزدت، فكأني كنت طائراً أشرب من بحر.
سبب تسمية صالح بصاحب المصلى
أخبرنا التنوخي، قال: سمعت أبا الفرج محمد بن جعفر بن الحسن بن سليمان بن علي بن صالح، صاحب المصلى، وسأله أبي، عن سبب تسمية جده بصاحب المصلى، فقال: إن صالحاً جدنا كان ممن جاء مع أبي مسلم إلى السفاح، وكان من أولاد ملوك خراسان، من أهل بلخ.
فلما أراد المنصور إنفاذ أبي مسلم لحرب عبد الله بن علي، سأله أن يخلفه وجماعة من أولاد ملوك خراسان بحضرته، منهم الخرسي، وشبيب ابن واج، وغيرهم، فخلفهم، واستخدمهم المنصور.
فلما أنفذ أبو مسلم خزائن عبد الله بن علي على يد يقطين بن موسى، عرضها المنصور على صالح، والخرسي، وشبيب، وغيرهم، ممن كان اجتذبهم من جنبة أبي مسلم، واستخلصهم لنفسه.
وقال: من أراد من هذه الخزائن شيئاً فليأخذه، فقد وهبته له، فاختار كل واحد منهم شيئاً جليلاً.
فاختار صالح حصيراً للصلاة من عمل مصر، ذكر أنه كان في خزائن بني أمية، وأنهم ذكروا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم، صلى عليه.
فقال له المنصور: إن هذا لا يصلح أن يكون إلا من في خزائن الخلفاء.
فقال: قلت إنك قد وهبت لكل إنسان ما اختاره، ولست أختار إلا هذا.
فقال: خذه على شرط أن تحمله في الأعياد والجمع، فتفرشه لي، حتى أصلي عليه.
فقال: نعم.
فكان المنصور إذا أراد الركوب إلى المصلى أو الجمعة، اعلم صالحاً، فأنفذ صالح الحصير ففرشه له، فإذا صلى عليه، أمر به، فحمل إلى داره، فسمي لهذا: صاحب المصلى.
فلم يزل الحصير عندنا إلى أن أنتهى إلى سليمان جدي، وكان يخرجه كما كان أبوه وجده يخرجانه للخلفاء.
فلما مات سليمان في أيام المعتصم، ارتجع المعتصم الحصير، وأخذه إلى خزانته.
القاضي علي بن ظبيان
يجلس على بارية مثل البارية التي يجلس عليها الخصوم أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد، عن أحمد بن زهير عن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني عبيد بن ثابت مولى بني عبس، كوفي، قال: كتبت إلى علي بن ظبيان، وهو قاضٍ ببغداد: بلغني أنك تجلس على بارية، وقد كان من قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء، ويتكئون.
فكتب إلي: إني لأستحي أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية، وأنا على وطاء، لست أجلس إلا على ما يجلس عليه الخصوم.
من شعر إسحاق بن إبراهيم الموصلي
أخبرنا التنوخي، والجوهري، قالا: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، قال: قال محمد بن حبيب، حدثنا أبو عكرمة وعامر بن عمران الضبي، قالا: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين الرشيد يوماً، فقال: أنشدني من شعرك، فأنشدته:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... نجيلاً له في العالمين خليل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال خيراً أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماًومالي كما قد تعلمين قليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... ويحقر يوماً أن يقال بخيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
قال: لا تخف إن شاء الله، يا فضل أعطه مائة ألف درهم، لله در أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها، وأثبت أصولها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أجود من شعري.
قال: أحسنت، يا فضل، أعطه مائة ألف أخرى.
أنت لنا شمس، وفتح لنا قمر

أنبأني غير واحد ممن تقدم ذكرهم في أول الكتاب، عن أبي اليمن، زيد ابن الحسن الكندي، وأنبأني غير واحد، ممن تقدم ذكرهم، وأبو الفضل ابن أبي الحسين الدمشقي، وغيره، عن المؤيد بن محمد الطوسي، وأبو الفرج البغدادي، عن أبي أحمد بن علي الأمين، وأبو حفص بن القواس، وغيره، عن عبد الصمد الحدثاني، كلهم، عن أبي بكر بن أبي طاهر، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: حدثني أحمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن سهل الكاتب، وكان أحد الكتاب لصاعد، قال: سمعت الحسن بن محمد يحدث: إن رجلاً من أهل اليمامة، قدم بجارتين، شاعرتين، من مولدات اليمامة، على المتوكل، فعرضهما عليه، من جهة الفتح، فنظر إلى أجملهما، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: سعاد.
قال: أنت شاعرة؟ قالت: كذا يزعم مالكي.
قال: فقولي في مجلسنا هذا، شعراً، ترتجلينه، وتذكريني فيه، وتذكرين الفتح.
فتوقفت هنيهة ثم أنشدت:
أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... إمام الهدى والفتح ذي العز والفخر
أشمس الضحى، أم شبهها وجه جعفر ... وبدر السماء الفتح أم مشبه البدر
فقال للأخرى: أنشدي أنت، فقالت:
أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... تعالى الذي أعلاك يا سيد البشر
وأكمل نعماه بفتحٍ ونصحه ... فأنت لنا شمس وفتح لنا قمر
فأمر بشراء الأولى، ورد الأخرى.
فقالت الأخرى: لم رددتني؟ قال: لأن في وجهك نمشاً.
فقالت:
لم يسلم الظبي على حسنه ... يوماً ولا البدر الذي يوصف
الظبي فيه خنس بين ... والبدر فيه كلف يعرف
فأمر بشراء الثانية.

القاضي يحيى بن سعيد
قاضي السفاح على الهاشمية أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر المعدل، قال: كان أبو جعفر لما قدم بغداد، معه يحيى بن سعيد وهو قاضٍ لأبي العباس السفاح على المدينة الهاشمية بالأنبار، ولحسن بن عمارة على المظالم.
يحيى بن سعيد
يضطره ضيق حاله وكثرة ديونه لتقلد القضاء اخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد عن أحمد بن زهير، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: كان يحيى بن سعيد قد ساءت حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدين، فبينا هو على ذلك، إذ جاءه كتاب أبي العباس، يستقضيه.
قال سليمان: فوكلني بأهله، وقال لي: والله ما خرجت وأنا أجهل شيئاً.
فلما قدم العراق، كتب إلي: إني كنت قلت لك حين خرجت، قد خرجت وما أجهل شيئاً، وإنه والله لأول خصيمين جلسا بين يدي، فاقتضيا والله بشيء ما سمعته قط، فإذا جاءك كتابي هذا، فسل ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واكتب إلي بما يقول، ولا يعلم أني كتبت إليك بذلك.
مطيع بن إياس
يرثي يحيى بن زياد الحارثي أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني، قال: أنشدنا علي بن سليمان الخفش، عن ثعلب، قال: قال مطيع بن إياس يرثي يحيى لن زياد الحارثي:
أقول للموت حين بادهه ... والموت مقدامه على البهم
لو قد تدبرت ما سعيت به ... قرعت سناً عليه من ندم
اذهب بم شئت، إذ ذهبت به ... ما بعد يحيى للرزء من ألم
قال: وأنشدنا ثعلب لمطيع بن إياس يرثي ابن زياد الحارثي:
قد راح يحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم يبتكر ولم يرح
يا خير من يجمل البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهه من الفرح
الفراء يملي دروسه من حفظه
قرأت على علي بن أبي علي البصري، عن طلحة بن محمد بن جعفر المعدل، قا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: قال لي محمد بن الجهم: كان الفراء يخرج إلينا، وقد لبس ثيابه، في المسجد الذي في خندق عبويه، وعلى رأسه قلنسوة كبيرة.
فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقط عشراً من القرآن، ثم يقول له: امسك فيملي من حفظه المجلس.

ثم يجيء مسلمة بعد ان ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا، فيقرأ عليه، وغير، ويزيد، وينقص، فمن ههنا، وقع الاختلاف بين النسختين، قال ابن مجاهد: ما رأيت مع الفراء كتاباً قط، إلا كتاب يافع ويفعة.
قال ابن مجاهد: وقال لنا ثعلب: لما مات الفراء لم يوجد له إلا رؤوس أسفاط فيها مسائل تذكره، وأبيات شعر.

أبو الغوث بن البحري
يمدح ابن بسطام حدثني التنوخي، عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أبو الغوث يحيى بن البحتري الشاعر، قدم بغداد قبل الثلثمائة، وسمع منه وجوه أهلها أشعار أبيه، ونفي بعد ذلك.
قال: وهو القائل يمدح أبا العباس بن بسطام:
ملك تقوم له الملوك إذا اختبى ... وتخر للأذقان عند قيامه
برقت مخايل جوده وتخرقت ... بالنيل للعافين غر غمامه
صلحت به الأيام بعد فسادها ... وأضاء وجه الدهر بعد ظلامه
أبو حنيفة يشهد لأبي يوسف
بأنه أعلم من على الأرض أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا أبو ذر أحمد بن علي ابن محمد الاستراباذي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن منصور الدمغاني الفقيه، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزردي الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي ثور الرعيني، المعروف بابن عبدون قاضي إفريقية، قال: حدثني سليمان بن عمران، قال: حدثني أسد بن الفرات قال: سمعت محمد بن الحسن يقول: مرض أبو يوسف في زمن أبي حنيفة مرضاً خفيف عليه منه، قال: فعاده أبو حنيفة ونحن معه.
فلما خرج من عنده، وضع يديه على عتبة بابه، وقال: إن يميت هذا الفتى، فإنه أعلم من عليها، وأومأ إلى الأرض.
اللهم إني لم أجر في حكم حكمت به
أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني مكرم بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عطية، قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه، يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت به بين عبادك متعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي - والله - ممن يعرف يعرف أمرك، ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه.
أبو يوسف القاضي
يصلي في كل يوم مائتي ركعة أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد، قال: حدثني مكرم ابن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عطية، قال: سمعت محمد بن سماعة، يقول: كان أبو يوسف يصلي - بعدما ولي القضاء - في كل يوم مائتي ركعة.
ما برع أحد في علم
إلا دلة على غيره من العلوم أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثنا أبو بكر الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق يقول: ما أحد برع في علم إلا دله على غيره من العلوم.
فقال بشر المريسي للفراء: يا أبا زكريا، أريد أن أسألك عن مسألة في الفقه.
فقال: سل.
فقال: ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو؟ قال: لا شيء عليه.
قال: من أين قلت هذا؟ قال: قسته على مذاهبنا في العربية، وذلك إن المصغر عندنا لا يصغر، فكذلك، لا يلتفت إلى السهو في السهو.
فسكت بشر.
الشريف أبو جعفر، ابن الجصاص المصري
كان بمصر شريف من ولد العباس، يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة، والجلد، والنعمة.
قال أبو القاسم بن محمد التنوخي: بعثني لأبي إليه، من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرادب قمحاً، وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة، فأتيت إليه، وسلمت عليه، ودفعت إليه الرقعة، فقال: ذكرت أباك بخير، وحرسه، وأسعده، فهو صاحبي، وصديقي، وخليطي، وأين هو الآن؟ فقلت: بقرية تلا، أعز الله سيدي الشريف.
قال: نعم، حفظه الله، هو بالفسطاط معنا، وقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً.
قلت: لا يا سيدي، هو بتلا.
قال: فما لك ما قلت لي؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله.
قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته.
قال: وأين هي؟ قلت: تحت البساط.
فأخذها، وقرأها، وقال: قل لي الآن، كان لك أخ أعرفه، حار الرأس، حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به؟ قلت: أنا هو، أعزك الله.
قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه، وأنت بزقة، مخطة، لعقه، قردلاش.
قلت: نعم، أيد الله الشريف.

قال: وما الذي جئت فيه؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة، يسألك فيها، قرض عشرة أرادب قمحاً، وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط؟ قلت: لا يا سيدي، هو بتلا.
قال: نعم، وإنما ذاك الفتى أخوك؟ قلت: لا، أنا هو.
فهو يراجعني الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته، وكثرة نسانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين.
فقال له: سل هذا الفتى ما أراد؟ فسألني، فعرفته، فأخبره.
فقال: نفذ حاجته.
فوقع لي الكاتب بما أراد، وقال: تلقاني للقبض بالديوان.
فشكرت الشريف، ونهضت، فقال: اصبر يا بني، فقد حضر طعامنا وقدم الطعام، وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده، وقال: مثل مطبخي، يكون فيه مثل هذه؟، علي بالطباخ، فأتى.
فقال له: ما هذا العمل؟ فقال: يا سيدي، إنما أنا صانع، وعلى قدر ما أعطى، أعمل، وقد سألت المنفق أن يشتري لي ما أحتاج إليه، فتأخر عني، فعملت على غير تمكن، فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق.
فأحضر. فقال: ما لي قليل؟ قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة.
قال: فما لك تضايقنا في النفقة؟ ولا توسع كما وسع الله علينا؟ قال: يا سيدي، إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي، فتأخر عني.
قال: علي بالجهبذ.
فأتي به، فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً؟ قال: لم يوقع لي الكاتب.
فقال الكاتب: لم لم تدفع إليه شيئاً؟ فتعلثم في الكلام، ولم يكن عنده جواب.
فقال للكاتب: قف هنا، فوقف، ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ.
وقال: نفيت من العباس، إن لم يصفع كل واحد منكم، من يليه بأكثر ما يقدر عليه. فتصافعوا.
قال: فخرجت، وأنا متعجب من غباوته، ورقاعته في هذا الحكم.

لقد ذهب الحمار بأم عمرو
ودخل عليه كابه أبو الحسين، فوجده يبكي بكاء شديداً، ويقول: وانقصام ظهراه، واهلاكاه.
فقلت: ما للشريف، لا أبكى الله عينه؟ فقال: ماتت الكبيرة، يريد أمه، وكان باراً بها.
فقلت: ماتت؟ قال: نعم.
فشققت جيبي، وأظهرت من الجزع ما يجي لمثلي، ثم إني أنكرت الحال، إذ لم أجد لذلك دليلاً. لا أحد يعزيه، ولا في الدار حركة، فبقيت حائراً حتى أتت الخادمة، فقالت: الكبيرة تقرؤك السلام، وتقول لك: أيش تأكل اليوم؟ قال: قول لها، ومتى أكلت قط بغير شهوتك؟ فقلت: يا سيدي، والكبيرة في الحياة؟ فقال: وأيش تظن أنها ماتت من حق؟ إنما رأيت البارحة في المنام، كأنها راكبة على حمار مصري، تسقيه من النيل، فذكرت قول للشاعر:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
والله لقد أنسيت
وقال أبو الحسين، كاتبه: وأتيت إليه يوماً، وقد ماتت والدتي، فعرفته، فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو أكبر منها بأربعين سنة.
ثم قال لغلامه: يا بشر، قم فجئني بعشرين ديناراً، فأتاه بها.
فقال: خذها، فاشتر بعشرة دنانير كفناً، وتصدق بخمسة دنانير على القبر. وأقبل يصرف الخمسة الباقية، فيما يحتاج إليه من تجهيزها.
ثم قال الغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ، إلى فلان صاحبنا، لا يفوتك، يغسلها.
فاستحييت منه، وقلت: يا سيدي، ابعث خلف فلانة، جارة لنا، تغسلها.
قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي؟ كيف يدخل عليها من لا تعرفه؟ قلت: نعم، تأذن لي بذلك؟ قال: لا والله، وما يغسلها إلا فلان.
فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة؟ قال: وإنما أمك امرأة؟ والله لقد أنسيت.
أبو جعفر في ضيافة أبي بكر المادرائي
وكان يوماً عند ابي بكر المادرائي، ثم خرج وهو طيب الحلق، فاجتاز بأبي زنبور، فسمع خفق أوتار، وغناء في داخل الدار، فوقف يتسمع، فرآه غلام لأبي زنبور، فدخل، فأعلم مولاه، فخرج حافياً، وقال: يا مولاي الشريف تشرفني بالدخول؟ قال: نعم.
فدخل، فقدم له طعاماً، فاكل، وشرب ثلاثة أقداح، وغني ثلاثة أصوات، وانصرف، فنام ليلته.
فلما أصبح، قال: يا بشرى، جئني الساعة، بأبي شامة العابر.

فأتاه به، فقال: رأيت البارحة، كأني خرجت من دار أحد إخواني، فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني، فأفضيت إلى بستان في الساحة، وأمامه بهو جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور، وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان.
وهن يغنين أحسن الأغاني، فقدم لي خوان، عليه من كل الألوان، فأكلت، وشربت، وغنيت، وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره، فأمر له بخمسة دنانير.
ثم مر بعد أيام، بأبي زنبور، وهو جالس على باب داره، فقال له: يا سيدي الشريف، أما تشرفني بعودة؟ قال: إلى ماذا؟ قال: تثني لي عادة حضورك.
قال: ومتى تقدم لي ذلك؟ قال: ليلة كذا.
قال: وإنما خدعنا العابر، وأخذ متاعنا بالباطل، امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه.
ثم فكر ساعة، وقال: دعوه، لعله أنفقها، وهو فقير.

بين الشريف أبي جعفر
وأبي زنبور الكاتب وشرب مرة أخرى عند أبي زنبور الكاتب، ومعه ابن المادرائي، وحضر القيان فغنين أطيب غناء، فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادرائي، فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته، وعاد إلى موضعه.
وكان أبو زنبور، لما انصرف أبو بكر، جلس في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر، هذا الكلب، أو زنبور، عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت؟ إنما يدعونا من مدة إلى مدة.
فقال له أبو زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ، وهو مشتغل مع سلطانه، في أكثر أيامه.
قال: لا والله، ما هو إلا كلب كلب، فاعل، صانع.
فقال له: أعز الله الشريف، أبو بكر انصرف، وأنا أو زنبور.
فقال له: اعذرني، والله، ما ظننتك إلا ابن المادرائي.
فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً.
يدعى للتبكير بالغداة
فيحضر العشية وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة، في حاجة للأمير أيده الله، وذكر الحاجة.
فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم.
فمضى، وأكل، وشرب أقداحاً، ونام القائلة، فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً، فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس، فاستأذن عليه، فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله، فقد حزبني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عنها.
فضحك حتى استلقى، وقال له: قد احتجنا إلى تأخير المر إلى الغد إن شاء الله.
قال: فأنا أبكر إليك على كل حال.
وانصرف.
نزلت في قلبي
أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، إجازة، وحدثني أحمد ابن ثابت الحافظ عنه، قال: أنشدني أبو عبد الله بن الحجاج، لنفسه:
يا سيدي عبدك لم تقتله ... رأيت من بفعل ما تفعله
نزلت في قلبي فيا سيدي ... لم تخرب البيت الذي تنزله
كلبان يحميان صاحبهما من الثعبان
وحدثني بعض أصدقائي، قال: خرجت ليلة وأنا سكران، فقصدت بعض البساتين، لأمر من الأمرو، ومعي كلبان كنت ربيتهما، ومعي عصا، فحملتني عيني، فإذا الكلبان ينبحان ويصيحان، فانتبهت لصياحهما، فلم أر شيئاً أنكره، فضربتهما، وطردتهما، ونمت.
ثم عاودا الصياح والنباح، فانبهاني، فلم أر شيئاً أنكره أيضاً، فوثبت إليهما وطردتهما.
فما أحسست إلا وقد سقطا علي يحركاني بأيديهما وأرجلهما، كما يحرك اليقظان النائم، لأمر هائل.
فوثبت، فإذا بأسود سالخ قد قرب مني، فوثبت إليه فقتلته وانصرفت إلى منزلي.
فكان الكلبان - بعد الله عز وجل - سباً لخلاصي.
فجعت بمسمار
ويروى أنه كان لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كلب يقال له مسمار، وكانت إذا حجت، خرجت به معها، فليس يطمع أحد بالقرب من رحلها مع مسمار، فإذا رجعت جعلته في بني جديلة، وأنفقت عليه.
فلما مات، قيل لها: مات مسمار.
فبكت، وقالت: فجعت بمسمار.
لم يبق لي طمع
قال أبو الفرج الببغاء: كان القاضي أبو القاسم التنوخي، أنشدنا جميع شعره، أو أكثره، ولا أعلم هذه القطعة، فيما أنشدنا، هل هي له أم لا، وهي:
يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في رد الحياة لها ... فالآن مذ غبم لم يبق لي طمع

لا عذب الله روحي بالحياة فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع

كلب يهاجم خصم صاحبه
وحدثني إبراهيم بن برقان، قال: كان في جوارنا رجل من أهل أصبهان، يعرف بالخصيب، ومعه كلب له، جاء به إلى الجبل، فوقع بينه وبين جاره خصومة، إلى أن تواثبا.
فلما رأى الكلب ذلك، وثب على الرجل الذي واثب صاحبه، فوضع مخاليبه في إحدى عينيه، وعض قفاه، حتى رأيت الرجل قد غشي عليه، ودماؤه تجري على الأرض.
الكلب وعرفان الجميل
أخبرني أبو العلاء بن يوسف القاضي، قال: حدثني شيخ كان مسناً صدوقاً، أنه حج سنة من السنين، قال: وبرزنا أحمالنا إلى الياسرية، وجلسنا على قراح نتغدى وكلب رابض بجوارنا، فرمينا إليه من بعض ما نأكل.
ثم ارتحلنا ونزلنا بنهر الملك، فلما قدمنا السفرة، إذا الكلب بعينه رابض بجوارنا، كاليوم الأول.
فقلت للغلمان: قد تبعنا هذا الكلب، وقد وجب حقه علينا، فتعهدوه، ونفَ الغلمان السفرة بين يديه، فأكل، ولم يزل تابعاً منا من منزل إلى منزل، على تلك الحال، لا يقدر أحد أن يقري جمالنا، ولا محاملنا، إلا صاح ونبح، فكنا قد أمنا من سلاس الطريق.
ووصلنا إلى مكة، وقضينا حجنا وعزمنا على الخروج في عمل إلى اليمن فكان معنا إلى أرض قبا، ورجعنا إلى مدينة السلام وهو معنا.
نسيم لو رقد المخمور فيه أفاق
اخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس الأخباري، قال: أنشدني أبو نضلة، لنفسه:
ولما التقينا للوداع ولم يزل ... ينيل لثاماً وعناقا
شممت نسيماً من يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
أموت وأحيا
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أنشدنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن الأخباري، قا: أنشدنا ابن دريد، قال: أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، لآمرأة بدوية:
فلو أن ما ألقى وما بي من الهوى ... بأوعر ركناه صفا وحديد
تفطر من وجدٍ وذاب حديده ... وأمسى تراه العين وهو عميد
ثلاثون يوماً كل يوم وليلة ... أموت وأحيا إن ذا لشديد
مسافة أرض الشام ويحك قربي ... إلي ابن جواب وذاك يزيد
فليت ابن جواب من الناس حظنا ... وكان لنا في النار بعد خلود
البين صعب
وأخبرنا القاضي، قال: أنشدنا الثقة، بحضرة المرتضى
قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه
أشدد يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه مما به لو كان ينفعه
أعطف علي المطايا ساعة فعسى ... من كان شتت شمل البين يجمعه
كأني يوم ولوا ساعة بمنى ... غريق بحر رأى شطاً ويمنعه
من شعر القاضي التنوخي
للقاضي التنوخي في المريخ والمشتري:
كأنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرقعة
منصرف بالليل في ظلمة ... قد أسرجوا قدامه شمعه
مطر الربيع
أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: قرأت على أبي عمر بن حيويه، قال: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة، لنفسه:
تواصلنا على الأيام باق ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوبه لكن تراه ... على علاته داني النزوع
كذا العشاق هجرهم دلال ... ويرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذا لله أن نلفى غضاباً ... سوى دل المطاع على المطيع
سقراط والعشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، قال: قال سقراط الحكيم: العشق جنون، وهو ألوان، كما أن الجنون ألوان.
كلب يحمي طفل صاحبه
وحدثني صديق لي: أنه كان له صديق ماتت امرأته، وخلفت صبياً وكان له كلب قد رباه.
فترك يوماً ولده في الدار مع الكلب، وخرج لبعض الحوائج، وعاد بعد ساعة، فرأى الكلب في الدهليز، وهو ملوث بالدم وجهه وبوزه كله.
فظن الرجل انه قد قتل ابنه وأكله، فعمد إلى الكلب فقتله، قبل أن يدخل الدار.

ثم دخل الدار، فوجد الصبي نائماً في مهده، وإلى جانبه بقية أفعى قد قتله الكلب، وأكل بعضه.
فندم الرجل على قتله أشد ندامة، ودفن الكلب.

كلب مالك بن الوليد يقتل زوجته وعشيقها
قال الأصمعي: كان لمالك بن الوليد أصدقاء لا يفارقهم، ولا يصبر عنهم.
فأرسل أحدهم إلى زوجته، فأجابته، وجاء ليلة، واستخفى في بعض دور مالك، عند امرأته، ومالك لا يعلم بشيء من ذلك.
فلما أخذا في شأنهما، وثب كلب لمالك عليهما، فقتلهما، ومالك لا يعقل من السكر.
فلما أفاق، وقف عليهما، وأنشأ يقول:
كل كلب حفظته لك أرعى ... ما بقى لو بقي ليوم التناد
من خليل يخون في النفس والمال ... وفي العرس بعد صفو الوداد
من شعر أبي بكر النباري
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي قال: أنشدني أبو العباس الكاتب، قال: أنشدنا أبو بكر الأنباري:
وكم من قائل قد قال دعه ... فلم يك وده لك بالسليم
فقلت إذا جزيت الغدر غدراً ... فما فضل الكريم على اللئيم
وأين الإلف يعطفني عليه ... وأين رعاية الحق القديم
سكنت القلب
أنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:
أذات الطوق لم أقرضك قلبي ... على ضني به ليضيع ديني
سكنت القلب حين خلقت منه ... فأنت من الحشا والناظرين
أحبك أن لونك مثل قلبي ... وإن ألبست لوناً غير لوني
عديني وامطلي أبداً فحسبي ... وصالاً أن أراك وأن تريني
سقى الله أياماً خلت
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد، قا: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
رويدك يا قمري لست بمظهرٍ ... من الشوق إلا دون ما أنا مضمر
ليكفك أن القلب منذ تنكرت ... أسيماء عن معروفها متنكر
سقى الله أياماً خلت وليالياً ... فلم يبق إلا عهدها المتذكر
لئن كانت الدنيا أجدت إساءة ... لما أحسنت في سالف الدهر أكثر
الفراق مر شديد
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، إن لم يكن سماعاً فإجازة، قال: اخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا ابن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الفضل، قال: حدثني أحمد بن معاوية قال: رأيت مجنوناً واقفاً بصحراء أثير، وقد هاج، وهو يقول:
هد ركني الهوى وكنت جليدا ... ورأيت الفراق مراً شديدا
زيدي قلبي وسواسا
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف إجازة، قال: أنشدت لماني:
سلي عائداتي كيف أبصرن كربتي ... فإن قلت قد حابينني فاسألي الناسا
فإن لم يقولوا مات أو هو ميت ... فزيدي إذن قلبي جنوناً ووسواسا
رفقاً بقلب
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، لمحمد ابن أبي عون الكاتب:
غنيت بمشيتها عن الأغصان ... حسناء يلعب حبها بجناني
وبدت تفض العتب عن خاتامه ... وتجول فيه بناظر ولسان
رفقاً بقلب قل ما قلبته ... إلا على شعل من النيران
فرأيك في سح الدموع موفقا
أنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدني قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر بن ماكولا، لأبي بكر الخوارزمي الطبري، من طبرية الشام، من تشبيب قصيدة في الصاحب أبي القاسم بن عباد:
يفل غداً جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سح الدموع موفقا
ولما رأيت الإلف يعزم للنوى ... عزمت على الأجفان أن تترقرقا
وخذ حجتي في ترك جسمي سالماً ... وقلبي، ومن حقيهما أن يخرقا
يدي ضعفت عن أن تخرق جيبها ... وما كان قلبي حاضراً فيمزقا

زائر متهالك
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن قال: أخبرنا علي بن عيسى الرماني، قال: أخبرني ابن دريد، قال: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه، لأبي المطراب العنبري:
أيا بارقي مغنى بثينة أسعدا ... فتى مقصداً بالشوق فهو عميد
ليالي منا زائر متهالك ... وآخر مشهور كواه صدود
على أنه مهدي السلام وزائر ... إذا لم يكن ممن يخاف شهود
وقد كان في مغنى بثينة لو رنت ... عيون مها تبدو لنا وخدود
أسائل عنها كل ركب
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال حدثني أبو عبد الله التميمي، قال: حدثنا أبو الوضاح اباهلي، عن أبي محمد اليزيدي، قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن عتيق عن عامر بن عبد الله ابن الزبير قال: خرجت أنا ويعقوب بن حميد بن كاسب، قافلين من مكة، فلما كنابودان، لقيتنا جارية من أهل ودان. فقال لها يعقوب: يا جارية، ما فعلت نعم؟ فقالت: سل نصيباً.
فقال: قاتلك الله، ما رأيت كاليوم قط، أحد ذهناً، ولا أحضر جواباً منك. وإنما أراد يعقوب قول نصيب في نعم، وكانت تنزل ودان:
أيا صاحب الخيمات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودان ما فعلت نعم
أسائل عنها كل ركبٍ لقيتهم ... وما لي بها من بعد مكتنا علم
أفق عن بعض لومك
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو الفضل قاسم بن سليمان الإيادي، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: أخبرني نخبر، انه رأى أسود ببئر ميمون، وهو يمتح من بئر، ويهمس بشيء لم أدر ما هو، فدنوت منه، فإذا بعضه بالعربية، وبعضه بالزنجية، ثم تبينت ما قال، فإذا هو:
ألا يا لائمي في حب ريمٍ ... أفق عن بعض لومك لا أهتديتا
أتأمرني بهجرة بعض نفسي ... معاذ الله أفعل ما اشتهيتا
أحب لحبها تثليم طراً ... وتكعة والمشك وعين زيتا
فقلت: ما هذه؟ فقال: رباع كانت لنا بالحبشة، كنا نألفها، قال: قلت: أحسبك عاشقاً. قال: نعم، قلت: لمن؟ قال: لمن إن وقفت رأيته.
فما لبثنا ساعة، إذ جاءت سوداء على كتفها جرة، فضرب بيده عليها، وقال: هذه هي، قال: قلت له: ما مقامك هاهنا؟ قال: اشتريت، فأوقفت على هذا القبر أرشه. فأنا أبرد من فوق، وربك يسخن من أسفل.
أين المفر
اخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، قال: حدثنا القحطبي، قال: أخبرنا بعض الرواة، قال: بينا أنا يوماً على ركي قاعد، وذلك في أشد ما يكون من الحر، إذا أنا بجارية سوداء، تحمل جرة لها، فلما وصلت إلى الركي، وضعت جرتها ثم تنفست الصعداء، فقالت:
حر هجر، وحر حب، وحر ... أين من ذا وذا يكون المفر
وفي راوية أخرى: أي حر من بعد هذا أضر؟ وملأت الجرة، وانصرفت.
فلم ألبث إلا يسيراً، حتى جاء أسود، ومعه جرة، فوضعها بحيث وضعت السوداء جرتها، فمر به كلب أسود، فرمى إليه رغيفاً كان معه، وقال:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
كذاك العاشقون
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، بقراءتي عليه، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قراءة عليه، قالا: أخبرنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا عبد الله بن شبيب، قال: أخبرني الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن المحسن، قال: حدثني هبيرة بن مرة القشيري، قال: كان لي غلام يسوق ناضحاً، ويرطن بالزنجبية، بشيء يشبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له، ثم قال: هو يقول:
فقلت لها إني اهتديت لفتيةٍ ... أنا خوا بجعجاع قلائص سهما
فقالت: كذاك العاشقون ومن يخف ... عيون الأعادي يجعل الليل سلما

لا تكن ملحاحا
أنبأنا أبو القاسم علي بن أبي علي التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد ابن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، إجازة، قال: حدثني سعيد بن عمر بن علي البيروذي، قال: حدثني علي بن المختار، قال: حدثني القحذمي، قال: هوي رجل من أهل البصرة، أمرأة فضني من حبها، حتى سقط على الفراش، وكان إذا جنه الليل، صاح بأعلى صوته: كم ترى بيننا وبين الصباح فإذا أكثر، هتف به هاتف من جانب البيت:
ألف عام، وألف عام تباعاً ... غير شك، فلا تكن ملحاحا
قال: فأقام الرجل على علته سنين، ثم أبل من علته.
في القلب صدوع
أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: أنشدني أبو علي البلدي الشاعر، ببمجنون:
لئن نزحت دار بليلى لربما ... غنينا بخير والزمان جميع
وفي النفس من شوق إليك حزازة ... وفي القلب من وجد عليك صدوع
مساكين أهل العشق
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين، وأبو القاسم علي بن المحسن ابن علي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد ابن خلف، قال: أخبرني جعفر بن علي اليشكري، قال: أخبرني الرياشي، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم، جعلني الله فداك، ومن العشق أقلتني إليك البادية.
قال: ومن عشقت؟ قال: جارية لبني مدلج، فاحدق بنا الواشون، فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، فأجلس على الطريق، حتى تمر بي، فأراها ففي ذلك أقول:
جلست لها كيما تمر لعلني ... أخالسها التسليم إن لم تسلم
لما رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها شوقاً ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري ... حياة العاشقين بدرهم
كلب يحمي عرض سيده
وممن أفسد الصديق بحرمته، فقام الكلب بنصرته، ما اخبرونا عن أبي الحسن المدائني يرفعه عن عمر بن شمر، قا: كان للحارث بن صعصعة، ندمان لا يفارقهم، شديد المحبة لهم، فعبث أحدهم بزوجته، فراسلها، وكان للحارث كلب رباه، فخرج الحارث في بعض متنزهاته، ومعه ندماؤه، وتخلف عنه ذلك الرجل، فلما بعد الحارث عن منزله، جاء نديمه إلى زوجته، فأقام عندها يأكل ويشرب، فلما سكرا واضطجعا، ورأى الكلب أنه قد ثار على بطنها، وثب الكلب عليهما فقتلهما.
فلما رجع الحارث إلى منزله، ونظر إليهما عرف القصة، ووقف ندمانه على ذلك، وأنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون
فواعجباً للخل يهتك حرمتي ... ويا عجباً للكلب كيف يصون
قال: وهجر من كان يعاشره، واتخذ كلبه نديماً وصاحباً، فتحدث به العرب، وأنشأ يقول:
فللكلب خير من خليل يخونني ... وينكح عرسي بعد وقت رحيلي
سأجعل كلبي ما حييت منادمي ... وامنحه ودي وصفو خليلي
الحبشاني وصفراء العلاقمية
أخبرنا التوزي، والتنوخي، قالاك حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، قال: وذكر بعض الرواة عن العمري: كان أبو عبد الله الحبشاني، يعشق صفراء العلاقمية، وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضني حتى صار إلى حد الموت، فقال بعض أهله، لمولاها: لو وجهت صفراء إلى أبي عبد الله الحبشاني، فلعله يعقل إذا رآها، ففعل، فلما دخلت إليه صفراء، قالت: كيف أصبحت يا أباع عبد الله؟ قال: بخير، ما لم تبرحي.
قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك.
قالت: فما تشتكي؟ قال: حبك.
فقالت: أفتوصي بشيء؟ قال: نعم، أوصي بك، إن قبلوا مني.
فقالت:إني أريد الانصراف.
قال: فتعجلي ثواب الصلاة علي. فقانمت، فانصرفت.
فلما رآها مولية، تنفس الصعداء، ومات من ساعته.
كلب يقتل زوجة سده وخليلها
وذكر ابن دأب، قال: كان للحسن بن مالك الغنوي، أخوان، وندمان، فأفسد بعضهم محرماً له، وكان له على باب داره كلب قدر باه، فجاء الرجل يوماً إلى منزل الحسن فدخل إلى امرأته.
فقالت له: قد بعد، فهل لك في جلسة يسر بعضنا ببعض فيها؟ فقال: نعم.
فأكلا وشربا، ووقع عليها.
فلما علاها وثب الكلب عليهما، فقتلهما.

فلما جاء الحسن، ورآهما على تلك الحال، تبين ما فعلا فأنشأ يقول:
قد أضحى خليلي بعد صفو مودتي ... صريعاً بدار الذل أسلمه الغدر
يطا حرمتي بعد الإخاء وخانني ... فغادره كلبي وقد ضمه القبر

دفع درهمين فأفاد أربعة آلاف دينار
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي ابن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، قال: أخبرني أبو الفضل الكاتب، عن أبي محمد العامري، قال: قال إسماعيل بن جامع: كان أبي يعظني في الغناء، ويضيق علي، فهربت إلى أخوالي باليمن، فأنزلني خالي غرفة له، مشرفة على نهر في بستان، فإني لمشرف منها، إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست، فوضعت قربتها، وغنت:
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما
وذرفت عيناها، فاسفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده، فلم تفعل، وملأت القربة، ونهضت.
فنزلت أعدو وراءها، وقلت: يا جراية بأبي أنت وأمي، ردي الصوت.
قالت: ما أشغلني عنك.
قلت: بماذا؟ قالت: علي خراج، كل يوم درهمان.
فأعطيتها درهمين، فتغنت وجلست حتى أخذته، وانصرفت، ولهوت يومي ذلك، وكرهت أن أتغنى الصوت، فأصبحت وما أذكر منه حرفاً واحداً. وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها غنت غير ذلك الصوت.
فنهضت وعدوت في إثرها، فقلت: الصوت قد ذهبت علي منه نغمة.
قالت: مثلك لا تذهب عليه نغمة، فتبين بعضه ببعض، وأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها ذلك، فأعادته، فتذكرته.
فقلت: حسبك.
قالت: كأنك تستكثر فيه أربعة دراهم، كأني والله بك، وقد أصبت به أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد يوماً، وبين يديه أكياس، في كل كيس ألف دينار، إذ قال: من أطربني فله كيس، فغنيته الصوت، فرمى لي بكيس.
ثم قال: أعد، فأعدت، فرمى لي بكيس.
وقال: أعد، فأعدت فرمى لي بكيس، فتبسمت.
فقال: ما يضحكك؟ .
قلت: يا أمير المؤمنين لهذا الصوت حديث أعجب منه، وحدثته الحديث.
فضحك، ورمى إلي الكيس الرابع، وقال: لا نكذب قول السوداء.
فرجعت بأربعة آلاف دينار.
وقد جلبت عيني علي الدواهيا
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، إجازة، قال: حدثني محمد بن علي عن ابيه علي، عن ابن دأب، قال: عشق فتى، جارية لأخته، وكان سبب عشقه إياها، أنه رآها في منامه، فأصبح مستطاراً علقله، ساهياً قلبه.
فلم يزل كذلك حيناً، لا يزداد إلا حباً ووجداً، حتى أنكر ذلك أهله، وأعلموا عمه بما هو فيه، فسأله عن حاله، فلم يقر بشيء، وقال: علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم إلا سوءاً، وامتنع عن الطعام والكلام.
فلما رأوا ذلك منه، أجمعوا على أن يوكلوا به امرأة، فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والبوح بما في نفسه، فعزم رأيهم على ذلك، وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة ياقل لها حمامة، ووكل به حاضنة كانت له.
فلما شرب الفتى، غنت الجارية قدامه، فأنشأ يقول:
دعوني لما بي وانهضوا في كلاءة ... من الله قد أيقنت أن لست باقيا
وأن قد دنا موتي وحانت منيتي ... وقد جلبت عيني علي الدواهيا
أموت بشوق في فؤادي مبرح ... فيا ويح نفسي من به مثل مابيا
قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته، فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه، حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرة فيما بينه وبين الجارية، وكثرت بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك، فانتشر الخبر، فوهبتها له، فبرأ من علته، وأقام على أحسن حال.
أبو علي التنوخي
يهنئ رئيساً بحلول رمضان كتب القاضي أبو علي التنوخي، إلى بعض الرؤساء، في شهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما تشتهيه ... وكفاك الإله ما تتقيه

أنت في الناس مثل شهرك في الأش ... هر بل مثل ليلة القدر فيه

من شعر القاضي أبي علي التنوخي
ومن المنسوب للقاضي التنوخي:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقى المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لو جهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
وإذا أتت عني لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
من شعر أبي الفرج الببغاء
وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء، على الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً:
نثروا الجواهر واللجين وليس لي ... شيء عليه سوى المدائح أنثر
بقصائد كالدر إن هي أنشدت ... وثناً إذا ما فاح فهو العنبر
مكشوف العلل وكتوم الأجل
أنشدني علي بن أبي علي، قال: أنشدني أبي، قال: أنشدني قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، لنفسه:
يا بؤس للإنسان في ال ... دنيا وإن نال المل
يعيش مكشوف العلل ... فيها وكتوم الجل
بينا يرى في صحة ... مغتبطاً قيل اعتلل
وبينما يوجد في ... ها ثاوياً قيل انتقل
فأوفر الحظ لمن ... يتبعه حسن العمل
الأشتر وجيداء
أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، قراءة عليه، قال: حدثني أبي قال: أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، قال: حدثني جعفر ابن قدامة، قال حدثني أبو العيناء، قال: كنت أجالس محمد بن صالح بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان حمل إلى المتوكل أسيراً، فحبسه مدة، ثم أطلقه، وكان أعرابياً فصيحاً محرماً، فحدثني قال: حدثني نمير بن قحيف الهلالي، وكان حسن الوجه، حيياً، قال: كان منا فتى يقال له بشر بن عبد الله، ويعرف بالأشتر، وكان يهوى جارية من قومه،يقال لها: جيداء، وكانت ذات زوج.
وشاع خبره في حبها، فمنع منها، وضيق عليه، ووقع الشر بينه وبين أهلها، حتى تلت بينهم القتلى، وكثرت الجراحات، ثم افترقوا على أن لا ينزل أحد منهم بقرب الآخر.
فلما طال على الأشتر البلاء والهجر، جاءني ذات يوم، فقال: يا نمير هل فيك خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت.
قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي، وتنغصت علي حياتي.
قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت.
فركب، وركبت معه، وسرنا يومنا وليلتنا، حتى إذا كان قريباً من مغرب الشمس، نظرنا إلى منازلهم، ودخلنا شعباً خفياً، فأنخنا راحلتينا وجلين.
فجلس هو عند الراحلتين، وقال: يا نمير، اذهب، بأبي أنت وأمي، فادخل الحي، واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بشفة ولا لسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية، فاقرئها من السلام وسلها عن الخبر، وأعلمها بمكاني.
فخرجت، لا أعذر في أمري، حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة، وأعلمتها بمكانه، وسألتها عن الخبر.
فقالت: بلى والله، مشدد عليها، متحفظ منها، وعلى ذلك، فموعدكما الليلة، عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت.
فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا، حتى جاء الموعد.
فلم نلبث إلا قليلا، وإذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر، فصافحها، وسلم عليها، وقمت مولياً عنهما.
فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله ما بيننا ريبة، ولا قبيح نخلو به دونك.
فانصرفت راجعاً إليهما، حتى جلست معهما، فتحدثا ساعة، ثم أرادت الانصراف.
فقال الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحث ليلتنا، ويشكو بعضنا إلى بعض.
قالت: والله ما إلى ذلك من سبيل، إلا أن نعود إلى الشر الذي تعلم.
فقاللها الأشتر: لا بد من ذلك، ولو وقعت السماء على الأرض.
فقالت: هل في صديقك هذا من خير أو فيه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله.
قالت: يا فتى، هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك، فإني منته إلى مرادك، ولو كان في ذلك ذهاب روحي.

فقامت، فنزعت ثيابها، فخلعتها علي، فلبستها، قم قالت: اذهب إلى بيتي، فادخل في خبائي، فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين، فيطلب منك القدح، ليحلب فيه الإبل، فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه، ثم ارم به رمياً، ولا تعطه إياه من يدك، فإني كذا كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب، والقدح ملآن لبناً، فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى تطيل نكداً عليه، ثم خذه، أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه، حتى تصبح إن شاء الله.
قال: فذهبت ، ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء القدح الذي فيه اللبن، أمرني أن آخذه، فلم آخذه، حتى طال نكدي، ثم أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، واختلف يدي ويده، فانكفأة القدح، واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط، وضرب بيده إلى مقدم البيت، فاستخرج سوطاً مفتولاً، كمتن الثعبان المطوق، ثم دخل علي، فهتك الستر عني، وقبض على شعري، وأتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته، وأخت له، فانتزعوني من يده، ولا والله، ما أقلع، حتى زايلتني روحي، وهممت أن أوجره الكين، وإن كان فيه الموت.
فلما خرجوا عني، وهو معهم، شددت ستري، وقعدت كما كنت.
فلم ألبث إلا قليلاً، حتى دخلت أم جيداء علي تكلمني، وهي تحسبني ابنتها، فاتقيتها بالسكات والبكى، وتغطيت بثوبي دونها.
فقالت: يا بنية، اتقي الله ربك، ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذاك أولى بك، فأما الأشتر، فلا أشتر لك آخر الدهر.
ثم خرجت من عندي، وقالت: سأرسل إليك أختك تونسك، وتبيت الليلة عندك.
فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت، فجعلت تبكي، وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي.
فلما استمكنت منها، شددت بيدي على فيها، وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة، لأضجن بجهدي، جتى تكون الفضيحة شاملة.
ثم رفعت يدي عنها، فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الروع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته، وأعفه، وأحسنه حديثاً، فلم تزل تتحدث، وتضحك مني، ومما بليت به من الضرب، حتى برق النور، وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت، وفزعت.
وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: اختك.
قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله، إنها لعالمة بما نزل ببي، وأخذت ثيابي منها، ومضيت إلى صاحبي، فركبنا، ونحن خائفان.
فلما سري عنا روعنا، حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري، فإذا فيه ما غرس السوط من ضربة إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها.
فلما رآني الأشتر، قال: لقد عظمت صنيعتك، ووجب شكرك، إذ خاطرت بنفسك، فبلغني الله مكافأتك.

كيف تعالج اللثغة عن الصبي
حدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي، في نشوار المحاضرة، قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم، قال: حدثني أبي قال: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي، وأجعلها غيناً، وكانت سني إذ ذاك أربع سنين، أقل أو أكثر، فدخل أبو طالب الفضل بن سلمة، أو أبو بكر الدمشقي الشك من أبي الفتح إلى ؟أبي، وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء، فلثغت فيها.
فقال له الرج: يا سيدس، لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع، وهو ألثغ؟ فقال له: - وأنا أسمع وأحصل ما جرى، وأضبطه - إن اللثغة لا تصح مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم، لجهله بتحقيق الألفاظ، وسماعه شيئاً يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك، مرن عليه، فصار له طبعاً لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوة، استقام لسانه، وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بترك له عليه.
ثم قال لي أخرج لسانك، فاخرجته.
فتأمله، وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني: را، واجعل لسانكفي سقف حلقك.
ففعلت ذلك، فلم يستولي .
فما زال يرفق بي مرة، ويخشن بي أخرى، ويقل لساني من موضع إلى موضع، من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإذا لم يستولي ، نقل لساني إلى موضع آخر، دفعات كثيرة، فر زمان طويل، حتى قلت راءً صحيحة في بعض تلك المواضع.
وطالبني، وأوصى معلمي بإلزامي ذلك، حتى مرن لساني عليه، وذهبت عنه اللثغة.
أيهما يصفع
حكى علي بن المحسن القاضي، قال:

حضرت مجلس قاض، فتقدم إليه رجلان، وادعى أحدهما على الآخر شيئاً.
فقال: للمدعي عليه: ما تقول؟ فضرط بفمه.
فقال المدعي: يسخر بك يا أيها القاضي.
فقال القاضي: اصفع يا غلام.
فقال الغلام: من أصفع، الذي سخر منك، أم الذي ضرط عليك؟ فقال: بل دعهما، واصفع نفسك.

الجزء السابع
من شعر يعقوب بن الربيع
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني، قال: أنشدنا علي بن سليمان الأخفش، ليعقوب بن الربيع:
أضحوا يصيدون الظباء و إنني ... لأرى تصيدها عليّ حراماً
أشبهن منك سوالفاً و مدامعاً ... فأرى بذاك لها عليّ ذماماً
أعزز عليّ بأن أروع شبهها ... أو أن تذوق على يدي حماماً
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن البهلول التنوخي حدثنا عليّ بن المحسن القاضي، عن أبي الحسن بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق عن أبيه ، قال: يعقوب بن إسحاق البهلول التنوخي، يكنى بأبي يوسف، و كان من حفاظ القرآن، العالمين بعدده، و قراءاته، و كان حجاجاً، متنسكاً، وحدث حديثاً كثيراً عن جماعة من مشايخ أبيه إسحاق و غيرهم، و لم ينتشر حديثه.
و ولد بالأنبار في سنة سبع و ثمانين و مائة ، و مات ببغداد لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة إحدى و خمسين و مائتين .
و مات في حياة أبيه، فوجد عليه وجداً شديداً، و دفن في مقابر باب التبن .
و خلف ابن الأزرق، و ابنه إبراهيم، يتيمين، و بنات، و زوجة حاملاً، ولدت بعد موته ابناً سمي إسماعيل ، فرباهم جدهم إسحاق ابن البهلول، و كان يؤثرهم جداً، و يحبهم لمحبته أباهم، و لكونهم أيتاماً.
و قال أبو الحسن: حدثني عمي إسماعيل بن يعقوب، قال أخبرت عن جدي إسحاق بن البهلول، أنه كان يقول: على ودي أن لي ابناً آخر مثل يعقوب في مذهبه، و أني لم أرزق سواه.
و أنه لما توفي يعقوب أغمي على إسحاق، و فاتته صلوات، فأعادها بعد ذلك، لما لحقه من مضض المصيبة.
و انه كان يقول: ابني يعقوب أكمل مني.
بحث في المواساة
حدثني التنوخي، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني يعقوب بن شيبة ، قال: أظل عيد من الأعياد رجلاً يومئ إلى أنه من أهل عصره و عنده مائة دينار، لا يملك سواها.
فكتب إليه رجل من إخوانه يقول له: قد أظلنا هذا العيد، و لا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، و يستدعي منه ما ينفقه.
فجعل المائة دينار في صرة، و ختمها، و أنفذها إليه.
فلم تلبث الصرة عند الرجل إلا يسيراً حتى وردت عليه رقعة أخ من إخوانه، و ذكر إضافته في العيد، و يستدعي منه مثل ما استدعاه، فوجه بالصرة إليه بختمها.
و بقي الأول لا شيء عنده، فكتب إلى صديق له، و هو الثالث الذي صارت إليه الدنانير، يذكر حاله، و يستدعي منه ما ينفقه في العيد، فأنفذ إليه الصرة بخاتمها.
فلما عادت إليه صرته التي أنفذها بحالها، ركب إليه، و معه الصرة، و قال له: ما شأن هذه الصرة التي أنفذتها إلي.
فقال له: إنه أظلنا العيد، و لا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، فكتبت إلى فلان أخينا، أستدعي منه، ما ننفقه، فأنفذ إليّ هذه الصرة، فلما وردت رقعتك عليّ، أنفذتها إليك.
فقال له: قم بنا إليه.
فركبا جميعاً إلى الثاني، و معهما الصرة، فتفاوضوا الحديث، ثم فتحوها، فاقتسموها أثلاثاً.
قال أبو الحسن: قال لي أبي: و الثلاثة: يعقوب بن شيبة، و أبو حسان الزيادي القاضي، و أنسيت أنا الثالث .
أبو يعقوب البويطي لسان الشافعي
أخبرنا العتيقي، و التنوخي، قالا: أخبرنا علي بن عبد العزيز البردغي ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: في كتابي عن الربيع بن سليمان أنه قال: كان لأبي يعقوب البويطي من الشافعي منزلة، و كان الرجل ربما يسأله عن المسألة، فيقول: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه، أخبره، فيقول: هو كما قال.
قال: و ربما جاء إلى الشافعي، رسول صاحب الشرط، فيوجه الشافعي أبا يعقوب البويطي، و يقول: هذا لساني.
القاضي يوسف بن يعقوب
ابن إسماعيل بن حماد أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:

يوسف بن يعقب بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، كان رجلاً صالحاً عفيفاً خيراً، حسن العلم بصناعة القضاء، شديداً في الحكم، لا يراقب فيه أحداً.
و كانت له هيبة و رياسة.
و حمل الناس عنه حديثاً كثيراً، و كان ثقة أميناً.

أبو بكر يوسف الأزرق
لقب بالأزرق لزرقة عينيه أخبرنا التنوخي، عن أحمد بن يوسف الأزرق ، قال: قال لي أبي: ولدت بالأنبار في رجب سنة ثمان و ثلاثين و مائتين.
قال: و قال لي أبي: لو شئت أن أقول في جميع حديث جدي إني سمعته منه، لقلت، و اعلم أنني فرقت في سنة سبع و أربعين و مائتين، و لي تسع سنين، بين: كتبت في كتابي، و قلت في كتابي، و بين قرأ عليّ جدي، و قرأت على جدي.
قال ابن الأزرق: و كان أي قد كتب لغةً، و نحواً، و أخباراً، عن أبي عكرمة الضبي صاحب المفضل ، و حمل عن عمر بن شبه من هذه العلوم فأكثر، و عن الزبير بن بكار ، و عن ثعلب ، و كان كتب عن أحمد بن بديل اليامي ، و عباس بن يزيد البحراني ، فضاع كتابه عنهما، فلم يحدث عنهما بشيء.
قال ابن الأزرق: و سمعت أبي يقول: خرج عن يدي، إلى سنة خمس عشرة و ثلثمائة، نيف و خمسون ألف دينار في أبواب البر.
قال: و كان بعد ذلك يجري على رسمه في الصدقة.
قال لي التنوخي: كان يوسف بن يعقوب أزرق العين، و كان كاتباً جليلاً، قديم التصرف مع السلطان، عفيفاً فيما تصرف فيه، و كان عريض النعمة، متخشناً في دينه، كثير الصدقة، أماراً بالمعروف.
القاضي أبو نصر بن أبي الحسين
بن أبي عمر
أخبرنا التنوخي قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما كان في المحرم سنة سبع و عشرين و ثلثمائة ، خرج الراضي إلى الموصل ، و أخرج معه قاضي القضاة، أبا الحسين يعني عمر بن محمد بن يوسف و أمره أن يستخلف على مدينة السلام ، أبا نصر يوسف ابن عمر ، لما علم أنه لا أحد بعد أبيه يجاريه، و لا إنسان يساويه. فجلس في يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرم، سنة سبع و عشرين و ثلثمائة في جامع الرصافة، و قرئ عهده بذلك، و حكم ، فتبين للناس من أمره ما بهر عقولهم، و مضى في الحكم على سبيل معروفه له و لسلفه .
و ما زار أبو نصر يخلف أباه على القضاء بالحضرة، من الوقت الذي ذكرناه إلى أن توفي قاضي القضاة، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة ، و صلى عليه ابنه أبو نصر، و دفن إلى جنب أبي عمر، محمد بن يوسف، في دار إلى جنب داره.
فلما كان في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، خلع الراضي على أبي نصر، يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، و قلده قضاء الحضرة بأسرها ، الجانب الشرقي و الغربي، المدينة و الكرخ، و قطعة من أعمال السواد، و خلع عليه، و على أخيه أبي محمد الحسين بن عمر لقضاء أكثر السواد و البصرة و واسط .
قال طلحة: و ما زال أبو نصر منذ نشأ فتىً نبيلاً، فطناً، جميلاً، عفيفاً، متوسطاً في علمه بالفقه، حاذقاً بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب و الكتابة، حسن الفصاحة، واسع العلم باللغة و الشعر، تام الهيبة، اقتدر على أمره بالنزاهة و التصون و العفة، حتى وصفه الناس في ذلك بما لم يصفوا به أباه و جده، مع حداثة سنه، و قرب ميلاده من رياسته.
و لا نعلم قاضياً تقلد هذا البلد، أعرق في القضاء منه، و من أخيه الحسين، لأنه يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف بن يعقوب، و كل هؤلاء تقلدوا الحضرة، غير يعقوب، فإنه كان قاضياً على مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم، ثم تقلد فارس، و مات بها.
و ما زال أبو نصر، والياً على بغداد، بأسرها إلى صفر من سنة تسع و عشرين و ثلثمائة، فإن الراضي صرفه عن مدينة المنصور، بأخيه الحسين، و أقره على الجانب الشرقي والكرخ ، و مات الراضي في هذه السنة .
لكسلم بن يزيد يرثي يزيد بن مزيد
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني ، قال: أنشدنا أبو الحسن الأخفش ، عن ثعلب، لمسلم يعني ابن الوليد يرثي يزيد بن مزيد ، و مات ببرذعة ، من أرض أران:
قبر ببرذعة استسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار
ألقى الزمان على معد بعده ... حزناً لعمر الدهر ليس يعار
نقضت بك الآمال أحلاس الغنى ... و استرجعت نزاعها الأمصار

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل و الأوعار

لمسلم بن الوليد
أمدح بيت و أرثى بيت و أهجى بيت أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن القاسم الأنباري ، قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء، عن شيخ له، قال: قال مسلم بن الوليد ، ثلاثة أبيات، تناهى فيها، و زاد على كل الشعراء، أمدح بيت، و أرثى بيت، و أهجى بيت.
فأما المديح، فقوله:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... و الجود بالنفس أقصى غاية الجود
و أما المرثية فقوله:
أرادوا ليخفوا قره عن عدوه ... فطيب تراب القر دل على القبر
و أما الهجاء فقوله:
حسنت مناظره فحين خبرته ... قبحت مناظره لقبح المخبر
عبد الملك بن مروان
يشهد لخصمه مصعب بن الزبير بكمال مروءته أخبرنا الجوهري و التنوخي، قالا: حدثنا محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ، قال: حدثني أبو العباس محمد ابن إسحاق قال: حدثنا ابن عائشة ، قال: سمعت أبي يقول: قيل لعبد الملك بن مروان ، و هو يحارب مصعباً : إن مصعباً قد شرب الشراب.
فقال عبد الملك: مصعب يشرب الشراب؟ و الله، لو علم مصعب أن الماء ينقص من مروءته، ما روي منه.
أشجع العرب
أخبرنا عليّ بن أبي عليّ، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص ، و أحمد بن عبد الدوري قالا: حدثنا احمد بن سليمان الطوسي ، قال: حدثنا الزبير بن بكار ، قال: حدثني محمد بن الحسن، عن زافر بن قتيبة، عن الكلبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ فقالوا: شبيب ، قطري ، فلان، فلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع العرب، رجل جمع بين سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلخة، و أمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، و أمه الرباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، ولي العراقين خمس سنين، فأصاب ألف ألف، و ألف ألف، و ألف ألف، و أعطي الأمان فأبى، و مشى بسيفه حتى مات، ذاك المصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور، مرة ههنا، و مرة ههنا.
الحمد لله شكرا
ً
حدثني التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن علي البتي ، قال: أنشدنا أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد القاضي، لنفسه :
يا محنة الله كفيّ ... إن لم تكفيّ فخفيّ
ما آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... فقيل لي قد توفي
ثور ينال الثريا ... و عالم متخفي
الحمد لله شكراً ... على نقاوة حرفي
حرّ انتصر
أخبرنا عليّ بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا عيسى بن علي بن عيسى الوزير ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال: حدثنا داود بن عمرو ، قال: حدثنا مكرم بن حكيم أبو عبد الله الخثعمي قال: حدثني مهران بن عبد الله ، قال: لقيت علي بن أبي طالب و هو مقبل من قصر المدائن ، و حوله المهاجرون حين بلغ قنطرة دن ، متوزر على صدره من عظم بطنه، و قد وقع ثديه على إزاره، ضخم البطن، ذو عضلات ومناكب، أصلع، أجلح، قد خرج الشعر من أذنيه، و أنا أمشي بجنباته، و هو يريد أسبانبر .
فجاء غلام فلطم وجهي. فالتفت عليّ. فلما التفت، رفعت يدي، فلطمت وجه الغلام.
فقال: حرّ انتصر. فكأن صوت علي في أذني الساعة.
العلم عند أبي عبيدة
أخبرنا علي بن المحسن بن علي بن محمد التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء ، قال: أنشدنا أبو خالد يزيد ابن محمد المهلبي ، قال: أنشدني إسحاق الموصي لنفسه ، قوله لفضل ابن الربيع ، يهجو الأصمعي :
عليك أبا عبيدة فاصطنعه ... فإن العلم عند أبي عبيدة
و قدمه و آثره عليه ... و دع عنك القريد بن القريدة
تأويلات مروية
عن ابن عباس عن الكلمات الأبجدية

أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا علي بن عمر السكري ، قال: حدثنا أبو سعيد مفتاح بن خلف بن الفتح ، و قد قدم علينا حاجاً في سنة تسع و ثلثمائة بباب الشماسية ، قال: حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي البلخي ، قال: حدثنا الحسن بن يزيد الجصاص ، قال: حدثنا عبد الرحيم بن واقد ، قال: حدثنا الفرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، قال: إن لكل شيء سبباً، و ليس كل أحد يفطن له، و لا سمع به، و إن لأبي جاد لحديثاً عجباً.
أما أبو جاد: فأبى آدم الطاعة، وجد في أكل الشجرة، و أما هواز فهوى من السماء إلى الأرض، و أما حطي فحطت عنه خطاياه، و أما كلمن فأكل من الشجرة، و من عليه بالتوبة، و أما سعفص، فعصى آدم ربه، فأخرج من النعيم إلى النكد، و أما قريشات، فأقر بالذنب، و سلم من العقوبة .

تحفة القوالة من وراء الستارة
أخبرنا التنوخي، قال: قال لنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العباس الأخباري حضرت في سنة ست و عشرين و ثلثمائة ، مجلس تحفة القوالة ، جارية أبي عبد الله بن عمر البازيار، و إلى جانبي عن يسرتي أبو نضلة مهلهل ابن يموت بن المزرع ، و عن يمنتي أبو القاسم بن أبي الحسن البغدادي، نديم ابن الحواري قديماً، و البريديين بعد، فغنت تحفة من وراء الستارة:
بي شغل به عن الشغل عنه ... بهواه و إن تشاغل عني
سره أن أكون فيه حزيناً ... فسروري إذا تضاعف حزني
ظن بي جفوة فأعرض عني ... و بدا منه ما تخوف مني
فقال لي أبو نضلة: هذا الشعر لي.
فسمعه أبو القاسم بن البغدادي، و كان ينحرف عن أبي نضلة، فقال: قل له إن كان الشعر له، أن يزيد فيه بيتاً.
فقلت له ذلك على وجه جميل. فقال في الحال:
هو في الحسن فتنة قد أصارت ... فتنتي في هواه من كل فن
أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي
أخبرنا عليً بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: استقضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي في سنة أربع و خمسين و مائتين ، و كان متوسطاً في أمره، شديد المحبة لدنيا، و كان صالح الفقه ثانية، و عزل، و ولي الأهواز، ثم وجه به إلى خراسان، فمات بالري.
كادت تزل به من حالق قدم
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد اللد الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري بالبصرة، قال: أخبرنا أبو زيد عمر ابن شبة ، قال: حكم ابن أبي ليلى بحكم، ونوح بن دراج حاضر، فنبهه نوح، فانتبه، و رجع عن حكمه ذاك.
فقال ابن شبرمة :
كادت تزل به من حالق قدم ... لولا تداركها نوح بن دراج
لما رأى هفوة القاضي أخرجها ... من معدن الحكم نوح أي إخراج
يقال: إن الحاكم كان ابن شبرمة، لا ابن أبي ليلى، و إن رجلاً ادعى قراحاً فيه نخل، فأتاه بشهود شهدوا له بذلك.
فسألهم ابن شبرمة: كم في القراح نخلة؟ فقالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم.
فقال له نوح: أنت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، و لا تعلم كم فيه أسطوانة.
فقال للمدعي: أردد عليّ شهودك، و قضى له بالقراح، و قال هذا الشعر.
يزيد بن هبيرة
يريد أبا حنيفة على بيت المال، فيأبى، فيضربه أسواطاً أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن القاسم بن نصر أخو أبي الليث الفرائضي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني الربيع بن عاصم مولى بني فزارة قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة ، فقدمت بأبي حنيفة ، فأراده على بيت المال، فأبى، فضربه أسواطاً.
من محاسن أبي حنيفة
أخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري، بالبصرة، قال: حدثنا أحمد بن الصلت بن المغلس الحماني ، قال: سمعت أبا نعيم يقول: ولد أبو حنيفة سنة ثمانين بلا مائة، و مات سنة خمسين و مائة، و عاش سبعين سنة.
قال أبو نعيم: وكان أبو حنيفة حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، حسن المجلس، شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه.
و قال أبو يوسف: ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث، و مواضع النكت التي فيه من الفقه، من أبي حنيفة.
فقه أبي حنيفة
و روعه و صبره على تعليم العلم

أخبرني التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن حمدان بن الصباح، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كان أبو حنيفة رجلاً فقهياً، معروفاً بالفقه، مشهوراً بالورع، واسع الحال، معروفاً بالأفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعليم العلم بالليل و النهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هارباً من مال السلطان.
هذا حديث مكرم ، و زاد عليه ابن الصباح: و كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، إن كان عن الصحابة أو التابعين، و إلا قاس، و أحسن القياس.

أبو حنيفة يخطئ حكم القاضي
في ستة مواضع
أخبرني عليّ بن أبي عليّ البصري ، قال: حدثنا القاضي أبو نصر محمد ابن محمد بن سهل النيسابوري قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، قال: حدثني أحمد بن يحيى أبو يحيى السمرقندي، قال: حدثنا نصر بن يحيى البلخي، قال: حدثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: كانت ها هنا امرأة يقال لها أم عمران، مجنونة، و كانت جالسة في الكناسة، فمر بها رجل، فكلمها بشيء، فقالت له: يا ابن الزانيتين، و ابن أبي ليلى حاضر يسمع ذلك.
فقال للرجل: أدخلها عليّ المسجد، و أقام عليها حدين، حداً لأبيه، و حداً لأمه.
فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ فيها في ستة مواضع، أقام الحد في المسجد و لا تقام الحدود في المساجد، و ضربها قائمة، و النساء يضربن قعوداً، و ضرب لأبيه حداً، و لأمه حداً، و لو أن رجلاً قذف جماعة كان عليه حد واحد، و جمع بين حدين، و لا يجمع بين حدين حتى يجب أحدهما، و المجنونة ليس عليها حد، و حد لأبويه و هما غائبان لم يحضرا، فيدعيان. فبلغ ذلك ابن أبي ليلى، فدخل على الأمير، فشكا إليه، فحجز على أبي حنيفة، و قال: لا يفتي.
فلم يفت أياماً، حتى قدم رسول من ولي العهد، فأمر أن تعرض على أبي حنيفة مسائل حتى يفتي فيها.
فأبى أبو حنيفة و قال: أنا محجوز عليّ.
فذهب الرسول إلى الأمير، فقال الأمير: قد أذنت له.
فقعد فأفتى.
أبو حنيفة من أعظم الناس أمانة
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أحمد بن عبد اله الوراق الدوري ، قال: أخبرنا أحمد بن القاسم بن نصر ، أخو أبي الليث الفرائضي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي ، قال: قال رجل بالشام، للحكم بن هشام الثقفي: أخبرني عن أبي حنيفة.
قال: على الخبير سقطت، كان أبو حنيفة، لا يخرج أحداً من قبلة رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى يخرج من الباب الذي منه دخل.
و كان من أعظم الناس أمانة، و أراده سلطاننا على أن يتولى مفاتيح خزائنه، أو يضرب ظهره، فاختار عذابهم على عذاب الله.
فقال له: ما رأيت أحداً وصف أبا حنيفة، بمثل ما وصفته به.
قال: هو كما قلت لك.
ورع أبي حنيفة و صلاته و قراءته
أخبرنا علي بن المحسن المعدل، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد ابن يعقوب الكاغدي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب ابن الحارث الحارثي البخاري ببخارى قال: حدثنا أحمد بن الحسين البلخي ، قال: حدثنا حماد بن قريش، قال: سمعت أسد بن عمرو ، يقول: صلى أبو حنيفة، فيما حفظ عليه، صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة.
فكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة، و كان يسمع بكاؤه بالليل حتى يرحمه جيرانه.
و حفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه، سبعة آلاف مرة.
أبو حنيفة يؤثر رضى ربه
على كل شيء
أخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن حمدان، قال: حدثنا أحمد بن الصلت الحماني ، قال: سمعت مليح بن وكيع يقول: سمعت أبي يقول: كان و الله أبو حنيفة عظيم الأمانة، و كان الله في قلبه جليلاً كبيراً عظيماً، و كان يؤثر رضاء ربه على كل شيء، و لو أخذته السيوف في الله لاحتمل، رحمه الله، و رضي عنه رضى الأبرار، فلقد كان منهم.
فقه أبي حنيفة و تقواه
أخبرنا التنوخي ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا محمد بن حمدان ابن الصباح النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت الحماني ، قال: حدثنا علي بن المديني ، قال: سمعت عبد الرزاق يقول:

كنت عند معمر، فأتاه ابن المبارك ، فسمعنا معمراً يقول: ما أعرف رجلاً يحسن يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس، و يشرح لمخلوق النجاة في الفقه، أحسن من معرفة أبي حنيفة، و لا أشفق على نفسه من أن يدخل في دين اله، شيئاً من الشك، من أبي حنيفة.

من شعر أبي الحسن ناجية
بن محمد الكاتب
أنشدنا التنوخي، قال: أنشدني أبو الحسن ناجية بن محمد الكاتب لنفسه:
و لما رأيت الصبح قد سل سيفه ... و ولى انهزاماً ليله و كواكبه
و لاح احمرار قلت قد ذبح الدجى ... و هذا دم قد ضمخ الأفق ساكبه
من إخوانيات البحتري
أخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرنا محمد بن عمران الكاتب أ، أبا بكر الجرجاني، أخبره عن محمد بن يزيد النحوي ، قال: كتبنا إلى البحتري أن يجيئنا بعقب مطر، فكتب إلينا:
إن التزاور فيما بيننا خطر ... و الأرض من وطأة البرذون تنخسف
إذا اجتمعنا على يوم الشتاء فلي ... هم بما أنا لاق حين أنصرف
القاضي أبو الحسن علي بن أبي طالب
محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول حدثني أبو القاسم التنوخي، قال: ولد أبو الحسن علي بن أبي طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول ببغداد في شوال سنة إحدى و ثلثمائة ، و توفي بها في شهر ربيع الأول ثمان و خمسين و ثلثمائة ، و كان حافظاً لقرآن، قرأ على أبي بكر بن مقسم بحرف حمزة، و لقي أبا بكر بن مجاهد ، و قرأ عليه بعض القرآن، و سمع منه حديثاً، و تفقه على مذهب أب حنيفة ، و حمل من النحو، و اللغة، و الأخبار، و الأشعار، عن جده القاضي أبي جعفر بن البهلول ، و عن أبي بكر ابن الأنباري ، و نفطويه ، و الصولي ، و غيرهم، و قال الشعر، و تقلد القضاء بالأنبار ، وهيت ، من قبل أبيه في سنة عشرين و ثلثمائة ، أو قبلها، ثم ولي من قبل الراضي بالله سنة سبع و عشرين، القضاء بطريق خراسان، ثم صرف بعد مدة و لم يتقلد شيئاً إلى أن قلده أبو السائب عتبة بن عبيد الله في سنة إحدى و أربعين و هو يومئذ قاضي القضاة الأنبار، و هيت، و أضاف إليهما بعد مدة الكوفة، ثم أقره على ذلك، أبو العباس بن أبي الشوارب ، لما ولي قضاء القضاة ، مدة، و صرفه بعد، ثم لما ولي أبو بشر عمر بن أكثم قضاء القضاة ، قلده عسكر مكرم و إيذج ، و رامهرمز ، مدة، ثم صرفه.
لو أرادوا صلاحنا ستروا وجهه الحسن
أخبرنا التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي صابر الدلال ، قال: وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور، و الناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة، غلام، لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه، يعرف بابن مسلم.
فقال له: تنح، فلم يبرح.
فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح.
فقال له الثالثة: تنح، و إلا و الله خرقت كل ما عليك، و كانت عليه ثياب في غاية الحسن، تساوي جملة كثيرة، فانصرف الفتى.
فقال الشبلي، و نحن نسمع:
طرحوا اللحم للبزاة ... على ذروتي عدن
ثم لاموا لم ... خلعوا منهم الرسن
لو أرادوا صلاحنا ... ستروا وجهه الحسن
فقلت: إن رأيت.
فقال: أنشدني أبو علي بن مقلة:
أي رب تخلق أقمار ليل ... و أغصان بان و كثبان رمل
و تبدع في كل طرف يسحر ... و في كل قد رشيق بشكل
وتنهي عبادك أن يعشقوا ... أيا حكم العدل ذا حكم عدل؟
صريع الغيلان لا صريع الغواني
أخبرني علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي ، قال: حدثني محمد بن عجلان، قال: حدثنا يعقوب بن السكيت قال: أخبرني محمد بن المهنى، قال: كان عباس بن الأحنف مع إخوان له على شراب، فجرى ذكر مسلم ابن الوليد .
فقال بعضهم: صريع الغواني.
فقال عباس: و الله ما يصلح إلا أن يكون صريع الغيلان.
فاتصل ذلك بمسلم، فأنشأ مسلم يهجوه و يقول:
بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهم ... فاترك حنيفة و اطلب غيرها نسباً
منيت مني و قد جد الجراء بنا ... بغاية منعتك الفوت و الطلبا

فاذهب فأنت طليق الحلم مرتهن ... بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بدعوتهم ... إني أرى لك خلقاً يشبه العربا

برز من أصحاب الخليل أربعة
أخبرني التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: حدثنا أبو سعد داود بن الهيثم بن إسحاق بن البهلول ، قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد ابن زيد عن نصر بن علي ، قال: برز من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان أبو بشر المعروف بسيبويه ، و النضر بن شميل ، و علي بن نصر ، و مؤرج السدوسي .
مذهب الجاحظ في الصلاة تركها
أخبرنا علي بن أبي علي ، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري ، قال حدثنا أبو عمر أحمد بن أحمد السوسنجردي العسكري، قال: حدثني ابن أبي الذيال المحدث بسر من رأى قال: حضرت وليمة حضرها الجاحظ ، و حضرت صلاة الظهر، فصلينا، و ما صلى الجاحظ، و حضرت صلاة العصر، فصلينا، و ما صلى الجاحظ.
فلما عزمنا الانصراف، قال الجاحظ لرب المنزل: إني ما صليت لمذهب، أو لسبب، أخبرك به.
فقال له: أو فقيل له: ما أظن أن لك مذهباً في الصلاة إلا تركها.
المهدي يستقضي قاضيين
في عسكره
أخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: أخبرني محمد بن جرير الطبري في الإجازة : أن المهدي استقضى ابن علاثة و عافية ، سنة إحدى و ستين و مائة، فكانا يقضيان في عسكر المهدي.
و على الشرقية عمر بن حبيب العدوي .
المستكفي يقلد أبا السائب القضاء بمدينة أبي جعفر أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما قبض المستكفي على محمد بن الحسن بن أبي الشوارب و كان قاضياً على الجانب الغربي بأسره قلد مدينة أبي جعفر ، القاضي أبا السائب عتبة ابن عبيد الله بن موسى بن عبيد الله ، و ذلك في صفر سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة .
ثم قتل أبا عبد الله محمد بن عيسى، اللصوص ، و كان قاضياً على الجانب الشرقي، و ذلك في يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
قال طلحة: و القاضي أبو السائب، رجل من أهل همذان، و كان أبوه عبيد اله، تاجر مستوراً ديناً، أخبرني جماعة ن الهمذانيين، أنه كان يؤمهم في مسجد لهم فوق الثلاثين سنة.
و نشأ أبو السائب يطلب العلم، و غلب عليه في ابتداء أمره علم التصوف، و الميل إلى أهل الزهد في الدنيا، ثم خرج عن بلده، و سافر.
و دخل الحضرة في أيام الجنيد ، و لقي العلماء، و عني بفهم القرآن، و كتب الحديث، و تفقه على مذهب الشافعي، و تقلد الحكم.
و اتصلت أسفاره، فدخل المراغة و بها عبد الرحمن الشيزي، و كان صديقه، و كان عبد الرحمن غالباً على أبي القاسم ابن أبي الساج ، و تقلد جميع أذربيجان مع المراغة، و عظمت حاله.
و قبض على ابن أبي الساج، و عاد إلى الجبل بعد الحادثة على ابن أبي الساج و تقلد همذان .
ثم عاد إلى بغداد، فقطن بها، و تقدم عند السلطان، و عرف الرؤساء فضله و عقله.
و تقلد أعمالاً جليلة بالكوفة و ديار مضر و الأهواز ، و تقلد عامة الجبل ، و قطعة من السواد .
و تقدم عند قاضي القضاة أبي الحسين بن أبي عامر ، و سمع شهادته، و استشاره في كثير في أموره.
ثم ما زال على أمر جميل، و فعل حميد، إلى رجب سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة، فإنه تقلد قضاء القضاة .
و له أخبار حسان، و علقت عنه أشياء كثيرة، و جوابات في مسائل القرآن عجيبة.
و ذكر لي أن عامة كتبه بهمذان.
سبب علة أبي زرعة الرازي
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني قاضي القضاة أبو السائب ، قال حدثني عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: اعتل أبو زرعة الرازي ، فمضيت مع أبي لعيادته، فسأله أبي عن سبب هذه العلة.
فقال: بت و أنا في عافية، فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجت من الحديث ما أخطأ فيه سفيان الثوري .
فلما أصبحت خرجت إلى الصلاة، و في دربنا كلب ما نبحني قط، و لا رأيته عدا على أحد، فعدا علي، و عقرني، و حممت.
فوقع في نفسي أن هذا عقوبة لما وضعت في نفسي، فأضربت عن ذلك الرأي.
ابن السماك يعظ الرشيد

قال طلحة : و أخبرني قاضي القضاة، يعني أبا السائب أيضاً، أنه سمع ابن أبي حاتم، قال: سمعت محمد بن الحسين النخعي، قال: سمعت محمد ابن الحسين البرجلاني يقول: قال الرشيد لابن السماك : عظني.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، و تغسل وحدك، و تكفن وحدك، و تقبر وحدك.
يا أمير المؤمنين: إنما هو دبيب من سقم ، فيؤخذ بالكظم ، و تزل القدم، و يقع الفوت و الندم، قلا توبة تنال، و لا عثرة تقال، و لا يقبل فداء بمال.

من إخوانيات الفضل بن سهل
أخبرنا علي بن أبي علي البصري ، قال: حدثنا علي بن محمد بن العباس الخزاز ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي، قال: عتب الفضل بن سهل ، على بعض أصحابه، فأعتبه، و راجع محبته، فأنشأ الفضل يقول:
إنها محنة الكرام إذا ما ... أجرموا أو تجرموا الذنب تابوا
و استقاموا على المحبة للإخ ... وان فيما ينوبهم و أنابوا
قال: و وجه الفضل بن سهل إلى رجل بجائزة، و كتب إليه: قد وجهت إليك بجائزة، لا أعظمها مكثراً، و لا أقللها تجبراً، و لا أقطع لك بعدها رجاءً، و لا أستثيبك عليها ثناءً، و السلام.
أبو نعيم المحدث
يرفس برجله يحيى بن معين فيرمي به من الدكان قرأت على علي بن أبي علي البصري ، عن علي بن الحسن الجارحي ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الجراح أبو عبد الله ، قال: سمعت أحمد ابن منصور الرمادي يقول: خرجت مع أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين إلى عبد الرزاق، خادماً لهما.
فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين، لأحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم .
فقال له أحمد بن حنبل: لا ترد، الرجل ثقة.
فقال يحيى بن معين: لا بد لي.
فأخذ ورقة، فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، و جعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس من حديثه.
ثم جاءا إلى أبي نعيم، فدقا عليه الباب.
فخرج فجلس على دكان طين حذاء بابه، و أخذ أحمد بن حنبل، فأجلسه عن يمينه، و أخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان.
فأخرج يحيى بن معين الطبق، فقرأ عليه عشرة أحاديث، و أبو نعيم ساكت.
ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه.
ثم قرأ العشر الثاني، و أبو نعيم ساكت.
فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه.
ثم قرأ العشر الثالث، و قرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم، و انقلبت عيناه.
ثم أقبل على يحيى بن معين، فقال له: أما هذا و ذراع أحمد في يده فأورع من أن يعمل مثل هذا، و أما هذا يريدني فأقل من أن يفعل مثل هذا، و لكن هذا من فعلك، يا فاعل.
ثم أخرج رجله، فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدكان، و قام فدخل داره.
فقال احمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل، و أقل لك إنه ثبت.
قال: و الله لرفسته لي، أحب إليّ من سفري.
فرج بن فضالة
يمتنع عن القيام للمنصور أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا صدقة بن علي الموصلي ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، قال: حدثنا أبي ، قال: حدثنا أحمد بن عبيد ، عن المدائني ، قال: مر المنصور بفرج بن فضالة ، فلم يقم له، فقيل له في ذلك.
فقال: خشيت أن يسألني الله لم قمت؟ و يسأله لم رضيت؟.
أبو عبيد يقرأ كتابه
في غريب الحديث أخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا العباس بن أحمد بن الفضل الهاشمي ، و أخبرني أبو الوليد الحسن بن محمد بن علي الدربندري، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أحمد التوزي بالبصرة قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي الهجيمي قال: حدثني جعفر بن محمد بن علي بن المديني، قال: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده و أنا معه قال: فدخل إليه، و عنده يحيى بن معين ، و ذكر جماعة من المحدثين.
قال: فدخل أبو عبيد القاسم بن سلام ، فقال له يحيى بن معين: اقرأ علينا كتابك الذي عملته لمأمون ، في غريب الحديث .
فقال: هاتوه.
فجاءوا بالكتاب، فأخذه أبو عبيد، فجعل يبدأ يقرأ الأسانيد، و يدع تفسير الغريب.
فقال له أبي: يا أبا عبيد، دعنا من الأسانيد، نحن أحذق بها منك.

فقال يحيى بن معين، لعلي بن المديني: دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك محمداً معك، و نحن، فنحتاج أن نسمعه على الوجه.
فقال أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم أن تقرأوه فاقرأوه.
قال: فقال له علي بن المديني: إن قرأته علينا، و إلا فلا حاجة لنا فيه.
و لم يعرف أبو عبيد، علي بن المديني، فقال ليحيى بن معين: من هذا؟ فقال: هذا علي بن المديني.
فالتزمه، و قرأه علينا، فمن حضر ذلك المجلس، جاز أن يقول حدثنا، و غير ذلك، فلا يقول.
القاضي قتيبة بن زياد يحاكم بشر المريسي أخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر ، قال: قتيبة بن زياد الخراساني رجل من أهل الفقه، على مذهب أبي حنيفة، و له فهم و معرفة، كان قاضياً على الجانب الشرقي في أيام منصور و إبراهيم ابني المهدي.
و في أيامه هاجت العامة على بشر المريسي ، و سألوا إبراهيم بن المهدي أن يستتيبه، فأمر إبراهيم، قتيبة بن زياد، أن يحضر مسجد الرصافة.
فحدثني محمد بن أحمد بن إسحاق ، عن محمد بن خلف ، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي ، يقول: شهدت مسجد الجامع بالرصافة، و قد اجتمع الناس، و جلس قتيبة بن زياد للناس، و أقيم بشر على صندوق من صناديق المصاحف ، عند باب الخدم.
و قام المستمليان ، أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، مستملي ابن عيينة ، و هارون بن موسى، مستملي يزيد بن هارون ، يذكران أن أمير المؤمنين إبراهيم بن المهدي أمر قاضيه قتيبة بن زياد أن يستتيب بشر بن غياث المريسي، من أشياء عددها ، فيها ذكر القرآن، و غيره، و أنه تائب.
قال: فرفع بشر صوته، يقول: معاذ الله، إني لست بتائب.
و كثر الناس عليه، حتى كادوا يقتلونه، فأدخل إلى باب الخدم، و تفرق الناس.

الخليفة المعتضد دقيق الملاحظة
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن أبي القاسم علي بن المحسن، عن أبيه، قال: بلغني أن المعتضد بالله كان يوماً جالساً في بيت يبنى له، يشاهد الصناع، فرأى في جملتهم غلاماً أسود، منكر الخلقة، شديد المزاج، يصعد على السلاليم، مرقاتين، مرقاتين، و يحمل ضعف ما يحملونه.
فأنكر أمره، فأحضره، و سأله عن سبب ذلك، فلجلج.
فقال لابن حمدون و كان حاضراً أي شيء يقع لك في أمره؟ فقال: و من هذا، حتى صرفت فكرك إليه؟ و لعله لا عيال له، فهو خالي القلب.
قال: ويحك، قد خمنت في أمره تخميناً ما أحسبه باطلاً، إما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها، أو يكون لصاً يتستر بالعمل في الطين.
فلاحاه ابن حمدون في ذلك.
فقال: عليّ بالأسود، فأحضر.
و قال: مقارع، فضربه نحو مائة مقرعة، و قرره، و حلف إن لم يصدقه، ضرب عنقه، و أحضر السيف و النطع.
فقال الأسود: لي الأمان؟ فقال: لك الأمان، إلا ما يجب عليك فيه حد، فلم يفهم ما قال له، و ظن أنه قد آمنه.
فقال: أنا كنت أعمل في أتاتين الجر سنين ، و كنت منذ شهور هناك جالساً و هو لا يعلم مكاني، فحل الهميان، و أخرج منه ديناراً، فتأملته، فإذا كله دنانير، فثاورته، و كتفته، و سددت فاه، و أخذت الهميان، و حملته على كتفي، و طرحته في نقرة الأتون، و طينته، فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه، فطرحتها في دجلة، و الدنانير معي يقوى بها قلبي.
فأمر المعتضد من أحضر الدنانير من منزله، و إذا على الهميان مكتوب: لفلان بن فلان.
فنودي في البلدة باسمه، فجاءت امرأة، و قالت: هذا زوجي، و لي منه هذا الطفل، خرج في وقت كذا، و معه هميان فيه ألف دينار، فغاب إلى الآن.
فسلم الدنانير إليها، و أمرها أن تعتد، و ضرب عنق الأسود، فأمر أن تحمل جثته إلى الأتون .
الخليفة المعتضد يكتشف أحد المجرمين
قال المحسن: بلغني أن المعتضد بالله، قام في الليل لحاجته، فرأى بعض الغلمان المردان، قد نهض عن ظهر غلام أمرد، و دب على أربعته، حتى اندس بين الغلمان.
فجاء المعتضد، فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد، إلى أن وضع يده على فؤاد ذلك الفاعل، فإذا به يخفق خفقاناً شديداً.
فوكزه برجله، فقعد، و استدعى آلات العقوبة، فأقر، فقتله .
التحقيق الدقيق يؤدي إلى العثور على المجرم
قال المحسن:

بلغنا عن المعتضد بالله، أن خادماً من خدمه جاء يوماً، فأخبره أنه كان قائماً على شاطئ الدجلة، في دار الخليفة، فرأى صياداً، و قد طرح شبكته فثقلت بشيء، فجذبها، فأخرجها، فإذا فيها جراب، و أنه قدره مالاً، فأخذه، و فتحه، و إذا فيه آجر، و بين الآجر، كف مخضوبة بحناء.
قال: فأحضر الجراب و الكف و الآجر.
فهال المعتضد ذلك، و قال: قل للصياد يعاود طرح الشبكة، فوق الموضع، و أسفله، و ما قاربه.
قال: ففعل، فخرج جراب آخر فيه رجل.
قال: فطلبوا، فلم يخرج شيء آخر.
فاغتم المعتضد، و قال: معي في البلد من يقتل إنساناً و يقطع أعضاؤه، و يغرقه، و لا أعرف به؟ ما هذا ملك.
قال: و أقام يومه كله، ما طعم طعاماً.
فلما كان من الغد، أحضر يقول له، و أعطاه الجراب فارغاً، و قال له: طف على كل من يعمل الجرب ببغداد، فإن عرفه منهم رجل، فسله على من باعه؟ فإن دلك عليه، فسئل المشتري، من اشتراه منه؟ و لا تقر على خبره أحد.
قال: فغاب الرجل، و جاءه بعد ثلاثة أيام، فزعم أنه لم يزل يتطلب في الدباغين و أصحاب الجرب، إلى أن عرف صانعه، و سأل عنه، فذكر أنه باعه على عطار بسوق يحيى ، و أنه مضى إلى العطار، و عرضه عليه، فقال: ويحك، كيف وقع هذا الجراب في يدك؟ فقلت: أو تعرفه؟ قال: نعم، اشترى مني فلان الهاشمي منذ ثلاثة أيام عشرة جرب، لا أدري لأي شيء أرادها، و هذا منها.
فقلت له: و من فلان الهاشمي؟ فقال: رجل من ولد علي بن ريطة، من ولد المهدي ، يقال له: فلان، عظيم، إلا أنه شر الناس، و أظلمهم، و أفسدهم لحرم المسلمين، و أشدهم تشوقاً إلى مكايدهم، ليس في الدنيا من ينهي خبره إلى المعتضد، خوفاً من شره، و لفرط تمكنه من الدولة و المال.
و لم يزل يحدثني و أنا أسمع أحاديث له قبيحة، إلى أن قال: فحسبك أنه كان يعشق منذ سنين، فلانة المغنية، جارية فلانة المغنية، و كانت كالدينار المنقوش، و كالقمر الطالع، في غاية حسن الغناء، فساوم مولاتها فيها، فلم تقاربه.
فلما كان منذ أيام، بلغه أن سيدتها تريد بيعها على مشتر قد حضر، و بذل فيها ألوف الدنانير، فوجه إليها: لا أقل من أن تنفذيها إلي لتود عني.
فأنفذتها إليه، بعد أن أنفذ إليها جذرها لثلاثة أيام.
فلما انقضت الأيام الثلاثة، غصبها عليها، و غيبها عنها، فما يعرف لها خبر، و ادعى أنها هربت من داره.
و قال الجيران: إنه قتلها، و قال قوم: لا بل هي عنده، و قد أقامت سيدتها عليها المأتم، و جاءت، و صاحت على بابه، و سودت وجهها، فلم ينفعها شيء.
فلما سمع المعتضد، سجد شكراً لله تعالى، على انكشاف الأمر له، و بعث في الحال من كبس على الهاشمي، و أحضر المغنية، و أخرج اليد، و الرجل، إلى الهاشمي، فلما رآهما امتقع لونه، و أيقن بالهلاك، و اعترف.
فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاتها، من بيت المال، و صرفها. ثم حبس الهاشمي، فيقال: إنه قتله، و يقال: مات في الجنس .

مسرور السياف و الوزير جعفر البرمكي
أنبيت عن المؤيد بن محمد الطوسي، و غيره، عن أبي بكر أبي طاهر الأنصاري، عن ابي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني ، قال: حدثني جعفر بن قدامة ، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال: سمعت مسرور الأمير يحدث، قال: لما أمرني الرشيد بقتل جعفر ابن يحيى ، دخلت عليه، و عنده الأعمى المغني الطنبوري ، يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
فقلت له: في هذا و اله أتيتك، ثم أخذت بيده، فأقمته، و أمرت بضرب رقبته.
فقال الأعمى المغني: نشدتك الله، إلا ألحقتني به.
فقلت: و ما رغبتك في ذلك؟ فقال: إنه أغناني عن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده.
فقلت: استأمر أمير المؤمنين في ذلك.
فلما أتيت الرشيد، برأس جعفر، أخبرته بقصة الأعمى، فقال: هذا رجل فيخ مصطنع، فاضممه إليك، و أنكر إلى ما كان جعفر يجريه عليه، فأقمه له.
أبو يوسف القاضي و فتواه الحاسمة
حدثنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبي قال: كان عند الرشيد جارية من جواريه، و بحضرته عقد جوهر، فأخذ يقلبه، ففقده، فاتهمها، فسألها عن ذلك، فأنكرت.
فحلف بالطلاق و العتاق، و الحج، لتصدقنه، فأقامت على الإنكار، و هو متهم لها.

و خاف أ، يكون قد حنث في يمينه، فاستدعى أبا يوسف ، و قص عليه القصة.
فقال أبو يوسف: تخليني مع الجارية، و خادماً معنا، حتى أخرجك من يمينك، ففعل ذلك.
فقال لها أبو يوسف: إذا سألك أمير المؤمنين، عن العقد، فأنكريه، فإذا أعاد عليك السؤال، فقولي: قد أخذته، فإذا أعاد عليك الثالثة، فأنكري.
و خرج فقال للخادم: لا تقل لأمير المؤمنين ما جرى.
و قال للرشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد، فإنها تصدقك.
فدخل الرشيد، فسألها، فأنكرت أول مرة.
و سألها الثانية، فقالت: نعم، قد أخذته.
فقال: أي شيء تقولين؟ فقالت: و الله، ما أخذته، و لكن هكذا قال لي أبو يوسف.
فخرج إليه، فقال له: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد خرجت من يمينك، لأنها أخبرتك، أنها قد أخذته، و أخبرتك أنها لم تأخذه، فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين، و قد خرجت أنت من يمينك.
فسر، و وصل أبا يوسف.
فلما كان بعده مدة، و جد العقد .

علي الزراد يتوصل إلى رد فضائل قريش عليها
قال المحسن بن علي التنوخي، عن أبيه، قال: حججت في موسم اثنين و أربعين ، فرأيت مالاً عظيماً، و ثياباً كثيرة، تفرق في المسجد الحرام.
فقلت: ما هذا؟ فقالوا: بخراسان رجل صالح، عظيم النعمة و المال، يقال له: علي الزراد، أنفذ عام أول مالاً و ثياباً إلى ههنا، مع ثقة له، و أمره أن يعتبر قريشاً، فمن وجده منها حافظاً للقرآن، دفع إليه كذا و كذا ثوباً.
قال: فحضر الرجل، عام أول، فلم يجد في قريش، البته، أحداً يحفظ القرآن، إلا رجلاً واحداً من بني هاشم، فأعطاه قسطه.
و تحدث الناس بالحديث، ورد باقي المال إلى صاحبه.
فلما كان في هذه السنة، عاد بالمال و الثياب، فوجد خلقاً عظيماً، من جميع بطون قريش، قد حفظوا القرآن، و تسابقوا إلى تلاوته بحضرته، و اخذوا الثياب و الدراهم، حتى نفذت، و بقي منهم من لم يأخذ، و هم يطالبونه.
قال: فقلت: لقد توصل هذا الرجل، إلى رد فضائل قريش عليها، بما يشكره الله سبحانه له.
ابن أبي الطيب القلانسي تنعكس حيلته عليه
عن علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا جماعة من أهل جند يسابور، فيها، كتاب و تجار، و غير ذلك، أنه كان عندهم في سنة نيف و أربعين و ثلثمائة ، شاب من كتاب النصارى، و هو ابن أبي الطيب القلانسي.
فخرج إلى بعض شأنه في الرستاق ، فأخذته الأكراد، و عذبوه، و طالبوه بأن يشتري نفسه منهم، فلم يفعل.
و كتب إلى أهله، أنفذوا لي أربعة دراهم أفيون ، و اعلموا أني أشربها فتلحقني سكته، فلا يشك الأكراد أني قد مت، فيحملوني إليكم، فإذا حصلت عندكم، فأدخلوني الحمام، و اضربوني، ليحمي بدني و سوكوني بالإيارج ، فإني أفيق.
و كان الفتى متخلفاً، و قد سمع أنه من شرب أفيوناً أسكت، فإذا أدخل الحمام، و ضرب، و سوك بالإيارج، برئ، فلم يعلم مقدار الشربة من ذلك، فشرب أربعة دراهم، فلم يشك الأكراد في موته، فلفوه في شيء و أنفذوه إلى أهله.
فلما حصل عندهم، أدخلوه الحمام، و ضربوه، و سوكوه، فما تحرك، و أقام في الحمام أياماً.
و رآه أهل الطب، فقالوا: هذا قد تلف، كم شرب أفيوناً؟ قالوا: وزن أربعة دراهم.
فقالوا لهم: هذا شوي في جهنم ما عاش، إنما يجوز أن يفعل هذا بمن شرب أربعة دوانيق أفيوناً أو وزن درهم أو حواليه، فأما هذا، فقد مات.
فلم يقبل أهله ذلك، فتركوه في الحمام، حتى أراح ، و تغير، فدفنوه، و انعكست الحيلة على نفسه.
بلال بن أبي بردة يبحث عن حتفه بكفه
قال المحسن: و قد روي قديماً مثل هذا: أن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كان في حبس الحجاج ، و كان يعذبه.
و كان كل من مات في الحبس، رفع خبره إلى الحجاج، فيأمر بإخراجه و تسليمه إلى أهله.
فقال بلال للسجان: خذ مني عشرة آلاف درهم، و أخرج اسمي إلى الحجاج في الموتى، فإذا آمرك بتسليمي إلى أهلي، هربت في الأرض، فلم يعرف الحجاج خبري، و إن شئت أن تهرب معي، فافعل، و علي غناك أبداً.
فأخذ السجان المال، و رفع اسمه في الموتى، فقال الحجاج: مثل هذا، لا يجوز أن يخرج إلى أهله حتى أراه، هاته. فعاد إلى بلال، فقال: أعهد ، قال: و ما الخبر؟

قال: إن الحجاج قال: كيت و كيت، فإن لم أحضرك إليه ميتاً، قتلني، و علم أني أردت الحيلة عليه، و لا بد أن أقتلك خنقاً.
فبكى بلال، و سأله أن لا يفعل، فلم يكن إلى ذلك طريق، فأوصى و صلى، فأخذه السجان، و خنقه، و أخرجه إلى الحجاج ميتاً.
فلما رآه ميتاً، قال: سلمه إلى أهله.
فأخذوه، و قد اشترى القتل لنفسه بعشرة آلاف درهم، و رجعت الحيلة عليه .

دخلت باب الهوى
أنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن العباس الإخباري ، قال: أنشدنا نصر بن أحمد الخباز البصري لنفسه:
لما جفاني من كان لي أنساً ... أنست شوقاً بعض أسبابه
كمثل يعقوب بعد يوسف إذ ح ... ن إلى بعض أثوابه
دخلت باب الهوى و لي بصر ... و في خروجي عميت عن بابه
طفيلي لا ينشط إلا عند نهيأة الطعام
قال علي بن المحسن بن علي القاضي، عن أبيه، قال: صحب طفيلي، رجلاً في سفر، فقال له الرجل: امض فاشتر لنا لحماً.
قال: لا و الله، ما اقدر، فمضى هو فاشترى.
ثم قال له: قم فاطبخ.
قال: لا أحسن، فطبخ الرجل.
ثم قال له: قم فاثرد.
قال: أنا و الله كسلان، فثرد الرجل.
ثم قال له: قم و اغرف.
قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي، فغرف الرجل.
ثم قال له: قم الآن، فكل.
قال الطفيلي: قد و الله استحييت من كثرة خلافي لك.
و تقدم فأكل .
كيف استعاد التمار أمواله
أنبأنا محمد بن عبد الباقي ، قال: أخبرنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد الصروي ، قال: حدثني ابن الدنانير التمار، قال: حدثني غلام لي قال: كنت ناقداً بالأبلة ، لرجل تاجر، فاقتضيت له من البصرة نحو خمسمائة دينار، و ورقاً ، و لففتهما في فوطة، و أمسيت، و لم يمكنني المسير إلى الأبلة.
فما زلت أطلب ملاحاً فلا أجد، إلى أن رأيت ملاحاً مجتازاً في خيطتة خفيفة فارغة، فسألته أن يحملني.
فخفف علي الأجرة، و قال: أنا راجع إلى منزلي بالأبلة، فانزل.
فنزلت، و جعلت الفوطة بين يدي، و سرنا.
فإذا رجل ضرير على الشط، يقرأ أحسن قراءة تكون، فلما رآه الملاح كبر، فصاح هو بالملاح، احملني، فقد جنني الليل، و أخاف على نفسي، فشتمه الملاح.
فقلت له: احمله.
فدخل إلى الشط فحمله، فرجع إلى قراءته، فخلب عقلي بطيبها.
فلما قربنا من الأبلة، قطع القراءة، و قام ليخرج في بعض المشارع بالأبلة، فلم أر الفوطة.
فاضطربت، و صحت، و استغاث الملاح، و قال: الساعة تنقلب الخيطية، و خاطبني خطاب من لا يعلم حالي.
فقلت: يا هذا، كانت بين يدي فوطة فيها خمسمائة دينار.
فلما سمع الملاح ذلك، لطم، و بكى، و تعرى من ثيابه، و قال: لم أدخل الشط، و لا لي موضع أخبئ فيه شيئاً فتتهمني بسرقته، و لي أطفال، و أنا ضعيف، فالله، الله، في أمري، و فعل الضرير مثل ذلك.
و فتشت السميرية، فلم أجد فيها شيئاً، فرحمتهما، و قلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها.
و خرجنا، فعملت على الهرب، و أخذ كل واحد منا طريقاً، و بت في بيتي، و لم أمض إلى صاحبي.
فلما أصبحت، عملت على الرجوع إلى البصرة، لأستخفي بها أياماً ثن أخرج إلى بلد شاسع.
فانحدرت، و خرجت في مشرعة بالبصرة، و أنا أمشي، و أتعثر، و أبكي، قلقاً على فراق أهلي و ولدي، و ذهاب معيشتي و جاهي.
فاعترضني رجل، فقال: ما لك؟ فأخبرته.
فقال: أنا أرد عليك مالك.
فقلت: يا هذا، أنا في شغل عن طنزك بي.
قال: ما أقول إلا حقاً، امض إلى السجن ببني نمير ، و اشتر معك خبزاً كثيراً، و شواءً جيداً، و حلوى، و سل السجان أن يوصلك إلى رجل محبوس هناك، يقال له: أبو بكر النقاش، قل له: أنا زائره، فإنك لا تمنع، و إن منعت، فهب للسجان شيئاً يسيراً، يدخلك إليه.
فإذا رأيته، فسلم عليه، و لا تخاطبه، حتى تجعل بين يديه ما معك، فإذا أكل، و غسل يديه، فإنه يسألك عن حاجتك، فأخبره خبرك، فإنه سيدلك على من أخذ مالك، و يرتجعه لك.
ففعلت ذلك، و وصلت إلى الرجل، فإذا شيخ مكبل بالحديد، فسلمت، و طرحت ما معي بين يديه، فدعا رفقاء له، فأكلوا.
فلما غسل يديه، قال: من أنت، و ما حاجتك؟ فشرحت له قصتي.

فقال: امض الساعة إلى بني هلال، فادخل الدرب الفلاني، حتى تنتهي إلى آخره، فإنك تشاهد باباً شعثاً، فافتحه و ادخله، بلا استئذان، فتجد دهليزاً طويلاً، يؤدي إلى بابين، فادخل الأيمن منهما، فسيدخلك إلى دار فيها أوتاد و بواري، و كل وتد عليه إزار و مئزر، فانزع ثيابك، و ألقها على الوتد، و اتزر بالمئزر، و اتشح بالإزار، و اجلس، فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت، ثم يؤتون بطعام، فكل معهم، و تعمد موافقتهم، في سائر أفعالهم، فإذا أتي بالنبيذ، فاشرب، و خذ قدحاً كبيراً، و املأه، و قم قائماً، و قل: هذا، ساري لخالي أبي بكر النقاش، فسيفرحون، و يقولون: أهو خالك؟ فقل: نعم، فسيقومون، و يشربون لي، فإذا جلسوا، فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام، و يقول: يا فتيان، بحياتي، ردوا علي بن أختي المئزر الذي أخذتموه بالأمس من السفينة، بنهر الأبلة، فإنهم يردونه عليك.
فخرجت من عنده، فعلت ما أمر، فردت الفوطة بعينها، و ما حل شدها.
فلما حصلت لي، قلت: يا فتيان، هذا الذي فعلتموه معي، هو قضاء لحق خالي، و لي أنا حاجة تخصني.
قالوا: مقضية.
قلت: عرفوني، كيف أخذتم الفوطة؟ فامتنعوا ساعة، فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش.
فقال لي واحد منهم: أتعرفني؟ فتأملته جيداً، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ، و إنما كان متعامياً.
و أومأ إلى آخر، فقال: أتعرف هذا؟ فتأملته جيداً، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ، و إنما كان متعامياً.
و أومأ إلى آخر، فقال: أتعرف هذا؟ فتأملته، فإذا هو الملاح.
فقلت: كيف فعلتما؟ فقال الملاح: أنا أدور في المشارع، في أول أوقات المساء، و قد سبقت بهذا المتعامي، فأجلسته حيث رأيت، فإذا رأيت من معه شيء له قدر، ناديته، و أرخصت له الأجرة، و حملته.
فإذا بلغت إلى القارئ، و صاح بي، شتمته، حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة، فإن حمله الراكب، فذاك، و إلا رققته عليه حتى يحمله، فإذا حمله، و جلس يقرأ، ذهل الرجل، كما ذهلت.
فإذا بلغنا الموضع الفلاني، فإن فيه رجلاً متوقعاً لنا، يسبح، حتى يلاصق السفينة، و على رأسه قوصرة ، فلا يفطن الراكب له.
فيسلب هذا المتعامي الشيء بخفة فيسلمه إلى الرجل الذي عليه القوصرة، فيأخذه و يسبح إلى الشط.
و إذا أراد الراكب الصعود، و افتقد ما معه، عملنا كما رأيت، فلا يتهمنا، و نفترق، فإذا كان من غد اجتمعنا، و اقتسمناه.
فلما جئت برسالة أستاذنا، خالك، سلمنا إليك الفوطة.
قال: فأخذتها، و رجعت.

و ما ظالم إلا سيبلى بأظلم
أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أنبأنا الجوهري.
و أخبرني ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا ابن حيويه ، قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني لص تائب، قال: دخلت مدينة، فطلبت شيئاً أسرقه، فوقعت عيني على صير في موسر، فما زلت أحتال، حتى سرقت كيساً له، و انسللت.
فما جزت غير بعيد، إذ أنا بعجوز معها كلب، قد وقعت في صدري، تبوسني، و تلزمني، و تقول: يا بني، فديتك، و الكلب يبصبص، و يلوذ بي، و وقف الناس ينظرون إلينا.
و جعلت المرأة تقول: يالله، انظروا إلى الكلب، قد عرفه، فعجب الناس من ذلك، و تشككت أنا في نفسي، و قلت: لعلها أرضعتني، و أنا لا أعرفها؟ و قالت: معي إلى البيت، أقم عندي اليوم، فلم تفارقني حتى مضيت معها إلى بيتها.
و إذا عندها أحداث يشربون، و بين أيديهم من جميع الفواكه و الرياحين، فرحبوا بي، و قربوني، و أجلسوني معهم.
و رأيت لهم بزة حسنة، فوضعت عيني عليها، فجعلت أسقيهم و أرفق بنفسي، إلى أن ناموا، و نام كل من الدار.
فقمت و كورت ما عندهم، و ذهبت أخرج.
فوثب علي الكلب وثبة الأسد، و صاح، و جعل يتراجع و ينبح، إلى أن انتبه كل نائم، فخجلت، و استحييت.
فلما كان النهار، فعلوا مثل فعلهم بالأمس، و فعلت أنا بهم أيضاً مثل ذلك، و جعلت أوقع الليلة في أمر الكلب إلى الليل، فما أمكنتني فيه حيلة.
فلما ناموا، رمت الذي رمته، فإذا الكلب قد عارضني بمثل ما عارضني به.
فجعلت احتال، ثلاث ليال، فلما أيست، طلبت الخلاص منهم بإذنهم، فقلت: أتأذنون لي، فإني على وفز .
فقالوا: الأمر إلى العجوز.

فاستأذنتها، فقالت: هات الذي أخذته من الصيرفي، و امض حيث شئت، و لا تقم في هذه المدينة، فإنه لا يتهيأ لأحد فيها معي عمل.
فأخذت الكيس و أخرجتني، و وجدت مناي أن أسلم من يدها.
و كان قصاراي أن أطلب منها نفقة، فدفعت إليّ، و خرجت معي، حتى أخرجتني عن المدينة، و الكلب معها، حتى جزت حدود المدينة.
و وقفت، و مضيت، و الكلب يتبعني، حتى بعدت، ثم تراجع ينظر إليّ، و يلتفت، و أنا أنظر إليه، حتى غاب عن عيني.
صادف درء السيل درءاً يصدعه
أنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني عبيد الله بن محمد الصروي ، قال: حدثنا بعض إخواننا: أنه كان ببغداد، رجل يطلب التلصص في حداثته، ثم تاب، فصار بزازاً.
قال: فانصرف ليلة من دكانه، و قد غلقه، فجاء لص محتال، متزي بزي صاحب الدكان، في كمه شمعة صغيرة، و مفاتيح، فصاح بالحارس، فأعطاه الشمعة في الظلمة، و قال: أشعلها، و جئني بها، فإن لي الليلة بدكاني شغلاً.
فمضى الحارس يشعل الشمعة، و ركب اللص على الأقفال، ففتحها و دخل الدكان.
و جاء الحارس بالشمعة، فأخذها من يده، فجعلها بين يديه، و فتح سقط الحساب، و اخرج ما فيه، و جعل ينظر الدفاتر، و يري بيده، انه يحسب، و الحارس يتردد، و يطالعه، و لا يشك في أنه صاحب الدكان، إلى أن قارب السحر.
فاستدعى اللص الحارس، و كلمه من بعيد، و قال: اطلب لي حمالاً.
فجاء بحمال، فحمل عليه أربع رزم مثمنة، و قفل الدكان، و انصرف، و معه الحمال، و أعطى الحارس درهمين.
فلما أصبح الناس، جاء صاحب الدكان، ليفتح دكانه، فقام إليه الحارس يدعو له، و يقول: فعل الله بك و صنع، كما أعطيتني البارحة الدرهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه، و فتح دكانه، فوجد سيلان الشمعة، و حسابه مطروحاً، و فقد الأربع رزم.
فاستدعى الحارس، و قال له: من كان حمل الرزم معي من دكاني؟ قال: أما استدعيت مني حمالاً، فجئتك به؟ قال: بلى، و لكني كنت ناعساً، و أريد الحمال، فجئني به.
فمضى الحارس، فجاء بالحمال، فأغلق الرجل الدكان، و اخذ معه الحمال و مضى.
و قال له: إلى أين حملت الرزم معي البارحة، فإني كنت متنبذاً ؟ قال: إلى المشرعة الفلانية، و استدعيت لك فلاناً الملاح، فركبت معه.
فقصد الرجل المشرعة، و سأل عن الملاح، فحضر، و ركب معه، و قال: أين رقيت أخي، الذي كان معه الأربع رزم؟ قال: إلى المشرعة الفلانية.
قال: اطرحني إليها، فطرحه.
قال: من حملها معه؟ قال: فلان الحمال.
فدعا به، فقال له: امش بين يدي، فمشى، فأعطاه شيئاً، و استدله برفق، إلى الموضع الذي حمل إليه الرزم.
فجاء به إلى باب غرفة، في موضع بعيد عن الشط، قريب من الصحراء فوجد الباب مقفلاً، فاستوقف الحمال، و فش القفل، و دخل، فوجد الرزم بحالها.
و إذا في البيت بركان معلق على حبل، فلف به الرزم، و دعا بالحمال، فحملها عليه، و قصد المشرعة.
فحين خرج من الغرفة، استقبله اللص، فرآه و ما معه، فأبلس، فاتبعه إلى الشط، فجاء إلى المشرعة، و دعا الملاح ليعبر، فطلب الملاح من يحط عنه، فجاء اللص، فحط الكساء، كأنه مجتاز متطوع.
فأدخل الرزم إلى السفينة، مع صاحبها، و جعل البركان على كتفه، و قال له: يا أخي استودعك الله، قد استرجعت رزمك، فدع كسائي.
فضحك، و قال: انزل فلا خوف عليك.
فنزل معه، و استتابه، و وهب له شيئاً، و صرفه، و لم يسئ إليه.

كلب يقوم مقام الفيج
حدثني أبو عبد الله، قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسين بن شداد، قال: قصدت دير مخارق إلى عبد الله بن الطبري النصراني، الذي كان يأتي بالنزل للمعتضد بالله، فسألته إحضار وكيل له، يقال له إبراهيم بن داران، و طالبته بإحضار الأدلاء لمسامحة قرية تعرف بباصيري السفلى.
فقال لي: يا سيدي قد وجهت في ذلك.
فقلت له: أنا على الطريق جالس، و ما اجتاز بي أحد.
فقال لي: أما رأيت الكلب الذي كان بين أيدينا؟ قد وجهت به.
فغلظ علي ذلك من قوله، و نلت من عرضه، و أمرت بما أنا أستغفر الله عز وجل منه.
فقال: إن لم يحضر القوم الساعة، فأنت من دمي في حل.
فما مكث بعد هذا القول إلا ساعة، حتى وافى القوم مسرعين، و الكلب بين أيديهم.
فسألته: كيف تحمله الرسالة؟

فقال: أشد في عنقه رقعة بما أحتاج إليه، و أطرحه على المحجة، فيقصد القوم، و قد عرفوا الخبر، فيقرأون الرقعة، فيمتثلون ما فيها.

من حيل اللصوص
أنبأنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، أن رجلاً نام في مسجد، و تحت رأسه كيس فيه ألف و خمسمائة دينار.
قال: فما شعرت إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي، فانتبهت فزعاً، فإذا شاب قد اخذ الكيس و مر يعدو.
فقمت لأعدو خلفه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب، في وتد مضروب في آخر المسجد .
ابن الخياطة يسرق و هو في الحبس
أنبأنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن محمد البصري، قال: حدثني أبي، قال: كان بالبصرة رجل من اللصوص، يلص بالليل، فاره جداً، مقدام، يقال له: عباس بن الخياطة، قد غلب الأمراء، و أشجى أهل البلد.
فلم يزالوا يحتالون عليه، إلى أن وقع، و كبل بمائة رطل حديد، و حبس. فلما كان بعد سنة من حبسه و أكثر، دخل قوم بالأبلة على رجل تاجر كان عنده جوهر بعشرات ألوف دنانير، و كان متيقظاً جلداً.
فجاء إلى البصرة يتظلم، و أعانه خلق من التجار، و قال للأمير: أنت دسست على جوهري، و ما خصمي سواك.
فورد عليه أمر عظيم، و خلا بالبوابين، و توعدهم، فاستنظروه، فأنظرهم، و طلبوا، و اجتهدوا، فما عرفوا فاعل ذلك، فعنفهم الرجل، فاستجابوا مدة أخرى.
فجاء أحد البوابين إلى الحبس، فتخادم لابن الخياطة، و لزمه نحو شهر، و تذلل له في الحبس.
فقال له: قد وجب حقك عليّ فما حاجتك؟ قال: جوهر فلان، المأخوذ بالأبلة، لا بد أن يكون عندك منه خبر، فإن دماءنا مرتهنة به، و حدثه بالحديث.
فرفع ذيله، و إذا سقط الجوهر تحته، فسلمه إليه، و قال: قد وهبته لك. فاستعظم ذلك، و جاء بالسفط إلى الأمير، فسأله عن القصة، فأخبره بها. فقال: علي بعباس، فجاءوا به.
فأمر بالإفراج عنه، و إزالة قيوده، و إدخاله الحمام، و خلع عليه، و أجلسه في مجلسه مكرماً، و استدعى الطعام، فواكله، و بيته عنده.
فلما كان في الغد، خلابه، و قال: أنا أعلم أنك لو ضربت مائة ألف سوط، ما أقررت كيف كانت صورة أخذ الجوهر، و قد عاملتك بالجميل، ليجب حقي عليك، من طريق الفتوة، و أريد أن تصدقني حديث هذا الجوهر.
قال: على أنني و من عاونني عليه آمنون، و أنك لا تطالبنا بالذين أخذوه. قال: نعم. فاستخلفه، فخلف.
فقال له: إن جماعة اللصوص، جاءوني إلى الحبس، و ذكروا حال هذا الجوهر، و أن دار هذا التاجر لا يجوز أن يتطرق عليها نقب و لا تسلق، و عليها باب حديد، و الرجل متيقظ، و قد راعوا سنة، فما أمكنهم، و سألوني مساعدتهم.
فدفعت إلى السجان مائة دينار، و حلفت له الشطارة، و الأيمان الغليظة، أنه إن أطلقني عدت إليه في غد، و أنه إن لم يفعل ذلك، اغتلته، فقتلته في الحبس.
فأطلقني، فنزعت الحديد، و تركت الحبس، و خرجت وقت المغرب فوصلنا إلى الأبلة، وقت العتمة، و خرجنا إلى دار الرجل، فإذا هو في المسجد و بابه مغلق.
فقلت لأحدهم: تصدق من الباب، فتصدق.
فلما جاءوا ليفتحوا، قلت له: اختف، ففعل ذلك مرات، و الجارية تخرج، فإذا لم تر أحداً عادت.
إلى أن خرجت من الباب، و مشت خطوات، تطلب السائل، فتشاغلت بدفع الصدقة إليه، فدخلت أنا إلى الدار.
فإذا في الدهليز بيت فيه حمار، فدخلته، و وقفت تحت الحمار، و طرحت الجل علي و عليه.
و جاء الرجل، فغلق الأبواب، و فتش ، ونام على سرير عال، و الجوهر تحته.
فلما انتصف الليل، قمت إلى شاة في الدار، فعركت أذنها، فصاحت.
فقال: ويلك، أقول لك افتقديها.
قالت: قد فعلت.
قال: كذبت، و قام بنفسه ليطرح لها علفاً.
فجلست مكانه على السرير، و فتحت الخزانة، و أخذت السفط، و عدت إلى موضعي، و عاد الرجل فنام.
فاجتهدت أن أجد حيلة، و أن أنقب إلى دار بعض الجيران، فأخرج، فما قدرت، لأن جميع الدار، مؤزرة بالساج.
و رمت صعود السطح، فما قدرت، لأن الممارق مقفلة بثلاثة أقفال.
فعملت على ذبح الرجل، ثم استقبحت ذلك، و قلت هذا بين يدي، إن لم أجد حيلة غيره.
فلما كان السحر، عدت إلى موضعي تحت الحمار.

و انتبه الرجل يريد الخروج، فقال للجارية، افتحي الأقفال من الباب، و دعيه متربساً ، ففعلت، و قربت ن الحمار، فرفس، فصاحت.
فخرجت أنا، ففتحت المترس ، و خرجت أعدو، حتى جئت إلى المشرعة، فنزلت في الخيطية.
و وقعت الصيحة في دار الرجل.
فطالبني أصحابي أن أعطيهم شيئاً منها، فقلت: لا، هذه قصة عظيمة و أخاف أن يتنبه عليها، و لكن دعوها عندي، فإن مضى على الحدث ثلاثة أشهر ، و انكتم، فصيروا إليّ، أعطيكم النصف، و إن ظهر، خفت عليكم و على نفسي، و جعلته حقناً لدمائكم، فرضوا بذلك.
فأرسل الله هذا البواب، بلية، فخدمني، فاستحييت منه، و خفت أن يقتل، هو و أصحابه، و قد كنت وضعت في نفسي الصبر على كل عذاب، فدخلتم علي من طريق أخرى، لم أستحسن في الفتوة، معها، إلا الصدق. فقال له الأمير: جزاء هذا الفعل، أن أطلقك، و لكن تتوب.
فتاب، و جعله الأمير من بعض أصحابه، و أسنى له الرزق، فاستقامت طريقته.

ابن الخياطة يتسلل إلى الصيرفي من بين حراسه
قال أبو الحسين ، و حدثني أبي، عن طالوت بن عباد الصيرفي، قال: كنت ليلة نائماً بالبصرة، في فراشي، و أحراسي يحرسونني، و أبوابي مقفلة، فإذا أنا بابن الخياطة ينبهني من فراشي، فانتبهت فزعاً.
فقلت: من أنت؟ فقال: ابن الخياطة، فتلفت.
فقال: لا تجزع، قد قمرت الساعة خمسمائة دينار، أقرضني إياها، لأردها عليك.
فأخرجت خمسمائة دينار، فدفعتها إليه.
فقال: نم، و لا تتبعني، لأخرج من حيث جئت، و إلا قتلتك.
قال: و أنا و الله أسمع صوت حراسي، و لا أدري من أين دخل، و من أين خرج.
و كتمت الحديث، خوفاً منه، و زدت في الحرس.
و مضت ليال فإذا أنا به قد أنبهني، على تلك الصورة، فقلت: مرحباً، ما تريد؟ قال: جئت بتلك الدنانير، تأخذها مني.
قلت: أنت في حل منها، و إن أردت شيئاً آخر فخذ.
فقال: لا أريد، من نصح التجار شاركهم في أموالهم، و لو كنت أردت مالك باللصوصية، فعلت، و لكنك رئيس بلدك، و لا أريد أذيتك، فإذ ذلك يخرج عن الفتوة ، و لكن خذها، و إن احتجت إلى شيء بعد هذا، أخذت منك.
فقلت: إن عودك يفزعني، و لكن، إذا أردت شيئاً، فتعال إليّ نهاراً، أو رسولك.
فقال: أفعل.
فأخذت الدنانير منه، و انصرف، و كان رسوله يجيئني بعلامة، بعد ذلك، فيأخذ ما يريده.
فما انكسر لي عنده شيء، إلى أن قبض عليه.
البلاء موكل بالمنطق
أخبرنا أبو القاسم الأزهري، و علي بن علي البصري ، قالا: أنشدنا أحمد بن منصور الوراق ، قال: أنشدنا نصر الخبز أرزي ، لنفسه:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... و كل امرئ ما بين فكيه مقتل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره ... فذاك لسان بالبلاء موكل
و كم فاتح أبواب شر لنفسه ... إذا لم يكن قفل على فيه مقفل
كذا من رمى يوماً شرارات لفظه ... تلقته نيران الجوابات تشعل
و من لم يقيد لفظه متجملاً ... سيطلق فيه كل ما ليس يجمل
و من لم يكن فيه ماء صيانة ... فمن وجهه غصن المهابة يذبل
فلا تحسبن الفضل في الحلم وحده ... بل الجهل في بعض الأحايين أفضل
و من ينتصر ممن بغى فهو ما بغى ... و شر المسيئين الذي هو أول
و قد أوجب الله القصاص بعدله ... و لله حكم في العقوبات منزل
فإن كان قول قد أصاب مقاتلاً ... فإن جواب القول أدهى و أقتل
و قد قيل في حفظ اللسان و خزنه ... مسائل من كل الفضائل أكمل
و من لم تقربه سلامة غيبه ... فقربانه في الوجه لا يتقبل
و من يتخذ سوء التخلف عادة ... فليس عليه في عتاب معول
و من كثرت منه الوقيعة طالباً ... بها غرة فهو المهين المذلل
و عدل مكافاة المسيء بفعله ... فماذا على من في القضية يعدل
و لا فضل في الحسى إلى من يحسها ... بلى عند من يزكو لديه التفضل
و من جعل التعريض محصول مزحه ... فذاك علىالمقت المصرح يحصل

و من أمن الآفات عجباً برأيه ... أحاطت به الآفات من حيث يجهل
أعلمكم ما علمتني تجاربي ... و قد قال قبلي قائل متمثل:
إذا قلت قولاً كنت رهن جوابه ... فحاذر جواب السوء إن كنت تعقل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلماً ... فدبر و ميز ما تقول و تفعل
بغدادية تقعد جنينها فقاعياً على باب الجنة
قال المحسن: حدثني أبو محمد بن داسه ، أنه سمع امرأة تخاصمت مع زوجها.
فقالت له: طلقني.
فقال لها: أنت حبلى، حتى إذا ولدت طلقتك.
قالت: ما عليك منه.
قال: فأيش تعملين به؟.
قالت: أقعده على باب الجنة فقاعي .
فقلت لعجوز كانت تتوسط بينهما: أيش معنى هذا؟ قالت: تريد أنها تشرب ماء السداب ، و تتحمل سداباً عليه أدوية، لتسقط، فيلحق الصبي بالجنة، فيكون كالفقاعي.

لأبي علي القرمطي في وصف شمعة
أنبأني الشيخان: الأجل العلامة تاج الدين الكندي، و الفقيه جمال الدين ابن الحرستاني، إجازة، قالا: أخبرنا الإمام الحافظ، أبو القاسم بن عساكر الدمشقي ، سماعاً عليه، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، عن أبي القاسم التنوخي، قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عثمان الخرقي، الفارقي، الحنبلي، التميمي، قال: كنت بالرملة، سنة ثلثمائة و خمس و ستين، و قد ورد إليها القرمطي، أبو علي ، القصير الثياب، فاستدناني منه، و قربني إلى خدمته.
فكنت ليلة عنده، إذ حضر الفراشون بالشموع، فقال لأبي نصر بن كشاجم و كان كاتبه : يا با نصر، ما يحضرك في صفة هذه الشموع؟ فقال: إنما نحضر مجلس السيد، لنسمع كلامه، و نستفيد من أدبه. فقال أبو علي، في الحال، بديهاً:
و مجدولة مثل صدر الفتاة ... تعرت و باطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... و تاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
و إن رنقت لنعاس عرا ... و قطت من الرأس لم تنعس
و تنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلي دجى الحندس
فنحن من النور في أسعد ... و تلك من النار في أنحس
تكيد الظلام و ما كادها ... فتفنى و تفنيه في مجلس
فقام أبو نصر بن كشاجم، و قبل الأرض بين يديه، و سأله أن يأذن له، في إجازة الأبيات، فأذن له، فقال:
و ليلتنا هذه ليلة ... تشاكل أشكال أقليدس
فيا ربة العود غني لنا ... و يا حامل الكأس لا تجلس
فتقدم بأن يخلع عليه، و حملت إليه صلة سنية، و إلى كل من الحاضرين.
فليت الأرض كانت مادرايا
ذكر أبو علي التنوخي، في كتاب نشوار لمحاضرة، قال: حدثني محمد بن الحسن البصري، قال: حدثني الهمداني الشاعر، قال: قصدت ابن الشلمغاني في مادرايا ، فأنشدته قصيدة قد مدحته بها، و تأنقت فيها، و جودتها، فلم يحفل بها.
فكنت أغاديه كل يوم، و أحضر مجلسه، حتى يتقوض الناس، فلا أرى للثواب طريقاً.
فحضرته يوماً، و قد احتشد مجلسه، فقام شاعر، فأنشد نونية، إلى أن بلغ فيها إلى بيت، و هو:
فليت الأرض كانت مادرايا ... و ليت الناس آل الشلمغاني
فعن لي في الوقت هذا البيت، فقمت، و قلت مسرعاً:
إذا كانت بطون الأرض كنفاً ... و كل الناس أولاد الزواني
فضحك، و أمرني بالجلوس، و قال: نحن أحوجناك إلى هذا، و أمر لي بجائزة سنية.
فأخذتها و انصرفت.
لأبي الفرج الببغاء
في وصف قدح ياقوت أزرق و اخبرني الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي، قال: أخبرني الإمام الحافظ السلفي الأصبهاني رحمه الله تعالى، قال: أخبرني الرئيس أبو سعد محمد بن عقيل بن عبد الواحد الدسكري ، في سنة ست و تسعين و أربعمائة، قال: حدثني القاضي التنوخي، قال: أصعد أبو الفرج الببغاء ، إلى سيف الدولة بن حمدان ، هو و جماعة من الشعراء الكبار، يمتدحونه، فأخرج يوماً خازنه قدحاً من ياقوت ازرق، فملاه ماء، و تركه يتشعشع.
فقال له أبو الفرج: يا مولانا، ما رأيت أحسن من هذا.
فقال: قل فيه شيئاً، و هو لك.
فقال أبو الفرج في الحال:

كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل و ضم معتنق
و كم صباح للراح أسلمني ... من فلق ساطع إلى فلق
فعاطنيها بكراً مشعشعة ... كأنها في صفائها خلقي
في أزرق كالهواء يخرقه الل ... حظ و إن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً و لطفاً في زرقة الحدق
ما زلت منه منادماً كعباً ... مذ أسكرتها المدام لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر و بعد المزاج في شفق
أدهشها سكرنا فإن يكن ال ... صمت حديثاً فذاك عن فرق
تغرق في أبحر المدام فيستن ... قذها شربنا من الغرق
و نحن باللهو بين مصطبح ... من لونها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
فاستحسنها سيف الدولة، و أعطاه إياه.

و من كان فوق الدهر لا يحمد الدهرا
ذكر القاضي أبو علي التنوخي، في كتاب النشوار، قال: أنشدني أبو القاسم عبيد الله بن محمد الصروي ، لنفسه، بالأهواز ، يقول:
إذا حمد الناس الزمان ذممته ... و من كان فوق الدهر لا يحمد الهرا
و زعم أنه حاول أن يضيف إليه شيئاً، فتعذر عليه مدة طويلة، و ضجر منه، و تركه مفرداً.
و كان عندي أبو القاسم المصيصي المؤدب، فسمع القول، فعمل في الحال، إجازة له، و أنشدها لنفسه:
و إن أوسعتني النائبات مكارهاً ... ثبت و لم أجزع و أوسعتها صبراً
إذا ليل خطب سد طرق مذاهبي ... لجأت إلى عزمي فأطلع لي فجراً
أبو الفرج الببغاء يصف بركة ملئت وردا
ً
قال : و كنت أنا و أبو الفرج الببغاء ، نشاهد بركة ملئت، و جعل فوقها ورد، و بهار ، و شقائق ، حتى غطى أكثر الماء.
و حضر أبو علي الهائم ، فسأل أبا الفرج أن يعمل في ذلك شيئاً، فعمل بحضرتنا، و أنشد:
خجل الورد من جوار البهار ... فمشى باحمراره في اصفرار
و حكى الماء فيهما أحمر الياقو ... ت حسناً مرصعاً بنظار
جمعاً بالكمال في بركة تم ... تع حسناً نواظر الحضار
أضرم الماء بالشقيق بها النا ... ر و عهدي بالماء ضد النار
فوجدنا أخلاق سيدنا الزهر ... ذكاء تربى على الأزهار
ظلت منه و من نداماه للأن ... س نديم الشموس و الأقمار
القاضي التنوخي يهدي إلى جحظة
البرمكي طيلسانا
ً
قال : أهدى إلي أبو القاسم التنوخي القاضي ، رضي الله عنه، طيلساناً فكتبت إليه:
قد أتى الطيلسان مستوعباً شك ... ري في حسن منظر و رواء
مثقلاً عاتقي و إن كان في الخف ... ة و اللطف في قياس الهواء
تسرح العين منه و القلب في الآ ... ل، و في الماء، و السنا، و البهاء
يتلقى حر الصدود ببرد ال ... وصل و الصيف في طباع الشتاء
يخفق الدهر في النسيم كما يخ ... فق قلب الجبان في الهجاء
كل جزء منه يمج إلى الأر ... واح روح المنى و برد الوفاء
ليس فيه للنار و الأرض حظ ... هو من جوهري هواء و ماء
زاد في همتي و نفسي و تأ ... ميلي علواً و زاد في كبريائي
فكأني إذا تبخترت فيه ... قد تطيلست نصف بدر السماء
من شعر السري الرفاء
و ذكر : أن السري الرفاء ، دخل على أبي الحسن، باروخ بن عبد الله، صاحب ناصر الدولة بن حمدان ، و بين يديه ستارة، تستر من يجلس برسم الغناء.
فأمره أن يصنع ما يكتب عليها، فصنع بديهاً:
تبين لي سبق الأمير إلى العلا ... و ما زال سباقاً إلى الفضل منعما
فصيرتي بين القيان إذا شدت ... و بين نداماه حجاباً مكرماً
لأظهر من حسن الغناء محللاً ... و أستر من حسن الوجوه محرماً

الوزير المهلبي يمتدح غناء الرقية
زوجة أبي علي الحسن بن هارون الكاتب قال : و حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم ، قال: حدثني أبي : قال: كنا في دعوة أبي علي، الحسن بن هارون الكاتب ، و حضر فيها الوزير، أبو محمد، الحسن بن محمد المهلبي ، و هو إذ ذاك، يخلف أبا جعفر الصيمري على الأمر ببغداد.
فغنت الرقية، زوج أبي علي، صوتاً من وراء الستارة، أحسنت فيه، فأخذ المهلبي الدواة، فكتب في الحال على البديهة، و أنشدنا لنفسه:
ذات غنى في الغناء من نغم ... تنفق في الصوت منه إسرافاً
كأنها فارس على فرس ... ينظر في الجري منه أعطافاً
نصر الخبز أرزي و حريق المربد
و روي : ا، نصر بن أحمد الخبز أرزي ، دخل على أبي الحسين بن المثنى ، في أثر حريق المربد .
فقال له أبو الحسين: يا أبا القاسم، ما قلت في حريق المربد؟ قال: ما قلت شيئاً.
فقال له: هل يحسن بك، و أنت شاعر البصرة، و المربد من أجل شوارعها، و سوقه من أجل أسواقها، و لا تقول فيه شيئاً؟ .
فقال: ما قلت، و لكني أنشدك ارتجالاً:
أتتكم شهود الهوى تشهد ... فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مربديون ناشدتكم ... على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صعداً بينكم ... فأحرق من ذلك المربد
و هاجت رياح حنيني لكم ... فظلت بها ناره توقد
و لولا جرت أدمعي لم يكن ... حريقكم أبداً يخمد
بين ابن لنكك، و أبي رياش القيسي
قال : و أخبرني من حضر ملس أبي محمد المافروخي ، عامل البصرة، و قد تناظرا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش ، كذا أخبرتني عمتي، أو جدتي، في البادية، عن العرب، و وجدتها تتكلم به.
فقال له أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر ، و كان حاضراً: اللغة لا تؤخذ عن البغيات.
فأمسك خجلاً.
و كان أبو محمد المافروخي، قد ولاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع ، و أحسن إليه، و اختاره عصبية منه للعلم و الأدب، فقال ابن لنكك:
أبو رياش ولي الرسما ... فكيف لا يصفع أو يعمى
يا رب جدي دف في خضرة ... ثم أتانا بقفا يدمى
من نظم القاضي
و أظرف ما يعرف في هذا المعنى، ما انشده القاضي التنوخي، لنفسه:
لم أنس شمس الضحى تطالعني ... و نحن في روضة على فرق
و جفن عيني بمائة شرق ... و قد بدت في معصفر شرق
كأنه دمعتي و وجنتها ... حين رمتنا العيون بالحدق
ثم تغطت بكمها خجلاً ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
حسبنا الله و نعم الوكيل
و أنبئت عنه، و عن غيره، قالوا: أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب، عن شجاع بن فارس الذهلي، قال: أنبأنا أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي إذناً، قال: حدثني القاضي علي بن المحسن التنوخي، و أنبئت، عن أبي أحمد بن سكينة، عن محمد بن عبد الباقي الزاز، عن علي ابن المحسن، قال: حدثتني صفية بنت عبد الصمد، من خدم القادر ، قالت: كنت في دار الأمير أبي العباس أحمد، يعني القادر بالله، يوم كبست ، بمن أنفذ الطائع له ، للقبض عليه، و قد جمع حريمه، في غداة هذا اليوم، و كنت معهم.
فقال لنا: رأيت في منامي، كأن رجلاً يقرأ علي: الذين قال لهم الناس، إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل ، و قد خفت أن يطلبني طالب، أو يحدث عليّ حادث.
و هو في حديثه، إذ شاهد أبا الحسن بن حاجب النعمان ، قد تقدم إلى درجة داره، فقال: إنا لله، هذا حضور مريب، يعقب هذا المنام.
و صعد، و معه أبو القاسم بن تمام، و العباسي الحاجب، و تبادرنا إلى وراء الأبواب، فلما رأينا أبا الحسن، قد علق بكمه، خرجنا إليه، و أخذناه من يده، و منعناه منه.
قال هلال: و انحدر متخفياً إلى البطيخة ، فأقام بها، عند مهذب الدولة إلى أن عقدت له الخلافة ، و أصعد.
فجعل علامته: حسبنا الله و نعم الوكيل.
أبو دهبل خرج للغزو فتزوج و أقام

أنبئت عن القاضي الأشرف، قال: أنبأنا أبو محمد الشهرستاني، و هو إسماعيل بن إبراهيم الصوفي، قال: أنبأنا أبو القاسم يحيى بن ثابت بن بندار البقال، قال: أنبأنا والدي ثابت، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله.
و كتب إلي من بغداد، الشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي، عن ابي أحمد الأميني.
و أجاز لي أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، و غيره، عن المؤيد ابن محمد الطوسي.
و أثبت عن جماعة غيره، عن أبي بكر بن أبي طاهر الأنصاري، عن أبي القاسم علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو بكر محمد ، قال: أنبأنا والدي عبد الرحيم بن أحمد بن إسحاق المازني، قال: أنبأنا مصعب بن عبد الله ، قال: حدثنا أبو قثم بن أبي عبد الله، قال: خرج أبو دهبل يريد الغزو، و كان رجلاً جميلاً، صالحاً، فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتاباً، فقالت: اقرأ لي هذا الكتاب.
فقرأه لها.
ثم ذهبت، فدخلت قصراً، ثم خرجت إليه، فقالت: لو بلغت إلى هذا القصر، فقرأت هذا الكتاب على امرأة فيه، كان لك فيه أجر إن شاء الله فإنه من غائب لها يعنيها أمره.
فبلغ معها القصر، فلما دخل، إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقت عليه باب القصر، و إذا امرأة جميلة، فدعته إلى نفسها، فأبى، فأمرت به، فحبس في بيت من القصر، و أطعم، و سقي، مكبلاً، حتى ضعف، و كاد يموت.
ثم دعته إلى نفسها، فقال: أما حراماً فلا يكون ذلك أبداً، و لكن أتزوجك.
قالت: نعم.
فأمرت به، فاحسن إليه، حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زماناً طويلاً، لا تدعه يخرج من القصر، حتى أيس منه أهله و ولده، و تزوج بنوه و بناته، و اقتسموا ماله، و أقامت زوجته تبكي عليه، و لم تقاسمهم ماله.
ثم إنه قال لامرأته: إنك قد أثمت في ، و ف يأهلي و ولدي، فأذن لي، أن أطلعهم، و أعود إليك.
فأخذت عليه إيماناً، لا يقيم إلا سنة، حتى يعود إليها، و أعطته مالاً كثيراً.
فخرج من عندها بذلك المال، حتى قدم على أهله، فرأى زوجته، و ما صارت إليه من الحزن، و ما صار إليه ولده.
و جاءه ولده، فقال: ما بيني و بينكم عمل، أنتم ورثتموني، فهو حظكم، و الله، لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد.
و قال لزوجته: شأنك بهذا المال، فهو لك كله، و قال في الشامية:
صاح حياً الإله حياً و دوراً ... عند أصل القناة من جيرون
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب و إن كنت خارجاً عن يميني
و ذكر أبياتاً منها:
ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مفارقاً لقرين
فبكت خشية التفرق للب ... ين بكاء الحزين نحو الحزين
قال: فلما جاء الأجل، و أراد الخروج إليها، جاءه خبر موتها، فأقام .

مائدة الوزير حامد بن العباس
أنبئت عن أبي أحمد بن منصور، و غيره، كلهم عن محمد بن أبي طاهر البزاز ، ا، علي بن المحسن التنوخي، أخبره، عن أبيه، قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم : أن حامداً كان يقدم على موائده، في كل يوم، بعدد من يحضر الموائد، لكل واحد، جدياً ، يوضع بين يديه، لا يشاركه فيه أحد، يأكل منه ما يأكل، فيرفع الباقي، فيفرق على الغلمان.
قال: فحضر المائدة، يوماً، رجل، لم يكن شاهد أمر الجدي، قبل ذلك، فهاله.
فقال له: أيها الوزير، قد أحدثت في الطعام، من الكرم، كل شيء حسن، و أحسنه، أمر هذا الجدي، و هو شيء لم تسبق إليه، فكيف وقع لك؟ فقال: نعم، كنت في دعوة مرة، قبل علو حالي، فقدم على المائدة جدي، و كان في فمي لقمة أنا مشغول باكلها.
فلمحت موضعاً من الجدي استطبته، و عملت على أن أمد يدي إليه، فآخذه.
فإلى أن يفرغ فمي، سبقني بعض الحاضرين، فأخذ الموضع، فأكله، فورد علي من ذلك، مشقة شديدة، بحيث نغص علي طعامي.
فاعتقدت في الحال، إن الله وسع علي، و مكنني، أن أجعل على مائدتي، جدياً، بعدد الحاضرين، لئلا يتفق عليهم، مثل هذا الفعل.
فلما تمكنت من اتساع الحال، فعلته .
نبت جارية مهران المخنث
و أنبئت عن المؤيد الطوسي و غيره عن محمد بن عبد الباقي البزاز ، عن علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني ، قال: أخبرني جعفر بن قدامة ، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر ، قال:

دخلت يوماً على نبت جارية مهران المخنث، و كانت حسنة الوجه و الغناء، فقلت لها مصراعاً، فأجيزيه.
فقالت: قل.
فقلت:
يا نبت حسنك يغشي بهجة القمر
فقالت:
قد كاد حسنك أن يبتزني بصري
فتوقفت أفكر، فسبقتني، فقالت:
و طيب نشرك مثل المسك قد نسمت ... ريا الياض عليه في دجى السحر
فهل لنا فيك حظ من مواصلة ... أو لا، فإني راض منك بالنظر
فقمت عنها خجلاً.
ثم عرضت بعد ذلك على المعتمد ... فاشتراها بثلاثين ألف درهم.

بين الوليد بن يزيد و دحمان المغني
و عن ابن عساكر قال: قرأت في كتاب أبي الفرج علي بن الحسين.
و أنبئت عن جماعة، منهم أبو اليمن، و عبد الوهاب بن علي، و ابن الحرستاني، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني ، قال: أخبرني محمد بن خلف وكيع ، قال: حدثني أبو أيوب المديني، عن أبي محمد العامري، قال: كان دحمان ، جمالاً، يكري إلى المواضع، و يتجر، فبينا هو ذات يوم، قد أكرى جماله، و أحرز ماله، إذ سمع رنة ، فقام، و اتبع الصوت، فإذا جارية، قد خرجت تبكي.
فقال لها: أمملوكة أنت؟ قالت: نعم.
قال: لمن؟ قالت: لامرأة من قريش، و نسبتها له.
فقال لها: أتبيعك؟ قالت: نعم.
و دخلت على مولاتها، فقالت: هذا إنسان يشتريني.
فقالت: ائذني له.
فدخل، فساومها بها، حتى استقر الأمر بينهما على مائتي دينار، فاشتراها، و نقدها الثمن، و انصرف بالجارية.
قال دحمان: فأقامت عندي مدة، أطرح عليها، و يطارحها معبد، و نظراؤه من المغنين.
ثم خرجت بعد ذلك إلى الشام، و قد حذقت، فكنت لا أزال، أنزل ناحية و أعتزل بالجارية، و تتغنى، حتى نرحل.
فلم نزل كذلك، حتى قربنا من الشام.
فبينا أنا ذات يوم، نازل، و أنا ألقي عليها لحني:
وإني لآتي البيت ما أن أحبه ... و أكثر هجر البيت و هو حبيب
وأغضي على أشياء منكم تسوءني ... و أدعي إلى ما سركم فأجيب
قال: فلم أزل أردده عليها، حتى أخذته، و اندفعت تغنيه. فإذا أنا براكب قد طلع علينا، فسلم علينا، فرددنا عليه السلام.
فقال لنا: أتأذنون لي أن أنزل، تحت ظلكم هذا ساعة؟ قلنا: نعم.
فنزل، و عرضت عليه الطعام، فأجاب، فقدمت إليه السفرة، فأكل، و استعاد الصوت مراراً.
ثم قال للجارية: أترون لدحمان، شيئاً من غنائه؟ قالت: نعم.
قال: فغنيني صوتا.
فغنته أصواتاً من صنعتي، و غمزتها، أن لا تعرفيه أنني دحمان، فطرب، و امتلأ سروراً، و الجارية تغنيه، حتى قرب وقت الرحيل.
فأقبل علي، و قال: أتبيعني هذه الجارية؟ قلت: نعم.
قال: بكم؟ قلت كالعابث: بعشرة آلاف دينار.
قال: قد أخذتها، فهلم دواة و قرطاساً، فجئته بذلك، فكتب فيه: ادفع إلى حامل هذا الكتاب، ساعة تقرأه، عشرة آلاف دينار، وتسلم الجارية منه، و استعلم مكانه، و عرفنيه، و استوص به خيراً.
و ختم الكتاب ، و دفعه إلي، و قال: إذا دخلت المدينة، فسل عن فلان، و اقبض منه المال، و سلم إليه الجارية، ثم ركب، و تركني.
فلما أصبحنا رحلنا، و دخلنا المدينة، فحططت رحلي، و قلت للجارية: البسي ثيابك و قومي معي، و أنا و الله لا أطمع في ذلك، و لا أظن الرجل إلا عابثاً.
فقامت معي، فخرجت بها، و سألت عن الرجل، فدللت عليه، فإذا هو وكيل الوليد بن يزيد، فأتيته، فأوصلت إليه الكتاب.
فلما قرأه، وثب قائماً، و قبله، و وضعه على عينيه، و قال: السمع و الطاعة لأمير المؤمنين، و دعى بعشرة آلاف دينار، فسلمت إلي، و أنا لا أصدق أنها لي.
و قال لي: أقم، حتى أعلم أمير المؤمنين خبرك.
فقلت: حيث كنت، أنا ضيفك، و قد كان أمره لي بمنزل، و كان بخيلاً.
قال: و خرجت، فصادفت كراء، فقضيت حوائجي، في يومي و غدي، و رحلت رفقتي، و رحلت معهم.
و ذكرني صاحبي بعد أيام، فسأل عني، و أمر بطلبي، فعرف أن الرفقة قد ارتحلوا، و أنني قد ارتحلت معهم، فأمسك، فلم يذكرني إلا بعد شهر، قال لها و قد غنته صوتاً من صنعتي، لمن هذا؟ قالت: لدحمان.
قال: وددت و الله، أني قد رأيته و سمعت غناءه.
قالت: فقد و الله، رأيته، و سمعت غناءه.
قال: لا و الله، ما رأيته و لا سمعته.

فقالت له: و الله، قد رأيته و سمعت غناءه.
فغضب، و قال لها: أنا أحلف، و أنت تعارضيني، و تكذبيني؟ قالت: إن الرجل الذي اشتريتني منه، دحمان.
قال: ويحك، هلا أعلمتني.
قالت: إنه نهاني عن ذلك.
قال: و إنه لهو، أما و الله، لأجشمنه السفر.
ثم كتب إلى عامل المدينة، بحمله إليه، فحمله إليه، فلم يز أثيراً عنده .

من شعر إسحق الموصلي
و أنبئت عن أبي اليمن الكندي، و ابن طبرزد، و أبي أحمد بن سكينة، و غيرهم، عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، قال: أنبأنا أبو الخطاب عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حمدان، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخالع ، قال: أنبأنا أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني .
و أنبأني أبو الفرج بن وريدة، عن أبي أحمد بن سكينة، و غيره، و أبو الفضل بن عساكر، وغيره، عن المؤيد بن محمد الطوسي.
و أنبئت عن أبي اليمن الكندي و غيره، كلهم عن محمد بن عبد الباقي الأنصاري ، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: أنبأنا محمد بن المرزبان ، قال: أنشدنا حماد بن إسحاق ، قال: أنشدني أبي: يعني إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي:
يبقى الثناء و تذهب الأموال ... و لكل دهر دولة و رجال
ما نال محمدة الرجال و شكرهم ... إلا الجواد بماله المفضال
لا ترض من رجل طلاقة قوله ... حتى يصدق ما يقول فعال
فإذا وزنت مقاله بفعاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
و إنك لتعلم ما نريد
حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قال: حدثنا أبو المعالي الحسين بن حمزة بن الشعيري، قال: حدثنا أبو بكر الخطيب .
و بالإسناد المتقدم إلى الخطيب، قال: حدثنا علي بن أبي علي ، قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد المعدل ، قال: أنبأنا أبو بكر بن الأنباري ، قال: قال مصعب الزبيري : خرج سالم بن عبد الله متنزهاً إلى ناحية من نواحي المدينة، مع حرمه، و جواريه، و بلغ أشعب الخبر، فوافى الموضع الذي يلم به، يريد التطفيل ، فلما دق الباب، وجده مغلقاً، فتسور الحائط.
فقال له سالم: ويلك يا أشعب، معي بناتي، و حرمي.
فقال: لقد علمت، مالنا في بناتك من حق، و إنك لتعلم ما نريد .
فوجه إليه سالم من الطعام، ما أكل، و حمل إلى منزله .
الوارش و الواغل
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: حدثنا عبيد الله بن احمد بن بكير التميمي ، قال: أخبرنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، قال: يقال للداخل على القوم، و هم يطعمون، و لم يدع: الوارش .
و للداخل على القوم و هم يشربون: الواغل .
الضيف و الضيفن
أخبرنا علي بن أبي علي أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني ، قال: أخبرنا ابن بكير ، قال: أخبرنا ابن قتيبة ، قال: الضيفن: الذي يجيء مع الضيف، و لم يدع .
لابن الزمكدم في أبي الفضائل
أنشدني علي بن المحسن القاضي، لأبي علي سليمان بن الفتح الموصلي، المعروف بابن الزمكدم، يهجو أبا إسحاق بن حجر الأنطاكي، الملقب أبا الفضائل، و يرميه بالتطفيل:
مطفل أطفل من ذباب ... على طعام و على شراب
لقب طنزاً أشرف الألقاب
أدور بالموصل من دولاب ... يمر مر الريح و السحاب
ينزل تطفيلاً بباب باب ... نزول شيب لاح في شباب
يدخل بالحيلة في الأنقاب ... مكابراً ينساب كالحباب
لا يفرق الرد من البواب ... و إن له أغلظ في الخطاب
له انقضاض سورة العقاب ... على القلايا و على الجواذب
يحمل حملات أبي تراب ... في يوم صفين و في الأحزاب
بالجدي منه أثر الذئاب ... يمغثه مغثة ليث الغاب
بكفه و ظفره و الناب
فعامر الميدة في خراب ... و صاحب المنزل في عذاب
لسوء ما يأتي من الآداب قال علي بن المحسن: و قال فيه بهجوه:
طفيلي على فرس يدور ... يقدر عند من غلت القدور

بأوقات الموائد حين يؤتى ... بها للأكل علام خبير
له في الغيب اصطرلاب وحي ... بمائدة إذا وضعت نذير
فبطليموس في تحديد وقت ... إليه بغير ما غلط يشير
كأن على الموائد منه ليثاً ... على خيوانها حنقاً يزير
فرب الدار منه في حصار ... و من فيها بخدمته ضجور
يكنى بالفضائل و هو نقص ... على طنز بلحيته صبور

لأبي الحارث الموصلي في طاهر الهاشمي
أنشدني علي بن أبي علي البصري، عن أبيه، لأبي الحارث الموصلي، في طاهر الهاشمي، يهجوه بالتطفيل:
عمرو العلا ساد الورى ... بالجود و الفعل الحميد
هشم الثريد لقومه ... و الناس في ضر شديد
و هشمت أنت وجوه أه ... ل الأرض في طلب الثريد
فلوان قوماً يشتوو ... ن اللحم في جبلي زرود
لطرقتهم بضيائهم ... في نارهم ذات الوقود
و إذا سمعت بثردة ... ألفيت منها بالوصيد
وصف طفيلي
و أنشدني علي بن أبي علي ، أيضاً، عن أبيه ، لغيره:
أطفل من ليل على نهار ... كأنه في الدار رب الدار
لشاعر بصري في طفيلي
أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي القاضي أبي القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم ، حدثنا حرمي بن أبي العلاء ، قال: أنشدني إسحاق بن محمد بن أبان النخعي لبعض البصريين، في طفيلي:
يمشي إلى الدعوة مستذفراً ... مشي أبي الحارث ليث العرين
لم تر عيني آكلاً مثله ... يأكل باليسرى معاً و اليمين
تجول في القصعة أطرافه ... لعب أخي الشطرنج بالشاهبين
ليت الليل كان سرمدا
ً
أخبرنا علي بن المحسن التنوخي. قال: وجدت في كتاب جدي ، حدثنا حرمي بن أبي العلاء . قال: حدثنا إسحاق بن محمد بن أبان النخعي ، قال: حدثني القحذمي ، قال: كان رقبة يقعد في المسجد، فإذا أمسى، بعث جلساؤه من جيران المسجد، فيأتي كل رجل منهم، من منزله، بطرفه ، فيأكل، ثم يقول: ليت الليل كان سرمداً ، إلى يوم القيامة .
لأبي الحسن الأسدي
أخبرنا علي بن أبي علي ، قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد المقري، قال: أخبرنا المظفر بن يحيى ، قال: أنشدني أبو الحسن الأسدي لنفسه:
كنت يا سيدي على التطفيل ... أمس لولا مخافة التثقيل
و تذكرت دهشة القارع البا ... ب إذا ما أتى بغير رسول
و تخوفت أن أكون على القو ... م ثقيلاً فقدت كل ثقيل
لو تراني و قد وقفت أروي ... في دخول إليك أو في حلول
لرأيت العذراء حين تحايا ... و هي من شهوة على التعجيل
وصية طفيلي
حدثنا علي بن أبي علي البصري عن أبي عيد الله محمد بن عمران المرزباني ، قال: كان طفيل العرائس الذي ينسب إليه الطفيليون، يوصي ابنه عبد الحميد ابن طفيل، في علته، فيقول: إذا دخلت عرساً، فلا تتلفت تلفت المريب، و تخير المجالس، فإن كان العرس كثير الزحام، فمر، و انه، و لا تنظر في عيون أهل المرأة، و لا في عيون أهل الرجل، ليظن هؤلاء أنك من هؤلاء، و يظن هؤلاء أنك من هؤلاء. فإن كان البواب غليظاً وقاحاً، فابدأ به، و مره، و انهه، من غير أن تعنفه، و عليك بكلام بين النصيحة و الإدلال:
لا تجزعن من القري ... ب و لا من الرجل البعيد
و ادخل كأنك طابخ ... بيديك مغرفة الثريد
متدلياً فوق الطعام ... تدلي البازي الصيود
لتلف ما فوق الموا ... ئد كلها لفالفهود
و اطرح حياءك إنما ... وجه المطفل من حديد
لا تلتفت نحو البقو ... ل و لا لى غرف الثريد
حتى إذا جاء الطعا ... م ضربت فيه بالشديد
و عليك بالفالوذجا ... ت فإنها عين القصيد
هذا إذا حررتهم ... و دعوتهم هل من مزيد

و العرس لا يخلو من ال ... لموزيج الرطب العتيد
فإذا أتيت به محو ... ت محاسن الجام الجديد
ثم أغمي عليه ساعة، عند ذكر اللوزينج ، فلما أفاق رفع راسه، و قال:
و تنقلن على الموائ ... د فعل شيطان مريد
و إذا انتقلت عبثت بال ... كعك المجفف و القديد
يا رب أنت رزقتني ... هذا على رغم الحسود
و اعلم بأنك إن قبل ... ت نعمت يا عبد الحميد

طفيلي يصف نفسه
أنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، لطفيلي:
إن شكري لمنة التطفيل ... و أياديه منذ دهر طويل
كم تراني قد نلت من لذة العي ... ش بأسبابه و حظ جزيل
و تمتعت من طعام لذيذ ... و سماع فيه شفاء الغليل
فإذا ما عرفت مجتمع الإ ... وان في بيت صاحب أو خليل
كان إتيانه صواباً على الإن ... س و لم أجتنب كفعل الثقيل
و جعلت السعي السبيل إلى ذا ... ك و لم أنتظر مجيء الرسول
فأبن لي أين اجتماعكم اليو ... م إلى ذي سماحة أو بخيل؟
فلعلي أكون لا أعرف الدا ... ر فأحتال في حضور الدليل
بنان الطفيلي يحفظ آية واحدة
و بيتاً واحداً من الشعر أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني، و أبو القاسم عبيد الله بن عبد العزيز البردغي و علي بن أبي علي البصري ، قالوا: أخبرنا محمد بن عبيد الله بن شخير الصيرفي ، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن علي المقرئ ، قال: سأل أبي بناناً ، و أنا أسمع: أتحفظ من كتاب الله شيئاً؟ قال: نعم، آية واحدة قال: ما هي؟ قال: قال موسى لفتاه آتنا غداءنا .
قال له: أتحفظ من الشعر شيئاً؟ قال: نعم، بيتاً واحداً.
قال: ما هو؟ قال:
نزوركم لا نكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زاراً
الأكل مع الإخوان لا يضر
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى، و عبيد الله بن عبد العزيز، و علي بن أبي علي، قالوا: حدثنا محمد بن عبيد الله بن الشخير، قال حدثنا حمد بن الحسن بن علي المقرئ، قال: سمعت بناناً يقول: حدثني عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: الأكل مع الإخوان لا يضر .
نسخة عهد في التطفيل
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، قال: كان في نقباء الأمير بختيار، المعروف بعز الدولة ، رجل يسمى عليكاً، و كان كثير التطفيل على جميع أهل العسكر من الحجاب، و القواد و الكتاب، و وجوه الخاصة، و الغلمان.
و شاع له ذلك عند بختيار، فرسم له أن يستخلف على التطفيل خليفة. و تقدم إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب ، أن يكتب بذلك عهداً، لابن عرس الموصلي، عن عليكا، و أن يجعله خليفته على التطفيل.
فكتب له على طريق الهزل، عهداً، قرأه أبو إسحاق علينا، فكانت نسخته: هذا ما عهد علي بن أحمد، المعروف بعليكا، إلى علي بن عرس الموصلي، حين استخلفه على إحياء سنته، و استنابه في حفظ رسومه من التطفيل، على أهل مدينة السلام، و ما يتصل بها من أكنافها، و يجري معها من سوادها و أطرافها، لما توسمه فيه، من قلة الحياء، و شدة اللقاء، و كثرة اللقم، و جودة الهضم، و رآه أهلاً له من سده مكانه في هذه الرفاهية المهملة التي فطن لها، و الرفاعية المطرحة التي اهتدى إليها، و النعم العائدة على لابسيها، بملاذ الطعوم، و مناعم الجسوم، متورداً على من اتسعت مواد ماله، و تفرعت شعب حاله، و أقدره الله على غرائب المأكولات، و أظفره ببدائع الطيبات، آخذاً من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، و ضارباً فيهم بسهم الخليط المفاوض، و مستعملاً للمدخل اللطيف عليه، و المتولج العجيب إليه، و الأسباب التي ستشرح في مواضعها من هذا الكتاب، و تستوفي الدلالة على ما فيها من رشاد و صواب، و بالله التوفيق، و عليه التعديل، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، و الحرز الحريز، و الركن المنيع، و الطود الرفيع، و العصمة الكالئة، و الجنة الواقية، و الزاد النافع، يوم المعاد، حين لا ينفع إلا مثله من الأزواد، و أن يستشعر خيفته، في سره و جهره، و مراقبته في قوله و فعله، و يجعل رضاه مطلبه، و ثوابه ملبسه، و القرب نه أربه، و الزلفى لديه غرضه، و لا يخالفه في مسعاة قدم، و لا يتعرض عنده لعاقبة ندم.
و أمره بأن يأمل اسم التطفيل و معناه، و يعرف مغزاه و منحاه، و يتصفحه تصفح الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل فيه بتسليمه و تقليده، فإن كثيراً من الناس قد استقبحه ممن فعله، و كرهه لمن استعمله، و نسبه فيه إلى الشره و النهم، فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، و منهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله، و كلا الفريقين مذموم، لا بتعريان من لباس فاضح، و منهم الطائفة التي لا ترى شركة العنان، فهي تبذله إذا كان لها، و تتدلى عليه إذا كان لغيرها، و ترى أن المنة من المطعم، للهاجم الآكل، و في المشرب، للوارد الواغل، و هي أحق بالحرية، و أخلق بالخيرية، و أحرى بالمروءة، و أولى بالفتوة.
و قد عرفت بالتطفيل، و لا عار فيه، عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطفل، و هو وقت المساء، و أوان العشاء، و إن كثر استعماله في صدر النهار و عجزه، و أوله و آخره، كما قيل للشمس و القمر، القمران، و أحدهما القمر، و لأبي بكر و عمر، العمران، و أحدهما عمر.
و أمره أن يتعهد موائد الكبراء و العظماء بقراياه، و سمط الأمراء و الوزراء بسراياه، فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة، و يصل عليها إلى الغريبة النادرة، و إذا استقرأها، وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، بدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجد عند غيرهم، و لا يناله إلا لديهم.
و أمره أن يتتبع ما يعرض لوسري التجار، و مجهزي الأمصار، من وكيرة الدرا و العرس و الأعذار فإنهم يوسعون على أنفسهم في النوائب، بحسب تضييقهم عليها في الراتب.
و أمره أن يصادق قهارمة الدور و مدبريها، و يرافق وكلاء المطابخ و حماليها، فإنهم ملكون من أصحابهم، أزمة مطاعمهم، و مشاربهم، و يضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم، و معارفهم، و إذا عدت هذه الطائفة أحداً من الناس من خلانها، و اتخذته أخاً من إخوانها، سعد بمرافقتها، و حظي بمصادقتها، و وصل إلى محابه من جهاتها، و مآربه في جنباتها.
و أمره أن يتعهد أسواق المتسوقين، و مواسم المتبايعين، فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها، و أطعمة قد احتشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، و شيعها إلى المنازل الحاوية لها، و استعلم ميقات الدعوة، و من يحضرها من أهل اليسار و المروءة، فإنهم لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، و يكمن له و يصحبه، و يدخل معه، و إن خلا من ذلك، اختلط بزمر الداخلين، فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، و يخرج من سلطان البوابين و الحجاب، حتى يحصل محصلاً، قلما حصله أحد قبله فانصرف عنه، إلا ضلعاً من الطعام، نزيفاً من المدام.
و أمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات و المغنين، و مواطن الإبليات و المخنثين ، فإذا أتاه خبر لمجمع يضمهم، أو مأدبة تعمهم، ضرب إليها أعقاب إبله، و انضى حولها مطايا خيله، و حمل عليها حملة الحوت المتقم، و الثعبان الملتهم، و الليث الهاجر، و العقاب الكاسر.
و أمره أن يجتنب مجامع العوام المقلين، و محافل الرعاع المقترين، و أن لا ينقل إليها قدماً، و لا يفض لمأكلها فماً، و لا يلقي في عتب دورها كيساناً ، و لا يعد الرجل منها إنساناً، فإنها عصابة تجتمع لها ضيق النفوس و الأحوال، و قلة الأحلام و الأموال، و في التطفيل عليها إجحاف بها يؤثم، و إرزاء بمروءة المطفل، و التجنب لها أجدى، و الازورار عنها أرجى.
و أمره أن يحزر الخوان إذا وضع، و الطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس و التقريب، و البحث و التنقيب، عدد الألوان، في الكثرة و القلة، و افتنانها في الطيب و اللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، و ينتهي عند انتهائها، و لا يفوته النصيب من كثيرها و قليلها، و لا يخطئه الحظ من دقيقها و جليلها.
و متى أحس بقلة الطعام، و عجزه عن الإقدام، أمعن في أوله، إمعان لكيس في سعيه، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه، من كل حار و بارد.

فإذا فعل ذلك، سلم من عواقب الأغمار، الذين يكفون تظرفاً، و يقلون تأدباً، و يظنون أن المادة تبلغهم إلى آخر أمرهم، و تنتهي بهم إلى غاية شبعهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الوامق، و ينقلبوا بحسرة الخائب، أعاذنا الله من مثل مقامهم، و عصمنا من شقاء جدودهم.
و أمره أن يروض نفسه، و بغالط حسه، و يضرب عن كثير مما يلحقه صفحاً، و يطوي دونه كشحاً، و يستحسن الصمم عن الفحشاء، و يغمض عن اللفظة الخشناء، و إن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه، و إن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه، و إن لقيه ملاق بالجفاء، قابله باللطف و الصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، و خالط الأسباب، و جلس مع الحضور، و امتزج بالجمهور، فلا بد أن يلقاه المنكر لأمره، و يمر به السمتغرب لوجهه، فإن كان حراً حيياً، أمسك و تذمم، و إن كان فظاً غليظاً، همهم و تكلم، و أ، يجتنب عند ذلك المخاشنة، و يستعمل مع المخاطب له الملاينة، ليرد عليه فعرف، و أنست النفوس به فألف، و نال في الحال المجتمع عليها، منال من جشم و سيل العنا إليها.
و لقد بلغنا أن رجلاً من هذه العصابة، كان ذا فهم و دراية، و عقل و حصافة، فل على وليمة رجل ذي حال عظيمة، فرمقته فيها من القوم العيون، و تصرفت بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم. من تكون أعزك الله؟ فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق.
قيل: و كيف ذاك؟ و نحن لا نعرفك.
فقال: إذا رأيت صاحب الدار، عرفني، و عرفته بنفسي.
فجيء به، فلما رآه بدأه بالسلام، بأن قال له: هل قلت أيدك الله لطباخك، أن يصنع طعامك، زائداً على عدد الحاضرين، و مقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم.
فقال: فإن تلك الزيادة لي، و لأمثالي، و بها تستظهر، لمن جرى مجراي، و هي رزق أنزله الله على يدك، و سببه من جهتك.
فقال: مرحباً بك، و أهلاً، و قرباً، و الله، لا جلست إلا مع علية الناس، و وجوه الجلساء، إذ قد ظرفت في قولك، و تفننت في فعلك.
فليكن ذلك الرجل، لنا إماماً نقتدي به، و حاذياً نحذو على مثاله، إن شاء الله. و أمره أن يكثر من تعاهد الجوارشنات المنفذة للسدة، المقوية للمعدة، المشهية للطعام، المسهلة لسبيل الانهضام، فإنها عماد أمره و قوامه، و بها انتظامه و التئامه، لأنها تعين على عمل الدعوتين، و تنهض في اليوم الواحد بالأكلتين، و هو في تناولها، كالكاتب الذي يقط أقلامه، و الجندي الذي يصقل حسامه، و الصانع الذي يجدد آلاته، و الماهر الذي يصلح أدواته.
هذا عهد علي بن أحمد، المعروف بعليكا، إليك، و حجته عليك، لم يألك في ذلك إرشاداً و توفيقاً، و تهذيباً و نثقيفاً، و نعتاً و تبصيراً، و حثاً و تذكيراً، فكن بأوامره مؤتمراً، و بزواجره مزدجراً، و لرسومه متبعاً، و بحفظها مضطلعاً إن شاء الله .
و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.

لا تتركن الدهر يظلمني
قال أبو علي : حضرت أبا محمد في وزارته، و قد دفع إليه شاعر، رقعة صغيرة، فقرأها و ضحك، و أمر له بألف درهم.
و طرح الرقعة، فقرأتها، و إذا فيها:
يا من إليه النفع و الضر ... قد مس حال عبيدك الضر
لا تتركن الدهر يظلمني ... ما دام يقبل قولك الدهر
مصادرة من أعظم المصادرات
قال التنوخي: من أعظم المصادرات، مصادرة معز الدولة لأبي علي الحسن بن محمد الطبري ، صادره على خمسمائة ألف دينار.
فلما مات الصيمري طمع في الوزارة، و بذل فيها مالاً عظيماً، قدم منه أول نوبة ثلثمائة ألف دينار ، فلما ثبت عليه خروجها، أخذها منه، و قلد المهلبي .
معز الدولة ينفذ وزيره المهلبي إلى عمان
و روي أيضاً عن التنوخي، قال: قال المهلبي : لما عزم معز الدولة ، على إنفاذي إلى عمان، طرقني أمر عظيم، فبت ليلة، ما بت في عمري مثلها، لا في فقري، و لا في صغر حالي.
و ما زلت أطلب شيئاً أتسلى بع عما دهمني، فلم أجد.
إلا أنني ذكرت، أني حصلت أيام صباي بسيراف ، لما خرجت إليها هارباً، فعرفت هناك قوماً، أولوني جميلاً، و حصلت لهم علي أياد، ففكرت، و قلت: لعلي إذا قصدت تلك البلدان، أجدهم، أو بعضهم، أو أعقابهم، فأكافيهم على تلك الأيادي.
فلما ذكرت هذا تسليت عن المصيبة بالخروج، و سهل علي، و وطنت نفسي عليه .

أتتك بحائن رجلاه
حدث أبو علي، المحسن بن علي التنوخي، في نشوار المحاضرة، قال: حدثني أبو القاسم الجهني ، قال: حدثنا أبو محمد بن حمدون ، قال: أمر المعتضد بالله ، في علته التي مات فيها، و قبل موته بأيام يسيرة ، بأن يصنع له سم يقتل جماعة ممن كان في الحبس، لم يجب قتلهم قتلة ظاهرة، لسياسة رآها.
و فعل ذلك، و جيء بالسم إلى حضرته، فأراد تجربته قبل أن يقتل به من أراد قاله، فطرح في كرنبية ، و أحضرت في طيفورية ، و هو مفكر فيمن يطعمه منها، و على من يجرب السم الذي فيها، إذ دخل محمد بن أحمد، نفاطه، و ابن أبي عصمة، فقيل لهما: إن الخليفة يريد أن يأكل من ذلك اللون، و هو محجم عنه للحمية.
فقالا: ما أحسن هذه الكرنبية، فلو أكل منها مولانا لقمة، رجونا أنها لا تضره، و تجاوزوا ذلك، إلى أن أكلا منها لقماً، كأنهما قصدا استنهاض شهوته، و تحريكها بأكلها، فلم يمكنه أن ينهاهما لئلا يخرج السر، و أمسك عنهما، و مضيا إلى منازلهما فماتا من يومهما.
و بلغ الخليفة خبرهما نم الغد، و قد اشتدت علته، فعلم صحة السم، و امسك لسانه أن يأمر في معنى من أراد أن يأمر في معناه، بإطعامه من ذلك السم الذي عمل له.
و مات المعتضد بعد ذلك بثلاثة أيام، و مضى أولئك بالعرض، و سيء الاتفاق، و سوء المقدار، و كأنه عمل لهما، لا لغيرهما، و سلم من عمل له، و قصد به، و نجا.
رب عيش أخف منه الحمام
و حدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني علم، قهرمانة المستكفي بالله، الشيرازية ، حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي ، قالت: كان المستكفي ، لما أفضي إليه الأمر، يوصيني بتفقد القاهر بالله ، بنفسي و أن لا أعول على أحد في ذلك، و يكرمه، و يبره، و يحسن إليه.
و كان قد اختل عقله، لسوداء لحقته، و يخرق ما يلبسه من الثياب، و قلما يبقى عليه منها قميص أو جبة، و ينتف شعر لحيته و بدنه، و ربما صاح و ضج ثم يثبت إليه عقله.
قالت: فراسلني في بعض أيام إفاقته المستكفي، يأمرني أن أستعرض شهواته، و حاجاته، فسألني تمكينه من جواريه، فعرفته ذلك، فأمرني بحملهن إليه، و أدخلت إليه جماعة منهن.
ثم استدعي بعد ذلك مرة، أن تدخل إليه ابنته، ففعلت، فقبض عليها يوماً، و افتضها.
و بلغ المستكفي ذلك، فأعظمه، و هاله، و أمر أن يفرق بينهما، و لا يمكن أن يدخل إليه غير جواريه.
يا حبيباً نأى عليك السلام
و حدث : قال: حدثني أبو أحمد الحارثي ، قال: كنت أعاشر بهمذان ، بعض كتاب الديلم ، و حسبك وصفاً بجهل، أن أقول: من كتاب الديلم.
و كان يتحلى مغنية، فسمعها تغني يوماً:
يا حبيباً نأى عليك السلام ... فرقت بين وصلنا الأيام
فاستطابه، فلما أراد أن يستعيده، قال: يا ستي، غني ذاك الصوت الذي أوله:
يا حبيب الله عليك السلام
فقالت: هذا صياح الحراس، أظنك أردت:
يا حبيباً نأى عليك السلام
قال: نعم، هو هو، شدي لي في ذنبه علامة، أي وقت أردته، أخرجته.
و الله الذي لا إله إلا هو
قال : و سمعته يحلف، فيقول: و الله الذي لا إله إلا هو، أعني به الطلاق و العتاق .
حديقة حيوان
قال : و كتب مرة بحضرتي، تذكرة بأضاحي يريد تفرقتها في دار صاحبه، و قد قرب عيد الأضحى: القائد ثور، و امرأته بقرة، ابنه كبش، بنيه نعجة، الكاتب تيس.
قال: فقلت له: الروح الأمين ألقى هذا عليك؟ فلم يدر ما أردت .
كاتب ديلمي يستهدي نبيذا
ً
قال : و حدثني أبو أحمد الحارثي أيضاً، قال: حضرت هذا الكاتب، و هو يشرب، و قد قل نبيذه، فكتب إلى صديق له، رقعة، يطلب منه نبيذاً، ما رأيت أطرف منها.
فقلت له: يا سيدي، قد رأيت كتاب بغداد، و طوفت الآفاق، ما رأيت أحسن من هذه الرقعة، فأحب أن تأذن لي في نسخها.
فقال: يا با، و نحن اليوم أيش بقي مما نحسنه؟ قد نسيناه كله مع هذا القائد، اسنخها، و أعجبه ذاك، و كانت:

كتبت هذه الكلمات، يا سيدي، وزري، أعني به قميصي، و من هو فاضلي و مولاي، و أنا عبده، و متصنع له، أطال الله بقاءه، من منزلك الذي أنا ساكنه، و قد نفضت الدم، من قفاك المرسوم بي، و ليس و حق رأسك الذي أحبه عندي من نبيذك الذي تشربه شيء، فبحياتي العزيزة عليك، إن كان عندك من نبيذ أشربه، فوجه إلي منه، بما عسى ألا يسهل على يدي غير هذا الرسول فإنه ثقة، أوثق مني و منك، و إن أردت أن لا تختمه، فلا تفعل، فإن الصورة لا توجب إلا ذاك، فعلت، إن شاء الله.

كاتب لا يحسن القراءة و الكتابة
قال : و كنت يوماً عنده، فجاءه صديق له من كتاب الديلم مجروحاً، فقال له: ما لك؟ قال: جاء إلى الأمير اليوم، كتاب من وكيله في إقطاعه، فرمى به إليّ، و قال: اقرأه.
و كنت قبل ذلك، إذا جاءه كتاب، أخرج إلى المعلم، حتى يقرأه عليّ و أحفظه، و أدخل، فاقرؤه عليه، فلم أقدر اليوم أن أخرج من بين يديه.
فقلت له باكياً: أنا لو كنت أحسن أقرأ و أكتب، كنت أكون كاتب الأمير على بن بويه .
فرماني بالزوبين ، فجرحني .
قائد ديلمي يمتدح كاتبه
قال : و بلغني عن بعض قواد الديلم، أنه قال: كاتبي أحذق الناس بأمر الدواب، و الضياع، و شراء الأمتعة و الحوائج، و ما له عيب، إلا أنه لا يقرأ، و لا يكتب .
عامل الجامدة لا يعطي على المدح شيئا
ً
قال : حدثني محمد بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الهمذاني الشاعر، قال: انحدرت أريد الجامدة ، و كان في الوقت يليها الهيثم بن محمد العامل، فمدحته.
فقال لي: لست ممن يعطي على المدح شيئاً، فلو هجوتني لكان أجدى عليك.
قال: فأردت النهوض من ملسه، فلما رأى ذلك، قال: اجلس، فجلست.
و جيء بمائدة لم أر مثلها من كل شيء حسن، طيب، شهي، لذيذ، فأقعدني ناحية، و جعل يأكل، و يقول: لو هجوتني، لأكلت معي. و كلما مر لون، وصفه، و نعته، و شهانيه، و حسرني عليه، و أرانيه، و منعنيه، و الروائح تقتلني، و المشاهدة تحسرني.
إلى أن فرغ من الطعام، و جيء بالحلوى، و كانت الصورة فيها مثلها في الطعام.
ثم جيء بغسول ، من ذراري عجيبة طيبة، فغسل يده بها، و هو يقول: لو هجوتني لأكلت مما أكلت، و تحليت مما تحليت به، و غسلت يدك من هذا.
ثم أحضر الشراب، و عبىء بحضرته مجلس ما ظننت أن مثله يكون إلا في الجنة حسناً، بأصناف الفاكهة، وألوان الرياحين، و الطيب، و الكافور، و التماثيل ، و الشمامات ، و المطبوخ القطربلي، و النبيذ من الزبيب و العسل .
و هو يقول: لو هجوتني لشربت من هذا، و حييت من هذا، و تنقلت من هذا، قم الآن و كل مما تستحقه بمدحي.
فقمت، و جاءوني بطبق وسخ، عليه أرغفة سود، و قطعة مالح، ومرق سكباج أحمض من الفراق، و قليل تمر.
فأكلت لفرط الجوع، و جاءوني بأشنان أخضر، لم ينق يدي، و جئت فجلست عنده.
فقال: اجعلوا بين يديه من الشراب، مثل ما يستحق من مدحني.
فجاءوني بقنينة زجاج أخضر غليظ وحش، و قدح مثلها، و سخين وحشين، و في القنينية نبيذ دوشاب طري، و باقلاً مملوح، و باقة ريحان.
فشربت أقداحاً، و هممت بهجائه، و أنا أمتنع، خوفاً من أن يكون ذلك يصعب عليه، و إنما يمازحني بما يقوله لي، و أنا أفكر في ذاك، إذ أخرج خمسين ديناراً.
فقلت: إن كان و لا بد، فاكتب، و قلت:
جاءت بهيثم أمه ... من بغيها و زنائها
فرمى إليّ ديناراً، فقلت:
جاءت به من نتنه ... لا شك يوم خرائها
يا هيثم بن محمد ... يا ابن التي لشقائها
فقال: ما صنعت شيئاً.
قلت: انتظر.
قال: هات.
فقلت:
أمست تناك بكسرة ... و كذاك مهر نسائها
فرمى إلي بقية الدنانير، و قال: حسبك، ما أريد أجود من هذا، و لا أكثر، هاتوا له مما أكلت.
فقدم لي من جميع ما كان على المائدة، فأكلت، و قدم لي من الشراب الذي بين يديه، و التحايا و الأنقال ، فلما أراد القيام، أمر لي بجائزة و خلعة.
فأخذتها و انصرفت من عند أحمق الناس و أجهلهم على الإطلاق.
كاتب بأنطاكية يعزله حمقه
حدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو القاسم أبي ، قال: حدثني أبي ، عن الحسين بن السميدع الأنطاكي، قال: كان عندنا بأنطاكية، عامل من قبل أمير حلب، و كان له كاتب أحمق.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8