كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالأعاجيب
وله في الأسر قصيدة أولها:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
ويقول فيها:
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوعد والموت دونه ... إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر
وإني لنزال بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
وأصدى إلى أن ترتوي الأرض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة ... ولا الجيش ما لم يأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحي رددت الجيش حتى ملكته ... هزيماً وردتني البراقع والخمر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرىء ... فليس له بر يقيه ولا بحر
ويقول فيها:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوماً بسوءته عمرو

أبو سعيد الشيباني يتغزل
أنشدني في ربيع الآخر من سنة ست وستين وثلثمائة، أبو سعيد مساعد بن الجهم الشيباني، لنفسه: قال: وقلتها منذ سبعين سنة، وذكر لي أن له في الوقت ستاً وتسعين سنة.
يا مقلة لحظها عقاربها ... سماء عيني دمعي كواكبها
تجول في حلبة مشهرة ... تكبو بركبانها ركائبها
كأنها والدماء تتبعها ... شهب خيول شقر جنائبها
أنشدني من هذه الأبيات، شعراً جيداً، في سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وقال: شهب جنائبها. وهذا أصح، لأنه أراد به، أنه يبكي دمعاً، ثم يتبعه دماً، والدليل على قوله: كأنها والدماء تتبعها
القاضي أبو الحسين بن أبي عمر
يحزن لموت يزيد المائي
حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، الشيرازي، الكاتب، قال: حدثني أبو بكر الجعابي الحافظ، قال: دخلت يوماً على القاضي أبي الحسين بن أبي عمر، وهو مغموم حزين، فقلت له: لا يغم الله القاضي، فما الذي آذاه؟ فقال: مات يزيد المائي.
فقلت: يبقي الله قاضي القضاة أبداً، ومن يزيد، حتى إذا مات اغتم عليه قاضي القضاة، هذا الغم كله؟ فقال: ويحك، مثلك يقول هذا، في رجل أوحد في صناعته، قد مات ولا خلف له، ولا أحد يقاربه في حذقه؟ وهل فخر البلد، إلا بكثرة كون رؤساء الصناع، وحذاق أهل العلم فيه؟ فإذا مضى رجل، لا مثل له في صناعته، ولا بد للناس منها، فهل يدل هذا، إلا على نقصان العالم، وانحطاط البلدان؟ ثم قال بعد ذلك: وأخذ يعدد فضائله، والأشياء الطريفة التي عالج بها، والعلل الصعبة التي زالت بتدبيره، وذكر من ذلك أشياء كثيرة، لم يعلق أكثرها بحفظي.
قال: وكان منها، أن قال: لقد أخبرني، منذ مدة طويلة، رجل من جلة أهل هذا البلد، أنه كان قد حدث بابنة له علة طريفة، فكتمتها عنه، ثم أطلعته عليها، فكتمها هو مدة، ثم انتهى أمر البنت إلى حد الموت.
قال: فقلت: لا يسعني كتمان هذا أكثر من هذا.
قال: فكانت العلة، أن فرج الصبية، يضرب عليها ضرباً عظيماً، لا تنام منه الليل، ولا تهدأ النهار، وتصرخ من ذلك أعظم صراخ، ويجري في خلال ذلك، منه دم يسير، كماء اللحم، وليس هناك جرح يظهر، ولا ورم كبير يزيد.
قال: فلما خفت المأثم، أحضرت يزيد، فشاورته.
فقال: تأذن لي في الكلام، وتبسط عذري فيه؟ قلت: نعم.
فقال: لا يمكنني أن أصف شيئاً، دون أن أشاهد الموضع، وأفتشه بيدي، وأسائل المرأة عن أسباب، لعلها كانت الجالبة للعلة.
قال: فلعظم الضرورة، وبلوغها التلف، مكنته من ذلك.

فأطال مساءلتها، وحديثها، بما ليس من جنس العلة، بعد أن جس الموضع من ظاهره، وعرف بقعة الألم، حتى كدت أن أثب به. ثم تصبرت ورجعت إلى ما أعرفه من ستره، فصبرت على مضض.
إلى أن قال: تأمر من يمسكها؟ ففعلت.
ثم أدخل يده إلى الموضع، دخولاً شديداً، فصاحت الامرأة، وأغمي عليها، وانبث الدم، وأخرج في يده حيواناً، أقل من الخنفساء، فرمى به.
فجلست الجارية في الحال، واستترت، وقالت: يا أباه، استرني فقد عوفيت.
قال: فأخذ الحيوان في يده، وخرج من الموضع.
فلحقته، وأجلسته، وقلت: أخبرني ما هذا؟ فقال: إن تلك المساءلة، التي لم أشك أنك أنكرتها، إنما كنت أطلب شيئاً، أستدل به على سبب العلة، إلى أن قالت لي: إنها في يوم من الأيام، جلست في بيت دولاب بقر في بستان لكم، ثم حدثت العلة بها، من غير معرفة، من ذلك اليوم، فخلت، أنه قد دب إلى فرجها من القراد الذي يكون على البقر، وفي بيوت البقر، قراد قد تمكن من أول داخل الفرج، فكلما امتص الدم من موضعه ولد الضربان، وأنه إذا شبع، نقط من الجرح الذي يمتص منه إلى خارج الفرج، هذه النقط اليسيرة من الدم.
فقلت: أدخل يدي وأفتش.
فأدخلت يدي، فوجدت القراد، فأخرجته، وهو هذا الحيوان، قد كبر، وتغيرت صورته، لكثرة ما يمتص من الدم، على طول الأيام.
قال: وأراني الحيوان، وإذا هو قراد.
قال: وبرأت الصبية.
قال: فقال لي أبو الحسين القاضي: فهل ببغداد اليوم، من له من الصناعة مثل هذا، أو ما يقاربه؟ ، فكيف لا أغتم بموت من هذا بعض حذقه؟
أبو المغيرة الشاعر يروي خبراً ملفقاً
حدثنا أبو المغيرة، محمد بن يعقوب بن يوسف، الشاعر، البغدادي، الأسدي، قال: حدثني أبو موسى عيسى بن عبيد الله البغدادي، قال: حدثني صديق لي، قال: كنت قاصداً للرملة وحدي، فانتهيت إليها، وقد نام الناس، ليلاً، فعدلت إلى المقبرة، ودخلت بعض القباب التي على القبور، وطرحت درقة كانت معي، فاتكأت عليها، وعلقت سيفي أريد النوم، لأدخل إلى البلد نهاراً، فاستوحشت من الموضع، وأرقت.
فلما طال أرقي، أحسست بحركة، فقلت: لصوص يجتازون، فإن قصدت لهم، لم آمنهم، ولعلهم أن يكونوا جماعة، فلا أطيقهم، فانخزلت مكاني، ولم أتحرك، وأخرجت رأسي من بعض أبواب القبة، على تخوف شديد، فرأيت دابة كالدب، يمشي، فأخفيت نفسي، فإذا به قد قصد قبة حيالي، قريبة مني، فما زال يتلفت طويلاً، ويدور حولها، ويتلفت، ساعة، ثم دخلها.
فارتبت به، وأنكرت فعله، وتطلعت نفسي إلى علم ما هو عليه.
فدخل القبة، وخرج غير متثبت، ثم دخل وخرج، بسرعة، دفعات، ثم دخل، وعيني عليه، فضرب بيده إلى قبر في القبة ليحفر.
فقلت: نباش، لا شك فيه.
وتأملت يحفر بيديه، فعلمت أن فيها آلة حديد يحفر بها.
فتركته إلى أن اطمأن، وأطال، وحفر شيئاً كثيراً، ثم أخذت سيفي ودرقتي، ومشيت على أطراف أناملي، حتى دخلت القبة، فأحس بي، وقام إلي بقامة إنسان، وأومأ إلي ليلطمني بكفه، فضربت يده بالسيف، فأبنتها، وطارت.
فصاح: أواه، قتلتني، لعنك الله.
وعدا من بين يدي، وعدوت وراءه، وكانت ليلة مقمرة، حتى دخل البلد، وأنا وراءه، ولست ألحقه، إلا أنه بحيث يقع بصري عليه، إلى أن اجتاز في طرق كثيرة، وأنا في خلال ذلك أعلم الطرق، لئلا أضل، حتى إذا جاء إلى باب دار، فدفعه، ودخل، وغلقه، وأنا أتبع.
فعلمت الباب، ورجعت أقفو الأثر، والعلامات التي علمتها في طريقي، حتى انتهيت إلى القبة التي كان فيها النباش، فطلبت الكف، فوجدتها، وأخرجتها إلى القمر، فبعد جهد، انتزعت الكف المقطوع من الآلة الحديد، فإذا هي كف كالكف، وقد أدخل أصابعه في الأصابع، وإذا هي كف فيها نقش حناء، وخاتمان ذهب.
فحين علمت أنها امرأة، اغتممت، وتأملت الكف، وإذا أحسن كف في الدنيا، نعومة، ورطوبة، وسمناً وملاحة، فمسحت الدم منها، ونمت في القبة التي كنت فيها.
ودخلت البلد، من غد، أطلب العلامات، حتى انتهيت إلى الباب.
فسألت: لمن الدار؟ فقالوا: لقاضي البلد.
واجتمع عليها خلق، وخرج منها رجل شيخ بهي، فصلى الغداة بالناس، وجلس في المحراب.
فازداد عجبي من الأمر، وقلت لبعض الحاضرين: بم يعرف هذا القاضي؟ فقال: بفلان.
فأطلت الحديث في معناه، حتى عرفت أن له ابنة عاتقاً، وزوجة، فلم أشك، أن النباشة ابنته.

فتقدمت إليه، وقلت له: بيني وبين القاضي - أعزه الله - حديث، لا يصلح إلى على خلوة.
فقام إلى داخل المسجد، وخلا بي، وقال: قل.
فأخرجت إليه الكف، وقلت: أتعرف هذه؟ فتأملها طويلاً، وقال: أما الكف فلا، وأما الخواتيم، فخواتيم ابنة لي، عاتق، فما الخبر؟ فقصصت عليه الحديث بأسره.
فقال: قم معي، وأدخلني داره، وغلق الباب، واستدعى طبقاً، وطعاماً، واستدعى امرأته.
فقال له الخادم: تقول لك: كيف أخرج ومعك رجل غريب؟ فقال: لا بد من خروجها تأكل معنا، فهنا من لا أحتشمه.
فأبت عليه، فحلف بالطلاق لتخرجين، فخرجت باكية، فجلست معنا.
فقال لها: أخرجي ابنتك.
فقالت: يا هذا، قد جننت، فما الذي حل بك؟ فقد فضحتني، وأنا امرأة كبيرة، فكيف تهتك صبية عاتقاً؟ فحلف بالطلاق لتخرجنها، فخرجت.
فقال: كلي معنا.
فرأيت صبية كالدينار المنقوش، ما مقلت مقلتاي مثلها، ولا أحسن منها، إلا أن لونها أصفر جداً، وهي مريضة، فعلمت أن الذي لحق يدها، قد فعل بها ذلك.
فأقبلت تأكل بيمينها، وشمالها مخبوءة.
فقال: اخرجي اليسرى.
فقالت: قد خرج فيها خراج عظيم، وهي مشدودة.
فحلف لتخرجنها.
فقالت امرأته: يا رجل، استر على نفسك، وعلى ابنتك، فوالله - وحلفت بأيمان كثيرة - ما اطلعت لهذه الصبية على سوء قط، إلا البارحة، فإنها جاءتني، بعد نصف الليل، فأيقظتني، وقالت: يا أمي، الحقيني، وإلا تلفت.
فقلت لها: ما لك؟ فقالت: قد قطعت يدي، وهو ذا أنزف الدم، والساعة أموت، فعالجيني، وأخرجت يدها مقطوعة.
فلطمت، فقالت: لا تفضحيني ونفسك بالصياح، عند أبي والجيران، وعالجيني.
فقلت: لا أدري بما أعالجك.
فقالت: خذي زيتاً، فاغليه، واكوي به يدي.
ففعلت ذلك، وكويتها، وشددتها، وقلت: الآن حدثيني ما دهاك.
فامتنعت.
فقلت: والله، لئن لم تحدثيني، لأكشفن أمرك إلى أبيك.
قالت: إنه وقع في نفسي منذ سنتين، أن أنبش القبور، فتقدمت إلى هذه الجارية، فاشترت لي جلد ماعز غير محلوق الشعر، واستعملت لي كفين من حديد، وكنت إذا نمتم، أفتح الباب، وآمرها أن تنام في الدهليز ولا تغلق الباب، وألبس الجلد، والكفين الحديد، وأمشي على أربع، فلا يشك من لعله يراني من سطح أو غيره، أني كلب.
ثم أخرج إلى المقبرة، وقد عرفت من النهار، خبر من يموت من الجلة، وأين قد دفن، فأقصد قبره، فأنبشه، وآخذ الأكفان، فأدخلها في الجلد، وأمشي مشيتي، وأعود والباب غير مغلق، فأدخل، وأغلقه، وأنزع تلك الآلة، وأدفعها إلى الجارية، مع ما قد أخذته، فتخبئه في بيت لا تعلمون به، وقد اجتمع ثلثمائة كفن، أو ما يقاربها، لا أدري ما أصنع بها، إلا أني كنت أجد لذلك الخروج، والفعل، لذة لا سبب لها، أكثر من أن أصابتني بهذه المحنة.
فلما كان الليلة، تسلط علي رجل، أحس بي، وكان كأنه جالس، أو حارس لذلك القبر، فحين بدأت أنبشه، جاءني، فقمت لأضرب وجهه بكفي الحديد، فأشغله بها عني، وأعدو، وأنجو، فداخلني بالسيف، فضربني، فتلقيت الضربة بشمالي، فأبان كفي.
فقلت لها: أظهري أنه قد خرجت على كفك خراج، وتعاللي، فإن الذي بك من صفار، يصدق قولك، حتى إذا مضت أيام، قلنا لأبيك: لا بد أن تقطع يدك، وإلا خبث جميع بدنك، فتلفت، فيأذن لنا في قطعها، فنوهم أنا قطعناها من جديد، وينستر أمرك.
فعملنا على هذا، بعد أن استتبتها، فتابت، وحلفت بالله، لا عادت.
وكنت على بيع هذه الجارية، وأراعي فيما بعد مبيت الصبية، وأبيتها جانبي، ففضحتني أنت، وفضحت نفسك.
فقال لها القاضي: ما تقولين؟ فقالت: صدقت أمي، ووالله، لا عدت أبداً، وتابت.
فقال لها القاضي: هذا صاحبك الذي قطع يدك، فكادت أن تتلف جزعاً.
ثم قال: يا فتى، من أين أنت؟ فقلت: رجل من أهل العراق.
قال: ففيم وردت؟ قلت: أطلب الرزق.
فقال: قد جاءك حلالاً، هنيئاً، نحن قوم مياسير، ولله علينا ستر، فلا تهتكه، والله، ما علمت هذا من حال ابنتي، فهل لك أن تتزوجها، وأغنيك بمالي عن الناس، وتكون معنا، وفي دارنا؟ قلت: نعم.
فرفع الطعام، وخرجنا إلى المسجد والناس مجتمعون، ينتظرونه.
فخطب، وزوجني، وقام رجع، فأدخلني إلى الدار.

ووقع حب الصبية في نفسي، حتى كدت أموت عشقاً لها، وافترعتها، وأقامت معي شهوراً، وهي نافرة عني، وأنا أونسها، وأبكي حسرة على يدها، وأعتذر إليها، وهي تظهر قبول عذري، وأن الذي بها غماً على يدها.
إلى أن نمت ليلة، وانبسطت في نومي، على رسمي، فأحسست بثقل على صدري شديد، فانتبهت جزعاً، فإذا بها باركة على صدري، وركبتها على يدي، مستوثقة، وفي يدها موسى، وقد أهوت لتذبحني، فاضطربت ورمت الخلاص فتعذر، وخشيت أن تبادرني، فسكنت.
فقلت لها: كلميني، واعملي ما شئت، ما الذي يدعوك إلى هذا؟ قالت: أتظن أنك قطعت يدي، وهتكتني، وتزوجت بي، وتنجو سالماً؟ والله لا كان هذا.
فقلت: الذبح قد فاتك، ولكنك تتمكنين من جراحات توقعينها بي، ولا تأمنين أن أفلت فأذبحك، أو أهرب وأكشف هذا عليك، ثم أسلمك إلى السلطان، فيكشف جنايتك الأولى، والثانية، ويتبرأ منك أهلك، وتقتلين.
فقالت: افعل ما شئت، فلا بد من ذبحك، وقد استوحش كل منا من صاحبه.
فنظرت، وإذا الخلاص منها يبعد علي، ولا آمن أن تجرح موضعاً من بدني، فيكون فيه تلفي، فقلت: الحيلة أعمل فيها.
فقلت: أو غير هذا.
فقالت: قل.
فقلت: أطلقك الساعة، وتفرجين عني، وأخرج من البلد، فلا تريني، ولا أراك أبداً، ولا ينكشف لك حديث في بلدك، ولا فضيحة، وتتزوجين من شئت، فقد شاع عند الناس، أن يدك قطعت لخراج خبثها، وتربحين الستر.
فقالت: تحلف أنك لا تقيم في البلد، ولا تفضحني فيه أبداً؟ قال: فحلفت بالأيمان المغلظة.
فقامت عن صدري، تعدو، خوفاً من أن أقبض عليها، حتى رمت الموسى بحيث لا أدري، وعادت، فأخذت تظهر بأن الذي فعلته، مزاح، وتلاعبني.
فقلت: إليك عني، فقد حرمت علي، ولا تحل لي ملامستك، وفي غد، أخرج عنك.
فقالت: الآن علمت صدقك، ووالله، لو لم تفعل، لما نجوت من يدي.
وقامت، فجاءتني بصرة، وقالت: هذه مائة دينار، خذها نفقة، واكتب رقعة بطلاقي، ولا تفضحني، واخرج.
فخرجت في سحرة ذلك اليوم، بعد أن كتبت إلى أبيها، أني قد طلقتها، وأني خرجت حياء منه.
ولم ألتق بهم إلى الآن.

من شعر أبي المغيرة
أبو المغيرة، راوي هذا الخبر، شاعر طويل اللسان، مطبوع، هجاء، ولم مدائح كثيرة، وديوان واسع، وأنشدني لنفسه أشياء، منها:
عرضني للردى هواه ... من معدن السحر مقلتاه
وقد لوى نحوه فؤادي ... صدغ على الخد قد لواه
كأنه عقرب ولكن ... يلسع كل الورى سواه
يا عاذلي في هواه رفقاً ... عذري من الحسن ما تراه
أبو أحمد الدجلي يرى مناماً صادقاً
حدثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد بن سليمان، الكاتب المعروف بالدلجي، قال: رأيت في المنام ذات ليلة - وأنا إذ ذاك أخلف سهل بن بشر على أعمال الأهواز - كأني قد خرجت إلى بعض الصحارى، فصعدت جبلاً شاهقاً، فلما بلغت ذروته، قربت من القمر، أو قرب القمر مني، حتى لمسته بيدي، وكأن في يدي خشبة، قد أدخلتها فيه، وأنا أخضخضها فيه، حتى نقبته، وقطعته قطعاً، ثم أخذت بتلك الخشبة، غيماً، كان قريباً من القمر، فما زلت ألطخه، حتى طينته كله، وكأن صاحباً لي يقول: ما تصنع؟ فقلت له: قد قتلت القمر، وأنا أطينه بهذا الغيم.
وانتبهت، فاشتغل بذلك قلبي، فبكرت إلى أبي الحسن أحمد بن عمر الطالقاني، الكاتب، فلما رآني، قال: رأيت لك البارحة مناماً طريفاً، وأردت أن أجيئك الساعة، فأفسره لك.
فقلت: فإني رأيت البارحة مناماً قد شغل قلبي، فجئت لأحدثك به.
فقال: ما رأيت؟ فقصصت عليه الرؤيا. فقال: لا تشغل قلبك بها، فستلي مكان سهل بن بشر، وتحتوي على منزله، عن قريب.
فقلت: من أين لك هذا؟ وما الذي رأيت أنت؟ فقال: رأيت البارحة في منامي، كأني مجتمع مع رجل صالح، قد هجس في نفسي أنه بعض الصحابة، أسأله أن يدعو الله عز وجل لي، فقال لي: الدلجي صديقك؟ فقلت: نعم.
فقال: قل له: الأهواز وقف عليك، فاتق الله، ولا تؤذي زوجتك، ولا شك أن هذا المنام تفسير منامك.
فاستكتمه المنام، وافترقنا، وعدت.
وما كنت أرى أنني أؤذي زوجتي في شيء، إلا في تسري الجواري، وكانت عندي واحدة منهن، قد أقامت نحو سنة، وكادت أن تغلبها علي، فبعتها على مشتر في الحال، ووهبت ثمنها لزوجتي، وكان ألوف دراهم.

فلما كان بعد ذلك بسنة - أكثر أو أقل - ورد الوزير ابن بقية، الأهواز، مع عز الدولة، وقبض على القائد بختكين آزاذرويه، والأتراك، وسهل بن بشر، ثم أطلق القائد، وسمي بالحاجب الأجل، وردت الضمانات إليه، وقلدني مكان سهل بن بشر.
فما زال في حبس أبي أحمد، مدة، ثم أخذ من يده، وحمل إلى بغداد، وحدث من ملك الأمير عضد الدولة بغداد ما حدث، فأطلق، وقلد عسكر مكرم، وتستر، وجنديسابور وأعمال ذلك، ونكب أبا أحمد، وألزمه مالاً، فلزم منزله بالأهواز، وكان يؤدي المال، إلى أن خالف سهل بن بشر، ودخل الأهواز بالجيش داعياً إلى عضد الدولة، ومعهم أبو أحمد خوفاً على مهجته من سهل بن بشر.
وأقام بأرجان، سنة وشهراً، ثم واطأ الديلم بالأهواز، على أن يشغبوا، ويقولوا: إنهم لا يرضون بالوزير وزيراً، ولا يقنعون إلا بصرفه، وتقليد غيره الوزارة، وإلا لم يرضوا بإمارة الأمير عز الدولة، واستحلف القواد، وسائر الجيش بكور الأهواز، وبايعوه، وحلفوا له، وأظهر أنه يريد المسير إلى بغداد، للمطالبة بذلك، وذلك في شعبان سنة خمس وستين وثلثمائة.
فأنكر ذلك، الأمير عز الدولة، وأنفذ إبراهيم بن إسماعيل، من أجل حجابه، برسالة إلى الديلم، فندموا على ما فعلوا، وأذعنوا بالطاعة، فقبض على سهل بن بشر، وحمله إلى بغداد، إلى الأمير عز الدولة، فخلع عليه، وضمنه الأهواز، والياً لها ولكورها.
فصارت الأهواز، كالوقف عليه، لا يصلح لها غيره، ولا يعرف فيها عند الحاجة سواه.

أبو مسلم الأصبهاني الكاتب
يرى مناماً صادقاً
حدثنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن مهدي، الأصبهاني، الكاتب، قال: رأيت في المنام - وقت استحلاف سهل بن بشر، القواد، والديلم، على الشغب، والمطالبة بصرف الوزير الناصح نصير الدولة - كأني قد خرجت إلى صحراء عظيمة، فرأيت معسكراً هائلاً، بالخيم، والشرع، والفازات، وفي وسطه نهر يسقيه، وعلى حافتي ذلك النهر غائط عظيم، وجميع أهل ذلك المعسكر، من القواد وغيرهم، قد اجتمعوا، يأكلون من تلك العذرة، فجاء الحاجب الأجل من بينهم، وقد أكل من تلك العذرة، فغسل فاه، وما حواليه بالماء، وتمضمض، وركب، ولم يفعل الباقون ذلك.
وكأني أعجب من هذا، إذ وقعت عيني على شراع فوق سطح، فقلت: لمن هذا؟ للدلجي؟ ، قال: وأبو أحمد الدلجي إذ ذاك بأرجان.
فقالوا: هذا له، وقد قدم.
فقلت: أمضي، وأراه، وأسلم عليه.
فتوجهت، إلى أن بلغت إلى أسفل الموضع الذي فيه الشراع، فهبت ريح عظيمة، فقلعت تلك الخيم التي كانت في المعسكر، فما رأيت منها شيئاً باقياً، فنظرت فإذا نساء، وصبيان، ورجال، وشيوخ، يمسكون الشراع.
فقلت: من هؤلاء؟ فقال لي قائل: هؤلاء الطالبيون، يمسكون شراع الدلجي، حتى لا تقلعه الريح.
وانتبهت، فقصصت من غد، الرؤيا على سيما الدرعي، صاحب الشرط، وقلت: هذا الذي فيه هؤلاء، لا يجيء منه شيء، سيلي الدلجي، ويجيء من أرجان.
فقال: ويحك ما تقول؟ فقصصت عليه الرؤيا.
فقال: إحسان الدلجي إلى الطالبيين، هو الذي يأخذ بيده.
فما كانت إلا أيام، حتى ورد إبراهيم الحاجب، فقبض على سهل بن بشر، وحمله مقيداً، وسار بالجيش إلى بغداد.
فأما الحاجب الأجل بختكين، فقد كاتب الأمير والوزير بالخبر، وأشار بمعاجلة سهل بن بشر، والقبض عليه، وذكر أنه وافقه، إشفاقاً من وثوب الديلم عليه، فنجا من المحنة بذلك الفعل، وكان ذلك تأويل مضمضته، وغسله فاه من العذرة.
وأما الباقون، الذين غمرهم ذلك الأمر، فكانوا: الحسين بن أحمد بن بختيار، القائد الديلمي، وتكيدار بن سليمان، القائد الجيلي، فلما حصلا بواسط، قبض عليهما، ونفيا، وأخذت نعمتهما.
وورد أبو أحمد الدلجي، الحضرة، فتقلد الأهواز وكورها.
فكان يحدثنا بهذا، بحضرة أبي أحمد، بعد دخوله الأهواز بمدة.
الوزير المهلبي يطالب أحد عماله بحمل الخراج
سمعت أبا محمد المهلبي، يملي كتاباً، إلى سعد بن عبد الرحمن - وهو إذ ذاك، ضامن عمالة البصرة منه، في شركة أبي الحسين أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي، وأبي علي الحسن بن علي بن مهدي الأصبهاني، ابن أخت سعد بن عبد الرحمن - يخاطبه في معنى المال، وتأخره، وحثه بخطاب جميل بين اللين والخشن.
وقال في آخره:

لو سكت عن مطالبتك بالمال، ما سكت الأمير معز الدولة، فيجب أن تؤديه محموداً، خيراً من أن تؤديه مذموماً، فاعمل على أني صديق أشرت بأدائه، ومدافعته عنك، بهذا القدر، ما كنت أغلو عليه به، فإن من أرضى أصدقاءه في أيام النعم، أرضوه في أيام المحن، واعلم أنه ليس بين مخاطبتي هذه لك، وبين أن أخاطبك بضدها، مما يخاطب به العمال المطالبون، الملطون، والمعاملة بما يقتضي ذلك، إلا أن يرد جواب كتابي فارغاً من ذكر حمل المال، وأعوذ بالله، فاختر لنفسك، أو فدع، والسلام.

أبو محمد المهلبي الوزير يتحدث عن الكرم
سمعت أبا محمد المهلبي، يقول يوماً، في شيء جرى بحضرته، من ذكر الكرم والكرام، بين جماعة من الناس: كرم الكريم يستر عليه، ما تكشفه النوائب من سوءاته.
إعظام من لا دين له ولا دنيا عنده، حمق
حدثني أبو محمد بن داسة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إسحاق الآمدي، ويعرف بابن أبي صفوان، شيخ كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخي، على القضاء بواسط وأعمالها، وعلى أعمال كور الأهواز، في أوقات متفرقة، قال: أخبرني من حضر مجلس أبي عمر القاضي، وقد دخل إليه ابن غسان، صهره.
فقال له: من أين أقبلت؟ فقال: من عند فلان.
فقال أبو عمر: إعظام من لا دين له، ولا دنيا عنده، حمق
البخل خير من مسألة البخيل
حدثنا أبو القاسم عمر بن حسان بن الحسين، الشاهد، البغدادي - وقد تولى القضاء بديار مضر من قبل قاضي القضاة، وهو مشهور المحل - قال: كنت عند سلامة، أخي نجح الطولوني، وأنا شاب، وفي مجلسه جماعة يذمون البخل، وكان سلامة ينسب إلى البخل، وما كان بخيلاً، وإنما كان محصلاً لحاله، مصلحاً لماله.
فلما انصرفوا، قال: يا أبا القاسم، لا تسمع هذا الكلام، ولا تعول عليه، فتهلك، واعلم أن البخل خير من مسألة البخيل.
سلامة الحاجب يلوم قوماً طعنوا في العدول
قال: وكنت عنده في آخر كونه ببغداد، وقبيل دخول الديلم إليها، وبحضرته قوم يطعنون على الشهود، ويعيبونهم.
فقال لهم سلامة: ما رأيت أعجب من أمركم، من فيكم يطمئن أن يشتري من ابنه، أو من أخيه، ضيعة بعشرة آلاف دينار، ولا يشهد عليه العدول؟ فقالوا: ما فينا أحد بهذه الصورة.
قال: أفتستظهرون لأنفسكم، وأعقابكم، في هذا القدر الكثير من المال، وما هو أكثر منه، إلا بالشهادة، وتعتاضون بخطوطهم في جلد يساوي دانق فضة، من ذلك المال العظيم، حتى تأخذوا الصك، بدلاً من المال، فتجعلونه تحت رؤوسكم، لشدة حفظه.
قالوا: نعم.
قال: فمن كان هذا حكمه عندكم، لم تطعنون فيه؟ .
أبو علي بن مقلة الوزير يزيل أثر الحلوى بالحبر
حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك، وكان يعرف بالديناري، لأن أمه دينارية، تقرب إلى امرأة أبي علي بن مقلة، المعروفة بأم الفضل الدينارية.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن علي بن مقلة، يحدث بهذا الحديث، واللفظ مقارب، قالا: كان أبو علي بن مقلة، يوماً، يأكل، فلما شيلت المائدة، وغسل يده، رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى الذي أكله، ففتح الدواة، واستمد منها بيده، ونقطها على الصفرة، حتى لم يبق لها أثر، وقال: ذاك عيب، وهذا أثر صناعة، ثم أنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوي عطر الرجال
من نظم ابن أبي الضحاك
أنشدني لنفسه:
وأشجار نارنج كأن ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر
تطالعنا بين الغصون كأنها ... خدود العذارى في ملاحفها الخضر
أتت كل مشتاق بريا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدري
وأنشدني لنفسه أيضاً في النارنج:
شجر كأيام الشبا ... ب تعجلت قبل المشيب
وكأنما نارنجها ... وجه الحبيب على رقيب
تهدي إليك جميع ما ... أرضاك من حسن وطيب
لم لا تحن لها القلو ... ب وقد غدت مثل القلوب
للبديهي البغدادي في وصف النارنج
أنشدني أبو الحسن، أحمد بن عبيد الله البغدادي، المعروف بالبديهي، لنفسه:
أنظر إلى النارنج في أغصانه ... نزهاً لأعيننا وعطراً في اليد

ككباب نار في قباب زبرجد ... متوقد بالطيب أي توقد
ورق كآذان الجياد قدودها ... قد أثقلت بقلائد من عسجد

أبو الحسن بن جميل يستخلف متخلفا
ً
حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين الأهوازي، الكاتب، قال: كنا خمسة كتاب، قد نشأنا بين يدي أبي الحسن بن جميل، في الديوان بالأهواز، وتعلمنا عليه، وكان فينا رجل متخلف في صناعته، فأراد ابن جميل، أن يغيب عن صاحبه، واستخلف ذلك المتخلف، فاغتممنا لتقديمه علينا.
وكان الرجل، يدخل إلى الصاحب، فإذا سأله عن شيء لم يفهمه، وإن فهمه لم يحسن أن يجيب عنه، وإن أجاب عنه، اضطرب ولم يقم بالحجة.
فلما طال ذلك على الصاحب، قال: قد أضرت بنا غيبة ابن جميل عنا، اكتبوا إليه، حتى يبادر.
قال: فعلمنا - حينئذ - أنه استخلفه، ليكتب لصاحبه، إذا غاب، في موضعه، ولا يطمع في أن ينوب عنه.
أبو الفضل عامل أرجان يقدم نوبة الحمى
حدثنا أبو علي محمد بن الحسن بن جمهور، العمي، الكاتب، الصلحي، البصري، صاحب الستارة، المشهور بالأدب، والشعر، وتصنيف الكتب، قال: كنت أكتب لأبي الفضل غيلان بن إسماعيل، وهو بأرجان يتقلدها.
فقيل له: قد قدم أبو المنذر النعمان بن عبد الله، يريد فارس، والوجه أن تلقاه في غد.
وكان أبو الفضل يحم حمى الربع، فقال: كيف أعمل، وغداً يوم حماي، ولا أتمكن من لقاء الرجل، ولكن الوجه أن أحم اليوم، حتى أقدر أن ألقاه غداً، يا غلام، هات الدواج حتى أحم الساعة.
وإذا عنده، أنه إذا أراد أن يقدم نوبة الحمى، ويحم، تأخرت عنه الحمى في غد، وصح.
ابن الجريح يقتل أسدا
ً
حدثني الأستاذ أبو أحمد الحسين بن محمد الدلجي، قال: كنت بنواحي المذار، في جماعة، منهم رجل من الشاكرية، يعرف بابن الجريح، فخرج علينا أسد، فابتدر له هذا الرجل، بسيفه ودرقته، يحاربه، ودخل معه الأجمة، فلم نعرف له خبراً، حتى خرج علينا، وقد قتل الأسد، وحمله على ظهره، وكان بيننا وبين الأجمة مسافة صالحة، فلما انتهى إلينا، طرحه عن ظهره.
فما درينا من أي شيء نعجب، من رجل قتل سبعاً وحده، أو من حمله إياه، على ظهره، طول تلك المسافة.
الخليفة المعتضد يقتل أسدا
ً
وحدثنا، قال: بلغني عن خفيف السمرقندي، أنه قال: كنت مع مولاي المعتضد، في بعض متصيداته، وقد انقطع عن العسكر، وليس معه غيري، فخرج علينا أسد، فقصدنا.
فقال لي المعتضد: يا خفيف، أفيك خير؟ فقلت: لا، يا مولاي.
فقال: ولا حتى تمسك فرسي، وأنزل أنا إلى الأسد؟ فقلت: بلى.
فنزل، وأعطاني فرسه، وشد أطراف منطقته، واستل سيفه، ورمى القراب إلي، فأخذته، وأقبل يمشي إلى الأسد، واستقبله بضربة، وثناه المعتضد بأخرى، ففلق هامته، فخر صريعاً، ودنا منه وقد تلف، فمسح السيف في صوفه، حتى نظفه، ورجع إلي، فأغمد السيف، وركب.
ثم عدنا إلى المعسكر، وصحبته، فإلى أن مات، ما سمعته يتحدث بحديث الأسد، ولا لفظ فيه بلفظة.
فلم أدر من أي شيء أعجب، من شجاعته وشدته، أم من قلة حفله بما صنعه، وكتمانه، أم من كرمه وعفوه عني، وما عاتبني على ضني بنفسي.
لا جزاك الله من طارق خيرا
ً
حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن أم المكاتب البغدادي، المعروف والده بأبي الليث الهمذاني، قال: حدثني محمد بن بديع العقيلي، أحد قوادهم ووجوههم في الحي، وكان ورد إلى معز الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، قال: رأيت رجلاً من بني عقيل، وفي ظهره كله شرط كشرطات الحجام، إلا أنها أكبر، فسألته عن ذلك.
فقال: إني كنت هويت ابنة عم لي، فقالوا: لا نزوجك إلا أن تجعل في الصداق الشبكة، فرس سابقة كانت لبعض بني بكر بن كلاب، فتزوجتها على ذلك.
وخرجت في أن أحتال في سلب الفرس من صاحبها، لأتمكن من الدخول بابنة عمي.
فأتيت الحي الذي فيه الفرس، في صورة حدار، وما زلت أداخلهم، ومرة أجيء الخباء الذي هي فيه كأني سائل، إلى أن عرفت مبيت الفرس من الخباء.
واحتلت حتى دخلت البيت من خلفه، وحصلت خلف النضد، تحت عهن كانوا نفشوه ليغزل.
فلما جاء الليل، وافى صاحب الخباء، وقد زاولت لك المرأة عشاء، وجلسا يأكلان، وقد استحكمت الظلمة، ولا مصباح لهم، وكنت ساغباً، فأخرجت يدي، وأهويت إلى القصعة، وأكلت معهم.

فأحس الرجل بيدي، فأنكرها، فقبض عليها، فقبضت على يد المرأة، فقالت له المرأة: ما لك ويدي؟ ، فظن أنه قابض على يد امرأته، فخلى يدي، فخليت يد المرأة.
وأكلنا، فأنكرت المرأة يدي، فقبضت عليها، فقبضت يد الرجل، فقال لها: ما لك؟ فخلت عن يدي، فخليت عن يده.
وانقضى الطعام، واستلقى الرجل نائماً، فلما استثقل، وأنا مراصدهم، والفرس مقيدة في جانب البيت، فأثبتها، والمفتاح تحت رأس المرأة.
فوافى عبد له أسود، فنبذ حصاة، فانتبهت المرأة، فقامت إليه، وتركت المفتاح في مكانه، وخرجت من الخباء إلى ظاهر البيت، ورمقتها بعيني، فإذا هو قد علاها.
فلما حصلا في شأنهما، دبيت، وأخذت المفتاح، وفتحت القفل، وكان معي لجام شعر، فأوجرته الفرس، وركبتها، وخرجت عليها من الخباء.
فقامت المرأة من تحت العبد، ودخلت الخباء، وصاحت.
فذعر الحي، وأحسوا بي، وركبوا في طلبي، وأنا أكد الفرس، وخلفي خلق منهم.
فأصبحت، وليس ورائي إلا فارس واحد برمح، فلحقني وقد طلعت الشمس، وأخذ يطعنني، فلا تصل إلي طعناته، ولا فرسي تنجيني، إلى حيث لا يمسني من الرمح شيء.
حتى وافينا إلى نهر عظيم، فصحت بالفرس، فوثبته، وصاح الفارس بالفرس التي تحته، فقصرت، ولم تثب.
فلما رأيته عاجزاً عن العبور، وقفت، لأريح الفرس وأستريح، فصاح بي، فأقبلت عليه بوجهي.
فقال: يا هذا، أنا صاحب الفرس التي تحتك، وهذه ابنتها، فإذ ملكتها، فلا تخدع عنها، فإنها تساوي عشر ديات، وعشر ديات، وعشر ديات، وما طلبت عليها شيئاً قط، إلا لحقته، ولا طلبني عليها أحد إلا فته، وإنما سميت الشبكة، لأنها لم ترد قط شيئاً إلا أدركته، فكانت كالشبكة في صيده.
فقلت له: إذ نصحتني، فوالله لأنصحنك، كان من صورتي البارحة، كيت وكيت، وقصصت عليه قصة امرأته، والعبد، وحيلتي في الفرس.
فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: ما لك، لا جزاك الله من طارق خيراً، طلقت زوجتي، وأخذت قعدتي، وقتلت عبدي.
؟

دكين البدوي يسل فرس معز الدولة
وحدثنا ابن أبو الليث الكاتب، قال: حدثني رجل من بني النمر بن قاسط، يسمى دكين، بدوي، شاهدته بالأنبار، قال: كان معز الدولة، لما حصل بسنجار، يشد فرساً له جليل القيمة، بين يديه، في أقرب المواضع إلى مبيته. فعينت عليه، وطمعت في سله، وأعملت الحيلة في ذلك، فلم أتمكن.
إلى أن جئت ليلة من الليالي، فوجدت بعض السواس، وقد نزع جبة صوف عليه، وهو نائم، وقد طرحها إلى جنبه، فلبستها، وجئت إلى الفرس، وأخذت المخلاة من رأسه، لأحله، وأركبه.
فلما طرحت المخلاة، استيقظ معز الدولة، وأحسست بحركته، فأخذت الغربال، وطرحت به باقي الشعير الذي كان في المخلاة، وسردته، وأعدته إلى المخلاة، وأوهمته أني أحد السواس، وقد فعلت ذلك متفقداً للفرس.
فلما رآني أفعل ذلك، صاح بالفارسية، بكلام فهمت معناه: حسبه من الشعير، لا ترده إلى رأسه.
فتركت المخلاة، ومرح الفرس يطلبها.
فقال معز الدولة بالفارسية: قصر عليه.
فتمكنت من الحيلة، وأهويت إلى الرسن، فحللته، موهماً له أني أقصره، واستويت على ظهره وصحت به، فخرجت من العسكر.
وصاح الأمير معز الدولة، وركب سرعان العسكر في طلبي، فما زلت أركض، وخلفي جماعة، حتى حصلت في شعب طويل، وهم ورائي.
فاستقبلني قوم من العلافة، رأيتهم على بعد، من ضوء مشاعلهم، ومعهم عسكر.
فقلت في نفسي: يا دكين، اليوم يومك، وراءك عسكر، وأمامك عسكر، فإن ملكوك، لم يوصلوك إلى معز الدولة، إلا ميتاً، وليس غير الإقدام على ما تقدر فيه النجاة.
فقام في نفسي أن أحمل على من هو أمامي، وليس لهم علم بخبري، فسللت سيفاً كان معي، فوق ثيابي، وتحت الجبة التي لبستها من ثياب سواس معز الدولة، وحركت وهم لا يروني، لأنهم في الضوء، وأنا في الظلمة.
فلما قربت منهم، صحت بهم صياحاً عظيماً، فقدروني ابتداء خيل قد كبستهم، تريدهم.
وأقبلت أحمل على واحد، واحد، وأنا أضرب، فيتوقاني، وأحذره، إلى أن تخلصت منهم، وجريت.
ولحقت بهم الخيل التي كانت خلفي، وتشاغلوا بمساءلتهم عني قليلاً، ففت الفريقين.
وحملت الفرس إلى الشام، فبعته على سيف الدولة، بثلاثة آلاف درهم، ودحت في البلاد، إلى أن صرت إلى بغداد، ومعز الدولة، يطلب قوماً من العرب، ليفرض لهم وينفذهم إلى بعث.

فحملني المسيب بن رافع العقيلي، في جماعة، إليه، عرضهم عليه، فأثبتني.
فلما وقفت بين يديه، اقتحمتني عينه، لأني دميم. فقال: بيست دينار.
فعلمت أنه أراد، عشرين ديناراً.
فكلمه المسيب، والمهنا، العقيليان، فزادهما ثلاثة دنانير.
فقالا له: رجل له فضل، ومنزلة، وهو من أصله، ومن شجاعته.
فقال: لو كان هذا كله حقاً، ما كان يقدر أن يصنع؟ فقلت لبعض النقباء: أي شيء قال؟ ففسره لي.
قال: فقلت: أيها الأمير، أقدر أضع نفسي على فرس بين يدي ملك مثلك، فأحتال في أمره، حتى آخذه سائساً، ثم أركبه، وقصصت عليه قصته مع فرسه بسنجار، وذكر بيعه وثمنه.
فقال: وأنت صاحب الفرس بسنجار؟ فقلت له: نعم.
فضحك، وقال: نزلوه أربعين ديناراً.
ففعلوا.

مختارات من الشعر
حدثني أبو الحسن، قال: اجتزت بطريق سر من رأى، فدخلت القصر المعروف بالأحمدي، لأشاهد آثاره، فلما توسطته، رأيت مكتوباً على حائط فيه:
في الأحمدي لمن يأتيه معتبر ... لم يبق من حسنه عين ولا أثر
غارت كواكبه وانهد جانبه ... ومات صاحبه واستفظع الخبر
وأنشدني لنفسه:
رفقاً أقيك بمقلة ... كلفتها طول السهاد
أصبحت منها في السوا ... د وفي السواد من الفؤاد
وأنشدني أبو القاسم الصروي، قال: أنشدني أبو الحسن الموسوي، العلوي، لنفسه:
يا نازلاً في السواد ... من مقلتي وفؤادي
رجال الدولة يتآمر بعضهم على بعض
حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله، قال: أخبرني جماعة من شيوخ الكتاب ببغداد: إن القاسم بن عبيد الله، كان قد أوجس في نفسه من اختصاص الحسين بن عمرو النصراني، كاتب المكتفي، فوضع عليه من يأتيه بأخباره، حتى أظهر لمغنية كان ابن الحسين بن عمرو يتعشقها، أنه يعشقها، وملأ عينها، وكان يتسقطها أحاديث الحسين بن عمرو وابنه، لكثرة ملازمتها له، حتى غلبه عليها، فاضطر ابن الحسين بن عمرو، أن يداخل القاسم من أجلها، واجتذبه، وصار كالنديم له، فملأ عينه بالإحسان، وضرب بينه وبين أبيه، وكان يأتيه بأخباره.
فجاء يوماً، فأعلمه، أنه قد شرع مع المكتفي في الوزارة، وضمن القاسم وأسبابه، بمال عظيم، ذكر مبلغه، وأنه تقرر الأمر مع الخليفة أن يستوزر إبراهيم بن حمدان الشيرازي، كاتب الحسين بن عمرو - قال أبو الفضل، وهو جد أبي القاسم علي بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالمشرف - على ما كان ينظر فيه للمكتفي، ويلبسه السواد، ويخاطب بالوزارة، لأنه لم يرغب هو في الإسلام، ولم يجز استيزاز ذمي، وأن تكون الدواوين، والأمور، كلها إليه، ويؤمر الوزير أن يصدر عن أمره، ولا يصل إلا في أيام المواكب، والمجالس الحافلة، للعرض فقط، وإقامة الرسم، ويلبس السواد، والسيف، والمنطقة، وأن فارس - داية المكتفي - هي التي قررت ذلك مع الخليفة، وأنه قد وعدهم ليوم بعينه، قريب، ذكره، ليقبض على القاسم وأسبابه، ويسلمون إلى الحسين بن عمرو.
وشاور القاسم أبا العباس بن الفرات، كيف يصنع؟ فقال له: عندي ما يكفيك هذا الأمر.
قال: وما هو؟ قال: كتاب بخط الحسين بن عمرو، الذي يعرفه الخليفة، إلى أبيك، كتبه إليه من بعض الوجوه التي خرج إليها المكتفي، في أيام المعتضد، وهو إذ ذاك كاتبه، يخبر أباك، عن بخل المكتفي، وسقوط نفسه، وعيوبه، وفواحشه، وضعفه، ونقصه، بكل عظيمة، ويشير على أبيك، أن ينهي ذلك إلى المعتضد، وأن يسرع في استدعائه إلى الحضرة، لئلا يفتضح الملك.

والوجه لك، أن تعمل ثبتاً بجميع أملاكك، وما تحويه يدك، ودارك، وملكك من جميع الأشياء، وتصير إلى الخليفة، وتستخليه، فإذا خلا، طرحت نفسك بين يديه على الأرض، وبكيت، وأخرجت الثبت، وسألته أن يقبل جميعه منك، عفواً حلالاً، ويقرك على خدمته، أو أن يؤمنك على جسمك، ونفسك، وأن لا يسلمك إلى الحسين بن عمرو، فإنه غير مأمون عليك، فإذا سألت عن سبب ذاك، أعلمته أن الحسين بن عمرو، أظهر السر، فبلغك، وأخرجت الكتاب إليه، وقلت له: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن على نفسك، ودولتك، من هذا اعتقاده فيك؟ فإنه إذا قرأه، مع ما قد سمعه منك، انحل، ورجع لك، وانقلب على الحسين بن عمرو، وإذا سألك عن الكتاب، عرفته أنه كان في خزائن أبيك، يحفظه على الحسين بن عمرو لك، ويسلمه إليك، وكان المعتضد يخافه حتى هلك، وأنك أنسيت أمره إلى الآن، فأظهرته، واضمن الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازي، وأسبابهما، كذا وكذا ألوفاً، تقدر على استخراجها منهم، فإن الخليفة يجيبك، وإذا وعدك، فعرفه أن هذا أمر قد ظهر وفشا، وتحدث به الناس، وكثرت معه الأراجيف، وأنه إن أخر تسليمهم إليك، وقفت الأمور على العمال، وطمع فيها كل أحد، فأضر ذلك به، ووقفت أمور الوزارة، وسخفت من تأخر تسليمهم إليك، فإنه يسلمهم.
قال: فركب القاسم في الحال، إلى المكتفي، وعمل جميع ما قاله له أبو العباس، فجرى الأمر على ما ظنه.
وعاد القاسم، وقد أذن له الخليفة في القبض على الحسين بن عمرو وأسبابه، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم، فلما أحس بنفادها، أنفذ الحسين بن عمرو، وإبراهيم الشيرازي، إلى الأهواز، على سبيل النفي، ووكل بهما، فلما حصلا بالأهواز، قتلهما الموكلون، وقيل أنهما جعلا في بيت، وسد، ومنع من دخول الماء إليهما، والغذاء، فلما علم بموتهما، فتح الباب، ونقلا إلى بيت آخر، وأظهر إن أجلهما أدركهما.
قال: فلما خرج القاسم، وقد ظفر، وتم له التدبير، قبل رأس أبي العباس بن الفرات، وعينيه، وشكره، وقال: أنت أبي، وعضدي، وما أشبه ذلك من القول.
فحسده ابن فراس، على ذلك، وقال للقاسم: أيها الوزير، سل أبا العباس من أين له هذا الكتاب؟ فسأله.
فقال أبو العباس: كنت منذ دهر، مجتازاً في بعض الطرقات، فرأيت في دكان نطاف رفاً عليه ظهور معلقة، ليجعل فيها ما يبيعه من الناطف على الناس، وما رأيت قط شيئاً مكتوباً، إلا أحببت قراءته، وقد أفدت من ذلك، دفعات كثيرة، فوائد كباراً.
قال: فلحظت الظهور، فوقعت عيني منها، على عنوان هذا الكتاب، فعرفت خط الحسين بن عمرو، فتتبعت نفسي قراءة الكتاب، فقلت لغلامي: امض، فاشتر هذا الناطف، في ذلك الظهر، وأومأت إلى هذا الكتاب، ففعل، وجاءني به، فقرأته، فوجدت فيه العظائم، فقلت في نفسي: هذا أشر الناس، يكتب لرجل، ويتخلفه بمثل هذا الكتاب، فلعله أن يلحقني يوماً، شر من هذا الرجل، فأدفعه بهذا الكتاب، أو أنعى عليه عيوبه، فمسحت آثار الناطف منه، واحتفظت بالكتاب، فهو عندي منذ كذا وكذا سنة، فلما حدثني الوزير الآن بهذا الحديث، علمت أنه موضع إظهار الكتاب، فأظهرته.
فلما انصرف ابن الفرات عن المجلس، قال ابن فراس، للقاسم - وكان يشنعه عنده دائماً، فلا يلتفت إليه - : قد بان لك مقدار شر ابن الفرات، هذا شر عليك من الحسين بن عمرو، لأنه عدو مدغل، مندس بين ثيابك، والحسين، كان عدواً مكاشفاً، وأنت على اتقائه أقدر، ما يؤمنك أن يكون ابن الفرات، قد تحفظ عليك، في مدة استرسالك إليه، ما هو أكثر من هذا، أو قد حصل خطك بألوان من الذم، وأنت ناس، كما فعل بالحسين ابن عمرو؟ ما يؤمنك أن يكون عنده من خطوطك، أو خطوط أبيك، ما يجري هذا المجرى؟ فإن الناس، ربما سخطوا على أصحابهم، واستأمنوا إلى بثهم عند نصائحهم، وإنما يترقب منك ابن الفرات، إعراضاً، أو أدنى خلاف عليه في شيء لا يؤثره، وتؤثره أنت، فيظهر للخليفة عنك، وعن أبيك، ما هو أعظم من هذا، فتهلك، وإن أمسكت عنه، فأنت ربيب في حجره، وعنده أنه قد ردك إلى الوزارة برأيه، ويقتطع الدنيا، ويفوز بها، وبفائدتها، وتكون التبعة عليك، وإن أوحشته، قتلك بمثل هذا الفعل، فاقبل رأيي، وعاجله، واحتل عليه، بسم تدسه إليه، وتتخلص منه.
قال: فوقع ذلك في نفس القاسم. وما زال ابن فراس يقوي رأيه، إلى أن عمل له سماً في تفاحة، وأشمه إياها، فأتلفته.

وكان هذا الكتاب، أشأم كتاب سمع به.

أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف
وحدثني أبو محمد، قال: حدثني بعض شيوخ الكتاب ببغداد، عمن حدثه: إنه سمع أبا الحسن بن الفرات، يقول لأبي جعفر بن بسطام - وكان سيء الرأي فيه - : ويحك يا أبا جعفر، لك قصة في رغيف، ما هي؟ فقال: ما لي قصة في رغيف.
فلم يزل به أبو الحسن، إلى أن قال له: إن أخبرتني بذلك، كان خيراً لك، قال: نعم، إن أمي، كانت عجوزاً صالحة، وعودتني - منذ ولدت - أن تجعل تحت مخدتي التي أنام عليها، في كل ليلة، رغيفاً فيه رطل، فإذا كان من غد، تصدقت به عني، وأنا أفعل هذا إلى الآن.
قال: فقال ابن الفرات، ما سمعت بأعجب من هذا، اعلم أنني من أسوأ الناس رأياً فيك لأمور أوجبت ذلك، وعدد بعضها، وأنا منذ أيام مفكر في القبض عليك، ومطالبتك بمال، فأرى منذ ثلاث ليال، في منامي، كأني قد استدعيتك لأقبض عليك، فتحاربني، وتمتنع علي، فأتقدم بمحاربتك، فتخرج إلى من يحاربك، وبيدك رغيف، كالترس، فتتقي به السهام، فلا يصل إليك منها شيء، وأشهد الله عز وجل، أنني قد وهبت لله تعالى، ما في نفسي عليك، وأن رأيي لك، أجمل رأي، من الآن، فانبسط.
قال: فأكب أبو جعفر، على يديه ورجليه، يقبلها.
ما يرد في المرافق يذهب في المصادرة
حدثني أبو طاهر المحسن بن محمد بن الحسن، الجوهري، الشيرازي، المعروف بابن المقتفي، وهو أحد الشهود بمدينة السلام، قال: قال لي أبو الفضل العباس بن فسانجس: كسبت في مدة تصرفي مع السلطان، بفارس، خمسين ألف ألف درهم، وصادرني علي بن بويه، في مدة مقامي بشيراز، على ستمائة ألف دينار، متفرقة، سوى ما استخرجه من خراج ضيعتي، ثم اقتطعها بالحقين.
وأنا أقول: لو لم نعتبر في الزمان، إلا بهذه الحكاية، لكفى، لأن أبا الفضل، ما تقلد أكثر من كتابة فارس، وخلافة العمال بها، عليها، أو على بعضها، في بعض الأوقات، فظفر بهذا المال.
وقد تقلد أبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، دواوين العراق مجموعة، ثماني وعشرين سنة، ثم الوزارة ثلاثة عشر شهراً، وبلغ المبالغ التي لم يبلغ إليها أبوه قط.
فلما أرهق بالمطالبات، في وقت النكبة، واستقصي عليه، بلغت مصادرته ألف ألف ومائتي ألف درهم، تكشف بأدائها.
الخليفة المعتضد يتخبر على وزيره
حدثني أبو محمد، يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني بعض المشايخ: إن القاسم بن عبيد الله، كان يخاف المعتضد، ويخفي شربه، ولعبه، لئلا يتصوره بصورة حدث، متوفر على لذاته، يخل بالعمل، فيفسد رأيه فيه، وكان مع ذلك، بالشباب، والحداثة، يشتهي اللعب، فإذا أمكنه أن يخفيه جداً، استرق الليلة، أو اليوم، من عمره، فشرب.
قال: فأراد الشراب ليلة من الليالي، على الورد، فاحتال في جمع شيء كثير منه، وحصله خفياً، وجمع من المغنيات جمعاً كثيراً، وفيهن واحدة كان يشتهيها، ويتحظاها.
وجلس وليس معه غيرهن، فشرب، وخلط بالورد الدراهم الخفاف، ونثر عليه، والناس يسمون ذلك شاذكلى، ولبس ثياب قصب مصبغات، من ثياب النساء، وأدخل تلك المغنية معه، لشدة شغفه بها، ومضت ليلة طيبة، فقطع الشرب في نصف الليل، خوفاً من الخمار، ونام.
وركب إلى المعتضد من غد، وأقام في الخدمة، إلى حين وقت انصرافه.
فلما أراد الانصراف، دخل ليراه المعتضد، وينصرف، فاستدناه المعتضد، إلى أن صار بحيث لا يسمع كلامه غيره، فقال له: يا قاسم لو دعوتنا البارحة، فكنا نلعب معك شاذكلى، ولكنك احتشمت، لأجل المصبغات التي لبستها أنت وعشيقتك.
قال: فكاد القاسم أن يموت جزعاً.
فقال له: ما لك قد جزعت؟ وأي شيء في هذا؟ لو علمنا أنه يلحقك هذا، ما أخبرناك بشيء، ولا آذيت قلبك، امض في ودائع الله.
قال: فعاد القاسم إلى داره كئيباً، وجمع نصحاءه، وأخبرهم الخبر، وقال: ما أراد المعتضد بهذا، إلا ليعرفني أن هذا القدر من أخباري ليس يخفى عليه، وإن كان على الحقيقة قد علم هذا القدر، فكيف تخفى عليه مرافقي، وما هو أظهر من هذا من أخباري؟ وكيف يكون عيشي؟ وأنه لا ينستر عليه مثل هذا؟ وما تروني أصنع؟ فأخذوا يطيبون قلبه، ولا يزداد إلا جزعاً، إلى أن قال لهم: إن لم أعرف من رقى هذا الخبر، انشقت مرارتي، وقتلت نفسي.
فقالوا له: نحن نبحث ونتعرف.
فابتدر أحدهم، وقال: أنا أكفيك، أيها الأمير، هذا.

قال: وجعل ذلك الصاحب، يطوف حوالي دار الخليفة، ليجد من يشبه صاحب خبر، فيخمن عليه، فما ظفر بشيء يومه ذلك.
فلما كان من الغد، طاف الدواوين، ومجالس أصحاب البريد والخبر، يومه أجمع، فما ظفر بشيء.
فلما كان اليوم الثالث، طاف دار الوزارة، ومقاصيرها، فلم يظفر بشيء.
فلما كان في اليوم الرابع، وقف على دابته في باب العامة، متحيراً، لا يدري، ينتظر أن يخرج الوزير راكباً، فيركب معه في الموكب، فيتفقد الوجوه، إذ كان لم يبق له شيء يجده، وإذا هو برجل شاب يحبو على ركبتيه زمانة، كما يكون الزمن الذي يتصدق، وقد جاء قبل طلوع الشمس بشيء كثير، فزحف، ودخل على البوابين، فلم يمنعوه.
قال الرجل: فحين بلغ العتبة، وقف مع البوابين، يحدثهم ساعة، وأنا أصغي إليه، ويسألهم عن أخبارهم، ويدعو لهم، وهم على بشاشة، إلى أن أخذ بهم في غير ذلك الحديث.
إلى أن قال: من بكر اليوم إلى الدواوين، ومن دخل؟ ومن حجب؟ فقالوا له: فلان وفلان.
فحين سمعت ذلك، علمت أنه صاحب خبر، فأتبعته بصري، إلى أن جاز البوابين، ودخلت وراءه، فبلغ إلى أصحاب الستور، فكانت صورته معهم كصورته مع أولئك، فأخبروه بما لم أكن أعلم، مع اختصاصي بخدمة الوزير، من وصول الناس إليه، وحجبهم عنه.
وتجاوز إلى دهليز العامة، فنزلت عن دابتي، وهو لا يفطن لي، فبلغ إلى موضع الحجاب، فولع به الحجاب، ولم يحدثهم بشيء ولم يحدثوه، ودعا لهم، وتصدق منهم، فأعطوه.
فتجاوزهم إلى الصحن، وأنا أراه، فلم يزل يحبو، ويطوف، على خزانة، خزانة، من خزائن الفرش، والشرب، والكسوة، وحجر الغلمان، والخدم، ويبحث عن الأخبار، ويحدث بكل شيء، وأنا أسمع، حتى استفدت ما لم أكن أعرفه من تخبر دار الوزير.
ثم جاء إلى باب الحرم، فدعا للخادم الموكل بالباب، فتصدق عليه، وأعطاه، وجلس هناك يتطايب، وكل من دخل وخرج، من جارية، أو خادم، يسأله عن خبره، ويولع به، ويهب له شيئاً، ويستخرجهم أخبار الدار، وينقل ما فيه، ويقول: قولوا لستنا فلانة تهب لي ما وعدتني به، وقولوا لستي فلانة، تتصدق علي، وسلوا ستي القهرمانة الفلانية عن خبراها، وأقرؤوها سلامي، وأنا أشاهده، وأتعجب منه، حتى استنفذ من أخبار جواري القاسم، ومبيته، وعند من بات منهم البارحة، وما بين الجواري من السرور والأنس، وأخبار كسوتهم، وأشياء من هذا الجنس، كل شيء طريف.
ثم زحف، ودخل دار الخلوة التي يخلو فيها الوزير، وكان يركب منها، فهش به فراشو الحجرة، والخاصة، والخدم، والغلمان الأصاغر، وضاحكوه، ودعا لهم، وأخذ من بعضهم براً، وسألهم عن خبر الوزير في خلوته تلك، وشربه.
وقال له بعضهم: هو مغموم غماً شديداً منذ يومين، لا نعرف سببه، فما يشرب، ولا يأكل، ولا نام، ولا خلا.
وكل ذلك، وهو يظهر في مسائلته التطايب، وأنه كالمتغير المعتوه، ويحمل أولئك ألفاظه على هذا، فيخبره منهم الضعيف العقل، والمزاح، والأخرق، وهو يحتمله، إلى أن فرغ من أهل حجرة الخلوة.
ثم خرج، فزحف أشد زحف، على هيأته، لا يعرج على شيء، حتى جاء إلى مجلس الكاتب، فأقام هناك طويلاً، ففعل كفعله.
ثم خرج من الباب، وقد ملأ زنبيلاً كان معه، من الخبز والحلوى والطعام، وملأ جيبه من الدراهم.
فلما صار على باب الدار، قلت للبوابين: تعرفون هذا؟ فقالوا: رجل زمن أبله، يجيء فيتصدق، وخلقه طيب، فكل من في الدار، يستطيبه، ويبره.
قلت: قد رحمته، واشتهيت آخذ له شيئاً، ففيكم من يعرف بيته؟ فقالوا: لا.
فركبت، واتبعته، ولحقت به، ووقفت كأنني أحدث غلامي، وأسير خلفه على تؤدة، حتى جاء إلى الجسر، فعبره زاحفاً، وأنا وراءه، ودخل الخلد، ودخلت معه، وولج في خان، فقلت لغلامي: اتبعه، فاعرف بيته في الخان، ففعل، وعاد إلي، فوصفه لي.
فوقفت متحيراً، لا أدري ما أعمل، ولا من أسأل عنه، وأخاف أن أنفره، فيهرب.
وطال وقوفي، وهممت بالانصراف، فإذا به قد خرج بريئاً، نظيفاً، بثياب مروية ولحية بيضاء، وطيلسان، وعمامة قد جعلها فوق حاجبيه، فلولا قرب عهدي به، وبرؤيته، لما عرفته، وإذا هو يمشي لا قلبة به.
فتأملت لحيته، وإذا هي ملبسة فوق لحيته، وقد أخفاها بعمامته، وإنما فطنت لذلك، لشدة تأمله، وصرف اهتمامي إلى ذلك، مع قرب عهدي برؤيته.

ومشى، فدخلت إلى مسجد، وغيرت عمامتي، وأمرت غلامي أن يأخذ دابتي ويقف لي عند الجسر بها، ونزعت خفي، ولبست تمشك غلامي، ومشيت، فاتبعته، بسرعة مشيته.
ومضى حتى أتى دار ابن طاهر، فخرج إليه الخادم، فما منهما من كلم صاحبه، بأكثر من أنه أخرج رقعة لطيفة، فسلمها إلى الخادم، ودخل الخادم، ورجع هو، فلم أتبعه، وامتددت إلى درجة يعقوب، فركبت في سميرية، وصعدت إلى دار الوزير.
فدخلت إليه، وهو يطلبني للأكل، فأكلت معه، وقام الناس، فجلست.
فقال لي: قل.
فقلت: فعلت البارحة كذا وكذا، وجرى في دار حرمك كذا، وقالت فلانة كذا، وقالت جاريتك الفلانية وخاطبتك بكذا، وفلان الخادم الصغير فعل كذا.
قال: وكنت قد سمعت في خلال ذلك، أخبار الحاشية، بعضهم من بعض، لا أظن صاحب الخبر عرفها، ولكن كما انجرت الأحاديث، فأخبرته بذلك كله.
فقال لي: ويحك، أيش تقول؟ من أين لك هذه الأحاديث؟ فقلت: من حيث خرج حديث الشاذكلى.
فقال: أخبرني.
فقلت: الجائزة.
فقال: احتكم.
فأخبرته بخبر الزمن، على جهته.
فجذبني، وقبل بين عيني، وأمر لي بمال جليل.
وقال: أريد أن تحصله، من حيث لا يعرف خبره.
فقلت: أنا على ذلك، فتقدم إلى بعض الغلمان الخاصة، أن يطيعني، فجمع بيني وبين غلام منهم، وتقدم إليه بذلك.
فلما كان من الغد، باكرت الدار، وجلست أنتظر الرجل، فإذا به قد جاء على زي أمس، في البزة والزمانة، ودخل، فلم أعرض له، حتى دخل حجرة الخلوة، فاتبعته.
وقلت للغلام: خذ هذا، فأخذه، وقفلنا عليه باباً من الحجرة، فاضطرب، وبكى.
ونزل الوزير، فأسررت إليه الخبر، ففض شغله، ودخل الحجرة، واستدعى به، فجاء يزحف، فوكزت عنقه، وقلت له: قم يا عاض، فامش مشياً صحيحاً، كما رأيتك تمشي بالأمس.
فقال: أنا رجل زمن.
فأحضرت له مقارع، فلما رأى المصدوقة، قام، فمشى.
فقال له القاسم: اصدقني عن خبرك، وإلا قتلتك الساعة.
فقال: أنا صاحب خبر المعتضد عليك، منذ كذا وكذا شهراً، أفعل كذا، وأصنع كذا، وذكر مثل ما أخبرته به، وأنه يجمع الأخبار، ويكتب بها في كل نصف نهار، من كل يوم، ويوصل رقعة لطيفة بذلك إلى الخادم الموكل بدار ابن طاهر، فيمضي بها ذلك الخادم إلى المعتضد، فإن الخادم، هو الواسطة بينهما، وإنه إذا كان في رأس كل شهر، سلم إليه الخادم ثلاثين ديناراً عيناً.
قال: فعرفني، أي شيء أنهيت من أخباري، طول هذه المدة؟ فذكر له أشياء كثيرة، منها خبر الشاذكلى.
فحبسه القاسم في ذلك البيت، فلما كان في الليل قتل، ودفن، فانقطع خبره عن المعتضد.
فلما كان بعد شهر، وأكثر، قال لي القاسم: استرحت من ذلك الكلب، ما أرى عند المعتضد من خبري شيئاً، ولا أرى عليه أثراً يدل على وقوفه على شيء من أمري.

أبو بكر بن رائق وإعجابه بغناء ابن طرخان
حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، قال: حدثني أبي، قال: كان أبو بكر بن رائق، شديد الإعجاب، بغناء أبي القاسم بن طرخان، وكان أهلاً لذلك، وكان أطيب الناس حلقاً، وأحسنهم صنعة، وكان يجس الطنبور جساً، أطيب من الضرب، تكاد القلوب إذا سمعته، أن تخرج من أضلاعها، استطابة له.
وكان إذا ابتدأ يجس، ابتدأ ابن رائق، يشرب أقداحاً، إلى أن يجيء الغناء.
فقال لي يوماً: يا أبا الحسن، ما ترى هذا الجس الذي ليس على وجه الأرض أطيب منه، أي شيء يشبه عندك؟ فقلت: أيها الأمير، يشبه رسول الحبيب، يستأذن لزيارته.
فأعجبه ذلك.
ثم حدثت بهذا الحديث، عبيد الله بن محمد الصروي، فعمل بحضرتي، في ذلك شعراً، وأنشدنيه:
قامت تذود كرى المح ... ب وقد غفا عن مقلتيه
وتجس قبل الصوت مث ... نى عودها شوقاً إليه
فكأنه في قلبه ... إذ نبهته ومسمعيه
نغم الرسول مبشراً ... بقدوم من يهوي عليه
علي بن هارون المنجم
يلقي على المغني درساً في الغناء
وحدثني أبو الفتح، قال: كنت بحضرة أبي، وبحضرته مغن يغني، فمر في بعض لحنه بميم فبينها.
فقال له أبي: إذا مررت في ألحانك، بميم، أو نون، فزمها، واعصرها، وأنا ضامن لك طيبة ذلك، غارم لك كلما يجني عليك.
قال: فأعاد الصوت، وزم الميم زماً شديداً، فتضاعفت طيبته.
من شعر الوزير المهلبي

سمعت الوزير أبا محمد المهلبي، يتحدث يوماً في مجلس أنس حضرته، قال: كنت قد خرجت من الأهواز، مع أبي جعفر الصيمري، نريد السوس، وهو إذ ذاك عاملها لمعز الدولة، وكانت والدة أبي الغنائم - إذ ذاك - بالسوس، وأنا في عنفوان استهتاري بها، وقد اشتد شوقي إليها، يعني تجني جاريته.
فلما صرنا في الرمل الذي في الطريق، هاجت ريح عظيمة، فسفت علينا تلك الرمال، فذكرت بيتي الفرزدق، وهما:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها سلباً من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب
فعملت:
وريح تغيم الجو مما تثيره ... وتستلب الركبان ريط العصائب
نصبت لها نفسي وأنصبت صاحبي ... إلى أن نزلنا في ديار الحبائب
قال: وأنشدني لنفسه:
أتحسب العين أنها طرحت ... على فؤادي ثقلاً من الشغف
ما أبله العين في توهمها ... بأنها عريت من التلف

بين القاضي الإيذجي والمفجع الشاعر
أخبرني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، وكان يخلف أبي على القضاء بإيذج، وعلى رامهرمز، ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته، فغلب عليه، وعلا محله عنده، وتخالع، وتهتك، بما لا يجوز للقضاة، وكان يدعى بالقضاء، ويخاطبه أبو محمد، في الوزارة، في كتبه، بسيدي القاضي، وكان له محل مكين في الأدب، قال: وردت البصرة، وأنا حديث السن، لأكتب العلم، وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المفجع، وكنت أقتصر عليه، فكتب إلي يوماً، وقد قرص الهواء:
يا أيهذا الفتى وأنت فتى الده ... ر إذا عز أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كأس وكيس وكسرة وكسا
وكتب في الرقعة: قد بقيت كاف أخرى، لولا أني أحب تقليل المؤونة، عليك، لذكرتها، يعني الكس.
فبعثت إليه، بجميع ما التمسه.
أبو خليفة يصطفي شعر عمران بن حطان
وحدثني أبو علي الإيذجي، قال: كان أبو خليفة، صديقاً لأبي وعمي، منذ أيام وفد إلى كور الأهواز، في فتنة الزنج.
فلما قدمت البصرة، قدمتها مع أبي، فأنزلنا أبو خليفة داره، وأكرمنا، ومكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه، كلما أريد، وأسمع كيف شئت وأحب، وأكتب وانسخ لنفسي أصوله.
فإذا كان الليل، جلسنا، وتحادثنا، فربما رمت القراءة عليه، فيجيبني، فإذا أضجرته بكثرة القراءة عليه، يقول: يا بني، روحني، فأقطع القراءة.
وإذا استراح، أخرج من كمه دفتراً، من ورق أصفر، من الورق العتيق، فيقول: اقرأ علي من هذا، فإنه خطي، وما تقرأه علي، فهو غير خطي.
فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان، وكان يبكي، على مواضع منه.
فأنشدته ليلة، القصيدة التي منها:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أحظى البرية عند الله ميزانا
فبكى عليهما، لما انتهيت إليهما، حتى كاد أن يغمى عليه، فاستطرفت ذلك، وعجبت منه.
فلما كان من الغد، اجتمعت مع المفجع، فحدثته بذلك، واغتررت به، للأدب، واستكتمته إياه، فأشاعه، وعمل:
أبو خليفة مطوي على دخن ... للهاشميين في سر وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفي وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسه، وأنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب، في رقعة لطيفة، وجعلها في مقلمته.
وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام، فنفض الرجل مقلمته ليرى ما فيها، فسقطت الرقعة، وانصرف، فوجدها أبو خليفة، وقرأها، فاشتد ذلك عليه، وقال: إن الإيذجي، قبحه الله، وترحه، شاط بدمي، علي بأبي العباس الساعة - يعني والدي - فجاءه، فحدثه الحديث، فوقعت في ورطة، وكادت الحال أن تنفرج، بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة، واحتشمني، فحملت إليه ثياباً لها قدر، وأهديت إليه من مآكل الهند، واعتذرت إليه، فرجع، وقبل عذري، وعاود تدريسي، ومكنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات، وغيره، مما كان عنده.
وقال: فلا أظهر الرضى عنك، أو تكذب نفسك. ففعلت ذلك، وأعطيت المفجع ثوباً دبيقياً، حتى كف عن إنشاد الأبيات، وجحدها، واعتذر إلى أبي خليفة.

وقال لي أبو علي عقيب هذا: أكثر رواة علم العرب، فيما بلغني عنهم، إما خوارج، أو شعوبية، كأبي حاتم السجستاني، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وفلان، وفلان، وعدد جماعة.

الجزء الرابع
أبو العباس ثعلب
يقول لما لا يدري، لا أدري قال القاضي أبو علي المحسن التنوخي، في كتابه أخبار المذاكرة ونشوار المحاضرة: حدثني علي بن محمد الفقيه المعروف بالمسرحي، أحد خلفاء القضاة ببغداد، قال: حدثني أبو عبد الله الزعفراني، قال: كنت بحضرة أبي العباس ثعلب يوماً، فسئل عن شيء، فقال: لا أدري. فقيل له: أتقول لا أدري، وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد.
فقال للسائل: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت.
فقال القاضي أبو علي: ويشبه هذه الحكاية ما بلغنا عن الشعبي، أنه سئل عن مسألة فقال: لا أدري.
فقيل له: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان.
فقال: لأقول فيما لا أدري، لا أدري.
بين خالد الكاتب وإبراهيم بن المهدي
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن السقاء، قال: حدثني جحظة، قال: قال لي خالد الكاتب: أضقت حتى عدمت القوت أياماً، فلما كان في بعض الأيام، بين المغرب وعشاء الآخرة، إذا بأبي يدق.
فقلت: من ذا؟.
فقال: من إذا خرجت إليه عرفته.
فخرجت، فرأيت رجلاً راكباً على حمار، عليه طيلسان أسود، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، ومعه خادم.
فقال لي: أنت الذي تقول:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حباً لشيء يكون من سببك
قال: قلت: نعم.
قال: أحب أن تنزل عنه.
فقلت: وهل ينزل الرجل عن ولده؟ فتبسم، وقال: يا غلام، أعطه ما معك، فرمى إلى صرة، في ديباجة سوداء مختومة.
فقلت: إني لا أقبل عطاء ممن لا أعرفه، فمن أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن المهدي.
أبو الفرج الأصبهاني يجمع شعره
بين إتقان العلماء وإحسان الشعراء
قال التنوخي: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم، أبو الفرج الأصبهاني كان يحفظ من الشعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والنسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله.
ويحفظ دون ذلك من علوم أخر، منها اللغة، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطب، والنجوم، والأشربة، وغير ذلك.
وله شعر يجمع بين إتقان العلماء، وإحسان الظرفاء الشعراء.
إجازة برواية قصيدة
قال أبو القاسم التنوخي: حدثني أبو إسحاق الطبري، غلام الزاهد، غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدون، وقرأت بخطه قصيدة شبيل بن عزرة الضبعي، وقد قرأها على أبي عمر الزاهد، وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه.
قد دفعت إليك كتابي بخطي من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة، فاروها عني، فإن هذا ينوب عن السماع والقراءة، فقبلت ذلك منه.
وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني بخطه.
أبو رياش القيسي وأبو محمد المافروخي
وكثرة ما يحفظان قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم، أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر.
إلا أن أبا محمد المافروخي أبر عليه، لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة، فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد: لا، إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه، ويتناشدانها إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد، بعده، بقصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة.
حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
أبو رياش القيسي يغضب من نسبة
بيت شعر إليه وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة، للقاضي التنوخي: كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي، رجلاً من حفاظ اللغة، وكان جندياً في أول أمره، مع المسمعي، برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر، وروايته، لنا بالبصرة، وأنا حديث مع عمي، حتى صرت رجلاً، وكتبت عنه، وأخذت منه علماً صالحاً، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي.

وقال بعض الحاضرين لأبي: إن من عيون شعر أبي رياش قوله من أبيات، عند ذكر امرأة شبب بها:
لها فخذا بختية تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
فغضب أبو رياش، ونهض، فأمر أبي بإجلاسه، وقال للحاضر القائل: ولا كل ذا، وترضاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.

أبو محمد المافروخي الفأفاء
يفأفيء له ابن أحد خلفائه حدث التنوخي: أن أبا محمد المافروخي، وكان فأفاءاً، اعترض جملاً فسير في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه، فلم يرضه، فقال: أخرجوه عني، وكرر أخ أخ، لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنه ظن أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك.
قال: وكان إذا أنشد الشعر ، أو قرأ القرآن، قرأه، وأورده، على أحسن ما يكون من حسن الأداء وطيب الحنجرة.
فقيل له: لو كان كلامك كله شعراً، أو كقراءة القرآن، تخلصت من هذه الشدة، فقال: يكون ذلك طنزاً.
قال: وكان أحد خلفائه، قد خرج إلى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابناً له، كان مثل المافروخي في الفأفأة.
فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه، في أمر شيء قال فيه " ووو " مراراً. فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه.
فقال: يا غلمان قفاه، كأنه يحكيني.
فصفع صفعاً محكماً، حتى حضره أقوام، وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، وقال: الذنب ذنب أبيه، لما ترك في حضرتي مثله.
بين القاضي أبي عمرو الأزدي والقاضي
أبي جعفر بن البهلول
حدث أبو نصر، يوسف بن عمر بن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال: كنت أحضر دار المقتدر بالله، وأنا غلام حدث، بالسواد، مع أبي الحسين، وهو يومئذ، قاضي القضاة.
فكنت أرى في بعض المواكب، القاضي أبا جعفر، يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي، عدل إلى موضعه، فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير لا يحصى، كما يجتمع على القصاص، استحساناً لما يجري بينهما.
فسمعته يوماً، وقد أنشد بيتاً لا أذكره الآن، فقال له أبي: أيها القاضي، إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية.
فصاح عليه صيحة عظيمة، وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي، من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك، وأضعافه، وأضعافه، يكررها مراراً.
وفي رواية ابن عبد الرحيم عن التنوخي، قال: قال له: هاه، ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفاً وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس.
قال: فاستحيا أبي منه، لسنه ومحله، وسكت.
بين القاضي أبي جعفر بن البهلول
وأبي جعفر الطبري
حدثني القاضي أبو طالب محمد بن القاضي أبي جعفر البهلول، قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحق جالس، أبو جعفر الطبري.
فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة، ويسليه، وينشد أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، وذنب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم، استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار، وافترقا.
فلما حصلت أسير خلفه، قال: يا بني، هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة، من هو؟ أتعرفه؟ قلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال: لا.
فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
فقال: إنا لله، ما أحسنت عشرتي يا بني.
فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة؟ هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في فنون من العلم، وما ذاكرته بحسبها.
قال: ومضت على هذا مدة.
فحضرنا في حق لآخر، وجلسنا، وإذا بالطبري يدخل إلى الحق.
فقلت له، قليلاً، قليلاً: أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري، قد جاء مقبلاً.
قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له، حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر، فربما مر، وربما تلعثم، فيمر أبي في جميعها حتى يسفها.
قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا.
فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.
القاضي أبو جعفر بن البهلول
لا يخشى في القول الحق لوم لائم

حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن هشام بن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن علي دلويه، كاتب نصر القشوري، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني، كاتب ابن الفرات، قالوا: كنا مع أبي الحسن بن الفرات في دار المقتدر، في وزارته الثالثة، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة 311 ه، وقد استحضر ابن قليجة، رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه علي بن عيسى في المجلس بحضرتنا، بأنه وجهه إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم.
وأحضر ابن الفرات معه خطه، أي خط علي بن عيسى، في نسخة أنشأها ابن ثوابة، إلى القرامطة، جواباً على كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد.
فهجن ابن الفرات علياً بذلك، وقال: ويحك، تقول: القرامطة مسلمون، والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة لا يصلون، ولا يصومون، وتوجه إليهم الطلق، وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار.
قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق، وبغير حرب.
فقال ابن الفرات، لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ اكتب به.
فأفحم، وجعل مكان ذلك، أن أقبل على علي بن عيسى، فقال له: يا هذا لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته.
قال: فرأيت علي بن عيسى، وقد حدق إليه تحديقاً شديداً، لعلمه بأن المقتدر، في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام، ولا يراه الحاضرون.
فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر، أن يكتب بخطه شيئاً، فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطاً، وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه، بأن هذا كتابه.
ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير، أن أقول ما عندي فيه، على شرح، قلته.
قال: افعل.
قال: صح عندي عن هذا الرجل - وأومأ إلى علي بن عيسى - أنه افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة، في وزارته الأولى ابتداء، وجواباً، ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم، ونعمهم.
فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدو، لم يجب عليه شيء.
قال: فما عندك فيما أقر به، أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصح عنده كفرهم، وكاتبوه بالتسمية بالله، ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى أنهم مسلمون، وإنما ينازعون في الإمامة فقط، لم يطلق عليهم الكفر.
قال: فما عندك في الطلق، ينفذ إلى أعداء الإمام، فإذا طلي به البدن أو غيره، لم تعمل فيه النار؟ وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر.
فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى، فقال له: أنفذت الذي هذه صفته إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى: لا.
فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد قرأ عليك بذلك. فلحق علي بن عيسى دهشة، فلم يتكلم.
فقال ابن الفرات، لأبي جعفر بن البهلول: احفظ إقراره، بأن ابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقر عليه بذلك.
فقال: أيها الوزير، لا يسمى هذا مقراً، هذا مدعي، وعليه البينة.
فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه.
قال: إنما وثقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره.
فقال ابن الفرات: يا أبا جعفر أنت وكيله، ومحتج عنه، لست حاكماً.
فقال: لا، ولكني أقول الحق في هذا الرجل، كما قلته في حق الوزير، أيده الله لما أراد حامد بن العباس في وزارته، ومن ضامه، الحيلة على الوزير أعزه الله، بما هو أعظم في هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ، فلست مصيباً في هذا الوقت.
فسكت ابن الفرات، والتفت إلى علي بن عيسى، وقال: يا قرمطي.
فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي؟ أنا قرمطي؟ يعرض به.

القاضي أبو جعفر بن البهلول
يطلب بين الصدر والقبر فرجة
قال ابن عبد الرحيم، حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة لما يجمعهما من النسب والصناعة، قال:

كان أبو جعفر من جلة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار وهيت والرحبة وسقي الفرات في أيام المعتمد، بعد كتبة الموفق أبي أحمد سنة 270 ه، وأقام يليها إلى سنة 316 ه.
وأضيف له إليها الأهواز وكورها السبع، وخلفه عليها جدي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي في سنة 311 ه.
وقلد ماه الكوفة وماه البصرة، مضافات إلى ما تقدم ذكره.
ثم رد عليه مدينة المنصور وطسوج مسكن وقطربل بعد فتنة ابن المعتز في سنة 296.
ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة 316 ه. وأسن وضعف.
فتوصل أبو الحسين الأشناني إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة، وقيل إن الناس سلموا عليه بالقبا إيماء إلى البغاء. وكان إليه الحسبة ببغداد.
فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، ورفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحب أن يكون بين الصدر والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة إلى الحفرة.
وقال في ذلك:
تركت القضاء لأهل القضاء ... وأقبلت أسمو إلى الآخره
فإن يك فخراً جليل الثناء ... فقد نلت منه يداً فاخره
وإن كان وزراً فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازره
فقيل له: فابذل شيئاً، حتى يرد العمل إلى ابنك أبي طالب.
فقال: ما كنت لأتحملها حياً وميتاً، وقد خدم ابني السلطان، وولاه الأعمال، فإن استوثق خدمته، قلده، وإن لم يرتض مذاهبه، صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همت بنت لقمان مرة ... بسوء، وقالت: يا أبي ما الذي يخفى
فقال لها: ما لا يكون، فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفا
وما كل مستور تغلق دونه ... مصاريع أبواب ولو بلغت ألفا
بمستتر والصائن العرض سالم ... وربتما لم يعدم الذم والقرفا
على أن أثواب البريء نقية ... ولا يلبث الزور المفكك أن يطفا
قال: ولست أعلم هذا الشعر له، أو تمثل به.
قال التنوخي، وكان أبو جعفر، يقول الشعر تأدباً، وتطرباً، وما علمت أنه مدح أحداً بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علماً كثيراً، ومن شعره:
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في يقق الثياب
ويخفى في الدنيء فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها مراراً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل، بعد الوزارة الثالثة في محبسه.
وله أيضاً:
أقبلت الدنيا وقد ولى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصبر
لله أيام الصبا إذ تعتكر ... لاقت لدينا لو تؤوب ما تسر
وله أيضاً:
ويجزع من تسليمنا فيردنا ... مخافة أن نبغي نداه فيبخلا
وما ضره أن يجتبينا ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضاً:
وحرقة أورثتها فرقة دنفاً ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن
وله أيضاً:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمساً وسادسها قد نما
ترجي الحياة وتسعى لها ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضاً:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
لئن لم تك مجنوناً ... فقد فقت المجانينا

القاضي أبو جعفر بن البهلول
يكشف عن براءة الوزير ابن الفرات مما اتهم به
حدث أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراط، قال: دخلت مع أبي، إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، عقيب عيد، لنهنئه به.
وتطاول الحديث، فقال له أبي: قد كنت أكاتب الوزير، أيده الله، إلى محبسه، يعني ابن الفرات - لأنه هو كان الوزير إذ ذاك، الوزارة الثالثة - وأعرفه ما عليه القاضي، من موالاته في كذا وكذا، والآن، هو على شكر القاضي، والاعتداد به.

قال: فلما سمع ذلك، فرق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه، حتى خلا، وقال: ليس يخفى علي التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس، بالمدائن، لما جيء به للوزارة، فقام لي في حراقته قائماً، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله من زيادتك في الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه، بعد لبسه إياها، فتطاول، فلما فعلت به، في أمر الوزير أيده الله، ما فعلته، بحضرة أمير المؤمنين، عاداني، وصار لا يعير لي طرفه، وتعرضت منه لكل بلية، فكنت خائفاً منه، حتى أراح الله منه، بتفرد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، وما لي إلى هذا الوزير - أيده الله - ذنب يوجب انقباضه، إلا أنني أديت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله، لقد رويت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب، فلما جاء ابن حماد، كاتب موسى بن خلف، فأقر بها، وأحضر الدليل بإحضار المرأة التي حملتها، لم أجد بداً من أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر، في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر، فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فص بنصف درهم، نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالاً من عنده، في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أديت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه، ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر، في كثرة المال، فأريد أن تسل سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة إذ ذاك، وأن مثل ذلك، لا ينسى بتجن لا يلزم.
فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصر، وقد اختلفت الأخبار علينا، فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي - أعزه الله - أن يشرحه لي، فعل.
فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمر، وعلي بن عيسى، وحامد بن العباس بحضرة الخليفة، مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير - أيده الله - ومحب لمكروهه، إذ أحضر حامد، الرجل الجندي، الذي ادعى أنه وجده راجعاً من أردبيل، إلى قزوين، ثم إلى أصبهان، ثم إلى البصرة، وأنه أقر له عفواً، أنه رسول ابن الفرات، إلى ابن أبي الساج، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، ليقويه ابن أبي الساج، ويسيره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده من ذلك.
فذكر الرجل، مثل ما أخبر عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف، كان يتخبر لابن الفرات، لأنه من الدعاة الذين يدعون إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في كل وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا. فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظاً شديداً، وأقبل على أبي عمر، وقال: ما عندك فيما فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمراً فظيعاً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا، كلمة عظيمة لا أحفظها.
قال أبو جعفر: وتبينت في علي بن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنز بما قيل فيها، فقويت نفسي بذلك.
وأقبل الخليفة علي، فقال: ما عندك يا أحمد، فيمن فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يعفيني.
فقال: ولم؟.
فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضر بي.
فقال: لا بد أن تجيب.
فقلت: الجواب، ما قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ، ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعاً لابن أبي الساج، ولعله ما كان يرضى، وهو وزير، أن يستحجبه؟ ثم أقبلت على الرجل، فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها، لا بد أن تكون عارفاً بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمامة، هل هو حديد أم خشب؟ فتلجلج.
فقلت له: كاتب ابن أبي الساج، ابن محمود، ما اسمه؟ وما كنيته؟ فلم يعرف ذلك.
فقلت له: فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم، رميت بها خوفاً من أن توجد معي، فأعاقب.

قال: فأقبلت على الخليفة، وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل، متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل.
فقال علي بن عيسى، مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير، فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا، فضلاً عن أن ينزل به مكروه، إلا أقر بالصورة.
فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات، وقال: بحقنا عليك، لما ضربته مائة مقرعة، أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة.
فعدي بالرجل، عن حضرة الخليفة، ليبعد ويضرب.
فقال: لا، إلا هاهنا.
فضرب بالقرب منه، دون العشرة، فصاح: غررت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله، ما دخلت أردبيل قط.
فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة، وقد انصرف، فقال الخليفة، لعلي بن عيسى: وقع إليه، بأن يضرب هذا، مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق.
فوالله، لقد رأيت حامداً، وقد كاد يسقط، انخذالاً، وانكساراً، ووجداً، وإشفاقاً.
وخرجنا، وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل.
فقال له حاجبه ابن عبدوس، قد وجه نزار، بالمضروب المتكذب.
فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه، خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه، أو بعضه، أجرت.
فقال: ما هذا - لعنه الله - أجر، ولكني أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط.
ثم وقع بذلك إلى نزار، وانصرفنا.
فصار حامد من أعدى الناس لي.

من شعر أبي الفتح بن المنجم
قال التنوخي أبو علي: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن يحيى المنجم في الوزير أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز لنفسه:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
ومن يداه معاً تجدي ندىً وردىً ... يجريهما عدل حكم السيف والقلم
ومن إذا هم أن تمضي عزائمه ... رأيت ما تفعل الأقدار في الأمم
ومن عوارفه تهمى وعادته ... في رب بدأته تنمى على القدم
لأنت أشهر في رعي الذمام وفي ... حكم التكرم من نار على علم
والعبد عبدك في قرب وفي بعد ... وأنت مولاه إن تظعن وإن تقم
فمره يتبعك أو لا فاعتمده بما ... تجري به عادة الملاك في الخدم
قال: وأنشدني لنفسه، وذكر أنه لا يوجد لها قافية رابعة من جنسها في الحلاوة:
سيدي أنت ومن عادته ... باعتداء وبجور جاريه
أنصف المظلوم وارحم عبرة ... بدموع ودماء جاريه
ربما أكني بقولي سيدي ... عند شكواي الهوى من جاريه
قال: وأنشدني لنفسه، والقافية كلها عود باختلاف المعنى:
العيش عافية والراح والعود ... فكل من حاز هذا فهو مسعود
هذا الذي لكم في مجلس أنقٍ ... سجاره العنبر الهندي والعود
وقينة وعدها بالخلف مقترن ... بما يؤمله راج وموعود
وفتية كنجوم الليل دأبهم ... إعمال كأس حداها الناي والعود
فاغدوا علي بكأس الراح مترعة ... عوداً وبدأً فإن أحمدتم عودوا
غلام يقتضي أن يكون أخاً وصديقاً
قال أبو علي: سمعت أبا محمد المهلبي يتحدث، وهو وزير، في مجلس أنس: أن رجلاً كان ينادم بعض الكتاب الظراف، وأحسبه قال ابن المدبر، قال: كنت عنده ذات يوم، فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له رب الدار: ما صنعت؟ فقال: ذهبت، ولم يكن، فقام يجيء، فجاء، فلم يجيء، فجئت، قال: فتبينت في رب الدار تغيراً، وهماً، ولم يقل للغلام شيئاً، فعجبت من ذلك.
ثم أخذ بيدي، وقال: قد ضيق صدري، ما جاء به هذا الغلام، فقم حتى ندور في البستان الذي في دارنا ونتفرج، فلعله يخف ما بي.
فقلت: والله، لقد توهمت أن صدرك قد ضاق بانغلاق كلام الغلام عليك، وقد فهمته، وهذا ظريف.
فقال: إن هذا الغلام، أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنني ممتحن بعشق غلام أمرد، وهو ابن نجار من جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه، ويمنعه مني.

فوجهت هذا الغلام، وقلت: إن لم يكن أبوه هناك، فقل له يصير إلينا.
فرجع، فلما رآك عندي، قدر أني لا أريد أن تفطن للأمر، فرد هذا الجواب الظريف الذي سمعته.
فقلت: أعده علي أنت لأفهمه.
فقال: إنه يقول: ذهبت إلى الغلام ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام يجيء، فجاء أبوه، فلم يجيء الغلام، فجئت أنا.
فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخاً وصديقاً، لا غلاماً.

جحظة البرمكي يفت لبنات وردان
قال أبو علي: حدثني أبو القاسم الحسين بن علي البغدادي، وكان أبوه ينادم ابن الحواري، ثم نادم البريديين بالبصرة، وأقام بها سنين، قال: كان جحظة خسيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سراً.
فكان عند أبي يوماً في شهر رمضان، مسلماً، فأجلسته.
فلما كان نصف النهار، سرق من الدار رغيفاً، ودخل المستراح، وجلس على المقعدة.
واتفق أن دخل أبي فرآه، فاستعظم ذلك، وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: أفت لبنات وردان ما يأكلون، فقد رحمتهم من الجوع.
أبو بكر بن الجراح عالم فارس
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، قال: حدثنا التنوخي، قال: كان أبو بكر بن الجراح يقول: كتبي بعشرة آلاف درهم، وجاريتي بعشرة آلاف درهم، وسلاحي بعشرة آلاف درهم، ودوابي بعشرة آلاف درهم.
قال التنوخي: وكان أحد الفرسان، يلبس أداته، ويركب فرسه، ويخرج إلى الميدان، ويطارد الفرسان فيه.
أبو عبد الله بن ثوابة نهاية
في الكتبة وحسن الكلام
قال أبو علي المحسن التنوخي: رأيت أنا، أبا عبد الله هذا في سنة 409 وإليه ديوان الرسائل، وكان نهاية في حسن الكلام، والكتبة.
فرات غاض من آل الفرات
قال القاضي أبو علي التنوخي: أنشدني أبو الحسين، علي بن هشام، لنفسه، لما قتل أبو الحسن بن الفرات:
فرات غاض من آل الفرات ... ففاض عليه دمع المكرمات
سماء غودرت في بطن أرض ... وبحر غاض في بعض الفلاة
عسى الأيام آخذة بثار ... فتأخذ لي بثار المأثرات
عضد الدولة غلام أبي علي الفارسي في النحو
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: قال التنوخي: ولد أبو علي الحسن بن أحمد النحوي الفارسي، بفسا، وقدم بغداد، فاستوطنها، وسمعنا منه في رجب سنة خمس وسبعين وثلثمائة.
وعلت منزلته في النحو، حتى قال قوم من تلامذته، هو فوق المبرد، وأعلم منه.
وصنف كتباً عجيبة حسنة، لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق.
وبرع له غلمان حذاق، مثل عثمان بن جني، وعلي بن عيسى الشيرازي، وغيرهما.
وخدم الملوك، ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة، فسمعت أبي يقول: سمعت عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو.
زورق ابن الخواستيني
يحمل ثلثمائة ألف رطل
وحدث ابن نصر، قال: حدثني يوماً أبو الفرج الببغاء الشاعر: أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، كان منقطعاً إلى أبي العباس بن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد، عامل البصرة، في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضباً، لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله.
وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى، وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني، مملوءاً كيمياء، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفراً، صار ذهباً ابريزاً، ما مضيت إليه.
فأمسك عنه مغيظاً.
وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل.
ابن أبي علان ومبالغاته
وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر، وقد حكي له، أن ابن أبي علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال.
فقال: هذا محال.
فقيل له: ترد قول ابن أبي علان؟ قال: فإن قال ابن أبي علان، أن على شاطئ جيحون نخلاً يحمل غضار صيني مجزع بسواد، أقبل؟
التنوخي يتحدث عن الحسن بن بشر الآمدي
أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، أبي علي المحسن: أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة، وأنه قدم بغداد فحمل عن الأخفش، والحامض، والزجاج وابن دريد، وابن السراج، وغيرهم، اللغة، وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة.

وكان يكتب بمدينة السلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان، بحضرة المقتدر، ووزرائه، ولغيره من بعده.
وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة، ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد، لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات.
وكان كثير الشعر، حسن الطبع، جيد الصنعة، مشتهراً بالتشبيهات.

لعن الله الدنيا
قال أبو علي: كنت في سنة 352 ببغداد، فحضر أول يوم شهر رمضان فاصطحبنا أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي علي الحسين بن هارون، الكاتب في دار أبي الغنائم، الفضل بن الوزير أبي محمد المهلبي، لتهنئته بالشهر، عند توجه أبيه إلى عمان.
وبلغ أبو محمد إلى موضع من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ، ففترت نيته عن الخروج إلى عمان.
واستوحش معز الدولة منه، وفسد رأيه فيه.
واعتل المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة، بالرجوع من علياباذ، وأن لا يتجاوزه، وقد اشتدت علته، والناس بين مرجف بأنه يقبض عليه إذا حصل بواسط، أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته.
وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد، أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس.
فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي في داره التي كانت لأبيه على دجلة، على الصراة، عند شباك في دجلة، وهو في دست كبير عال، جالس، وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذ ذاك صبي غير بالغ، إلا أنه محصل.
فلم يلبث أن جاء أبو الفضل وأبو الفرج، فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، على طرف دسته، في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما، ولا انزعج، ولا شاركاه في الدست.
وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم، فيساره، فيمضي ويعود، ويخاطبه سراً.
إلى أن جاءه بعد ساعة، فساره، فنهض.
فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنيء من يجب تهنئته وأعود إليك، وكان أبو الفضل زوج زينة، أخت أبي الغنائم، من أبيه وأمه تجني.
فحين دخل واطمأن قليلاً، وقع الصراخ، وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي، وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام، فمسكه أبو الفرج، وقال: اجلس، اجلس، وقبض عليه. وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني، أم الصبي، ووكل بها خدماً، وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا - يعني معز الدولة - فقد طلبك، وقد مات أبوك.
فبكى الصبي، وسعى إليه، وعلق بدراعته، وقال: يا عم، الله، الله، فيّ، يكررها.
فضمه أبو الفضل إليه، واستعبر، وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو الفضل في زبزبه، وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب، تريد معز الدولة بباب الشماسية.
فقال أبو الفتح بن الحسين: ما رأيت مثل هذا قط، ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة، كان هذا الغلام في الصدر معظماً، وخليفتا أبيه، بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً.
ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته، ما لم يجر على أحد.
نعوذ بالله من الخيبة والخذلان
حدث أبو القاسم التنوخي: أن نقفور لما فتح طرسوس، نصب في ظاهرها علمين، ونادى مناديه، من أراد بلاد الملك الرحيم، وأحب العدل والنصفة، والأمن على المال، والأهل، والنفس، والولد، وأمن السبل، وصحة الأحكام، والإحسان في المعاملة، وحفظ الفروج، وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم، ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم.
ومن أراد الزنا، واللواط، والجور في الأحكام والأعمال، وأخذ الضرائب، وتملك الضياع عليه، وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام.
فصار تحت علم الروم خلق من المسلمين، ممن تنصر، وممن صبر على الجزية.

ودخل الروم إلى طرسوس، فأخذ كل واحد من الروم، دار رجل من المسلمين، بما فيها، ثم يتوكل بابها، ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخف، فإن رآه قد تجاوز، منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها، دخلها النصراني، فاحتوى على ما فيها.
وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم، لما رأين أهاليهن، وقالت أنا الآن حرة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهن من رمت بولدها على أبيه، ومنهن من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانياً، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة، حتى بكى الروم رقة لهم.
وطلبوا من يحملهم، فلم يجدوا غير الروم، فلم يكروهم إلا بثلث ما أخذوه على أكتافهم أجرة، حتى سيروهم إلى أنطاكية.
هذا وسيف الدولة حي يرزق بميافارقين، والملوك كل واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين، وعطلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان، ونسأله الكفاية من عنده.

ابن الماشطة صاحب كتاب جواب المعنت
قال أبو علي التنوخي، حدثنا أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة، وهو صاحب الكتاب المعروف: بجواب المعنت، في الكتابة، وعاش حتى بلغ المائة سنة، وكان قد تقلد مكان أبي، في أيام حامد لما غلب علي بن عيسى على الأمور، قال: سمعت الفضل بن مروان وزير المنتصر بالله ابن المتوكل، وذكر خبراً... .
من طريف أخبار العادات
حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة، قال: ومن طريف أخبار العادات، أني كنت أرى أبا الفرج علي بن الحسين الأصبهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي، صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان، وغير ذلك، دائماً إذا ثقل الطعام في معدته - وكان أكولاً نهماً - ، يتناول خمسة دراهم، فلفلاً مدقوقاً، فلا تؤذيه، ولا تدمعه.
وأراه يأكل حمصة واحدة، أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمص، فيتشرى بدنه كله من بعد ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد دفعتين، وأسأله عن سبب ذلك، فلا يكون عنده علم منه.
وقال لي غير مرة: إنه لم يدع طبيباً حاذقاً على مر السنين إلا سأله عن سببه، فلا يجد عنده علماً ولا دواء.
فلما كان قبل فالجه بسنوات، ذهبت عنده العادة في الحمص، فصار يأكله فلا يضره، وبقيت عليه عادة الفلفل.
خطيب يموت على المنبر
ذكر صاحب كتاب النشوار أبو علي المحسن بن علي القاضي: أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني، صاحب كتاب الأغاني، فتذاكروا موت الفجاءة.
فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجأة، إلا أنني لم أسمع من مات على منبر.
قال أبو علي المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج، شيخ أندلسي، قدم من هناك لطلب العلم، ولزم أبا الفرج، يقال له: أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ، وكنت أرى أبا الفرج يعظمه ويكرمه ويذكر ثقته. فأخبرنا أبو زكريا: أنه شاهد في مسجد الجامع ببلدة من الأندلس، خطيب البلد، وقد صعد يوم الجمعة ليخطب، فلما بلغ يسيراً من خطبته، خر ميتاً فوق المنبر، حتى أنزل منه، وطلب في الحال من رقي المنبر، فخطب وصلى الجمعة بنا.
أبو الفرج بن هندو كاتب الإنشاء
في ديوان عضد الدولة
قال أبو علي التنوخي: كان أبو الفرج علي بن الحسين بن هندو، أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة، وقد شاهدت عدة كتب كتبها بخطه.
أبو الحسن الصائغ النحوي أستاذ الجبائي
قال القاضي أبو علي التنوخي، حدثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال، قال: كان أبو الحسن الصائغ النحوي الرامهرمزي واسع العلم والأدب، مليح الشعر وهو صاحب القصيدة التي أولها: " بياض في الأصل " ، وفيها تجوز كثير وأمر بخلاف الجميل، قالها على طريق التخالع، والتطايب.
وكان صالحاً معتقداً للحق، لا عن اتساع في العلم، يعني علم الكلام، ولكنه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب.
وأبو الحسن الصائغ هذا، هو أستاذ أبي هاشم بن أبي علي الجبائي، بعد أبي بكر المبرمان في النحو، قرأ عليه لما ورد البصرة، واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو.
هذا بلاغ للناس ولينذروا به
قال التنوخي: إن أبا الحسن الوراق يعرف بالإخشيذي.

وقال أيضاً: وممن ذهب في زماننا إلى أن علياً عليه السلام، أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المعتزلة، أبو الحسن علي بن عيسى النحوي، المعروف بابن الرماني الإخشيذي.
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت أبا طاهر السبخي، قال: سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، قال: سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، يقول، وقد سئل، فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عز وجل.
فقال: هذا بلاغ للناس ولينذروا به.

بين الوزير ابن مقلة والشاعر ابن بسام
قال التنوخي: حدثني ابن أبي قيراط، علي بن هشام، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قال: كنت أقصد ابن بسام لهجائه إياي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى، في تصريفه، فاعترضت، وقلت: إذا صرف، فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت، فإذا لم يضره الوزير فلا أقل من أن لا ينفعه.
فامتنع من تصريفه، قضاء لحقي.
فبلغ ذلك ابن بسام، فجاءني، وخضع لي، ثم لازمني نحو سنة، حتى صار يختص بي، ويعاشرني على النبيذ، ومدحني فقال:
يا زينة الدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسيء الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم
أبا علي لقد طوقتني منناً ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمن يبث الأيادي في ذوي النعم
بين ابن الفرات وخالد الكاتب
حدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات، يتحدث في مجلسه، قال: كنا بعد وفاة أبينا، وقبل تصرفنا مع السلطان نقدم إلى بغداد، من سر من رأى، فنقيم بها المدة بعد المدة، ونتفرج، ثم نعود، وننزل، إذا وردنا، شارع عمرو بن مسعدة، بالجانب الغربي.
فبكرنا يوماً، نريد بستاناً، فإذا بخالد الكاتب، والصبيان يولعون به، وقد اختلط، وهو يرجم، ويشتم.
ففرقناهم عنه، ومنعناه منهم، ورفقنا به، وسألناه أن يصحبنا، وأنزلنا أحد غلماننا من مركوبه، وأركبناه، وحملناه إلى البستان.
فلما أكل، وسكن، وجدناه متماسك العقل، بخلاف ما رأيناه عليه، وظنناه به، وسمعناه عنه.
فقلنا له: ما الذي يلحقك؟ فقال: أكثر آفتي هؤلاء الصبيان، فإنهم يشدون علي، حتى أعدم بقية عقلي، وأصير إلى ما شاهدتموه مني، وأخذ ينشدنا لنفسه، ويورد من شعره، وطاب لنا يومنا معه.
وأحب أخي أن يمتحنه في قول الشعر، وهل هو على ما كان، أم قد اختل، فقال له: أريد أن تعمل شيئاً في الفراق الساعة.
فأخذ الدواة، وفكر، وقال:
عيني، أكنت عليك مدعياً ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت فيما قلت صادقة ... فعلى فراقهم ألا بنت
رسالة كتبها والد المؤلف
قال أبو علي التنوخي في النشوار: حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت، قال: كتب إلي القاضي التنوخي أبو القاسم علي بن محمد جواب كتاب كتبته إليه: وصل إلي كتابك:
فما شككت، وقد جاء البشير به، ... أن الشباب أتاني بعدما ذهبا
وقلت نفسي تفدي نفس مرسله ... من كل سوء ومن أملى ومن كتبا
وكاد قلبي، وقد قلبته، قرماً ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له، وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه.
قال أبو علي: ولست أعرف له ذلك، ولا وجدته في كتبه منسوباً إليه، ويجوز أن يكون مما قلته ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره، فإنه أكثر مما حفظ.
من شعر أبي الفتح بن المنجم
كان لعلي بن هارون بن المنجم، ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، كان أديباً فاضلاً، إلا أني لم أقف له على تصنيف، فلم أفرده بترجمة، والمقصود ذكره، وقد ذكر هاهنا، روى عنه أبو علي التنوخي في نشواره، فأكثر، وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه:
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظله الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع

قال التنوخي: وأنشدني أبو الفتح لنفسه، وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم

أبو معشر وعلم التنجيم
وحدث أبو علي التنوخي في نشواره، قال: حدثني أبو الحسن بن أبي بكر الأزرق قال: حدثني أبي، قال: كان بكركر من نواحي القفص، ضيعة نفيسة، لعلي بن يحيى بن المنجم، وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة، يسميها: خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها، ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى.
فقدم أبو معشر المنجم من خراسان، يريد الحج، وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة، فحضر ورآها، فهاله أمرها، فأقام بها، وأضرب عن الحج، وتعلم فيها علم النجوم، وأغرق فيه حتى ألحد.
وكان ذلك آخر عهده بالحج، وبالدين، والإسلام أيضاً.
من إخوانيات الجاحظ
قال أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري، قال: حدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل، قال: كنت يوماً عند إبراهيم بن المدبر، فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها.
فقلت له: ما شأن هذه الرقعة، كأنه استعجم عليك شيء منها؟ فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني، وأنا أردده على نفسي، لشدة إعجابي.
فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم، وألقاها إلي، فإذا فيها: ما ضاء لي نهار، ولا دجا ليل، مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشىً خافقة، ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد بليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الإغماض، قول الشاعر:
إذا هتف القمري نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زماناً وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه، في شعره هذا، وذكرت أيضاً، ما رماني به الدهر، من فرقة أعزائي من أخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصائي الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم، وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتاً تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس تحت الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمه ... يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق، لا رقعة خادم، ورقعة غائب، لا رقعة حاضر.
فضحك، وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة، فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام، وتأخر ذلك لشغل عرض لي، فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة، مقام الغيبة.
الوزير علي بن عيسى يقر بأنه
صنيعة الوزير ابن الفرات
حدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: لما حمل علي بن عيسى إلى ابن الفرات في وزارته الثالثة، رآه ابن الفرات، وهو مقبل إليه، فبدأ يكتب كتاباً.
وجاء علي بن عيسى، وهو كالميت، خوفاً وجزعاً، فوقف قائماً، وابن الفرات يكتب، وعند علي بن عيسى، والحاضرين، أنه لم يره.
وبقي واقفاً، نحو ساعة، إلى أن فرغ ابن الفرات من كتابته، ثم رفع رأسه، وقال: اقعد، بارك الله عليك.
فأكب علي بن عيسى عليه، يقبل يده، وهو يقول: أنا عبد الوزير، وخادمه، وصنيعته القديم، وصنيعة أبي العباس أخيه، رحمه الله تعالى، ومن لا يعرف صاحباً، ولا أستاذاً غيره.

فقال: هو كذلك، وأنت فيه صادق، وإني لأرعى لك حق خدمتك القديمة، لي، ولأخي رحمه الله، وما عليك بأس في نفسك، ولولا طاعة السلطان، ما أفسدنا صنيعتنا عندك.
وقرر عليه من المصادرة، ما قرره.
وعمل المحسن بن علي بن الفرات، على قتل علي بن عيسى، فلم يدعه أبوه، واستقر الأمر على نفيه، وإبعاده عن الحضرة.
واختار هو الخروج إلى مكة، وأظهر أنه يريد الحج والمجاورة.
وخرج بعد أن ضم إليه موكلون، ووصاهم المحسن بسمه في الطريق، إن تمكنوا، أو قتله بمكة.
وعرف علي بن عيسى ذلك، فتحرز، في مأكله ومشربه.
ووصل إلى مكة وفيها رجل يعرف بأحمد بن موسى الرازي، وكان داهية ذا مكر وخبث، وقد اصطنعه علي بن عيسى في وزارته، وقلده القضاء هناك.
فلما اجتمع علي بن عيسى معه، حدثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه، وحراسة نفسه.
فتلطف في ذلك، بأن واضع أهل البلد، وقد كانوا قدموه، وأطاعوه، على أن اجتمعوا، وثاروا بالموكلين.
وخاف أن يجري ما يلحقه فيه إثم، أو إنكار من السلطان، فطرح نفسه عليهم، حتى خلصهم، وأخرجهم ليلاً إلى بغداد، بعد أن أعطاهم نفقة. وأقام بمكة.
وقد كان أبو العباس، أحمد بن محمد بن الفرات، في خلافة عبيد الله بن سليمان، على الأمور، عمل ديواناً سماه: ديوان الدار، وجمع إليه سائر الأعمال، ودبره بنفسه، وكتابه، واستناب أخاه أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فيه، واصطنع كتاباً، قلدهم مجالسه، منهم أبو الحسن علي بن عيسى، وأبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، عمه، فكانا يجلسان بحضرة أبي الحسن، ويأمرهما وينهاهما، ويسميانه أستاذنا، على رسم أصحاب الدواوين إذ ذاك.
وجرى الأمر على هذا الترتيب، إلى أن عزم المعتضد بالله، على إخراج المكتفي بالله، إلى الجبل، ومعه عبيد الله بن سليمان، والخروج بنفسه إلى آمد والثغور، ومعه القاسم بن عبيد الله.
فقال عبيد الله، لأبي العباس بن الفرات: أريد كاتباً يصحبني، ويتصفح أعمال كل بلد نفتحه، ويقرر معاملاته، على ما يدل عليه الديوان القديم من رسومه.
فقال: ذاك محمد بن داود، وإليه في ديوان الدار، مجلس ما فتح من أعمال المشرق، وفيه الحسبانات العتيقة.
وقال القاسم: وأنا أريد آخر يكون معي إلى المغرب.
فقال: يكون علي بن عيسى.
وخرج محمد بن داود، وعلي بن عيسى، في جملة عبيد الله، والقاسم، فنفق محمد على عبيد الله، وقرب منه، واختص به، ورأى من فضله، وصناعته، ما أعجبه، وانتهى أمره معه إلى أن زوجه عبيد الله بنته، وانتزع مجلس المشرق، من ديوان الدار، وجعله ديواناً مفرداً، وقلده محمد بن داود، رئاسة.
وحصلت لعلي بن عيسى حرمة بالقاسم، وشاهد من كفايته، وسداده، وكتابته، ونفاذه، ما عظم به في عينه، فقدمه، وتوفر عليه، وفعل مثل فعل أبيه مع محمد بن داود، في انتزاع مجلس المغرب من ديوان الدار، وتقليده علي بن عيسى رئاسة، ولم يجعلا لأبي العباس بن الفرات، بعد ذلك، عليهما يداً.
وكان قول علي بن عيسى، لابن الفرات، ما قاله: من أنني عبدك، وصنيعتك، وعبد وصنيعة أبي العباس أخيك، وقبول ابن الفرات ذلك منه، وتصديقه إياه فيه، على هذا الأصل.

ابن دريد يكتب دروسه لتلامذته
ومن خط أبي علي المحسن، قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله، عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد، وكنت أقرأها عليه، أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها، ثم تقرأ عليه.
وسألت أبا عبيد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله، عن ذلك، فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها، ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه.
القاضي التنوخي وقاطع الطرق
قال المحسن، وحدثني أبي، قال: لما كنت أتقلد القضاء بالكرخ، كان بوابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن، ويمتزج مع غلماني، وأهب له في الأوقات الدراهم والثياب، كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم.
ثم خرجت عن الكرخ، ورحلت عنها، ولم أعرف للبواب ولا لابنه خبراً.
ومضت السنون، وأنفذني أبو عبد الله البريدي من واسط، برسالة إلى ابن رائق، فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطاً، فقيل لي إن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي، مستفحل الأمر.

وكنت خرجت بطالع اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة.
فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفن عدة بسلاح شاك في نحو مائة رجل، وهو كالعسكر العظيم.
وكان معي غلمان يرمون بالنشاب، فحلفت أن من رمى منهم سهماً ضربته إذا رجعت إلى المدينة، مائتي مقرعة، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم، فلا يرضون إلا بقتلي.
وبادرت فرميت بجميع ما كان معي، ومع الغلمان، من السلاح، في دجلة، واستسلمت طلباً لسلامة النفس.
وجعلت أفكر في الطالع الذي خرجت به، فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعاً، والناس قد أديروا إلى الشاطيء، وأنا في جملتهم، وهم يضربون، ويقطعون بالسيوف.
فلما انتهى الأمر إلي، جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك، والطالع لا يوجبه.
فبينا أنا كذلك، وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت، وطرح علي كما صنع بسائر السفن، ليشرف على ما يؤخذ.
فحين رآني زجر أصحابه عني، ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إلي، وجعل يتأملني، ثم أكب على يدي يقبلهما، وهو متلثم.
فارتعت، وقلت: يا هذا، ما شأنك؟ فأسفر عن لثامه، وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته، فلجزعي لم أعرفه، فقلت: لا والله.
فقال: بلى، أنا عبدك ابن فلان الكرخي، بوابك هناك، وأنا الصبي الذي تربيت في دارك.
قال: فتأملته، فعرفته، إلا أن اللحية قد غيرته في عيني.
فسكن روعي قليلاً، وقلت: يا هذا، كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال: يا سيدي، نشأت، فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إلي هؤلاء الرجال، فطلبت قطع الطريق، ولو كان أنصفني السلطان، وأنزلني بحيث أستحق من الشجاعة، وانتفع بخدمتي، ما فعلت بنفسي هذا.
قال: فأقبلت عليه، أعظه، وأخوفه الله، ثم خشيت أن يشق ذلك عليه فيفسد رعايته لي، فأقصرت.
فقال لي: يا سيدي لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئاً.
قلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا في الماء، وشرحت له الصورة. فضحك، وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة في الغم بهم، فلو أفرجت عن الجميع.
فقال: والله، لولا أن أصحابي قد تفرقوا ما أخذوه، لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن، مما لم يؤخذ بعد.
فجزيته الخير، فصعد إلى الشاطيء، وأصعد جميع أصحابه، ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن، مما لم يؤخذ، ورد على قوم أشياء كثيرة، كانت أخذت منهم، وأطلق الناس.
وسار معي إلى حيث أمن علي، وودعني، وانصرف راجعاً.

ابن سكرة الهاشمي يهجو غلاما
ً
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة، فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة، فاضطربت يده، وانقلب منها شيء على ثياب أبي الحسن، فادعى عليه أنه ضرط، وهجاه بأبيات، لم يبق من حفظي منها غير بيتين، وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السقط
جنى بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط
عناية الوزير أبي محمد المهلبي
بالتنوخي المؤلف
قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس، فقصدته للسلام عليه، وتجديد العهد بخدمته.
فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز.
قلت: نعم.
قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي، وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: إلا أن الشهادة عنده، مع الحداثة، جمالاً، وكانت سني يومئذ عشرين سنة.
قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة، لأتقدم إلى أبي السائب، قاضي القضاة، بتقليدك عملاً، تقبل أنت فيه شهوداً. قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب.
فضحك، وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه، كيف اغتنمها؟ ثم قال لي: اخرج معي إلى بغداد. فقبلت يده، ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد.
ووردت بغداد في سنة 349 ه، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلدني عملاً بسقي الفرات.
وكنت ألازم الوزير أبا محمد، وأحضر طعامه، ومجالس أنسه.
واتفق أن جلس يوماً مجلساً عاماً، وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار.

قال: يدخل، ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارني، فقبلتها.
فمد يدي، وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب، فيراك تسارني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك، ويحشمك، ويتوفر عليك، ويكرمك، فإنه لا يجيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك.
وأخذ يواصل معي في مثل هذا الفن من الحديث، إلى أن دخل أبو السائب.
فلما رآه في سرار، وقف، ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له، تقرباً إليه، وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه.
فقال الحاجب لأبي السائب: يجلس قاضي القضاة.
وسمعه الوزير، فرفع رأسه، وقال له: اجلس يا سيدي.
وعاد إلى سراري، وقال لي: هذه أشد من تلك، فامض إليه في غد، فسترى ما يعاملك به.
وقطع السرار، وقال لي ظاهراً: قم فامض فيما أنفذتك فيه، وعد إلي الساعة بما تعمله.
فوهم أبو السائب بذاك أننا في مهم.
فقمت، ومضيت إلى بعض الحجر، وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب، ثم عدت إليه، وقد قام عن ذلك المجلس.
وجئت من غد إلى أبي السائب، فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة.
وكان على ذلك دهراً طويلاً.

التنوخي المؤلف في مجلس أنس عضد الدولة
حدث أبو علي، قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه، بنهاوند، فغناه محمد بن كاله الطنبوري، شيخ كان يخدمه في جملة المغنين، باق إلى الآن:
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهم والكرب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كف شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحسن الشعر والصنعة، وسأل عنها، فقال له ابن كاله: هذا شعر غنت به مولانا، سلمة بنت حسينة، فاستعاده منها استحساناً له، فسرقته منها.
قال التنوخي: فقلت له: أما الشعر، فللخباز البلدي، وأظن أبا الحسن بن طرخان قال لي: إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن، ولكنه مسروق.
فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني، فمن قول أبي نؤاس:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان صادق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم، كثير في القوم، وأبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في البيت الثالث، هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل بن زياد القطان، قال أنشدنا يعقوب بن السكيت، ولم يسم قائلاً:
أقري الهموم إذا ضاقت معتقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويفا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف - أطال الله بقاء مولاي - هذا المعنى من قال:
كأن المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
وكان أبو علي، أحمد بن علي المدائني، المعروف بالهائم الراوية، قائماً في المجلس، فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية، السري الرفاء، حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززنا لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم الصبح أجسامها ... مع الجدر نظم صفوف اللقاء
تمد إليها أكف الرجال ... فترجع مثل أكف النساء
وكشف المعنى الثاني في الأبيات بقوله:
إزدد من الراح وزد ... فالغي في الراح رشد
يديرها ذا غنة ... أغيد يثنيه الغيد
مد إليها يده ... فالتهبت إلى العضد
قال القاضي التنوخي: فقلت له: فأين أنت عما هو خير من هذا؟ وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا
قال الهائم: فقد قال بكارة الرسعني:
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
وقول أبي النضر النحوي:
فلو رآني إذا اتكأت وقد ... مددت كفي للهو والطرب
لخالني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب

فبدأت أذكر شيئاً، فقال الهائم: اصبر، اصبر، فهاهنا ما لا يلحقه شعر أحد كان في الدنيا قط، حسناً وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... تفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة، وأقبلت أعظم البيت، وأفخم أمره، وأفرط في استحسانه، والاعتراف بأني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به.

أبيات من نظم عضد الدولة
قال التنوخي: كنت بحضرة الملك عضد الدولة في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له في المؤانسة بشهور يسيرة، فغني له من وراء ستارته الخاصة، صوت، وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات، بعضها ملحون، وبعضها جيد.
فاستملح اللحن، وقال: هو شعر ركيك جداً، فتعلمون لمن هو، ولمن اللحن؟.
فقال له أبو عبد الله المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله، وأن اللحن له أيضاً.
فقال لي: اعمل أبياتاً تنقل هذا اللحن إليها، في وزنها وقافيتها.
فجلست ناحية، وعملت:
أيهذا القمر الطا ... لع من دار القمار
رائحاً من خيلاء ال ... حسن في أبهى إزار
والذي يجني ولا يت ... بع ذنباً باعتذار
أنا من هجرك في بعد ... على قرب المزار
أوضح العذر عذارا ... ك على خلع العذار
وعدت فأنشدته إياها في الحال، فارتضاها، وقال: لولا أنه قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها، لأمرت بنقل اللحن إليها.
ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه ... د على بعد المزار
ونمر السحب سحباً ... من أكف كالبحار
أبداً ننجز للضي ... ف قدوراً من نضار
وأمر جواريه بالغناء فيه.
وأما أبياتي فقد تممتها قصيدة، ومدحته بها وهي مثبتة في ديوان شعري.
عضد الدولة يحتفل بتحول سنة
شمسية من يوم مولده
قال التنوخي: وجلس عضد الدولة، وقد تحولت له سنة شمسية، من يوم مولده، على عادة له في ذلك.
وكانت عادته، أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر، أن يأكل، ويتبخر، ويخرج في حال التحويل، إلى مجلس عظيم، قد عبى فيه آلات الذهب والفضة، وليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة.
ويجيء المنجم، فيقبل الأرض بين يديه، ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون، وأخذوا مواضعهم، وجلسوا، وحضر الندماء، وأخذوا مواقفهم قياماً.
ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته، غيري، وغير أبي علي الفسوي، وأبي الحسين الصوفي المنجم، وأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف، صاحب ديوان الرسائل، فإنه كان يجلس ليوقع بين يديه.
ويستدعي لع إذا نشط، نبيذ، فيجعل بين يديه، ويشرب منه، ومن قبل أن يشرب، يوقع بمال، ثم يجيء المهنون من أهل المجلس، مثل رؤساء دولته، ووجوه الكتاب، والعمال، وكبار أهل البلد من الأشراف وغيرهم، فيدخلون إليه، فيهنئونه، والشعراء، فيمدحونه.
فلما جلس ذلك اليوم، على هذه الصفة، قيل له: إن الناس قد اجتمعوا للخدمة، وفيهم أبو الحسن بن أم شيبان قد حضر.
فعجب من هذا، ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل، وليس هذا من أيامه، وما حضر إلا لفرط موالاته، وأنه ظن أنه يوم لا شرب فيه، وإن حجبناه غضضنا منه، وإن أوصلناه فلعله لا يحب ذلك لأجل الغناء والنبيذ. ولكن اخرج إليه يا فلان - لبعض من كان قائماً من الندماء - واشرح له صفة المجلس، وما قلته في أمره، وأد الرسالة إليه ظاهراً، ليسمعها الناس، فإن أحب الدخول فأدخله قبلهم، وإن أراد الانصراف، فلينصرف، والناس يسمعون، وقد علموا منزلته منا.
فخرج الحاجب، وأبلغ ذلك.
فدعا، وشكر، وآثر الانصراف، فانصرف، وهم جلوس يسمعون.
ثم قال لحاجب النوبة: اخرج، وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وأخوه أبو محمد علي بن العباس، يتقدمان الناس جميعهم، لرئاستهم القديمة، حتى دخلوا، وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك، وأعطوه الدينار والدرهم، ووقفوا.

وابتدأ الشعراء، فكان أول من ينشد من الشعراء السلامي، أبو الحسن محمد بن عبد الله، إلا أنه يريد مني أن أنشده في الملأ شيئاً، فإنه كان يأمرني بذلك في الليل، فأحضر، وأبتديء، فأنشده، أو يحضر رجل علوي ينشد شعراً لنفسه، فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن، ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي، من أهل معرة النعمان، يعرف بابن جلباب، ثم يتتابع الشعراء.
فلما انصرف الناس، وتوسط الشرب، جاءه الحاجب، فقال: قد حضر أبو بكر بن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخاً، قد أقام بالبصرة، وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة، قبل ذلك، وأقام، وكان خادماً له، فيما يخدم فيه التجار، يختصه بعض الاختصاص.
فأقبل، وكان بين يدي، الدست التمري، الذي يوضع بين يدي في كل يوم، وفيه من الأشربة المحللة، ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة، على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد سامني وألزمني ذلك، بعد امتناعي منه شهوراً، حتى تهددني وأخافني.
فقال لي: يا قاضي، إن هذا الرجل الذي استؤذن له، عامي، جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له علي، ولأنه كان يخدم أمي في البز، ويدخل إليها بإذن ركن الدولة، لتقاه وأمانته، فلا تستتر عنه، وهذا قبل أن أولد، فلما ولدت كان يحملني على كتفه، إلى أن ترجلت، ثم صار يشتري البز، ويبيعه علي، واستمرت خدمته لحرمته، وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك، فيظنه خمراً، فيرجع إلى البصرة، فيخبر قاضيها وشهودها بذلك، فيقدح فيك، ومحله يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله بن المنجم - وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم، يجلس دوني بفسحة في المجلس - فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك، فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك.
فقبلت الأرض شكراً لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله.
ثم قال: أدخلوه، فأدخلوه، وشاهد المجلس، وهنأ، ودعا، وأعطى ديناراً ودرهماً كبيرين، فيهما عدة مثاقيل، وانصرف.
قال أبو علي، ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفاً مع قاضي القضاة أبي السائب، وحديث تقريبه منه، ومسارته إياه في المحفل ليعظم بذلك قدره، وتكبر منزلته، في عين قاضي القضاة أبي السائب.
ولله در القائل:
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير

لماذا سخط عضد الدولة على التنوخي المؤلف
قال الرئيس أبو الحسين هلال: في شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، وألزم منزله، وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر بن أبي موسى، وأبي بكر بن المحاملي، وأبي محمد بن عقبة، وأبي تمام بن أبي حصين، وأبي بكر الأزرق، وأبي محمد بن الجهرمي.
وكان السبب في ذلك، ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني القاضي أبو علي، والدي، قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة، فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة، وبينهم، وكان لي صديقاً، ومعي أبو علي الهائم، وجلسنا نتحدث، وقعد أبو بكر علي بباب خركاه كنا فيه، وقدم إليه ما يأكله.
فقال: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد.
فقلت: ولم؟ فقال: إن الملك مدبر في القبض على الصاحب أبي القاسم بن عباد، - وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان - وإذا كان كذلك، تشاغل بما تتطاول معه الأيام، وانصرفت من عنده.
فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه، ولا تخرج به إلى أحد، ولا سيما إلى أبي الفضل بن أبي أحمد الشيرازي.
فقلت: أفعل.
ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي، ومواصلتي، ومؤاكلتي، ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل بن أبي أحمد الشيرازي.
فقال لي: أيها القاضي، أنت مشغول القلب، فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا، وقلت: أما علمت أن الملك مقيم، وقد عمل على كذا في أمر الصاحب، وهذا دليل على تطاول السنة.
فلم يتمالك أن انصرف، وأستدعى ركابياً من ركابيتي، وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر بن شاهويه.
قال: وما صنعتم؟

قال: لا أدري، إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس، وانصرف إلى خيمته، ولم يمض إلى غيره.
فكتب إلى عضد الدولة، رقعة، يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي، فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر بن شاهويه، وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به، وأظهر السر، فسد ما دبر في معناه.
فلما وقف عضد الدولة على الرقعة، وجم وجوماً شديداً، وقام من سماط كان قد عمله في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم، مغيظاً.
واستدعاني، وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا، حاكياً عن أبي بكر بن شاهويه، فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئاً، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد، وواقفني، وأنكرته، وراجعني، وكذبته.
وأحضر أبو بكر بن شاهويه، وسئل عن الحكاية، فقال: ما أعرفها، ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها.
وثقل على أبي بكر هذه الموافقة، وقال: ما نعامل الأضياف هذه المعاملة.
وسئل أبو علي الهائم عما سمعه، فقال: كنت خارج الخركاه، وكنت مشغولاً بالأكل، وما وقفت على ما كانا فيه.
فمد، وضرب مائتي مقرعة، وأقيم، فنفض ثيابه.
وخرج أبو عبد الله بن سعدان، وكان لي محباً، فقال لي: الملك يقول لك، ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟ فما بالك جحدت نعمتنا، وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي، فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته، فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك، فقد كنت مستوراً فهتكني، ومتصوناً ففضحني، وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح في.
فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الإجابة به، لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكني أقول عنك كذا وكذا، بجواب لطيف، فاعرفه، حتى إذا سئلت عنه، وافقتني فيه، وتركني وانصرف.
وجلست مكاني طويلاً، وعندي أنني مقبوض علي، ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر.
وقمت، وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العادة، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس، منكسف البال.
فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إلي طرفاً، ولا لوى إلي وجهاً، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً.
ثم استدعاني، وهو في خركاه، وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم.
فقال: ويلك، اصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أبي أحمد. فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله، لما أقاله العثرة.
فقال: أومن حقوقي عليكم، أن تسيئوا غيبتي، وتتشاغلوا بذكري.
فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. فالتفت إلى أبي القاسم، وقال: اسمع ما يقول.
فقال له بالفارسية، وعنده أنني لا أعرفها: هؤلاء البغداديون مفتونون، ومفسدون، ومتسوقون.
فقال شكر: الأمر كذلك، إلا أن التسوق على القاضي، لا منه. ثم قال لي عضد الدولة: عرفنا ما قاله أبو الفضل.
قلت: هو ما ينطلق به لساني.
فقال: هاته، وكان يحب أن تعاد الأحاديث، والأقاويل، على وجهها، من غير كناية عنها، ولا احتشام فيها.
فقلت: نعم، إنك عند وفاة والدك بشيراز، أنفذت من كرمان، وأخذت جاريته زرياب، وإن الخادم المخرج في ذاك، وافى ليلة الشهر، فاجتهدت به أن يتركها تلك الليلة، لتوفي أيام الحق، فلم يفعل، ولا رعى للماضي حقاً ولا حرمة.
فقال: والله، لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الإعجال، ولو تركها يوماً، وأياماً، لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم، ولا عمل لنا فيه، ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: قال: إن مولانا يعشق كنجك المغنية، ويتهالك في أمرها، وربما نهض إلى الخلاء، فاستدعاها إلى هناك، وواقعها.
فقال: إنا لله، لعنكما الله، ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل، ونسبتها إليه.
وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام، فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضاً هذا الأستاذ، وأومأت إلى أبي القاسم، وأبا الريان، وجماعة الحواشي.
فقال: ما قال في أبي القاسم؟

قلت: قال: إنه ابتاع من ورثة ابن بقية، ناحية الزاوية من راذان بأربعة آلاف درهم، بعد أن استأذنك استئذاناً سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلها في سنة واحدة، نيفاً على ثلاثين ألف درهم، وإنه أعطى فلاناً، وفلاناً، ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة، فأعطياه نيفاً وستين ألف درهم.
فمات عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته عنه، على ما ذكرني به.
قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا، لأمور ذكرتها.
وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي، والإقبال علي.
واتفق أنه سكر في بعض الأيام، وولع بكنجك ولعاً قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل، وأشار إليه.
فقلق أبو الفضل، وقرب مني، وكنت أقعد، ويقوم، وقال لي: ما الذي أومأ إلي الملك فيه.
قلت: لا أدري، فسله أنت عنه.
ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق، وعلي ثياب حسنة، وتحتي بغلة بمركب وجناغ جداد، فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟.
قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم، بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثياباً، وسبعة آلاف درهم.
فقال: هذا قليل مع ما تستحقه عليه.
فعلمت أنه اتهمني به، وبأني خرجت بهذا الحديث إليه، وما كنت حدثته به.
ووردنا إلى بغداد، فحكى لي أن الطائع متجاف عن ابنته المنقولة إليه، وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية، فثقل ذلك عليه.
وقال لي: تمضي إلى الخليفة، وتقول له عن والدة الصبية: إنها مستزيدة لإقبال مولانا عليها، وإدنائه إليها، ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال، ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة.
فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري، لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زلقت، ووثئت رجلي، فانفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره، فلم يقبله، وأنفذ إلي يستعلم خبري.
فرأى الرسول لي غلماناً روقة وفرشاً جميلاً، فعاد إليه وقال له: هو متعالل، وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا، والناس يغشونه ويعودونه.
فاغتاظ غيظاً مجدداً، حرك ما في نفسي مني أولاً، فراسلني: بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه، ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه، إلا نفر من أصدقائي استأذنت فيهم، فاستثنى بهم.
ومضت الأيام، وأنفذ إلي أبو الريان، فطالبني بعشرة آلاف درهم، كنت استسلفتها من إقطاعي، فأديتها إليه.
واستمر علي السخط، والصرف عن الأعمال، إلى حين وفاة عضد الدولة.

أبو العباس النحوي يمدح أبا القاسم
التنوخي والد المؤلف
أنشدني أبو القاسم التنوخي، عن أبيه، لأبي العباس النحوي، من قصيدة مدح بها جده أبا القاسم، أولها:
والجفون المضانيات المراض ... والثنايا يلحن بالإغماض
والعهود التي تلوح بها الص ... ف خلاف الصدود والإعراض
قد برتني الخطوب حتى نضتني ... حرضاً بالياً من الأحراض
وجدتني والدهر سلمي سليمى ... لم ينلني بنابه العضاض
بين برد من الشباب جديد ... ورداء من الصبا فضفاض
ومنها في المديح:
ومدير عرى الأمور برأي ... يقظ الحزم مبرم نقاض
دق معنى وجل قدراً فجادت ... في معانيه نهية الأغراض
وأنشد له أيضاً:
لو قد وجدت إلى شفائك منهجا ... جبت الصباح إليه أو حلك الدجى
لكن وجدتك لا يحيك العتب في ... ك ولا العتاب ولا المديح ولا الهجا
فاذهب سدى ما فيك شر يتقى ... يوماً وليس لديك خير يرتجى
وإذا امرؤٌ كانت خلائق نفسه ... هذه الخلائق فالنجا منه النجا
المفجع الشاعر يلاطف القاضي
أبا القاسم التنوخي
دخل المفجع يوماً إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي، فوجده يقرأ معاني الشعر على العبيسي، فأنشد:
قد قدم العجب على الرويس ... وشارف الوهد أبا قبيس
وطاول البقل فروع الميس ... وهبت العنز لقرع التيس
وادعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرأ القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وألقى ذلك إلى التنوخي، وانصرف.
المفجع الشاعر يعاتب القاضي

أبا القاسم التنوخي
ومدح المفجع، أبا القاسم التنوخي، فرأى منه جفاء، فكتب إليه:
لو أعرض الناس كلهم وأبوا ... لم ينقضوا رزقي الذي قسما
كان وداد فزال وانصرما ... وكان عهد فبان وانهدما
وقد صحبنا في عصرنا أمماً ... وقد فقدنا من قبلهم أمما
فما هلكنا هزلاً ولا ساخت الأر ... ض ولم تقطر السماء دما
في الله من كل هالك خلف ... لا يرهب الدهر من به اعتصما
حر ظننا به الجميل فما ... حقق ظناً ولا رعى الذمما
فكان ماذا؟ ما كل معتمد ... عليه يرعى الوفاء والكرما
غلطت والناس يغلطون وهل ... تعرف خلقاً من غلطة سلما
من ذا الذي أعطي السداد فلم ... يعرف بذنب ولم يزل قدما
شلت يدي لم جلست عن ثقة ... أكتب شجوي وأمتطي القلما
يا ليتني قبلها خرست فلم ... أعمل لساناً ولا فتحت فما
يا زلة ما أقلت عثرتها ... أبقت على القلب والحشى ألما
من راعه بالهوان صاحبه ... فعاد فيه فنفسه ظلما
من شعر أبي النضر الكندي
حدثنا الببغاء قال: كان يجتمع معنا في خدمة سيف الدولة، شيخ من أهل الأدب، والتقدم في النحو، وعلم المنطق، ممن درس على الزجاج، وأخذ عنه، يكنى بأبي النضر، وهو محمد بن إسحاق بن أسباط الكندي المصري، وحكى أنه كان حسن الشعر.
وأخبرنا: أن الأبيات التي ينسبها قوم إلى أبي المغيرة، وآخرون إلى أبي نضلة - قلت أنا: وجدتها أنا، في ديوان أبي القاسم التنوخي، معزوة إلى أبي القاسم - وتروى لغيرهم أيضاً، أنها لأبي النضر، من قديم شعره، وأنشدها لنفسه، وهي:
وكأس من الشمس مخلوقة ... تضمنها قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
وما كان في الحكم أن يوحدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاجتمعا بالجوار
كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
وقد أورد التنوخي هذه الحكاية، في كتاب النشوار، وحكى: أن أبا النضر، كان عالماً بالهندسة، قيماً بعلوم الأوائل.
ولأبي النضر أيضاً:
هات اسقني بالكبير وانتخب ... نافية للهموم والكرب
فلو تراني إذا انتشيت وقد ... حركت كفي بها من الطرب
لخلتني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب
وقال أبو علي التنوخي: أنشدني أبو عمر بن حفص الخلال، لأبي النضر المصري النحوي من قصيدة، يذكر فيها رجلاً مدحه، وقال: وكان متسعاً في الشعر الجيد المستحسن:
ورأيت أحمدنا وسيدنا ... متصدراً للورد والصدر
خلت النجوم خلقن دائرة ... موصولة الطرفين بالقمر
أبو مسلم الأصبهاني
يكتب لمحمد بن زيد الداعي
قال أبو علي التنوخي، وقد ذكر محمد بن زيد الداعي، فقال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني، الكاتب المعتزلي الشهير، العالم بالتفسير، وبغيره من صنوف العلم - وقد صار عامل أصبهان، وعامل فارس، للمقتدر - يكتب له، ويتولى أمره.
الصلت بن مالك الشاري يدعو الله
أن يوقف المطر
حدث أبو علي المحسن، قال: حدثني أبو القاسم الحسن بن علي بن إبراهيم بن خلاد الشاهد العكبري، أمام الجامع فيها، قال: حدثني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: كنت بعُمان مع الصلت بن مالك الشاري، وكانت الشراة تدعوه: أمير المؤمنين.
وكانت السنة كثيرة الأمطار، ودامت على الناس، فكادت المنازل أن تتهدم، فاجتمع الناس، وصاروا إلى الصلت، وسألوه أن يدعو لهم.
فأجل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء، ويدعو.
فقال لي بكر لتخرج معي في غد، فبت مفكراً، كيف يدعو.

فلما أصبحت، خرجت معه، فصلى بهم، وخطب، ودعا، فقال: اللهم إنك أنعمت فأوفيت، وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، حيث النفع لا الضرر.
فاستحسنت ذلك منه.

من شعر ابن جمهور العمي
قال أبو علي التنوخي: كان محمد بن الحسن بن جمهور العمي الكاتب من شيوخ أهل الأدب بالبصرة، وكثير الملازمة لأبي، وحرر لي خطي، لما قويت على الكتابة، لأنه كان جيد الخط، حسن الترسل، كثير المصنفات لكتب الأدب، فكثرت ملازمتي له، وكان يمدح أبي.
فأنشدني لنفسه، وهو من مشهور شعره:
إذا تمنع صبري ... وضاق بالهجر صدري
ناديت والليل داج ... وقد خلوت بفكري
يا رب هب لي منه ... وصال يوم بعمري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
كثرت عندي أياديك ... فجل الوصف عنها
فأحاطت بجميع الف ... هم حتى لم أبنها
فمتى ازددتك منها ... كنت كالناقض منها
إنه الله تبارك وتعالى
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبي، قال: حدثن القاضي محمد بن صالح الهاشمي قال: حدثني القاضي أبو عمر، يعني محمد بن يوسف، وأبو عبد الله المحاملي القاضي وأبو الحسن علي بن العباس النوبختي، قالوا: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: كنت أكتب لموسى بن بغا، وكنا بالري، وكان قاضيها إذ ذاك أحمد بن بديل الكوفي.
فاحتاج موسى أن يجمع ضيعة كانت هناك، كانت له فيها سهام، وأن يعمرها، وكان فيها سهم ليتيم.
فصرت إلى أحمد بن بديل، أو قال: استحضرت أحمد بن بديل، وخاطبته في أن يبيع علينا حصة اليتيم، ويأخذ الثمن.
فامتنع، وقال: ما باليتيم حاجة للبيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه، فيحدث على المال حادثة، فأكون قد ضيعته عليه.
فقلت: أنا أعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها.
فقال: ما هذا لي بعذر في البيع، والصورة في المال إذا كثر، مثلها إذا قل.
فأدرته بكل لون وهو يمتنع، فأضجرني، فقلت له: أيها القاضي، إلا تفعل، فإنه موسى بن بغا.
فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى.
قال: فاستحييت من الله أن أعاوده بعد ذلك، وفارقته.
ودخلت على موسى، فقال: ما عملت في أمر الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث.
فلما سمع " إنه الله " بكى، وما زال يكررها.
ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة، وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها.
قال: فأحضرته، وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر الضيعة، وذلك أني شرحت له ما جرى بيننا، وهو يعرض عليك قضاء حوائجك.
قال: فدعا له، وقال: هذا الفعل أحفظ لنعمته، وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور، وقد أضر بي.
فأطلقت له جارية.
بشرك الله بالنار
حدثنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا القاضي أبو القاسم عمر بن محمد بن إبراهيم البجلي - من لفظه وحفظه - قال: حدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، قال: كنت بسر من رأى، وكان عبد الله بن أيوب المخرمي يقرب إلي، فخرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سر من رأى إلى بغداد، حتى دققت على عبد الله بن أيوب، بابه، فخرج إلي.
فقلت: لك البشرى.
فقال: بشرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء، لأحد البلدين، إما سر من رأى، أو بغداد - أبو القاسم البجلي الشك منه - .
قال: فأطبق الباب، وقال: بشرك الله بالنار.
وجاء أصحاب السلطان إليه، فلم يظهر لهم، فانصرفوا.
أبو بكر الآدمي القاريء
يقرأ لابن أبي الساج
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو السري عمر بن محمد القاريء، قال: حدثني أبو بكر الآدمي، قال: لما أدخل مؤنس، أبا القاسم بن أبي الساج أسيراً، خرجت إلى تلقيه على فراسخ، ودخلت بغداد معه.
فقال لي لما قربنا: إذا كان غداً، فإني سأركب مع ابن أبي الساج وأشهره، فاركب بين يديه، واقرأ.
فقلت: السمع والطاعة.
فلما كان من الغد شهر ابن أبي الساج ببرنس، فبدأت، فقرأت، " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " وأتبعتها بكل ما في القرآن من هذا الجنس.

قال: وحانت مني التفاتة، فوجدت ابن أبي الساج يبكي.
ومضى ذلك اليوم.
فلما كان بعد أيام، رضي عنه السلطان، بشفاعة مؤنس، فأطلقه إلى داره.
فأنا كنت يوماً بحضرة مؤنس أقرأ، إذ استدعاني وقال لي: قد طلبك اليوم ابن أبي الساج، فامض إليه.
فقلت: أيها الأستاذ، الله، الله، في، لعله وجد في نفسه من قراءتي ذلك اليوم.
فضحك، وقال: امض إليه.
فمضيت إليه، فرفعني، وأجلسني، وقال: أحب أن تقرأ تلك الآيات التي قرأتها بين يدي يوم كذا.
فقلت: أيها الأمير، تلك حالة اقتضت ذلك، وليس مثلك بمؤاخذ مثلي عليها، وقد كشفها الله الآن، ولكن أقرأ لك غيرها.
فقال: لا، إلا تلك، فإنه تداخلني لها خشوع وخوف، أحب أن أكسر به نفسي، فردد سماعها علي.
قال: فاستفتحت، فقرأتها، فما زال يبكي وينتحب، إلى أن قطعت القراءة.
ثم قال: تقدم إلي.
فخفته والله أن يبطش بي، ثم قلت في نفسي: هذا محال، فتقدمت، فأخرج من تحت مصلاه دنانير كثيرة، وقال: افتح فاك.
ففتحته بكل ما استطعته، فما زال يملأه حتى لم يبق في فمي موضع.
ثم قال للغلام: هات، فجاء بكيس في ألفا درهم، فجعلها في كمي.
ثم خرجت، فقدمت إلي بغلة فارهة مسرجة، فحملت عليها، وأصحبني ثياباً، وقال: إذا شئت فعد إلينا، ولا تنقطع عنا، ما دمنا مقيمين.
فكنت أجيئه في كل أسبوع أقرأ في داره، فيعطيني في كل شهر مائة دينار، إلى أن خرج من مدينة السلام.

إبراهيم بن شبابة يشكو فلا يجاب
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، عن علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي، قال: حدثني محمد بن عبد الله الطلحي، قال: حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ، قال: قدم على نيسابور إبراهيم بن شبابه الشاعر البصري، فأنزلته علي، فجاء ليلة من الليالي، وهو مكروب قد هاج، فجعل يصيح بي: يا أبا أيوب.
فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعياني الشادن الربيب.
فقلت: بماذا؟ فقال: إليه أشكو فلا يجيب.
فقلت: داره وداوه.
فقال:
من أين أبغي دواء دائي ... وإنما دائي الطبيب
فقلت: إذن يفرج الله عز وجل.
فقال:
يا رب فرج إذن وعجل ... فإنك السامع المجيب
قال: ثم انصرف.
عضد الدولة وإيمانه بالمنامات
حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ببغداد، وذلك في سنة 370 قال: حدثتني أمي رحمها الله: أنها ولدت للأمير ركن الدولة، ولداً قبلي، كناه أبا دلف، وعاش قليلاً ومضى لسبيله.
قالت: فحزنت عليه حزناً شديداً، أسفاً على فقده، وإشفاقاً من أن ينقطع ما بيني وبين الأمير بعده.
فسلاني مولاي، وسكنني، وأقبل علي، وقربني، ومضت الأيام، وتطاول العهد، وسلوت.
ثم حملت بك، بأصبهان، فخفت أن أجيء ببنت، فلا أرى مولاي، ولا يراني، لما أعرف من كراهيته للبنات، وضيق صدره بهن، وطول إعراضه عنهن، ولم أزل على جملة القلق والجزع، إلى أن دخلت في شهري، وقرب ما أترقبه من أمري، وأقبلت على البكاء والدعاء، ومداومة الصلاة والأدعية إلى الله، في أن يجعله ولداً، ذكراً، سوياً، محظوظاً.
ثم حضرت أيامي، واتفق أن غلبني النوم، فنمت في مخادعي، ورأيت في منامي، رجلاً شيخاً، نظيف البزة، ربعة، كث اللحية، أعين، عريض الأكتاف، وقد دخل علي، وعندي أنه مولاي ركن الدولة، فلما تبينت صورته ارتعت منه، وقلت: يا جواري، من هذا الهاجم علينا؟ فتساعين إليه، فزبرهن، وقال: أنا علي بن أبي طالب.
فنهضت إليه، وقبلت الأرض بين يديه، فقال: لا. لا.
وقلت: قد ترى يا مولاي ما أنا فيه، فادع الله لي بأن يكشفه، ويهب لي ذكراً سوياً محظوظاً.

فقال: يا فلانة، وسماني باسمي - وكذا كنى الملك عضد الدولة عن الاسم - قد فرغ الله مما ذكرت، وستلدين ذكراً، سوياً، نجيباً، ذكياً، عاقلاً، فاضلاً، جليل القدر، سائر الذكر، عظيم الصولة، شديد السطوة، يملك بلاد فارس وكرمان، والبحر وعمان، والعراق والجزيرة، إلى حلب، ويسوس الناس كافة، ويقودهم إلى طاعته بالرغبة والرهبة، ويجمع الأعمال الكثيرة، ويقهر الأعداء، ويقول بجميع ما أنا فيه - يقول الملك ذاك - ويعيش كذا وكذا سنة، لعمر طويل، أرجو بلوغه - ولم يبين الملك قدره - ويملك ولده من بعده، فيكون حالهم كذا وكذا لشيء طويل، هذه حكاية لفظه.
قال الملك عضد الدولة: وكلما ذكرت هذا المنام، وتأملت أمري، وجدته موافقاً له حرفاً بحرف.
ومضت على ذلك السنون، ودعاني عمي عماد الدولة إلى فارس، واستخلفني عليها، وصرت رجلاً، وماتت أمي.
واعتللت علة صعبة، أيست فيها من نفسي، وأيس الطبيب مني، وكانت سنتي المتحولة فيها، سنة رديئة الدلائل، موحشة الشواهد، وبلغت إلى حد أمرت فيه، بأن يحجب الناس عني، حتى الطبيب، لضجري بهم، وتبرمي بأمورهم، وما أحتاج إلى شرحه لهم، ولا يصل إلي إلا حاجب النوبة.
وبينما أنا على ذلك، وقد مضت علي فيه ثلاثة أيام، أو أربعة، ولا شغل لي إلا البكاء على نفسي، والحسرة على مفارقة الحياة، إذ دخل حاجب النوبة، فقال: أبو الحسين الصوفي في الدار، منذ الغداة، يسأل الوصول، وقد اجتهدت به في الانصراف، فأبى إلا القعود، وترك القبول، وهو يقول: لا بد لي من لقاء مولانا، فإن عندي بشارة، ولا يجوز أن يتأخر وقوفه عليها، وسماعه إياها، فلم أحب أن أجد به في المنع والصرف، إلا بعد المطالعة وخروج الأمر.
فقلت له - على مضض غالب، وبصوت خافت - قل له: كأنني بك، وأنت تقول قد بلغ الكوكب الفلاني، إلى الموضع الفلاني، وتهذي علي في هذا المعنى، هذياناً لا يتسع له صدري، ولا يحتمله قلبي وجسمي، وما أقدر على سماع ما عندك، فانصرف.
فخرج الحاجب، وعاد متعجباً، وقال: إما أن يكون أبو الحسين قد اختل، وإما أن يكون عنده أمر عظيم، فإني أعدت عليه ما قاله مولانا، فقال: ارجع، وقل له: والله، لو أمرت بضرب رقبتي، لما انصرفت أو أراك، ومتى أوردت عليك في معنى النجوم حرفاً، فحكمك ماض في، وإذا سمعت ما أحدثك به، عوفيت في الوقت، وزال ما تجده.
فعجبت من هذا القول، عجباً شديداً، مع علمي بعقل أبي الحسين، وشدة تحقيقه، وقلة تحريفه، وتطلعت نفسي إلى ما عنده، فقلت: هاته.
فلما دخل، قبل الأرض، وبكى، وقال: أنت والله يا مولاي في عافية، ولا خوف عليك، اليوم تبل، وتستقل، ومعي دلالة على ذلك.
قلت: وما هي؟ ولم أكن حدثته من قبل بحديث المنام الذي رأته أمي، ولا سمعه أحد مني.
فقال: رأيت البارحة في منامي، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والناس يهرعون إليه، ويجتمعون عليه، ويفاوضونه أمورهم، ويسألونه حوائجهم، وكأني تقدمت إليه، وقلت له: يا أمير المؤمنين، أنا رجل في هذا البلد غريب، تركت نعمتي وتجارتي بالري، وتعلقت بخدمة هذا الأمير الذي أنا معه، وقد بلغ في علته، إلى حد آيس فيه من عافيته، وأخاف أن أهلك بهلاكه، فادع الله له بالسلامة، قال: تعني فناخسرو بن الحسن بن بويه؟ فقلت: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: امض إليه غداً، وقل له: أنسيت ما أخبرتك به أمك عني في المنام الذي رأته وهي حامل بك؟ ألم أخبرها مدة عمرك، وأنك ستعتل إذا بلغت كذا وكذا سنة، علة يأيس فيها منك اهلك، وطبك، ثم تبرأ منها؟ وفي غد يبتديء برؤك، ويتزايد إلى أن تركب، وتعود إلى عاداتك كلها، في كذا وكذا يوماً، ولا قاطع على أجلك إلى الوقت الذي أخبرتك به أمك عني.
قال الملك عضد الدولة: وقد كنت أنسيت أن أمي ذكرت ذلك في المنام، وأني إذا بلغت هذه السنة من عمري، اعتللت هذه العلة التي ذكرها، فذكرت ذلك عند قول أبي الحسين ما قاله.
فحين سمعت ما سمعت، حدثت لي في الحال قوة نفس لم تكن من قبل وقلت: أقعدوني.
فجاء الغلمان وأجلسوني.
فلما استقللت على الفراش، وقلت لأبي الحسين: اجلس، وأعد الحديث.

فجلس، وأعاد، وتولدت بي شهوة الطعام، واستدعيت الطب، فأشاروا بتناول غداء عمل، في الوقت، وأكلته، ولم يتصرم الوقت، حتى أحسست بالصلاح الكثير، وتدرجت العافية، فركبت، وعاودت عاداتي، في اليوم الذي قاله أبو الحسين.
وكان الملك يشرح هذا الشرح، وأبو الحسين حاضر، يقول: كذا والله قلت لمولانا، وأعيذه بالله، فما أحسن حفظه وذكره.
ثم قال لي: بقي في نفسي من هذا المنام شيء.
قلت: يبلغ الله مولانا آماله، ويزيل عنه كل ما يهوله، ويصرم عنه كل ما يخشاه.
ولم أتجاوز الدعاء، لعلمي بأن سؤاله عن ذلك، سوء أدب، فعلم ما في نفسي، وقال: وقوفه على أنني أملك حلب، ولو كان عنده أنني أتجاوزها، لقال، حتى أنه لما ورد الخبر بإقامة ابن شيخ الدعوة لي بها، ذكرت المنام فتنغص علي أمرها، إشفاقاً من أن تكون آخر حدود مملكتي في ذلك الصقع.
فدعوت له، وانقطع المجلس.

أبو العلاء الكاتب ووفاؤه للمهلبي
وروي أيضاً عن أبي علي التنوخي، والحكاية التي وردت في إرشاد الأريب، وقال أيضاً: وكان المهلبي، قد اصطنع أبا العلاء، عيسى بن الحسين بن أبرونا النصراني الكاتب، واستكتبه على خاصته، وأطلعه على أموال وذخائر دفنها.
فأخذ أبو العلاء في جملة المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب أبرح ضرب، وهو لا يقر بشيء، ولا يعترف بذخيرة.
فعدل أبو الفضل، وهو العباس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفرج وهو محمد بن العباس بن الحسين بن فسانجس إلى تجني وهي أم أبي الغنائم الفضل بن الوزير المهلبي، وأمرا بضرب ابنها أبي الغنائم بين يديها.
فبكى من عرفها من الذي يتم عليها، وقالت لهم: إن مولاي المهلبي فعل هذا بي، حين استدعى آلات العقوبة لزوجة أبي علي الطبري، لما قبض عليها بعد وفاته.
ثم قالت: أحضروني أبا العلاء بن أبرونا، فأحضروه، وحمل في سبنية بين أربع فراشين، فطرح بين يديها.
فجعلت تسأله عن شيء شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى كان في جملة ذلك ثلاثون ألف دينار.
فقال له من حضر: ويلك، ألست من الآدميين، تقتل هذا القتل، ويفضي حالك إلى التلف، وأنت لا تعترف.
فقال: يا سبحان الله، أكون ابن أبرونا الطبيب الفصاد على الطريق، بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير أبو محمد، ويصطنعني، ويجعلني كاتب سره، وأعرف بخدمته، وأطلع الناس على ذخيرة ذخرها لولده؟ والله ما كنت لأفعل هذا ولو هلكت.
فاستحسن فعله، وكان ذلك سبباً لإطلاقه، وتقدم بذلك عند أبي الفضل، وأبي الفرج، وابن بقية.
وتوفي سنة 369 في أيام عضد الدولة.
المعتضد والملاح القاتل
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: حدث أحد خدم المعتضد المختصين بخدمته، قال: كنا حول سرير المعتضد، ذات يوم نصف النهار، وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون عند سريره، أوقات منامه، من ليل أو نهار.
فانتبه منزعجاً، وقال: يا خدم، يا خدم.
فأسرعنا الجواب.
فقال: ويلكم، أعينوني، والحقوا الشط، فأول من ترونه منحدراً في سفينة فارغة، فاقبضوا عليه، وجيئوني به، ووكلوا بسفينته.
فأسرعنا، فوجدنا ملاحاً في سميرية، فأصعدناه، فحين رآه الملاح، كاد يتلف.
فصاح عليه صيحة واحدة عظيمة، كادت روحه تخرج معها، قال: أصدقني يا ملعون، عن قصتك مع المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم، وإلا ضربت عنقك.
قال: فتلعثم، وقال: نعم، كنت اليوم سحراً في المشرعة الفلانية فنزلت امرأة لم أر مثلها، عليها ثياب فاخرة، وحلي كثيرة، فطمعت فيها، واحتلت عليها، حتى سددت فاها، وغرقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجتريء على حمل سلبها إلى بيتي، لئلا يفشو الخبر، فعملت على الهرب، وانحدرت الساعة، لأمضي إلى واسط، فعوقني هؤلاء الخدم، وحملوني.
فقال: وأين الحلي والسلب؟ فقال: في صدر السفينة تحت البواري.
فقال المعتضد للخدم: جيئوني به، فمضوا، وأحضروه.
وقال: خذوا الملاح فغرقوه، ففعلوا.
ثم أمر أن ينادى في بغداد كلها، على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحراً، وعليها ثياب وحلي، يحضر من يعرفها، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه، فقد تلفت المرأة.
فحضر في اليوم الثاني، أو الثالث، أهل المرأة، فأعطوه صفة ما كان عليها، فسلم إليهم.
فقلنا: يا مولاي أوحي إليك؟

فقال: رأيت في منامي كأن شيخاً أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أحمد خذ أول ملاح ينحدر الساعة، فاقبض عليه، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم، وسلبها، وأقم عليه الحد.
فكان ما شهدتم.

المدائني يثني على إسحاق الموصلي
وأخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن سيف - إجازة - وحدثنا أحمد بن عبد الله الدوري الوراق، عنه، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني أحمد بن زهير بن حرب، قال: كان أبي، ويحيى بن معين، ومصعب الزبيري يجلسون بالعشيات على باب مصعب، قال: فمر عشية من العشيات، رجل على حمار فاره، وبزة حسنة، فسلم، وخص بمسألته يحيى بن معين.
فقال له يحيى: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم.
فقال: ومن هو يا أبا الحسن؟ فقال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
قال: فلما ولى، قال يحيى بن معين: ثقة، ثقة، ثقة.
قال: فسألت أبي، فقلت: من هذا الرجل؟ قال: المدائني.
لو رضيته لما بعته
أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عيسى بن علي الرماني، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا العكلي، قال: حدثني شيخ من أهل البصرة، قال: رأيت محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، يعرض حماراً.
فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لما بعته.
أبو سعيد القرمطي يبعث برسالة إلى المتعضد
أنبأنا محمد بن أبي ظاهر، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: سمعت العباس بن عمرو الغنوي يقول: لما أسرني أبو سعيد القرمطي، وأسر العسكر الذي كان بعثه معي المعتضد إلى قتاله، وحصلت في يده، يئست من الحياة.
فأنا يوماً على هذه الصورة، إذ جاءني رسوله، فأخذ قيودي، وغير ثيابي، وأدخلني إليه، فسلمت عليه، وجلست.
فقال: أتدري لم استدعيتك؟ قلت: لا.
قال: أنت رجل عربي، ومن المحال إذا استودعتك أمانة أن تخفرها.
قلت: هو كذلك.
فقال: إني فكرت، فإذا لا طائل في قتلك، وفي نفسي رسالة إلى المعتضد، لا يجوز أن يؤديها غيرك، فرأيت إطلاقك، وتحميلك إياها، وإن حلفت أنك إذا سيرتك إليه، تؤديها.
فحلفت له.
فقال: قل للمعتضد، يا هذا، لم تخرق هيبتك، وتقتل رجالك، وتطمع أعداءك في نفسك، وتبعث في طلبي الجيوش، وأنا رجل مقيم في فلاة، لا زرع فيها ولا ضرع، وقد رضيت لنفسي بخشونة العيش، والعز بأطراف هذه الرماح، وما اغتصبتك بلداً، ولا أزلت سلطانك عن عملك، ومع هذا، فوالله، لو أنفذت إلي جيشك كله، ما جاز أن يظفر بي، لأني رجل نشأت في العسف فاعتدته، أنا ورجالي، لا مشقة علينا فيه، وأنت تنفذ جيوشك من الخيوش والثلج والريحان، فيجيئون من المسافة البعيدة الشاقة، وقد قتلهم السفر قبل قتالنا، وإنما غرضهم أن يبلغوا غرضاً من موفقتنا ساعة، ثم يهربون، وإن هم هزموني، بعدت عشرين فرسخاً، أو ثلاثين، وجلت في الصحراء شهراً أو شهرين، ثم كبستهم على غرة، فقتلتهم، وإن كانوا محترسين، فما يمكنهم أن يطوفوا خلفي في الصحاري، ولا تحملهم الإقامة في أماكنهم، فأنت تنفق الأموال، وتكلف الرجال الأخطار، وأنا سليم من ذلك، وهيبتك تنخرق في الأطراف، كلما جرى عليك هذا، فإن اخترت بعد هذا محاربتي فاستخر الله، وإن أمسكت، فذاك إليك.
ثم سيرني، وأنفذ معي عدة إلى الكوفة، وسرت منها إلى الحضرة. ودخلت على المعتضد، فأخبرته بما قال، في خلوة، فرأيته يتمعط في جلده غيظاً، حتى ظننت أنه سيسير إليه بنفسه، وخرجت.
فما رأيته بعد ذلك ذكره.
الوزير عبيد الله بن خاقان يقلد
علي بن محمد قضاء القضاة
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق، مكثت بغداد بغير قاض، ثلاثة أشهر، وستة عشر يوماً، فاستقضي في يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، علي بن محمد بن عبد الملك، على قضاء المدينة، مضافاً إلى ما كان يتقلده من القضاء بسر من رأى وأعمالها.
قال: وقبل هذا كان أخوه الحسن على قضاء القضاة بسر من رأى في أيام المعتز والمهتدي.

فلما توفي الحسن، وجه المعتمد بعبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى علي بن محمد، فعزاه بأخيه، وهنأه بالقضاء، فامتنع من قبول ذلك.
فلم يبرح الوزير عبيد الله من عنده حتى قبل، وتقلد قضاء القضاة، ومكث يدعى بذلك، إلى أن توفي.
وهو رجل صالح، ضيق الستر، عظيم الخطر، ثقة، أمين، على طريق الشيوخ المتقدمين، حمل الناس عنه حديثاً كثيراً.

ابن أبي زيد يثني على علي بن عيسى الربعي
سمعت التنوخي يقول: كان أبو علي، يقول: سمعت ابن أبي زيد - وكان ابن أخت أبي علي الفارسي النحوي - يقول: قولوا لعلي البغدادي: لو سرت من الشرق إلى الغرب، لم تجد أنحى منك.
أبو خازم القاضي وشدته في الحكم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: قال لي ابن حبيب الذراع: كنا ونحن أحداث مع أبي خازم، وكنا نقعده قاضياً، ونتقدم إليه في الخصومات.
قال: فما مضت الأيام والليالي، حتى صار قاضياً.
قال أبو الحسين: وبلغ من شدته في الحكم، أن المعتضد، وجه إليه بطريف المخلدي، فقال له: إن لي على الضبعي - بيع كان للمعتضد ولغيره - مالاً، وقد بلغني أن غرماءه، أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم في ماله، فاجعلنا كأحدهم.
فقال له أبو خازم: قل له: أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ذاكر لما قال لي وقت ما قلدني، أنه قد أخرج الأمر من عنقه، وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة.
فرجع إليه طريف، فأخبره.
فقال: قل له فلان وفلان يشهدان، يعني رجلين جليلين كانا في ذلك الوقت.
فقال: يشهدان عندي، واسأل عنهما، فإن زكيا، قبلت شهادتهما، وإلا أمضيت ما ثبت عندي.
فامتنع أولئك من الشهادة، فزعاً.
ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً.
أبو خازم القاضي أدب شخصا
ً
فمات فوداه من بيت المال
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو الفرج طاهر بن محمد الصلحي، قال: حدثني القاضي أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، قال: بلغني أن أبا خازم القاضي جلس في الشرقية، وهو قاضيها، للحكم، فارتفع إليه خصمان، فاجترأ أحدهما بحضرته إلى ما يوجب التأديب، فأدب، فمات في الحال.
فكتب إلى المعتضد من المجلس: أعلم أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن خصمين، حضراني، فاجترأ أحدهما إلى ما وجب عليه معه الأدب عندي، فأمرت بتأديبه، فمات.
فإذ كان المراد بتأديبه، مصلحة المسلمين، فمات في الأدب، فديته واجبة في بيت مال المسلمين.
فإن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يأمر بحمل الدية، لأحملها إلى ورثته، فعل.
فعاد الجواب إليه: بأنا قد أمرنا بحمل الدية إليك، وحمل إليه عشرة آلاف درهم.
فأحضر ورثة المتوفى، ودفعها إليهم.
القاضي أبو الحسن بن أبي الشوارب
يتقلب بين التولية والعزل
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استخلف المستكفي بالله في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، واستقضى على مدينة المنصور والشرقية أبا الحسن محمد بن الحسن بن أبي الشوارب.
وذكر طلحة: أنه كان رجلاً واسع الأخلاق، كريماً، جواداً، طلابة للحديث، قال: ثم قبض عليه في صفر سنة أربع وثلاثين.
فلما كان في رجب في هذه السنة، قبض على المستكفي بالله واستخلف المطيع، فقلد أبا الحسن الشرقية والحرمين واليمن ومصر وسر من رأى وقطعة من أعمال السواد وبعض أعمال الشام وسقي الفرات وواسط.
ثم صرف عن جميع ذلك في رجب سنة خمس وثلاثين.
قاض متهم بالاسترشاء
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أنبأنا إبراهيم بن مخلد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن علي بن أبي علي، قال: عزل محمد بن الحسن بن أبي الشوارب عن جميع ما كان يتقلده من أمر القضاء، وأمر المستكفي بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الثلاثاء لخمس خلون من صفر سنة أربع وثلاثين، وكان قبيح الذكر فيما يتولاه من الأعمال، منسوباً إلى الاسترشاء في الأحكام، والعمل فيها بما لا يجوز، وقد شاع ذلك عنه، وكثر الحديث به.

الناشيء يشغف برقيبة
حدثنا علي بن أبي علي - لفظاً - قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثني الصولي، قال: حدثني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: اجتمع عندي أحمد بن أبي طاهر، والناشيء، ومحمد بن عروس، فدعوت لهم مغنية، فجاءت ومعها رقيبة لم ير الناس أحسن منها قط.
فلما شربوا، أخذ الناشيء رقعة، وكتب فيها:
فديتك لو أنهم أنصفو ... ك لردوا النواظر عن ناظريك
تردين أعيننا عن سوا ... ك وهل تنظر العين إلا إليك
وهم جعلوك رقيباً علي ... نا فمن ذا يكون رقيباً عليك
ألم يقرأوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي حسنك في وجنتيك
قال: فشغفنا بالأبيات.
فقال ابن أبي طاهر: أحسنت - والله - وأجملت، قد والله حسدتك على هذه الأبيات، والله، لا جلست.
وقام، وخرج.
المقتدر والقرية الفضية
أنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون، قال: حدثني أبي، قال: كان ابن عمي أبو القاسم يوسف بن يحيى بن علي، حسن الإقبال، محظوظاً.
وكانت له داية تسمى نظم، فخدمت السيدة أم المقتدر، واختصت بها، حتى صارت إحدى قهارمتها، التي تجري على يديها الصغير والكبير، فرفعت أبا القاسم، وانتهت به إلى أسنى الأرزاق، وأوسع الأحوال، وأخرجت له الصلات، حتى تأثلت حاله بذلك، وصار صاحب عشرات ألوف دنانير، وخلطته بخدمة السيدة.
فعزم أبو القاسم على تطهير ابنه، فأنفق في وليمته ما لم يسمع بمثله، حتى إنه أفرد عدة دور للحلواء، وعدة دور للفاكهة، وأنفق ألوف دنانير.
وبلغ نظماً خبره، فجاءته من عند السيدة بأموال عظيمة، معونة له على التطهير، وحملت له من عندها، من الفرش والآنية، والثياب، والمخروط بألوف.
فلما مضت أيام، قالت لها: يا نظم، أيش خبر طهر ابن يوسف؟ قالت: يا ستي، قد بقيت له أشياء يريدها.
فقالت: خذي ما تريدين، واحمليه إليه.
فجاءت نظم إليه، فقالت: إن كان شيء قد بقي في نفسك، فعرفني.
فقال لها: الطهر غداً، وما بقي في نفسي شيء إلا وقد بلغته بك، وقد بقي في نفسي شيء، لست أجسر على مسألته.
فقالت: قل ما في نفسك، فإن أمكن، وإلا ليس يضرك.
فقال: أشتهي، إعارة القرية الفضية، التي عملت لأمير المؤمنين، ليراها الناس في داري، ويشاهدون ما لم يشاهدوا مثله، فيعلمون حالي من الاختصاص والعناية.
فوجمت، وقالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، ومقداره عظيم، وفي هذه القرية، مئين ألف دراهم، ولا أحسب جاهي يبلغ إليها، وكيف يستعار من خليفة شيء، ومتى سمع بخليفة يعير، ولكن أنا أسأل السيدة في هذا، فإن كان مما يجوز، وإلا عرفتك، ومضت.
فلما كان الليل، جاءتني، وقالت: إن إقبالك قد بلغ إلى أن تحمد الله عليه.
فقلت: ما الخبر؟.
فقالت: كل ما تحب، قد جئتك بالقرية هبة لا عارية، وجئتك معها بصلة ابتدأك بها أمير المؤمنين من غير مسألة من أحد.
فقلت: ما الخبر؟ قالت: مضيت، وأنا منكسرة القلب، آيسة من أن يتم هذا، فدخلت على هيأتي تلك على السيدة.
فقالت: من أين؟.
قلت: من عند عبدك يوسف، وهو على أن يطهر ابنه غداً.
قالت: أراك منكسرة.
قلت: ببقائك، ما أنا منكسرة.
قالت: ففي وجهك حديث، فقلت: خير.
قالت: بحياتي، ما ذاك؟ قلت: قد شكر ما عومل به، ودعا، وقال: إني كنت أحب أن أتشرف بما لم يتشرف به أحد قبلي، ليعلم موضعي من الخدمة.
قالت: وما هو؟ قلت: يسأل أن يعار القرية ليتجمل بها، ويردها في غد.
فأمسكت، ثم قالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، كيف يحسن أن يرى في دار غيره؟ وهذا فضيحة، وليس يجوز أن أسأله هبتها له، لأني لا أدري هل ملها وشبع منها، أم لا، فإن كان قد ملها، فقيمتها أهون عليه، من أن يفكر في إعارتها، وإن كان لم يملها لم آمن أن أفجعه بها، وسأسبر ما عنده في هذا.
ثم دعت بجارية، فقالت: اعرفوا خبر الخليفة.
فقيل لها: هو عند فلانة.
فقالت: تعالي معي، وقامت، وأنا معها، وعدة جوار حتى دخلت.
وكانت عادته إذا رآها أن يقوم لها قائماً، ويعانقها، ويقبل رأسها، ويجلسها معه في دسته.

قالت: فحين رآها، قام، وأجلسها معه، وقال: يا ستي - وهكذا كان يخاطبها - ليس هذا من أوقات تفضلك وزيارتك.
فقالت: ليس من أوقاتي.
ثم حدثته ساعة، وقالت: يا نظم، متى عزم ابنك يوسف، على تطهير ابنه؟ قلت: غداً يا ستي.
فقال الخليفة: يا ستي إذا كان يحتاج إلى شيء آخر، أمرت به.
فقالت: هو مستكف، داع، ولكن قد التمس شيئاً، ما أستحسن خطابك فيه، قال: أريد أن أشرف على أهل المملكة كلهم، ويرى عندي ما لم ير في العالم مثله.
قال: وما هو؟ قالت: يا سيدي، يلتمس أن تعيره القرية، فإذا رآها الناس عنده، ارتجعت.
فقال: يا ستي، والله هذه ظريفة، يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعه، فأعيره، ثم أرتجعه؟ هذا من عمل العوام، لا الخلفاء، ولكن إذا كان محله من رأيك هذا، حتى حملت نفسك على خطابي فيه، وتجشمت زيارتي، وأنا أعلم أنه ليس من أوقات زيارتك، فقد وهبت له القرية، فمري بحملها، بجميع آلاتها إليه، وقد رأيت أن أشرفه بشيء آخر.
قالت: وما هو؟ قال: يحمل إليه من غداً جميع وظائفنا، ولا يطبخ لنا شيء البتة، بل يوفر عليه، ويؤخذ لنا سمك طري فقط.
فأمرت بنقل القرية، وقالت: قولي ليوسف، ما تصنع بالوظيفة؟.
فقال: والله ما أحتاج إلى ملح إلا وقد حصلته، فإن حملت إلي، لم أنتفع بها، فخذي لي ثمنها من الوكلاء، فأخذت، وكان مبلغ ذلك ألف وخمسمائة دينار، وهي وظيفة كل يوم.
وقالت: اقتصر الخليفة لأجلك اليوم على السمك، فاشتري له سمك بثلثمائة دينار.
وكانت القرية، على صفة قرية، فيها مثال البقر والغنم والجمال والجواميس والأشجار والنبات والمساحي والناس، وكل ما يكون في القرى.

ما هو حد السكر
؟
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي القاضي، قال: حدثنا أبو الحسن الداودي، قال: لما جلس محمد بن داود بن علي الأصبهاني، في حلقة أبيه بعد وفاته، بفتي، استصغروه عن ذلك، فدسوا إليه رجلاً، وقالوا: سله عن حد السكر ما هو؟ فأتاه الرجل، فسأله عن حد السكر ما هو؟ ومتى يكون الإنسان سكراناً؟ فقال محمد: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم.
فاستحسن ذلك منه، وعلم موضعه من العلم.
القاضي ابن أبي الشوارب
يصاب بالفالج فيخلفه ابنه
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لم يزل عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، والياً على القضاء بالجانب الشرقي من بغداد، وعلى الكرخ أيضاً، من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، إلى ليلة السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فإن الفالج ضربه فيها، فأسكت، فاستخلف له ابنه محمد على عمله كله في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، وكان سرياً جميلاً، واسع الأخلاق، ولم تكن له خشونة، فاضطربت الأمور بنظره، ولبست عليه في أكثر أحواله، وكانت أمور السلطان كلها قد اضطربت، ولم يزل على خلافة أبيه إلى سنة إحدى وثلثمائة، وتوفي.
ابن الراوندي
قال القاضي أبو علي التنوخي: كان أبو الحسين بن الراوندي، يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك، قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم، ثم إنه كاشف، وناظر.
ويقال: إن أباه كان يهودياً، فأسلم.
وكان بعض اليهود يقول لبعض المسلمين: لا يفسدن عليكم هذا كتابكم. كما أفسد أبوه التوراة علينا.
ويقال: إن أبا الحسين، قال لليهود: قولوا إن موسى قال: لا نبي بعدي.
القاضي أبو خليفة واللص
قرأت في كتاب هراة، للفامي قال: روي عن محمد بن إبراهيم بن عبد ربه بن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي، أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة، فدخل عليه اللص داره، فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار، فقال: أيها اللص، ما لك، وما لنا، إن أردت المال فعليك بفلان، وفلان، إنما عندنا قمطران، قمطر فيه أحاديث، وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث، حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي وأبي عمر الجوصي، وابن كثير وهو محمد، وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام.
فصاح به ابنه: إنما كان كلباً.
فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً، ورد عنا حرباً.

وذكر التنوخي هذه الحكاية، وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي، ليس إلا الخير، إنما هو سنور.
فقال أبو خليفة، الحمد لله الذي مسخه هراً، وكفانا شراً.

كلبة ترضع طفلا
ً
ذكر أبو عبد الله، عن أبي عبيدة النحوي، وأبي اليقظان سحيم بن حفص، وأبي الحسن علي بن محمد المدائني، عن محمد بن حفص بن سلمة بن محارب. وقد حدثنا بهذا الحديث، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، بإسناد ذكره، وهو حديث مشهور: إن الطاعون الجارف، أتى على أهل دار، فلم يشك أحد من أهل المحلة، أنه لم يبق فيها صغير ولا كبير، وكان قد بقي في الدار صبي رضيع صغير، يحبو ولا يقوم، فعمد من بقي من أهل تلك المحلة، إلى باب الدار فسدوه.
فلما كان بعد ذلك بأشهر، تحول إليها بعض ورثة القوم، فلما فتح الباب، وأفضي إلى عرصة الدار، إذا هو بصبي يلعب مع جرو كلبة كانت لأصحاب الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها، فأمكنته من لبنها.
فعلموا أن الصبي بقي في الدار، وصار منسياً، واشتد جوعه، ورأى جرو الكلبة يرضع، فعطف عليها، فلما سقته مرة، أدامت له، وأدام لها الطلب.
قاض ولايته ثلاثة أيام
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: صرف المقتدر بالله أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة، عن القضاء بمدينة المنصور، واستقضى في هذا اليوم، أبا الحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك بن أشرس بن عبد الله بن منجاب الشيباني، المعروف بابن الأشناني، وخلع عليه.
ثم جلس يوم السبت، لثمان بقين من هذا الشهر للحكم، وصرف من غد في يوم الأحد لسبع بقين منه، فكانت ولايته ثلاثة أيام.
وهذا رجل من جلة الناس، ومن أصحاب الحديث المجودين، وأحد الحفاظ له، وحسن المذاكرة بالأخبار، وكان قبل هذا يتولى القضاء بنواحي الشام، ويستخلف الكفاة، ولم يخرج عن الحضرة، وتقلد الحسبة ببغداد.
وقد حدث حديثاً كثيراً، وحمل الناس عنه قديماً وحديثاً.
استخلف على القضاء وله عشرون سنة
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضى المقتدر بالله، في يوم النصف من رمضان سنة عشر وثلثمائة، أبا الحسين عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وكان قبل هذا يخلف أباه على القضاء بالجانب الشرقي، والشرقية، وسائر ما كان إلى قاضي القضاة أبي عمر، وذلك أنه استخلفه وله عشرون سنة.
ثم استقضى بعد استخلاف أبيه له، على أعمال كثيرة.
ثم قلد مدينة السلام في حياة أبيه.
من مكارم أخلاق حامد بن العباس
عامل واسط
قال المحسن، وحدثني أبو عبد الله الصيرفي، قال: حدثني أبو عبد الله القنوتي قال: ركب حامد، وهو عامل واسط، إلى بستان له، فرأى بطريقه داراً محترقة، وشيخاً يبكي ويولول، وحوله صبيان ونساء على مثل حاله.
فسأل عنه، فقيل: هذا رجل تاجر، احترقت داره وافتقر.
فوجم ساعة، ثم قال: أين فلان الوكيل؟ فجاء.
فقال: أريد أن أندبك لأمر، إن عملته كما أريد، فعلت بك وصنعت - وذكر جميلاً - وإن تجاوزت فيه رسمي، فعلت بك وصنعت - وذكر قبيحاً - .
فقال: مر بأمرك.
فقال: ترى هذا الشيخ، وقد آلمني قلبي له، وقد تنغصت علي نزهتي بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه إلى بستاني، إلا بعد أن تضمن لي أنني إذا عدت العشية من النزهة، وجدت الشيخ في داره وهي كما كانت، مبنية، مجصصة، نظيفة، وفيها صنوف المتاع، والفرش، والصفر، كما كانت، وتبتاع له ولعياله، كسوة الشتاء، والصيف، مثل ما كان لهم.
فقال الوكيل: تتقدم إلى الخازن، بأن يطلق ما أريده، وإلى صاحب المعونة، أن يقف معي، وأن يحضر من أطلبه من الصناع.
فتقدم حامد بذلك.
وكان الزمان صيفاً، فتقدم بإحضار أصناف الروز جارية، فكانوا ينقضون بيتاً ويقيمون فيه من يبنيه.
وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، حتى المكنسة والمقدحة.
وصليت العصر، وقد سقفت الدار، وجصصت، وعلقت الأبواب، ولم يبق غير الطوابيق.
فأنفذ الوكيل إلى حامد، وسأله التوقف في البستان، وأن لا يركب منه إلا أن يصلي العشاء.

فبيضت الدار، وكنست، وفرشت، ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت إليهم الصناديق والخزائن، مملوءة بالأمتعة.
فاجتاز حامد والناس قد اجتمعوا كأنه يوم عيد، يضجون بالدعاء له.
فتقدم حامد إلى الجهبذ بخمسة آلاف درهم، يدفعها إلى الشيخ، يزيدها في بضاعته.
وسار حامد إلى داره.

حديث العلوية الزمنة
سجل القاضي التنوخي، في النشوار، قصة العلوية الزمنة، وكيف شفيت من دائها، وقال إنها كانت عاتقاً.
ولما نقل القصة إلى كتابه الفرج بعد الشدة، ذكر أن العلوية الزمنة تزوجت، وأن آخر معرفته بخبرها في السنة 373.
ثم وجدت في مخطوطة المكتبة الظاهرية، وكذلك في مخطوطة مكتبة جون رايلند، من كتاب الفرج بعد الشدة، أن القاضي التنوخي، أضاف إلى قصة العلوية الزمنة، إضافة أخرى، تدل على أنه أبصرها في السنة 377، واستنطقها، ودون أجوبتها، وهذه هي الإضافة: قال مؤلف الكتاب: وحدثني بعد هذا جماعة أسكن إليهم من أهل شارع دار الرقيق، بخبر هذه العلوية، على قريب من هذا، وهي باقية إلى حين معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ثم كنت في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، عند أبي الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، فرأيت في داره، بدرب سليمان، في شارع دار الرقيق، وأنا عنده، امرأة عجوزاً، قد دخلت، فأعظمها.
فقلت: من هذه؟ فقال: العلوية الزمنة، صاحبة المنام.
وكانت تمشي بخفها وإزارها.
فسألتها أن تجلس، ففعلت، واستخبرتها، فحدثتني، قالت: اعتللت من برسام، وأنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثم انجلى عني، وقد لحق حقوي شيء أزمنني، فكنت مطروحة على الفراش، سبعاً وعشرين سنة، لا أقدر أقعد، ولا أن أقوم أصلاً، وأنجو في موضعي، وأغسل، وكنت مع ذلك لا أجد ألماً.
ثم بعد سنين كثيرة من علتي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي، وأنا أقول له: يا جدي، ادع الله عز وجل، أن يفرج عني.
فقال: ليس هذا وقتك.
ثم رأيت أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقلت له: أما ترى ما أنا فيه؟ فسل رسول الله أن يدعو لي، أو ادع لي أنت، فكأنه قد دافعني.
ثم توالت علي بعد ذلك، رؤيتي لهما في النوم، فجرى بيني وبينهما، قريب من ذلك.
ورأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكأني أسأل كل واحد منهما الدعاء بالعافية، فلا يفعل.
فلما مضت سبع وعشرون سنة، لحقني ألم شديد، أياماً في حقوي، فقاسيت منه شدة شديدة، فأقبلت أبكي، وأدعو الله بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفته، لأني كنت أراه طول تلك السنين على صورة واحدة، وكأني أقول له: يا جدي، متى يفرج الله عني؟ فكأنه أدخل يده في طرف كمي، وجس بدني، من أوله إلى آخره، حتى بلغ حقوي، فوضع يده عليه، وتكلم بكلام لا أفهمه، ثم ردني على قفاي، كما كنت نائمة، وقال: قد فرج الله عنك، فقومي.
فقلت: كيف أقوم؟ فقال: هاتي يدك.
فأعطيته يدي، فأقعدني، ثم قال: قومي على اسم الله، فقمت، ثم خطا بي خطوات يسيرة، وقال: قد عوفيت.
فانتبهت، وأنا مستلقية على ظهري، كما كنت نائمة، إلا أنني فرحانة، فرمت القعود، فقعدت لنفسي وحدي، ودليت رجلي من السرير، فتدلتا، فرمت القيام عليهما، فقمت، ومشيت.
فقلت للمرأة التي تخدمني: لست آمن، أن يشيع خبري، فيتكاثر الناس علي، فيؤذوني، وأنا ضعيفة من الألم الذي لحقني، إلا أني كنت لما انتبهت، لم أحس بشيء من الألم، ولم أجد غير ضعف يسير، فقلت: اكتمي أمري يومين، إلى أن صلحت قوتي فيهما.
وزادت قدرتي على المشي والحركة، وفشا خبري، وكثر الناس علي، فلا أعرف إلى الآن إلا بالعلوية الزمنة.
فسألتها عن نسبها، فقالت: أنا فاطمة بنت علي بن الحسن بن القاسم بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ولم تذكر لي غير هذا، ولا سألتها عنه.
مائدة الوزير حامد بن العباس
ينفق عليها كل يوم مائتي دينار
حكى أبو علي التنوخي، عن بعض الكتاب، قال: حضرت مائدة حامد، وعليها عشرون نفساً، وكنت أسمع أنه ينفق عليها كل يوم مائتي دينار، فاستقللت ما رأيت.
ثم خرجت، فرأيت في الدار، نيفاً وثلاثين مائدة منصوبة، على كل مائدة ثلاثون نفساً، وكل مائدة كالمائدة التي بين يديه، حتى البوارد والحلوى.

وكان لا يستدعي أحداً إلى طعامه، بل يقدم الطعام إلى كل قوم في أماكنهم.

مبلغ ما صودر عليه الوزير
أبو الحسن بن الفرات أنبأنا محمد بن أبي طاهر، عن أبي القاسم التنوخي، عن أبيه، قال: خبرني بعض الكتاب، قال: كان ابن الفرات قد صودر على ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار، فأدى جميعها في مدة ستة عشر شهراً، من وقت أن قبض عليه.
أبو بكر بن السراج يتمثل
بأبيات من الشعر حسنة أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، عن علي بن عيسى بن علي النحوي، قال: كان أبو بكر بن السراج يقرأ عليه كتاب الأصول الذي صنفه، فمر فيه باب، فاستحسنه بعض الحاضرين، فقال: هذا والله أحسن من كتاب المقتضب.
فأنكر عليه أبو بكر ذلك، وقال: لا تقل هذا، وتمثل بيت، وكان كثيراً ما يتمثل في ما يجري له من الأمور بأبيات حسنة، فأنشد حينئذ:
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها وقلت الفضل للمتقدم
قال: وحضر في يوم من الأيام بني له صغير، فأظهر من الميل إليه والمحبة له، فأكثر.
فقال له بعض الحاضرين: أتحبه؟ فقال متمثلاً:
أحبه حب الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله
تفسير الآية " ومن دخله كان آمناً "
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال حدثنا أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش القاضي، قال: أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها، وسلب البيت، وقلع الحجر الأسود، والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة.
قال: فرأيت رجلاً قد صعد البيت ليقلع الميزاب، فلما صار عليه سقط، فاندقت عنقه.
فقال القرمطي: لا يصعد إليه أحد، ودعوه، فترك الميزاب، ولم يقلع.
ثم سكنت النائرة، بعد يوم أو يومين.
قال: فكنت أطوف بالبيت، فإذا بقرمطي سكران، وقد دخل المسجد بفرسه، فصفر له، حتى بال في الطواف، وجرد سيفه ليضرب به من لحق، وكنت قريباً منه، فعدوت، فلحق رجلاً كان إلى جنبي، فضربه، فقتله.
ثم وقف، وصاح: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت، " من دخله كان آمناً " ، فكيف يكون آمناً، وقد قتلته الساعة بحضرتكم؟ قال: فخشيت من الرد عليه أن يقتلني، ثم طلبت الشهادة، فجئت حتى لصقت به، وقبضت على لجامه وجعلت ظهري مع ركبته، لئلا يتمكن من ضربي بالسيف، ثم قلت: اسمع.
قال: قل.
قلت: إن الله عز وجل لم يرد: أن من دخله كان آمناً، وإنما أراد: من دخله فأمنوه، وتوقعت أن يقتلني.
فلوى رأس فرسه، وخرج من المسجد، وما كلمني.
قرمطي يتحدث عن اعتقادات القرامطة
قال المحسن، وحدثني أبو أحمد الحارثي، قال: أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة، سنة الهبير، واستعبدته سنين، ثم هرب منا لما أمكنه، قال: كان يملكني رجل منهم، يسومني سوء العذاب، ويستخدمني أعظم خدمة، ويعربد علي إذا سكر، فسكر ليلة، وأقامني حياله، وقال: ما تقول في محمد هذا صاحبكم؟ فقلت: لا أدري، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن، أقوله.
فقال: كان رجلاً سائساً، فما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري.
قال: كان رجلاً ضعيفاً مهيناً، فما تقول في عمر؟.
قلت: لا أدري.
قال: كان والله فظاً غليظاً، فما تقول في عثمان؟ قلت: ما أدري.
قال: كان جاهلاً أحمق، فما تقول في علي؟ قلت: لا أدري.
قال: كان منحرفاً، أليس يقول: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته من يودع كل واحد منهم كلمة يفرغ ما عنده، هل هذه إلا مخرقة؟ ونام.
فلما كان من الغد، دعاني، وقال: ما قلت لك البارحة؟ فأريته أني لم أفهمه، فحذرني من إعادته، والإخبار عنه بذلك.
فإذا القوم زنادقة، لا يؤمنون بالله، ولا يفكرون في أحد من الصحابة.
قال المحسن: ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي، دخل الكوفة دفعات، فما دخل إلى قبر علي عليه السلام، واجتاز بالحائر فما زار الحسين.
وقد كانوا يمخرقون بالمهدي، ويوهمون أنه صاحب المغرب، ويراسلون إسماعيل بن محمد، صاحب المهدية المقيم بالقيروان.

ومضت منهم سرية مع الحسن بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلثمائة، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة، فقتلوا خلقاً، ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا، واستباحوا.
وأقاموا الدعوة للمطيع لله، في كل فتح فتحوه، وسودوا أعلامهم، ورجعوا عما كانوا عليه من المخرقة ضرورة.
وقالوا: لو فطنا لما فطن له ابن بويه الديلمي لاستقامت أمورنا، وذلك أنه ترك المذاهب جانباً، وطلب الغلبة والملك، فأطاعه الناس.
وكان من مخاريقهم، قبة ينفرد فيها أميرهم، وطائفة معه، فلم يقاتلوا، فإذا كل المقاتلون، حمل هو بنفسه، وتلك الطائفة، على قوم قد كلوا من القتال.
وكانوا يقولون: إن النصر ينزل من هذه القبة، وقد جعلوا فيها مدخنة وفحماً، فإذا أرادوا أن يحملوا، صعد أحدهم إلى القبة، وقدح، وجعل النار في المجمرة، وأخرج حب الكحل فطرحه على النار، فتفرقع فرقعة شديدة، ولا يكون له دخان، وحملوا، ولا يثبت لهم شيء، ولا يوقد ذلك، إلا أن يقول صاحب العسكر، قد نزل النصر.
فكسر تلك القبة، أصحاب جوهر الذي ملك مصر.
ابن العلاف الشاعر يجيز بيتاً نظمه المعتضد
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي بكر الشاعر، قال: حدثني أبي، قال: كنت ذات ليلة في دار المعتضد وقد أطلنا الجلوس بحضرته، ثم نهضنا إلى مجلسنا، في حجرة كانت مرسومة بالندماء.
فلما أخذنا مضاجعنا، وهدأت العيون، أحسسنا بفتح الأبواب، والأقفال بسرعة، فارتاعت الجماعة لذلك، وجلسنا في فرشنا.
فدخل إلينا خادم من خدم المعتضد، فقال: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة بعد انصرافكم فعملت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد
وقد أرتج علي تمامه، فأجيزوه، ومن أجازه بما يوافق غرضي، أجزلت جائزته.
وفي الجماعة كل شاعر مجيد، مذكور، وأديب فاضل مشهور، فأفحمت الجماعة، وأطالوا الفكر.
فقلت مبتدراً:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود
فرجع الخادم إليه بالجواب، ثم عاد إلي، فقال: أمير المؤمنين، يقول لك، أحسنت، وما قصرت، وقد وقع بيتك الموقع الذي أريده، وقد أمر لك بجائزة، وها هي.
فأخذتها، وازداد غيظ الجماعة مني.

القاضي أبو عمر وعنايته في إصدار الأحكام
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عبيد الدقاق، قال: قال لي أبو إسحاق بن جابر الفقيه: لما ولي أبو عمر طمعنا في أن نتبعه بالخطإ، لما كنا نعلم من قلة فقهه، فكنا نستفتى، فنقول: امضوا إلى القاضي، ونراعي ما يحكم به، فيدافع عن الأحكام، مدافعة، أحسن من فصل الحكم، ثم تجيئنا الفتاوى في تلك القصص، فنخاف أن نحرج، إن لم نفت، فتعود الفتاوى إليه، فيحكم بما يفتي به الفقهاء.
فما عثرنا عليه بخطإ.
جزاء الخيانة
وأنبئت عن المؤيد قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن هبة الله الخازن، قال: حدثنا الحسين بن علي الكوفي، قال: حدثنا المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي، قال: حدثنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي.
وأنبئت، عن المؤيد، وعبد الوهاب الأمين، وغيرهما، عن محمد بن عبد الباقي، عن علي بن المحسن، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرني أحمد بن يوسف الأزرق التنوخي، مناولة، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن الفتح الكاتب، المعروف بالمطوق، مناولة، من كتابه " كتاب مناقب الوزراء، ومحاسن أخبارهم " وفيه ذكر كثير من الحوادث، فقال فيه: وفي رجب سنة خمس عشرة وثلثمائة، أن رجلاً أمسى، في بعض محال الجانب الغربي من مدينة السلام، ومعه دراهم لها قدر، فخاف على نفسه من الطائف، ومن بلية تقع عليه، فصار إلى رجل من أهل الموضع، أراد أن يبيت عنده، فأدخله.
فلما تيقن أن معه مالاً، حدثته نفسه بقتله، وأخذ ماله.
وكان له ابن شاب، فنومه مع الرجل في بيت واحد، ولم يعلم أحداً بما نفسه، وخرج، وقد عرف مكانهما، وطفى المصباح.
فقدر الأمر، أن الابن انتقل من موضعه إلى موضع آخر، وانتقل الضيف إلى موضع الابن، وجاء أبوه، ليطلب الضيف، فصادف ابنه، وهو لا يشك، أنه الضيف، فخنقه.

وانتبه الضيف باضطرابه، وعرف ما أريد به، فخرج هارباً من الدار، وصاح في الطريق.
ووقف الجيران على خبره، فأغاثوه، وأخذوا الرجل، فقرر، فأقر بقتل ابنه، فحبس، وأخذ المال من داره، فرد على الضيف، وسلم.

تاجر بغدادي آلى على نفسه
أن يغسل يده أربعين مرة إذا أكل ديكبريكة
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم، الفقيه المعروف بابن النرسي، قال: كنت جالساً بحضرة أبي، وأنا حدث، وعنده جماعة، فحدثني حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الطريفة، وكان ممن حضر، صديق لأبي، فسمعته يحدث أبي، قال: حضرت عند صديق لي من التجار، كان يحزر بمائة ألف دينار، في دعوة، وكان حسن المروءة.
فقدم مائدته، وعليها ديكبريكة، فلم يأكل منها، فامتنعنا.
فقال: كلوا، فإني أتأذى بأكل هذا اللون.
فقلنا: نساعدك على تركه.
فقال: بل أساعدكم على الأكل، وأحتمل الأذى، فأكل، فلما أراد غسل يديه أطال، فعددت عليه، أنه قد غسلها أربعين مرة.
فقلت: يا هذا، وسوست؟ فقال: هذه الأذية التي فرقت منها.
فقلت: وما سببها؟ فامتنع من ذكر السبب.
فألححت عليه، فقال: مات أبي، وسني عشرون سنة، وخلف لي نعمة صغيرة، ورأس مال، ومتاعاً في دكانه، وكان خلقانياً في الكرخ.
فقال لي لما حضرته الوفاة: يا بني، إنه لا وارث لي غيرك، ولا دين علي، ولا مظلمة، فإذا أنا مت، فأحسن جهازي، وصدق عني بكذا وكذا، وأخرج عني حجة بكذا وكذا، وبارك الله لك في الباقي، ولكن احفظ وصيتي.
فقلت: قل.
فقال: لا تسرف في مالك، فتحتاج إلى ما في أيدي الناس ولا تجده، واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل، فالزم السوق، وكن أول من يدخلها، وآخر من يخرج منها، وإن استطعت أن تدخلها سحراً بليل، فافعل، فإنك تستفيد بذلك فوائد، تكشفها لك الأيام.
ومات، وأنفذت وصيته، وعملت بما أشار به، وكنت أدخل السوق سحراً، وأخرج منها عشاء، فلا أعدم أن يجيئني من يطلب كفناً، فلا يجد أحداً قد فتح غيري، فأحكم عليه، ومن يبيع شيئاً، والسوق لم تقم، فأبيعه له، وأشياء من الفوائد.
ومضى على لزومي السوق سنة وكسر، فصار لي بذلك جاه عند أهلها، وعرفوا استقامتي، فأكرموني.
فبينا أنا جالس يوماً، ولم يتكامل السوق، إذا بامرأة راكبة حماراً مصرياً، وعلى كفله منديل دبيقي، وخادم، وهي بزي القهرمانة.
فبلغت آخر السوق ثم رجعت، فنزلت عندي، فقمت إليها، وأكرمتها وقلت: ما تأمرين؟ وتأملتها فإذا امرأة لم أر قبلها، ولا بعدها، إلى الآن، أحسن منها، في كل شيء.
فقالت: أريد كذا ثياباً، طلبتها. فسمعت نغمة، ورأيت شكلاً قتلني، وعشقتها في الحال، أشد العشق.
فقلت: اصبري حتى يخرج الناس، فآخذ لك ذلك، فليس عندي إلا القليل مما يصلح لك.
فأخرجت الذي عندي، وجلست تحادثني، والسكاكين في فؤادي من عشقها. وكشفت عن أنامل، رأيتها كالطلع، ووجه كدارة القمر.
فقمت لئلا يزيد علي الأمر، فأخذت لها من السوق ما أرادت، وكان ثمنه مع ما لي نحو خمسمائة دينار، فأخذته، وركبت، ولم تعطني شيئاً.
وذهب عني، لما تداخلني من حبها، أن أمنعها من أخذ المتاع إلا بأداء المال، أو أن أستدل على منزلها، ومن دار من هي؟.
فحين غابت عني، وقع لي أنها محتالة، وأن ذلك سبب فقري، فتحيرت في أمري، وقامت قيامتي، وكتمت خبري لئلا افتضح بما للناس علي.
وعملت على بيع ما في يدي من المتاع، وإضافته إلى ما عندي من الدراهم، ودفع أموال الناس إليهم، ولزوم البيت، والاقتصار على غلة العقار الذي ورثته عن أبي، وظننت نفسي على المحنة، وأخذت أشرع في ذلك مدة أسبوع.
وإذا هي قد نزلت عندي، فحين رأيتها، أنسيت جميع ما جرى علي، وقمت إليها.
فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك، لشغل عرض لنا، وما شككنا في أنك لم تشك أننا احتلنا عليك.
فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا.
فقالت: هات التخت والطيار، فأحضرته.
فأخرجت دنانير عتقاً، فوفتني المال بأسره. وأخرجت تذكرة بأشياء أخر.
فأنفذت إلى التجار أموالهم، وطلبت منهم ما أرادت، وحصلت أنا في الوسط ربحاً جيداً.
وأحضر التجار الثياب، فقمت وثمنتها معهم لنفسي، ثم بعتها عليها بربح عظيم.

وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر تالف من حبها، وهي تنظر إلي، نظر من قد فطن لذلك، ولم تنكره، فهممت بخطابها، ولم أقدم.
فاجتمع المتاع، وكان ثمنه ألف دينار، فأخذته، وركبت، ولم أسألها عن موضعها.
فلما غابت عني، قلت: هذا الآن، هو الحيلة المحكمة، أعطتني خمسة آلاف درهم، وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقاري الآن، والحصول على الفقر المدقع، ثم سمحت نفسي برؤيتها مع الفقر.
وتطاولت غيبتها نحو شهر، وألح علي التجار في المطالبة، فعرضت عقاري على البيع، ولازمني بعض التجار، فوزنت جميع ما أملكه، ورقاً وعيناً.
فأنا كذلك، إذ نزلت عندي، فزال عني جميع ما كنت فيه برؤيتها، فاستدعت الطيار والتخت، فوزنت المال، ورمت إلي تذكرة يزيد ما فيها على ألفي دينار بكثير.
فتشاغلت بإحضار التجار، ودفع أموالهم، وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا، فقالت: يا فتى، لك زوجة؟ فقلت: لا، والله، ما عرفت امرأة قط.
وأطمعني ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها والإمساك عنها عجز، ولعلها لا تعود.
وأردت كلامها فهبتها، وقمت كأني أحث التجار على جمع المتاع، وأخذت يد الخادم، وأخرجت له دنانير، وسألته أن يأخذها، ويقضي لي حاجة.
فقال: أفعل، وأبلغ محبتك، ولا آخذ شيئاً.
فقصصت عليه قصتي، وسألته توسط الأمر بيني وبينها.
فضحك، وقال: إنها لك أعشق منك لها، ووالله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذي تشتريه، وإنما تجيئك محبة لك، وتطريقاً إلى مطاولتك، فخاطبها بظرف، ودعني، فإني أفرغ لك من الأمر.
فجسرني بذلك عليها، فخاطبتها، وكشفت لها عشقي، ومحبتي، وبكيت.
فضحكت، وتقبلت ذلك أحسن تقبل، وقالت: الخادم يجيئك برسالتي.
ونهضت، ولم تأخذ شيئاً من المتاع، فرددته على الناس، وقد حصل لي مما اشترته أولاً وثانياً، ألوف دراهم ربحاً.
ولم يحملني النوم تلك الليلة، شوقاً إليها، وخوفاً من انقطاع السبب.
فلما كان بعد أيام جاءني الخادم، فأكرمته، وسألته عن خبرها.
فقال: هي والله عليلة من شوقها إليك.
فقلت: اشرح لي أمرها.
فقال: هي مملوكة السيدة أم المقتدر، وهي من أخص جواريها بها، واشتهت رؤية الناس، والدخول، والخروج، فتوصلت حتى جعلتها قهرمانة، وقد والله حدثت السيدة بحديثك، وبكت بين يديها، وسألتها أن تزوجها منك.
فقالت السيدة: لا أفعل، أو أرى هذا الرجل، فإن كان يستأهلك، وإلا لم أدعك ورأيك.
ويحتاج إلى إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت، وصلت بها إلى تزويجها، وإن انكشفت ضرب عنقك.
وقد أنفذتني إليك في هذه الرسالة، وهي تقول لك: إن صبرت على هذا، وإلا فلا طريق لك والله إلي، ولا لي بعدها.
فحملني ما في نفسي أن قلت: أصبر.
فقال: إذا كان الليل، فاعبر إلى المخرم، فادخل إلى المسجد، وبت فيه، ففعلت.
فلما كان السحر، إذا أنا بطيار قد قدم، وخدم قد رقوا صناديق فرغ، فحطوها في المسجد، وانصرفوا.
وخرجت الجارية، فصعدت إلى المسجد، ومعها الخادم الذي أعرفه، فجلست، وفرقت باقي الخدم في حوائج.
واستدعتني، فقبلتني، وعانقتني طويلاً، ولم أكن نلت قبل ذلك منها قبلة.
ثم أجلستني في بعض الصناديق، وأقفلته.
وطلعت الشمس، وجاء الخدم بثياب وحوائج، من المواضع التي كانت أنفذتهم إليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقي الصناديق، ونقلتها وحملتها إلى الطيار، وانحدروا.
فلما حصلت فيه، ندمت، وقلت: قتلت نفسي لشهوة، وأقبلت ألومها تارة، وأشجعها أخرى، وأنذر النذور على خلاصي، وأوطن نفسي مرة على القتل.
إلى أن بلغنا الدار، وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوقي، الخادم الذي يعرف الحديث، وبادرت بصندوقي أمام الصناديق وهي معه، والخدم يحملون الباقي، ويلحقونها.
فكل ما جازت بطبقة من الخدم والبوابين قالوا: نريد نفتش الصندوق، فتصيح عليهم، وتقول: متى جرى الرسم معي بهذا؟ فيمسكون، وروحي في السياق.
إلى أن انتهت إلى خادم خاطبته هي بالأستاذ، فعلمت أنه أجل الخدم.
فقال: لا بد من تفتيش الصندوق الذي معك، فخاطبته بلين وذل فلم يجبها، وعلمت أنها ما ذلت له ولها حيلة، وأغمي علي.
وأنزل الصندوق للفتح، فذهب علي أمري وبلت فزعاً. فجرى البول في خلل الصندوق.

فصاحت: يا أستاذ أهلكت علينا متاعاً بخمسة آلاف دينار في الصندوق، وثياباً مصبغات، وماء ورد قد انقلب على الثياب، والساعة تختلط ألوانها، وهو هلاكي مع السيدة.
فقال لها: خذي صندوقك إلى لعنة الله، أنت وهو، ومري.
فصاحت بالخدم: احملوه، وأدخلت الدار، فرجعت إلي روحي.
فبينا نحن نمشي إذ قالت: ويلاه، الخليفة، والله.
فجاءني أعظم من الأول، وسمعت كلام خدم وجواري، وهو يقول من بينهم: ويلك يا فلانة أيش في صندوقك؟ أريني هو؟ فقالت: ثياب لستي يا مولاي، والساعة أفتحه بين يديها، وتراه.
وقالت للخدم: أسرعوا ويلكم، فأسرعوا.
وأدخلتني إلى حجرة، وفتحت عني، وقالت: اصعد تلك الدرجة، إلى الغرف، واجلس فيها، وفتحت بالعجلة، صندوقاً آخر، فنقلت بعض ما كان فيه إلى الصندوق الذي كنت فيه، وقفلت الجميع.
وجاء المقتدر وقال لها: افتحي، ففتحته، فلم يرض منه شيئاً، وخرج.
فصعدت إلي، وجعلت ترشفني، وتقبلني، فعشت، ونسيت ما جرى.
وتركتني، وقفلت باب الحجرة يومها، ثم جاءتني ليلاً، فأطعمتني، وسقتني، وانصرفت.
فلما كان من غد، جاءتني فقالت: السيدة، الساعة تجيء، فانظر كيف تخاطبها.
ثم عادت بعد ساعة مع السيدة، فقالت: انزل، فنزلت.
فإذا بالسيدة جالسة على كرسي، وليس معها إلا وصيفتان، وصاحبتي.
فقبلت الأرض، وقمت بين يديها، فقالت: اجلس.
فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها، وليس من محلي أن أجلس بحضرتها.
فتأملتني، وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب، ونهضت.
فجاءتني صاحبتي بعد ساعة، وقالت: أبشر، فقد أذنت لي والله في تزويجك، وما بقي الآن عقبة إلا الخروج.
فقلت: يسلم الله.
فلما كان من الغد، حملتني في الصندوق، فخرجت كما دخلت، بعد مخاطرة أخرى، وفزع نالني.
ونزلت في المسجد، ورجعت إلى منزلي، فتصدقت، وحمدت الله على السلامة.
فلما كان بعد أيام، جاءني الخادم، ومعه كيس فيه ثلاثة آلاف دينار عيناً.
وقال: أمرتني ستي بإنفاذ هذا إليك من مالها، وقالت: تشتري به ثياباً، ومركوباً، وخدماً، وتصلح به ظاهرك، وتعال يوم الموكب إلى باب العامة، وقف، حتى تطلب، فقد واقفت الخليفة على أن تزوجك بحضرته.
فأجبت على رقعة كانت معه، وأخذت المال، واشتريت ما قالوا بيسير منه، وبقي الأكثر عندي.
وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزي حسن، وجاء الناس، فدخلوا إلى الخليفة.
ووقفت إلى أن استدعيت، فدخلت، فإذا أنا بالمقتدر جالس، والقواد، والقضاة، والهاشميون، فهبت المجلس، وعلمت كيف أسلم، وأقف، ففعلت.
فتقدم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين، فخطب لي، وزوجني، وخرجت من حضرته.
فلما صرت في بعض الدهاليز، قريباً من الباب، عدل بي إلى دار عظيمة مفروشة، بأنواع الفرش الفاخرة، وفيها من الآلات، والخدم، والأمتعة، والقماش، كل شيء لم أر مثله قط.
فأجلست فيها، وتركت وحدي، وانصرف من أدخلني.
فجلست يومي، لا أرى من أعرفه، ولم أبرح من موضعي إلى الصلاة، وخدم يدخلون ويخرجون، وطعام عظيم ينقل، وهم يقولون: الليلة تزف فلانة - اسم صاحبتي - إلى زوجها البزاز، فلا أصدق، فرحاً.
فلما جاء الليل، أثر في الجوع، وأقفلت الأبواب، ويئست من الجارية، فقمت أطوف الدار، فوقفت على المطبخ، ووجدت الطباخين جلوساً فاستطعمتهم، فلم يعرفوني، وقدروني بعض الوكلاء، فقدموا إلي هذا اللون من الطبيخ، مع رغيفين، فأكلتهما، وغسلت يدي بأشنان كان في المطبخ، وقدرت أنها كانت قد نقيت، وعدت إلى مكاني.
فلما جن الليل، إذا طبول، وزمور، وأصوات عظيمة، وإذا بالأبواب قد فتحت، وصاحبتي قد أهديت إلي، وجاءوا بها، فجلوها علي، وأنا أقدر أن ذلك في النوم، فرحاً.
وتركت معي في المجلس، وتفرق الناس.
فلما خلونا، تقدمت إليها فقبلتها، وقبلتني، فشمت لحيتي، فرفستني، فرمت بي عن المنصة، وقالت: أنكرت أن تفلح، يا عامي يا سفلة، وقامت لتخرج.
فقمت، وتعلقت بها، وقبلت الأرض، ورجليها، وقلت: عرفيني ذنبي، واعملي بعده ما شئت.
فقالت: ويحك، أكلت فلم تغسل يدك.
فقصصت عليها قصتي، فلما بلغت إلى آخرها، قلت: علي وعلي، وحلفت بطلاقها، وطلاق كل امرأة أتزوجها، وصدقة مالي، وجميع ما أملكه، والحج ماشياً على قدمي، والكفر بالله، وكل ما يحلف به المسلمون، لا أكلت بعدها ديكبريكه، إلا غسلت يدي أربعين مرة.

فأشفقت، وتبسمت، وصاحت: يا جواري، فجاء مقدار عشر جواري ووصائف.
وقالت: هاتوا شيئاً نأكل.
فقدمت ألوان طريفة، وطعام من أطعمة الخلفاء، فأكلنا، وغسلنا أيدينا.
ومضى الوصائف، ثم قمنا إلى الفراش، فدخلت بها، وبت بليلة من ليالي الخلفاء، ولم نفترق أسبوعاً.
وكانت يوم الأسبوع، وليمة هائلة، اجتمع فيها الجواري.
فلما كان من غد، قالت: إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا، فلولا أنه استؤذن، فأذن بعد جهد، لما تم لنا هذا، لأنه شيء لم يفعل قبل هذا مع جارية غيري، لمحبة سيدتي لي.
وجميع ما تراه، فهو هبة من السيدة لي، وقد أعطتني خمسين ألف دينار، من عين وورق، وجوهر ودنانير، وذخائر لي خارج القصر كثيرة من كل لون، وجميعها لك.
فاخرج إلى منزلك، وخذ معك مالاً، واشتر داراً سرية، واسعة الصحن، فيها بستان كثير الشجر، فاخر الموقع، وتحول إليها، وعرفني، لأنقل هذا كله إليك، فإذا حصل عندك، جئتك.
وسلمت إلي عشرة آلاف دينار عيناً، فحملها الخادم معي.
فابتعت الدار، وكتبت إليها بالخبر، فحملت إلي تلك النعمة بأسرها، فجميع ما أنا فيه منها.
فأقامت عندي كذا وكذا سنة، أعيش معها عيش الخلفاء، ولم أدع مع ذلك التجارة.
فزاد مالي، وعظمت منزلتي، وأثرت حالي، وولدت لي هؤلاء الفتيان، وأومأ إلى أولاده، ثم ماتت رحمها الله.
وبقي علي من مضرة الديكبريكه حاضراً، ما شاهدته.

الشيخ بويه والرؤيا التي هالته
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثنا علي بن حسان الأنباري الكاتب، قال: لما أنفذني معز الدولة، من بغداد إلى ديلمان، لأبني له دوراً في بلدة منها، قال لي: سل عن رجل من الديلم، يقال له أبو الحسين بن شيركوه، فأكرمه، واعرف حقه، واقرئه سلامي، وقل له: سمعت وأنا صبي، بحديث منام كان أبي رآه، وفسره هو وأنت، على مفسر بديلمان، ولم أقم عليه للصبا، فحدثني به، واحفظه لتعيده علي.
فلما جئت إلى ديلمان، جاءني الرجل مسلماً، فعلمت بأنه كان بينه وبين بويه، والد الأمير، صداقة، فأكرمته، وعظمته، وأبلغته رسالة معز الدولة.
فقال لي: كانت بيني وبين بويه مودة وكيدة، وهذه داره وداري، متحاذيتان، كما ترى، وأومأ إليهما.
فقال لي ذات يوم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فاطلب لي إنساناً يفسرها لي.
فقلت: نحن هاهنا في مفازة، فمن أين لنا من يفسر؟ ولكن اصبر حتى يجتاز بنا منجم أو عالم، فنسأله، ومضى على هذا الأمر شهور.
فخرجت أنا وهو في بعض الأيام إلى شاطئ البحر، نصطاد سمكاً، فجلسنا، فاصطدنا شيئاً كثيراً، فحملناه على ظهورنا، أنا وهو، وجئنا.
فقال لي: ليس في داري من يعمله، فخذ الجميع إليك ليعمل عندك.
فأخذته، وقلت له: فتعال إلي، لنجتمع عليه، ففعل.
فقعدنا أنا وعيالي ننظفه، ونطبخ بعضه، ونشوي الباقي.
وإذا رجل مجتاز، يصيح، منجم، مفسر للرؤيا.
فقال لي: يا أبا الحسين، تذكر ما قلته لك، بسبب المنام الذي رأيته؟ فقلت: بلى، فقمت، وجئت بالرجل.
فقال له بويه: رأيت ليلة في منامي، كأني جالس أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة كالعمود، ثم تشعبت يمنة ويسرة، وأماماً وخلفاً، حتى ملأت الدنيا، وانتبهت، فما تفسير هذا؟ فقال له الرجل: لا أفسره لك بأقل من ألف درهم.
قال: فسخرنا منه، وقلنا له: ويحك، نحن فقراء، نخرج نصيد سمكاً لنأكله، والله ما رأينا هذا المبلغ قط، ولا عشره، ولكنا نعطيك سمكة من أكبر هذا السمك.
فرضي بذلك، وقال له: يكون لك أولاد يفترقون في الدنيا، فيملكونها ويعظم سلطانهم فيها، على قدر ما احتوت النار التي رأيتها في المنام عليه من الدنيا.
قال: فصفعنا الرجل، وقلنا: سخرت منا، وأخذت السمكة حراماً.
وقال له بويه: ويلك، أنا صياد فقير، كما ترى، وأولادي هم هؤلاء، وأومأ إلى علي بن بويه، وكان أول ما اختط عارضه، والحسن، وهو دونه، وأحمد، وهو فوق الطفل قليلاً.
ومضت السنون، وأنسيت المنام، حتى خرج بويه إلى خراسان، وخرج علي بن بويه، فبلغنا حديثه، وأنه قد ملك أرجان، ثم ملك فارس كلها.
فما شعرنا إلا بصلاته، قد جاءت إلى أهله، وشيوخ بلد الديلم، وجاءني رسوله يطلبني، فخرجت، ومشيت إليه، فهالني ملكه، وأنسيت المنام، وعاملني من الجميل والصلات بأمر عظيم.

وقال لي، وقد خلونا: يا أبا الحسين، تذكر منام أبي الذي ذكرتموه للمفسر، وصفعتموه لما فسره لكم؟ فاستدعى عشرة آلاف دينار، فدفعها إلي، وقال: هذا من ثمن تلك السمكة، خذه، فقبلت الأرض.
فقال لي: تقبل تدبيري؟ فقلت: نعم.
قال: أنفذها إلى بلد الديلم، واشتر بها ضياعاً هناك، ودعني أدبر أمرك بعدها، ففعلت، وأقمت عنده مدة، ثم استأذنته في الرجوع.
فقال: أقم عندي، فإني أقودك، وأعطيك أقطاعاً بخمسمائة ألف درهم في السنة.
فقلت له: بلدي أحب إلي، فأحضر عشرة آلاف دينار أخرى، فأعطاني إياها.
وقال: لا يعلم أحد بها، فإذا حصلت في بلد الديلم، فادفن منها خمسة آلاف، استظهاراً على الزمان، وجهز بناتك بخمسة آلاف، ثم أعطاني عشرة دنانير، وقال: احتفظ بهذه، ولا تخرجها من يدك، فأخذتها، فإذا في كل واحد مائة دينار وعشرة دنانير.
فودعته، وانصرفت.
قال أبو القاسم: فحفظت القصة، فلما عدت إلى معز الدولة، حدثته بالحديث، فسر به وتعجب.

بين جحظة البرمكي ومحبرة بن أبي عباد الكاتب
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي، قال: أبو الفرج الأصبهاني قال: حدثني جحظة، قال: اتصلت علي إضاقة أنفقت فيها كل ما أملك، حتى بقيت وليس في داري غير البواري.
فأصبحت يوماً وأنا أفلس من طنبور بلا وتر، ففكرت كيف أعمل فيه، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرف قبل ذلك بسنين، ولزم بيته، وحالفه النقرس، فأزمنه، حتى صار ى يتمكن من التصرف إلا محمولاً على الأيدي، أو في محفة، وكان مع ذلك، على غاية الظرف، وكبر النفس، وعظم النعمة، وأن أتطايب عليه ليدعوني، فآخذ منه ما أنفقه مدة، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جدي ... وبرمة وبوارد
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
ومسمع ليس يخطي ... من نسل يحيى وخالد
إن المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
فما شعرت إلا بمحفة محبرة يحملها غلمانه إلى داري، وأنا جالس على بابي.
فقلت له: لم جئت؟ ومن دعاك؟.
قال: أنت.
قلت: إنما قلت لك: ماذا ترى في هذا؟ وعنيت في بيتك، وما قلت لك إنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أم موسى.
فقال: الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن أدخل إليك، وأستدعي من داري ما أريد.
قلت: ذاك إليك.
فدخل، فلم ير في بيتي إلا بارية.
فقال: يا أبا الحسن، هذا والله، فقر مفظع، هذا ضر مدقع، ما هذا؟ فقلت: هو ما ترى.
فأنفذ إلى داره فاستدعى فرشاً، وقماشاً، وجاء فراشه، ففرشه، وجاءوا من الصفر والشمع، وغير ذلك مما يحتاج إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه، وجاء شرابيه بالصواني، والمخروط، والفاكهة، والبخور، وجلس يومه ذاك عندي.
فلما كان في غد، سلم إلي غلامه كيساً فيه ألفا درهم، ورزمة من فاخر الثياب، واستدعى محفته، فجلس فيها، وشيعته هنية.
فلما بلغ آخر الصحن، قال: مكانك يا أبا الحسن، احفظ بابك، فكل ما في الدار لك.
وقال للغلمان: اخرجوا.
فأغلقت الباب على قماش بألوف كثيرة.
ذنب جحظة إلى الزمان
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا: علي بن المحسن، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا جحظة، قال: أنشدت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، قولي:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واريته ... وجامع بذرت ما يجمع
فقال لي: ذنبك إلى الزمان الكمال.
المجنون الشاعر
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو علي الحسن بن صالح، قال: قال مساور الوراق: قلت لمجنون كان عندنا، وكان شاعراً، ويقال إن عقله ذهب لفقد ابنة عم كانت له.
فقلت له يوماً، أجز هذا البيت:
وما الحب إلا شعلة قدحت بها ... عيون المها باللحظ بين الجوانح
قال: فقال على المكان:
ونار الهوى تخفى وفي القلب فعلها ... كفعل الذي جاءت به كف قادح
المقتدر يستقضي الحسن بن عبد الله

على مدينة المنصور
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: بعد الثلاثة أيام التي تقلد فيها ابن الأشناني، مدينة المنصور، اسقتضى المقتدر على مدينة المنصور، الحسن بن عبد الله بن علي، في يوم الاثنين لست بقين في ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وهذا رجل حسن الستر، جميل الطريقة، قريب الشبه من أبيه وجده، في باب الحكم والسداد.
فلم يزل والياً على المدينة إلى نصف رمضان سنة عشرين وثلثمائة، ثم صرفه المقتدر.
وتوفي يوم عاشوراء من سنة خمس وعشرين.
ثلاثة متقدمون لا يزاحمهم أحد
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري، قال: رأيت ثلاثة يتقدمون ثلاثة أصناف من بني جنسهم، فلا يزاحمهم أحد.
أبو عبد الله الحسين بن أحمد الموسوي، يتقدم الطالبيين، فلا يزاحمه أحد.
وأبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، يتقدم العباسيين، فلا يزاحمه أحد.
وأبو بكر الأكفاني، يتقدم الشهود، فلا يزاحمه أحد.
من شعر أبي نضلة مهلهل
بن يموت بن المزرع وأخبرنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن بن الأخباري، قال: أنشدني أبو نضلة لنفسه، ونحن في مجلس أبي بكر الصولي:
وخمرة جاء بها شبهها ... ظلمت لا بل شبهه الخمر
فبات يسقيني على وجهه ... حتى توفي عقلي السكر
في ليلة قصرها طيبها ... بمثلها كم بخل الدهر
قال: وأنشدني أبو نضلة لنفسه:
ولما التقينا للوداع ولم يزل ... ينيل لثاماً دائماً وعناقا
شممت نسيماً منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
خصومة بين قاض وشاهد انتهت بالمصالحة
1 - أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما كان يوم الخميس لخمس بقين من شعبان سنة 328، خلع الراضي على أبي نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وقلده الحضرة بأسرها، الجانب الشرقي، والغربي، والمدينة، والكرخ، وقطعة من أعمال السواد، وخلع على أخيه أبي محمد الحسين بن عمر، لقضاء أكثر السواد.
ثم صرف الراضي أبا نصر عن مدينة المنصور، بأخيه الحسين في سنة تسع وعشرين، وأقره على الجانب الشرقي.
وفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، أشهد أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي على نفسه ثلاثين شاهداً من العدول بأنه لا يشهد عند القاضي أبي نصر يوسف بن عمر ببغداد، وأخذ خطوط الشهود أنه عدل مقبول الشهادة.
وفي يوم الاثنين لثمان بقين من ذي الحجة أسجل القاضي أبو نصر، يوسف بن عمر، بأن أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي، ساقط الشهادة، بشهادة عشرين عدلاً عليه بذلك.
2 - في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، قلد القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله القضاء في الجانب الشرقي، وأقر القاضي أبو نصر على الجانب الشرقي.
وقلد أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، قضاء مدينة أبي جعفر.
وفي هذه السنة، جمع القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي، أبا عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، وأبا نصر يوسف بن أبي الحسين عمر بن محمد القاضي في منزله، حتى اصطلحا، وتعاقدا على التصافي، وأخذ كل واحد منهما خط صاحبه بتزكيته، وبما تأكد من الصلح بينهما، وكانا قد خرجا إلى أقبح المباينة، حتى أشهد أبو نصر، وهو والي قضاء مدينة السلام على نفسه، بإسقاط أبي عبد الله، وأنه غير موضع للشهادة، وسعى أبو عبد الله في صرفه، ومعارضته بما يكره، حتى تهيأ له في ذلك ما أراد.
كلب يحرم نفسه من قوته
ويؤثر صاحبه على نفسه أخبرني علي بن محمد، قال: حدثني الحسين بن شداد، قال: ولاني القاسم، خلافة أحمد بن ميمون بنيسابور، فنزلت في بعض منازلها، فوجدت في جواره جندياً من أصحابه، يعرف بنسيم، كان برسم تنظيف كلابه.
وإذا كلب له يخرج بخروجه، ويدخل بدخوله، وإذا جلس على بابه قربه، وغطاه بدواج كان عليه.
فسألت الراسبي عن محل الغلام، وكيف يقنع الأمير منه، بدخول الكلب عليه، ويرضى منه بذلك، وليس بكلب صيد؟

قال أبو الوليد: سله عن حديثه، فإنه يخبرك بشأنه.
فأحضرت الغلام، وسألته عن السبب الذي استحق به هذه المنزلة منه؟ فقال: هذا خلصني - بعد الله عز وجل - من أمر عظيم.
فاستبشعت هذا القول منه، وأنكرته عليه، فقال لي: اسمع حديثه فإنك تعذرني.
كان يصحبني رجل من أهل البصرة، يقال له محمد بن بكر، لا يفارقني، يواكلني، ويعاشرني على النبيذ وغيره منذ سنين.
فخرجنا إلى الدينور، فلما رجعنا وقربنا من منزلنا، كان في وسطي هميان فيه جملة دنانير، ومعي متاع كثير أخذته من الغنيمة، قد وقف عليه بأسره.
فنزلنا إلى موضع، فأكلنا، وشربنا.
فلما عمل الشراب، عمد إلي، فشد يدي إلى رجلي، وأوثقني كتافاً، ورمى بي في واد، وأخذ كل ما معي، وتركني ومضى، وأيست من الحياة.
وقعد هذا الكلب معي، ثم تركني ومضى، فما كان بأسرع من أن وافاني، ومعه رغيف، فطرحه بين يدي، فأكلته، ولم أزل أحبو إلى موضع فيه ماء، فشربت منه، ولم يزل الكلب معي، باقي ليلي يعوي إلى أن أصبحت، فحملتني عيناي، وفقدت الكلب.
فما كان بأسرع من أن وافاني ومعه رغيف، فأكلت، وفعلت فعلي في اليوم الأول.
فلما كان اليوم الثالث غاب عني، فقلت مضى يجيئني بالرغيف، فلم ألبث إلا أن جاء ومعه الرغيف، فرمى به إلي، فلم استتم أكله، إلا وابني على رأسي يبكي.
فقال: ما تصنع هاهنا، وما هي قصتك؟ ونزل فحل كتافي، وأخرجني.
فقلت له: من أين علمت بمكاني، ومن دلك علي؟ فقال: كان الكلب يأتينا في كل يوم، فنطرح له الرغيف على رسمه، فلا يأكله. وقد كان معك، فأنكرنا رجوعه، ولست أنت معه، فكان يحمل الرغيف بفيه، ولا يذوقه ويخرج يعدو، فأنكرنا أمره، فاتبعته حتى وقفت عليك.
فهذا ما كان من خبري وخبر الكلب، فهو عندي أعظم مقداراً من الأهل والقرابة.
قال: ورأيت أثر الكتاف في يده، قد أثر أثراً قبيحاً.

الأمير جعفر بن ورقاء يعاتب القاضيين
أبا عمر وأبا الحسين أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله النصيبي، قال: إن جعفر بن ورقاء حدثهم، قال: عدت من الحج أنا وأخي، فتأخر عن تهنئتي القاضي أبو عمر وابنه أبو الحسين، فكتبت إليهما:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... وأستجفي فتاه أبا الحسين
بأي قضية وبأي حكم ... ألحا في قطيعة واصلين
فما جاءا ولا بعثا بعذر ... ولا كانا لحقي موجبين
فإن نمسك ولا نعتب تمادى ... جفاؤهما لأخلص مخلصين
وإن تعتب فحق غير أنا ... نجل عن العتاب القاضيين
فوصلت الأبيات إلى أبي عمر، وهو على شغل، فأنفذها إلى أبي الحسين، وأمره بالجواب عنها، فكتب إلي:
تجن واظلم منتقلاً ... عن خالص الود أيها الظالم
ظننت بي جفوة عتبت لها ... فخلت أني لحبلكم صارم
حكمت بالظن والشكوك ولا ... يحكم بالظن في الهوى حاكم
تركت حق الوداع مطرحاً ... وجئت تبغي زيارة القادم
أمران لم يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
وكل هذا مقال ذي ثقة ... وقلبه من جفائه سالم
الخليفة الراضي يبكي حزنا
ً
على قاضي القضاة أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: توفي قاضي القضاة، يعني أبا الحسين عمر بن محمد بن يوسف، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وصلى عليه ابنه أبو نصر، ودفن إلى جانب أبي عمر في دار إلى جانب داره.
وقال أبو بكر الصولي: كان هذا القاضي قد بلغ من العلم مبلغاً عظيماً، وقرأ علي من كتب اللغة والأخبار، ما يقارب عشرة آلاف ورقة، وتوفي ابن سبع وثلاثين سنة.
ووجد عليه الراضي وجداً شديداً، حتى كان يبكي بحضرتنا، وقال: كنت أضيق بالشيء ذرعاً، فيوسعه علي.
وكان يقول: لا بقيت بعده.
أبو بكر الأنباري يملي من حفظه
أنبأنا محمد بن عبد الباقي قال: أنبأنا علي بن أبي علي البصري عن أبيه، قال:

أخبرني غير واحد ممن شاهد أبا بكر الأنباري، أنه كان يملي من حفظه، لا من كتاب، وأن عادته في كل ما كتب عنه من العلم، كانت هكذا، ما أملى قط من دفتر.

اجتمعت في أيام المتقي إسحاقات سحقت خلافته
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال حدثني أبي، قال: قال لي أبو الحسين بن عياش: اجتمعت في أيام المتقي بالله إسحاقات كثيرة، فانسحقت خلافة بني العباس في أيامه، وانهدمت قبة المنصور الخضراء التي كان بها فخرهم.
فقلت له: ما كانت الإسحاقات؟ قال: كان يكنى أبا إسحاق، وكان وزيره القراريطي يكنى أبا إسحاق، وكان قاضيه ابن إسحاق الخرقي، وكان محتسبه أبو إسحاق بن بطحاء، وكان صاحب شرطته أبو إسحاق بن أحمد، وكانت داره القديمة، دار إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكانت الدار نفسها دار إسحاق بن كنداج.
الخليفة المتقي يستسقي
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثنا أبو محمد الصلحي الكاتب، قال: نادى منادي المتقي في زمن خلافته، في الأسواق: إن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته، إن امرأة صالحة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها، فشكت احتباس القطر، فقال لها: قولي للناس يخرجون في يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون، ويدعون الله، فإنه يسقيهم في يومهم، وإن أمير المؤمنين يأمركم معاشر المسلمين بالخروج، في يوم الثلاثاء كما أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نياتكم، وإقلاع عن ذنوبكم.
قال: فأخبرني الجم الغفير أنهم لما سمعوا النداء، ضجت الأسواق بالبكاء والدعاء.
فشق ذلك علي، وقلت: منام امرأة لا يدرى كيف تأويله، وهل يصح أم لا، ينادي به خليفة في أسواق مدينة السلام؟ فإن لم يسقوا كيف يكون حالنا مع الكفار؟ فليته أمر الناس بالخروج ولم يذكر هذا.
وما زلت قلقاً حتى أتى يوم الثلاثاء، فقيل لي: إن الناس قد خرجوا إلى المصلى مع أبي الحسن أحمد بن الفضل بن عبد الملك، إمام الجامع، وخرج أكثر أصحاب السلطان، والفقهاء، والأشراف.
فلما كان قبل الظهر، ارتفعت سحابة، ثم طبقت الآفاق، ثم أسبلت عزاليها بمطر جود.
فرجع الناس حفاة من الوحل.
وتقدرون فتضحك الأقدار
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرني أبي، قال: حدثني أبو بكر عمر بن عبد الملك السقطي قال: سمعت أبا بكر بن يعقوب بن شيبة يحدث، قال: لما ولدت، دخل أبي على أمي، فقال لها: إن المنجمين قد أخذوا مولد هذا الصبي، وحسبوه، فإذا، هو يعيش كذا وكذا، وقد حسبتها أياماً، وقد عزمت على أن أعد له لكل يوم ديناراً، مدة عمره، فإن ذلك يكفي الرجل المتوسط، له ولعياله، فأعدي له حباً فارغاً، فأعدته، وتركته في الأرض، وملأه بالدنانير.
ثم قال: أعدي حباً آخر، أجعل فيه مثل هذا استظهاراً، ففعلت، وملأه.
ثم استدعى حباً آخر، وملأه بمثل ما ملأ به كل واحد من الحبين، ودفن الجميع، فما نفعني ذلك، مع حوادث الزمان، فقد احتجت إلى ما ترون.
قال أبو بكر السقطي: ورأيناه فقيراً يجيئنا بلا إزار، ونقرأ عليه الحديث، ونبره بالشيء بعد الشيء.
الأمير معز الدولة يشجع
السعي والصراع والسباحة أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: من أعجب الأشياء المتولدة في زمن معز الدولة، السعي، والصراع، وذلك إن معز الدولة، احتاج إلى السعاة، ليجعلهم فيوجاً بينه وبين أخيه ركن الدولة، إلى الري، فيقطعون تلك المسافة البعيدة، في المدة القريبة، وأعطى على جودة السعي الرغائب.
فحرص أحداث بغداد وضعفاؤهم على ذلك، حتى انهمكوا فيه، وأسلموا أولادهم إليه.
فنشأ ركابيان لمعز الدولة، يعرف أحدهما بمرعوش، والآخر بفضل، يسعى كل واحد منهما، نيفاً وثلاثين فرسخاً في يوم، من طلوع الشمس إلى غروبها، يترددون ما بين عكبرا وبغداد.
وقد رتب على كل فرسخ من الطريق، قوماً يحضون عليهم، فصاروا أئمة السعاة ببغداد، وانتسب السعاة إليهم، وتعصب الناس لهم.

واشتهى معز الدولة الصراع، فكان يعمل بحضرته حلقة في ميدانه، ويقيم شجرة يابسة تنصب في الحال، ويجعل عليها الثياب الديباج، والعتابي، والمروزي، وتحتها أكياس فيها دراهم، ويجمع على سور الميدان المخانيث بالطبول والزمور، وعلى باب الميدان الدبادب، ويؤذن للعامة في دخول الميدان، فمن غلب، أخذ الثياب والشجرة والدراهم.
ثم دخل في ذلك أحداث بغداد، فصار في كل موضع صراع، فإذا برع أحدهم، صارع بحضرة معز الدولة، فإن غلب، أجريت عليه الجرايات، فكم من عين ذهبت بلطمة، وكم من رجل اندقت.
وشغف بعض أصحاب معز الدولة بالسباحة، فتعاطاها أهل بغداد، حتى أحدثوا فيها الطرائف.
فكان الشاب يسبح قائماً، وعلى يده كانون فوقه حطب يشتعل تحت قدر، إلى أن تنضج، ثم يأكل منها، إلى أن يصل إلى دار السلطان.

فرار الناس من بغداد لما دخلها الديلم
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف، قال: لما دخل الديلم من الجانب الغربي، إلى الجانب الشرقي، وخاف الناس السيف، هربوا على وجوههم، وكانت العذراء، والمخبأة المترفة من ذوات النعم، والصبية، والأطفال، والعجائز، وسائر الناس، يخرجون على وجوههم، يتعادون يريدون الصحراء، وكان ذلك اليوم حاراً، فلا يطيقون المشي.
قال أبو محمد الصلحي: انهزمنا يومئذ مع ناصر الدولة، نريد الموصل، من بين يدي معز الدولة، وقد عبر من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فرأيت ما لا أحصي من أهل بغداد، قد تلفوا بالحر والعطش، ونحن نركض هاربين، فما شبهته إلا بيوم القيامة.
قال: فأخبرني جماعة: أنهم شاهدوا امرأة لم ير مثلها في حسن الثياب والحلي، وهي تصيح: أنا ابنة فلان، ومعي جوهر وحلي بألف دينار، رحم الله من أخذه مني وسقاني شربة ماء، فما يلتفت إليها أحد، حتى خرت ميتة، وبقيت متكشفة، والثياب عليها والحلي، وما يعرض له أحد.
الوزير علي بن عيسى يقول
ليتني تمنيت المغفرة أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن قريعة، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن داسه، قالا: حدثنا أبو سهل بن زياد القطان، صاحب علي بن عيسى، قال: كنت مع علي بن عيسى، لما نفي إلى مكة، فلما دخلناها، دخلنا في حر شديد، وقد كدنا نتلف.
فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء فألقى نفسه، وهو كالميت من الحر والتعب، وقلق قلقاً شديداً.
وقال: أشتهي على الله شربة ماء مثلوج.
فقلت له: يا سيدي تعلم أن هذا مما لا يوجد بهذا المكان.
فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحت إلى المنى.
قال: وخرجت من عنده، ورجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه، حتى نشأت سحابة، فبرقت، ورعدت، وجاءت بمطر يسير، وبرد كثير.
فبادرت إلى الغلمان، فقلت: اجمعوا.
فجمعنا منه شيئاً عظيماً، وملأنا جراراً كثيرة، وجمع أهل مكة منه شيئاً عظيماً.
وكان علي بن عيسى صائماً، فلما كان وقت المغرب، خرج إلى المسجد الحرام ليصلي المعرب.
فقلت له: أنت والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت.
وجئته بأقداح مملوءة من أصناف الأسوقة والأشربة، مكبوسة بالبرد.
فأقبل يسقي ذلك من قرب منه، من الصوفية، والمجاورين، والضعفاء، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا، وأقول له: اشرب، فيقول: حتى يشرب الناس.
فخبأت مقدار خمسة أرطال، وقلت له: إنه لم يبق شيء.
فقال: الحمد لله، ليتني كنت تمنيت المغفرة، فلعلي كنت أجاب.
فلما دخل البيت لم أزل أداريه حتى شرب منه، وتقوت ليلته بباقيه.
الزاهدة ابنة أبي الحسن المكي
أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني عبيد الله بن أحمد بن بكير، قال: كان لأبي الحسن المكي، ابنة مقيمة بمكة، أشد ورعاً منه، وكانت لا تقتات إلا ثلاثين درهماً ينفذها إليها أبوها في كل سنة، مما يستفضله من ثمن الخوص الذي يسفه ويبيعه.
فأخبرني ابن الرواس التمار، وكان جاره، قال: جئته، أودعه للحج، وأستعرض حاجته وأسأله أن يدعو لي.

فسلم لي قرطاساً، وقال: تسأل بمكة في الموضع الفلاني عن فلانة، وتسلم هذا إليها.
فعلمت أنها ابنته، فأخذت القرطاس، وجئت، فسألت عنها، فوجدتها بالعبادة والزهد، أشد اشتهاراً من أن تخفى.
فطمعت نفسي في أن يصل إليها من مالي شيء يكون لي ثوابه، وعلمت أنني إن دفعت إليها ذلك لم تأخذه، ففتحت القرطاس، وجعلت الثلاثين درهماً، خمسين درهماً، ورددته كما كان، وسلمته إليها.
فقالت: أي شيء خبر أبي؟ فقلت: على السلامة.
فقالت: قد خالط أهل الدنيا، وترك الانقطاع إلى الله؟ فقلت: لا.
قالت: أسالك بالله، وبمن حججت له، عن شيء فتصدقني؟ قلت: نعم، فقالت: خلطت في هذه الدراهم شيئاً من عندك؟ فقلت: نعم، فمن أين علمت هذا؟ فقالت: ما كان أبي يزيدني على الثلاثين شيئاً، لأن حاله لا تحتمل أكثر منها، إلا أن يكون ترك العبادة، فلو أخبرتني بذلك، ما أخذت منه أيضاً شيئاً.
ثم قالت لي: خذ الجميع فقد عققتني، من حيث قدرت أنك بررتني، ولا آخذ من مال لا أعرف كيف هو، شيئاً.
فقلت: خذي منها ثلاثين، كما أنفذ إليك أبوك، وردي الباقي.
فقالت: لو عرفتها بعينها من جملة الدراهم لأخذتها، ولكن قد اختلطت بما لا أعرف جهته، فلا آخذ منها شيئاً، وأنا الآن أقتات إلى الموسم الآخر من المزابل، لأن هذه كانت قوتي طول السنة، فقد أجعتني، ولولا أنك ما قصدت أذاي، لدعوت عليك.
قال: فاغتممت، وعدت إلى البصرة، وجئت إلى أبي الحسن، فأخبرته، واعتذرت إليه.
فقال: لا آخذها وقد اختلطت بغير مالي، وقد عققتني وإياها.
قال: فقلت ما أعمل بالدراهم؟ قال: لا أدري.
فما زلت مدة أعتذر إليه، وأسأله ما أعمل بالدراهم.
فقال لي بعد مدة: صدق بها.
ففعلت.

أبو عمر غلام ثعلب من الرواة
الذين لم ير أحفظ منهم أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، عن أبيه، قال: من الرواة الذين لم ير أحفظ منهم، أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة، لغة، فيما بلغني.
وجميع كتبه التي في أيدي الناس، إنما أملاها بغير تصنيف، ولسعة حفظه اتهم بالكذب.
وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه قد وضعه، فيجيب عنه، ثم يسأله غيره بعد سنة، على مواطأة، فيجيب بذلك الجواب بعينه.
أخبرنا بعض أهل بغداد، قال: كنا نجتاز على قنطرة الصراة، نمضي إليه، مع جماعة، فتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة، وأسأله عنها.
فلما صرنا بين يديه، قال له: أيها الشيخ ما الهرنطق عند العرب؟ فقال: كذا، وذكر شيئاً قد أنسيته أنا.
قال: فتضاحكنا، وأتممنا المجلس، وانصرفنا.
فلما كان بعد أشهر، ذكرنا الحديث، فوضعنا رجلاً غير ذلك، فسأله، وقال: ما الهرنطق؟ فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا شهراً، فقلت هي كذا؟.
قال: فما درينا من أي الأمرين نعجب، من ذكائه، وإن كان علماً فهو اتساع ظريف، وإن كان كذباً في الحال، ثم قد حفظه، فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة، فأجاب بذلك الجواب، فهو أظرف.
قال أبي: وكان معز الدولة، قد قلد شرطة بغداد، مملوكاً تركياً يعرف بخواجا.
فبلغ أبا عمر الخبر، وكان يملي الياقوتة، فلما جاءوه، قال: اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج في اللغة الجوع، ثم فرع على هذا باباً، فأملاه، فاستعظم الناس ذلك، وتتبعوه.
فقال أبو علي الحاتمي: أخرجنا في أمالي الحامض، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، الخواج: الجوع.
كلب يحمي صاحبه ممن أراد أن يخنقه
أخبرني بعض الشيوخ من أهل الجبل، قال: كنت أنا مع جماعة خارجين إلى أصبهان، فلما صرنا إلى بعض الطريق، مررنا بخان قديم خراب، ليس فيه أحد، وإذا صوت كلب ينبح، وإذا حركة شديدة.
فدخلنا بأجمعنا الخان، فإذا نحن برجل من أصحابنا نعرفه، من الفيوج، كان معه كلب لا يفارقه حيث كان، وإذا بعض المبنجين قد وقع عليه، وكان الفيج فطناً، فلما رأى أن حيلته ليست تنفذ له عليه، طرح في عنقه وتراً ليخنقه به.
فلما رأى الكلب ذلك، ثار إلى المبنج، فخمش وجهه، وعض قفاه، وطرح منه قطعة لحم، فسقط المبنج مغشياً عليه.
فخلصنا من عنق صاحبنا الوتر، وكان قد أشرف على التلف، وقبضنا على المبنج، فكتفناه بوتره، ودفعناه إلى السلطان.
لص يموت على النقب الذي نقبه

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز عن أبي القاسم علي بن المحسن، عن أبيه قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني: أن لصاً نقب ببغداد في زمن الطاعون الذي كان في سنة ست وأربعين وثلثمائة، فمات مكانه وهو على النقب.
وأن إسماعيل القاضي، لبس سواده، ليخرج إلى الجامع، فيحكم، ولبس أحد خفيه، وجاء ليلبس الآخر، فمات.

لا آمرك، ولكني شفيع
أخبرنا القاضيان، أبو الحسين أحمد بن علي التنوخي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أعتقت بريرة، وكان زوجها حبشياً، خيرت، فاختارت فراقه، فكان يطوف حولها، ودموعه تسيل على خديه حباً لها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمه العباس: أما ترى شدة حبه لها، وشدة بغضها له؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو تزوجته.
قالت: إن أمرتني.
قال: لا آمرك، ولكني شفيع.
فلم تفعل.
القاضي أبو جعفر بن البهلول
يلي قضاء مدينة المنصور عشرين سنة
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن جعفر الشاهد قال: لم يزل أحمد بن إسحاق بن البهلول على قضاء المدينة - يعني مدينة المنصور - من سنة ست وتسعين ومائتين إلى ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلثمائة.
وكان ربما اعتل، فيخلفه ابنه أبو طالب محمد، وهو رجل جميل الأمر، حسن المذهب، شديد التصون، وممن كتب العلم، وحدث بعد أبيه بسنين.
أبو بكر الآدمي واجتماع الناس
عليه عندما يقرأ القرآن
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأسدي، قال: سمعت أبي يقول: حججت في بعض السنين، وحج في تلك السنة، أبو القاسم البغوي وأبو بكر الآدمي، القاريء.
فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءني أبو القاسم البغوي، فقال لي: يا أبا بكر، هاهنا رجل ضرير، قد جمع حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد يقص، ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتعلة، فإن رأيت أن تمضي بنا إليه، لننكر عليه ونمنعه.
فقلت له: يا أبا القاسم إن كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الغفير، والخلق العظيم، ولسنا ببغداد، فيعرف لنا موضعنا، ولكن هاهنا، أمر آخر، هو الصواب.
فأقبلت على أبي بكر الآدمي، وقلت له: استعذ، واقرأ.
فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة، حتى انجفلت الحلقة، وانفض الناس جميعاً، فأحاطوا بنا يستمعون قراءة أبي بكر، وتركوا الضرير وحده.
فسمعته يقول لقائده: خذ بيدي، هكذا تزول النعم.
أبو بكر الآدمي يقرأ القرآن
في بغداد فتسمع قراءته في كلواذى
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني درة الصوفي، قال: كنت بائتاً بكلواذى، على سطح عال، فلما هدأ الليل، قمت لأصلي، فسمعت صوتاً ضعيفاً يجيء من بعد، فأصغيت إليه، وتأملته، فإذا هو صوت أبي بكر الآدمي القاريء، فقدرته منحدراً في دجلة، وأصغيت، فلم أجد الصوت يقرب، ولا يزيد، وظل على ذلك ساعة، ثم انقطع.
فتشككت في الأمر، وصليت، ونمت، وبكرت، فدخلت بغداد على ساعتين من النهار، أو أقل.
وكنت مجتازاً في السماوية، فإذا بأبي بكر الآدمي ينزل إلى الشط من دار أبي عبد الله الموسوي التي تقرب من فرضة جعفر على دجلة.
فصعدت إليه، وسألته عن خبره، فأخبرني بسلامته.
وقلت: أين كنت البارحة؟ فقال: في هذه الدار.
فقلت: قرأت؟ قال: نعم.
قلت: أي وقت؟ قال: بعد نصف الليل إلى قريب من الثلث الآخر.
قال: فنظرت، فإذا هو الوقت الذي سمعت فيه صوته بكلواذى.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً، بان له في، فقال: ما لك؟ فقلت: إني سمعت صوتك البارحة، وأنا على سطح بكلواذى، وتشككت، فلولا أنك أخبرتني الساعة على غير اتفاق، ما صدقته.
قال: فاحكها عني.
فأنا أحكيها دائماً.

أبو جعفر بن برية يرى أبا بكر الآدمي في النوم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثني علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي موسى القاضي، وأبو إسحاق الطبري، وغيرهما، قالوا سمعنا أبا جعفر عبد الله بن إسماعيل بن برية، يقول: رأيت أبا بكر الآدمي في النوم بعد موته بمديدة، فقلت له: ما فعل الله بك؟.
فقال لي: أوقفني بين يديه، وقاسيت شدائد وأموراً صعبة.
فقلت له: فتلك الليالي والمواقف والقرآن؟ فقال: ما كان شيء أضر علي منها، لأنها كانت للدنيا.
فقلت له: فإلى أي شيء انتهى أمرك؟ قال: قال لي تعالى، آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.
بين الأول والثاني مائة سنة
وهما في القعدد إلى المنصور سواء
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن أبي علي، قال: سمعت القاضي أبا بكر بن أبي موسى الهاشمي، وأبا إسحاق الطبري، ومن لا أحصي من شيوخنا، يحكمون: أنهم سمعوا أبا جعفر المعروف بابن برية الإمام، يقول: رقى هذا المنبر - يعني منبر مسجد جامع المدينة - الواثق في سنة ثلاثين ومائتين، ورقيت هذا المنبر في سنة ثلاثين وثلثمائة وبين الرقيتين مائة سنة، وأنا وهو في القعدد إلى المنصور سواء، هو الواثق ابن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، وأنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور.
إن الله لا يعذب من جاوز الثمانين
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الذهبي المعروف بابن القطان، قال: رأيت أبا السائب عتبة بن عبيد الله قاضي القضاة بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك، مع تخليطك؟ - بهذا اللفظ - .
قال: غفر لي.
فقلت: فكيف ذاك؟ فقال: إن الله تعالى عرض علي أفعالي القبيحة، ثم أمر بي إلى الجنة، وقال: لولا أني آليت على نفسي أن لا أعذب من جاوز الثمانين، لعذبتك، ولكني قد غفرت لك، وعفوت عنك، اذهبوا به إلى الجنة.
فأدخلتها.
شقيقان ملتزقان من جانب واحد
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، وأبو عمر أحمد بن محمد الخلال، قالا: حدثنا جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم، ممن كنا نثق بهم، ويقع لنا العلم بصحة ما حدثوا به، لكثرته، وظهوره، وتواتره، أنهم شاهدوا بالموصل، سنة نيف وأربعين وثلثمائة، رجلين أنفذهما صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة، للأعجوبة فيهما.
وكان لهما نحو من ثلاثين سنة، وهما ملتزقان من جانب واحد، ومن حد فويق الحقو إلى دوين الإبط، وكان معهما أبوهما، فذكر لهم أنهما ولدا كذلك.
وكنا نراهما يلبسان قميصين، وسراويلين، كل واحد منهما لباسه مفرد، إلا أنه لم يكن يمكنهما - لالتزاق كتفيهما، وأيديهما - المشي، لضيق ذلك عليهما، فجعل كل واحد منهما يده التي تلي أخاه، من جانب الالتزاق خلف ظهر أخيه، ويمشيان كذلك، وأنهما كانا يركبان دابة واحدة، ولا يمكن أحدهما التصرف، إلا إذا تصرف الآخر معه، وإذا أراد أحدهما الغائط، قام الآخر معه، وإن لم يكن محتاجاً.
وإن أباهما حدثهم، أنه لما ولدا، أراد أن يفرق بينهما، فقيل له إنهما يتلفان، لأن التزاقهما من جانب الخاصرة، وإنه لا يجوز أن يفصلا، فتركهما، وكانا مسلمين.
فأجازهما ناصر الدولة، وخلع عليهما.
وكان الناس بالموصل يصيرون إليهما، فيتعجبون منهما، ويهبون لهما.
قال أبو محمد: وأخبرني جماعة: أنهما خرجا إلى بلدهما، فاعتل أحدهما ومات، وبقي أياماً حتى أنتن، وأخوه حي، لا يمكنه التصرف، ولا يمكن الأب، دفن الميت، إلى أن لحقت الحي، علة من الغم والرائحة، فمات أيضاً، فدفنا جميعاً.
وكان ناصر الدولة قد جمع لهما الأطباء، وقال: هل من حيلة في الفصل بينهما؟ فسألهما الأطباء عن الجوع، هل تجوعان في وقت واحد.
فقال: إذا جاع الواحد منا تبعه جوع الآخر بشيء يسير من الزمان، وإن شرب أحدنا دواء مسهلاً، انحل طبع الآخر بعد ساعة، وقد يلحق أحدنا الغائط، ولا يلحق الآخر، ثم يلحقه بعد ساعة.

فنظروا فإذا لهما جوف واحد، وسرة واحدة، ومعدة واحدة، وكبد واحد، وطحال واحد، وليس في موضع الالتصاق، أضلاع، فعلموا أنهما إن فصلا تلفا.
ووجدوا لهما ذكرين، وأربع بيضات.
وكان ربما وقع بينهما خلاف وتشاجر، فتخاصما أعظم خصومة، حتى ربما حلف أحدهما لا كلم الآخر، أياماً، ثم يصطلحان.

القاضي عمر بن أكثم جلس يقضي
في الموضع الذي جلس فيه جد أبيه قبل مائة عام أخبرنا علي بن المحسن، أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما فتح المطيع لله، والأمير معز الدولة أحمد بن بويه، البصرة، في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، خرج القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله، إلى البصرة، مهنئاً لهما، وكان يكتب له على الحكم، أبو بشر عمر بن أكثم بن أحمد بن حبان بن بشر الأسدي.
وحبان رجل من جلة المسلمين، تقلد القضاء في نواحي كثيرة، وتقلد أصبهان، ثم قلد الشرقية.
وأبو بشر رجل من سروات الرجال، نشأ نشوءاً حسناً، على حال صيانة تامة، ومعرفة ثاقبة، فقبل الحكام شهادته، ثم كتب للقضاة.
فاستخلفه القاضي أبو السائب، عند خروجه، على الجانب الشرقي، ثم جمع البلد لأبي السائب، وهو بالبصرة مع المطيع، فكتب بذلك إلى الحضرة واستخلفه على بغداد بأسرها.
فتجمل القضاء بموضعه، وأجرى الأمور مجاريها، وأصدرها مصادرها، وواصل الجلوس، ولم يحتجب عن الخصوم، وأجهد نفسه في الصبر على كبار الأمور، غير برم، ولا ضجر، فظهر منه خشونة، فانحسم عنه الطمع، واعتقد أهل الأقدار مودته، وبثوا في الناس شكره وذكره.
ثم أصعد القاضي أبو السائب إلى الحضرة، ونظر في الأمور بنفسه، وعاد أبو بشر إلى كتابته.
قال طلحة: نظرت في التاريخ، فإذا القاضي أبو بشر عمر بن أكثم بن أحمد بن حبان قد جلس في الشرقية، في الموضع الذي جلس فيه، حبان بن بشر، جد أبيه، قبل مائة سنة.
قلت: لم يزل عمر بن أكثم على كتابة أبي السائب، إلى أن مات أبو السائب، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة خمسين وثلثمائة، فأقر عمر بن أكثم على خلافته، إلى أن قلد قضاء القضاة أبو العباس بن أبي الشوارب في شعبان من هذه السنة، ثم عزل في سنة اثنتين وخمسين، وقلد أبو بشر، قضاء القضاة، في رجب من سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فلم يزل يتولاه إلى أن صرف عنه، في شعبان في سنة ست وخمسين، ولازم منزله إلى أن توفي.
فكانت مدة تقلده قضاء القضاة، إلى أن صرف عنه، أربع سنين وأياماً.
ذكر لي ذلك التنوخي.
الشاعر المتنبي لا يفصح عن نسبه
قال المحسن: سألت المتنبي عن نسبه، فما اعترف لي به، وقال: أنا رجل أخبط القبائل، وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت، لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينها وبين القبيلة التي أنتسب إليها.
وما دمت غير منتسب إلى أحد، فأنا أسلم على جميعهم.
المتنبي يحفظ كتابا
ً
من ثلاثين ورقة قرأه مرة واحدة أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي قال: كان المتنبي، وهو صبي، ينزل في جواري بالكوفة، وكان أبوه يعرف بعبدان السقاء، يستقي لنا ولأهل المحلة.
ونشأ هو محباً للعلم والأدب، وصحب الأعراب، فجاءنا بعد سنين بدوياً قحاً، وكان تعلم الكتابة والقراءة، وأكثر من ملازمة الوراقين.
فأخبرني وراق كان يجلس إليه، قال لي: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان.
قلت له: كيف؟ قال: كان اليوم عندي، وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي، نحو ثلاثين ورقة، ليبيعه، فأخذ ينظر إليه طويلاً.
فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، وإن كنت تريد حفظه، فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر.
فقال له: فإن كنت قد حفظته في هذه المدة، ما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب.
قال: فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه علي إلى آخره، ثم استلمه، فجعله في كمه.
فقام صاحبه وتعلق به، وطالبه بالثمن.
فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبته لي.
فمنعناه منه، وقلنا له: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام.
فتركه عليه.
المتنبي وادعاؤه النبوة
قال المحسن: اجتمعت بعد موت المتنبي بسنين، مع القاضي أبي الحسن بن أم شيبان الهاشمي، وجرى ذكر المتنبي، فقال:

كنت أعرف أباه بالكوفة، شيخاً يسمى عبدان، يستقي على بعير له، وكان جعفياً صحيح النسب.
قال: وكان المتنبي لما خرج إلى كلب، فأقام فيهم، ادعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن شهد عليه بالشام، بالكذب في الدعوتين، وحبس دهراً طويلاً، وأشرف على القتل، ثم استتيب، وأشهد عليه بالتوبة، وأطلق.

كيف قتل المتنبي
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ، قال: حدثني علي بن أيوب، قال: خرج المتنبي من بغداد إلى فارس، فمدح عضد الدولة، وأقام عنده مديدة، ثم رجع من شيراز يريد بغداد، فقتل بالطريق بالقرب من النعمانية، في شهر رمضان، وقيل في شعبان، من سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وفي سبب قتله ثلاثة أقوال: أحدها: إنه كان معه مال كثير، فقتله العرب لأخذ ماله، فذكر بعض العلماء، إنه وصل إليه من عضد الدولة، أكثر من مائتي ألف درهم، بقصيدته التي قال فيها:
ولو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وفي آخرها:
وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاحاً أو هلاكا
فجعل قافية البيت " الهلاك " فهلك.
وذلك أنه ارتحل عن شيراز، بحسن حال، وكثرة مال، ولم يستصحب خفيراً، فخرج عليه أعراب، فحاربهم، فقتل هو، وابنه محسد، وبعض غلمانه، وفاز الأعراب بأمواله، وكان قتله، بشط دجلة، في موضع يعرف بالصافية، يوم الأربعاء لثلاث بقين من رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
واسم قاتله: فاتك بن أبي جهل الأسدي.
والقول الثاني: إن سبب قتله، كلمة قالها عن عضد الدولة، فدس عليه من قتله.
وذكر مظفر بن علي الكاتب، قال: اجتمعت برجل من بني ضبة، يكنى أبا رشيد، فذكر أنه حضر قتل المتنبي، وكان صبياً، حين راهق حينئذ.
وكان المتنبي قد وفد على عضد الدولة، وهو بشيراز، ثم صحبه إلى الأهواز، فأكرمه ووصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاث كسى، في كل كسوة سبع قطع، وثلاثة أفراس، بسروج محلاة، ثم دس عليه من سأله: أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة ابن حمدان؟ فقال المتنبي: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف، وكان سيف الدولة يعطي طبعاً.
فاغتاظ عضد الدولة، لما نقل إليه هذا، وأذن لقوم من بني ضبة، في قتله، إذا انصرف.
قال: فمضيت مع أبي، وكنا في ستين راكباً، فكنا في واد، فمر في الليل، ولم نعلم به، فلما أصبحنا، تبعنا أثره، فلحقناه، وقد نزل تحت شجرة كمثرى، وعندها عين، وبين يديه سفرة طعام.
فلما رآنا قام، ونادى: هلموا وجوه العرب، فلم يجبه أحد، فأحس بالداهية، فركب ومعه ولده، وخمسة عشر غلاماً له، وجمعوا الرحال، والجمال، والبغال، فلو ثبت مع الرجالة لم نقدر عليه، ولكنه برز إلينا يطاردنا.
قال: فقتل ولده، وأحد غلمانه، وانهزم يسيراً، فقال له غلام له: أين قولك؟ :
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: قتلتني، قتلك الله، والله، لا انهزمت اليوم، ثم رجع كاراً علينا، فطعن زعيمنا في عنقه، فقتله، واختلفت عليه الرماح، فقتل.
فرجعنا إلى الغنائم، وكنت جائعاً، فلم يكن لي هم إلا السفرة، فأخذت آكل منها.
فجاء أبي، فضربني بالسوط، وقال: الناس في الغنائم، وأنت مع بطنك؟ اكفأ ما في الصحاف، وأعطنيها، فكفأت ما فيها، ودفعتها إليه، وكانت فضة، ورميت الفراخ والدجاج في حجري.
والقول الثالث: إن المتنبي هجا ضبة الأسدي، فقال:
ما أنصف القوم ضبة ... وأمه الطرطبة
فبلغته، فأقام له في الطريق من قتله، وقتل ولده، وأخذ ما معه، وكان ضبة يقطع الطريق.
بحث في آل الكرخي
حدث أبو علي المحسن قال: القاسم بن علي بن محمد الكرخي، وأخوه أبو أحمد، وابناه جعفر ومحمد، تقلدوا الدنيا.
لأن القاسم تقلد كور الأهواز، وتقلد مصر والشام، وتقلد ديار ربيعه.
وتقلد ابنه جعفر كور الأهواز، وتقلد فارس وكرمان وتقلد الثغور، وأشياء أخر.
وتقلد أبو جعفر محمد بن القاسم الجبل، وديوان السواد، دفعات، وقطعة من المشرق كبيرة، وتقلد البصرة والأهواز مجموعة، ثم تقلد عدة دواوين كبار جليلة بالحضرة، ثم تقلد الوزارة للراضي، ثم الوزارة للمتقي.

وإذا أضيف إليهم من تقلد من وجوه أهلهم وكبارهم، لم يخل بلد جليل، من أن يكون واحد منهم تقلده.
وإنما سموا الكرخيين، لأن أصلهم من ناحية الرستاق الأعلى بالبصرة من عراص المفتح تعرف بالكرخ باقية إلى الآن، إلا أنها كالخراب، لشدة اختلالها.
وقد تقلد البصرة غير واحد منهم، وقطعاً من الأهواز، تقلد البصرة أبو أحمد أخو القاسم الكرخي، وتقلد مصر أيضاً.
وتقلد قطعة من الأهواز، في أيام السلطان، أبو جعفر الكرخي المعروف بالجرو، وهذا الرجل مشهور بالجلالة فيهم قديماً، وكان مقيماً بالبصرة، وشاهدته أنا، وهو شيخ كبير، وقد اختلت حاله، فصار يلي الأعمال الصغار، من قبل عمال البصرة.
وكان أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي، لما ملك البصرة، صادره على مال أفقره، وسمر يديه في حائط، وهو قائم على كرسي، فلما سمرت يداه بالمسامير في الحائط، نحي الكرسي من تحته، وسلت أظافيره، وضرب لحمه بالقصب الفارسي، ولم يمت، ولا زمن، ورأيته بعد ذلك بسنين صحيحاً.
ولا عيب فيهم، إلا ما كانوا يرمون به من الغلو، فإن القاسم وولديه، استفاض عنهم، أنهم كانوا مخمسة، يعتقدون أن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين، ومحمد صلوات الله عليه، خمسة أشباح أنوار قديمة، لم تزل، ولا تزال، إلى غير ذلك من أقوال هذه النحلة، وهي مقالة مشهورة.
وكان القاسم ابنه، من أسمح من رأينا في الطعام، وأشدهم حرصاً على المكارم، وقضاء الحاجات.
وكان لأبي جعفر، محمد بن القاسم، على ما بلغني، في غير عمل تقلده وخرج إليه، ستمائة دابة وبغل، ونيف وأربعون طباخاً.
ثم آلت حاله في آخر عمره إلى الفقر الشديد، ومات بعد سنة 340 في منزله ببغداد.

ما شاهدنا أحفظ من أبي بكر الجعابي
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، عن أبيه، قال: ما شاهدنا أحفظ من أبي بكر الجعابي، وسمعت من يقول: إنه يحفظ مائتي ألف حديث، ويجيب في مثلها، إلا أنه كان يفضل الحفاظ، بأنه كان يسوق المتون بألفاظها، وأكثر الحفاظ يتسمحون في ذلك، وكان يزيد عليهم بحفظ المقطوع، والمرسل، والحكايات، ولعله يحفظ من هذا، قريباً مما يحفظ من الحديث المسند.
وكان إماماً في المعرفة بعلل الحديث، وثقات الرجال، ومعتلهم، وضعفائهم، وأساميهم، وأنسابهم، وكناهم، ومواليدهم، وأوقات وفاتهم، ومذاهبهم، وما يطعن به على كل واحد، وما يوصف به من السداد.
وكان في آخر عمره قد انتهى هذا العلم إليه، حتى لم يبق في زمانه من يتقدمه فيه في الدنيا.
من شعر أبي نصر القاضي
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثني التنوخي، قال: أنشدني أبو الحسن أحمد بن علي البتي، قال: أنشدني أبو نصر يوسف بن عمر القاضي لنفسه:
يا محنة الله كفي ... إن لم تكفي فخفي
ما آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... فقيل لي قد توفي
ثور ينال الثريا ... وعالم متخفي
الحمد لله شكراً ... على نقاوة حرفي
من شعر الزاهي
أنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا محمد بن عبيد الله بن حمدان الكاتب النصيبي، قال: أنشدني علي بن إسحاق بن خلف، الزاهي البغدادي القطان، لنفسه، وكان دكانه في قطيع الربيع:
قم نهني عاشقين ... أصبحا مصطلحين
جمعا بعد فراق ... فجعا منه وبين
ثم عادا في سرور ... من صدود آمنين
فهما روح ولكن ... ركبت في جسدين
قال لي التنوخي: مات الزاهي بعد سنة ستين وثلثمائة.
من شعر أبي فراس الحمداني
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أنشدنا القاضي علي بن المحسن التنوخي، قال أنشدنا أبو الفرج بن الببغاء، قال: أنشدنا أبو فراس، وكتب بها إلى غلامين له، وهو مأسور:
هل تحسان لي رفيقاً رفيقا ... يحفظ الود أو صديقاً صديقا
لا رعى الله يا حبيبيّ دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
كنت مولاكما وما كنت إلا ... والداً محسناً وعماً شفيقا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8