كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

وحصلت للديلم ممالك، غير ممالك الأمراء من بني بويه، كثيرة، بعد أن كان الناس يتمثلون إذا ظلموا، فيقولون: أي شيء خبرنا؛ في يد الديلم نحن أم في يد الأتراك؟ فصاروا في ممالكهما وأيديهما.
ونسأل الله السلامة.

مثل آخر على تيقظ المعتضد وعلو همته
حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكان ينادم المعتضد، ويتجاسر عليه، قال: كنا نشرب يوماً مع المعتضد، حتى دخل عليه بدر، فقال: يا مولاي، قد أحضر القطان الذي من بركة زلزل.
قال: فترك مجلس النبيذ، وقام إلى مجلس في آخر ذلك المجلس، ودونه، ونحن نراه ونسمع كلامه، ومدت بيننا وبينه ستارة، ولبس قباء، وأخذ بيده حربه، وجلس كالمغضب المهول، حتى فزعنا نحن منه، مع أنسنا به.
وأدخل إليه شيخ ضعيف، فقال له بصياح شديد: أنت القطان الذي قلت أمس ما قلت؟ فغشي على القطان، فأمر به فعزل ناحية.
فلما سكن جاءوه به، فقال: ويلك، مثلك يقول ليس للمسلمين ناظر في أمورهم، فأين أنا؟ وأي شغل شغلي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل سوقي، لا أعرف غير الغزل والقطن ومخاطبة النساء والعامة، وإنما اجتاز بنا رجل بايعنا شيئاً كان معه، فوجدنا ميزانه ناقصاً، فقلت هذا الكلام، وعنيت به المحتسب لا غيره.
فقال له المعتضد: الله، إنك أردت به المحتسب؟ فقال: والله ما عنيت غيره، وأنا تائب أن أتكلم بما يشبه هذا.
فقال: يحضر المحتسب، ويبالغ في الإنكار عليه لم غفل عن إنكار مثل هذا، ويؤمر بتعييره، وتتبع الطوافين، وأهل الأسواق، والتعيير عليهم.
وقال للشيخ: انصرف، لا بأس عليك، ودخل، فضحك، وانبسط، وعاد يشرب.
فلما حمل علي النبيذ، قلت له: يا مولاي، تعرف فضولي، فتأذن لي في أن أقول؟ فقال: قل.
قلت: كان مولانا في أطيب شرب، وأتم سرور، فتركه، وتشاغل عنه بخطاب كلب من السوقة، كان يكفيه أن يصيح عليه راجل من رجالة صاحب الربع صيحة، ولم يقنع مولانا في أمره بالوصول إلى حضرته، حتى غير له لبسته، وشهر سلاحه، واستقصى خطابه بنفسه، لأجل كلمة تقول العامة مثلها دائماً، ولا يميزون معناها.
فقال: يا حسن، أنت لا تعلم ما يجر هذا الكلام، إن مثل هذا إذا انتشر على ألسنة العوام، تلقفه بعضهم من بعض، وتجرأوا عليه، وربوا على قوله، حتى يصير منهم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبعد أن يولد ذلك لهم امتعاضاً عند أنفسهم للسياسة والدين، فتثور الفتن على السلاطين.
وليس شيء أبلغ في حسم ذلك، من قطع مادته من الأصل في أوله.
فإن هذا، مما جرى عليه، قد طارت روحه، فهو يخرج، ويحدث بأضعاف ما لحقه من الإنكار، وأكثر مما شاهده من الهيبة والفخامة، وفوق ما سمعه من المطالبة بموجبات السياسة، ومر الحقيقة ، فينتشر عند العوام ما نحن عليه من التيقظ، وإن كلمة تكلم بها الرجل منهم لم تخف علي، وما غفلت عن مناظرة صاحبها، وعقابه فيعرفوني بذلك، فيعنيني ذلك عن أفعال كثيرة، ويحذر جميعهم، ويضبط نفسه، وتنحسم مادة شر.
لو جرى، لأحتيج إلى ضروب من الكلف غليظة في صلاحه، قد انحسمت بيسير من القول والفعل.
فأقبلنا ندعو له ونطريه أنا والجماعة.
مثل على ضبط المعتضد أمر جنده
وتشدده في منعهم من التعدي: حدثني وكيل كان لأبي القاسم ابن أبي علان، سلمه إلي بتوكيل في ضيعتي بالأهواز، وكان ابن أبي علان يقول إنه أسن منه، وكان ثقة، ما علمت، يقال له: ذو النون بن موسى، قال: كنت غلاماً، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوماً من قرية بمناذر يقال لها شانطف، أريد عسكر مكرم، ومعي حمار أنا راكبه، وهو موقر بطيخاً، قد حملته من القرية لأبيعه في البلد، يعني العسكر.
فلقيني جيش عظيم لم أعلم ما هو، وتسرع إلي منهم جماعة، وأخذ واحد منهم ثلاث بطيخات أو أربعاً، وحرك.
فخفت أن ينقص عدده، فأتهم به، فبكيت، وصحت، والحمار يسير بي على المحجة، والعسكر يجتاز عليها.
فإذا بكوبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف، وقال: ما لك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته حالي، فوقف بي، ثم التفت إلى القوم، فقال: هي، علي بالرجل الساعة.
قال: فكأنه كان وراءه، حتى ورد في سرعة الطرف.
فقال: هذا هو يا غلام؟ فقلت: نعم.
فأمر به فبطح وضرب المقارع، وهو واقف، وأنا على حماري، والعسكر واقف.

وجعل يقول، وهو يضرب: يا كلب، يا كذا وكذا، ما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ ما كان في حالك فضل لشرائه؟ ما قدرت تمنع نفسك منه؟ هو مالك؟ مال أبيك؟ أليس هو الرجل الذي قد تعب بنفسه في زرعه، وسقيه، وماله، وأداء خراجه؟ أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ يعدد عليه أشياء من هذا الجنس، والمقارع تأخذه، إلى أن ضربه نحو مائة مقرعة.
ثم أمره برفعه، فرفع، وسار، وسار الناس.
فأخذ الجيش يشتمونني، ويقولون، يضرب فلان بسبب هذا الأكار الخوزي، لعنه الله، مائة مقرعة.
فسألت بعضهم عن الخبر، فقال: هذا الأمير أبو العباس.

شدة ضبط المعتضد عسكره
حدثني عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، قال: كان المعتضد، في بعض متصيداته، مجتازاً بعسكره، وأنا معه، فصاح ناطور في قراح قثاء، فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه.
فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء شيئاً.
فقال: أطلبوهم، فجاءوا بثلاثة أنفس.
فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم.
فقيدهم في الحال، وأمر بحبسه.
فلما كان من الغد، أنفذهم إلى القراح، فضرب أعناقهم فيه، وسار.
فأنكر الناس ذلك، وتحدثوا به، ونفرت قلوبهم منه.
ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة، فقال لي: يا أبا عبد الله هل يعيب الناس علي شيئاً؟ عرفني حتى أزيله.
قلت: كلا، يا أمير المؤمنين.
فقال: أقسمت عليك بحياتي، إلا ما صدقتني.
قلت: وأنا آمن؟ قال: نعم.
قلت: إسراعك إلى سفك الدماء.
قال: والله، ما هرقت دماً منذ وليت هذا الأمر، إلا بحقه.
قال: فأمسكت إمساك من يتبين عليه الكلام.
فقال: بحياتي ما يقولون؟ قلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة.
قال: دعاني إلى الإلحاد، فقلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، فإذا غضبت لم ترض، فلم يصح إطلاقه.
فسكت، سكوت من يريد الكلام.
فقال لي: في وجهك كلام.
فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة أنفس، الذين قتلتهم في قراح القثاء.
فقال: والله، ما كان أولئك المقتولين هم الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصاً حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثاء، فأردت أن أهول على الجيش، بأن من عاث من عسكري، وأفسد بها القدر، كانت هذه عقوبتي له: القتل، ليكفوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال، وإني حبستهم، وأمرت بإخراج اللصوص في غد مغطين الوجوه، ليقال إنهم أصحاب القثاء، ويقتلون بفعل ذلك.
فقلت: كيف تعلم العامة هذا؟ قال: بإخراجي القوم الذين أخذوا القثاء، أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة.
ثم قال: هاتم القوم، فجاءوا بهم، وقد تغيرت حالهم من الحبس والضرب.
فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصوا عليه قصة القثاء.
فقال لهم: أفتتوبون من مثل هذا الفعل، حتى أطلقكم؟ فقالوا: نعم.
فأخذ عليهم التوبة، وخلع عليهم، ووصلهم، وأمر بإطلاقهم، ورد أرزاقهم عليهم.
فانتشرت الحكاية، وزالت عنه التهمة.
بين المعتضد ونديمه ووزيره
حدثني أبي، عن أبي محمد، عبد الله بن حمدون، قال: قال لي المعتضد، يوماً، وقد قدم إليه عشاء على النبيذ: لقمني.
قال: وكان الذي قدم إليه فراريج، ودراريج، فلقمه من صدر فروج.
فقال: لا، لقمني من فخذه.
فلقمته لقماً.
ثم قال: هات من الدراج، فلقمته من أفخاذها.
فقال: ويلك، هو ذا تتنادر علي؟ هات من صدورها.
فقلت: يا مولاي، ركبت القياس، فضحك.
فقلت له: إلى كم أضحكك، ولا تضحكني؟ قال: شل المطرح، وخذ ما تحته.
قال: فشلته، فإذا بدينار واحد.
فقلت: آخذه هذا؟ فقلت له: بالله، هوذا تتنادر أنت الساعة علي؟ خليفة يجيز نديمه بدينار واحد؟ فقال: ويلك، لا أجد لك في بيت المال حقاً أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئاً، ولكن هوذا، أحتال لك بحيلة، تأخذ فيها خمسة آلاف دينار.
فقبلت يده.
فقال: إذا كان غداً، وجاء القاسم فهو ذا أسارك حين تقع عيني عليه، سراراً طويلاً، ثم ألتفت إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه من خلال ذلك، كالمخالس لي، نظر المترثي.
فإذا انقطع السرار، فستخرج، ولا تبرح من الدهليز.

فإذا خرجت، خاطبك بجميل، وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلة، وقلة حظك مني، وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك، واطلب كل ما تقع عينك عليه، فإنه لا يمنعك، حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار.
فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى بيننا، فاصدقه، وإياك أن تكذبه، وعرفه أن ذلك، حيلة مني عليه، حتى وصل إليك هذا، وحدثه بالحديث على شرحه، وليكن إخبارك إياه، بعد امتناع شديد، وإحلاف منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه، وبعد أن تخرج من داره، كل ما يعطيك إياه.
فلما كان من غد، حضر القاسم، فحين رآه، بدأ يساررني، وجرت القصة، على ما واضعني عليه، فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني.
فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ لا تجيئني، ولا تزورني، ولا تسألني حاجة، فأقضيها لك، فدعوت له.
فقال: ما يقنعني إلا أن تزورني اليوم، ونتفرج.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فأخذني إلى طياره، وجعل يسألني عن حالي، وأخباري، فاشكو إليه الخلة، والإضافة، والدين، وجفاء الخليفة، وإمساك يده، فيتوجع، ويقول: يا هذا، مالي مالك، ولن يضيق عليك، ما اتسع علي ولا تتجاوزك نعمة تخلصت إلي، أو يتخطاك خط نازل بفنائي، ولو عرفتني لعاونتك، وأزلت هذا عنك.
فشكرته وبلغنا إلى داره، فصعد، ولم ينظر في شيء، وقال: هذا يوم أحتاج أن اختص فيه بالسرور بأبي محمد، فلا يقطعني عنه أحد.
فأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني، وقدمت الفاكهة، فجعل يلقمني بيده، وجاء الطعام، فكانت فكانت هذه سبيله، وهو يستزيدني.
فلما جلس للشرب، وقع لي بثلاثة آلاف دينار مالاً، فأخذتها في الوقت.
وأحضرني ثياباً، وطيباً، ومركوباً، فأخذت ذلك.
وكانت بين يدي صينية فضة، فيها مغسل فضة، وخرداذي بلور، وكوز وقدح بلور، فأمر بحمله إلى طياري.
وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً، له قيمة وافرة، طلبته منه.
وحمل إلي فرشاً نفيساً، وقال: هذا للبنات.
فلما تفوض المجلس، خلا بي، وقال: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوقي عليك، مودتي لك.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فقال أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف لي أنك تصدقني عنه.
فقلت: السمع والطاعة، فأحلفني بالله، وبالطلاق، والعتاق، على الصدق.
ثم قال لي: بأي شيء ساررك الخليفة اليوم في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى، حرفاً بحرف.
فقال: فرجت عني، وأن يكون هذا كهذا، مع سلامة نيته لي، أسهل علي.
فشكرته، وودعته، وانصرف إلى بيتي.
فلما كان من الغد، باكرت المعتضد، فقال: هات حديثك.
فسقته إلى آخره.
فقال: احتفظ بالدنانير، ولا يقع لك، أنك تعامل بمثل هذا بسرعة.
وحدثني أبو السري، محمد بن عمر التازي البغدادي، ويعرف بابن عتاب السقطي، قال: حدثني أبو الطيب واثق بن رافع، مولى ابن أبي الشوارب، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، بهذا الحديث، فأورده بغير هذه الألفاظ، والمعنى واحد.
إلا أنه ليس في حكاية واثق، العشاء بالفراريج والدراريج، ولا أن المعتضد وهب له ديناراً.
وأول حكاية واثق عن ابن حمدون، قال: شكوت إلى المعتضد، ديني وإضاقتي، فقال: أما مالي فلا أطمع لك فيه، ولكن أعمل لك حيلة، وذكر الحكاية.
عاشق تسبب في قتل حبيبته وزوجها ومن الأخبار المفردات، والإتفاقات التي سمعناها، وشاهدنا بعضها، ما أخبرني به أبو القاسم الجهني قال: كان في جواري ببغداد، امرأة جميلة مستورة، ولها ابن عم يهواها، كان ربي معها، فعدل بها أبوها عنه، إلى رجل غريب، زوجه بها، فكان ابن العم، يلزم بابها، طمعاً فيها، وأحس الزوج بذلك، فكان يتحرز، وكان خبيثاً.
فخرج يوماً في بعض شأنه، وأرادت المرأة أن تتبرد، فنزعت ثيابها، وجلست عند البئر تغتسل، وتركت خواتيم الذهب، كانت في يدها، عند ثيابها في الدار، وكانت لطيفة، وفيها عقعق مخلى في الدار، فأخذ الخواتيم، وخرج وهي في منقاره، إلى الباب، على عادة العقاعق، في أخذ كلما يجدونه وخبئه.
فوافق خروجه، اجتياز ابن عمها، ورأى الخواتيم، فسعى خلف العقعق، وأخذها منه، ولبسها، وقعد بالباب، ليراه زوج المرأة، فيظن أنه كان عندها، فيطلقها، فيتمكن هو من تزوجها.

فجاء الزوج، فقام ابن العم مسلماً عليه، وتعمد أن يرى الخواتيم في يده وانصرف، فعرفها الزوج، ودخل، فرأى امرأته تغتسل، فلم يشك إنه غسل جنابة، وأن ابن العم قد، قد وطئها.
فقال لجارية كانت معهم: اذهبي في حاجة كذا، فمضت فيها، وغلق الباب، وأضجع المرأة، ولم يسلها عن شيء، وقتلها.
وعادت الجارية، فرأت ستها مقتولة، فريعت، وخرجت، وصاحت، فبدر الجيران به، وأهلها، فقبضوا عليه، وحمل إلى السلطان، فقتل بها.
فأخرج ابن العم الحديث، وكان ذلك سبب توبته، ولزم العبادة، وترك الدنيا إلى أن مات.

كلب يكشف عن قاتل سيده
ومنها: إن مبشر الرومي، مولى أبي، حدثني: إنه سمع مولى كان له قبل أبي، يعرف بأبي عثمان، زكريا المدني، ويقال له: ابن فلانة، وكان هو تاجراً جليلاً، عظيماً، كثير المال، مشهوراً بالجلالة، ولاثقة، والأمانة، يحدث: إنه كان في جواره ببغداد، رجل من أصحاب العصبية، يلعب بالكلاب.
فأسحر يوماً في حاجة، وتبعه كلب كان يختصه من كلابه، فرده، فلم يرجع، فتركه.
ومشى، حتى انتهى إلى قوم كانت بينه وبينهم عداوة، فصادفوه بغير حديد، فقبضوا عليه، والكلب يراهم، فأدخلوه، فدخل معهم، فقتلوه، ودفنوه في بئر في الدار، وضربوا الكلب، فسعى، وخرج وقد لحقته جراحة، فجاء إلى بيت صاحبه يعوي، فلم يعبأوا به.
وافتقدت أم الرجل، ابنها، يومه وليلته، فتبينت الجراحة بالكلب، وأنها من فعل من قتل ابنها، وأنه قد تلف، فأقامت عليه المأتم، وطردت الكلاب عن بابها.
فلزم ذلك الكلب الباب، ولم ينطرد، فكانوا يتفقدونه في بعض الأوقات.
فاجتاز يوماً، بعض قتلة صاحبه بالباب، وهو رابض، فعرفه الكلب، فخمش ساقه، ونهشه، وعلق به.
واجتهد المجتازون في تخليصه منه، فلم يمكنهم.
وارتفعت ضجة، وجاء حارس الدرب، فقال: لم يتعلق هذا الكلب بالرجل، إلا وله معه قصة، ولعله هو الذي جرحه.
وخرجت أم القتيل، فحين رأت الرجل، والكلب متعلقاً به، وسمعت كلام الحارس، تأملت الرجل، فذكرت أنه كان أحد من يعادي ابنها ويطلبه، فوقع في نفسها إنه قاتل ابنها، فتعلقت به، وادعت عليه القتل، وارتفعا إلى صاحب الشرطة، فحبسه، بعد أن ضرب، ولم يقر، ولزم الكلب باب الحبس.
فلما كان بعد أيام، أطلق الرجل، فحين أخرج من باب الحبس، علق به الكلب، كما فعل أولاً، فعجب الناس من ذلك.
وأسر صاحب الشرطة، إلى بعض رجالته، أن يفرق بين الكلب والرجل، ويتبع الرجل ويعرف موضعه، ويترصده، ففعل ذلك.
فما زال الكلب، يسعى خلف الأول، والراجل يتبعه، إلى أن صار في بيته.
وأقبل الكلب يصيح، ويبحث في موضع البئر التي طرح فيها القتيل.
فقال الشرطي: انبشوا موضع نبش الكلب، فنبش، فوجد الرجل قتيلاً.
فأخذ الرجل، وضرب، وأقر على نفسه، وعلى جماعة بالقتل، فقتل هو، وطلب الباقون، فهربوا.
خبأ ماله في برنية
فعجل ذلك في سرقتها: ومنها، إن أبا الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، حدثني، قال: كان لنا صديق، مستظهر على الزمان، قد سلم على الحوادث، عمره كله.
فلما تواترت الكبسات ليلاً ببغداد، خاف على مال عنده عتيد، فجعل ثلاثة آلاف دينار عيناً، في برنية، وحفر لها في عرض حائط، كان بين بيتين من داره، وكانت الحفيرة قريبة من زاوية الحائط، والزاوية على الطريق، ومضى على هذا مدة.
فجاء اللصوص، ينقبون على داره، فوقع نقبهم على زاوية، فقدروا أن الحائط عرضاً، فنقبوا في طوله من حيث الزاوية، فوصلوا إلى البرنية، فأخذوها.
فلما شاهدوا ما فيها اكتفوا به، وانصرفوا، ولم يدخلوا الدار.
وتضعضعت حال الرجل.
الأمير عماد الدولة بن بويه
تقع عليه حية فيجد كنزاً: ومنها: ما حدثني به أبو الحسن بن مهذب القزويني، كاتب سوريل أحد قواد الديلم، قال: لما ملك الأمير عماد الدولة، أحمد بن بويه، شيراز، ظهر له من الكنوز القديمة، والقريبة، أمر عظيم، على أوصاف طريفة.
فكان منها: إنه دخل مستراح دار الإمارة، التي يسكنها، فسقطت عليه حية من سقف المستراح، وكان أزجاً عتيقاً، فارتاع لذلك، وأمر بنقضه، فوجد خمسين ألف دينار عيناً.
الأمير عماد الدولة يجد كنزا
ً
في خان مهجور: قال: وكنت قائماً بحضرته يوماً، فسعي إليه ببيت في خان في السوق، وأن فيه ودائع عظيمة القدر، لبعض أصحاب ياقوت.
فقال لي: امض فخذها.

فجئت، وفتحت الباب، وإذا بشيء كثير، فاستدعيت كاتباً آخر، وجلسنا نحصي.
فوقعت عيني على بيت في آخر الخان، مقفل بعدة أقفال، قد رثت، لعتقها، ووقع في نفسي أن فيه وديعة أخرى لبعض أصحاب السلطان.
فقلت للخاني: لمن هذا البيت، وأي شيء فيه؟ فقال: لا أدري، إلا أنه مقفل منذ أكثر من ثلاثين سنة.
فقوي طمعي فيه، فقلت: افتحوه، ففتحوه، فلم يجدوا فيه شيئاً.
فاستربت بالأمر، وقلت: بيت عليه عدة أقفال، طول هذه السنين، فارغ؟ هذا محال، فتشوه.
وفتش بدن الحائط، فلم يجدوا شيئاً.
فقلعت بارية فيه، وأمرت بالحفر، فحفر، ولم نر شيئاً.
وعزمنا على الإنصراف، فوجدنا خمس قماقم مملوءة دنانير، فحملناها إلى الأمير، وحدثته بالحديث، فوهب لي منها، ألف دينار.
الأمير معز الدولة يستخرج كنزاً من المدائن
ومن ذلك: ما اخبرني به الحسن بن محمد الحسين الجبائي، قال: حدثني أبو الحسن الدامغاني، صاحب معز الدولة: إنه كان جالساً في الدهليز، في يوم نوبة، فجاء رجل يصيح: نصيحة.
فقلت له: ما هي؟ قال: لا أخبر بها إلا الأمير.
فدخلت، فعرفته، فقال: هاته، فأدخلته إليه.
فقال: أنا رجل صياد بناحية المدائن، وكنت أصيد، فعلقت شبكتي في أسفل جرف بشيء، ولم أدر ما هو، فخلصتها، فتعذرت، فغصت في الماء، فوجدتها متعلقة بعروة حديد، فحفرت، فإذا بقمقم مملوء، فرددته إلى مكانه، وجئت أعرف الأمير.
فقال لي: انحدر الساعة معه، وأحضرني المال، ورد الرجل إلي على حاله.
فانحدرت، وجئت إلى المدائن العتيقة، والجرف، ووجدنا القمقم بحاله، كما قال الرجل.
فتتبعت نفسي الطلب، وأمرت بأن يحفروا، ويطلبوا.
فحفروا، وأطالوا الحفر كثيراً، فوجدنا ثمانية قماقم أخر، مالاً.
فحملت الجميع، والرجل، إلى الأمير، وحدثته بالحديث، ففرح بذلك، وقال: أعطوا الرجل من المال عشرة آلاف درهم، واصرفوه.
فقال الرجل: لا أريد ذلك، ولا حاجة لي إليه.
فقال له الأمير: ولم؟ قال: أريد أن تهب لي الصيد في تلك الناحية، وتأمر بأن يمنع كل أحد من أن يصطاد فيها غيري.
فضحك الأمير، وجعل يعجب من حماقته، وقال: اكتبوا له بما سأل.
فكتب له بذلك.

كردك النقيب الديلمي
يغتال مستأمناً طمعاً في ماله: ومنها: ما جرى في عصرنا، وأخبرت به، من أمر كردك النقيب: وذلك، إن معز الدولة، أنفذه إلى رجل بعمان، يقال له النوكاني، كان قد ملكها عقيب انقراص بني وجيه، ملوكها، فراسله في تسليمها إليه، وتهدده بالجيش.
وكان الرجل تاجراً موسراً، إلا أن أهل البلد ملكوه، فملك.
فلما جاءته الرسالة، انحل، وأجاب إلى تسليم البلد.
وخلع على كردك ورده.
فاضطرب أهل البلد عليه، وجيشه، وثاروا به، وقبضوا عليه، وخيروه موضعاً ينفى إليه، فاختار البصرة.
وجمع متاعه، وأمواله، وصكاك ضياعه وعقاره، بعمان، والبصرة، وحسابه، وثبت ودائعه، وذخائره، وكل ما يملكه، قليل، وكثير، وعتيد.
قال: وجعله في مركب، وخطف يريد البصرة، وقد احتوى مركبه على مال كثير.
فلقيه كردك في الطريق يريده، وعنده أنه بعمان، بجواب الرسالة.
فلما رآه طرح إليه، فعرفوه خبره، فوجده في نفر يسير، فطمع فيه، وبات معه في مركبه، ونقل إليه من غلمانه قطعة.
فلما كان الليل، قيده، وطرحه في البحر، واحتوى على جميع ما في المركب، ونقل، إلى مركبه، من الجواهر، والطيب، وفاخر المتاع، والجواري، وما أراد، وترك الباقي في المركب.
وسار حتى أتى معز الدولة، فعرفه ما عمل، وسلم إليه عقود الضياع، وثبت الودائع، واستوهب منه من بقي من الجواري، وأشياء أرادها أيضاً من المتاع، فوهبها له.
وطاح دم الرجل.
وقبض الأمير الضياع، وأمر ببيعها، فبيعت، وقد شاهدت بيعها.
وبلغني، أن المشترين، كانوا يستلمون كتب الرجل بشرائها، فتسلم إليهم.
ابن الحراصة يضمن القمار والفجور ببغداد
وحماية اللصوص بألفي درهم في كل شهر: ومن ذلك: ما كان يجري ببغداد من رجل يعرف بابن الحراصة، نفاط، مع قائد من قواد الديلم، يقال له أبو الحسن شيرمردي بن بلعباس قاضي الديلم.
وكان هذا النفاط، مظهراً للقمار، والعيارة، والفجور، وبيع الخمور، وتأوي إليه اللصوص، فلا ينكر أحد ذلك عليه، لأجن شيرمردي، وضمانه ذلك منه، بألفي درهم، في كل شهر.

وبلغني: أنه كان إذا عجز عليه مال الضمان، قبض على من يجتاز ببابه، ويدخلهم فيها، ويقال لهم: إما وطئتم ما تريدون، وزنتم كذا وكذا، أو لا، فزنوه وانصرفوا، ولا يخرجون إلا بذلك.
وكان ينزل الجانب الشرقي، بقرب الجسر، وباب الطاق، في الموضع المعروف ببين القصرين، بدار الجاشياري، على دجلة.

ابن الحراصة ترتكب الفاحشة في داره علانية
فحدثني أبو الحسن، أحمد بن يوسف الأزرق، قال: اجتزت بداره من الشط، فرأيت في صحنها، ظاهراً بغير استتار، نفسين يتجامعان.
فقلت لمن كان معي في السمارية، اعدلوا بنا ننكر هذا.
فطرحنا إليهما، وأخذت الجماعة ترجمهما من الشط، وتستنفر الناس.
فقال بعض من معنا: لعنكما الله، ما كان في الدار بيت تدخلون فيه؟ فذكرت في الحال ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: عند ظهور المنكر، أشد الناس أمراً بالمعروف، من يقول ألا تواريتما، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ونزل إلينا أصحاب ابن الحراصة، فخفنا منهم على نفوسنا، وجلسنا في السمارية،وانصرفنا.
فلم يزل كذلك، إلى أن زاد، وأكثر على معز الدولة في استقباح ذلك، فأمر بكبسه، فهرب، وتفرقت جموعه.
إمرأة تشوي ولدها وتأكله
ومنها: إن أحمد بن إبراهيم الجعفي، أحد شهودي - كان - بقصر ابن هبيرة، وأنا أتقلدها، إذ ذاك، أخبرني: إنه شاهد في وقت الغلاء الشديد الذي كان ببغداد، ونواحيها، في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، امرأة قد شوت ولدها، وجلست تأكله.
ففطن المسلمون بها، فأخذوها، وبقيت معها حتى حملوها إلى السلطان، فقتلها.
وقد أخبرني عدد كثير من أهل بغداد، أن هذا جرى عندهم في هذا الوقت، وأنهم شاهدوه.
واختلف علي قول بعضهم، لأن فيهم من قال: شوت ابناً لجارة كانت لها، ومنهم من قال: ابناً لها، ومنهم من قال: ابنة جارتها.
وأي شيء حصل له من ذلك، فهو طريف عظيم.
عشرون ألف درهم
ثمن كر واحد من الحنطة: حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي، قال: حدتني أبو عبد الله الموسوي العلوي، البغدادي: إنه باع في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، عند اشتداد الغلاء، على معز الدولة، وهو محاصر، مقيم بظاهر بغداد من الجانب الغربي، كراً معدلاً حنطة، بعشرين ألف درهم.
قال: ولم أخرج الغلة حتى تسلمت المال، وحصل في داري، ثم أخرجت الغلة فاكتالوها، وأخذوها.
فنعوذ بالله من مثل هذه الأحوال.
أبو الفرج الببغاء يمتدح الأمير سيف الدولة
أنشدني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المعروف بالببغاء، لنفسه قصيدته إلى سيف الدولة، يذكر وقعة كانت له مع بعض العرب، وهي:
عدل الصوارم أعدل الأحكام ... وشبا الأسنة أكتب الأقلام
أخلق بمن كفر الغنى أن يغتدي ... كفرانه سبباً إلى الإعدام
من كان في الإكرام مفسدة له ... فهوانه أولى من الإكرام.
هذا البيتان من الأمثال الجياد، التي يجب أن تسير.
وفي هذه القصيدة أشياء حسان، منها قوله:
فتركتهم صرعى كأنك بالظبي ... عاطيتهم في الروع كأس مدام
متهاجرين على الدنو كأنما ... أنفت رؤوسهم من الأجسام.
الجزء الثاني
علو نفس أبي جعفر القاضي
حدثني أبي، رضي الله عنه، قال: حدثني سهل بن عبد الله الإيذجي،وكان أحد شهودها ووجوهها، ويخلفني على القضاء، وغيري، بها طويلاً، قال: حدثني أبي، وكان رئيس البلد، ومن وجوه شهوده: أن أبا جعفر، محمد بن منصور القاضي، لما تقلد كور الأهواز، من قبل المتوكل، أول دفعة، ووردها، احب أن يطوف عمله.
قال: وكان شديد الشرف، عظيم النعمة والنفقة في مروءته، حتى إنه كان يستعمل في مطبخه، بدلاً من الشيرج، دهن اللوز والجلوز.
وكان في داره رحى لطيفة، يديرها حمار له، يستخرج عليها دهن اللوز دائماً.
وكان يستعمل في مطبخه، من اللحم، والدجاج، والفراخ، والحملان، والجداء، أكثر مما يتخذه الوزراء، في كثير من الأمور.
فقدم علينا، فأبعدنا في تلقيه، وسألناه النزول علينا، فامتنع.
وقال: لا يجوز للقاضي أن ينزل على أحد.
فقلنا له: فنفرغ لك أحد المنازل، فكأنه أجاب إلى هذا.
وسبقناه إلى البلد، فأخلينا له داراً من دورنا، وجاء فيها فنزل.

فاجتهدنا في قبول غلمانه لطفاً منا، أو شيئاً، قليلاً أو كثيراً، فامتنعوا، وقالوا: إنه متى علم أنكم فعلتم ذلك، صارت عداوة، وما قبل لأحد من خلق الله شيئاً قط.
فلما كان بعد أسبوع استدعاني، فقال لي: يا أبا محمد، كيف سعر الخبز عندكم؟ فقلت: خمسون رطلاً بدرهم.
فقال: فالدجاج؟ فقلت: ثلاث بدرهم.
فقال: فالفراخ؟ فقلت: ستة بدرهم.
قال: فالجداء؟ فقلت: أجود جدي بدرهمين.
وأخذ يسائلني عن العسل، والسكر، وحوائج السقط، وغير ذلك.
من الفواكه، والثلج، وأنا أخبره بسعر البلد على الحقيقة، بالذي يشترى لنا، ولسائر الناس مثله، ويقول: أهكذا يشترى لكم؟ فأقول: نعم.
فلما استتم الكلام، قال: يا غلام، قل للموكلين، والفراشين، أن يحملوا، ويشدوا الثقل على البغال والجمال، وتقدم إلى الغلمان بالمسير مع السواد، وأن يتخلف معي للركوب من جرت عادته بذلك، وأسرجوا لي الدواب والعمارية، فقلت: أحدث، أعز الله القاضي، أمر؟ .
فقال: نعم، إنني أحاسب وكيلي، في كل أسبوع يوماً، على ما ينفقه في طول الأسبوع، ولما كان البارحة، حاسبته، فرفع إلي من أسعار ما اشتراه، مثل ما ذكرت، فكدت أن أوقع به، ولم أشك في أنكم قد دسستم إلى الباعة، أن يبيعوه بهذا السعر، إرفاقاً لنا، لما امتنعنا من قبول هداياكم، ثم توقفت عن الإيقاع به، إلى أ، أسألك عن الصورة، وأكشف.
فلما جئتني اليوم، وسألتك، وأنت عندي مقبول الشهادة، وقلت لك، أن تخبرني، كيف تشتري أنت وأهل البلد، فأخبرتني أنك وهم تشترون بهذا، علمت أن هذا بلد لا تقوم فيه مروءة لشريف، وأن الضعيف والشريف فيه يتساويان في اللذات والمروءات، فلا حاجة لي بالمقام فيه، ولا بد أن أرحل الساعة، وأجعل مقامي بحيث تبين مروءتي، وتظهر نعمة الله عندي.
قال: ورحل عنا من يومه.

الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن رده
وحدثني أبي، رضي الله عنه، إن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز، حدثه وذكر هو الشاهد وأنسيته أنا، عن أبيه أو بعض أهله، قال: كان محمد بن منصور، يتقلد القضاء بكور الأهواز، وعمر بن فرج الرخجي، يتقلد الخراج بها.
وكانا يتوازيان في المرتبة السلطانية، فلا يذهب القاضي إلى الرخجي إلا بعد أن يجيئه، ويتشاحان على التعظيم. وترد كتب الخليفة إليهما، بخطاب واحد، قال: وتولدت من ذلك، عداوة بينهما، فكان الرخجي يكتب في القاضي، إلى المتوكل، فلا يلتفت إلى كتبه، لعظم محله عند المتوكل، ويبلغ ذلك القاضي، فيقل الحفل به، ويظهر الزيادة في التعاظم عليه.
فلما كان في بعض الأوقات، ورد كتاب المتوكل، على الرخجي، يأمره بأمر في معنى الخراج، وأن يجتمع مع محمد ابن منصور القاضي، ولا ينفرد عنه، وورد بالكتاب، خادم كبير من خدم السلطان.
فأنفذ الرخجي إلى القاضي، فأعلمه، وقال: يصير إلى ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر.
فقال القاضي: ولكن تصير أنت إلى الجامع، فنجتمع فيه، وتردد الكلام بينهما، إلى أن قال الرخجي للخادم: ارجع إلى حضرة أمير المؤمنين،واذكر القصة، وإن قاضيه يريد إيقاف ما أمر به.
وبلغه الخبر، فركب محمد بن منصور، إلى الديوان، ومعه شهوده، فدخله، والرخجي فيه في دست، وكتابه بين يديه، فلما بصروا به، قاموا إليه، إلا الرخجي.
فعدل القاضي عن موضعه في الديوان، فجلس في آخر البساط، بعد أن أمر غلامه، فطوى البساط، وجلس على البارية، وحف شهوده به، وجاء الخادم، فجلس عند القاضي، وأوقفه على الكتاب.
ولم يزل الرخجي، يخاطب القاضي، وبينهما مسافة، حتى فرغوا من الأمر.
فلما فرغوا، قال الرخجي، للقاضي: يا أبا جعفر، ما هذه الجبرية؟ لا تزال تتورع بي، وتتحكك بمنافرتي ومضاهاتي، وتقدر أنك عند الخليفة - أطال الله بقاءه - مثلي، ومحلك يوازي محلي.
قال: وأسرف في هذا الجنس من الفن، وحمي في الخطاب، والقاضي ساكت.
إلى أن قال الرخجي، في جملة الكلام: والخليفة - أعز الله نصره - لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قيام دولته، ولقد أخذت من ماله، ألف ألف دينار،وألف ألف دينار، فما سألني عنها.
وإنما إليك أن تحلف منكراً على حق، أو تفرض على لامرأة على زوجها، أو تحبس ممتنعاً عن أداء حق.
وأخذ يعدد هذا وشبهه، وأبو جعفر، كلما ذكر الرخجي ألف ألف دينار، وثنى القول، يعدد بأصابعه، وقد كشفها ليراها الناس.

فلما أمسك عمر، لم يجب بشيء، وقال: يا فلان الوكيل.
قال: لبيك أيها القاضي.
قال: سمعت ما جرى؟ قال: نعم.
قال: قد وكلتك لأمير المؤمنين وللمسلمين، على هذا الرجل في المطالبة بهذا المال.
فقال له الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين.
قال: والرخجي ممسك، والناس حضور على بكرة أبيهم، لا يدرون ما يريد أن يفعل.
قال: فأخذ محمد بن منصور دواة، وكتب بخطه في مربعة سجلاً بذلك المال.
ورمى به إلى الشهود، وقال: اشهدوا على إنفاذ الحكم بما في هذا الكتاب، وإلزامي فلان ابن فلان، هذا، وأومأ بيده إلى الرخجي، بما أقر به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا كتاب للمسلمين.
وكتب الشهود خطوطهم بالشهادة بذلك، وختموها، وأخذها محمد ابن منصور، وجعلها في كمه، ونهض.
وأخذ الرخجي يهزأ بالقاضي، ويظهر التهاون بفعله ذلك.
وقال له لما أراد القيام، طانزاً: يا أبا جعفر، بالغت في عقوبتي، قتلتني.
فقال أبو جعفر: إي والله.
فما سمعناه أجابه بغيرها، وافترقا، وكتب صاحب الخبر، للوقت إلى المتوكل.
قال: فبلغنا أن كتابه لما عرض على المتوكل، أحضر وزيره، وقال له: يا فاعل يا صانع، أنا أقول لك منذ دهر، حاسب هذا الخائن المقتطع، الرخجي، على أموالنا، وأنت تدافع، حتى حفظها الله علينا، بقاضينا محمد بن منصور، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر.
وقال له: قد ظهرت الآن أموالنا، في سقطات قوله، وفلتات لسانه، وهذه عادة الله عز وجل عند أئمة عباده، أن يأخذ لهم أعداءهم، أكتب الساعة بالقبض على الرخجي، وتقييده، وغله، وحمله.
قال: فخرج الوزير، وهو على غاية القلق، لعنايته بالرخجي، واستدعى خليفته وقال له: أكتب إليه الساعة، قد تسرعت يا مشوم، وقتلت نفسك، ما كان الذي دعاك إلى معاداة القضاة؟، قد جرى كيت وكيت، وأنت مقتول إن لم تتلاف أمر محمد بن منصور، فاجتهد فيه ، وأعلمه، أني هو ذا، أؤخر اليوم فقط، في إنفاذ من يقبض عليه، إلى أن يحكم أمره مع القاضي، وأقول للخليفة: أني قد أنفذت إليه، وأنفذ إليه في غد، من يمتثل الأمر فيه.
فلما ورد كتابه على الرخجي، قامت قيامته، وأحضر من يختص به، فشاوره.
فقال له: تركب الساعة إليه وتطرح نفسك عليه.
قال: فركب إليه، في موكب عظيم، فحجبه القاضي.
فاجتهد في أن يوصله إليه ، فما كان إلى ذلك طريق، فرجع خجلاً.
وقال لأصحابه: ما ترون ؟ فإني أخاف أن يقدم العشية من يقبض علي.
فقالوا له: إن للقاضي رجلاً تانئاً، من أهل البلد، يقال له: فلان، قد اصطنعه، وائتمنه، ويريد قبول شهادته، وهو غالب عليه جداً، فتستدعيه، وتكتب له روزاً بشيء من خراجه، وتسأله أن يوصله إليه، ويستصلحه لك.
فأحضره الرخجي، وكتب له روزاً بألف دينار من خراجه، وسأله ذلك.
فقال له: أما استصلاحه لك، فلا أضمنه، ولكن أوصله إليك.
فقال له: قد رضيت.
فقال: إذا كان وقت المغرب، فانتظرني، وخرج الرجل.
فلما كان وقت المغرب، صار إلى الرخجي، فقال: تلبس عمامة، وطيلساناً، وتركب حماراً، وتجيء.
قال: ففعل ذلك، وركبا بغير شمعة.
وجاء الرجل، فقال للحاجب: استأذن لي على القاضي، ولصديق لي معي، فدخل إليه وخرج فقال: ادخلا.
فحين شاهد القاضي الرخجي، أقبل يصيح ويقول: هذا الحال، وأنت أمين؟ هاه.
ثم قال للرخجي: اخرج عافاك الله عن داري.
قال: فبادر الرخجي، فأكب على رأسه، فلما رآه القاضي قد فعل ذلك، قام إليه فعانقه.
وبكى الرخجي بين يديه، ودفع الكتاب إليه.
قال: فبكى القاضي، وقال: عزيز علي يا هذا، ما كان اضطرك إلى الإقرار؟ فقال: تحتال في أمري.
فقال: والله ما لي حيلة، فإن الحكم كالسهم إذا نفذ لم يمكن رده، فجهد به الرخجي، فما زاده على ذلك، فانصرف بأقبح منصرف.
فلما كان من الغد، ورد خادم، فقبض عليه وغله، وقيده وحمله فعلته في حفظ أموال المسلمين، وقد كنا نأمر بمحاسبته، فيتأخر ذلك لعوائق، والآن فقد أقر طائعاً غير مكره، فما نؤثر معاملته، إلا بما يعمله الواجب، بارك الله عليك، وإن للرجل أملاكاً قبلك، فتنصب من يبيعها، تتحمل ثمنها إلى بيت المال، قضاء لما أقر به.
قال: فنصب محمد بن منصور، من باع أملاك الرخجي في كور الأهواز، على عظمها، وحمل ثمنها إلى بيت المال، فهي الأملاك المبيعة، التي تعرف إلى اليوم بالرخجيات.

وحصل الرخجي في العذاب بسر من رأى.

شيخ أهوازي يسعى
في صرف عامل الأهواز
وحدثني خال والدي، أبو القاسم بن أبي علان، عبد الله بن محمد ابن مهرويه. قال: أخبرني شيخ من شيوخنا، قال: كان عمر بن فرج الرخجي، يتقلدنا في الدفعة الأولى، ثم صرف عنا، وولينا عامل بعده.
فخرجنا في بعض السنين نتظلم، وكانت أملاك عمر عندنا كثيرة، وله البستان المعروف بالتفرج قديماً، الذي في وسط البلد، ويعرف الآن بالبستان الصغير.
قال: فلما حصلنا بحضرة الخليفة نتظلم، عارضنا عمر، وأخذ يكلمنا بكلام عارف بالبلد، محتج بحجاج صحيح يبطل به ظلامتنا.
وكان المتكلم عنا، فلان، رئيسالبلد، أسماه أبو القاسم وأنسيته، فأومأ إلينا أن اسكتوا، فسكتنا.
فقال: أيد الله أمير المؤمنين، قد أضجرناه اليوم بالخطاب، فنعود في مجلس ثان.
فقال: ذاك إليكم.
فانصرفنا، فقلنا له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنكم لا تعلمون ما علمت.
قال: فلما كان عشياً، جئنا إلى منزل عمر، ودخل إليه، ونحن معه، فاستخلاه مجلسه، فأخلاه.
فقال له: يا هذا، إنك أخذت اليوم تسعى على دمائنا، وناظرتنا مناظرة عارف ببلدنا، ولو رددنا عليك، لكنا إما أن نقطعك، أو تقطعنا فنهلك، ولم تكن بك حاجة إلى ما عاملتنا به، ولا فائدة لك.
ولا أنت الآن عاملنا، فيخرج عن يدك ما تنظر لنا به، وإنا قد وردنا ومعنا في أنفسنا أمر، إن عدنا إلى بلدنا بغيره سقط جاهنا، وقال أكثر أهل الكور: خرجوا فما عملوا شيئاً، ولا يخلوا إما أن يكون ما التمسناه حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً، فقطعك لنا عنه ظلم، وإن كان باطلاً، فمنعك لنا منه ذل، وليس يجوز لنا الرجوع إلا به، لأن في رجوعنا ذهاب الجاه، وطمع العمال في نعمتنا، وأنت تعلم ما لك عندنا من الضياع والأموال، وعلي وعلي، قال: وحلف بالطلاق وأيمان البيعة، لئن لم تعاونا غاية المعاونة، وتشهد لنا في المجلس الثاني بكل ما نريده لأخرجن الساعة، وأعملن عملاً بخراجك وضياعك، وما أسقطته عن نفسك أيام تقلدك البلد، من أصول الخراج، واقتطعه من العمالة أيضاً، ويشتمل على ألفي ألف دينار، وأقول للخليفة: إن لك عندنا مبقلة، ستون جريباً، قيمتها ستون ألف دينار - يعني البستان الذي تقدم ذكره - وهو المتوكل، وأقيم هؤلاء شهوداً كلهم، يشهدون عليك بصحة المال، ويواجهونك بما أنسبه إلى أنك أخذته منهم ومن غيرهم، ويحلفون عليه، وأواجهك بالسعاية والوقيعة، بحضرة المتوكل، وأدع ما قدمت له، حتى إذا وقعت في النكبة والمطالبة، رهبني الوزراء أولاً، وكل من يعلم أنني كنت سبب نكبتك، من العمال، وأصحاب الدواوين، وصاروا أعواناً لي وشهوداً، فأبلغ بذلك محبتي، وأرجع إلى منزلي سالماً، وأنت منكوب.
قال: فحين سمع عمر ذلك، اسود وجهه، وقال: أو أيش؟ قال: تحلف أنك تشهد لنا، وتعاوننا.
قال: فحلف على ذلك وقمنا.
فلما كان في المجلس الثاني، حضرنا حضرة المتوكل، وأقبلنا نتظلم، وعمر يشهد لنا، ويصدق قولنا.
فما برحنا إلا بصرف عاملنا، وبالنظر لنا في معظم حوائجنا، واحتسابه لنا بمظالم التمسناها، وبلغنا ما أملناه وقدرناه، وزدنا عليه وخرجنا.
فقال لنا الشيخ: كيف رأيتم هذا الرأي؟ أيما كان أجود، هذا، أو أن نجاح عمر بن فرج في ذلك المجلس، ويحاجنا، ويضرنا بمناظرته، فيضجر الخليفة، فيأمر بإخراجنا، فلا نصل إليه أبداً، ويقول: هؤلاء طامعون بالمال، ونعود بالخيبة إلى منازلنا، بعد السفر والنفقة.
فقلنا له: أحسن الله جزاءك، فأنت أبصر منا بالرأي.
من مكارم أخلاق المأمون
من أحاديث أبي الحسن محمد بن علي بن الخلال البصري، رحمه الله، قال: حدثني أبو القاسم، علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، رحمه الله، قال: قال محمد بن منصور القاضي: التمس أمير المؤمنين المأمون، رجلاً يكون بصحبته في بعض أسفاره، فأشير عليه بي، وكنت حديث السن، فركبت معه في العماريه، فأجلسني عن يمينه، فلما أمسينا غلبني النوم.
فقال لي من غد: نومك يا محمد، نوم الشباب فاجعل الليل أثلاثاً، فثلث للحديث، وثلث للنوم، وثلث للذكر، ثم أدارني فأجلسني عن شماله.
ثم قال لي: أتدري لم أجلستك بالأمس عن يميني؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين.
فقال: إني وجدت في معدتي بله وما تنخمت قط عن يميني.

قال القاضي التنوخي: وكان محمد بن منصور هذا، نبيلاً، جليلاً، ذا مروءة تامة.
؟

مروءة القاضي محمد بن منصور
وأخبرني بعض شيوخنا: أنه لما تولى الحكم بكور الأهواز، دخل إلى جنديسابور، فنظر في حساب وكيله، فإذا هو قد اكتسب عليه بثمن جدي، درهم، وثمن عشرة أفراخ ، درهم.
فقال للموكل له: ألم أتقدم إليك، ألا تبتاع شيئاً، من بائع يعلم أنك وكيلي؟ قال: بلى، وعلى ذلك أعمل.
قال: فلو لم يعلم البائع، أنك وكيلي، لما حاباك هذه المحاباة.
فقال: هذا ما ابتعته بهذا البلد، وهكذا يباع لسائر المبتاعين.
فالتفت إلى بعض شهوده، فقال: أهكذا هو؟ فقالوا: قد حيف عليه، أيها القاضي، إنا لنبتاع الجدي بأربعة دوانيق، ونحوها.
فقال: هذا بلد لا يقيم فيه ذو مروءة.
ثم أسرع بالرحيل عنه.
حرمة القضاء في العهد العباسي
قال التنوخي: وأخبرني بعض شيوخنا، عنه: أنه كان جالساً للحكم، في المسجد الجامع بسوق الأهواز، فاجتاز بباب الجامع عامل الكور، فرأى جميع الناس. فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا القاضي.
قال: هذا كله لأبي جعفر؟ فنقلت الحكاية إليه، فقطع النظر، وانصرف إلى داره، وكتب إلى السلطان يومئذ، يقول: إن فلاناً العامل. اجتاز بي، وأنا أنظر في الحكم في المسجد الجامع، فذكرني بحضرة العامة، بالكنية دون اللقب، ذكر المزري علي، المانع لي من التشريف الذي ألبسنيه أمير المؤمنين، وإن الذي أنظر فيه إنما هو انتزاع أموال الناس، التي فيها يتهالكون، وعليها يتقاتلون، وأنا أنتزعها بالهيبة والكرامة.
فخرج أمر السلطان، بإن يضرب ذلك العامل، على باب المسجد بالأهواز ألف سوط.
فلما وقف على ذلك، خليفة العامل بالحضرة، اجتهد في إزالته بكل حيلة، فما أمكنه.
فبذل للفيج الحامل للكتاب، مائة دينار، ليتأخر عن النفوذ، ليلة واحدة، ثم بادر برسوله إلى العامل، يصف ما جرى، وما فعله من استنظار الفيج، ليقدم الحيلة في الدفع عن نفسه.
فلما ورد الرسول إلى العامل، نهض من وقته، إلى بعض إخوان القاضي، من شهود البلد، وطرح نفسه عليه، ولم يعلم باطن أمره، وسأله إصلاح قلب القاضي له.
فصار معه إلى باب القاضي ليلاً، ولم يزل حتى وصل إليه، وأغرق في الاعتذار إليه، والخضوع له، حتى قال: قد قبلت العذر، وصفحت عن الذنب، فانصرف.
فغاداه الفيج بما أمر به في بابه، فقال: إني قد صفحت عنه.
جزاء الوالي الظالم
قال أبو الحسين محمد بن علي بن إبراهيم بن شعيب، وحدثني القاضي أبو عبد الله الحسين بن شعيب الأرجاني، وكان من شيوخ أهل العلم والرئاسة ببلده: إن عاملاً للمكتفي رحمة الله عليه، بكورة أرجان، طالب بعض أهل الخراج بخراجه، فتغيب عنه، فأمر بإحراق بابه.
فاتصل الخبر بالمكتفي، فأنفذ من قبض على العامل، فضربه على باب المسجد بأرجان، ألف سوط.
الجذوعي القاضي يشهد على الخليفة المعتمد
قال أبو الحسين محمد بن علي، وحدثني أبي رحمه الله، وسمعته من غيره: إن القضاة والشهود، بمدينة السلام، أدخلوا على المعتمد على الله للشهادة عليه في دين كان اقترضه عند الإضاقة بالإنفاق على حرب صاحب الزنج.
فلما مثلوا بين يديه، قرأ عليهم إسماعيل بن بلبل الكتاب، ثم قال: إن أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - يأمركم أن تشهدوا عليه، بما في هذا الكتاب.
فشهد القوم، حتى بلغ الكتاب إلى الجذوعي القاضي، فأخذ بيده وتقدم إلى السرير، فقال: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال: اشهد.
فقال: لا يجوز، أو تقول: نعم، فأشهد عليك.
فقال: نعم، فشهد في الكتاب، ثم خرج.
فقال المعتمد: من هذا؟ فقيل له: هذا الجذوعي البصري.
فقال: وما إليه؟ فقالوا: ليس إليه شيء.
فقال: مثل هذا لا يكون مصروفاً، فقلدوه واسطاً.
فقلده إسماعيل، وانحدر.
فاحتاج يوماً إلى مشاورة الحاكم، في ما يشاور في مثله، فقال: استدعوا القاضي، فحضر، وكان قصيراً، وله دنية طويلة، فدخل في بعض الممرات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفق، وكان شديد التقدم عنده، وكان مخموراً، أو سكراناً، فصادفه في مكان كان خالياً من الممر، فوضع يده على دنيته، حتى غاص رأسه فيها، وتركه ومضى.

فجلس الجذوعي في مكانه، فأقبل غلامه، حتى فتقها، وأخرج رأسه منها، وثنى رداءه على رأسه، وعاد إلى داره، وأحضر الشهود، وأمرهم بتسلم الديوان، ورسل الموفق يترددون، وقد سترت الحال عنه. حتى قال بعض الشهود، لبعض الرسل، الخبر، فعاد إلى الموفق، فأخبره بذلك.
فأحضر صاحب الشرطة، وأمره بتجريد الغلام، وحمله إلى القاضي، وضربه هناك ألف سوط.
وكان والد هذا الغلام من جلة القواد، ومحله محل من لو هم بالعصيان أطاعه أكثر الجيش، فترجل القواد، وصاروا إليه، وقالوا: مرنا بأمرك، فقال: إن الأمير الموفق، أشفق عليه مني. فمشى القواد بأسرهم مع الغلام، إلى باب الجذوعي، فدخلوا عليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة، وقال: لا تضربه.
فقال: لا أقدم على خلاف أمر الموفق.
فقال: فإني أركب إليه، وأزيل ذلك عنه. فركب فشفع له، وصفح عنه.

إيحاشك فقد، وإيناسك وعد
حدثني أبي رضي الله عنه: إن صديقاً لأبي خليفة القاضي، اجتاز عليه راكباً، وهو في مسجده، فسأله أن ينزل عنده ليحادثه.
فقال: أمضي وأعود.
فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد.
أبو خليفة القاضي والكلام المسجوع
قال: وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في ألفاظه.
وكان بالبصرة رجل يتحامق، ويتشبه به، يعرف بأبي الرطل، ولا يتكلم إلا بالسجع، هزلاً كله.
فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة، وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك، وادعت علية الزوجية والصداق، فأقر لها بهما.
فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها.
فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها ولم تفلع مسحات نهرها؟ قال أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها.
قال: لا، أو أرفع ساقها، وأضعه في طاقها.
فأمر به أبو خليفة، فصفع.
أخبرني غير واحد: إن أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلاً يقول: لا تنكر لله قدرة، قال هو: ولا الهندبا خضرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للزردج صفرة، ولا للقفا نقرة. قال: وكان إذا سمع العامة يقولون: ديوك لا تغرق، قال هو: والديك لا تسرق، وسنور لا يزلق، ونور لا يعبق، وذرة لا تسرق، حتى لا تغرق، ولا نار لا تحرق، وخليفة لا يسرق، وقاض لا يحنق.
بين علي بن عيسى وعلي بن الفرات
سمعت بعض شيوخ الكتاب يتحدثون، قالوا: كان أبو الحسن عللي بن عيسى، شديد الإعظام لصناعة الكتابة،شحيحاً على محله منها، غير مسامح لشيء يعاب به، مهما صغر فيها.
وكانت المسابقة فيما بينه وبين أبي الحسن علي بن الفرات فيها، وكان كل واحد منهما، يتقلد ديواناً، في وزارة العباس بن الحسن.
وكان يتصرف في الديوان الذي يتقلده علي بن عيسى، عامل يعنى به ابن الفرات، فقصده علي بن عيسى، وعمل له مؤامرة بمائة ألف دينار في عمله، وعزم على أخذها منحه، وأحضره ، وسلم إليه المؤامرة.
وقال له: إن كان عندك جواب لها، فأجب، وإلا فالتزم المال.
فقال: آخذها من بيتي، وأجيب.
فقال له: خذها.
وأخذها العامل، وجاء إلى ابن الفرات، فشرح له الصورة، وسأله أن ينظر في المؤامرة ويلقنه الجواب على كل باب منها.
فقرأها ابن الفرات، وقال للعامل: لولا الاتفاق، لما انحل عنك منها درهم، ولكن الله سهل لك غلطاً غلط به علي بن عيسى على نفسه فيها، وهو رجل شديد الضن بصناعة الكتابة، غير مسامح لنفسه في العيب بها، وقد غلط غلطاً قبيحاً، لو غلط مثله صغير من الكتاب لافتضح، وبطلت صناعته، وسقط محله، وذاك إنه قد صدر في أول المؤامرة باباً، ذكر فيه ما وصل من فضل الكيل في غلات عملك، وأنك لم تورده، وألزمك مالاً جليلاً عنه، ثم ذكر بعد ذلك، أنك اقتطعت من غلات المقاسمة، أشياء أوردها، وذكر الحجج فيها، وألزمك مالاً جسيماً، هو شطر مال المؤامرة.
وقد كان من قانون الحساب، ورسم الصناعة في مثل هذا، أن يبتدئ بما ثنى به من الاقتطاع الواقع في أصول الغلات، ثم يثني بذكر فضل الكيل.
فإما إذا صدر فضل الكيل، فقد صحح لك الأصول، فإيراده ما اقتطعه من الأصول، ناقض للفعل الأول، وهو خطأً قبيح في الكتبة، مسقط لمحل من يعمله.
وسبيلك أن تمضي إليه وتخلوا به، وتقول: يا سيدي محلك في هذه الصناعة، لا يقتضي ما قد عملته في هذه المؤامرة، وقد أخطأت خطأً قبيحاً، وهو كذا وكذا، وواقفه عليه.
وقل له: لا يخلو أمري معك من حالين:

إما كشفت أمرك للناس، ففضحتك في الصناعة بما تنكبني به من مال، وألزمت بعد ذلك ما يبقى في المؤامرة، وهو يسير.
وإما تفضلت بإبطال هذه المؤامرة، وأبطلت عني مالها، وسترت على نفسك خطأك، وارتفقت مني، مع هذا، بما شئت، وابذل له مرفقاً جليلاً، فإن حذره على صناعته، وحبه للمرفق، سيحمله على إبطال المؤامرة، وتخريقها.
فإن امتنع من ذلك، واقفته على الخطأ بين الملأ، فإنه يوجب عليه أن يسقط عنك ما خرجه في أصول غلات الناحية، وهو شطر المال.
قال الرجل: فمضيت إلى علي بن عيسى سحراً، إلى منزله، فحين رآني، قال: ما عملت في جواب المؤامرة؟ قلت: بيننا شيء أقوله سراً.
قال: أدن.
فدنوت منه، فقلت له ما قاله لي ابن الفرات بعينه، وفتحت المؤامرة، ووقفته على الموضع.
فحين رآه اغتم، وقال: يا هذا، قد وفر الله عليك المرفق، فإن مرفقي في هذا الأمر التيقظ على الخطأ الواقع مني، وستره على نفسي، والحذر من مثله مستأنفاً، وقد أسقط الله عنك جميع المؤامرة، ولن تسمع بعدها لفظة في معناها، والله بيني وبين ابن الفرات، فإن هذا من تعليمه لك، وليس أنت ممن يعرف مثله.
قال: فمضيت من عنده، وقد زالت المطالبة، وربحت المرفق، وعدت إلى ابن الفرات، فحدثته، فضحك.

الوزير ابن الفرات يفحم مناظريه
ويكاد يأكلهم
واخبرني بعض الكتاب، قال: كان ابن الفرات قد صودر على ألف ألف وستمائة ألف دينار، فأدى جميعها في مدة ستة عشر شهراً، من وقت القبض عليه، وكان في الحبس، يتوقع أن يطلق.
فخاف علي بن عيسى، وحامد بن العباس، من إطلاقه، فتشاورا في شيء يستعملانه مع المقتدر، يمتنع معه من إطلاقه.
قال: وكان أبو زنبور، قد استقدم ليحاسب، وكان من صنائع علي بن عيسى في وزارته الأولى.
فلما ولي ابن الفرات، أقره، وأحسن إليه، فكان أبو زنبور يحمل إليه في كل شهر عشرة آلاف دينار، مرفقاً عن أعماله، ويخفيها، فتصل في أعدال البز، وما يشاكل ذلك.
فقال علي بن عيسى، لحامد: ما أشك أن ابن الفرات، قد كان يرتفق من عامل مصر، بمرفق جليل، فنحضر أبا زنبور، ونسأله عن ذلك.
فأحضراه، وسألاه عن مرفقه، فكشف لهما عن الصورة، وصدقهما عنها، ولم يكن فيه من الفضل ما يخفي ذلك، على الرجل ونفسه.
فقال علي بن عيسى: هذا مال عظيم، فخذ خط أبي زنبور، بأنه كان يحمل إليه ذلك، واعرضه على الخليفة.
ففعلا ذلك، وعرضاه عليه، وقالا له: يجب أن يطالب بذلك.
فقال الخليفة: أخرجوه، وطالبوه، بعد أن تناظروه.
قال: فجلس حامد بن العباس، وعلي بن عيسى، ونصر القشوري، وابن الحواري، واحضروا أبا زنبور معهم، واستدعوا ابن الفرات من محبسه ليناظروه.
وكان شفيع المقتدري، يتعصب لابن الفرات، ويعتني بأمره، ويقوم فيما بينه وبين الخليفة، فقال للمقتدر: يا مولاي، إن ابن الفرات منكوب، وهؤلاء أعداؤه، ولعله أن يجيبهم بجواب لك فيه فائدة، فلا يبلغونك إياه، فأنفذ من يحضر المجلس، ويرقي إليك ما يجري.
فقال له: امض أنت وافعل هذا.
قال: فخرج شفيع، فوجد ابن الفرات، في الصحن، وقد أخرج من محبسه، وهو يمشي، ليخل مجلس الوزير.
فقال له: اثبت فإني معك.
فقويت نفسه، ودخل المجلس، وحامد في صدر دست عظيم، برسم الوزارة، في دار الخلافة، وعلي بن عيسى عن يمينه، وبجنبه ابن الحواري، ونصر القشوري عن يساره، وبجنبه أبو زنبور.
فسلم ابن الفرات، وتخطى حتى جلس بين يدي حامد، فرفعه قليلاً.
وخاطبه ابن الفرات بالوزارة، وسلم على علي بن عيسى، وأدار عينه في المجلس، فعرف كل من فيه، إلا أبا زنبور، فإنه كان لغيبته بمصر، لم يشاهده قط.
فقال لمن كان بجانبه: من هذا؟ فقال له: هذا أبو زنبور عامل مصر.
فأحس ابن الفرات، بأنه في بلية سببها أبو زنبور، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
قال: وكان أبو زنبور قصيراً دميماً مقبحاً.
فقال أبو زنبور في الحال: لوددت أن الأرض ابتلعتني فبل ذلك.
قال، فقال له حامد، وعلي بن عيسى: هذا فلان بن فلان، عامل مصر، قد ذكر أنه كان يرفقك في كل شهر، من مال عمله، بعشرة آلاف دينار، تكون لمدة ولايتك، كذا وكذا، وما حملت لبيت المال شيئاً منها، ويجب الآن أداءها، فما تقول؟

فقال لهما: إن هذا - وأومأ إلى أبي زنبور - إن كان قد أمر بالسعاية، بوزير عامله، فكشف ستره في أيام نكبته، وسعى بمرفق أرفقه به في حال ولايته، وأبان بذلك عن قدر عقله، وأمانته، وعقل من يركن إليه مستأنفاً، فإنه قد صدق فيما أخبر به.
ولم أكن لأرتفق هذا منه، لأدع له شيئاً من مال السلطان، ولا لأمكنه من اقتطاعه، وكن لأمهله من وقت إلى آخر، وأزيد في إكرامه، ومخاطبته، وأرفهه عن إنفاذ المستحثين، ومن تلزمه عليهم المؤونة التي لا يجب الاحتساب بمثلها، وكلما يتفق الوزراء من العمال، قديماً، وحديثاً فهذا سبيله.
وإنما صودرت على ألف ألف وستمائة ألف دينار، أديتها صلحاً، عن هذا ومثله وشبهه، وإلا فأي شيء كان موجب مصادرتي إلا عن هذا وما يشبهه؟ فالمصادرة قد غسلت عني هذا كله. ولكن، قد وجب على أبي زنبور من هذا المرفق، باعترافه لمدة عطلتي وحبسي، وهي ستة عشر شهراً، مائة ألف وستون ألف دينار.
فإن كان أرفق الوزير أعزه الله بها، فقد سقطت عنه، والكلام فيها بين الخلفة والوزير، وإن كان لم يحملها إليه، فيجب الآن أن يحملها إلى أمير المؤمنين.
قال: فقام شفيع في الحال.
فقال له علي بن عيسى: إلى أين يا أبا اليسر؟ قال: إلى مولانا، أحكي له ما جرى، فإنه أنفذني لهذا السبب، وأمرني به ومضى.
وحمل ابن الفرات إلى حبسه.
فعاد شفيع وقال: يقول لكم مولانا، لا يبرح أحد منكم، أو تحمل إلي هذه المائة ألف وستون ألف دينار، كيف شئتم.
فقال علي بن عيسى: جئنا به لنصادره، فصادرنا.
فألزموا أبا زنبور معظم المال، وعاونوه بشيء تحمل قسطه حامد، وعلي بن عيسى.
وضمنوا المال، ثم انصرفوا.
؟

أفضل ما يخلف المرء لعقبه
صديقاً وفياً
حدثني أبو القاسم الجهني، قال: كنت بحضرة أبي الحسن بن الفرات، وابن الجصاص حاضر، فتذاكروا ما يعتقده الناس لأولادهم.
فقال ابن الفرات: ما أجل ما يعتقده الناس لأعقابهم؟ فقال بعض من حضر: الضياع.
وقال بعضهم: العقار.
وقال آخرون: المال الصامت.
وقال آخرون: الجواهر الخفيفة الثمن، فإن بني أمية سئلوا: أي الأموال كانت أنفع لكم في نكبتكم؟ فقالوا: الجوهر الخفيف الثمن، كنا نبيعه، فلا نطالب بمعرفة، ولا يتنبه علينا به، والواحدة منه أخف محملاً من ثمنها، وابن الجصاص ساكت.
فقال له ابن الفرات، كالمستهزئ به: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ فقال: أجل ما يعتقده الناس لأولادهم، الصنائع والإخوان، فإنهم إن اعتقدوا لهم ضياعاً، أو عقاراً، أو صامتاً، من غير إخوان، ضاع ذلك وتمحق، وأحدث الوزير أعزه الله بحديث جرى منذ مدة، يعلم معه صدق قولي.
فقال له ابن الفرات: ما هو؟ فقال: الناس يعلمون أني صنيعة أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكان رجلاً مستهتراً بالجوهر، يعتقده لنفسه، وأولاده، وجواريه.
فكنت جالساً يوماً في داري، فجاءني بوابي، فقال: بالباب امرأة تستأذن، في زي رث، فأذنت لها، فدخلت، فقالت لي: تخلي لي مجلسك، فأخليته.
فقالت لي: أنا فلانة، جارية أبي الجيش.
فحين قالت ذلك، ورأيت صورتها، عرفتها، وبكيت لما شاهدتها عليه، ودعوت غلماني ليحضروني ما أغير به حالها.
فقالت: لا تدع أحداً، فإني أظنك دعوته لتغيير حالي، وأنا في غنية وكفاية، ولم أقصدك لذلك، ولكن لحاجة هي أهم من هذا.
فقلت: ما هي؟ فقالت: تعلم أن أبا الجيش، لم يكن يعتقد لنا إلا الجوهر، فلما جرى علينا بعده من طلب السلطان، ما جرى، وتشتتنا، وزال عنا ما كنا فيه، كان عندي جوهر قد سلمه إلي، ووهبه لي، ولابنته مني فلانة، وهي معي هاهنا.
فخشيت أن أظهره بمصر فيؤخذ مني، فتجهزت للخروج، وخرجت على هيئة زرية، مستخفية، وابنتي معي، فسلم الله تعالى، ووصلنا هذا البلد، وجميع مالنا سالم.
فأخرجت من الجواهر شيئاً، قيمته على أبي الجيش خمسة آلاف دينار، وصرت به إلى سوق الخرازين فبلغ ألفي دينار.
فقلت: هاتم.
فلما أحضروا المال، قالوا: أين صاحب المتاع؟ قلت: أنا هي.
قالوا: ليس محلك أن يكون هذا لك، وأنت لصة، فتعلقوا بي وجذبوني، ليحملوني إلى صاحب الشرطة.
فخشيت أن أقع في يديه فأعرف، فيؤخذ الجوهر، وأطالب أنا بمال، فأخرج الباقي.
فرشوت القوم بدنانير يسيرة كانت معي، وتركت الجوهر عليهم، وأفلت.

فما نمت ليلتي غماً على ما ذهب، وخشية الفقر، لأن مالي هذا سبيله، فأنا غنية فقيرة، فلم أدر ما أفعل.
فذكرت كونك ببغداد، وما بيننا وبينك، فجئتك، والذيأريده منك جاهك، تبذله لي، حتى تتخلص لي ما أخذ مني، وتبيع الباقي، وتحصل لي ثمنه مالاً، وتشتري به لي ولابنتي عقاراً، نقتات من غلته.
قال: فقلت: من أخذ منك الجوهر؟ فقالت: فلان.
فأحضرته، فجاءني، فاستخففت به، وقلت: هذه امرأة من داري، وأنا أنفذتها بالمتاع لأعرف قيمته، ولئلا يراني الناس أبيع شيئاً بدون قيمته، فلم تعرضتم لها؟ فقال: ما علمنا ذلك، ورسمنا - كما تعلم - لا نبيع شيئاً، إلا بمعرفة، ولما طالبناها بذلك اضطربت، فخشينا أن تكون لصة.
فقلت له: أريد الجوهر الساعة، فجاءني به، فلما رأيته عرفته، وكنت أنا اشترته لأبي الجيش بخمسة آلاف دينار.
فأخذته منهم، وصرفتهم.
وأقامت المرأة في داري، ونقلت ابنتها إلي، وأخرجت الجوهر، فألفته عقوداً، وعرضته، وتلطفت لها في بيعه بأوفر الأثمان، فحصل لها منه أكثر من خمسين ألف دينار.
فابتعت لها بذلك ضياعاً وعقاراً ومسكناً، فهي تعيش به وولدها، إلى الآن.
فنظرت، فإذا الجوهر لما كان معها بلا صديق، كان حجراً، بل كان سبباً لمكروه يجري عليها، وقد رشت على الخلاص منه دنانير، ولما وجدت صديقاً يعينها، حصل لها منه هذا المال الجليل.
فالصديق أفضل العقد.
فقال ابن الفرات: أجدت يا أبا عبد الله.
ثم قال لنا: الناس ينسبون هذا الرجل إلى الغفلة، وقد سمعتم ما يقول، فكيف يكون مثل هذا مغفلاً؟

المأمون ومحبته للجوهر
وقد حكي: أن المأمون كان محباً للجوهر، وكان الناس يغالون فيه، في أيامه، فأراد أن يحتال بحيلة تضع من قدره، ليرخص قيمته، فيشتريه.
فجمع أصحابه يوماً، وخاطبهم. فقال: ما أجل الذخائر؟ فتقرر رأيهم على الجوهر.
فقال: هاتم جوهرة، فجاءوا بواحدة شراؤها عليه مائة دينار.
فقال للجوهريين: كم تساوي هذه؟ قالوا: مائة دينار.
فقال: يا غلام، اكسرها قطعاً، فكسرت.
فقال: كم تساوي الآن؟ فقالوا: دانق فضة.
فأخرج ديناراً، فقال: كم يساوي هذا؟ قالوا: عشرين درهماً.
فقال: كسروه قطعاً، فكسر.
فقال: كم يساوي الآن؟ قالوا: تسعة عشر درهماً صحاحاً.
فقال: أجل الذخائر هذا الذي إذا كسر، لم يذهب من قيمته شيء.
قال: فانتشرت الحكاية بين من حضر من الجوهريين، ونقص نصف ثمنه على الحقيقة، وقلت رغبة أهل الدولة في شراءه.
أموي يتحدث عما أعانهم
في نكبتهم وحكي عن بعض بني أمية: أن المنصور سأله لما نكبهم، أي شيء كان أنفع لكم في هربكم؟ فقال: ما وجدنا شيئاً أنفع من الجوهر القليل الثمن، الذي تبلغ قيمة الحبة منه خمسة دنانير، لأنا استصحبنا الفاخر منه، والقريب الثمن، فما كنا نقدر على بيع الفاخر لشدة الطلب لنا، والخوف من أن يعرف به، فينبه علينا، ونؤخذ، وكان هذا اليسير الثمن، يشترى منا، من غير أن يعرف، فننتفع به، ويخفا أمرنا، فكان أنفع.
قال: فأي النساء وجدتم أفضل؟ قال: بنات العم، كن أصبر علينا، وأشفق.
قال: فأي الرجال، وجدتم أفضل؟ قال: الموالي.
قال: فأمر المنصور المهدي، أن يتزوج ابنة عمه، واتخذ المنصور مواليه عمالاً في أعماله، وقدمهم، ورفع منهم.
لقمة بلقمة
حدثني أبو بكر البسطامي، غلام ابن دريد، قال: كان لامرأة، ابن، غاب عنها، غيبة منقطعة.
فجلست تأكل يوماً، فحين قطعت لقمة، وأهوت بها إلى فيها، تصدق منها سائل وقف بالباب، فامتنعت من أكل اللقمة، وحملتها مع تمام الرغيف، فتصدقت بها، وبقيت جائعة.
وكانت شديدة الحذر على ابنها، والدعاء برده، فما مضت إلا ليل يسيرة على هذا الحديث، حتى قدم ابنها، فأخبر بشدائد مرت به عظيمة.
وقال: أعظم شيء مر على رأسي، أني كنت في وقت كذا، أسلك أجمة في البلد الفلاني، إذ خرج أسد، فقبض علي من حمار كنت فوقه، فغار الحمار فتشبكت مخالب السبع، في مرقعة كانت علي، فما وصلت إلي، وذهب عقلي، وجرني فأدخلني الأجمة.
فما هو إلا أن برك علي ليفترسني، حتى رأيت رجلاً عظيم الخلق، أبيض الوجه والثياب، وقد جاء حتى قبض على قفا الأسد، وشاله حتى خبط به الأرض، وقال: قم يا كلب، لقمة بلقمة. فقام السبع مهرولاً، وثاب إلي عقلي، وطلبت الرجل، فلم أجده.

وجلست ساعات، إلى أن عادت إلي قوتي، ثم نظرت إلى نفسي، فلم أجد بها بأساً، فمشيت، فلحقت القافلة، وأخبرتهم فعجبوا من خلاصي، ولم أدر ما معنى لقمة بلقمة.
فنظرت المرأة إلى الوقت فإذا هو الوقت الذي أخرجت اللقمة من فيها، فتصدقت بها، فأخبرته الخبر.

كفى بالأجل حارسا
ً
حدثني إبراهيم بن الخضر، وكان أحد أمناء القضاة ببغداد، قال: حدثني صديق لي أثق به، قال: خرجت إلى الحائر، فرأيت رجلاً، فرافقته في الطريق، ولم أكن أعرفه، وكان ذلك في أيام الحنابلة، ونحن نزور متخفين.
فلما صرنا في أجمة بانقيا، قال لي رفيقي: يا فلان، إن نفسي تحدثني إن السبع يخرج الساعة فيقرصني دونك، إن كان ذلك، فخذ حماري، وقماشي، فأده إلى منزلي، في موضع كذا وكذا، وعرفهم خبري.
قال: فقلت: ما يكون إلا خيراً وسلامة.
فما استتم الكلام، حتى خرج سبع، فلما رآه الرجل، سقط، وأخذ يتشهد، وقصده السبع، فما كذب أن أخذه، وجره عن الحمار. فسقت أنا الحمار مع ما عليه، وأسرعت حتى خرجت، ولحقت بالقرية، وعجبت من حدسه على نفسه، وصدق ظنه، ولحقني غم لفراقه، وما جرى عليه.
ورجعت إلى بغداد، فحين دخلت، لم تكن لي همة، حتى استوصفت الموضع، وقصدته، فدققت الباب، أسأل عنه، فقلت لمن فيه: خذوا قماش صاحبكم، رحمه الله.
قالوا: قد خرج الساعة في حاجة له، وهو حي والحمد لله، فلم أشك في أني غلطت، فقلت: من هو؟ قالوا: فلان، اسمه.
فزاد تعجبي، فجلست، فما أطلت، حتى طلع علي، فحين رأيته طار عقلي جزعاً، وفرحاً، وتشككاً، فقلت: حديثك.
قال: إن السبع ساعة جرني، وأدخلني الأجمة، هزني، وسحبني، فأنا لا أعقل.
ثم سمعت صوت شيء، فإذا بخنزير عظيم قد خرج، فحين رآه السبع، تركني، وقصد الخنزير، فدقه، وأقبل يأكله، وأنا أراه، ومعي بقية من عقلي.
فلما أن فرغ منه، خرج من الأجمة، وتركني، وقد جرح فخذي جراحة خفيفة.
فقمت، فوجدتني أطيق المشي، فأقبلت أمشي في الأجمة، أطلب الطريق، فإذا بجيف ناس، وبقر، وغنم، وغير ذلك، منها ما قد صار عظاماً بالية، ومنها ما هو طري.
فانتهيت إلى خرق متمعطة، ومخالي للفيوج مطروحة، فسولت لي نفسي تفتيش ذلك.
ثم وقفت على شيء مكور، فإذا هو هميان، ففتحته، فإذا فيه ألف دينار صفر، فأخذتها، ولم أفتش الباقي، وخرجت، فما عرجت، وعدت إلى منزلي، فسبقتك.
قال: وأخرج الدنانير، فأراني إياها، وكشف عن الجراحة، فسلمت إليه، متاعه وافترقنا.
كتاب من يحيى بن فهد الأزدي للأمير
أبي تغلب بن حمدان
كتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، إلى الأمير أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة، عند اعتقاله أخاه أبا الفوارس محمد، لخوفه منه، وحمله إياه إلى القلعة مقيداً، وحبسه فيها، وذلك في شعبان سنة وستين وثلثمائة، في الليلة الثامنة منه.
وكتب أبو محمد ذلك، لما بلغه الخبر، بمحضر منا، كالارتجال، بغير فكر طويل، ولا تعمل شديد، نسخته: من اختاره الله تعالى لجليل الأمور، واصطفاه لحراسة الأمة وحماية الثغور، وخصه بنفاذ الرأي فيما يحله ويعقده، ونصره على كل عدو يرصده، وكفاه كيد من يبغي عليه ويحسده، وقرن عزماته بالصواب في جميع ما يمضيه، وبلغه في الدنيا ما يرتجيه، وجعل ما يبرمه مطرداً على التوفيق، وذاهباً مع السداد في أجمل طريق، معونة له على ما اسنده - جل ذكره - إليه، وحفظاً للملة، وذباً عنها على يديه، لا سيما إذا كان مقدماً لتقوى الله سبحانه، في سائر أفعاله، مؤثراً لرضاه تعالى، في جميع أحواله، غير خارج عن حدوده في تدبير، ولا ناكث عن صراطه في صغير ولا كبير.
والحمد لله الذي خص مولانا الأمير السيد، أطال الله بقاءه، من هذه الأوصاف الشريفة، والأخلاق المنيفة، بما فضله به على ملوك الزمان، وأنطق بذكره وشكره كل لسان، وجعل القلوب كلها، شاهدة به، والآراء علي اختلافها، متفقة عليه.

والحمد لله الذي جعل تدبيراته جارية على الصواب، ماضية على سنن الكتاب، محروسة من عيب كل عائب، ثاقبة كالنجم الثاقب، الذي لا يدفع عله دافع، ولا ينازع في سموه منازع. وإياه نسأل، كافة أولياءه، وخدم دولته، وإليه أرغب، الرغبة التامة من بينهم، في إيزاعه الشكر على ما أولاه، وإلهامه حمده، تقدست أسماؤه، على ما خوله وأعطاه، وأن يديم له شأنه وتسديده، ويصل بالحق وعده ووعيده، ويحسن من كل نعمة وموهبة، حظه ومزيده، ويجعل قوله مبروراً، ووعده مقهوراً، وفعله مشكوراً، وقلبه مسروراً، ولا يخليه من جد سعيد، إنه ولي حميد، فعال لما يريد.
وورد الخبر، بما جرى من الاستظهار على من شك في مناصحته ووفائه، وظهر في الدولة سوء رأيه، بعقب تتابع الأنباء، بما كان أضمره من الغدر، وأضب عليه من قبح الأمر، وبما نال منه من إعمال الحيلة على ثلم المملكة، والسعي في تفريق الكلمة، وإفساد البلاد، وإخافة العباد، ولم يصادف وروده، إلا مستبشراً به، مستنصباً له، عالماً بجميل صنع الله - عز وجل - في وقوعه، شاكراً له على ما أبلاه، وأولاه من المعونة عليه، عارفاً بأن مولانا الأمير - أدام الله تأييده - لم يأمر به، وما وجد سبيلاً إلى الصلاح، إلا سلكها، ولا ترك سبيلاً إلى الاستصلاح إلا ركبها، فلم يزده ذلك إلا تماديا ًفي العصيان وغياً، ومروراً في ميدان البغي وبغياً يحسن به العدول عن صلة الرحم،بحكم الله عز وجل، إذ جعل البغي في كتابه،محلاً للإخلال بحق النسب، حيث يقول، وهو أحسن القائلين " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون " فبين سبحانه: إن الفحشاء ضد للعدل، والمنكر مسقط للإحسان، والبغي موجب لقطع القرابة، وأوجب تبارك اسمه، لمولانا الأمير - أدام الله عزه - النصر على الباغي، بقوله عز من قائل، ومن بغي عليه لينصرنه الله.
على أن الذي أتاه مولانا، أطال الله بقاءه، في بابه، لمواصلة الرحم أقرب، ولأسبابها ألزم وأوجب، إذ حال بينه وبين ما يؤثمه ويرديه، وصرفه عما كان يفسد دينه ودنياه بالإيغال فيه، ولم ينقله بذلك، إلا إلى عيش رغد، وأمر تام، ونعمة دارة، وحال سارة.
والله يكافئ مولانا الأمير السيد أطال الله بقاءه على قدر نيته، ويجازيه بجميل طويته، ويبلغه من الدنيا بحسب حفظه فيها للدين، ويكبت أعداءه بذبه عن المسلمين، ويهنيه بنعمه عليه، ويمتعه بمواهبه لديه، ويرغم أعداه، ويحمده بدء كل أمر وعقباه، إنه جواد كريم، سميع مجيب.

من شعر يحيى بن فهد الأزدي
أنشدني أبو محمد يحيى بن محمد لنفسه:
يا من علاقة حبه فرض ... ضاقت علي ببعدك الأرض
فالقلب يخفق وحشة لكم ... حتى كأن سواده نبض
وأنشدني لنفسه:
وصفراء من مال الكروم عتيقة ... مكرمة لم تمتهن بعصير
صبغت بها كأسي وأطلقت شمسها ... على نوره إلا بقية نور
كسالفة شقراء قد رف تحتها ... جربان وشي أبيض وحرير
كأن شعاع الكأس نار توقدت ... على كف ساق زينت بخصور
فما حضرت حتى تبدل ما جنى ... علي زماني من أسى بسرور
وأنشدني لنفسه:
لقد نفرت عيني عن النوم بعدكم ... فليس إلى طيب الرقاد تتوق
وقد ألفت طول البكاء كأنها ... لدمع عيون العالمين طريق
وأنشدني لنفسه:
يا موقد النار في فؤادي ... وآمر العين بالسهاد
حللت من ناظري وقلبي على تعديك في السواد
فليس ترقى دموع عيني ... أو يظفر القلب بالمراد
وليس يطفى لهيب قلبي ... أو تملك العين للرقاد
وأنشدني لنفسه:
أصبحت من شوقي ومن ضري ... تنم أنفاسي على سري
وكلما جئتك أشكو الهوى ... ازددت يا مولاي في هجري
فكم تراني صابراً للبلا؟ ... ستغلب البلوى على صبري
وأنشدني لنفسه:
يغدو علي بوجه مشرق غنج ... يا طيب مبتكري فيه وإصباحي
في صورة البدر في قد القضيب على ... دعص من الرمل يخطو فوق رحراح
وأنشدني لنفسه من أبيات:

الليل يعجب مني كيف أسهره ... والشوق ينهى الكرى عني وأزجره
والصبح قد ضل عن ليلي بوادره ... فما يلم بهذا الليل آخره
وأدهم الليل وقف ما يغالبه ... من الصباح على الظلماء أشقره
وأنشدني لنفسه:
إذا أتاك امرؤ يبغيك حاجته ... فقد علاك بفضل ما له ثمن
فاسمع له طائعاً وانجح مطالبه ... واعرف له حقه لا خانك الزمن
وأنشدني لنفسه:
يا هاجراً لغلامه ... ومقاطعاً لكلامه
ومواصلاً لصدوده ... وعتابه وملامه
لم قد هويت جفاءه ... وتركته بغرامه
أمنن عليه بوصلة ... لخضوعه وسقامه
وأنشدني لنفسه:
يا هلالاً بدا فوافق سعداً ... وغزالاً كأنه الغصن قداً
ومثالاً تكامل الحسن فيه ... فحكت وجنتاه خمراً وورداً
كلما ازددت في القطيعة بعداً ... زدتني جفوة وهجراً وصداً
تتعدى وحق أن تتعدى ... كل من يملك الجمال تعدى
إنني ما اتخذت غيرك مولى ... فاتخذني لحسن وجهك عبداً
وأنشدني لنفسه:
سقى الشوق عيني ماء وجد ولوعة ... فإنسانها في ذلك الماء يسبح
إذا حركته من جوى الحب زفرة ... ترقرق فوق الخد منه الملوح
وأنشدني لنفسه قصيدة يفتخر فيها، أولها:
سوى حلمي يخف مع الشباب ... وغير أعنتي يثني التصابي
يقول فيها:
كأن عواقب الأيام مدت ... فقرت من فؤادي في كتاب
فلست أدافع الجلى بشك ... ولا أشكو الحوادث بارتياب
وأنشدني أيضاً قصيدة أخرى أولها:
أبى شرف المناصب والأصول ... وفضل في القلوب وفي العقول
وقلب لا يخوف بالمنايا ... ونفس لا تقر على خمول
لمثلي أن يميل إلى اكتساب ... بغير السمهرية والنصول
وأنشدني من قصيدة يفتخر فيها:
تعود كفي قائم السيف صاحباً ... يساعده في كل أمر يحاول
سريع مضاء الشفرتين كأنه ... إذا سل من ماء المنية سائل
كأن مدب النمل فوق غراره ... إذا صح منه للعقول التأمل

بين يحيى بن فهد الأزدي
وأبي الفرج الببغاء
وكتب إلى أبي الفرج الببغاء، إلى الموصل، يتشوقه، بعد خروجه من بغداد:
ظعنت فما لأنسي من ثواء ... وبنت فبان عن قلبي السرور
ولو أني قضيت حقوق نفسي ... تبعتك كيفما جرت الأمور
وودي ليس ينقصه مغيب ... كما لا يستزيد له حضور
فإن تبعد فإنك ملء صدري ... وودك جل ما تهوى الصدور
فأجابه أبو الفرج:
بقربك من بعادك أستجير ... وهل في الدهر غيرك من يجير
نأيت فما لسلواني دنو ... وغبت فما للذاتي حضور
وقد صاحبت إخواناً ولكن ... متى تغني عن الشمس البدور
فيا من رعت منه الدهر قدماً ... بمن تسمو بخدمته الأمور
ومن قدرت أن له نظيراً ... فحين طلبت أعوزني النظير
إذا كنت السرور وغبت عني ... فكيف يتم بعدك لي سرور
ولأبي محمد إلى أبي الفرج، في فصل من كتاب، وقد اعتل بعده:
فقدت السلامة لما نأي ... ت وحالفت لما بعدت الضنينا
وكان اقترابك لي صحتي ... فحين ارتحلت عدمت القرينا
وما هون السقم يا سيدي اش ... تياقي وحاشى له أن يهونا
فكتب إليه أبو الفرج، في صدر كتاب:
وعن كمد فل غرب السلو ... وشوق أعاد حراكي سكونا
وقلب يرى كل شيء يعين ... قلوب العباد عليه معينا
ولم أر بعدك شيئاً يسر ... فأفتح أنساً إليه الجفونا
وجملة أمري أني اشتكيت ... وقد كان دهري لي مستكينا
وجربت مذ غبت عني الكرام ... فكانوا الشكوك وكنت اليقينا
وأنشدني لنفسه:

يدعي حبيبي إلى هجري فيعدل بي ... عن هجره مرض في القلب مكتوم
لو كان ينصفني ما كان يهجرني ... لكنني الدهر في حبيه مظلوم

فقرات من رسائل
لبعض الكتاب، في وصف قاض: الحمد لله الذي ليس من دونه احتراز، ولا لذاهب عنه مجاز، هو من لا يبهره الإطراء، ولا يحيله الإغراء.
آخر: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، الذي لا يودى مسيله، ولا يخيب سؤوله.
آخر: إن لله علينا من النعم ما لا نحصيه، مع كثرة سخطه على ما نعصيه، فما ندري أيها نذكر، ولا على أيها نشكر، أجميل ما نشر وأبدى، أم قبيح ما ستر وأخفى.
بين أبي عمر القاضي
وأبي عصمة الخطيب
حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، وأبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش الطائي الجوهري البغدادي، وجمعت خبريهما، قالا: كان أبو عصمة العكبري الخطيب، غالباً على أبي القاسم بن الحواري، وكانت منزلته في الطيبة مشهورة، قال، فحدثنا: أن أبا عمر خطب لابن رائق الكبير، على ابنة قيصر الكبرى، فأطال وأبلغ، وكان يوماً حاراً. فلما انقضت الخطبة، قيل له: اخطب على البنت الأخرى، للابن الآخر.
فكره الإطالة، لئلا يضجر الخليفة، وأراد التقرب إليه، فحمد الله سبحانه بكلمتين، ثم قرأ آية من القرآن، وعقد النكاح.
فنهض المقتدر مبادراً لشدة الحر، ووقع ذلك عنده ألطف موقع لأبي عمر.
قال: فعاد ابن الحواري إلى داره، وجئت، فجلست عنده أحدثه، وأتطايب له، وأغمز رجله.
فقال: جرى اليوم لأبي عمر القاضي كل جميل، ووصفه الخليفة، وقرظه، واستحسن إطالته في الخطبة الأولى وإيجازه في الثانية، وقال: مثل هذا الرجل، وفيه هذا الفضل، لم لا نزيد في الإحسان إليه؟ فقررت مع الخليفة، بأن يزيده في أعماله وأرزاقه، كذا وكذا، فأمرني بتنجيز ذلك له من الوزير.
قال: وكان ابن الحواري، صديقاً لأبي عمر.
فلما سمعت ذلك، دعتني نفسي إلى أن أستبق بالخبر، إلى أبي عمر، لأستحق البشارة، وأتقرب إليه.
وطال علي الوقت، حتى نام أبو القاسم، فركبت دابتي، وجئت إلى أبي عمر، فأنكر مجيئي ذلك الوقت، وعلم أنه لمهم، فأوصلني، فجلست، وهنأته، وحدثته بالحديث على شرحه.
فقال أبو عمر: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأحسن الله جزاء أبي القاسم، ولا عدمتك. فاستقللت شكره،وولد لي فكراً، مع ما بان لي في وجهه من التعجب مني.
فلما خرجت ندمت ندماً شديداً، وقلت: سر السلطان، أفشاه إلى رجل عنده فوق الوزير، فباح ذلك الرجل به بحضرتي وحدي، لا يسره عني، ولعله هو، أراد أن يعتد به على أبي عمر، بادرت أنا بإخراجه، إن راح أبو عمر فشكره على ذلك، أو ذاكره به، فعلم أن ذلك من فعلي، بأي صورة يتصورني؟ أليس يراني بصورة من خرج بسر؟ وإخراج السر، في الخير والشر، والفرح والغم، والجيد والرديء، واحد؟ إن أداه ذلك إلى استثقالي واحتشامي، أليس في هذا انتقاص معيشي وخيري؟ ثم إن حجبني عنه،من يوصلني إليه؟ ومن يرغب في استخدامي بعده أو يدخلني داره؟ أوليس ينتشر في البلد، إنه طردني، لأنني أفشيت له سراً، لا يدري ما هو.
ليس إلا أن أرجع إلى أبي عمر، فأسأله كتمان ذلك.
قال: فرجعت من حيث قدمت لي دابتي، ولم أركب.
فحين وقع ناظر أبي عمر علي، قال لي: يا أبا عصمة، ولا حرف، ولا حرف.
قال: فكأنه حسب ما حسبته لنفسي، وعلم ما علمته، مما طرأ علي، فلما رآني قد استدركت ذلك، علم أني ما رجعت إلا لأسأله كتمان هذا، فبدأني بما قاله، فشكرته وانصرفت، ولم اجلس.
وقد أخبرني أبو الحسين بن عياش رحمه الله، بهذا الخبر، عن أبي عصمة، ولم يذكر فيه حديث الخطبة، ولا أي شيء كان السر، وهذا الحديث أشرح، فأوردته هكذا.
؟
القاضي يخطب بين يدي
الخليفة في الأملاك
حدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني القاضي أبو طالب بن البهلول، قال: لما تأخر أبي عن حضور المواكب، وكان لا يخطب في الإملاكات غيره، عرض للمقتدر رأي، في إملاك بحضرته.
فقال لي علي بن عيسى هذا شيء كان إلى أبيك، وأنت أحق به.
فقلت: لا أقوم به.
فقال لأبي عمر: فاخطب أنت.
فاستعفاه، وسأله أن يجعل ذلك إلى ابنه، فجعله إليه.
وكان يخطب بحضرة المقتدر في الإملاكات.
وصف طبق قطائف

وصف القاضي المعروف بالنقاش، طبق قطائف، قدم إليه، فقال: اقشعر جلده من كثر حمله.

النداء على الرطب الآزاد
حدثني خالي، قال: سمعت منادياً ببغداد، ينادي على الرطب الآزاد: هوذا أولاد الخلافة، في الغلائل نيام.
الوزير ابن مقلة وأبو أحمد الفضل
الشيرازي الكاتب
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال: حدثني أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب، قال: كنت أكتب بين يدي أبي علي بن مقلة، وهو وزير، وكانت حالي صغيرة، وكنت أستحلي قينة كنت أنفق جميع ما أكسبه عليها.
وكان أبو علي يعرف ذلك من خبري، فيخصني بالأعمال التي تكسب المنافع، وإذا أراد كتب عهد لعامل، أو إجابة صاحب طرف، لم يعدل بذلك عني، فأنتفع بالمائتي دينار، والثلثمائة، والأكثر، والأقل، ولا أبقي شيئاً.
قال: فكان من ذلك، أن كتاب ملك جرزان، ورد عليه، فرمى به إلي، وأمرني بالإجابة عنه. فجاءني موصله، يتنجز الجواب، وحمل إلي مائتي دينار، وثياب ديباج، وغير ذلك.
فأجبته جواباً جميلاً، وأخذت ذلك فأنفقته كله على المغنية.
وأصبحت بعد أيام، وهي عندي، وليس معي ما أجذرها به في يومي ذلك، وأنا قلق من انصرافها، ولا حيلة لي في إسلامها، حتى جاءني غلامي، فقال لي: إن صاحب جرزان على الباب.
فتثاقلت به، وقلت: لم يبق شيء أتوقعه منه، وقد كتبت كتبه، وأنا متشاغل بحيلة ما أجذر هذه اليوم، فاحجبه عني.
قال: فخرج وعاد وقال: قد أعطاني عشرة دراهم، وسألني إيصاله إليك.
قال: فطمعت فيه، وقلت: إذا أعطى غلامي عشرة دراهم، فالأمر يحتمل أن يصل إلي، هاته. قال: فدخل، وأخرج الكتاب، وقال: يا سيدي، كانت العادة، إذا عنون الكتاب إلى صاحبي، وقيل: لأبي فلان بن فلان، أن يقال بعد ذلك: ملك جرزان، ولم يقل هذا، وفيه عليه غض في عمله، فحلق ذلك.
قال: فقلت هذا لا يجوز إلا بأمر من الوزير، وهذا أمر عظيم، وإذا قيل ذلك فكأنما قد أزلنا ملك السلطان عن ذلك الصقع، وأخذت أهول الأمر، وأفخمه بقدر طاقتي.
فقال: يا سيدي، لا زمان علي في مساءلة الوزير، لأني أريد الخروج اليوم مع القافلة، فخذ مني ما شئت، واكتب لي.
قال: فزاد طمعي فيه، وقلت: هذا أمر لا يمكن للوزير فعله، إلا بأمر من الخليفة.
قال: فما زلت معه في ألوان، إلى أن دفع لي في الحال، ثلثمائة دينار عيناً.
فقلت: على شريطة أن لا يرى الكتاب أحد معك، ولا تقم اليوم ببغداد.
قال: فشارطني على ذلك.
فكتبت إلى جانب العنوان " ملك جرزان " فقط، وأخذت الدنانير وانصرف الرجل، ولم أدع الجارية تبرح ومعي شيء من الدنانير.
قال: ثم دخلت إلى أبي علي، بعد ذلك بأيام، فرمى إلي كتباً وقال: اكتب إلى صاحبها عهداً على أعماله بتستر.
قال: فجاءني الرجل، وحمل إلي مائتي دينار، وثلاثة أثواب تسترية، وعمامة منها، فكتبت عهده، وقطعت الثياب، وكنت أنفق من تلك الدنانير.
قال: وكان بين أبي علي، وبين أبي العباس الخصيبي، من العداء والمشاحة على الوزارة، ما عرفه الناس، وكانت لأبي العباس علي، حقوق، ورياسة قديمة، فكنت أحب لقاءه، وأخاف من أجل الوزير، فكنت ربما مضيت إليه في الأيام سراً، واعتذرت من تقصيري باتصالي بالوزير، فيعذرني.
فاتفق أني مضيت إليه يوماً سحراً، في تلك الثياب الجدد، وعدت إلى دار الوزير، فلما صرت في الحجرة التي كان فيها، وجدته وأبا الحسين ابنه، مختليين، وفي ناحية من الدار جماعة من الكتاب جلوس، منهم أبو جعفر بن شيرزاد، وأبو محمد المادرائي، وأبو العلي الحسن بن هارون، وغيرهم.
فعدلت لأجلس مع الجماعة، فلما رآني الوزير، صاح: تعال، بحرد.
قال: فقمت فزعاً، أن يكون الخبر بلقائي الخصيبي، قد ري إليه، فجئته، فأسر إلى أبي الحسين، بشيء في أمري، لا أدري ما هو، ثم ضحك وقال: اجلس، فلما ضحك، سكنت نفسي، وجلست.
فقال: اليوم يوم سبت، والهوا طيب فما ترى في ترك العمل والصبوح؟ فقلت: هذا والله عين الرأي، وحقيقة الصواب، ونفس لواجب، وما لا يجوز العدول عنه، ولا الخروج منه، ولا التأخر عن فعله، وأخذت أصف طيب الصبوح، وأروي ما حضرني فيه، في الحال.
قال: فقال لحاجبه: قل لأصحابنا، يمضون إلى الديوان وينظر كل واحد في أمره، وما إليه، وأخل دار العامة، ولا تستأذن علي لأحد، حتى أتشاغل بالصبوح.

ثم دعا الفراشين، فأمرهم بفرش حجرة كان يستطيبها، وقال: أريد أن تكون في نهاية الضياء، من غير أن يسقط فيها خرم إبرة شمس.
فقام فلم تكن إلا ساعة، حتى جلس فيها، فأكلنا معه، ونفسي متطلعة إلى ما جرى.
فلما نهضنا لغسل أيدينا، سألت أبا الحسين عن ذلك، فقال:إن الوزير لما رآك، قال: هذا الرجل يخدمنا، ويختص بنا، وواجب الحق علينا، وهو يعشق مغنية لعل ثمنها شيء يسير، ويتلف كل ما يكسبه عليها، ولا نشتريها له؟ أي شيء أقبح من هذا؟ قال: فقلت له - وكنت أعرف في أبي الحسين شدة - فأي شيء قلت له يا سيدي؟ قال: قد قويت رأيه.
قلت لا يقنعني هذا والله، أريد أن تتجرد، وتصمم، وتذكره، ولا تدعه أو يتنجز لي ثمنها اليوم.
فقال: أفعل.
وقام أبو الحسين لينام، فلم يحملني أنا النوم، وقعدت، فعملت أبياتاً في الوزير، أشكره على هذا الرأي، وأتنجز الوعد، وحررتها بأحسن ما قدرت عليه من خطي.
فلما جلسنا للشرب، وشرب الوزير أقداحاً، رميت إلى أبي الحسن ابن هارون بن المنجم، بالرقعة، وكانت له عادة عندي في التعصب لشعري، والمدح لي عند الوزير، لنفاقه عليه، واختصاصه به، من بين ندمائه.
فأخذ أبو الحسن الرقعة، فأنشد منها الشعر، وأتبع ذلك بوصفها وتقريظها، وتبعه الجماعة، واستحسن الوزير ذلك، فأخذ الرقعة، فقطع بالسكين، سحاة عريضة منها، فكتب في رأسها شيئاً، ثم أخذها الوزير، فلفها شديداً حتى صارت كالزر، ورمى بها، فإذا هي في حجري، ففتحتها، فإذا فيها: ندى الخادم، عشرة آلاف درهم، وبخط أبي الحسين: فلان الجهبذ خمسة آلاف درهم.
قال: فجئت لأنهض، فأشكره، وأقبل يده، فأومأ إلي بإصبعه، أن اسكت ووضعها على فيه، فسكت، وشربنا إلى أن حضرت المغرب، وقام الوزير ليصلي، وقمنا.
قال: فاستدعاني، فقال: أخذت المال؟ فقلت: لا.
فقال: إنا لله، ظننتك أفره من هذا، إذا قال لك السلطان، هات لأغرف لك، فابسط حجرك، ولا تنتظر غضارة، أن صرفني الخليفة الليلة عن الوزارة، كيف تصل أنت إلى المال؟ إن مت؟ أن كان كذا؟ فقلت: حاشاك يا سيدي، لعن الله هذه الدراهم، مع هذا القول، يبقيك الله ألف سنة.
فقال: دع ذا عنك، ثم نادى الخادم، فجاء، فقال: خذ هذه الرقعة، وأحضر المال الساعة، قبل أن أتمم الصلاة.
قال: فأخذها الخادم ودخل هو في الصلاة، ودخلنا نحن، فوالله، ما تممنا صلاتنا، حتى حضر المال، ولم يكن معي غلام يحمله، إلا صبي يحمل دواتي، ولا يطيق ذلك.
قال: فالتفت إلى بدعة الصغيرة، وكانت في المجلس، وكان بيني وبينها ود، وهي تتعصب لي، فقلت: يا ستي، أعيريني بعض خدمك، يحمل هذا المال معي، إلى داري فإن غلامي لا يطيقه. قال: وكانت بدعة الحمدونية، إذا حضرت المواضع، معها عدة جوار وخدم وفراشين.
قال: فدفعت إلي غلامها، وكان مقدماً عندها، فسلمت إليه المال، فحفظه، حتى أداه إلى منزلي. فاستدعيت مولاة الجارية، وبذلته لها في ثمنها، فقالت: لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، فاستقبحت إعلام الوزير بالصورة، وتاقت نفسي إلى نفقة المال، فأسلفتها منه للجذور، خمسة آلاف درهم، وأنفقت الباقي عليها في مدة يسيرة.

الوزير ابن مقلة يهدي لكاتبه
عطراً وشراباً ومالاً
حدثني أبو محمد أيضاً، قال: حدثني أبو أحمد أيضاً، قال: غدوت في بعض الأيام إلى حضرة الوزير أبي علي بن مقلة، وأنا في بقية خمار، وقد خلفت في داري هذه الجارية.
فلما مضى من النهار ساعتان، عن للوزير قطع العمل، والتشاغل بالشرب.
فقطعت من رأس الدرج، قطعة، وكتبت فيها إلى أخي، آمره باحتباس الجارية، وبإعداد أشياء رسمتها له، وأعلمته أنني على أثر الرقعة، مع تشاغل الوزير بالأكل، وعملت على الاحتجاج للوزير بالخمار، والوزير يلحظ ما أكتبه، ويقرؤه، وأنا لا أعلم.
وسلمت الرقعة إلى غلامي ومضى بها إلى منزلي.
فلم يكن بأسرع من أن نهض الوزير، واستدعى المائدة، وأمرني بالأكل معه، فامتنعت، واحتججت بعظم الخمار، وأنني لا أقدر على شم الطعام، فضلاً عن أكله.
فألح علي فألححت في الامتناع.
فاستدعى عملاً كان بين يديه، وأخرج منه عدة كتب، وأمرني بالانفراد، والإجابة عنها.

فورد علي من ذلك ما أقلقني، ولم أعلم غرضه، ولا أنه يستدعيني إلى الطعام، ويشير علي بالدخول معه في ذلك الأمر، وتأخير الكتابة إلى غد، وأنا مقيم على شكوى الخمار، وتعذر الأكل علي.
إلى أن فرغت من الكتب، وقد توسط أكله، وجئت بها مقدراً أنه يأذن لي في الانصراف.
فقال: قد تبقى من مدة أكلنا، ما تبلغ به وطرك من الطعام، فاستخر الله وساعدنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملاً ثانياً، وأخرج منه عدة كتب أخر، وقال لي: إذا كنت غير داخل معنا في أمرنا، فأجب عن هذه أيضاً.
فورد علي أعظم من الأول، وانفردت للإجابة، إلى أن فرغت منها، مع فراغه من الأكل. وجئت بالكتب فعرضتها عليه، وأنا لا أشك في الانصراف.
فقال لي : لست أشك في تصرم خمارك، فاستدع ما تأكله، والحق بنا.
فأقمت على الامتناع.
فاستدعى عملاً ثالثاًً، ليشغلني بشيء، وتبسم.
فقلت له ما هذه الحاجة الداعية إلى اتصال العمل علي في هذا اليوم.
فقال: قد قرأت رقعتك إلى أخيك، من ظهرها.
فعرفت من حيث أتيت، فضحك وضحكت.
وأمر بإحضار مائتي دينار، وعشرين دناً من الشراب العتيق، وسلم ذلك إلى غلامي، ثم أمر بإحضار صندوق صغير له، فيه طبب، فقدم إلى حضرته، ومنديل دبيقي، وجعل فيه من الصندوق، من الند كفاً، ومن العود المقلي كفاً، وكذلك من الكافور والمسك، مثل ذلك، واستدعى قدحاً، فجعل فيه أوراق غالية، ووضعه في المنديل، وختمه بخاتمه.
وقال: إمض فأنفق هذه الدنانير، وشرب الشراب، وتبخر بهذا البخور.
فأخذت جميع ذلك، وانصرفت.

أنت تحركت على الصفراء
ليس الصفراء تحركت عليك وحدثني أبو محمد أيضاً، قال حدثني أبو أحمد أيضاً قال: كانت هذه الجارية صفراء، تسمى بهجة.
فشربت معها ليلة، وأصبحت مخموراً، فآثرت الجلوس معها، على لقاء الوزير أبي علي، وكان يعرف خبري معها.
فأردت الاعتذار إليه من التأخر عن الخدمة، وأخفي خبري عليه، فكتبت إليه رقعة أعتذر فيها، وأقول: إن الصفراء تحركت علي، فتأخرت.
فوقع على ظهرها بخطه: أنت تحركت على الصفراء، ليس الصفراء تحركت عليك.
قلت: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم، لنفسه، في جارية صفراء، وقد شكا إلى الطبيب مرة الصفراء، ولا أدري أيهما أخذ من صاحبه:
قال الطبيب وقد تأمل سحنتي ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً وظاهر ما أراد خطاء
بغل لا يصلح للبيع
رأى رجل في حمام، رجلاً وافر المتاع: فقال له عابثاً: تبيع هذا البغل؟ قال: لا، ولكني أحملك عليه.
القاضي أبو الحسن الهاشمي
يغسل الخليفة الراضي
وحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله، قال: لما مات الراضي رضي الله عنه، أنفذ إلي فاستدعيت لغسله، فحضرت، ودخلت إلى الموضع الذي هو فيهمن دار الخلافة، فإذا به مسجى، على وجهه إزار مروي غليظ.
فقلت: لا إله إلا الله، مثل هذا يطرح على وجه الخليفة؟ فقال لي بعض الخدم: إنه لما مات، أخذ كل إنسان، ما هو مثبت عليه، فرده إلى الخزانة، حتى طرحت أنا عليه إزاري هذا.
قال: فطلبنا مرجلاً أو مسينة لنغلي فيها ماء حاراً، فما وجدنا، حتى جاءوا بها بعد مدة من حجرة بعض الخدم.
فغسلته، وكفنته بأكفان جميلة من داري، وصليت أنا والخدم عليه، وحمل إلى داره بالرصافة فدفن فيها.
الخليفة الواثق، يهمل بعد موته
فيأكل الحرذون عينيه
حدثني الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقي، قرابة أبي، قال: حدثني أبي، قال حدثني أبي أحمد، قال: كنت أخدم الواثق، وأخدم تخته، في علته التي مات فيها.
فكنت قائماً بين يدي الواثق، في علته، أنا وجماعة من الأولياء، والمالي، والخدم، إذ لحقته غشية، فما شككنا أنه قد مات.
فقال بعضنا لبعض: تقدموا فاعرفوا خبره، فما جسر منهم أحد يتقدم.
فتقدمت أنا، فلما صرت عند رأسه، وأردت أن أضع يدي على رأسه وأعتبر نفسه، لحقته إفاقة، ففتح عينيه، فكدت أن أموت فزعاً من أن يراني قد مشيت في مجلسه إلى غير رتبتي. فتراجعت إلى خلف، فتعلقت قبيعة سيفي بعتبة المجلس، وعثرت به، فانكببت عليه، فاندق سيفي، وكاد أن يدخل في لحمي، ويجرحني.

فسلمت، وخرجت، واستدعيت سيفاً ومنطقة أخرى، ولبستها وجئت حتى وقفت في مرتبتي ساعة، فتلف الواثق تلفاً لم تشك جماعتنا فيه، فتقدمت فشددت لحييه، وغمضته، وسجيته، ووجهته إلى القبلة، وجاء الفراشون، وأخذوا ما تحته في المجلس، ليردوه إلى الخزانة، لأن جميعه مثبت عليهم، وترك وحده في البيت.
فقال لي ابن أبي دؤاد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، ولا بد أن يكون أحدنا يحفظ الميت إلى أن يدفن، فأحب أن تكون أنت ذلك الرجل.
وقد كنت من أخصهم به في حياته، وذلك أنه اصطنعني، واختصني، حتى لقبني الواثقي، باسمه، فحزنت عليه حزناً شديداً، وقلت: دعوني، وامضوا.
فرددت باب المجلس، وجلست في الصحن، عند الباب أحفظه، وكان المجلس في بستان عظيم، أجربة، وهو بين بساتين.
فحسست بعد ساعة، في البيت، بحركة عظيمة أفزعتني، فدخلت أنظر ما هي، فإذا بحرذون قد أقبل من جانب البستان، وقد جاء حتى استل عيني الواثق، فأكلهما.
فقلت: لا إله إلا الله، هذه العين التي فتحها منذ ساعة، فاندق سيفي هيبة لها، صارت طعمة لدابة ضعيفة.
قال: وجاءوا وغسلوه بعد ساعة، فسألني ابن أبي دؤاد، عن سبب عينيه، فأخبرته.
قال: والحرذون، دابة أكبر من اليربوع قليلاً.
ما أرانا إلا كنا خزاناً للوليد
حكي عن هشام بن عبد الملك، إنه لما ثقل، وأخذ في النزع، أغمي عليه، ثم أفاق، فطلب شيئاً. فقيل له: إن الخزان قد أقفلوا على جميعه، وتفرقوا.
قال: فتنفس الصعداء، وقال: ما أرانا إلا كنا خزاناً للوليد بن يزيد.

الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر
زوجة أبيه ويصلبها منكسة
وهذه شغب أم المقتدر بالأمس، تنعمت ما لم يتنعمه أحد، ولعبت من أموال الدنيا بما استفاض خبره.
فلما قتل المقتدر قبض عليها القاهر، فعذبها صنوف العذاب حتى قيل إنه علقها بثدييها، يطالبها بالأموال، وحتى علقها منكسة، فبالت، فكان بولها يجري على وجهها.
فقالت له: يا هذا، لو كانت معنا أموال، ما جرى في أمرنا من الخلل، ما يؤدي إلى جلوسك، حتى تعاقبني بهذه العقوبة، وأنا أمك في كتاب الله عز وجل، وأنا خلصتك من ابني في الدفعة الأولى، حتى أجلست هذا المجلس.
الخليفة القاهر يعذب أم المقتدر
ويضطرها لبيع أملاكها
حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني عمي أبو محمد، قال: أنفذني أبو الحسين بن أبي عمر القاضي، وابن حباب الجوهري، إلى القاهر، وكان قد طلب منه شاهدين، ليشهدا على أم المقتدر، بتوكيلها، في بيع أملاكها.
قال: فصرنا إلى دار الخلافة، واستؤذن لنا، فدخلنا إلى القاهر، وهو جالس في صحن كبير، عند باب ممدود عليه ستارة ديباج، وسبنية، على كرسي حديد، وفي يده حربة يقلبها، وخدمه قيام على رأسه.
فسلمنا عليه ووقفنا. ودفع إلينا أحد الخدم، كتاباً أوله: أقرت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
فوقفنا عليه، فإذا هو وكالة ببيع أملاكها، في سائر النواحي.
فقلنا للخادم: فأين هي؟ قال: وراء الباب. فاستأذنا الخليفة في خطابها، فقال: افعلا.
فقلنا: أنت عافاك الله هاهنا، حتى نقرأ عليك؟ فقالت: نعم.
فقرأ عليها الكتاب وقررناها، ثم توقفنا عن كتب الشهادة، فأومأ بعضنا إلى بعض، كيف نعمل في رؤيتها؟ وإلا لم يمكنا إقامة الشهادة، وهبنا الخليفة.
فقال: مل لكم تتآمرون.
فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذه شهادة، نحتاج أن نقيمها عند قاض من قضاة أمير المؤمنين؟ فقال: نعم.
قلنا: فإنها لا تصح لنا دون أن نرى المرأة بأعيننا، ونعرفها بعينها واسمها، وما تنسب إليه.
فقال: افعلوا.
قال: فسمعت من وراء الستارة، بكاء، ونحيباً، ورفعت الستارة.
فقلت لها: أنت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه.
قال: فبكت ساعة، ثم قالت: نعم.
فقررناها على ما في الكتاب، وأسبل الستر، فتوقفنا عن الشهادة، فقال القاهر بضجر: فأي شيء بقي؟ فقلنا: يعرفنا أمير المؤمنين إنها هي.
فقال نعم، هذه شغب مولاة أبي المعتضد بالله، أمير المؤمنين، وأم أخي جعفر المقتدر بالله، ونهض.
فأوقعنا خطوطنا في الكتاب، وانصرفنا.

قال: ولما رأيتها، وجدتها امرأة عجوزاً، دقيقة الوجه والمحاسن، سمراء اللون إلى البياض والصفرة، عليها أثر ضر شديد، وثياب غير فاخرة.
فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم، فكراً في تقلب الزمان، وتصرف الحدثان.
وجئنا، فأقمنا الشهادة، عند أبي الحسين القاضي.
يقتلون شيخاً حسن الشيبة

ثم يظهر أنه خناق
حدثني أبو جعفر، أصبغ بن أحمد الكاتب، شيخ خدم قديماً الصيمري، وحجب أبا محمد المهلبي، وهو إذ ذاك يخلف أبا جعفر الصيمري على الأمور كلها، فلما ولي أبو محمد الوزارة، صرفه عن حجبته، وصرفه فيما يتصرف فيه المستخرجون المستحثون، قال: حدثني بعض غلمان بجكم، قال: أنفذني إلى الأنبار، في جماعة غلمان، لقتل قوم كانوا محبسين من الأعراب، وأمرنا بحمل رؤوسهم إليه، وكتب لنا في ذلك.
فجئنا إلى العامل، فأوصلنا إليه الكتاب، فسلم القوم إلينا، فضربنا أعناقهم، وقطعنا رؤوسهم. وأقمنا ليلتنا هناك، وبكرنا، والرؤوس في مخال دوابنا، مسمطة عليها، ونحن نريد بغداد.
وكنا عشرة غلمان، والمقتلين عشرة.
فلما صرنا في بعض الطريق، وحمي النهار، أوينا إلى قرية خراب، وجلسنا نأكل، والمخالي بين أيدينا، فيها الرؤوس، قد نحيناها عن الدواب، وتركنا الدواب ترعى.
فلما فرغنا من أكلنا، قمنا إلى المخالي، فافتقدنا من الرؤوس التي فيها واحداً، فقامت قيامتنا، فقلنا نحن مقتولون به، سيقول لنا بجكم: أخذتم منه مالاً وتركتموه، كيف نعمل؟ فأجمع رأينا على أن نخرج إلى تلك الصحراء، فنعترض رجلاً كائناً من كان أول ما نلقاه، فنقتله، ونجعل رأسه في المخلاة، بدلاً من الذي ضاع، ونسير.
فخرجنا على هذا، فأول من استقبلنا، رجل شيخ، حسن الشيبة والثياب، له سجادة وسمت، وهو راكب حماراً، عليه خرج مثقل، وهو يسير.
فأوقعنا به وقتلناه، بعد أن تذممنا من قتله، مع ما رأيناه عليه ، إلا أنا خفنا أن ينتشر الناس في الطريق، فلا يمكنا قتل أحد، ونكون نحن المقتلين.
فقتلنا الرجل، وقطعنا رأسه، وجئنا لنجعله في المخلاة، فإذا نحن برأس ملقى بين أرجل الدواب، فشككنا فيه، وعددنا الرؤوس، فإذا هي أحد عشر.
فشككنا، حتى أخذ كل واحد منا رأساً، وبقي في الأرض رأس واحد فاضلاً.
فقامت قيامتنا، ولطمنا، وقلنا: قتلنا رجلاً مسلماً بغير سبب، وشق ذلك علينا.
وكان معنا شيخ من الغلمان، جار، فقال: يا قوم، إنكم ما سلطتم على هذا الشيخ، إلا وله عند الله سريرة سوء، ففتشوا رحله، لعلكم تستدلون على ما يزول به غمنا في قتله.
فقمنا إلى رحله فحططنا الخرج عنه، وفتحناه، فأول شيء خرج علينا، هو بكرة، ثم تلا ذلك، ثياب ملوثة بالدم وبالغائط.
وتوالت الأدلة علينا، فإذا هو خناق شداخ.
فحمدنا الله تعالى على ما سلمنا من قتل من لا يستحق القتل. وتقاسمنا قماشه، ودفنا رأسه في الطريق.
وجئنا فسلمنا العشرة الرؤوس إلى بجكم.
القاضي أبو عمر وحسن تصرفه
ووفور عقله
حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: ركبت معم القاضي أبي عمر، في يوم موكب، في طياره، إلى دار المقتدر.
فصعد هو وابنه، وجلست أنا والجماعة، في الطيار، ننتظر رجوعه.
فرأيت جماعة من الخدم، وقد وقفوا له، يشتمونه بأقبح لفظ، ويقولون له: يا ظالم، يا مرتشي، وهو مطرق إلى الأرض، يمشي إلى أن دخل الدار.
فهالني إقدامهم عليه، وقبح الصورة، وقلت في نفسي: إن لم يكن هذا الفساد برأي الخليفة، وإلا فيجب أن يشتكي إليه منهم الساعة، حتى يؤدبوا.
فلما عاد، خاطبه أولئك الخدم، بأقبح من الخطاب الأول، فعلمت أنه ما شكاهم، ولم أقدم على مخاطبته في ذلك، لعظم هيبته، وافترقنا.
فلما كان عشي ذلك اليوم، عدت إليه، وهو متخل، وقد استدعى بعض أصحابه، ودفع إليهم تخوت ثياب فاخرة، وطيباً، وأشياء قيمتها خمسمائة دينار، وأمره بحملها إلى خادم كان رئيس أولئك الخدم الذين سبوه غدوة.
وقال له: إقره السلام، وقل له كنت راسلتني في أن أحكم لفلان بشيء، لم تجز إجابتك إليه، لأنه لم يكن مذهبي، ولا مما يجوز عندي في الحكم، ولو عرضت على السيف لم أجب إلى محال في حكم، فرددتك.

فكان منك بالأمس ما لم يرض الله به، ولا قدح في شيء من أمرنا، ولكني استدللت به على عتبك، ووقع لي أن الرجل كان وعدك بشيء ساءك فوته، وقد أنفذت إليك هذا - وضع الهدية بين يديه - وأحب أن تقبله، وتعذرني.
قال: فاغتظت منه ، وقلت في نفسي: يؤدي جزية، ويعطي مصانعة عن عرضه، أي رأي هذا؟ فمضى الرسول، وافترقنا، ما بدأني بشيء، ولا بدأته به.
فلما كان في الموكب الثاني، صحبته، فصعد من الطيار، وجلست على رسمي، فإذا بأولئك الخدم، وعدة أكثر منهم، وقد وقفوا له سماطين، يقولون: يا عفيف، يا نظيف، يا مأمون، يا ثقة، يا جمال الإسلام، يا تأريخ القضاة، ويدعون له، ويشكرونه، حتى صعد من الطيار، وخدموه أحسن خدمة، وهو ساكت على رسمه، إلى أن دخل الدار، ثم عند خروجه إلى أول ما نزل طياره.
فتحيرت مما رأيتهم عليه من التضاد في الدفعتين، مع قرب العهد.
فلما استقررنا في الطيار، قال لنا أبو عمر: كأني بكم أنكرتم ما جرى منهم في ذاك الموكب، قلتم: لو شكاهم إلى الخليفة، فأمر بتأديبهم، أليس كذا وقع لكم؟ قلنا: بلى.
قال: كيف رأيتم ما شاهدتم اليوم؟ قلنا: أحسن منظر.
قال: أنه لم يذهب علي ما فكرتم فيه، ولكني علمت أنه لو شكوتهم، كنت بين أمور: إن لم يقع إنكار، فتنخرق هيبتي، ويبطل جاهي، ويطمع كل أحد في، ويجر علي ذلك أموراً كباراً.
أو وقع إنكار ضعيف، كان ذلك إغراء لهم.
أو وقع إنكار قوي، صاروا كلهم أعدائي، وتنقصوني، وعاداني بعداوتهم من فوقهم من الخدم، ولهم بالسلطان خلوات ليست لي، فيولدون علي عنده من الحكايات والسعايات، ما يفسد علي رأيه في مديدة.
وإني علمت أنهم ما قصدوني بهذا لشيء بيني وبينهم، وإنما هي طاعة منهم، للخادم الذي هو رئيس عليهم ، وأن ما حمله على ذلك ، ما كان طمع في أخذه على قضاء الحاجة التي سألني فيها فرددته.
وعلمت أني إذا عوضته واستصلحته، صلح لي جميع هؤلاء.
فعلمت ما رأيت، فانصح هؤلاء، وجميع الخدم، وأمنت عداوتهم، وعادوا يكذبون أنفسهم فيما رموني به ذلك اليوم ، ويخاطبوني بضده، بحضرة أكثر من كانوا خاطبوني ذلك اليوم بالقبيح بحضرته، وصاروا لي خدماً، وزاد ذلك في محلي، أن يرى أعدائي، خدم الخليفة، يخدمونني، ويدعون لي، ولم يكن الخليفة، لو بلغ غاية الإنكار عليهم، يأمرهم بهذا من خدمتي.
وما علم الغرباء، لأي سبب رضوا عني، وفعلوا بي هذا، ويجوز أن يظن أعدائي، أو يرجف أوليائي، أن الخليفة أمرهم بهذا، وأنكر عليهم ما جرى أولاً، فتلافوني بهذا الفعل، وقد بلغت أكثر ما أردت، ولم أبلغ الغاية، ولا عاديت أحداً.
واعلم يا أبا الحسن، إن أشياء قليلها كثير، منها إيثار العداوة، - وذكر أشياء لم أحفظها - فأي الرأيين الآن عندك أصوب؟ فقلت: رأي القاضي، جمل الله الدنيا ببقائه، وفعل به وصنع.
؟

القاضي أبو عمر يستميل أحد خدم الخليفة
وقد سمعت هذا الخبر عن جماعة غير القاضي أبي الحسن، منهم أبو عمر عبيد الله بن الحسين بن أحمد السمسار البغدادي الشاهد، وكان يخلف القضاة على بعض الأعمال، ويتقلد سوق الرقيق بمدينة السلام، فذكروا: أن أبا عمر القاضي، لما جرى عليه من الخادم ما جرى، أحضر حضرياً كان يخدمه، وقال له: امض فتوصل إلى فلان الخادم وابكي بين يديه بكاء شديداً، وقل له: إن أخي مات، وخلف مالاً وأطفالاً، ولم يوص.
وإن القاضي قد رد ذلك إلى بعض أسبابه، وفي هذا ذهاب جاهي، وإن كان قد فعل الحق في ذلك، فالله، الله، في ، تسأله أن يرد إلي المال والطفل، واحرص على ذلك، واحمل له هذه الدنانير - وأعطاه مائة دينار - ، وقل له: إذا فعلت ذلك، أعطيتك مائة أخرى، ولا تقنع منه أو يركب إلي ويسألني.
قال: فمضى الحضري، وتوصل إلى ذلك.
فقال له الخادم: ويحك، هذا قد عاملته بكل قبيح، فكيف أسأله حاجة؟ قال: فلم يزل الحضري يرفق به إلى أن أجاب.
فجاء فأخبر القاضي بأنه يركب إليه في يوم كذا، فانتظره.
وجاء الخادم إلى أبي عمر، وداراه، ومسحه، وأزال كل ما في نفسه، وقضى له الحاجة، ووقع له بما أراد، وسلم إلى الحضري التوقيع، فشكر ودعا.
وشكر الخادم وانصرف.
واستدعى أبو عمر الحضري، فأخذ التوقيع، وخرقه، ودفع إليه المائة الدينار الأخرى، وقال: تمضي بها إلى الخادم، فمضى بها إليه.

وصار الخادم صديقاً له. وقد أخذ مرفق أبي عمر، وهو لا يدري بذلك، واستقامت الحال.

جواب مفحم
وأخبرني غير واحد من أهل الحضرة: إن هاشمياً وقف لأبي عمر، في طريقه إلى الجامع، وكان سأله شيئاً فلم يجبه إليه، فقال له: يا بارقي، يعرض به، وما كان عليه من مبايعة ابن المعتز، ليكتب أصحاب الأخبار بذلك، فيجدد له سوءاً عند الخليفة. فوقف أبو عمر، وقال للرجل: يا هذا إن أمير المؤمنين أعزه الله قد عفا عن هذا الذنب، فإن رأيت أن تعفو، فعلت.
قال: فخجل الهاشمي، وعجب الناس من ثبات أبي عمر، وحسن جوابه، وسرعة فطنته، وتلطفه.
رقية تحبس السم
حضرت أبا الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، وقد رقى ملسوعاً من عقرب، فقال الملسوع: قد زال الوجع، وقام وهو كالمعافى، بعد أن دخل ضاجاً من الألم.
فسألته عن ذلك، فقال: هذه رقية لها خبر طريف، حدثني به، أبو أحمد الوزان، فجربتها على خلق، فأنجعت.
فسألته إخباري الخبر، فقال: حدثني أبو أحمد هذا، قال: حدثني أحمد بن الطيب السرخسي، قال: كنت قائماً بين يدي المعتضد، فدخل إليه بعض الخدم، فقال: بالباب رجل يصيح: نصيحة، وقد قلنا له: ما هي؟ فقال: لا أقولها إلا للخليفة.
فقال: لعل له ظلامة، أو حاجة، فراجعوه.
فكرر الكلام، إلى أن أمر بإدخاله، فقال له: ما نصيحتك؟ فقال: معي رقية تحبس السم.
فقال المعتضد: هاتوا عقرباً.
قال: فكأنها كانت معدة لهم، فجاءوا بعقرب في الوقت، فطرحت على خادم، فلسعته، فصاح، فرقاه الرجل، فسكن ما كان يجده الخادم.
فقال لأحمد بن الطيب: أكتب هذه الرقية، وأمر له بثلثمائة دينار.
فأملاها أحمد بن الطيب علينا، وهي: أن تأخذ حديدة، وتمرها من أعلى اللسعة في البدن إلى موضع اللسعة، كأنك ترد شيئاً، وتقول: بسم الله لومر سرلومر بهلبتي تنبه تنبه كرورابا كرورابا ابهتح ابهتح بهشترم بهوداله مهراشترم لوته قرقر سفاهه فلا تزال تكررها، وتمسح الحديدة، إلى أن يذكر الملسوع، أن السم الذي في بدنه قد انحدر إلى الموضع الملسوع، ويسكن عنه الضربان، إلا من حيث موضع اللسعة، فيفتح الموضع حينئذ بإبرة، ويعصر، فإن السم يخرج، ويزول الألم في الحال.
قال أبو الحسن: وقد جربتها على العقرب مراراً كثيرة، فنفعت.
وسبيلها أن تجرب في غير ذلك من السموم، فإن الذي قال الرجل: إنها تحبس السم، ولم يخص شيئاً من السموم بعينه.
أبو أحمد الوزان هذا، قد رأيته، وكان شيخاً صالحاً، يتوكل للقاضي أبي جعفر بن البهلول، وأبي طالب، في بيع الحطب، وحدثني عنهما بأشياء.
دواء للسعة الزنبور
حدثني علي بن محمد الأنصاري، قال: قال لي المرعوس المتطبب، وكان يخدم بجكم: إن الزنبور، إذا لسع إنساناً، فإن اتفق في الحال أن يكون محاذياً له إنسان محاذاة صحيحة، فيعمد الرجل المحاذي للملسوع، إلى كوز ماء، فيصبه على جبينه وقحف رأسه، إن كانت اللسعة في بدنه، فإنه يسكن.
قال: فلسعني مرة زنبور، فقلت لرجل كان في محاذاتي، صب على جبيني ورأسي ذلك الكوز الماء، ففعل، فسكن ما بي في الحال.
طبيب يلطخ مريضاً بالعذرة
قال: وقد عالج صبياً في رأسه بثور، بأن نوره، ثم غسله، وطلاه بغطاء رطب، وأقامه في الشمس نحو ساعة زمانية، ثم غسله، وطلاه بدواء كان معه، فزالت البثور.
ذرق العصفور يزيل الآكلة
وقال لي هذا الطبيب:إن خرا العصافير اليابس،إذا سحق، وجمع بالزيت، وحشي به الذي قد وقعت فيه الآكلة من الأبدان، أصلحها، وأزال الآكلة.
قال: وقال لي إن الشب إذا جعل في الزيت، وأمر على الموسى، لم يحلق شيئاً.
البول المغلي يحل القولنج
قال: وقد رأيت هذا الطبيب، وقد شفى رجلاً به قولنج شديد، ببول أغلاه، وطرح فيه جندب استر، وعقاقير أخر، فانحل قولنجه، في الحال.
عجوز تداوي من البثور
قال: وكانت بي في ساقي، قد تطاولت، فخرجت إلى قرية تقارب ما براون،من أعمال الأنبار،فنزلت على مزارع فيها، يقال له إبراهيم بن شمعون،فرأى تلك البثور.
فقال لي: عندنا عجوز ترقى من هذا، فأحضرنيها، فقالت: هذه علة يقال لها الدروك، وأنا أرقيها.
فرقتها طويلاً، ثم ألقت على ساقي الآس، والدهن، وقالت: لا تحله ثلاثة أيام.
فلما كان بعد ثلاثة أيام حللته، وقد عوفيت.
حفظ القاضي أبي جعفر

بن البهلول يدفع كارثة
حدثني أبو أحمد الوزان هذا، قال: كنت أتوكل لأبي جعفر بن البهلول القاضي، في بيع حطبه الذي كان يتجر فيه من الحرار، وأزنه على المشترين.
فبلغني يوماً خبر طوف عظيم، قد ورد له، فخرجت إلى دمما أستقبله، وكان هائلاً مهولاً.
وكانت القنطرة إذ ذاك مخوفة، على شفا الوقوع، والزواريق ممنوعة من الاجتياز بها لئلا تنكسر.
فأقمت يومي أنتظر الطوف، فإذا الجماعة قد جاءوني، وقالوا: إنه طوف عظيم، وقد حصل في جرية الماء، وليس يطيقه من فيه، والساعة يجيء،فيقع على القنطرة ويكسرها، فيكون فيه هلاك أبي جعفر مع السلطان.
قال: وهم في الحديث، حتى إذا رأيت الطوف، قد جاء كالجبل،وهو متصوب إلى القنطرة، لم أشك في المكروه، ورأيت الرجال الذي فيه قد ألقوا نفوسهم في الماء، وهم لا يشكون في تصوبه إلى القنطرة.
فأقبلت أدعو الله بصرفه عنها، إلى أن قرب، فدهشت، وجرى على لساني أن صحت: يا بخت أحمد بن إسحاق رده، ثلاث دفعات.
قال: فرأيت، والله، الطوف، وقد تعوج، ووقفت وقفة شديدة، فتقطع، فصار حطباً متفرقاً، يجيء على رأس الماء، لا يضر القنطرة، وجنح معظمه في الموضع الذي تقطع فيه، ووقعت البشارات والضجيج.
فقلت: ما الخبر؟ قالوا: إنه لما عدل عن القنطرة، جنح على جزيرة أخرى كانت مغطاة بالماء، فلما جنح عليها، تقطع، فكانت هذه صورته.
قال: فجمعنا الحطب من أسفل القنطرة، وما ذهب منه عود، ولا لزمتنا عليه مؤنة، وجعلناه في عدة أطواف، وجئنا به إلى بغداد.
وجئت إلى القاضي أبي جعفر، وعرفته ذلك، فحمد الله عز وجل، وتصدق بصدقة جليلة.
الأمير معز الدولة يزاد فوق
وظيفته رغيفين وباقة بصل
جرى حديث ارتفاع الناس، وتقلب الزمان بالإنسان، فحدثني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي، قال: حدثني الأمير معز الدولة، رحمه الله، قال: كنت ببلد الديلم أحتطب لأهلي، فقالت لي أختي الكبيرة، ليس يكفينا هذا الحطب، فجئنا بكارة أخرى حطباً لهم اليوم.
فقلت لها: لا أقدر، وقد جئتكم بما قدرت عليه.
فقالت: إن جئت بشيء، زدتك رغيفين مما أخبزه.
فجئتها على ظهري بكارة أخرى، وقد تلفت.
فقالت: إن جئتني بكارة ثالثة، أعطيتك مع الخبز الذي أزيدك إياه على وظيفتك باقة بصل. فجئتها بالكارة الثالثة.
فلما خبزت، أعطتني وظيفتي، وزادتني رغيفين، وباقة بصل، بإزاء ما حملته.
ثم صنع الله لي وتغيرت حالي إلى ما تراه.
قال: وقال لي أبو الفضل الوزير، لولا أن الأمير حدث بهذا، دفعات كثيرة، في مجالس حافلة، فأخرجه مخرج الافتخار، لا السر، لما تحدثت به.
أبو علي حمولي القمي يرتفع من حارس
في خان إلى أعلى المراتب
وسمعت أبا علي أحمد بن موسى حمولي القمي، يحدث، في حديث له طويل، وهو إذ ذاك في السماء، رفعة، وجلالاً، ويساراً، وإليه طراز الحرم الديباج، وابتياع الثياب، ومرتبته عند معز الدولة، أجل مرتبة: أنه كان أميناً على زورق، زماناً، من سورا إلى القصر، لشدة الحاجة والفقر.
وحدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أعرف أبا علي حمولي، حارساً لمتاع التجار، في خان يطرح إليه متاع الموصل، في موضع داره على دجلة.
إن الفتى من يقول هاأنذا
جرى في مجلس أبي رضي الله عنه، بحضرته، يوماً، ذكر رجل كان صغيراً فارتفع.
فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقعة يشحذ.
فقال أبي: وما يضعه أن الزمان عضه، ثم ساعده، كل كبير إنما كان صغيراً أولاً، والفقر ليس بعار، إذا كان الإنسان فاضلاً في نفسه، وأهل العلم خاصة لا يعيبهم ذلك.
وأنا أعتقد أن من كان صغيراً فارتفع، أو فقيراً فاستغنى، أفضل ممن ولد في الغنى، أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك، إنما عمل له غيره، فلا حمد له هو خاصة فيه، ومن لم يكن له فكان، فإنما بجده أو كده، وصل إلى ذلك، فهو أفضل من أن يصل إليه ميراثاً، أو بجد غيره، وكد سواه.
حريق الجمل ببغداد
حدثني أبو الحسين بن عياش رحمه الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، قال: لما وقع ببغداد، حريق الجمل، اختل دكاني فيما اختل، وذهب مني مال عظيم.
فقلت له: كيف كان حريق الجمل؟

قال: اجتاز في سوق الخرازين، جمل عليه قصب، وكان رجل يثقب لؤلؤاً، وبين يديه نار، فوقع طرف القصب على النار، فاشتعلت وبلغت إلى الجمل في لحظة.
فكان الجمل، كلما أحس بوقع النار عدا، وتنافض الشرار منه، في جانبي الطريق، فحرق كل ما يجتاز به.
فلم يزل على ذلك، إلى أن تلف الجمل، وتشاغل الناس بطفي الحريق الواقع في الدور والعقار.
فكان حد ما احترق، من أول سوق الخرازين إلى طاق الحراني، ووسط قطيعة الربيع. وتلف ناس كثير، وزالت نعم عظيمة، بذهاب الأموال، ورؤوس أموال التجار، وانهدام العقارات. قال: وكان هذا عقيب انتقال المعتصم إلى سر من رأى، فهم الناس بالانتقال عن بغداد، وإن تخرب، فبلغ ذلك المعتصم.
قال: فخاطبه أبو عبد الله أحمد بن أبي داؤد، في إطلاق مال للناس.
فقال المعتصم: خذ خمسة آلاف ألف درهم، وأخلف بها جميع ما ذهب من الناس.
فأخذ ابن أبي داؤد المال، وجاء فجلس في مجلس الشرقية، واجتمع إليه الناس، فعرفهم علم الخليفة بأمرهم، وما كان منه في خطابه، وما أنفذ معه من المال، فقال: ولم يذكر مبلغه، إلا أنه قال: قد حملت من المال ما أخلف به، جميع ما ذهب من جميعهم.
قال: وكنت حاضراً المجلس، أسمع الكلام.
فقام إليه شيخ كان حاضراً، فقال: أيها القاضي، إن هذا مال عظيم، فكم أنفذ إلينا أمير المؤمنين معك؟ فقال: خمسة آلاف ألف درهم.
فالتفت الشيخ إلى نفسين في المجلس، فقال: قوما، فقاما.
فقال أيها القاضي هذان، قد ذهب منهما، في أثمان عقاريهما، ورؤوس أموالهما، خمسة آلاف ألف درهم، أليس هكذا يا معشر المسلمين؟ واستشهد الحاضرين، فقالوا: نعم.
فقال: أيها القاضي، إذا كان هذان، وهما نفسان، من جميع من قد حضر، قد ذهب منهما قدر ما حمله أمير المؤمنين، فالباقون من أين يأخذون؟ قال: فتحير ابن أبي داؤد، وقال: ما ترون في هذا؟ فقالوا: الرأي لك.
قال: فقال أولئك النفسان: أما نحن، فما نريد شيئاً، ولا نسأل الخلف، إلا من الله عز وجل، ولا نطلبه إلا مكن فضله، ولكنا نشير عليك أيها القاضي، فقال: افعلا.
قالا: تجعل هذا المال، مقسوماً بين أهل البضائع اليسيرة، وصغار الناس، فإن رغب أحد من الأكابر، في أن يشارك الأصاغر فيه، فإن ذاك إليه وإليك.
قال: فقام خلق كثير، فقالوا: أما نحن، فما نريد شيئاً، اجعله للأصاغر، وانصرفوا.
ففض المال، على أرباب البضائع اليسيرة، ثم لم يكف، واحتيج لهذا إلى أضعاف ما حمل من المال.
فلما نفذ المال، خرج ابن أبي داؤد ليلاً، لكثرة الازدحام عليه، والطلب منه، ونفاذ ما عنده.

إبراهيم بن الحسن البزاز يخسر
في حريق واحد ما يزيد على أربعمائة ألف درهم
سمعت إبراهيم بن حسن البزاز، يقول: خلف الحريق سريع، كان حريق بالكرخ في سنة نيف وأربعين وثلثمائة فتلف لي متاع في دكاني وداري بمائتي ألف درهم، سوى أثمان العقار.
فقلت: كم كان أثمان العقار؟ فقال: أكثر من هذا.
قال: فنمى الله، عز وجل، ما بقي، وأعدت منه عقاري، ورأس مالي في دكاني، فما أفرق اليوم بين أمري، وبين ما كان قبل الحريق.
قلت له: ففي دكانك اليوم متاع بمائتي ألف درهم؟ فضحك، وقال: هذا لا يسأل عنه التجار، ولا يصدقون أيضاً إذا سئلوا، ولكن ما أفرق بين حالي الساعة، وذلك الوقت، وأنا من الله عز وجل في خير.
أبو القاسم الجهني يفخر بأنه قد أجهد نفسه
فيما لا يليق بالرجل الحر
حدثني أبو القاسم الجهني، قال: جرى بيني وبين محمد بن خلف، القاضي وكيع، ملاحاة في شيء، بحضرة أبي الحسن بن الفرات، فولدت بيننا عداوة، فبحثت عن عيوبه.
فبلغني أن له أباً ساقطاً في أصحاب الصناديق بباب الطاق، فركبت حتى جئت إليه، فرأيته يعمل الصناديق بيده، وفاتشته، فإذا هو أسقط رجل، وأجهله.
وانصرفت فكاتبت جماعة من وجوه الشهود بالجانين، وأشرافهم من البطنين، وأكابر التجار والكتاب والتناء، وواعدتهم بحضور مسجد هناك كبير، فحضر خلق كثير.
وركبت ، فحين حصلت هناك، قلت: علي بخلف الصناديقي، فجاءوا بالشيخ كما أقيم من العمل، وآلته معه، ويده ملوثة، كما كنت وصيتهم.
فقلت لهم: أعزكم الله، إني كنت سألتكم الحضور لأخاطب هذا الشيخ بحضرتكم بشيء آخذ خطوطكم به، فاحفظوا ما يجري.
ثم قلت: يا شيخ، من أنت؟ قال: أنا خلف بن فلان.

قلت: وكيع قاضي، من هو منك؟ قال: ابني.
فقلت لمن حضر من شيوخ المحلة: هو كما قال؟ فقالوا: نعم.
قلت: أنت بهذه الصورة مع اتساع حال ابنك؟ قال: لأنه عاق بي، فعل الله به وصنع، ودعا عليه.
فقلت له: يا شيخ، تحفظ القرآن؟ قال: أحفظ منه ما أصلي به.
فقلت: تحسن شيئاً من القراءات؟ قال: لا.
قلت: وكتب الحديث قط؟ قال: لا.
قلت: رويت من الأخبار، والآثار، والآداب، والأشعار شيئاً؟ قال: لا.
فلم أزل أعدد عليه العلوم وأصنافها، وهو يقول لا، لا.
قلت: فتحسن شيئاً من النحو أو العروض أو المنطق؟ قال: لا.
فقلت: أعزكم الله، إن وكيعاً رجل كذاب، متعاط العلم والأدب، ولم آمنه في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكذب في العلوم، وأن يجعل ذلك طريقاً متى مات هذا الشيخ، فيقول: حدثني أبي، وأخبرني أبي، ويضع على لسانه كل كذب.
فأردت أن تحفظوا على هذا الشيخ ما ذكره من أنه ليس من هذا الأمر، ولا إليه، حتى لا يمكنه ادعاء ذلك عليه بعد موته، وأن تعرفوا أيضاً فسقه بعقوقه والده، وسقوط مروءته، بتركه أباه على هذه الحال.
قال: فما فارقتهم حتى أخذت خطوطهم بما جرى، على أشنع شرح قدرت عليه، وأجابوا هم إليه.
وصرت بالمحضر معي إلى مجلس الوزير، وتركته في خفي، وأجريت الحديث مع وكيع، إلى أن شاغبته في الكلام، وقلت: لا تسكت يا ابن الصناديقي الجاهل، فامتعض.
وأخرجت المحضر، وعرضته على الوزير، وسألته أن ينفذ ويستدعي أباه ويشاهده.
فضحك الوزير، وسقط وكيع من عينه.
وقامت قيامته من يدي.

أبو القاسم الجهني يتولى
الحسبة بالبصرة
وولي أبو القاسم الجهني، عندنا بالبصرة، الحسبة، من قبل أبي جعفر الصيمري، فسمعت إذ ذاك، شيوخنا، يقولون: إنهم ما شاهدوا ولا سمعوا، من بلغ مبلغه، في ضبط العامة، ورفع الغشوش، ومن عرف من أسرار الصنائع، والأمتعة، ما عرفه، حتى كأنه لا يحسن شيئاً غيرهما، مثله.
وطالب الناس بمطالبات صعبة، فانتشر له حديث عظيم جميل، في البلد بذلك، وهيبة في نفوس الأكابر، فضلاً عن الأصاغر.
فاجتاز يوماً وبين يديه رجالته، بمؤذن يؤذن لبعض الصلوات، فقالوا: الجهني، الجهني.
فتطلع المؤذن، فرآه، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل لك علي طريقاً، فقالوا للرجالة: خذوه إلى الدار.
فضج من ذلك، وقام معه الجيران، وجاءوا، ونزل الجهني في داره، فادخلهم.
فقالوا له: أمرت بإحضار هذا الرجل المؤذن، فأي طريق لك عليه؟ فقال: تحتاج أن تحلف لي أن لا تدخل المسجد بالنعل الذي تدخل به الكنيف، فإن هذا يفسد صلاة الناس، ولا يحل، ولا تؤذن وأنت جنب.
فسألوه أن يعفيه، فأبى وقال: إما أن يحلف أو لا يدخل المسجد، فما زال به حتى أحلفه على ذلك.
فلما أراد الانصراف، قال له: يا شيخ، الآن علمت أن لي عليك طريقاً، وإن بيننا معاملة، أم لا؟ فقال: أيدك الله، أخطأت ولم أعلم.
فقال: لا تعاود الكلام فيما لا تحتاج إليه، فإن الفضول ضار.
الكوكبي محتسب الأهواز
والقاضي ابن السراج
حدثني أبو العباس نصر بن محمد الشاهد رحمه الله خليفة أبي رضي الله عنه على فريضة الأهواز، قال: كان الكوكبي محتسباً عندنا من قبل أخي أم موسى القهرمانة، وكان خشناً منبسط اليد، جلداً. فوقعت بينه وبين أبي الحسن بن علي السراج القاضي نفرة، فأمسك عنه أياماً، ثم صار إلى بابه على غفلة، وقد كان أخل بالجلوس في الجامع مجلسين.
فوقف في رجالته على الباب، وقالوا: قولوا للقاضي، ليس لك أن تواصل الجلوس في منزلك، أبرز إلى الجامع ينلك القوي والضعيف، كما أمرت في عهدك.
فدخل إليه الغلمان، فأخبروه، فقامت قيامته، فأخرج من بحضرته من الشهود يدارونه.
فقال: لا أدخل، ولا أنصرف، أو يركب إلى الجامع.
فما زالوا به حتى أصلحوا بينهما.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
حدثني القاضي أبو عمر عبيد الله بن الحسين المعروف بابن السمسار، قال: حدثني أبو علي بن ادريس الجمال الشاهد، قال: حدثني أو عبد الله بن أبي عوف، قال:

كان سبب اختصاصي بعبيد الله بن سليمان، أني جزت يوماً في الجامع بالمدينة، فوجدته وهو ملازم في يد غريم له، في عقب النكبة، بثلثمائة دينار، وكنت أعرف محله من غير مودة بيننا. فقلت له: لأي شيء أنت هاهنا أعزك الله جالس وما مضيت إلى الصلاة؟ فقال: ملازم في يد هذا بثلثمائة دينار علي.
فسألت الغريم إنظاره، فقال: لا أفعل.
قلت: فالمال لك علي، تصير إلي بعد أسبوع حتى أعطيك إياه.
فقال: تعطيني خطك بذلك.
فاستدعيت دواة ورقعة، وكتبت له ضماناً بالمال إلى شهر، فرضي وانصرف.
وقام عبيد الله فأخذ يشكرني.
فقلت: تمم أيدك الله سروري، بأن تصير معي إلى منزلي.
فحملته وأركبته حماري، ومشيت خلفه، إلى أن دخل داري، فأكلنا ما كان أصلح لي في يوم الجمعة، كما يفعل التجار، ونام.
فلما انتبه، أحضرته كيساً، وقلت: لعلك على إضاقة، فأسألك بالله، إلا أخذت منه ما شئت.
قال: فأخذ منه دنانير، قام فخرج.
فأقبلت امرأتي تلومني وتوبخني، وقالت: ضمنت عنه ما لا يكفي به حالك، ولم تقنع إلا بأن أعطيته شيئاً آخر.
فقلت: جميلاً أسديته، ويداً جليلة، وهو رجل حر كريم، كبير جليل، من بيت وأصل، فإن نفعني الله به فذاك، وإن تكن الأخرى فلن يضيع عند الله.
ومضى على الحديث مدة، وحل الدين، وجاء الغريم يطالبني، فأشرفت على بيع عقاري، ودفع ثمنه إليه، ولم استحسن مطالبة عبيد الله، ودفعت الرجل بوعد وعدته إلى أيام.
فلما كان بعد يومين من هذا الحديث، جاءتني رقعة عبيد الله يستدعيني، فجئته.
فقال: قد وردت علي غليلة من ضيعة لي، أفلتت من البيع في النكبة، ومقدار ثمنها مقدار ما ضمنت عني، فتأخذها، وتبيعها، وتصحح ذلك للغريم.فقلت: أفعل ذلك.
فحمل الغلة إلي،فبعتها، وحملت الثمن بأسره إليه،وقلت له:آنت مضيق،وأنا أدفع الغريم، وأعطيه البعض من عندي فاتسع أنت بهذا.
فجهد أن آخذ منه شيئاً،فحلفت أن لا أفعل، ووفرت الثمن عليه.
وجاء الغريم، فألح علي،فأعطيته من عندي البعض. ودفعت به مديدة.
فلم يمض على ذلك إلا شيء يسير حتى ولي عبيد الله الوزارة، فأحضرني من يومه، فجعلني في السماء، وقام لي في مجلسه،وكسبت به الأموال، وقر هذه النعمة التي أنا فيها.

حكاية تدل على مقدار عناية الوزير
عبيد الله ابن سليمان بابن أبي عوف
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول،قال:حدثني أبي، قال: خرجت من حضرة عبيد الله بن سليمان في وزارته، أريد الدهليز، فخرج ابن أبي عوف فصاح البوابون، والحجاب، والخلق، هاتم دابة أبي عبد الله.
فحين قدمت دابته ليركب،خرج الوزير ليركب، فرآه، فتنحى أبوعبد الله بن أبي عوف، وأمر بإبعاد دابته لتقدم دابة الوزير، فحلف الوزير إنه لا يركب، ولأتقدم دابته، حتى يركب ابن أبي عوف.
قال: فرأيته قائماً، والناس قيام بقيامته، حتى قدمت دابة ابن أبي عوف فركبها، ثم قدمت دابة الوزير،فركبها، وسارا جميعاً.
ابن أبي عوف يحتال في
إيصال كتبه إلى الوزير
وحدثني أبو الحسن، قال: حدثني أبي، قال: لما خرج عبيد الله إلى الجبل، واستحلف القاسم، لم يكن يعامل ابن أبي عوف، مثلما كان أبوه يعامله.
فشق ذلك عليه، وخاف أن ينفذ كتبه بشكايته إلى أبيه، فتقع في يد القاسم.
فجاءني دفعات، يسلم علي، ولا يسألني حاجة، حتى جعلني صديقاً، ثم سألني أن أجعل كتبه إلى الوزير في طي كتب حرم صاحبي إليه، وكان في جملة القواد المجردين من عبيد الله، فكنت أفعل ذلك دائماً، فيوصل صاحبي الكتب إلى الوزير سراً، وتنفذ الأجوبة، فترد كتب عبيد الله على القاسم، في الخاص، بالصواعق في أمر ابن أبي عوف.
ويوكل القاسم بالطرق، وتؤخذ له كتب أكثر الناس، فيقف عليها، ولا يجد لابن أبي عوف كتاباً، فيتميز غيظاً، ولا يدري من أين يؤتى، إلى أن قدم عبيد الله.
تصرف من ابن أبي عوف
يدل على نفس صغيرة قال: وسألني في تلك الأيام، رجل من أهل الثغر، أن أشفع له إلى ابن أبي عوف، في معاونته على أسرى له في بلاد الروم، فامتنعت عن ذلك، لعلمي أنه تاجر على كل حال.
فألح علي، فكتبت له رقعة إليه، فجاءني الرجل فشكرني، وذكر أنه أعطاه أربعين ديناراً.

ومضت السنون، فسألني ابن أبي عوف أن أؤجره رقة من ضياعي بالأنبار، يعمل فيها البطيخ الذي نسب فيما بعد إلى العبدلاوي، وإنما هو مضاف إلى أبي عبد الله بن أبي عوف، فآجرته إياها بمال جليل.
وعمل البطيخ فأنجب، فلما طالبته بالأجرة، احتسب علي الأربعين ديناراً التي بر بها الثغري، بشفاعتي.

سبب سقوط محل ابن أبي عوف
وكان سبب سقوط محله، على ما أخبرني به أبو الحسين بن عياش القاضي رحمه الله، قصة ابنته، فإنه ذكر أن الخبر استفاض ببغداد: أنه دخل داره، فوجد مع ابنته رجلاً ليس لها بمحرم، فقبض عليه، وعمل على ضربه بالسياط، فأشير عليه أن لا يفعل، وقيل له أن في ذلك هتكاً لابنتك ولك، فأطلق الرجل وقيد المرأة واحفظها، فلم يقبل، واستدعى صاحب الشرطة، فضرب الرجل بالسياط على باب داره، وكان الرجل أديباً ظريفاً، فأنشأ يقول متمثلاً وهو يضرب:
لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنباً ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب
يا قوم، أيحد أحد الزانين، دون الآخر، أخرجوا صاحبتي، وإلا فافرجوا عني.
قال: فاتضح ذلك، وانهتك، وتناوله الشعراء والخطباء والناس بألسنتهم حتى سقط محله.
وكان من ذلك ما قاله ابن بسام، في قصيدة أولها:
يا قومنا إن القيامة دانيه ... زان يحد ولا تحد زانيه
ويكمل البيت الأول بيت تمام له، وهو:
فيا بعل ليلى، ليس يجمع سلمها ... وحربي وفيما بيننا شبت الحرب
الموفق طلحة يراسل أخاه المعتمد
في خلع المفوض وتقليد العهد لغيره
حدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر السراج الواسطي، المعروف بالحارثي، قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثني يوسف بن يعقوب المقرئ الواسطي، قال: لما دخل الناصر لدين الله الموفق، مدينة واسط بعد صاحب الزنج، وأقام بها، والمعتمد بفم الصلح، ووقعت الرسالة بينهما في خلع المفوض وتقليد العهد من يختاره الموفق، استدعاني الموفق، وجماعة من شهود واسط، وخاطبنا في النفوذ إلى المعتمد، لنشهد عليه بذلك.
فقالت الجماعة: السمع و الطاعة، ونهضت، غيرى، فإني سكت، وجلست.
فقال الموفق: شيء تقوله؟ فقلت: إن إذن الأمير الناصر اعزه الله،قلت.
قال: قل.
قلت: أيها الأمير إنك تنفذنا إلى إمام، ولسنا نأمن أن يشهدنا على غير ما تريد أن يشهدنا عليه، وإذا وقفنا بحضرته، فأشهدنا، لم يجز أن نشهد على غير ما يشهدنا عليه، فما تأمر؟ قال: فكأني أيقظته من رقدة، وأعلمته أنه إن أشهدنا على تثبيت أمر المفوض، وخلعه هو، وتفسيقه، وقع الأمر موقعه.
فقال: أحسن الله جزاءك، وأضرب على إنفاذنا.
قال: ثم كان يختصني بعد ذلك، ويستدعيني في أوقات، وكان ذلك أول ما بان من محلي عند أهل بلدي، وتقدمت به عليهم. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟
متى حدثت ابن مقلة نفسه بالوزارة
حدثني أبو الحسن الأزرق التنوخي، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قال: كنت خصيصاً بأبي الحسن بن الفرات قبل وزارته الأولى، وكاتباً له.
فلما تقلد الوزارة، استدعاني بعد جلوسه، وقال: أحضر ابن الأخرس التاجر، وجماعة من التجار غيره، وبايعهم ثلاثين ألف كر من غلات السواد، واستقص السعر منهم، واستثن في كل كر بدينارين، وطالبهم بحصول الاستثناء اليوم، وحصله، وعرفني.
قال: فأحضرتهم، وقررت السعر معهم، وطالبتهم بالاستثناء عاجلاً، فقالوا: نصححه في مدة ثلاثة أيام، فعرفته، فأجاب.
فقال: إذا حصل الاستثناء فاكتب لهم إلى العمال، بتسليم الغلات، وقبض الأثمان.
فلما كان في اليوم الثالث، حملوا مال الاستثناء، وكتبت لهم بالتسليم، وقطعني شغل عرض عن مطالعة الوزير بذلك.
فلما كان بعد يومين، قلت له: ذلك المال الذي أستثني به من غلات السواد حاصل منذ أيام عندي، فما الذي يأمر الوزير فيه؟ فقال: يا سبحان الله، كأنك قدرت أني استثنيت به لنفسي؟ لقد قبحت في الظن، وإنما أردت بذلك الإصلاح لحالك، وأن أعتقد لك نعمة يبين بها أثر صحبتي عليك، فأصلح به أمرك.
قال: فقبلت يده، وشكرته، وعدت إلى منزلي،وما أتمالك فرحاً. فحين علمت حصول المال لي، حدثتني نفسي بالوزارة، ودعتني نفسي إلى تأهيل نفسي لها، والسعي في طلبها.
فما زلت من ذلك الوقت أشرع فيها، حتى تمت لي.
؟
شيخ من الدينارين يثني ابن مقلة

عن طلب الوزارة
حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: كنت بحضرة أبي علي بن مقلة، وقد أرجف له بالوزارة الأولى.
فدخل عليه شيخ من الديناريين، كان يكرمه أبو علي، فأعظمه، وجلسا يتشاوران طويلاً.
ثم زاد الكلام بينهما حتى سمعت بعض كلام الشيخ، وهو يعاتبه على طلب الوزارة، ويثنيه عنها، ويشير عليه أن لا يدخل فيها، وأبو علي ساكت.
فلما انقضى كلامه، قال له أبو علي: بلغني عن معاوية وهو ممن لا يدفع من علم بالدنيا، أنه قال: من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
قال: فقال له الشيخ: أستودع الله الوزير، وقام.
فما كان إلا بعد أسبوع أو أقل، حتى خلع على أبي علي، وقلد الوزارة.
من طلب عظيماً خاطر بعظيم
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان، قال: كنت بسيراف، وقت أن اجتاز بها أبو عبد الله البريدي، يقصد علي بن بويه، فأعظمه الليث، وحمله، ولقيه وجوه سيراف في الجيش والناس كلهم، وكنت فيهم.
فسمعته، وهو على دابته، وهو يقول: من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
وما أحسن ما أنشدنا المتنبي لنفسه، من قصيدة مشهورة له:
غريب من الخلان في كل بلدة ... إذا المطلوب قل المساعد
وجزاء سيئة سيئة مثلها
حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، قال: لما ولي أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد الوزارة، صارفاً لأبي علي بن مقلة، وتضمنه هو وأبو عباس الخصيبي بالمال الذي ضمناه به، وتسلمناه، كنت أختلف إلى أبي القاسم، على رسمي في ملازمته، فأرى أبا العباس بحضرته يخاطبه في معنى أبي علي، والتشديد في مطالبته، وربما أحضراه ليوقعا به، فأقوم لئلا يراني قد رأيت منه ذلك.
فكنت أجلي بحيث أرى وأسمع ولا يراني، فيطالب، ويضرب.
فإذا أوجعه المكروه، قال: لي في موضع كذا، كذا وكذا.
فيرفع المكروه عنه، ويمضون إلى الموضع، فلا يجدون لما ذكره حقيقة.
فإذا سألوه قال: ما لي حال، ولا مال، وإنما بردت عن نفسي في الحال، ودفعت الموت، ولا يمكن أبو القاسم سليمان، من رد المكروه عليه أياماً.
فطالت قصته، ولم يستخرج منه شيء، فجرت بينه وبين أبي العباس مخاصمة بهذا السبب، وقال: لا بد من بسط العذاب عليه، حتى يروج بعض المال من جهته، وكان سليمان يستحي. فتقرر الرأي على أن نقل إلى دار ابن الحرث، وكان الخصيبي يجيء إليها، فيعاقبه، ويستخرج المال منه.
قال: فاتفق أنني دخلت يوماً مسلماً على ابن الحرث، وعزمنا على الجلوس للأنس، فدخل الخصيبي، فدخلت بيتاً من الدار لئلا يراني.
وخليا، وأخرجا ابن مقلة، فأخذ الخصيبي يوبخه، ويستخف به، على ما ارتكبه منه، ومن سليمان، ويشتفي منه بالخطاب بكل لون قبيح، وقد أقامه بين غلامين، وأقام خلفه آخر.
إلى أن قال له في جملة كلامه: أقرأني يعقوب البريدي جوابك إليه، لما عدت من البحر، في ظهر كتابه إليك، يقول إنه فد امتثل أمرك في نفيي وحملي إلى البحر، فوقعت بخط يدك قطعها الله: يا عاجز، ألا سملته، ثم حملته، يا عاض كذا وكذا، أردت أن ينطبق لفظك بانطباق ناظري؟ يا غلام اصفع.
قال: فصفع، وأخذ خطه بالمال.
مشعوذ يدعي الولاية
ومن الأخبار المفردات، ما أخبرني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق، قال: قدم علينا بالأنبار رجل من أهل القصر، يقال له عمر، يعظ العامة، ويري نسكاً، ويقول: من أطاع الله، أطاعه كل شيء، وإنه يغمس يده في الزيت الحار المغلي الشديد الحرارة، فلا يضره.
فافتتن أهل البلد به، واجتمعوا إلى الجامع، ليشاهدوا ذلك، وسألوني الحضور، فحضرت، وإخوتي، وسلطان البلد، وقد نصب ديكدان في صحن الجامع على دكة، ووضع فوقه طنجير، والرجل قائم يصلي.
فلما جئنا طلبوا زيتاً، فأنفذت على يد غلامي، فجاءوا بخماسية، فصبت في الطنجير، وأوقد عليها وقود جيد شديد.
فلما أغلي الزيت ونش، أقبل على أخي ، وقال: يا أبا أحمد، الله الله ، لا يكون ما أحضرته غير الزيت، فأهلك.
فحين قال هذا، انكشف لي أنها حيلة، فقلت له: ما هو إلا الزيت.
فنزع ثيابه، وعمد إلى بقية كانت في الخماسية من الزيت لم تغل، مقدارها نصف رطل، فصبها في الطنجير، ودعا شارباً، فغسل يده غسلاً شديداً، وذراعيه، وصدره، ثم أخذ كفاً من الماء البارد، فرشه على الزيت، فزاد نشيشه.

ثم صعد على الدكة، وفي يده صنجات،، فرمى بها في الطنجير، ثم أدخل يده بسرعة شديدة، وصاح بأعلى صوته: لا إله إلا الله، وغرف بكفه الصنجات، فأخرجها، ورمى بها بحدة، وهو يصيح: يا الله، بأعلى صوته.
ثم تقدم إلى الزيت، فاغترف بكفه منه، فغسل به صدره، وذراعيه، وهو يصيح صياحاً شديداً، يوهم به من حضر أنه يريد الدعاء، وكان عندي، أنه تألم وتوجع وتأوه.
ثم نزل، فأقبل يدعو، ويقول للعامة: أنا أرجو أن أجيئكم بعد أيام، بسباع الأجمة،أقودها بآذانها. فحملناه معنا إلى منزلنا، واغتسل بماء حار، وتدلك، وبخرناه، وأقام عندنا يومه.
فسألناه عن سبب ذلك.
فقال: من أطاع الله، أطاعه كل شيء، فأمسكا عنه.
فلما كان بعد أيام،جاء جماعة من أهل الأنبار، فقالوا: نحن نغلي الزيت، ونعمل كما عمل، ونغلي القار، ونأخذه من القدر بأيدينا حاراً.
قال فجمعناهم بحضرته، فعملوا ذلك، فأبلس، وقال:هذا، إنما لحقتكم بركتي.
وهرب من البلد غد.
فسألنا الذين عملوا ذلك، فقالوا جربنا على أنفسنا، وتصبرنا كما يصبر الواحد منا على الماء الحار الشديد الحرارة في الحمام، ولا يصبر عليه آخرون.
ويشبه هذا، ما أخبرني به أبو أحمد بن أبي سلمة العسكري، أحد الشهود بها، إنه شاهد رجلاً، يدخل يده في قدر السكر الحار، ويخرج منه ما طرحه في الظروف.
وأخبرني أبو الطيب، إنه رأى الشبلي الصوفي، يدخل يده في طنجير حار، فيه فالوذج حار مغلي، فيأخذ منه اللقم، فيأكلها.
قال: وهذا أشد ما شاهدته، وفعل ذلك مراراً.
فقال له في بعضها، صوفي كان حاضراً: ويحك اعمل أن في يدك كشتبان، حلقك مصهرج؟

الشبل يتواجد
قال: وكان الشبلي ينتف شعر رأسه، وكانت لهذا الشبلي، عجائب وحكايات، منها، ما من الوزير أبي محمد المهلبي، قال: اجتزت بغداد. في بعض طرقها، فرأيت الناس مجتمعين على رجل طريح.
فقلت: ما هذا؟ فقالوا: الشبلي جاز الساعة على هذا الهراس، ومناديه يقول: إلى كم تغلط؟ فتواجد، وصاح حتى أغمي عليه.
قال: فمضيت، وعجبت من جهله.
فرأيت بعض الصوفي، فأخبرته الخبر، وقلت له: ويحك، أيش في هذا، حتى يصيح الشبلي منه، ويتواجد؟ فقال: يعتقد أن الله تعالى كلمه على لسان المنادي.
فقلت: هذا أظرف، لو كان بحذاء المنادي مناد الهراس آخر، يصيح مثل صياحه، إلى كم تغلط، أيهما كان كلام الله؟ فقال: الجواب عليه في هذا.
إذا عتق الشمع عشرات السنين
ثم استعمل أبطأت النار فيه
ومن الأخبار المفردات أيضاً، ما أخبرني به أبو الحسين بن عياش، قال: دعانا أبو الطيب بن أبي جعفر الطائي مع أبي القاسم سليمان بن الحسن، وابنه أبي محمد، دعوة أنفق فيها مائتي دينار، وأظهر من الآلات، ونعم المروءة، كل شيء حسن طريف غريب فاخر.
وكان أحسن ما شاهدنا له شمعتين موكبيتين فيهما ثلاثون أو أربعون مناً، في تورين كبيرين، نصبهما في وسط المجلس، وفرق الشموع الصغار حواليهما.
فكان الفراشون إذا أرادوا قط الشمعتين، تطاولوا شديداً، حتى يقطعوهما.
وكان لون الشمعتين غير مليح يضرب إلى البياض، مما قد عشب عليهما من التراب.
وجلسنا إلى قريب من الغداة، وهما تتقدان في ليلة شتوية، ونمنا، وانتبهنا، وهما تتقدان، فنظرت فإذا الذي اتقد من كل واحدة منهما، أصابع يسيرة، وهما بحالهما.
قال: فما تمالكت، أن سألته، فيما بيني وبينه، عن سبب ذلك.
فقال: هما عندي، وعند أبي من قبلي، منذ خمسين سنة، ما استعملناهما.
وعندنا شمع كثير هذا سبيله، تعمدنا تعتيقه، لأنه بلغ أبي أن الشمع إذا عتق عشرات سنين، ثم استعمل، كان ما يحترق منه هذا القدر، ونحوه.
فعتق شمعاً كثيراً، ونسيه، ومات، وتشاغلت بعده عن استعماله سنين، فلما احتفلت لهذه الدعوة الآن، ذكرت الشمع العتيق الذي في خزائننا، فأخرجت هاتين منه، وكان من أمر هما ما رأيت، وصحت التجربة لنا فيهما.
حجام يحجم بالنسيئة إلى الرجعة
أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو بكر يموت بن المزرع، قال: سمعت أبا عثمان الجاحظ، يحدث: أنه رأى حجاماً بالكوفة، يحجم بنسيئة إلى الرجعة، لشدة إيمانه بها.
آذان رجل من القطيعة
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني. قال:

سمعت رجلاً من القطيعة، يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن علياً ولي الله، محمد وعلي خير البشر، فمن أبا فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، ضرطت هند على ابن عمر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وهذا عظيم مفرط، ونستغفر الله منه، ونستعيذ به من الجهل.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟الحنابلة يبنون مسجداً ضراراً
أخبرني جماعة من البغداديين: إن الحنابلة بنوا مسجداً ضراراً، وجعلوه سبباً للفتن والبلاء.
فتظلم منه إلى علي بن عيسى، فوقع في ظهر القصة.
أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أسس على غير تقوى من الله، فليلحق بقواعده، إن شاء الله تعالى.

أبو عبد الله الكرخي آية
في سرعة الحفظ
حدثني أبي رضي الله عنه، قال: حدثني أبو عبد الله المفجع، قال: أنشدت أبا محمد القاسم بن محمد الكرخي، قصيدة طويلة مدحته بها، فلما استتممتها، خرج ابنه أبوعبد الله جعفر بن القاسم من خيش كان في صدر المجلس الذي كنا فيه، فقال: يا شيخ، ألا تستحي، تمدحنا بقصيدة ليست لك، تدعيها؟ قال: ولم أكن أعرف خبره في سرعة الحفظ، فقلت: أعيذك بالله يا سيدي، والله ما قالها غيري. فقال: سبحان الله، هذه علمنيها المعلم في المكتب من كذا وكذا سنة، وابتدأ حتى مضى في جميعها، ما أخل ببيت واحد، وكانت فوق الخمسين بيتاً.
فأسقط في يدي، فخجلت، واندفعت أحلف، بالطلاق والعتاق، أنها لي، وأنا لا أدري من أتيت. فلما رحمني القاسم قال: يا هذا لا تقلق، فأنا أعلم أنك صادق، ولكن أبا عبد الله لا يسمع شيئاً ينشد، طويلاً ولا غيره، إلا حفظه في دفعة واحدة حين يسمعه، وإنه حفظها لما أنشدتنا إياها. وأجازني، وانصرفت.
أبو عبد الله الكرخي
يحفظ جماعة تحتوي على ارتفاع فارس حدثني أبي رضي الله عنه: أن جماعة كان عملها جعفر بن القاسم، تحتوي على ارتفاع فارس، أو ناحية من فارس، الشك مني، ومشايخ الناحية، ومعاملاتها، وخراجها، وما أدي، وما بقي، ودخل ذلك، وخرجه، وكان يرفع حسابها إلى الوزير.
فطلبت الجماعة منه، ففقدت.
فقال جعفر: لا عليكم، وأملاها من حفظه في الحال بحضرة والوزير، ورفع الحساب عليها. ثم وجدت الجماعة، فوجدت موافقة لها حرفاً بحرف، إلا في باب واحد، فإنه جاء به مقدماً ومؤخراً.
نادرة عن شخص آخر
آية في سرعة الحفظ
حدثني أبو القاسم عبد الله ابن محمد ابن عثمويه الكاتب، قال: حدثني الكرماني كاتب كان لأبي بكر ابن الصيرفي، صاحب الجيش، قال: أنفذني صاحبي لأنفق في رجال أبي محمد جعفر ابن محمد ابن ورقاء، فأنفقت فيهم، واستفضلت أنا وكاتب لأبي محمد، والجهبذ، والنقيب، نحو عشرة آلاف درهم.
فقالوا: ندخل في موضع، ونتحاسب، ونقسم.
فدخلنا مسجداً حيال دار أبي محمد، ولم نر فيه إلا رجلاً عليلاً نائماً، كأنه سائل، فحقرناه. وأخذنا نتحاسب، ونقول: وصل إلينا من رزق فلان الساقط كذا، وفلان البديل كذا، ومن الصرف كذا، ومن فضل الوزن كذا، ومن كذا كذا، إلى أن حصلنا مبلغ الفضل، وما يخص كل واحد منا.
فأقبلنا نزن، فشال العليل رأسه، وقال: يا أصحابنا، أخرجوا لي قسطاً.
فقلنا: ومن أنت؟ قال: أنا رجل من المسلمين، قد سمعت ما كنتم فيه.
فقلنا: هو ضعيف، أعطوه خمسة دراهم.
فقال: لا أريد إلا قسطاً صحيحاً بالسوية، مثلما يأخذه أحدكم.
فاستخففنا به.
فقال: لا عليكم، إما أعطيتموني ما التمست، وإلا جلست الساعة في سميرة، ومضيت إلى أبي بكر الصيرفي، وقلت: إنكم أخذتم باسم فلان الساقط كذا، وباسم فلان البديل كذا وكذا.
قال: فأعاد جميع ما قلنا وتحاسبنا عليه، حتى ما أخل بحرف واحد منه، فأقل ما يعمل بكم، إذا لم يصرفكم ويؤذيكم، أن يرتجع منكم ما سرقتم.
فنظرنا إلى ما قاله فوجدناه صحيحاً، فرمنا منه أن يقتصر على بعض ما طلبه.
فقال: لا والله إلا بقسط كما يأخذ أحدكم.
فلم نجد من دفع ذلك إليه بد، فدفعنا إليه قسطاً، مثلما أخذه واحد منا. فأخذه وافترقنا.
والد المؤلف يحفظ قصيدة تشتمل
على ستمائة بيت في يوم وليلة حدثني أبي رضي الله عنه، قال:

سمعت أبي رحمه الله ينشد يوماً، وسني إذ ذاك خمس عشرة سنة، بعض قصيدة دعبل الطويلة التي يفتخر فيها باليمن، ويعدد مناقبهم، ويرد على الكميت فخره بنزار، أولها:
أفيقي من منامك يا ظعينة ... كفاني اللوم مر الأربعين
وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيت حفظها، لما فيها من مفاخر اليمن لأنهم أهلي.
فقلت: يا سيدي، تخرجها إلي حتى أحفظها، فدافعني، فألححت عليه.
فقال: كأني بك، تأخذها، فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيت، ثم ترمي بالكتاب، وتخلقه علي.
قلت: ادفعها إلي.
فأخرجها، وسلمها إلي، وقد كان كلامه أثر في، فدخلن حجرة كانت برسمي في داره، فخلوت فيها، ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها.
فلما كان في السحر، كنت قد فرغت من جميعها، وأتقنتها، فخرجت إليه غدوة على رسمي، فجلست بين يديه.
فقال: هي، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها.
فغضب، وقدر أني قد كذبته، وقال لي: هاتها.
فأخرجت الدفتر من كمي، وفتحته، ونظر فيه، وأنا أشد، إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت.
فصفح منها عدة أوراق، وقال: أنشد من هاهنا.
فأنشدت مقدار مائة بيت آخر، فصفح إلى أن قارب آخرها بمائة بيت، فقال أنشدني من هاهنا، فأنشدته مائة بيت منها إلى آخرها.
فهاله ما رآه من حسن حفظي، فضمني إليه، وقبل وعيني، وقال: يا الله، يا بني، لا تخبر أحداً بها، فإني أخاف عليك من العين.

مقدار ما حفظه والد المؤلف من الشعر
حدثني أبي رضي الله عنه، قال: حفظني أبي، وحفظت بعده، من شعر أبي تمام الطائي والبحتري، سوى ما كنت احفظه لغيرهما من المحدثين من الشعراء، مائتي قصيدة.
قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام، يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدة، ولم يقل الشعر، فهو حمار في مسلاخ إنسان.
فقلت الشعر وسني دون العشرين، ثم بدأت بعمل مقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطغ نهي النهى ... أي مدى يطلب من جاز المدى
حفظ القرآن في ستة أشهر
حدثني أبو عبد الله بن هارون التستري المقرئ رحمه الله، وكان أقام بمسجدنا بالبصرة، قال: أقمت أحفظ القرآن سنين كثيرة، كلما بلغت إلى موضع، أنسيت الذي قبله، حتى كأني ما سمعته قط، فشق ذلك علي.
فحججت، وتعلقت بأستار الكعبة، ودعوت الله تعالى، وسألته أن يعينني على حفظه.
ورجعت إلى البصرة، فلزمت التلقين، فحفظت القرآن في ستة أشهر على حرف أبي عمرو، ثم تعاطيت السبعة.
فما حال الحول علي، إلا وقد أحكمت أكثرها.
من أقوال الصوفية
بلغني عن بعض الصوفية، إنه قال: الاستغفار صابون المعاصي، و الشكر لله عز وجل سفتجة الرزق، والصلاة جوارشن المعدة، والصوم ريباس البدن، واليقين الرأس الأكبر.
وعن بعضهم، من أهل زماننا: المعرفة بالله، دليل لا ضيعة معه، والعمل الصالح، زاد لا يخاف معه طول السفر.
ناصر الدولة الحمداني يتبع
وصية أبيه أبي الهيجاء
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد، قال: حدثني أبو اسحاق ابن أحمد القراريطي قال: حدثني ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان، قال: كان أبي أبو الهيجاء شديد الانحراف عني أول نشوي، لما يراه من الفضل في، وخوفه مني على أعماله.
فكان يغض مني، ويتجافاني، ويمسك يده عني، فأتحمل ذلك، وأصبر عليه.
فولي طريق خراسان، فجلس يعرض دوابه، فبقي منها خمسين دابة، ما بين زمن وأعجف، إلى غير ذلك.
ثم قال: يا حسن، أريد أن أخرج بعد شهرين إلى العمل، وهذه الدواب مسلمة إليك، وقد رددت أمرها إليك، لأجربك بها في الأمور الكبار. فإن قمت بها حتى تصح وتبرأ وتسمن، وكان فيك فضل لذلك، علمت أنك تصلح لما هو فوقه، وإن لم تصلح على يدك، فهو أول عمل رددته إليك من أمري وآخره، فعجبت من أن أول عمل أهلني له، أن أكون سائس دواب، ولم أجد بداً من الصبر.
فقلت: السمع والطاعة.
وأخذت الدواب، وأفردت لها اسطبلاً، وجعلت لنفسي فيها دكة، واستأجرت لها سواساً، وأدرت أرزاقهم، وطالبت بأشد الخدمة، وكنت أحضر أمر الدواب دفعات في اليوم، حتى توقح وتعالج وتسمن، وأفردت بياطرة فرهاً لذلك.
فما مضى عليها إلا شهر وأيام، حتى صحت وسمنت، وصارت على غاية الحسن.
وأزف خروجه، فقال لي: يا حسن ما فعلت بتلك الدواب؟ فقلت: قم إلى الإسطبل حتى تراها.

فقام، فرآها في غاية الحسن، فسر بذلك، وأعجبه، وأثنى علي، وقال: يا حسن، هوذا أعلمك بدل قيامك بهذا الأمر شيئاً تنتفع به، وفيه قضاء لحقك، بقدر ما أتعبتك فيه.
فقلت: قل، يا سيدي.
قال: إذا رأيت السلطان قد رفع من أهلك رجلاً، أو الزمان قد نوه به ورأسه، فإياك أن تحسده، وتشغل نفسك بعداوته، فإنك تتعب، ولا تصل إلى فائدة، وتسقط أنت، ولا يضر هو، وتغنم أنت، ولا يتآذى هو، وتغض من نفسك بغضك من رجل صار كبيراً من أهلك، فإنه ما ارتفع إلا بآلة فيه، يدفعك بها، أو إقبال يدفعك عنه، واجهد أن تخدمه، وتصافيه الود، ليكون ذلك الفضل الذي فيه، فضلاً لك، وذلك الفخر راجعاً إليك، وتتجمل بثنائه عليك، وإطرائه لك، وتصير أحد أعوانه، فإنه أحسن بك من أن كون من أعوان غيره ممن ليس من أهلك، ويراك الناس عنده وجيهاً، فيكرمونك له،فإن كان له منزلة من السلطان جاز أن تصل إليها باستخلافها إياك عليها،وانتقاله إلى ما هو أكبر منها، وكذلك إن كانت منزلته من غير سلطان، فلا تقل أنا أقعد منه في النسب، وأني خير قرابته، وهذا أمس كان وضيعاً، وكان دوننا، فإن الناس بأوقاتهم.
فقلت: نعم يا سيدي.
قال: ثم أقبل علي، وونسني، وولد لي في نفسه، القيام على تلك الدواب، منزلة.
فقال: اخرج معي إلى العمل.
وخرج فخرجت معه، وكنت أسايره إلى حسر النهروان وأحادثه، فولد ذلك الانبساط في نفسي طمعاً فيه، وأن أسأله شيئاً.
فذكرت بجسر النهروان، أن له ضيعة جليلة عظيمة، بنواحي الموصل، يقال لها: النهروان، كنت أشتهيها.
فقلت له: يا سيدي قد كثرت مؤونتي، وتضاعفت نفقتي، فلو وهبت لي النهروان ضيعتك، لأستعين بغلتها على خدمتك، ما كان ذلك منكراً.
قال: فحين سمع هذا، تغيظ غيظاً شديداً، وأقبل يشتمني أقبح شتيمة، وقال: يا كلب، سمت بك نفسك إلى أن تمتلك النهروان؟ وقنعني بالسوط الذي كان في يده، وهو مفتول كالمقرعة، فوقع السوط على وجهي، فشجه من أوله إلى آخره، وأحسست بالنار في وجهي، وورد ذلك على غفلة، فتداخلني ألم عظيم، وغيظ مما عاملني به أشد من الألم.
وقلت في نفسي، ما كان هذا جوابي، وقد كان يقنعه أن يردني، ولكن نيته لي فاسدة بعد. وقصرت عن مسايرته، ولحقني غلماني، فوقفوا معي ساعة، حتى صلحت قليلاً، وسار هو، ففتلت رأس دابتي، وأنفذت من رد بغلين كانا لي في السواد، عليهما قماشي وثيابي وغلماني، ورجعت أريد بغداد، وأنا وقيذ من الألم والغيظ حتى وردت بغداد.
وكان الوزير إذ ذاك علي بن عيسى، وهو في غاية العناية بأبي، وهو قلده العمل، وكان يحبني، ويكرمني، ويختصني، ففكرت أن أدخل إليه، أشكو أبي، وأريه الأثر الذي بي. فقصدت دارنا ، فأدخلت البغلين والقماش إلى الدار، ولم أنزل، وتوجهت إلى دار الوزير. فحين نزلت عن دابتي، وصرت في الصحن، ذكرت وصية أبي لي في أمر الأهل، وندمت على دخول دار الوزير، وقلت: لأن أقبل الوصية في أبي، أولى من قبولها في الأهل، فعملت على أن أغالط الوزير، ولا أعرفه.
وجئت فسلمت على الوزير، ووقفت بين يديه، ولم تكن عادتي تجري بالجلوس بحضرته. فحين رآني أعظم الأثر الذي في وجهي، وقال: ما لحقك؟ وأنكره، لأنه كان قبيحاً جداً.
فقلت: لعبت بالصولجان والكرة، فأفلتت، فضربت وجهي.
فقال: أليس كنت قد خرجت مع أبيك، فلم رجعت.
فقلت: خرجت مشيعاً، فلما بعد، عدت لألزم خدمة الوزير.
قال: فأخذ يسألني عن مسير أبي، فإذا بأبي قد دخل، وإذا هو لما رجعت من الطريق، وبلغه خبر رجوعي قد اغتاظ، فرجع، إما ليردني، أو ليقبض علي، وجاء إلى داره، فعرف أني لم أنزل،وأني توجهت إلى دار الوزير، فلم يشك في أني قد مضيت أشكوه.
فجاء، فوجدني أخاطبه، فتحقق ذلك عنده، فجلس.
فقال له الوزير: ما ردك يا أبا الهيجاء؟ فقال: أيها الوزير، ما هذا حق خدمتي لك، ومنا صحتي إياك، وانقطاعي إليك، وأخذ يعتب على الوزير أعظم عتب، وأنا قائم، ساكت، أسمع.
فقال له الوزير: ما هذا العتب علي؟ أي شيء عملت؟ فقال: تمكن هذا الكلب من ذكري بحضرتك، والتبسط في.
فقال: من تعني؟ فقال: الحسن، هذا القائم، فعل الله به وصنع.

فقال له الوزير: يا هذا قد وسوست، أي شيء كان أول هذا؟ والله، ما نطق هذا الفتى في أمرك بحرف، ولا سمعت قط ذكرك بما يوجب عتباً عليه، وكيف علي في تمكيني منه، ولو فعل ذلك، لغض بي عندي من نفسه.
فاستحيا أبي، وعلم أني لم أخاطب الوزير بشيء، وأمسك.
فقال له الوزير: لا بد أن تحدثني بما بينكما، فإنك ما حملت نفسك على الرجوع، إلا لأمر عظيم، وهو ذا أرى الحسن أيضاً به أثر قبيح، وقد سألته، فقال: إن كرة أفلتت من يدي غلمان ضرب معهم بالصولجان فأصابت وجهه، فوقع لي أنه صادق، فلما جئت الآن، وقدرت أنه قد شكاك، وقع لي إن هذا شيء من فعلك، ولا بد أن تصدقني.
قال: فقص عليه أبو الهيجاء القصة، كما جرت.
فأقبل عليه علي بن عيسى، وقال: أما تستحي يا أبا الهيجاء، أن يكون هذا قدر حلمك عن ابنك، وأكبر ولدك؟ فإذا كنت بهذا الطيش معه، فكيف تكون مع الغريب؟ وأي شيء كان في مسألته لك أن تهب له ضيعة؟ ولو فعلت ذلك، ما كان ذلك بدعاً من بر الآباء بأولادهم. ولما لم تسمح له بذلك، قد كان يجب أن ترده رداً جميلاً، أو قبيحاً إذا اغتظت، وأما أن تبلغ به ضرب السياط، آه، آه.
قال: وزاد عليه في العتب والتوبيخ، وهو مطرق مستحيي.
حتى قال له: وليس العجب من هذا، حتى رجعت من عملك، غيظاً عليه، وقدرت أنه قد شكاك إلي، وأني أطلق له أن ينقصك، فجئت عاتباً علي، لوهم توهمته فيه.
قال: فأخذ أبي يعتذر إليه من ذلك.
فقال: والله، ما أقبل عذرك، ولا تنغسل عن نفسي هذه الآثار، إلا بأن تشهد لحسن بالضيعة، وتهبها له، جزاء عن ظلمك إياه.
فقال: السمع والطاعة لأمر الوزير.
فقال لي علي بن عيسى: انكب على رأس أبيك ويده فقبلهما.
قال: ففعلت ذلك.
وجذب علي بن عيسى دواته ودرجاً، فأعطاهما أبا الهيجاء، وقال: اكتب له بالضيعة، إلى أن تشهد، فكتب أبي بالضيعة لي.
وقال الوزير: خذ، خذ، فإذا عاد إلى البيت، فاكتب عليه العهد بالوثيقة، وأشهد عليه جماعة من العدول،فإن امتنع عرفي حتى أطالبه لك بذلك.
قال:وخرجنا ونحن مصطلحون.
فلما صرنا في الدهليز، قال أبي: يا حسن أنا علمتك على نفسي، بالوصية التي وصيتك بها، كأني بك وقد جئت لتشكوني، فلما صرت في الدهليز ذكرت وصيتي لك، فقلت: لأن أستعملها مع أبي، أولى بي، فلما صرت في مجلس الوزير، قلت له ما قلت، ولم تشكني إليه.
قلت: والله يا سيدي كان.
فقال: إذا كان فيك من الفضل ما قد حفظت معه وصيتي، في مثل هذه الحال، فما ترى بعدها مني ما تكرهه.
فقبلت يده، وعدت معه إلى دارنا.
فسلم إلي الضيعة، وأشهد بها لي، وصلحت نيته بعد ذلك، واستقامت الحال بيننا.
وكان قبول تلك الوصية أبرك شيء علي.

بين ابن أبي البغل عامل أصبهان
وأحد طلاب التصرف
حدثني أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني، كتاب الأمير أبي حرب، سند الدولة، الحبشي بن معز الدولة، ومحله من النبل والجلالة والثقة، والأدب، والعلم، مشهور، قال: كان أبو الحسين بن أبي البغل، يتقلد بلدنا، فأخبرني من حضر مجلسه، فقد دخل إليه شيخ قدم من بغداد، بكتب من وزير الوقت، ومن جماعة رؤساء الحضرة، وإخوان أبي الحسين بها، يخاطبونه بتصريفه ونفعه.
فسلم وجلس، وأصل الكتب، وصادف منه ضجراً وضيق صدر، وكانت إضبارة عظيمة، فاستكثرها بن أبي البغل،ولم يقرأها جميعها.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقرأها، وتقف على جميعها.
فصخب، وتغيظ، وقال: أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بلينا بكم يا بطالين، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن الأرض إلي، لكانت قد نفذت.
ثم قال للرجل: يا هذا، ما لك عندي تصرف، ولا إلي عمل شاغر أرده إليك، ولا فضل في مالي أبرك منه فدبر أمرك بحسب هذا.
قال: والرجل ساكت جالس، إلى أن أمسك ابن أبي البغل.
فلما سكت، ومضت على ذلك ساعة قام الرجل قائماً، وقال: أحسن الله جزاءك، وتولى مكافأتك عني بالحسنى، وفعل بك وصنع.
قال: وأسرف الرجل في شكره، والدعاء له، والثناء عليه، بأحسن لفظ، وأجود كلام، وولى منصرفاً.
فقال ابن أبي البغل: ردوا من خرج.
وقال له: يا هذا، هو ذا تسخر مني؟، على أي شيء تشكرني؟ على أياسي لك من التصرف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو على قبيح ردي لك عن الأمرين، أو تريد خداعي بهذا الفعل؟

قال: لا، ما أردت خداعك، وما كان منك من قبيح الرد، غير منكر، فإنك سلطان، ولحقك ضجر.
ولعل الأمر على ما ذكرته من كثرة الواردين عليك وقد بعلت بمن حضر، ونحوسى أن صار هذا الرد القبيح، والأياس الفظيع، في بابي.
ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك صدقتني عما لي عندك في أول مجلس، فعتقت عنقي من ذل الطمع، وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة من أستشفع بهم عليك، وكشفت لي ما أدبر به أمري، وبقية نفقتي معي، ولعلها تقوم بتجملي، الذي أتجمل به إلى بلد آخر، فإنما شكرتك على هذا، وعذرتك فيما عاملتني به، لما ذكرته أولاً.
قال: فأطرق ابن أبي البغل خجلاً، ومضى الرجل.
فرفع رأسه بعد ساعة، وقال: ردوا الرجل، فردوه.
فاعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال: تأخذها إلى أن أقلدك ما يصلح لك، فإني أرى فيك مصطنعاً.
فلما كان بعد أيام قلده عملاً جليلاً، وصلحت حال الرجل.

ابن أبي البغل يأمر بإشخاص
أحد عماله لكي يقطع سحاة كتاب
حدثني أبو القاسم، قال: كانت في أبي البغل ، منافرة ومناكدة.
فورد عليه يوماً، كتاب من عامل له، من بلد بينه وبينه فراسخ كثيرة، وقد سحاه بسحاة غليظة. واجتهد أبو الحسين في قطع السحاة بيده، وجهد جهداً شديداً، فما كان له إلى ذلك طريق، فترك الكتاب، ووقع بإشخاص العامل، ومضى اليوم.
فلما كان بعد أيام، قدم العامل، فلما جلس بين يديه، قال لصاحب الدواة: أين ذلك الكتاب الذي ورد منه بالأسحاة الغليظة؟ فأحضره.
فقال له: اقطع هذه الأسحاة.
فرامها العامل، فلم يكن فيها حيلة، فأخذ سكيناً من دواة بعض الكتاب بحضرته،فقطعها.
فقال له: ارجع الآن إلى عملك. فإنما دعوتك لتقطع هذه الأسحاة.
وأعلمك أنك قي أي وقت سحيت كتاباً لك بمثلها، أني أستحضرك لتقطعه.
فرده في الحال إلى عمله، وما تركه أن يقيم ولا ساعة، ولا سأله عن شيء من أمره.
لابن بشير الآمدي يهجو قاضي البصرة
كان قد ولي القضاء بالبصرة، في سنة ست وخمسين وثلثمائة، رجل لم يكن عندهم بمنزلة من صرف به، لأنه ولي صارفاً لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن بن بشير الآمدي، كتاب القاضيين أبي القاسم جعفر، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسية تستغيث ... من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلقت فهي طوراً تميل ... من عن يسار ومن عن يمين
فقلت لها أي شيء دهاك ... فردت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإن فعلوا ذاك بي قطعوني
فقلت لها مر من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون
ومن كان يشهق أما رآك ... ويخرج من جوفه كالرنين
ومن كان يصفع في الله لا ... يمل ويشتد في غير لين
ويسلح ملأك كيل التمام ... إما على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الانزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون
أبو رياش الشاعر يعاتب الوزير المهلبي
أنشدني أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي - ومحله من علم اللغة والشعر، المحل المعروف - لنفسه في أبي محمد المهلبي، وكان امتدحه، فتأخرت عنه صلته، وطال إليه تردده، على ما أخبرني به أبو رياش.
قال: فقلت:
وقائلة قد مدحت الوزير ... وهو المؤمل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المديح ... وهذا الغدو معاً والرواح
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأي الأمر يكون الصلاح
علي التقلب والاضطراب ... جهدي وليس علي النجاح
بين أبي العباس بن دينار
وأبي يحيى الرامهرمزي
سمعت أبا يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الرامهرمزي، يحدث أبي، قال: كان أبو العباس عبيد الله، صديقي، كما علم القاضي وكان مقيماً عندنا برامهرمز.
فلحقته إضاقة، فضيق على عياله، فأنفذوا إلي أساورة ودمالج وخلاخل ذهب، واقترضوا عليها ثلثمائة دينار، فأقرضتهم.

ومضت شهور، وجاء الديلم يريدون البلد، وخرج بجكم إليهم، فتهارب الناس منهم، وعملنا على الهرب متى انهزم بجكم، فما كان بأسرع من أن جاءنا منهزماً، فطار الناس على وجوههم.
وقال أبو العباس لحرمه: اخرجوا، فتباطؤوا بسبب حليهن.
فلما زاد عيه الأمر، دخل، فقال: ما لكم؟ إن كنتم قد صادقتم صديقا، فأقيموا، وعرفوني لأهرب وحدي، وإن كنتم اتخذتم حبة فاحملوها معنا، وإلا فالسيف قد لحق بنا، فما هذا التباطؤ عن الهرب، لندرك.
فحدثوه بحديث الحلي ورهنه، فكتب إلي: " بسم الله الرحمن الرحيم " يا أبا يحيى، جعلت فداك،
سلبت الجواري حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهباً
فاستحييت منه، وبعثت بالحلي، فأخذه، ورحل بجواريه، ورحلنا. ودخل الديلم البلد.

حجر خاصيته طرد الذباب
حدثني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدثني رجل خراساني من بعض أصحاب الصنعة، ممن كان يعرف الأحجار الخواصية، قال: اجتزت برهداري بمصر، فرأيت عنده حجراً أعرفه، يكون وزنه خمسة دراهم، مليح المنظر، وقد جعله بين يديه في جملة قماشه.
وكنت أعرف أن خاصيته في طرد الذباب، وكنت في طلبه منذ سنين كثيرة.
فحين رأيته ساومته فيه، فاستلم علي به خمسة دراهم، فلم أماكسه ودفعتها إليه صحاحاً.
فلما حصلت في يده، وحصل الحجر في يدي، أقبل يطنز بي، ويسخر مني.
ويقول: يجون هؤلاء الحمير، لا يدرون أيش يعطون، ولا أيش يأخذون، والله، إن هذه الحصاة رأيتها منذ أيام مع صبي، فوهبت له دانق فضة، وأخذتها، وقد اشتراها هذا الأحمق مني بخمسة دراهم.
فرجعت إليه، وقلت له: يجب أن أعرفك أنك أنت الأحمق، لا أنا. قال: كيف؟ قلت: قم معي، حتى أعرفك ذلك.
فأقمته ومضينا حتى اجتزنا بكسار يبيع التمر في قصعة، والذباب محيط بها.
فنحيت الرجل بعيداً من القصعة، وجعلت الحجر عليها، فحين استقر عليها طار جميع الذباب. وتركته ساعة، وهي خالية من ذبابة واحدة فما فوقها، ثم أخذت الحجر فرجع الذباب، ثم رددته، فطار الذباب.
ففعلت ذلك ثلاث مرات، ثم خبأت الحجر.
وقلت: يا أحمق، هذا حجر الذباب، وأنا قدمت في طلبه من خراساني، يجعله الملوك عندنا على موائدهم، فلا يقربها الذباب ولا يحتاجون إلى مذبة، ولا إلى مروحة، والله، لو لم تبعني إياه إلا بخمسمائة دينار، لاشتريته منك.
قال: فشهق شهقة، قدرت أن تلف، ثم أفاق منها بعد ساعة، وافترقنا.
وخرجت بعد أيام إلى خراسان والحجر معي، فبعته على نصر بن أحمد أميرها بعشرة آلاف درهم.
يوسف بن وجيه صاحب عمان
يذعن لحكم مستشاريه
حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد العسكري، قال: كان عندنا بعسكر مكرم شيخ أصبهاني مشهور يعرف بالكافوري، يتجر في الجوهر، وكان حسن البصيرة بها.
فأخبرني إنه اشترى فصين، وباعهما مالكهما على أنهما بجاذيان، ولم يعرفهما، قال: فعرفتهما أنا، وعلمت أنهما بلخش، وهو جنس يشبه الياقوت الأحمر، فاشتريتهما منه بثلثمائة درهم، وجلوتهما بالبصرة، فخرج لهما من الماء أمر عظيم.
واتفق أن خرجت إلى عمان، وهما معي، فعرضتهما على يوسف ابن وجيه، الأمير، وادعيت أنهما ياقوت أحمر، فعرضتهما لكل جوهري، فكانوا يصدقونني.
فابتاعهما مني، بعد خطوب طويلة ومراوضات، بخمسين ألف درهم، وقبضت الثمن.
ثم شك فيهما، فأحضرني، وطالبني بالمال.
فقلت: إن كنت تريد أخذ المال باليد والقدرة، فأنت السلطان مالي بك قوة، وإن كنت تريد أخذه بحجة، فبيني وبينك أهل الصنعة.
فقال: ليس بعمان من أثق بعلمه.
فقلت له: فسرديب قريبة منك، وهي المعدن فأنفذهما إلى هناك، فإن قيل إنهما ليسا بياقوت، رددت المال.
ووضعت في نفسي أن أتجر في المال، إلى أن ينكشف الأمر، فأربح فيه مالأً، ثم أرد عليه أصل ماله.
قال: فضمنني المال على الشرط والمقام، وأنفذ الفصين.
فلما كان بعد سنة، أو قريباً منها، أحضرني، وأخرج كتباً إليه من وكيله هناك، يذكر فيها أنه جمع أهل الصنعة بسرنديب كلهم، وعرض عليهم الفصين، فقالوا: هما ياقوت أحمر، إلا أنه فيه رخاوة، ولو كان أصلب من هذا، ما كان له قيمة، وأن هذا ياقوت ليس هو من هذا المعدن.
فقرأت الكتب.
فقال: رد المال.

فقلت: ما يلزمني، ما بعتك على أنهما من معدن سرنديب، أو غيره من المعادن، ولا على أنهما صلبان أو رخوان، وقد شهد أهل المعدن أنهما ياقوت، وقد نعتوهما بالرخاوة، وقالوا إنه لولا هذا العيب، ما كان لهما قيمة.
ولولا هذا العيب، ما بعتك بخمسين ألف دينار، وأنا تاجر، قد قصدت بلدك، فلا تظلمني.
فقال لمن بحضرته، ما تقولون؟ فقالوا: نحن معه.
فأفرج عني.

سلب دنانيره ثم استعادها بدرهمين
وحدثني أيضاً الحارثي، عمن حدثته، قال: سافرت في بعض الجبال، وكان معي دنانير خفت عليها، فأخذت قناة مجوفة، وجعلت في أنبوبة منها الدنانير، حتى امتلأت بها، فلم تجلجل، ولا جاء لها صوت، ثم صببت في رأسها الرصاص الحار، حتى خفي أمرها، والتزقت، وجعلت فيها حلقة وسيراً، وكنت أمشي وأتوكأ عليها. فخرج علنا اللصوص والأكراد، في عدة مواضع، وأخذوا كل ما كان في القافلة، ولم يعرض لي أحد.
إلى أن خرج علينا آخر دفع، لصوص رجالة، فشلحونا، فرأى أحدهم عكازي، فاستملحها، وأخذها.
فلحقني من الجزع عليها، بسبب الدنانير، أمر عظيم.
فأخذ أهل القافلة، يتلهون بي، ويقولون: معنا من ذهبت منه الأموال والأمتعة، ما قلق قلقك على خشبة، وأنا ممسك، لا أصرح بما كان فيها.
قال: وتمادى السفر بنا، إلى أن وصلت إلى مقصدي، فبقيت منقطعاً بي، واحتجت إلى أن تصرفت ببدني في بعض المهن نحو سنة.
فلما كان بعد سنة، اجتزت برهداري على الطريق، وإذا بين يديه قناة تشبه قناتي، وتأملتها فإذا هي هي، ورطلتها فإذا ثقلها بحاله.
فقويت نفسي، وقلت للرجل: تبيعني إياها؟ فقلت: نعم.
فقلت: بكم.
فقال: بدرهمين.
ولم أكن أملك غيرهما، فقلت: أعطه إياهما على الله تعالى، فإن كان مالي فيها فقد فزت، وإلا أبلي عذراً بيني وبين نفسي.
فأعطيته الدرهمين، وأخذت العكاز، وصعدت إلى مسجد، وطلبت أشفى من بعض الأساكفة، وأصعدت به معي إلى المسجد، وشققت العصا، فإذا بدنانيري قد خرجت علي بعينها.
فأخذتها، ورميت القناة، وحمدت الله تعالى على حفظ ذلك علي.
وانصرفت فتجهزت، وخرجت إلى بلدي بتجارة ومير.
امرأة تدعي أن زوجها كان
يعشق السراويلات
حدثني أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: مات عندنا بالأنبار، فلان، وأسماه، وكان عظيم النعمة، وافر المروءة، كثير الثياب، وكان لكثرتها، يحصل كل فن منها في عدة صناديق.
وكانت دراريعه الدبيقية مفردة، والدراريع الديباج مفردة، وكذلك القمص، والسراويلات، والجباب، والطيالس، والعمائم.
قال: وكان له بنو عم ورثوه، وأم ولد قد تزوجها.
فلما مات، أخرجت جميع آلاته، وقماشه، وثيابه، إلا اليسير، من الدار، فخبأته.
وذهب عليها صناديق السراويلات، فلم تخرجها، وجاء بنو العم، فختموا على الخزائن.
فلما انقضت المصيبة، فتحوها، فوجدوها أخلى من فؤاد أم موسى، فخاصموها إلى قاضي البلد، فلم تنقطع الخصومة.
فدخلوا الحضرة، وتظلموا منها فأشخصت، وحملت إلى القاضي أبي جعفر بن البهلول، ووقع إليه بالنظر فيما بينهم على طريق المظالم.
فحضروا عنده وأخذ يسائلهم عن دعواهم، وهي منكرة جميعها.
فقالوا له: أيها القاضي، فلان أنت أعرف الناس بعظم مروءته وثيابه، وما كنت تشاهده له، وكله كان في يدها له.
وساعة مات ختمنا خزائنه، وهي كانت في الدار، ولما فتحناها لم نجد له فيها إلا عدة صناديق فيها سراويلات، وقطعاً يسيرة من ثيابه.
فأين مضى هذا؟ ومن أخذه؟ وما السبب في عظم السراويلات وقلة الثياب؟ قال: فأقبلت الجارية محتدة، كأنها قد أعدت الجواب، فقالت: أعز الله القاضي، أما سمعت ما حكاه الجاحظ من أن رجلاً كان يعشق الهواوين، فجمع منها مائتي هاون، هذا كان يعشق السراويلات.
قال: فضحك القاضي أبو جعفر، وانفض المجلس من غير شيء.
فما انتصفوا منها بعد ذلك.
ينكرالدين، ويأبى أن يحلف اليمين
تقدم إلي رجلان، بالأهواز فادعى أحدهما على الآخر حقاً. فأنكره.
فسألته، وقلت: أتحلف؟ فقال: ليس له علي شيء، فكيف أحلف؟ لو كان له علي شيء، حلفت له، وأكرمته.
بحث في الرباب بين القاضي وأحد العدول
سمعت القاضي أبا القاسم جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، يقول:

كنت بحضرة القاضي أبي عمر، بعد قبوله شهادتي بمدة، على خلوة وأنس، فجرى حديث الملاهي.
فقلت: فلان يضرب بالرباب.
قال: فصاح علي القاضي أبو عمر، وقال: هاه، هوذا تهزأ بنا، هوذا تنمس علينا؟ ما هذا الكلام؟ فقلت: ما هو أيد الله القاضي؟ فوالله، ما أدري أني قلت شيئاً يتعلق بما قاله القاضي.
فقال: قولك يضرب، كأنك لا تعلم أن الرباب يجر حتى يسمع صوته، ولا يضرب به.
فحلفت له بأيمان مغلظة أني ما علمت هذا، ولا رأيت الرباب قط.
فقال: إن هذا أقبح، سبيل الصالح أن يعلم طرق الفساد ليجتنبها على بصيرة، لا على جهل. فعدت إلى داري، فقلت لسائس كان معي: ويلك اطلب لي ربابياً.
فطلبه، وجاء به، فجره بين يدي، فرأيته، فكان ما فاله أبو عمر صحيحاً.

القاضي أبو عمر يتردد في قبول
شهادة شاهد تظاهر بالانزعاج من رائحة الخمر
قال: واجتاز أبو عمر بطريق قد كسر فيه دن خمر، ومعه بعض الشهود، فقال الشاهد: شه، شه، أفيه، أفيه، فأمسك عنه.
فلما جاء في المجلس ليقيم شهادة لزمته، توقف عن استماعها، فقامت قيامة الشاهد، وطرح عليه من يسأله.
فقال: هذا كذاب أو جاهل، فلا يسعني قبوله، وذكر حديث الخمر.
وقال: ليس تحريمها يقلب رائحتها من الطيب إلى النتن، حتى يقول هذا ما قاله، وما قاله إلا وهو يعلم أن رائحتها طيبة، فنمس وكذب، أو هو جاهل بهذا القدر، فلا أقبله.
قواد ابن قواد
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: حدثني بعض الكتاب، قال: سافرت وجماعة من أصدقائي، نريد مصر للتصرف.
فلما حصلنا بدمشق، كان معنا عدة بغال، عليها ثقل وغلمان لنا، ونحن على دوابنا، أقبلنا نخترق الطرق لا ندري أين ننزل.
فاجتزنا برجل شاب، حسن الوجه والثياب، جالس على باب دار شاهقة، وفناء فسيح، وغلمان بين يديه وقوف.
فقام إلينا، وقال: أظنكم على سفر، ووردتم الآن؟ فقلنا: نحن كذلك.
فقال: فتنزلون علي.
وألح علينا، وسألنا، فاستحيينا من محله، وحسن ظاهره، وهيبته، وحططنا على بابه، ودخلنا. وأقبل أولئك الغلمان، يحملون ثقلنا، ويدخلون الدار، ولا يدعون أحداً من غلماننا يخدمنا، حتى حملوه بأسره، في أسرع وقت.
وجاءونا بالطساس والأباريق، فغسلنا وجوهنا، وأجلسونا في مجالس حسنة، مفروشة بأنواع الفرش الذي لم نر مثله.
وإذا الدار في نهاية الحسن والفخر والكبر، وفيها دور عدة، وبستان عظيم، وصاحب المنزل يخدمنا بنفسه.
وعرض علينا الحمام، فقلنا نحن محتاجون إليه، فأدخلنا إلى حمام في الدار في نهاية السرو، ودخل إلينا غلامان أمردان وضيئان، في نهاية الحسن فخدمانا بدلاً من القيم والمزين، وأخرجنا من الحمام، إلى غير ذلك المجلس، فقدم إلينا مائدة حسنة جليلة، عليها من الحيوان، وفاخر الطبيخ، والألوان، ونادر الخبز، وغريب البوارد، وكل شيء.
وإذا بغلمان مرد، في نهاية الحسن والزي، قد دخلوا إلينا، فغمزوا أرجلنا، فلحقنا من ذلك، مع الغربة وطول العهد بالجماع، عنت، فأمرناهم بالانصراف، وفينا من لم يستحل التعرض لهم، وتعفف عن ذلك، لنزولنا على صاحبهم.
ثم انتبهنا، فنقلنا إلى مجلس آخر على صحنين، في أحدهما بستان حسن، فأخرج إلينا من آلات النبيذ كل طريف ظريف، وأحضر من الأنبذة، كل شيء طيب حسن.
وشربنا أقداحاً يسيرة، ثم ضرب بيده إلى ستارة ممدودة، فإذا بجوار خلفها، فقال: غنوا، فغنى الجواري اللواتي كن خلفها، أحسن غناء وأطيبه.
فلما توسطنا الشرب، قال: ما هذا الاحتشام لأضيافنا أعزهم الله؟ أخرجن، وهتك الستارة.
قال: فخرج علينا جوار لم نر قط أحسن، ولا أملح، ولا أظرف منهن، من بين عوادة، وطنبورية، وكراعة، وربابية، وصناجة، ورقاصة، وزنافة، بثياب فاخرة وحلي، فغنيننا، واختلطن بنا في المجلس والجلوس، وكان تجنبنا أشد، وانقباضنا أكثر، وضبطنا أنفسنا أعظم. فلما كدنا أن نسكر، ومضت قطعة من الليل، أقبل صاحب الدار علينا، وقال: يا سادة، إن تمام الضيافة، وحقها، الوفاء بشرطها، وأن يقيم المضيف بحق الضيف في جميع ما يحتاج إليه من طعام، وشراب، وجماع، وقد أنفذت إليكم نصف النهار بالغلمان، فأخبروني بعفافكم عنهم، فقلت: لعلهم أصحاب نساء، فأخرجت هؤلاء، فرأيت من انقباضكم عن ممازحتهن، ما لو خلوتم بهن، كانت الصورة واحدة، فما هذا؟

قلنا: يا سيدنا، أجللناك عن ابتذال من في دارك لهذا، وفينا من لا يستحل الدخول في الحرام. فقال: هؤلاء مماليكي، وهن أحرار لوجه الله إن كان لابد من أن يأخذ كل واحد منكم بيد واحدة منهن، ويتمتع ليلته بها، فمن شاء زوجته بها، ومن شاء غير ذلك فهو أبصر، لأكون قد قضيت حق الضيافة.
فلما سمعنا هذا، وقد انتشينا، طربنا، وفرحنا، وصحنا، وأخذ كل واحد منا واحدة، فأجلسها إلى جانبه، وأقبل يقبلها، ويقرصها، ويمازحها.
فتزوجت أنا بواحدة منهن، وغيري ممن رغب في ذلك، وبعضنا لم يفعل.
وجلس معنا بعد هذا ساعة، ثم نهض.
فإذا بخدم قد جاءوا، فأدخلوا كل واحد وصاحبته، إلى بيت في نهاية الحسن والطيب، مفروش بفاخر الفرش، وفيه برذعة وطية سرية، فبخرونا عليها، ونومونا، والجواري إلى جنوبنا، وتركوا معنا شمعة في البيت، وما نحتاج إليه من آلة المبيت، وأغلقوا، وانصرفوا، فبتنا في أرغد عيش ليلتنا.
فلما كان السحر، باكرنا الخدم، فقالوا: ما رأيكم في الحمام؟ فقد أصلح، فقمنا ودخلناه، ودخل المرد معنا، فمنا من أطلق نفسه معهم فيما كان امتنع عنه بالأمس.
وخرجنا، فبخرونا بالند العتيق، وعطرونا بماء الورد والمسك والكافور، وقدمت إلينا المرايا المحلاة.
وأخبرنا غلماننا، إن صورتهم في ليلتهم، كانت كصورتنا، وإنهم أتوا بجواري الخدمة الروميات، فوطئوهن.
فأقبل بعضنا على بعض، نعجب من قصتنا، وبعضنا يخاف أن تكون حيلة، وبعضنا يقول: هذا في النوم نراه؟ ونحن في الحديث، إذ أقبل صاحب الدار، فقمنا إليه، وأعظمناه، فأخذ يسألنا عن ليلتنا، فوصفناها له، وسائلنا عن خدمة الجواري لنا، فحمدناهن عنده.
فقال: أيما أحب إليكم، الركوب إلى بعض البساتين للتفرج إلى أن يدرك الطعام، أو اللعب بالشطرنج، والنرد، والنظر في الكتب؟ فقلنا: أما الركوب فلا نؤثره، ولكن اللعب بالشطرنج والنرد والدفاتر، فأحضرنا ذلك، وتشاغل كل منا بما اختاره.
ولم تكن إلا ساعتين أو ثلاثة من النهار، حتى أحضرنا مائدة كالمائدة الأمسية، فأكلنا، وقمنا إلى الفرش، وجاء الغلمان المرد، فغمزونا، وغمزهم منا من كان يدخل في ذلك، وزالت المراقبة.
وانتبهنا فحملنا إلى الحمام، وخرجنا فتبخرنا، وأجلسنا في مجلسنا بالأمس.
وجاء أولئك الجواري، ومعهن غيرهن، ممن هن أحسن منهن، فقصدت كل واحدة، صاحبها بالأمس، بغير احتشام، وشربنا إلى نصف الليل، فحملن معنا إلى الفرش.
وكانت حالنا هذه أسبوعا.
فقلت لأصحابي: ويحكم، أرى الأمر يتصل، ومن المحال أن يقول لنا الرجل ارتحلوا عني، وقد استطبتم أنتم مواضعكم، وانقطعتم عن سفركم، فما آخر هذا؟ فقالوا: ما ترى؟ قلت: أرى أن نفاتش الرجل، فننظر إيش هو؟ فإن كان ممن يقبل هدية أو براً، عملنا على تكرمته وارتحلنا، وإن كان بخلاف ذلك، كنا معتقدين له المكافأة في وقت ثان، وسألناه أن يحضرنا من نكتري منه، ويبذرقنا ورحلنا. فتقرر رأينا على هذا.
فلما جلسنا تلك العشية على الشرب قلت له:ة قد طال مقامنا عندك، وما أضاف أحد أحسن مما أضفتنا، ونريد الرحيل إلى مصر لما قصدناه، من طلب التصرف، وأنا فلان بن فلان، وهذا فلان، فعرفت نفسي والجماعة، وقد حملتنا من أياديك ومننك، ما لا يسعنا معه أن نجهلك، ويجب أن تعرفنا نفسك، فنبث شكرك، ونقضي حقك، ونعمل على الرحيل.
فقال: أنا فلان بن فلان، أحد أهل دمشق، فلم نعرفه، فقلنا: إن رأيت أن تزيدنا في الشرح.
فقال: جعلت فداكم أنا رجل قواد.
فحين قال هذا، خجلنا، ونكسنا رؤوسنا.
فقال: جعلت فداكم مالكم؟ إن لقيادتي خبراً، أظرف مما رأيتموه.
فقلنا: إن رأيت أن تخبرنا.
فقال: نعم، أنا رجل كان آبائي تناء تجاراً، عظيمي النعمة والأموال، وانتهت النعمة إلى أبي، وكان ممسكاً، مكثراً.
ونشأت له، وكنت متخرقاً، مبذراً، محباً للفساد، والنساء، والمغنيات، والشرب، فأتلفت مالاً عظيماً من مال أبي، إلا أنه لم يؤثر في حاله، لعظمه. ثم اعتل، وأيس من نفسه، وأوصى، فدعاني، وقال:

يا بني إني قد خلفت لك نعمة قيمتها مائة ألف دينار وأكثر، بعد أن أتلفت علي خمسين ألف دينار، وإن الإنفاق، لا آخر له إذا لم يكن بإيزائه دخل، ولو أردت تمحيق هذا المال عليك في حياتي، أو الآن، حتى لا تصل إلى شيء منه، لفعلت، ولكني أتركه عليك، فاقضي حقي بحاجة تقضيها لي، لا ضرر عليك فيها.
فقلت: أفعل.
فقال: أنا أعلم أنك ستتلف جميع هذا المال في مدة يسيرة، فعرفني إذا افتقرت. ولم يبق معك شيء. تقتل نفسك. ولا تعيش في الدنيا؟ فقلت: لا.
قال: فتحمل على رأسك؟ فقلت: لا.
قال: فتحسن تتصرف، وتكسب المال؟.
قلت: لا.
قال: فعرفني من أين تعيش؟ قال: ففكرت ساعة، فلم يقع لي إلا أن قلت: أصير قواداً.
قال: فبكى ساعة، ثم مسح عينيه، وقال: لست أعيب عندك هذه الصناعة، فإنها ما جرت على لسانك، إلا وقد دارت في فكرك، ولا دارت في فكرك، وأنت تنصرف عنها أبداً بعدي، ولكن أخبرني كيف يتم لك المعاش فيها؟ فقلت: قد تدربت بكثرة دعواتي القحاب والمغنيات، ومعاشرتي لشراب النبيذ، فأجمعهم على الرسم، فينفقون في بيتي، ويعملون ما يريدون، وآخذ منهم الدراهم، وأعيش.
فقال: إذاً يبلغ السلطان خبرك في جمعة، فيحلقون رأسك، وذقنك، وينادي عليك، ويتفرق جمعك، ويقتل معاشك، ويقول أهل بلدك انظروا إلى فلان. كيف ينادى عليه، وقد صار بعد موت أبيه قواداً.
ولكن إن أردت هذه الصناعة فأنا أعلمك إياها، وإن كنت لا أحسنها، فلعلك تستغني فيها، ولا تفتقر، ولا يتطرق عليك السلطان بشيء.
فقلت: افعل.
قال: تحلف لي أنك تقبل مني.
فحلفت.
فقال: إذا مت، فاعمل على أنك أنفقت جميع مالك، وافتقرت، وابتدئ فكن قواداً ولك ضياع وعقاب، ودور وأثاث، وآلة وجواري وقماش، وخدم وجاه وتجارات، واعمد لكل ما في نفسك أن تعمله إذا افتقرت، فاعمله وأنت مستظهر على زمانك، بما معك، وجيهاً عند إخوانك، بمالك، واعمل على أنك قد أنفقته، واجعل معيشتك مما تريد أن تحصله إذا افتقرت، فإنك تستفيد بذلك أموراً: منها: أنك تبتدئ أمرك بهذا، فلا ينكر عليك في آخره، ومنها: أنك تفعل ذلك بجاه وعقار وضياع وأحوال قوية، فلا يطمع فيك سلطان، وإن طمع فيك رشوت، وبذلت من قدرة وجدة، فتخلصت.
فقلت: كيف أعمل؟ قال: تجلس، إذا مت، ثلاثة أيام للعزاء، إلى أن تنقضي المصيبة، فإذا انقضت، نفذت وصيتي وتجملت بذلك عند الناس، وقضيت حقي. ثم تظهر أنك قد تركت اللعب، وأنك تريد حفظ مالك، مع ضرب من اللذة.
ثم تبتدئ فتشتري من الجواري المغنيات والسواذج، كل لون، ومن الغلمان المرد، والخدم البيض والسود، ما تحتاج إليه وتشتهيه، ودارك، وضياعك، وآلتك، كما خلفته.
فإن احتجت إلى استزادة شيء، فاستزد، وتنوق.
وعاشر من تريد أن تعاشره، من غير أن تدخل إليك مغنية قيان، ولا من تأخذ جذراً.
وداخل الأمير، والعامل، وادعهما مرة في كل شهر أو شهرين، وهاهما أيام الأعياد، بالألطاف الحسنة، وألقهما كل أسبوع دفعة، واجتهد أن تعاشرهما على النبيذ في دورهما، وألقهما بالسلام، وقضاء الحق.
واتخذ في كل يوم مائدة حسنة، وادع القوم، ومن يتفق معهم، وليمن ذلك بعقل وترتيب.
فإن ذلك أولاً، لا يظهر مدة طويلة، فإذا ظهر، صدق به أعدائك، وكذب به إخوانك، وقالوا: لعل هذا على سبيل المجون والشهوة، وعلى طريق التخالع، أو مسامحة الإخوان، وإلا فأي لذة له في ذلك وهو ليس مخنثاً، ولا مجنوناً، ولا فقيراً فيحاج إلى هذا، فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى، وأنت مع هذا، قد وصلت سلطانك، ولعل العشرة بينكما قد وقعت، فيستدعي مغنياتك، وتسمعهن في منزله، فيصير لك بمنادمته رسم، وجاهك مع إخوانك باق ببرك وملاقاتك لهم، فهم يحامون عليك العاقل منهم، ويحافظ لك الآخر، فتصير في مراتب ندماء الأمير، وفي جملته، وتصير قيادتك كالتشنيع عليك، والعيب لك، وتخرج عن حد القواد المحض، الذين يؤذون دائماً، وتكبس منازلهم. قال: فاعتقدت في الحال، أن الصواب ما قاله.
ومات في علته، فجلست ثلاثة أيام، ثم نفذت وصيته، وفرقتها كما أمرني، ثم بيضت الدور، وهي هذه، وزدت فيها ما اشتهيت، واستزدت من الآلات، والفرش، والآنية، كما أردت، وابتعت هؤلاء الجواري والغلمان والخدم، من بغداد، ودبرت أمري على ما قاله أبي، من غير مخالفة بشيء منه.

فأنا أفعل هذا منذ سنين كثيرة، ما لحقني فيه ضرر، ولا خسران، وما فيه أكثر من إسقاط المروءة، وقلة الحفل بالعيب.
وأنا أعيش أطيب عيش وأهناه، وألتذ أتم لذة مع هؤلاء الجواري، والغلمان، والخدم، ومن يعاشرني عليهم.
ودخلي بهم، أكثر من خرجي، ونعمي الموروثة باقية بأسرها، ما بعت منها شيئاً بحبة فضة فما فوقها.
وقد اشتريت من هذه الصناعة عقاراً جليلاً، وأضفته إلى ما خلف أبي علي، وأمري يمشي كما ترون.
فقلنا: يا هذا، فرجت والله عنا، واو جدتنا طريقاً إلى قضاء حقك.
وأخذنا نمازحه، ونقول: فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع، لأنك قواد ابن قواد، وما كان الشيخ ليدبر لك هذا، إلا وهو بالقيادة أحذق منك.
فضحك، وضحكنا، وكان الفتى أديباً خفيف الروح.
وبتنا ليلتنا على تلك الحال.
فلما كان من الغد، جمعنا له بيننا، ثلثمائة دينار من نفقاتنا، وحملناها إليه.
فأخذها، ورحلنا عنه.

أراد جوامرك فطلب جوانبيرة
أخبرني غير واحد: أن أسداً بن جهور العامل، كان بخيلاً، وله سؤدداً، يتقلد كبار الأعمال، وهو عظيم الحال والمال.
قال: وكتب يوماً إلى عامل له، في رستاق: احمل إلي مائي جوانبيرة. فقال العامل: وما يصنع بهذه العجائز كلهن، وهذه العدة كيف تجتمع لي من قرية؟ فجمع ما قدر عليه من النساء بين الشباب والعجائز، وأنفذهن طوعاً وكرهاً.
وكتب إليه: إن كتابك وصل بجمع ماء جوانبيرة، وهذا لا يوجد إلا في بلد كبير، أو عدة رساتيق، وقد جمعت لك كذا وكذا، وحملته مع موصل هذا الكتاب.
فلما قرأ كتابه، قال: ادفعوهم إلى الطباخ، وقولوا له يذبح منهم اليوم كذا وكذا، ويصلح منهم كذا وكذا.
فقيل له: يذبح لك النساء؟ قال: ما طلبت نساء.
قالوا: أنت طلبت نساء.
قال: ردوا الكتاب، فردوه.
قال: إنا لله، إنما أردت جوامرك وكتبت جوانبيرة، ادفعوا إلى النساء شيئاً واصرفوهن، واكتبوا له بجميع الجوامركات.
ففعل ذلك.
أسد بن جهور وبخله على الطعام
قالوا: وكان معروفاً بالبخل على الطعام جداً، وكان ندماؤه يلقون من ذلك جهداً.
وكان يحضرهم، ويطالبهم بالجلوس، ويحضر كل شيء لذيذ شهي من الطعام، فإن ذاقه منهم أحد، ولو دانقاً، استحل دمه، وعجل عقوبته.
وكانت علامته معهم إذا شيلت المائدة، أن يمسحوا لأيديهم في لحاهم ليعلم أنهم ما شعثوا شيئاً يزهمها.
وكان له ابن أخت، يجتريء عليه، ولا يفكر فيه، ويهتك سترته إذا واكله.
فقدمت يوماً دجاجة هندية، فائقة سرية، فحين أهوى ابن أخته إليها، قبض على يده أشد قبض، وقال: يا غث، يا بارد، يا قبيح العشرة، يا قليل الأدب، في الدنيا أحد يستحسن إفساد مثل هذه؟.
فقال ابن أخته: يا لئيم، يا بخيل، يا سيء الاختيار، فلأي شيء تصلح؟ تجعل عقدة على وجهه التركة للأعقاب؟ واسطة للمخانق، في صدور المجالس؟ سرية يتمتع بالنظر إليها؟ ما أقدر، شهد الله، أن أدعها من يدي.
فتصابرا عليها، إلى أن قال له الفتى: فافتدها من يدي.
قال بما تحب.
قال: ببغلتك الفلانية. قال. قد فعلت.
قال: بسرجها ولجامها الحلى الفلاني.
قال: قد فعلت.
قال: ما أرفع يدي عنها، أو يحضر ذلك.
قال يا غلام أحضرها.
فأحضرت البغلة والمركب، فسلمها الفتى إلى غلامه، وأخرجها، ورفع يده عن الدجاجة. وانقضى الطعام، وشيلت المائدة، وقام لينام.
فخرج ابن أخته، فقال للطباخ: علي بالفائقة الساعة، وبجميع ما شلتموه ن المائدة، فأضر إليه، ورد الندمان، وقعدوا، فأكلوا ذلك وانصرفوا، وقد أكل الدجاجة والطعام أجمع، وحصلت على البغلة والمركب.
قال: وإنما كان لا يطيق أن يرى ذلك يؤكل، فأما إذا نحي من بين يديه، لم يسأل عنه، ولم يطالب به.
أخبرني أبو الحسن بن الأزرق، قال: حدثني أبي، عن الحسن بن مخلد بهذا الحيث لأنه حصل مع ابن خالة الحسن بن مخلد، قال: رأيت الفتى، قد غدا إلينا، إلى ديوان الخراج على بغلة الحسن بن مخلد، فسألناه عن السبب، فأخبرنا بذلك.
ناصر الدولة يحاسب على بقية دجاجة
سمعت أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي يقول: كنت بحضرة ناصر الدولة ببغداد، فاستدعى بشيء يأكله متعجلاً، ليتعلل به.
فجاءوه بدجاجة مشوية، ورغيفواحد، وسكرجتي ملح وخل، وقليل بقل.

فجعل يأكل، وأنا أحادثه، إذ دخل الحاجب فأخبره بحضور قوم لا بد من وصولهم؟، يحتشمهم. فأمر برفع الدجاجة، فرفعت، ومسح يده، ودخل القوم، فخاطبهم بما أرادوا، وانصرفوا.
فقال: ردوا الدجاجة، فأحضر، فتأمل الدجاجة ساعة، ثم حرد.
وقال: أين تلك الدجاجة؟ فقالوا: هي هذه.
فقال: لا، وحق أبي، علي بالطباخ، فحضر.
فقال: هذه هي تلك الدجاجة؟ فسكت.
فقال: اصدقني ويلك.
قال: لا.
قال: فما عملت بتلك؟ قال: لما شيلت، لم نعلم أنها ترد إليك، فأخذها بعض الغلمان الصغار وأكلها، فلما طلبتها، أخذنا هذه فكسرنا منها، وشعثنا، مثلما كنت كسرت وشعثت، طمعاً في أنك لا تعلم بذلك، وقدمناها.
فقال له: يا حمار، تلك كنت قد كسرت منها الفخذ الأيمن، وأكلت جانب الصدر الأيسر، وهذه مأكولة جانب الصدر الأيمن، مكسورة الفخذ الأيسر، لا تعاود بعدها لمثل هذا.
قال: السمع والطاعة.
وانصرف الطباخ.
فجعلت أعجب من تفقده وهو ملك لمثل هذا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

الحسن بن مخلد وبخله على الطعام
حدثي أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني جحظة، قال: ربحت بأكلة افتديتها خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وخمسة أثواب فاخرة، وعتيدة طيب سرية.
قلت: كيف كان ذلك؟ قال: كان الحسن بخيلاً على الطعام، سمحاً بالمال، وكان يأخذ ندماءه، بغتة فيسقيهم النبيذ، ويواكلهم، فمن أكل، قتله قتلاً، ومن شرب عنده على الخسف، حظي عنده.
قال: فكنت عنده يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غداً على الصبوح الجاشري، فبت عندي.
فقلت: لا يمكنني ، ولكن أباكرك قبل الوقت، فعلى أي شيء عملت أن تصطبح؟ فقال: أعد لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي على أن أباكره.
وقمت، وجئت إلى بيتي، فدعوت طباخي، وتقدمت إليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل، ونمت.
وقمت وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي وأسرج لي وأنا عامل على المضي إليه، إذ طرقتني رسله، فجئته.
فقال: بحياتي، أكلت شيئاً؟ قلت: أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبيل المغرب، وهذا نصف الليل، فأي وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئاً؟ سل غلمانك، على أي حال وجدوني؟ فقالوا: والله وجدناه يا سيدنا وقد لبس ثيابه،وهو ذا ينتظر أن يفرغ له من إسراج بغلته، ليركبها.
فسر بذلك سروراً شديداً، وقدم الطعام، فما كان في فضل أشمه، فأمسكت عن تشعيثه ضرورة، وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحل دمي.
قال: وكذا كانت عادته، فأقول له: هو ذا آكل يا سيدي، وفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟ وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال، وهو يفرح، وعنده أني أشرب على الريق، أو على ذلك الأكل الذي خلست معه.
ثم أمرني بالغناء، فغنيت، فاستطاب ذلك، وطرب وشرب أرطالاً.
فلما شربت النبيذ، قد عمل فيه، قلت: يا سيدي، أنت تطرب على غنائي، فأنا على أي شيء أطرب؟ قال: يا غلام ، هات الدواة، فأحضرت، فكتب لي رقعة، ورمى بها إلي، وإذا هي إلى صيرفي يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها، فشكرته. ثم غنيت، فطرب، وزاد سكره، فطلبت منه ثياباً، فخلع علي خمسة أثواب.
ثم أمر أن يبخر من كان بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سرية، فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخرون الناس منها، فلما انتهوا، قلت: يا سيدي وأنا أرضى أن أتبخر حسب؟ فقال: ما تريد؟ قلت أريد نصيبي من العتيدة.
فقال: قد وهبتها لك.
وشرب بعد ذلك رطلاً آخر، واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته إذا سكر.
فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت تبكير الناس في حوائجهم. فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم، على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة.
فصرت إلى منزلي، ونمت نومة، ثم ركبت إلى درب عون، أريد الصيرفي، حتى دكانه، وأوصلت الرقعة إليه.
فقال: يا سيدي، أنت الرجل المسمى في التوقيع؟ قلت: نعم.
قال: أنت تعلم، أن أمثالنا يعاملون للفائدة.
قلت: نعم.
قال: ورسمنا أن نعطي في مثل هذا ما يكسر في كل دينار، درهم.
قلت له: لست أضايقك في هذا القدر.

فقال: ما قلت هذا لأربح عليك الكثير، أيما أحب إليك، تأخذ كما يأخذ الناس، وهو ما عرفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر حتى أفرغ من شغلي، ثم ركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة، ونشرب، فقد والله سمعت بك، وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعت الآن لي رخيصاً، فإذا فعلت هذا، دفعت إليك الدنانير بما تساوي، من غير خسران.
فقلت: أقيم عندك.
فجعل الرقعة في كمه، وأقبل على شغله.
فلما دنت الظهر، جاء غلامه ببغل فاره، فركب، وركبت معه، وصرنا إلى دار سرية حسنة، بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلا جوار روم للخدمة، من غير فحل.
فتركني في مجلسه، ودخل، ثم خرج إلي بثياب أولاد الخلفاء، من حمام داره، وتبخر، وبخرني بيده، بند عتيق جيد، وأكلنا أسرى طعام، وأنظفه، وقمنا إلى مجلس للشرب سري، فيه فواكه وآلات بمال.
وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد.
فلما أصبحنا أخرج كيسين، في أحدهما دنانير، وفي الآخر دراهم، فوزن لي خمسمائة دينار من أحدهما، ثم فتح الآخر فإذا هو دراهم طرية، فوزن لي منها خمسمائة درهم.
وقال: يا سيدي تلك ما أمرت به، وهذه الدراهم هدية مني. فأخذتها، وانصرفت.
وصار الصيرفي صديقي، وداره لي.
إن بالحيرة قساً قد مجن
حدثني أبو الحسن بن عياش، قال: كان جحظة لما أسن، يفسو في مجالسه، فيلقى من يعاشره، ذلك جهداً.
وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه، لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست، أخذت عليه الريح، وجلست فوقها.
فجئته يوماً في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا، قال لي، ولآخر كان معي، أسماه لي، وحدثني ذلك الرجل بمثل هذا الحديث: اجلسا عندي، حتى أجلسكما على لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما معتقة اليهود، وأبخركما بعود، وأغنيكما غناء المسدود، أطيب من الندود.
فقلنا: هذا موضع سجدة.
وجلسنا، وصديقي لا يعرف خلته في الفساء، وأنا قد أخذت الريح، فوفى لنا بجميع ما شرطه. وقال لنا، وقد غنى، وشربنا: نحن بالغداوة في صورة العلماء، وبالعشي في صورة المخنكرين. فلما أخذ النبيذ منه، أقبل يفسو، وصديقي يغمزني، ويتعجب، فأغمزه، وأقول: إن ذلك عادته، وخلته، وإن سبيله أن يحتمل.
إلى أن غنى جحظة، صوتاً مليحاً، الشعر والصنعة له فيه، وكان يجيده جداً، وهو:
إن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حباً للصبا ... ورأى الدنيا مجوناً فركن
وطرب صديقي ذاك، عليه طرباً شديداً، استحساناً له، وأراد أن يقول أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال: افس علي كيف شئت.
فخجل جحظة.

بين جحظة وأبي الحسين بن عياش
قال: وأخبرني أنه كان معه في حديدي لابن الحواري، وقد حملهم إلي بلا شكر ليتفرجوا، والحديدي يمده الملاحون بالقلوس، وجحظة بين يدي الرجل، قد صار في أعلى الريح لأنها كانت شمالاً، على سطح الحديدي.
فأقبل جحظة يفسو، فأنكر الرجل ذلك، وقال: ما هذا الفساء؟ من أين هذا؟ فقال جحظة: هؤلاء المدادون سفل، فإذا مدوا فسوا، وهم أعلى منا في الريح، فهي تحمل فساهم إلينا.
قال: فاشتبه ذلك على الرجل.
فقلت له: يا أبا الحسن، لو أن فساء هؤلاء يريد الطرادة ويجيء على حملها مستوياً إلى نفس الطرادة ما وصل إلينا بهذه السرعة، والريح من جهتك لا من جهة الملاحين، وأنا أنبه عليك. قال: فأقبل يصانعني، ويفتدي من يدي، أن لا أغمز به.
فقلت : على شريطة أن تقطع.
قال: نعم.
أبو عيشونة الشاطر
حدثني أبو القاسم الصروي الكاتب، قال: كان بمدينة السلام، شاطر، يعرف بأبي عيشونة، فاجتاز به بعض العلماء من أهل الأدب، في هيج قد وقع، وقد خرج ليأخذ المجتازين فقبض عليه، وقال: اطرح ثيابك.
فقال: أنا فلان.
فاستحيا منه، فقال: خذ علي ما أنشدك.
قال: هات.
فقال:
خمسون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى ضرغامة بطل
شدوا ثيابهم يوماً على أمل ... فأفرغوها وأدلوها على الأمل
فقال الرجل: أحسنت، فبالله، زدني من شعرك، فقال:
ولقد هيج البلا ... حين عض السفرجلا
ولقد قام حبكم ... في فؤادي بأعلى العلا
فقال: خلطت.

قال: أنا أبو عيشونة، وحياة أصحابي، أنج بنفسك.
فمضى وتركه.

الحذاء الماجن بباب الطاق
رأيت حذاء ماجناً بباب الطاق، يعرف بالمدلق، ويلقب بالقاضي، يسمس النعال، بأسماء من جنس الصفعة، على سبيل الهزل.
فيقول لمن يخاطبه: هذه صلكعية، وهذه رأسكية، وهذه قفوية، فقال له واحد: كم أعطيت بها؟ فقال: إذا نزلت في حلقك، عرفتك ثمنها، وأخذته منك، ومتى وقعت في عنقك وكرهتها، فأنا آخذها منك بالثمن.
طبيب يتماجن على مريض
ورأيت طبيباً يتماجن على مريض، وقد شكا إليه شيئاً.
فقال: هذا يدل على أنك، ثارت بك الصفراء، وكان الذي شكاه المريض رطوبة.
فقال: يا هذا أنا مرطوب، فكيف تثور بي الصفراء؟ قال: فالسوداء.
قال: لا أعلم .
قال: الذي عندي، إنه ثارت بك الملمعة.
ففطن الرجل لموضع قوله: الصفراء والسوداء، ثم وصف ما يصلح له، مما شكاه إليه، من علته.
يريد نعلاً وجهه مليح وأسفله وثيق
قال لي أبو طلحة الحذاء البصري، وكان مألفاً للأحداث والمتأدبين، قال لي صديق لي: أريد نعلاً يكون لها وجه مليح، وأسفل وثيق.
فقلت له: يا حبيبي، عليك بفلان العلق، إن وزنت خمسين درهماً في اليوم، ولست أجد لك بهذه الصفة إلا هو.
كما تدين تدان
جاءنا أبو عبد الله بن وارم الكوفي المتكلم، قال: كان عندنا بالكوفة، رجل، له ابن عاق به، فلاحاه يوماً في شيء، فجر برجله حتى أخرجه من بيته، وسحبه في الطريق شيئاً كثيراً.
فلما بلغ إلى موضع منه، قال له: يا بني حسبك، فإلى هاهنا جررت برجل لأبي إلى الدار، حتى جررتني منها.
طيب الطعام يستخرج لب الشكر
حدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، عن بعض الصوفية، أنه قال: طيب الطعام يستخرج من لب الشكر.
سعد السعود
أنشدني إسحاق بن إبراهيم بن علي النصيبي المتكلم لنفسه، في غلامه سعد:
وفق الله من دعاك بسعد ... فلقد كان فيه عين السعيد
أبصر السعد غرة بين عينيك ... فسماك باسمه المحمود
فإذا دعاك داع لأمر ... كنت فيه يا سعد سعد السعود
من رسائل أبي محمد المهلبي
وجدت في كتب أبي، كتاباً من كتب أبي محمد المهلبي إليه، قبل تقلده الوزارة، بسنين، أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي، عن سلامة لا زالت له إلفاً، وعليه وقفاً.
وحمداً لمولى أستمد بحمده ... له الرتبة العلياء والعز دائماً
وأن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... ويرضي المنى حتى يرينيه سالماً
وصل كتابه، أدام الله عزه، فقمت معظماً له وقعدت مشتملاً على السرور به.
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... دالبيض زينت بالشعور
بنظام لفظ كالثغو ... ر أو اللآلي في النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور.
أبو طلحة يروي حديثاً غير شريف
سمعت أبا طلحة الحذاء، يقول: روى فلان، عن فلان، بإسناد طويل، من أصبح في يوم سبت، وعنده طباهجة عنبرية، وبالقرب منه باقلاني، ولم يصطبح، فلا صبحه الله بخير ولا عافية.
واصل بن عطاء والخوارج
أخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، التنوخي: أن أبا حذيفة، واصل بن عطاء، خرج يريد سفراً في رهط من أصحابه، فاعترضهم جيش من الخوارج.
فقال واصل لأصحابه: لا ينطق منكم أحد، ودعوني معهم.
فقالوا: نعم.
قال: فقصدهم واصل، واتبعه أصحابه.
فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا بهم، فقال: كيف تستحلون هذا، وما تدرون ما نحن، ولأي شيء جئنا؟ قالوا: نعم، فما أنتم؟ قال: قوم من المشركين، جئناكم مستجيرين لنسمع كلام الله.
قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل يقرأ عليهم القرآن.
فلما أمسك، قال له واصل: قد سمعنا كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر في الدين.
فقالوا هذا واجب، سيروا.
قال: فسرنا، والخوارج والله معنا برماحهم، يسيروننا ويحموننا، عدة فراسخ، حتى قربنا من بلد لا سلطان لهم عليه.
فقالوا: ذاك مأمنكم؟ فقال واصل: نعم، فارجعوا عنا.
فانصرفوا.

وذهب أبو حذيفة في ذلك، إلى قول الله تعالى: " وأن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " .

بين معتزلي وأشعري
حدثني أبو الحسن، قال: كان إسماعيل الصفار البصري، أحد شيوخ أصحابنا المعتزلة، وكان الناس إذ ذاك يتشددون على أهل الحق، ويباينونهم في الخلاف.
قال: فوقعت ليلة في الدرب الذي كان ينزله إسماعيل في البصرة، صاعقة.
فلما أصبح، قال لغلمانه: أنسوا لي الباب، وافرشوا لي عليه، وإلا أرجف بي المخالفون.
ففعلوا، وجلس على بابه.
فاجتاز بعض جلة شيوخ البصرة من المخالفين، فلما رآه، قال: ألم نخبر أن الله رماك بصاعقة من عنده؟ قال: ولم؟ أنا أقول إني أرى الله جهرة؟
خلاف بين المعتزلة
وبين غوغاء من العوام
وقال رجل من أصحاب إسماعيل بالبصرة: أن القرآن مخلوق، بحضرة غوغاء من العوام، فوثبوا عليه، وحملوه إلى نزار الضبي. وكان أميراً على البصرة، فحبسه.
فطاف إسماعيل على المعتزلة، فجمع منهم أكثر من ألف رجل، وبكر بهم إلى باب الأمير، فاستأذن عليه، فأذن له.
فقال: أعز الله الأمير، بلغنا أنك حبست رجلاً لأنه قال: أن القرآن مخلوق، وقد جئناك، وكلنا يقول: أن القرآن مخلوق، وخلفنا من أهل البلد أضعاف عددنا، يقولون بمقالتنا، فإما حبست جميعنا مع أخينا، أو أطلقته معنا.
قال: فعلم أنه متى ردهم ثارت فتنة لا يأمن عواقبها، وإن الرأي يوجب الرفق بهم.
فقال: بل نطلقه لكم.
فأطلقه، وانصرفوا به عدواً.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
دفن أبي هاشم الجبائي وأبي بكر بن دريد
في يوم واحد
حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي القاضي، قال: لما توفي الشيخ أبو هاشم الجبائي، ببغداد، اجتمعنا لدفنه، فحملناه إلى مقابر الخيرزان، في يوم مطير، ولا يعلم بموته أكثر الناس، وكنا جماعة في الجنازة.
فبينا نحن ندفنه، إذ حملت جنازة أخرى ومعها جميعة عرفتهم بالأدب.
فقلت لهم: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبي بكر بن دريد.
فذكرت حديث الرشيد، لما دفن محمد بن الحسن والكسائي بالري في يوم واحد.
قال: وكان هذا في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، فأخبرت أصحابنا بالخبر، وبكينا على الكلام والعربية طويلاً، وافترقنا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
بين الهبيري وابن أبي خالد الأحول
حدثني أبي، رضي الله عنه، بإسناد ذكره: أن رجلاً من شيوخ الكتاب يعرف بالهبيري، لزمته العطلة، وأضرت به، فكان يلازم ابن أبي خالد الأحول، وهو إذ ذاك يدبر أمر الوزارة.
فطالت ملازمته داره، وكان ابن أبي خالد يستثقله، فحجب عن الدار.
فكان يبكر كل يوم فيقف على دابته بالباب، حتى يخرج الوزير، ثم ينتظر إلى أن يعود، ويدخل الوزير، وينصرف هو.
فطال ذلك على الوزير، حتى برم به، فقال لكاتب له : إلق هذا الرجل، وقل له: إنه لا تصرف لك عندي، ولست أحب أن أراك في كل وقت، فانصرف عني، ولا تقرب بابي.
قال الكاتب: فاستحييت أن أؤدي عن صاحبي مثل هذه الرسالة إلى شيخ من جلة الكتاب، وإن كان الزمان قد حطه، وعلت أن ذلك قد صدر عن الوزير، لسوء رأيه فيه، ومقته له، واستثقاله إياه.
فصرت إلى منزلي، وأخذت معي خمسمائة درهم، و؟صرت إلى الهبيري، فقلت: الوزير أعزه الله، يقرأ السلام عليك، ويقول لك: هوذا تشق علي؟؟ رؤيتك بالباب. والأشغال تقطعني عنك، ولا تصرف عندي أرتضيه لك في هذا الوقت، وقد حملت إليك خمسة آلاف درهم، فاستعن بها في نفقتك، والزم دارك، واربح العناء، فإذا سنح عندي شغل يصلح لك، استدعيتك. قال: فاستشاط الشيخ، وقال: جعلني من الشحاذين والمستميحين، ينفذ إلي برفد،والله لا قبلته.
قال: فاستجهلته، وداخلني غيظ من فعله، فقلت: يا هذا، واله، ما هذه الدراهم من مال الوزير، ولا هي إلا من مالي، ورسالته أقبح مما تذهب إليه، وإني كرهت تلقيك بها، وأنت من شيوخ هذه الصناعة، فتحملت لك هذا الغرم من مالي، من غير علم صاحبي، صيانة لك وله.
فقال: أما أنت، فأحسن الله جزاءك، ولا حاجة بي إلى مالك، ولو مصصت الثماد، ولكن أنشدك الله، إلا ما أبلغتني رسالته بعينها، وحزت بذلك شكري.
قال: فأديتها إليه على حقها وصدقها.
قال: فقال: أحب أن تتحمل الجواب.
فقلت: قل.

قال: تقول له: والله، ما آتيك لك نفسك، وإنما أنت رجل قد صرت باباً لأرزاقنا، إذ كنا لا نحسن صناعة غير الكتابة، ولا تصرف فيها إلا من عندك، ومن أراد دخول الدار، يجب أن يأتيها من بابها، وعلى الإنسان أن يتعرض للرزق، ويأتي بابه، فإن قسم الله له منه شيئاً، أخذه، وإلا كان قد أدى ما عليه.
وليس يمنعني استثقالك لي، من قصدك، فإن قسم الله لي شيئاً من جهتك، أو على يدك، أخذته على رغمك، وإلا فلا أقل من أن أؤذيك برؤيتي، كما تؤذيني بعطلتي.
قال: فانصرفت متعجباً منه، ولم أعد على الوزير ذلك، لئلا يغتاظ، وتغافلت يومي.
فلما كان من الغد، بكر الوزير خارجاً من داره، وأنا معه، فإذا بالشيخ، فلما رآه، التفت إلي، وقال: ألم أنفذك إليه برسالة؟ قلت: بلى.
قال: فلم عاد؟ قلت: الخطب طويل طريف، وإذا اطمأن الوزير في مجلسه أخبرته. قال: فلما نزل في طياره، قال: أخبرني بما جرى.
فقصصت عليه القصة، وحملي الدراهم من مالي، وما جرى بأسره، وأديت إليه رسالته بعينها، فكاد أن يطير غيظاً.
وانتهى الكلام، وقد قدم الطيار إلى دار الخلافة، فدخل إليه وفي نفسه حديث الهبيري، والغيظ منه، فوقف بحضرة الخليفة، وجرى الكلام.
فقال له الخليفة: قد ألط عامل مصر بالمال، وجنح إلى المدافعة، فاختر رجلاً شهماً، ننفذه مشرفاً عليه، ومطالباً بما مضى.
قال: وكان ابن أبي خالد يعتني برجل متصرف يقال له الزبيري، فأراد أن يسميه لذلك، فقال: الهبيري، لما كان في نفسه منه، وقرب العهد بذكره، والغيظ من أمره.
فقال الخليفة: أو يعيش الهبيري؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أرد الهبيري، وإنما أرد فلان بن فلان الزبيري.
قال: يجوز أن تكون أردت الزبيري، ولكن أخبرني بخبر الهبيري، فقد كان له بي حرمة في حياة أبي، وبأ سبابنا، وهو واجب الحق علينا.
فقال: نعم، هو يعيش.
قال: فأنفذه إلى مصر.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا يصلح.
قال: ولم؟ قال: قد اختل.
قال: أحضرنيه حتى أشاهده، فإن كان مختلاً، أمرت له بصلة وجار، وإن كان ينهض بالعمل أنفذته.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه متعطل منذ سنين، وقد خمل، وذهب اسمه، وصوته، وهذا عمل يحتاج إلى من له نباهة.
قال: إذا أقبلنا عليه، وندبناه لمثل هذا الأمر العظيم، تجدد ذكره، وتطرى أمره.
قال: إنه لا حال له تنهضه.
قال: يطلق له من مالنا مائة ألف درهم، يصلح بها حاله، ويحمل إليه من البغال والدواب والخيم والآلات.
قال: فأخذ يعتل عليه.
قال: أرى فيك تحاملاً عليه، لتصدقني عن أمره معك.
فلجلج.
فقال: بحياتي أصدقني، فصدقه عن الخبر.
فقال الخليفة: قد والله أجرى الله عز وجل رزقه على يدك بالرغم منك، كما قال، ووالله لا برحت، أو تكتب عهده، ويوصل بجميع ما أمرت به.
ثم قال: علي بالهبيري.
فأحضر، وخرج ابن أبي خالد عليه، فقال: يا هذا، قد والله جاء رزقك على يدي بالرغم مني، وجرى كذا وكذا، وأخبره الخبر، وسلم إليه التوقيعات بما أمر له به الخليفة، والكتب إلى مصر، وواقفه على العمل، وأخرجه إليه.

بين ابن أبي الأضخم
وابن أبي خالد الأحول
وحدثني أيضا عن ابن أبي خالد هذا، قال: كان بغيضاً.
قال: فاتفق أن بكر إليه يوماً رجل شيخ من شيوخ الكتاب، يقال له: ابن أبي الأضخم متعطلاً، قد طالت عطلته، يغتنم أن يراه سحراً خالياً فيشكو إليه حاله، ويسأله التصرف.
فبكر بكوراً شديداً، فتلقاه برد قبيح، وقال له: أيش هذا المهم في مثل هذا الوقت؟ قال: فاحتد عليه الشيخ، وقال: ما العجب منك، العجب مني، حين ربطت أملي بك، وأسهرت عيني توقعاً للفجر في البكور إليك، وأسهرت عيالي وغلماني وتحملت التجشم إليك، وأنزلت بك حاجتي، حتى تتلقاني بمثل هذا، وعلي، وعلي، وحلف بأيمان البيعة، لا دخلت دارك أبداً، ولا سألتك حاجة، ولا طلبت منك تصرفاً، أو تجيئني إلى داري معتذراً مما تلقيتني به، وتقضي حاجتي في منزلي، ونهض.
فلما صار الرجل إلى منزله، ندم ندماً شديداً، وقال: هذا رجل لئيم الطبع، سيء الظفر، شرس الخلق، وأنا مضطر إلى لقاءه، ومساءلته في حوائجي، فلم حلفت بهذه اليمين؟ وما أحد أسوء حلة مني، فإن هذا الوزير لا يفكر في، ولا يجيئني والله أبداً، ولا يكون لي طريق إلى قصده.

ويحس العمال بذلك، فيخربون ضيعتي، وتدوم عطلتي، ويلحقني كيت وكيت.
وأقبل يلوم نفسه ويؤنبها، ويفكر كيف يعمل، وقد أسفر النهار وتعالى، إلى أن صار نحو ساعتين.
فدخل إلي غلمانه فقالوا: يا سيدنا، الوزير مجتاز في شارعنا، فقال: وما علينا منه.
فدخل آخر وقال: يا سيدي قد والله عدل من الشارع إلى دربنا.
ودخل آخر فقال: يا سيدي، إنه يقصد دارنا.
وتبادر الغلمان، فقالوا: قد صار بالباب، يستأذن عليك.
قال: فنهض الشيخ، وخرج إليه، وقبل يده، وقال: أبيت، أيدك الله، إلا الأخذ بالفضل.
قال: لا تشكرني، واشكر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، على ذلك.
ودخل إليه فقال: إنك انصرفت، وقد أمضني خطابك، وقد كان ما خاطبتك به على ضجر مني، وعلى غير اعتقاد.
وركبت في الحال إلى الخليفة، فخاطبني، وأنا مشغول البال بما دار بيننا فوجد كلامي مضطرباً، وأقسم علي لأخبرنه، فأخبرته، فأخذ يعذلني ويوبخني على ما لقيتك به.
وقال: لا تقف، امض إليه الساعة معتذراً، وأخرجه من يمينه، واقض حاجته، وانظر في أموره.
قال: ثم دعا بدواة، فوقع لي بما كنت سألته، وبمال وصلني به، وتصرف قلدنيه، ونهض. فشكرته، ودعوت للخليفة، وحمدت الله تعالى على ما وفقه لي.

إذا نزل القضاء لم ينفع الدعاء
حدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو الحسن علي بن عبد الله الحذاء، قال: حدثني جعفر الخلدي الصوفي، قال: كنا مع ابن واصل الصوفي في سنة إحدى عشرة بالهبير.
فلما أخذ الناس في الوقعة، وبدأ السيف في أهل القافلة، اجتمعنا إليه، فقلنا: تدعو الله لنا أن يخلصنا.
قال: ليس هذا وقت الدعاء، هذا وقت الرضا والاستسلام، إنه إذا نزل القضاء، لم ينفع الدعاء.
من شعر ابن الحجاج البغدادي
حضرت أبا عبد الله بن الحجاج الكاتب البغدادي، صاحب السفه في شعره، ينشد أبا الفضل الوزير لنفسه، يوم قبض ببغداد على حرم أبي الفرج محمد بن العباس وأسبابه وأطلق الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين، وتقلد الوزارة، وكان محبوساً في دار أبي الفرج، فجلس فيها أكثر يومه.
وكان ذلك اليوم، يوم الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ستين وثلثمائة، وخلع عليه في الغد، وهو يوم الأربعاء.
وكان القبض عليه يوم ثلاثاء، وخلع على أبي الفرج بالوزارة، صارفاً له، يوم الأربعاء، وبين الأمرين أربعمائة يوم، وجاء أبو الفرج فجلس في دار أبي الفضل، ونظر في الوزارة:
يا سيداً طلعته لم تزل ... أشهى إلى عيني من النوم
لم تظلم الناس وحاشاك أ، ... تحيف بالظلم على القوم
جازيته مثل الذي أسلفوا ... في الدار والمجلس واليوم
ثم خرج عن مجلسه.
فجلس جماعة في دار الوزير أبي الفضل، فأنشدنا شيخ حضر من الكتاب لابن زريق الكاتب في مثله، وهو أبو القاسم ابن زنجي، قال أنشدني ابن زريق لنفسه في الكوفي، لما صرف:
إنا لقينا حجاباً منك أرمضنا ... فلا يكن ذلنا فيه لك الغرضا
فاسمع مقالي ولا تعجل علي فما ... أبغي بنصحك لا مالاً ولا عرضا
في هذه الدار في هذا المكان على ... هذي الوسادة كان العز فانقرضا
عائدة الجهنية تنظم الشعرالحسن
أنشدتني عائدة بنت محمد الجهنية لنفسها، وهذه امرأة فاضلة، كاتبة كانت زوجة عم الوزير ابن شيرزاد، وخليفته على كتابة بجكم وسبكتكين في الديوان الذي كان لأبي جعفر، وجاءه ابن زريق فحجب، ثم دخل بحيلة على ما أخبرنا.
قال: فأنشدته هذه الأبيات، فلما ولي الوزارة، نفعه، واستخدمه.
فلما قبض على الحسن بن علي المنجم، وحبس ابنته في دار أبي رضي الله عنه وكل هذه المرأة بها، وهي إذ ذاك عجوز، فكانت تناشدنا الأشعار، وتنشدنا لنفسها كل شيء جيد. فأخبرتني أنها قالت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، لما ولي الوزارة، وتعيبه بقصر قامته،وهزاله:
شاورني الكرخي لما دنا ال ... نيروز والسن له ضاحكه
فقال ما نهدي لسلطاننا ... من خير ما الكف له مالكه
قلت له كل الهدايا سوى ... مشورتي ضائعة هالكة
أهد له نفسك حتى إذا ... أشعل ناراً كنت دوباركه
أنشدتني ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة.

الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للعب على قدر الصبيان يخلونها أهل بغداد في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها، ويخرجونها في زي حسن، من فاخر الثياب والحلي، ويحلونها كما يفعل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطبول والزمور، وتشعل النيران.
فهجته هذه المرأة بما تحقق عندي أنها صادقة فيه، لأنه يليق بكلام النساء.
وقد كانت تنشدني لنفسها أفحل من هذا الكلام، وكتبت ذلك عنها، وهو ثابت في مواضع من كتبي، وما تعلق بحفظي لها غير هذه الأبيات.
؟

لو كان هذا المخنث شاعرا
ً
لكان أشعر الناس
حدثني أبي، قال: كنت أماشي المعوج الشامي الشاعر، ببغداد، وكان دقيقاً، دقيق الوجه، أشهل، معوج الوجه.
فلقينا مخنث، فولع به المعوج.
فقال له المخنث: لا تسكت، يا من كأنه ديك يطلع في سطل ماء.
فأسرع المعوج من يده، وقال: لو كان هذا شاعراً كان أشعر الناس، والله ما شبهني أحد، أصح من تشبيهه.
بين مخنث وامرأة
حدثني أبو الطيب بن هرثمة، قال: كنت مجتازاً ببغداد، ومخنث يمشي، فرأته امرأة، وكان حسن البدن.
فقالت: ليت على ابني شحم هذا المخنث.
قال: فقال لها المخنث: مع بغائي، فشتمته.
فقال لها: كيف صار، تأخذن الجيد وتدعين الرديء.
بين مخنث ومغنية
حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: سمعت مخنثاً يهاتر مغنية، فقال لها: لا تسكتين، وحرك كأنه دكان حجام، داخله دم، وخارجه شعر.
بين مخنث وامرأة تولعت به
قال: وبلغني أن مخنثاً قال لامرأة تولعت به: اشتغلي بحرك الذي قطع لسانه، وسود وجهه، وجعل إلى جانبه كنيف ينجر إليه.
فتى يهاتر مغنية
قال: وهاتر صديق لنا مغنية، فقال لها: يا من خرق حيضها حشو مسورة.
الحر العاملي ومكاشفته باللواط
حدثني أبو الطيب بن هرثمة، قال: كان الحر العاملي، مكاشفاً باللواط، حتى أنه كان يقول لغلامه، بحضرة الناس: إمض إلى البيت الذي نكتك فيه البارحة، فجئني منه بكذا.
قال: فقال ليلة لغلام له: أعطني فرداً.
فقال: لا أفعل.
قال: ولم؟ قال: هي ليلة جمعة.
قال: وأي فرق بينها وبين غيرها من الليالي؟ قال: الذنب فيها يكتب ذنبين.
قال: فاحسب أن ليلة السبت قد تنايكنا فردين.
أبو عيسى ابن بنت أبي نوح
ومكاشفته بالبغاء
قال: وكان أبو عيسى ابن بنت أبي نوح، مكاشفاً بالبغاء.
فقال يوماً رجل بحضرته: فلان بغاء.
فقال: لا، ولا كرامة، من ذلك العامي السفلة، حتى يكون بغاء؟ بأي أبوة؟ بأي نعمة؟ بأي كتبة؟ بأي صناعة؟ بأي ملوكية؟ بأي عرق؟.
الصولي والإسفيذاج
بالمباعر المحشوة
قال: وأكلنا يوماً مع الصولي في داره، فقدمت إسفيذاج بمباعر محشوة، فأقبل يحثنا على أكل الحشوات.
حتى قال في جملة الكلام: ومن فضلها، وطيبها، أنها تشبه زباب المراهقين.
قال: فقلت لصديق كان إلى جانبي: كاشف هذا أيضاً بما يرمي به من البغاء.
لم أمرضه فأسلو لا ولا كان مريضا
حدثني أبي، قال: خرج إلينا يوماً، أبو الحسن الكاتب، فقال: أتعرفون ببغداد رجلاً يقال له: ابن أصدق؟ قال: فلم يعرفه من أهل المجلس غيري، فقلت: نعم، فكيف سألت عنه؟ فقال: أي شيء يعمل؟ قلت: ينوح على الحسين عليه السلام.
قال: فبكى أبو الحسن، وقال: إن عندي عجوزاً ربتني من أهل كرخ جدان عفطية اللسان، الأغلب على لسانها النبطية، لا يمكنها أن تقيم كلمة عربية صحيحة، فضلاً عن أن تروي شعراً، وهي من صالحات نساء المسلمين، كثيرة الصيام والتهجد.
وإنها انتبهت البارحة في جوف الليل، ومرقدها قريب من موقعي، فصاحت بي: يا أبا الحسن.
فقلت: ما لك؟ فقالت: الحقني.
فجئتها، فوجدتها ترعد، فقلت: ما أصابك؟ فقالت: إني كنت قد صليت وردي فنمت، فرأيت الساعة في منامي، كأني في درب من دروب الكرخ، فإذا بحجرة نظيفة بيضاء، مليحة الساج، مفتوحة الباب، ونساء وقوف عليها.
فقلت لهم: من مات؟ وما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار.
فدخلت فإذا بحجرة لطيفة، في نهاية الحسن، وفي صحنها امرأة شابة لم أر قط أحسن منها، ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة بياض مروي لين، وهي ملتحفة فوقها بإزار أبيض جداً، وفي حجرها رأس رجل يشخب دماً.
فقلت: من أنت؟

فقالت: لا عليك، أنا فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا رأس ابن الحسين، عليه السلام، قولي لابن أصدق عني أن ينوح:
لم أمرضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
فانتبهت فزعة.
قال: وقالت العجوز: لم أمرطه، بالطاء، لأنها لا تتمكن من إقامة الضاد، فسكنت منها إلى أن نامت.
ثم قال لي: يا أبا القاسم مع معرفتك الرجل، قد حملتك الأمانة، ولزمتك، إلى أن تبلغها له. فقلت: سمعاً وطاعة، لأمر سيدة نساء العالمين. قال: وكان هذا في شعبان، والناس إذ ذاك يلقون جهداً جهيداً من الحنابلة، إذا أرادوا الخروج إلى الحائر.
فلم أزل أتلطف، حتى خرجت، فكنت في الحائر، ليلة النصف من شعبان.
فسألت عن ابن أصدق، حتى رأيته.
فقلت له: إن فاطمة عليها السلام، تأمرك بأن تنوح بالقصيدة التي فيها:
لم أمرضه فأسلو ... لا ولا كان مريضا
وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك.
قال: فانزعج من ذلك، فقصصت عليه، وعلى من حضر، الحديث، فأجهشوا بالبكاء، وما ناح تلك الليلة إلا بهذه القصيدة، وأولها:
أيها العينان فيضا ... واستهلا لا تغيضا
وهي لبعض الشعراء الكوفيين.
وعدت إلى أبي الحسن، فأخبرته بما جرى.

كان الناس لا يستطيعون النياحة
على الحسين عليه السلام خوفاً من الحنابلة
قال أبي، وابن عياش: كانت ببغداد، نائحة مجيدة حاذقة، تعرف بخلب، تنوح بهذه القصيدة.
فسمعناها في دور بعض الرؤساء، لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكنون من النياحة إلا بعز سلطان، أو سراً لأجل الحنابلة.
ولم يكن النوح إلا مراثي الحسين وأهل البيت علهم السلام فقط، من غير تعريض بالسلف. قالا: فبلغنا أ، البربهاري، قال: بلغني أن نائحة يقال لها: خلب، تنوح، اطلبوها فاقتلوها.
عناية رسول الله صلوات الله عليه
بأبي حسان الزيادي
حدثني أبي رضي الله عنه، بإسناد ذكره أن أبا حسان الزيادي، كان من وجوه فقهاء أصحابنا، ومن غلمان أبي يوسف، وكان من أصحاب الحد يث.
وكان تقلد القضاء قديماً، ثم تعطل، فأضاق، فلزم مسجداً حيال داره، يفتي، ويدرس الفقه، ويؤم، ويحدث، وإضاقته كل يوم تزداد، وهو يطلب التصرف، أو الرزق، ولا يظفر به، وقد نفد ما عنده، وباع كل ما يملك، وركبه دين عظيم.
إذ جاءه يوماً رجل خراساني، وقد حضر وقت خروج الناس من بغداد إلى مكة.
فقال له: إني أريد الخروج إلى الحج، وهذه عشرة آلاف درهم معي، تقبلها وديعة لي، فإن رجعت من الحج رددتها علي، وإن رجع الناس ولم أرجع، فاعلم أني هلكت، وهي لك هبة حلالاً.
قال أبو حسان: فأخذتها إلى منزلي، وقصصت على زوجتي الخبر.
فقالت: نحن في ضر شديد، فلو تصرفت فيها من الآن، وقضيت د ينك، واتسعت، فلعل الله يجعلها لك، فتكون قد تعجلت العيش.
فقلت: لا أفعل.
فما زالت في يومي وليلتي، تحملني على ذلك، حتى أجبتها إليه من غد، ففضضت الختم عن الكيس، وقضيت منه ديني، وتأثثت، وتوسعت في منزلي، واشتريت ثياباً لي، ولها، ولبناتي، وأصلحت جميع أمري بنحو خمسة آلاف درهم من ذلك.
ومضى على هذا الحديث ثلاثة أيام، أو أربعة، فانفتلت يوماً عن الصلاة، فإذا بالخراساني ورائي.
فلما رأيته قامت قيامتي، وقلت: ما لك؟ فقال: قد اصرفت عن السفر إلى مكة، وأريد المقام ببغداد، فتر إلي تلك الوديعة.
فقلت له: لست أتمكن من ذلك الساعة، فتجيئني غداً غدوة.
فنهض ونهضت إلى منزلي، وما بي طاقة للمشي، فيما بين المسجد وبيتي.
فدخلت، وسقطت مغشياً علي، واجتمع أهلي.
فلما أفقت قالوا: ما دهاك؟ قلت: أنتم حملتموني على التصرف في مال الخراساني، وقد جاءني الساعة يطلبه، فكيف أعمل؟ الآن أفتضح،ويذهب جاهي، وأهلك بين الناس، وأحبس، فأموت ضراً وغماً.
فبكوا، وبكيت.
وجاءت المغرب، فلم أقدر على الخروج إلى المسجد، وكذلك العشاء، ثم قمت، فصليت في البيت.
فقلت:هذا أمر لا يكشفه إلا الله، وليس لي إلا التضرع إليه، فجددت طهوراً، وصففت قدمي في المحراب، أصلي، وأبكي، وأدعو حتى ختمت القرآن، وقد كاد أن يطلع الفجر، وما اكتحلت غمضاً.
فقلت لأهلي:الساعة يجيء الرجل إلى المسجد، فكيف أعمل؟ فقالوا: لا ندري.
فقلت: أسرجوا لي، وكانت لي بغلة أركبها.

وقلت لهم: أنا، هو ذا، أركب، لا أدري إلى أين أمضي، ولست أرجع إليكم وإن تلفت، ولا وجه لي يقوى على كلام الخراساني، فإن طالبكم وخرج بكم إلى مكروه، فسلموا إليه بقية المال، واصدقوه الحديث، وإن أمكنكم مدافعته، فدعوني مستوراً،فلعلي أرجع بفرج، أو رأي في أمره.
وركبت، لا أدري أين أقصد، وليس معي ضياء، ولا غلام، وتركت عنان البغلة على عرفها. وجاءت إلى الجسر، وعبرته إلى الجانب الشرقي، وأنا عليها، وصارت بي إلى باب الطاق، وعطفت بي في الشارع الكبير، المنفذ إلى دار الخليفة.
فلما توسطه، إذا بموكب عظيم، وضياء، وقوم يجيئون من ناحية دار الخليفة.
فقلت: أتنكب الطريق، حتى لا يزحموني بدوابهم.
فجذبت العنان لأدخل درباً، فإذا بهم يصيحون بي، فوقفت.
فقالوا: من أنت؟ومن تكون؟ قلت: رجل من الفقهاء، فمسكوني، فجاذبتهم، وجاء رئيسهم.
فقال: من أنت رحمك الله؟ لا بأس عليك إن صدقت.
قلت: رجل من الفقهاء والقضاة.
قال: بمن تعرف؟ قلت: بأبي حسان الزيادي.
فصاح: الله أكبر، الله أكبر،أجب أمير المؤمنين، فسرت معه، حتى أدخلت على المأمون.
فقال لي: من أنت؟ قل: رجل من الفقهاء والقضاة، أعرف بالزيادي، ولست منهم، إنما سكنت في محلة لهم، فنسبت إليهم.
فقال:ٍ بأي شيء تكنى؟ قلت: بأبي حسان.
قال: ويحك ما دهاك؟ وما قصتك؟ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما تركني أنام البارحة بسببك، أتاني دفعة في أول الليل، وفي وسطه، وهو يقول: أغث أبا حسان الزيادي، فأنتبه، ولا أعرفك، وأنسيت السؤال عنك، فلما كانت الساعة، أتاني، فقال: أغث أبا حسان الزيادي، فما تجاسرت عن النوم، وأنا ساهر من ذلك الوقت، وقد بثثت الناس في جانبي البلد، أطلبك، فما قصتك؟ قال: فصدقته عن الخبر، حتى لم أكتمه منه حرفاً.
وقلت: أنا رجل كنت أتقلد للرشيد من أبي يوسف القضاء بناحية، فلما مات، صرفت، وانقطعت أرزاقي، ولزمتني العطلة والإضاقة، فكان من خبري مع رجل خراساني كيت وكيت.
فبكيت، وبكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون،هاتوا خمسة آلاف درهم، فجاءوا بها.
فقال: خذ هذه فارددها مكان ما تصرفت به.
ثم قال: هاتم عشرة آلاف، فجاءوا بها، فقال: خذ هذه فأصلح بها أمرك. وتوسع بها في نفسك.
ثم قال: هاتم ثلاثين ألفاً، فجاءوا بها، فقال: خذ هذه، فأصلح بها أمر بناتك، وزوجهن، وإذا كان يوم الموكب، فصر إلينا بسواد لنقلدك عملاً، ونرزقك رزقاً.
فحمدت الله، وشكرته، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوت لأمير المؤمنين، وانصرفت والمال معي، وصرت إلى منزلي، وما طلعت الشمس، وأهل المسجد يتوقعون خروجي للصلاة، وقد أنكروا تأخري عنهم، فنزلت، فصليت بهم، وسلمت، وإذا بالخراساني، فأدخلته منزلي، وأخرجت إليه بقية ماله، فرأى ختمه غير صحيح.
وقلت: خذ هذا، فهو بقية مالك، فقد صرفته، وأومأت إلى المال الذي كان معي، وقلت خذ تمام مالك.
فقال: ما قصتك؟ فأخبرته الخبر فبكى، وحلف لا يأخذ شيئاً.
وحلفت عليه، فقال: والله، لا أخذته، ولا أدخلت في مالي شيئاً من مال هؤلاء.
وبأت بالنظر في أمر بناتي، وتزويجهن، وتجهيزهن، وتقدمت بابتياع سواد، ودابة، وغلام. وصرت إلى المأمون يوم الموكب، فأدخلت، فسلمت، فأوقفت مع القضاة، وأخرج إلي عهداً من تحت مصلاه، وسلمه إلي.
وقال: قد قلدتك القضاء بالمدينة الشرقية من الجانب الغربي، وهذا عهدي إليك عليها، فاتق الله، وقد أجريت إليك كذا وكذا، في كل شهر رزقاً.
فما زال أبو حسان يتقلدها في أيام المأمون.

العلويون وآل طاهر
حدثني أبي، قال: حدثني الصولي، أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حدثه، قال: لما عاد محمد بن عبد الله، أخي من مقتل يحيى بن عمر العلوي، رضي الله عنه، بعد مديدة، دخلت إليه بعد ذلك يوماً سحراً، وهو كئيب مطأطئ الرأس، في أمر عظيم، كأنه قد عرض على السيف، وبعض جواريه قيام لا يتجاسرن على مسألته، وأخته واقفة.
فلم أقدم على خطابه، فأومأت إليها، ما له؟ قالت: رأى رؤيا هالته.
فتقدمت إليه، وقلت: أيها الأمير، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليتحول من جانبه إلى الآخر، وليقل ثلاثاً استغفر الله، ويلعن إبليس، ويستعيذ بالله، ثم ينام.

فرفع رأسه وقال: يا أخي، فكيف إذا كانت الطامة من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: أعوذ بالله.
فقال لي: ألست ذاكراً رؤيا طاهر بن الحسين؟ فقلت: بلى.
قال عبيد الله: وكان طاهر، وهو صغير الحال رأى النبي صلى الله عليه في منامه، فقال له: يا طاهر، إنك ستبلغ من الدنيا أمراً عظيماً، فاتق الله، واحفظني في ولدي، فإنك لا تزال محفوظاً ما حفظتني في ولدي.
فقال: ما تعرض طاهر لقتال علوي قط، وندب إلى ذلك غير دفعة فامتنع عنه.
ثم قال لي أخي محمد بن عبد الله: إني رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه في منامي، كأنه يقول لي: يا محمد، نكثتم؟ فانتبهت فزعاً، وتحولت، واستغفرت الله تعالى، وتعوذت من إبليس، ولعنته، واستغفرت الله تعالى ونمت.
فرأيته صلى الله عليه، ثانية، وهو يقول: يا محمد، نكثتم؟ ففعلت كما فعلت في الأولة.
فرأيته صلى الله عليه وهو يقول: نكثتم وقتلتم أولادي، لا تفلحون بعدها أبداً.
فانتبهت، وأنا على هذه الحال، وهذه الصورة، منذ نصف الليل ما نمت.
قال: واندفع يبكي، وبكيت معه.
فما مضت على ذلك إلا مديدة، حتى مات محمد، ونكبنا بأسرنا أقبح نكبة، وصرفنا عن ولاياتنا، ولم يزل أمرنا يخمل، حتى لم يبق لنا اسم على منبر، ولا علم في جيش، ولا إمارة. وحصلنا إلى الآن تحت المحن.

بين الوزير علي بن عيسى
والعطار الكرخي
حدثني جماعة من أهل الحضرة: أن رجلاً عطاراً من أهل الكرخ، كان مشهوراً بالستر، ارتكبه دين، فقام من دكانه ولزم منزله وأقبل على الدعاء والصلاة ليالي كثيرة.
فلما كان ليلة جمعة، وصلى صلاته، ودعا ونام.
قال: فرأيت النبي صلى الله عليه في منامي، وهو يقول لي: اقصد علي ابن عيسى الوزير، فقد أمرته لك بأربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك.
قال: وكان علي قيمة ستمائة دينار.
فلما كان من غد، قلت: قد قال رسول الله صلى الله عليه، من رآني في المنام، فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل بي، فلم لا أقصد الوزير؟ قال: فقصدته، فلما جئت إلى الباب، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعي صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر. فقال: يا هذا ، إن الوزير، والله، في طلبك منذ السحر، وإلى الآن، وقد سئلت عنك، فما عرفتك، وما عرفنيك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن مكانك.
قال: ومضى، فدخل، فما كان بأسرع من أن دعوني، فدخلت إلى أبي الحسن علي بن عيسى. فقال: ما اسمك؟ فقلت: فلان ابن فلان العطار.
قال: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم.
قال: يا هذا أحسن الله جزاءك في قصدك إياي، فوالله ما تهنيت بعيش منذ البارحة، جاءني رسول الله صلى الله عليه، في منامي، فقال: أعط فلان بن فلان العطار في الكرخ أربعمائة دينار، يصلح بها شأنه، وكنت اليوم، طول نهاري، في طلبك، وما عرفنيك أحد.
ثم قال: هاتم ألف دينار، فجاءوا بها عيناً.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه، وستمائة دينار، هبة مني لك.
فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزاد على عطية رسول الله صلى الله عليه شيئاً، فإني أرجو البركة فيها، لا فيما عداها.
فبكى علي بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار وانصرفت.
فقصصت قصتي على صديق لي، وأريته الدنانير، وسألته أن يحضر غرمائي، ويتوسط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نحن نؤخره ثلاث سنين بالمال، فليفتح دكانه.
فقلت: لا، بل يأخذون مني الثلث من أموالهم، وكانت ستمائة.
فأعطيت كل من له شيء، ثلث ماله، وكان الذي فرقته، مائتي دينار.
وفتحت دكاني، وأدرت المائتين الباقية في الدكان، فما حال الحول علي، إلا ومعي ألف دينار. فقضيت ديني كله، وما زال مالي يزيد، وحالي تصلح.
يحفظ شعراً في منامه
حدثني أبو أحمد الحارثي عبد الله بن عمر، قال: رأيت في منامي كأني مجتاز بالبصرة في بني نمير على مجلس الشرطة، والناس مجتمعون. فقلت: ما هذا؟ قالوا: فتى يضرب عنقه.
فاطلعن في الحلقة، فإذا بفتى حسن الوجه، قد أجلس وشد ليضرب عنقه.
فقال لهم: دعوني أتكلم بكلمتين، ثم اعملوا ما شئتم.
فقالوا له: تكلم.
فقال: هل هاهنا رجل من أهل الأدب، يحفظ عني ما أقوله.
قلت: نعم، فقال:

أيا شاهدي قتل المشوق تحملا ... زكي سلام طيبته مقاصده
إلى الظبية اللعساء في سند الحمى ... بحيث تحدى باب عثمان قاصده
فقولا لها إن المشوق الذي اعتدت ... عليه لريب الدهر أيد تراصده
مضى وبأحناء الضلوع هواكم ... إلى أ، يرى إنشاءه بعد حاصده
ثم قال لي: احفظها يا أخي علي، فإنه لا خامس لقافيتها، بشرط أن لا تغير الصاد والدال، ثم ضربت عنقه.
وانتهبت، وأنا أنشد الأبيات في الحال، فعلقتها.
وطلبت - فيما أعرفه وأذكره - قافية خامسة للأبيات، فلم أجد.
قلت أنا: وطلبت لها قافية، فوجدت ما يصلح أن يضاف إليها، أتصده من الفصد، وعاصده، ولا أدري كيف ذهب ذلك عن أبي أحمد.
ولعل غيري إن فتش وجد قوافي أخر، إلا أنها قافية عزيزة على هذا الشرط، كيف تصرفت الحال.

المعتضد يهدم سور أنطاكية
حدثني أبي، قال: لما خرج المعتضد إلى قتال وصيف الخادم، إلى طرسوس، وأخذه، عاد إلى أنطاكية، فنزل خارجها، وطاف بالبلد بجيشه، وكنت صبياً إذ ذاك في المكتب.
قال: فخرجت في جملة الناس، فرأيته وعليه قباء أصفر بلا سواد، وسمعت رجلاً يقول: الخليفة بقباء أصفر بلا سواد؟ قال: فقال له أحد الجيش: هذا كان عليه وهو جالس في داره في بغداد، فجاءه الخبر بعصيان وصيف، فخرج في الحال من داره إلى باب الشماسية، فعسكر، وحلف أن لا يغير هذا القباء، أو يفرغ من أمر وصيف، فأقام بباب الشماسية، أياماً، حتى لحقه الجيش، ثم خرج، فهو عليه إلى الآن ما غيره.
قال: فحدث أبي بعد ذلك: وأنفذ المعتضد إلى سور إنطاكية بفعلة يهدمونه، فماج الناس، ولجت العامة، وتشاور شيوخ المدينة في هذا، فأجمع رأيهم أن كفوا العامة، ومضوا إلى مضرب الخليفة، وسألوا الوصول.
فأنفذ إليهم أن اختاروا عشرة منكم، يدخلون إلي ويخاطبونني.
فاختاروا عشرة كنت منهم.
فحدثني قال: دخلنا عليه، فسلمنا، ووقفنا، فأمر بإجلاسنا، فجلسنا.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن في وجه عدو كلب،وجهاد متصل، ونفير دائم، والعدو يطرقنا ونطرقه، فإن هدمت هذا السور، كان ذلك أقوى عدة للعدو علينا، وكان البلد له عند أيسر ضعف يلحقنا، وحادثة تطرقنا، فإن رأيت أن ترحم ضعفنا، وتستر ذرارينا، بهذا السور.
فقال: قد كثرت الحوادث علينا في هذه الثغور، واعتصام كل مخالف، بحصن منها، وقد علمتم ما لحقنا بالأمس من ابن الشيخ، واليوم من هذا الخادم، وقد سبق مني القول، أن لا أدع حصناً إلا هدمته، وأنا أهدم هذا السور، وأحصنكم من العدو، بإضعاف عدد الشحنة، وإدرار الأرزاق، وإطلاق مال للمطوعة، يقوون به على جهاد العدو، فتكون قوتهم مانعة للعدو، وكأن السور لم يزل، ولا يطمع أحد في التحصن به إلى العصيان.
قال: فلم يكن عند أصحابي حجة، وضعف كلامهم، ورأيت المجلس كالمنفض على هذا.
فقمت، واستأذنت في الكلام، فأذن لي.
فقلت: يا أمير المؤمنين، على أن أقول ما عندي، وأنا آمن؟ قال: نعم.
قلت: يا أمير المؤمنين، إن الله لو خلد أحداً في الأرض، لخلد محمداً صلى الله عليه، وإن هذه الحصون والأسوار لم توضع لسنة بعينها، ولا لأيام خليفة بعينه، وإنما جعلت لتبقى على الدهور، وتدفع عن أهلها في أيام كل ملك، سائساً كان أو متوانياً.
ولو كنا نثق بحياة أمير المؤمنين أبداً، ما سألناه خلاف ما يراه، ولو كنا نثق أن من يلي أمور المسلمين بعده يكون لهم، باهتمامه بمصالحهم، وسياسته لخاصتهم وعامتهم، مثله، لسهل ذلك علينا المصيبة بفقدان السور الذي لا عوض عنه، ولو كان من يتقلد بعده، مثله، لما كان لنا في ذلك عزاء عن السور، فإنا لا نأمن من إهمال من يجيء بعد ذلك الخليفة أيضاً، أن تشغله حادثة عنا، تمنعه من مصالحنا، فنكون نحن درية لسيوف الروم، ورماحهم.
وإنك يا أمير المؤمنين إن هدمت هذا السور، بقي بلدنا ما دمت حياً، ثم خرج عن أيدي المسلمين بعدك، وقتلتنا الروم، وسبت ذرارينا، وصليت بإثمنا في القيامة، وعارنا في الدنيا، فالله، الله، فينا، فقد صدقتك يا أمير المؤمنين، والأمر إليك بعد ذلك.
قال: فنكس المعتضد رأسه ساعة، ثم رفعه، وقد بكى.
وقال: كيف أعمل، وقد سبق قولي بأني أهدمه؟

فقلت له: تعمل الفعلة في هذا اليوم فقط، فيكون في ذلك إبرار لقب أمير المؤمنين، ثم إذا رحل هو عنا، أذن لنا في إعادة ما هدم اليوم فقط.
فقال: أنفذوا غداً من يرد الفعلة، ويمنعهم من هدم السور بعد اليوم، وقد أذنت لكم في إعادة ما انهدم.
فشكرناه، ودعونا له، وتعالت الصيحة بالدعاء له.
وعدنا، فوجدنا الفعلة، قد هدموا ذلك اليوم قطعة منه، فأعدناها بعد خروج المعتضد، من أموالنا.
فهي معروفة إلى الآن في السور، لتغير بنائها عن البناء الأول.

بحث في شكوى الزمان
وفساد الإخوان
جرى بيني وبين أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين، الكاتب الأهوازي، وهذا الرجل من معقلي الناس وفضلائهم، عقلاً، ونبلاً، وبراعة في صناعته، وتقدماً، وقد ولي كبار الأعمال للسلطان، وخلف أبا عبد الله البريدي على الأهواز، وتولاها لمعز الدولة مكان أبي عبد الله البريدي، عقيب هربه من معز الدولة، ثم استخلفه بعد ذلك، أبو القاسم البريدي على البصرة، ثم خلف أبا علي الطبري، وأبا محمد المهلبي وكان إذ ذاك على كور الأهواز، ثم تقلد عمالة البصرة لسباشي الحاجب الخوارزمي التركي، ثم لمعز الدولة، رئاسة في أيام وزارة أبي محمد المهلبي، وحلب الدهر أشطره، وجرب الأمور، وسبر الزمان، ذكر الزمان وتصرفه، وفساد الإخوان فيه وقلة المودات، وما بلغني عهن ابن الحسن بن الفرات، أنه قال: جزى الله عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيراً، وأنه قال: أحصيت ما أنا فيه من المكاره، فما وجدت منه شيئاً لحقني، إلا ممن أحسنت إليه.
فقال لي أبو الحسن: هذا صحيح، ولكن حدث عند فساد الزمان، وإلا فالأكثر من عدد الناس، كان قديماً، على تصرف زمانهم، ما يعتقدونه من مودات إخوانهم، فلما فسدت الطباع، وتسمح الناس في شروط موداتهم، صار الإنسان ساكناً ممن لا يعرفه، لا يلحق به شره، ولا يناله ضره، وإنما يلحق الآن الضرر من المعارف، ومن يقع عليه اسم الإخوان، ذلك إنهم يطالبون في المودة بما لا يفعلون مثله، فإن أسدى إليهم إحساناً عرف طبعه فهي العداوة القليلة، وإن حفظ الإنسان ما يضيعونه أبداً حصل تحت الرق، وإن قارضهم الأفعال ثارت العداوة، وتواترت عليه المكارم، هذا إذا سلم من أن يبدأك من تظنه صديقاً بالشر والتجني، والمعاملة القبيحة بالتوهم والتظني، من غير تثبت ولا استصلاح، فأما إذا كان ليس بينكما أكثر من المعرفة فالضرر معها بالثقة، لأن كل مكروه يلحقك، إذا حصلته، كان ممن يعرفك ويقصدك به على علم بك، فأما الضرر ممن لا تعرفه، فبعيد جداً، مثل لصوص يقطعون عليك الطريق، غرضهم أخذ المال منك، أو من غيرك، أو ما يجري هذا المجرى، وعلى أن أشد الضرر من اللصوص، ما وقع عن تعيين، وعلى معرفة بالإنسان.
فمهما أمكن للعاقل أن يقل من المعارف، واجتلاب من يسمى أخاً في هذا الزمان، فليفعل، وليعلم أنه قد أقل من الأعداء، وكلما استكثر منهم، فقد استكثر من الأعداء.
وكأن ابن الرومي جمع هذا المعنى، فقال:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أقتل ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
من شعر أبي فراس الحمداني
هذا شعر أبي فراس بن أبي العلاء بن حمدان بن حمدون العدوي التغلبي
أشد عدويك الذي لا تحارب ... وخير خليليك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيام والناس خبرة ... وجربت حتى هذبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم عن إساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما أنس دار ليس فيها مؤانس ... وما قرب أهل ليس منهم مقارب
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
وله:
إذا كان فضلي لا أسوغ نفعه ... فأفضل عندي أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهجة عاقل ... يجور على حوبائها حكم جاهل
وله:
لمن أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء به ... كأنني جاهل بالدهر والناس
وله:
وأخ أطعت فما رأى لي طاعتي ... حتى خرجت بأمره عن أمره

وتركت حلو العيش لم أحفل به ... لما رأيت أعزه في مره
والمرء ليس ببالغ في أهله ... كالصقر ليس بصائد في وكره
وله:
في الناس إن فتشتهم ... من لا يعزك أو تذله
فاترك مجالسة اللئيم ... فإن فيها العجز كله
وله:
غنى النفس لمن يعقل ... خير من غنى المال
وفضل الناس في الأنفس ... ليس الفضل في الحال
وله:
ندل على موالينا ونجفو ... ونعتبهم وإن لنا الذنوبا
بأقوال يجانبن المعني ... وألسنة يخالفن القلوبا
وله:
ولقد علمت كما علم ... ت وإن أقمت على صدوده
إن الغزالة والغزا ... لة في ترائبه وجيده
وله:
قد كان لي فيك حسن صبر ... خلوت يوم الفراق منه
لم يبق لي في الجفون إلا ... ما استنزلتني الخدود عنه
وله:
لي صديق على الزمان صديقي ... ورفيق مع الخطوب رفيقي
لو رآني إذا استهلت دموعي ... في صبوح ذكرته أو غبوق
أسرق الدمع من نديمي بكأسي ... فأحلي عقيانها بالعقيق
وله:
هل تحسان لي صديقاً صدوقاً ... يحفظ العهد أو رفيقاً رفيقا
لا رعى الله يا حبيبي دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
وله:
من السلوان في عينيك ... آيات وآثار
أراها منك في القلب ... وفي القلوب أبصار
إذا ما برد الحب ... فما تسخنه النار
وله:
الحزن مجتمع والصبر مفترق ... والحب مختلف عندي ومتفق
ولي إذا كل عين نام صاحبها ... عين تحالف فيها الدمع والأرق
لولاك يا ظبية الأنس التي نظرت ... لما وصلن إلى مكروهي الحدق
لكن نظرت وقد سار الخليط ضحى ... بناظر كل حسن منه مسترق
وله:
يا من يلوم على هواه جهالة ... انظر إلى تلك السوالف تعذر
حسنت وطاب نسيمها فكأنها ... مسك تساقط فوق ورد أحمر
وله:
ومرتد بطرة ... مسدلة الرفارف
كأنها مسبلة ... من زرد مضاعف
وله:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... قد كان كل سرور حاضراً فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح فتسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها صرفاً إلى فيها
وله:
بتنا نعلل من ساق أعد لنا ... بخمرتين من الصهباء والخد
كأنه حين أذكى نار وجنته ... سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد
يعل ماء عناقيد بطرته ... بماء ما حملت خداه من ورد
وله:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنفت غور الفلاة وقورها
فمن خلقه لباتها ونحورها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وله:
وجناته تجني على عشاقه ... ببديع ما فيها من الألاء
بيض علتها حمرة فتوردت ... فعل المدام مزجتها بالماء
فكأنما برزت لنا بغلالة ... بيضاء تحت غلالة حمراء
وله:
كأنما تساقط الث ... لج لعيني من يرى
أوراق ورد أبيض ... والناس في شاذكلى
وله:
كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأننا حين استتب العبر ... أسرة موسى حين شق البحر

نسخة من كتاب من أبي
محمد يحيى الأزدي إلى
الأمير أبي تغلب بن ناصر الدولة

كان الحسين وإبراهيم ابنا ناصر الدولة، خالفا على أخيهما أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة، عقيب قبضه على أخيهم محمد بن ناصر الدولة، وإصعاده به إلى القلعة مقيداً، وقبضه نعمته، وخرجا إلى أعماله محاربين له، ومواطئين حمدان بن ناصر الدولة، على محاربة أبي تغلب، واجتمعا معه، فخرج أبو تغلب بالجيوش إليهم، فلقيهم، وانهزم حمدان، ودخل الحسين إلى أبي تغلب، وانحدر إبراهيم إلى باب السلطان ببغداد، ليخل في الأمان، وكان ابتداء ذلك في شعبا سنة ستين، والصلح في شوال.
فكتب أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد، إلى أبي تغلب بالتهنئة على ذلك كتاباً نسخته: لم تزل عادة الله عند مولانا الأمير السيد، أطال الله بقاءه، وأدام تأييده، وكبت أعداءه، جارية بالمواهب النبيلة، والنعم المتصلة الجليلة، متسقة على التوفيق والسداد، مطردة بمنة الله أجمل اطراد، لما خصه الله تعالى به من حسن النية وجميل الاعتقاد، وأفرده من تغمد الحق في إصدار والإيراد، وألهمه إياه من التوفر على شكره وحمده، واجتلاب المزيد من ذلك لعنده، فابتداءاته - أدام الله تأييده - دالة على حسن عواقبها، ومبشرة بنيل البغية في أوائل الأمور وأواخرها، وأفعاله مقترنة أبداً بالرشاد؟؟، ؟وآراؤه بحمد الله مصاحبة للصواب والسداد، وراياته موصولة بالعز والنصر، ونعم الله عنده محفوظة بالحمد والشكر، وبحسب ذلك تكون دواعي المزيد، على قدر تضاعف التمكين والتأييد، ولهذه الشيم السنية، والفضائل الجليلة العلية، والطوية الحميدة المرضية، ما يجدد الله منحه لديه، ويديم دفاعه عنه وإحسانه إليه، ويسبغ آلاءه ونعمه عليه، ويجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه بسهم الله السفلى، وينوه باسمه - ثبته الله - في سائر البلاد، ويجعل زناده - أناره الله - أضوأ زناد، ويشرف الدعاء - على التنائي - بذكره، ويص ألسنة ممن قرب وبعد بشكره، والحمد لله على ما خوله وأولاه، وإليه الرغبة في زيادته في ما نوله وأعطاه، وحراسته في بدء كل أمر وعقباه، وإعلائه على كل من حسده وناواه، وقصر عن شأوه فعاداه، والحمد لله الذي جعل سفرته ظاهرة البركة، سعيدة السكون والحركة، ميمونة الأحوال، محمودة الحل والترحال، مؤذنة بحسن الانقلاب، على أحسن الوجوه وأجل الأسباب، عائدة بشكر الرعية ودعائهم، جامعة لنياتهم على اختلاف آرائهم، وهو المرجو الإعانة على ما قرب إليه، والمسؤول حسن التوفيق لما يزلف لديه، إنه ولي حميد، فعال لما يريد، ولقد صدق الله، وله الحمد، في مولانا - أدام الله عزه - ظنون أولياءه وأهل طاعته، وحقق بما تفضل به من ظهوره على أعداءه، تقديرات خدمه وعديد نعمه، فشكرهم لله تعالى على ما منحه من التوفيق والنعمة في ذلك بحسب موقعها، ومقدارها وموضعها، وما يخصهم ويعم غيرهم منها، ويصل إلى القاصي والداني الحظ بها، ولن يرتفع لغادر علم إلا وضعه الله سبحانه وتعالى بمثله - أيده الله - من كرام المخلصين لديه، ولا يبسط لمبطل أمل إلا قطعه الله تعالى بأقرب الطائعين إليه، فعال الله جل ذكره في عباده، ليجعل جنده المنصورين، وأعداءه المقهورين، وليظهر حقه على يد مستحقه، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، ورد الله الذين كفروا نعمة مولانا بغيظهم إليه أيده الله، لم ينالوا خيراً، إلا منه حرسه الله، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، وهنأ الله مولانا الأمير نعمه عليه، وضاعف قسمه ومنحه إليه، وأصلح به وعلى يديه، وجعل الخير والسعادة واصلين إليه، وكبت عداته وحسدته، وبلغه في الدين والدنيا أمينته، ولا ابتزه ثوب نعمته، وحرس الأمة بحراسة مهجته، وصرف عين السوء عن دولته، وشد قواها بقدرته، فالسعيد من وفق لخدمته، وحظي بجميل رأيه، والشقي من نفر عن حوزته، وخرج عن ظله وجملته، والله وليه والدافع عنه، والذاب عن الإسلام وأهله ببقاءه، والمحسن إليهم بالمدافعة عن حوبائه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

رسالة إلى رجل تزوجت أمه
حدثني أبو الفرج الببغاء، قال: جرى بحضرة الأمير سيف الدولة، ذكر رجل تزوجت أمه من أصحابه، وحديث الترسل والكتابة، فقال لي: اكتب الساعة على البريد، رقعة عن نفسك إلى هذا الرجل، تعزيه بتزويج أمه.
فكتب رقعة بين يديه ارتجالاً وحفظتها:

من سلك سبيل الانبساط، لم يستوعر مسلكاً في المخاطبة فيما يحسن الانقباض في ذكر مثله، واتصل بي ما كان من أمر الواجبة الحق عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها، إليك، ومن الله صيانتها في اختيارها ما لولا أن الأنفس تتناكره وشرع المروءة يحظره، لكنت في مثله بالرضى أولى، وبالاعتداد بما جدده الله من صيانتها أحرى.
فلا يسخطنك من ذلك، ما رضيه موجب الشرع، وحسنه أدب الديانة، فمباح الله أحق أن يتبع. وإياك أن تكون ممن إذا عدم اختياره سخط اختيار القدر له، والسلام.

حديث العلوية الزمنة
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، قال: كانت في شارع دار الرقيق، صبية علوية، زمنت نحو خمس عشرة سنة، وكان أبي يتفقدها. وكانت مسجاة لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو يقلبها غيرها، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء والأكل.
وكانت فقيرة، وإنما قوتها مما يبرها الناس، فلما مات أبي اختل أمرها، فبلغ تجني ، جارية أبي محمد المهلبي أمرها، فكانت تقيم بأكثر أمرها.
وإنها أصبحت في يوم من الأيام، وقد باتت في ليلته زمنة على تلك الصورة، فأصبحت من غد، وقد مشت، وبرئت، وقامت وقعدت.
وكنا مجاورين لها، وكنت أرى الناس ينتابون بابها، كالموسم، فأنفذت امرأة من داري صدوقة، ممن شاهدتها زمنة على طول السنين، فسألتها عن الخبر.
فقالت: إني ضجرت من نفسي، فدعوت الله تعالى طولاً بالفرج أو الموت، وبت وأنا على غاية الألم والصياح والقلق، وضجرت المرأة التي كانت تخدمني، فلما استثقلت في النوم، رأيت كأن رجلاً قد دخل علي، فارتعت منه.
فقال: لا تراعي، فأنا أبوك، فظننته علي بن أبي طالب، عليه السلام.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ترى ما أنا فيه؟ لو دعوت الله تعالى أن يهب لي العافية.
فقال لي الرجل: أنا أبوك محمد رسول الله.
فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي.
قال: فحرك شفتيه، ثم قال لي: هاتي يديك، فأعطيته يدي، فأخذهما، وأجلسني.
ثم قال لي: قومي على اسم الله.
فقلت: يا رسول الله، كيف أقوم؟ فقال: هاتي يديك، فأخذهما، فأقامني.
ثم قال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف امشي؟ فقال: هاتي يديك، فمشاني، ثم جلست، ففعل بي ذلك، ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه، وتركني، ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشك أ ني أراه، لسرعة انتباهي.
فصحت، فظنت خادمتي أني أريد البول، أو شيئاً مما يثقل عليها، فتثاقلت.
فقلت لها: ويحك ائتيني، فقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم، فانتبهت، وأنا مسجاة.
فاستشرحتني.
فقلت لها: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه، فدعا لي في النوم، وقال: قد وهب الله لك العافية.
فقالت لي العجوز: ويحك، فإني أرجو أن تكوني قد برئت من العلة، هاتي يديك، فأقامتني، والله، كما أقامني النبي صلى اله عليه، في النوم، ولم أكن عرفتها ذلك.
فأعطيتها يدي، فأجلستني، وقالت لي: قومي، فقمت، فتعبت، ثم جلست، ففعلت بي ذلك ثلاث مرات.
ثم قمت، فمشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سروراً بالحال، وإعظاماً لها، فقدر الجيران أني قد مت، فجاءوا، فقمت فمشيت بحضرتهم متوكئة، فكثروا علي في الليل، وفي غد، حتى كدت أتلف، وما زالت قوتي ترجع إلي،إلى أن مشيت كما أمشي الآن، ولا قلبة بي.
قال: وقد رأيتها بعد ذلك، أنا، تمشي وتجيء إلى عيالنا ماشية، وهي الآن باقية صحيحة، وهي أصلح وأورع وأزهد امرأة سمعت بخبرها في هذا الزمان، لا تعرف غير الصلاة والصيام، وطلب الرزق على أجمل الوجوه، عاتق إلى الآن، دينة جداً.
ولا تعرف إلى الآن في المشاهد، وعند أهلها، إلا بالعلوية الزمنة.
إذا لم تكن في الشاهد ثلاث خلال
من خلال أهل النار صار هو من أهل النار
سمعت قاضي القضاة أبا السائد عتبة بن عبيد الله بن موسى، يقول: الشاهد، إذا لم تكن فيه ثلاث خلال، من خلال أهل النار، صار هو من أهل النار.
فقلت له: ما هي؟ فقال: قلة الحياء، لأن الشاهد، إذا كان مستحياً، أجاب إلى كل محال يسأله، فيذهب دينه، ويصير من أهل النار، والحياء في الأصل من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنة، كما روى في الخبر، فقلة الحياء من خصال أهل النار، فهذه واحدة.

والثانية: إنه يحتاج أن يكون فيه سوء الظن، لأنه متى أحسن ظنه تمت عليه الحيلة والتزويرات، فيشهد بالمحال، فيدخل النار، وإذا كان شيء الظن سلب، وسوء الظن في الأصل إثم، كما قال الله تعالى، والإثم من خصال أهل النار.
وذكر الأخرى: وقد أنسيتها أنا.
ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف الناس، ليس فيهم شهود إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المصر كلهم يريدون الحيلة على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم.

شطرنجي يتحدث عن فضائل الشطرنج
حدثني أبي، قال: كان لي صاحب يخدم أبي، ويخدمني بعده، من أهل أنطاكية، يقال له: أبو إبراهيم، وكان مستهتراً بلعب الشطرنج، وكان له فيها عجائب، منها: إنغلماني كانوا يلاعبونه بها، وكان إذا لعب بها برك على الأرض، واتكأ على ذراعيه كالنائم، فيجيء أحدهم من وراءه، فيعبي على ظهره عدة مخاد، فلا يشعر بها، فإذا انقضى الدست، أحس بذلك، فنحاها عن ظهره، وشتمهم.
قال: فحدثني هو، قال: دخلت ليلة إلى صديق لي مستهتر بالشطرنج أيضاً، وكانت المغرب قد وجبت.
فقال: بت عندي الليلة حتى نلعب بالشطرنج، فما بت.
فقال: نصلي، ونلعب دستاً أو دستين إلى وقت العتمة، وتنصرف.
فصلينا، وجعل السراج عندنا، ولعبنا، وطاب لي اللعب، فواصلناه، والليل يمضي ونحن لا نشعر به، إلى أن أحسسنا في أنفسنا بتعب شديد وضجر، ووافق ذلك سماعنا الآذان.
فقلت له: قد أذن العتمة، وتعبت، ولا بد من قيامي.
فصاح بغلمانه، فلم يجيبوه، فقام معي، فأنبههم، وقال: امضوا بين يديه. فلما خرجنا نظرنا، فإذا الأذان، هو أذان الغداة، وإذا الليلة كلها قد مضت، ونحن لا نعقل.
قال أبي: وكذا كان على الاستهتار بها، فإذا لمته، قال: ليس أنا مستهتر بها، المستهتر بها هو مثل من قيل له وقد احتضر: قل لا إله إلا الله، فقال شاهك، ودع الرخ.
قال: فقلت له: لا أعرف مثلك، كأنك لست ترضى من نفسك، إلا بهذا القدر؟ قال: وكان يصف من فضائل الشطرنج أشياء، فيقول: هي تعلم الحرب وتشحذ اللب، وتدرب الإنسان على الفكر، وتعلمه شدة البصيرة.
فلو لم يكن فيها شيء من المعوز في غيرها إلا أن أهل الأرض يلعبون بها منذ ألوف السنين، ما وقع فيها دست معاد قط من أول إلى آخره لكفى.
يخاف على غلبته في النرد من العين
وبلغني عن بعض لعاب النرد: إن لعباً توجه عليه لرسيله، فقال له المتوجه عليه اللعب: غلبتك، صل على النبي.
فقال: لم أفعل ذا؟ فقال: حتى لا تصيب غلبتي العين.
مقامر بالنرد يكفر إذا خسر
وإن آخر منهم، كان إذا غلب، يكفر، ويعرض بأن غلبه من فعل الله عز وجل.
فامتنع رسيله عن ملاعبته، وقال: هو ذا تكفر، ولا ألعب معك.
فشارطه أن يلاعبه على أن لا يكفر، فلعب معه، فغلبه دفعات.
فقال لرسيله: يا هذا، لست أنقض الشرط بأن أكفر، ولكن قل أنت: أليس هذا قصد قبيح؟
بحث في عبارة الرؤيا
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي، قال: حدثني أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، قال: وكان أبو هاشم إذا ذكر أبا علي، قال: قال أبو علي، وفعل أبو علي، وكان من أمر أبي علي، وما سمعناه قط قال: الشيخ، ولا شيخنا، إلا مرة واحدة، فإنه حكى شيئاً من الكلام، فقال فيه: شيخنا أبو علي، قال: وكذا كانت عادته.
قال: قال أبو علي: رأى رجل مناماً، فجاء يفسره علي، فمجمج. فقلت له: اصدق، فإن المنام لا يكذب فيه.
قال: فقال لي: رأيت ذكرك قد طال حتى بلغ إلى عنقك، ثم تطوق عليه دفعات.
فقال له أبو علي: أنا رجل يطول ذكري على ذكر الناس مقدار ما رأيت من طول ذكري.
قال لي أبو حسن: ومضى على هذا سنون، فحدثني أبو عبد الله بن نافع البزاز جارنا، وكان هذا موسراً، يملك نحو سبعين ألف دينار، وله أولاد ذكور وإناث.
فقال لي: رأيت في المنام ذكري قد تفرك فلم يبق منه شيء.
فذكرت في الحال، تفسير أبي علي الرؤيا في أمر ذكره، فقلت في نفسي: إن صح القياس فهذا رجل ينقرض ذكره من الدنيا.
فما مضت إلا أيام، حتى مات أحد أولاده، ثم تتابعت في سنين يسيرة عليه المصائب، فلم يبق له ولد، ثم مات هو بعد ذلك بمدة فانمحى ذكره على الحقيقة.
ضيق أحوال الناس أبعدهم عن
ممارسة البر والإحسان

تجارينا ذكر شدة زماننا، وفقر الناس فيه، وضيق أحوالهم، واستحبابهم البخل، حتى إن بعضهم يسميه احتياطاً، وبعضهم إصلاحا، وتوصية الناس بعضهم بعضاً به، وتحذر التجار من معاملات الناس، ومسك الناس أيديهم عن الإحسان إلى أحد أو بره، أو إغاثة الملهوف، أو التنفيس عن مكروب، وإن ذلك في الأكثر لضيق أحوالهم.
فقال لي أبو الحسن أحمد بن يوسف: لقد كان يجيء الرجل من أهل العلم، فيجبى له من أصحابنا الألف الدرهم، والأقل، والأكثر، في يوم، لا يحتاج إلى أحد يخاطبه في ذلك، مع قلة عدد أصحابنا إذ ذاك.
ولقد قدم رجل أردنا أن نرتبطه ليتعلم، لجودة قريحته، وكان يحتاج إلى مائة درهم في كل شهر، فكلمت إبراهيم بن خفيف الكاتب، صاحب ديوان النفقات، وكان من أصحابنا، ورجلاً آخر من أصحابنا، فأجريا عليه مائة درهم في كل شهر، كل واحد منهما خمسين درهم، وكان الرجل يأخذها، إلى أن خرج من بغداد، سنين.
ولقد قال لي يوماً بعض من حضر إلى مجلس أبي الحسن الكرخي رضي الله عنه، من الفقهاء: يحتاج أهل المجلس إلى أكسية، فقد قرص الهواء.
فقمت أفكر في من أخاطبه في ذلك، فاجتزت في طريقي لدار، فقال لي بعض من كان معي: هذه دار تاجر موسر من أهل الخير، فلو خاطبته، ولم أكن أعرفه، فدخلت إليه، فعرفني ولم لأعرفه، فقام، وأكرم.
فقال: كم تريدون؟ فقلت: خمسين كساء، فحملها معي في الحال، ففرقها فيهم.
ولقد جاءني منذ أيام رجل من أهل البيوتات فشكا من خلته ما أبكاني، وذكر أن صلاح أمره في نيف وثلاثين درهماً، فما طمعت له فيها من أحد، ولا عرفت من أعلم أنني إن خاطبته فيها أجاب.
وورد لنا في هذه السنة صاحب لأبي هاشم، فخاطبنا له جماعة، واجتهدنا في تحصيل شيء له، نغير به حاله، فما حصل له من ذلك قليل ولا كثير.
ولقد في الدرب الذي أنزله هذا، وهو درب نهرويه، خلق من أمراء، وكتاب، وتناء، وتجار، حسبت ما كانوا يملكون، فكان أربعة آلاف ألف دينار، وما في هذا الدرب اليوم من يحتوي ملكه على أربعة آلاف درهم، غير أبي العريان، أخي عمران بن شاهين.

قردة على جانب عظيم من الذكاء
حدثني لأبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو العباس الفرغاني الصوفي، وكان من أصحاب الحديث، ومن الصوفية، وممن يعرف بصدق اللهجة والنسك، قال: رأيت بمكة قردة عند رجل يريد بيعها، خفيفة الروح، فساومت فيها، فتباعد علي في الثمن. فألححت عليه، وقلت له: يا هذا، أخبرني شرائها، واربح ما شئت علي.
قال: لا أخبرك.
فما زلت أداريه، إلى أن قال لي: شراؤها خمسة دراهم.
فقال: فأومأت القردة إلي بيدها ثلاثة، أي أنه اشتراني بثلاثة دراهم.
فقلت له: كذبت، شراؤها عليك ثلاثة دراهم.
قال: فقام ليضرب القردة، وقال: هذا من عملها.
فمنعته، وأعطيته خمسة دراهم، وأخذتها.
مخنث حاضر الجواب
حدثني أبو الحسن بن سهيل الحذاء، قال: حدثني أبو العباس الفرغاني الصوفي وكان ممن يختم القرآن في ركعة، وكثير الصلاة، وأخف الناس روحاً، وأشدهم مجوناً، وأطيبهم قولاً ورقصاً، قال: اجتزت في الطريق بمخنث يتغوط، وهو جالس ويه على جبهته كأنه إنسان مغموم.
فوقع لي أن أولع به، فقلت: يا أختي، لم أنت مغمومة؟ تخافين ألا يجيئك بدله؟ خلفه سريع، الله يخلف عليك.
فقالت لي بالعجلة: ليس غمي هذا، ولكن غمي أنكم جماعة، وهو قليل، ولا يكفي غدائكم اليوم.
الشاعر أبو نصر البنص وجارية بغدادية
حدث أبو حامد القاضي الخراساني، قال: قال لي أبو نصر البنص: جزت في أيام زيادة الماء على دار في دجلة، فإذا روشن حسن، وعليه جوار يلعبن، فأخذن يولعن بي. فأنعظت، وكشفت أيري، ونمت فقام منتصباً، فصحت الهليون الرطب.
فكشفت إحداهن عن حرها، وصاحت الفراني السميذ. فعطعط الملاحون بنا.
فص حجر خاصيته طرد الذباب
حدثني أبو الخطاب محمد بن علي بن إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: كان لأبي فص حجر خمري اللون، عليه صورة ذبابة، وقد شاهدته غير دفعة، يأخذه، فيجعله في دكان اللبان، وهو مملوء ذباباً، فيتطاير الذباب كله عنه، فلا تبقى واحدة، فإذا نحاه رجع الذباب، فإذا عاد تنحوا.
وقد شاهدت ذلك غير دفعة.
أسد بن جهور وكثرة نسيانه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8